الامام علي عليه السلام من المهد الي اللحد

اشارة

سرشناسه: قزويني، محمدكاظم، 1373 - 1308

عنوان و نام پديدآور: الامام علي عليه السلام من المهد الي اللحد/ محمدكاظم القزويني

مشخصات نشر: تهران: صادق، 1380.

مشخصات ظاهري: ص 289

فروست: (موسسه الصادق؛ الكتاب الاول)

شابك: 964-56-4-11-715000ريال؛ 964-56-4-11-715000ريال

وضعيت فهرست نويسي: فهرستنويسي قبلي

يادداشت: چاپ قبلي: مطبع الاداب، 1364

يادداشت: عربي.

يادداشت: فهرستنويسي بر اساس اطلاعات فيپا.

موضوع: علي بن ابي طالب(ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- سرگذشتنامه

رده بندي كنگره: BP37/ق 4ع 8

رده بندي ديويي: 297/951

شماره كتابشناسي ملي: م 80-11211

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما يرضي، وصلي الله علي سيدنا محمد المصطفي وآله سادات الوري.

وبعد: كم أنا معجب بحياة أولياء الله الذين كانوا المظهر الصحيح الكامل للانقياد والخضوع لأوامر الله تعالي وإرادته وإني لا أعرف في قاموس اللغة العربي ألفاظاً كافية في التعريف والتعبير عن شخصية الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، لا أكتب هذا بقلم العاطفة والغلو ولا طمعاً في ربح مادي للجائزة الدنيوية بل بقلم الواقع والحقيقة، أنظر إلي الحقائق وأذكر انطباعاتي عنها وسيظهر صدق هذا الكلام من خلال سطور الكتاب، ويتجلي الحق الواضح لكل من يقرأ هذا الكتاب مجرداً عن الاتجاهات.

كلمة العظيم لا تكفي لبيان عظمة الرجل، وخاصة بعد أن استعملت هذه الكلمة في الكثير ممن يستحق ذلك أو لا يستحق، مع العلم أن العظمة تتفاوت من حيث القلة والكثرة والضعف والشدة وكذلك سائر الصفات الحميدة التي يُعبّر عنها بالفضائل ويُنعت بها الرجال.

فكيف أستطيع أن أصف الإمام حق الوصف، وأؤدي واجب المقام حق الأداء، وكلما حاولت أن أطير بقلمي إلي أرفع مستوي في البيان وأعلي درجة في الأداء مع ذلك كله فالعجز عن التعبير لا يفارقني، والأفضل أن نذكر حياة الإمام بكل بساطة، ونحيل إدراك الموقف وأهمية الحال إلي فكرة القارئ وذهنه وفهمه الفطري،

وهذا أولي من تنميق الألفاظ وتنضيدها وتكوين كتلة من الألغاز أو الكنايات التي تشبه كتب اللغة ولكن من غير تبويب وتنظيم!! هناك صفات تميل إليها النفوس وتحبها وتحب من يتصف بها ويقال لها: الفضائل كالعلم والشجاعة والكرم وغيرها.

وهناك أيضاً صفات تنفر منها الطباع وتكره من يتصف بها ويقال لها: الرذائل كالجهل والجبن والبخل وغيرها، وهي أضداد الفضائل والصفات الحمية، كلتا الطائفتين من الصفات تقل في النفوس وتكثر، وتضعف وتشتد، فقد يبلغ الكرم القمة، وقد ينتهي البخل إلي الحضيض وهكذا الكلام في باقي الفضائل والرذائل، ونحن حين نراجع ترجمة حياة الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) نجدها حافلة بالفضائل بأقصي درجة ممكنة وأرفع مستوي يُتصور، منزهة عن كل ما يمس ويحط ويشوه (بجميع معني الكلمة) بقدسية الإمام وجلالته، وليس هذا ادعاء أجوف، بل محتويات الكتاب كلها شواهد وبراهين علي ما نقول، بل التاريخ الصحيح أقوي دليل وكتاب الله أقوي حجة ومن أصدق من الله قيلاً وأختم مقدمتي هذه بكلمتي الوجيزة:

أقول: إن الله تعالي الذي هو علي كل شي ء قدير ولا يعجزه شي ء شاء أن يظهر لعباده الفرد الكامل من خلقه ليريهم قدرته علي الإبداع في الصنع ويبرهن لهم علي أن من الممكن أن يقرب الله البشر إلي أعلي درجة من الشرف يمكن للموجود أن يبلغها، فخلق الله محمداً (صلّي الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ليكون كل واحد مثالاً كاملاً للقدرة الإلهية، وشاهداً حياً لأرقي موجود في مراتب الصعود.

وكثيراً ما كنت أحدث نفسي بتأليف كتاب يتضمن الإشارات إلي بعض مواهب هذا الإمام، المقتدي لقوافل الإنسانية عبر القرون والأجيال والدهور، ولكن التفكير حول أهمية هذا العب ء الثقيل وخطورة الموقف وضآلة وضعف البيان وسعة البحث كلها كانت موانع تحول دون

الخوض في هذه المعركة العلمية الفكرية!

حتي إذا اقترب شهر رمضان المبارك من سنة 1386 ه وثارت في النفوس ثورة العبادة ونهضة الدين وانتبهت غرائز الإقبال علي فعل الخير واستعد إخواننا الشباب لإعادة مجلسهم السنوي في ليالي شهر رمضان وكان لي شرف الخدمة والتكلم في ذلك المجلس الذي كانت الحياة تنفجر من نواحيه، وينبعث النشاط من جوانبه، ففكرت حول اختيار حديث إسلامي متسلسل، لله فيه رضي وللمستمعين فيه أجر وثواب.

وأخيراً: تقرر أن نتحدث حول شخصية الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، ونجعلها محور كلامنا، وندور في فلكها لما في ذلك من فوائد دينية، علمية، روحية، تربوية، تنفع العباد والبلاد.

فالتحدث عن أميرالمؤمنين يشمل التكلم عن الإسلام الصحيح في جميع مجالاته وخاصة في دور التكوين والتأسيس وعن مدي تأثير التربية الإسلامية في النفوس وتبلورها ببركة تلك التعاليم وتكهرب النفوس بنفسية النبي (صلّي الله عليه وآله) تلك النفسية القوية بالمبدأ الأعلي.

نذكر في هذه الصحائف شيئاً عن حياة الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) في ظل الإسلام وبعض مواقفه في المواطن الخطرة التي قل أن يثبت لها أحد، باستقبال الأخطار التي ارتعدت منها الفرائض وخفقت عندها القلوب خفقان الطير.

تبدأ تلك الحوادث المتسلسلة من أيام بعثة النبي (صلّي الله عليه وآله) والشروع بالدعوة الصامتة، والناطقة والسرية والعلنية وأدوار تلك الدعوة وتطورها في مكة، وتنتهي بهجرة النبي (صلّي الله عليه وآله) إلي المدينة.

وهنا يتطور الموقف إلي العمل بصورة أوسع وأصعب، ويبدأ دور الحروب والغزوات والمجازر التي أجج الكفار نارها، فارتوت الأرض من الدماء وانقلبت البوادي إلي مقابر.

نذكر مواقف الإمام (عليه السلام) في تلك المراحل المذهلة، واستعداده للتضحية في سبيل المبدأ بحيث ما كان يقف في طريقه شي ء يغير اتجاهه وانطباعه عن الدين.

وتنتهي فترة الجهاد بوفاة الرسول الأعظم،

فيتطور الجهاد بنوع من السكوت والصبر أو الكلام بما يقتضيه الحال وما تفرضه المصلحة العامة للإسلام والمسلمين.

ينقضي ربع قرن والإمام جليس بيته، مسلوب الإمكانيات فاقداً قدرة النهوض بأعباء الخلافة وما هناك من لوازم ومتطلبات ومسؤولية أمام الله والتاريخ لأن المسؤولية تابعة للقدرة والقوة ونفوذ الكلمة وجوداً وعدماً.

وتنتهي تلك الفترة المؤلمة بمقتل عثمان وانتقال الخلافة إلي الإمام مرة ثانية بعد انتزاعها منه إثر واقعة الغدير.

فيبدأ دور المسؤولية وبيان مسؤوليات الحكم في القانون الإسلامي، وتطبيق أحكام الله في جميع المجالات، والاصطدام بالنزعات والاتجاهات المخالفة وما هناك من مشاكل وعراقيل ومواقف حرجة.

نسير مع التاريخ حيث سار الإمام حتي ينتهي البحث بشهادة الإمام (عليه السلام)، وما هناك من نماذج من العدالة الإلهية ونفسيات طيبة تتجلي في وصايا الإمام عندما أحس بخطر الوفاة.

نتمم هذا البحث بما تيسر من كلمات الإمام وتعاليمه القيمة وفضائله ومكارم أخلاقه.

وبذلك ينتهي الكتاب إن شاء الله.

ونضطر أن نقتطف من كل حادثة جملة ترتبط بالإمام، ومن كل غزوة جانباً يتعلق بالذات بموقف الإمام فيها، رعاية لأسلوب الكتاب.

وأنا علي يقين أن الإحاطة بجميع مزايا هذا الإمام خارج عن نطاق البشر وقدرة البيان، لأنه (عليه السلام) كالبحر لا يدرك طرفاه ولا يبلغ جانباه ولا يمكن الغوص إلي عمقه.

فالمتحدث عن شخصية الإمام يجد أمامه عوالم غير متناهية، يطير في فضائها وأرجائها، ومهما أوتي من حول وقوة فإن التعب يدركه قبل أن يدرك مداها.

ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، فلنذهب إلي المجلس المنعقد في الجامع المعروف بجامع الصافي مقابل صحن سيدنا أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) لنستمع إلي ما يلي:

علي وليد الكعبة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلي الله علي سيدنا محمد وآله الكرام البررة.

وبعد: لقد اتفقنا أن نجعل حديثنا وبحثنا في

هذا الشهر عن أكبر شخصية عرفها التاريخ بعد الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله).

وهي شخصية سيدنا ومولانا الإمام المرتضي أبي الحسن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه آلاف التحية والثناء، ونبدأ حديثنا بولادة الإمام (عليه السلام) في الكعبة.

ولا بأس قبل الخوض في بيان الواقعة، بذكر مقدمة تمهيدية فنقول: نحن بصفتنا مؤمنين بالله وبالقرآن العظيم لا محيص لنا عن قبول الأمور الخارقة للعادة والتي هي ما وراء الطبيعة، المذكورة في القرآن الكريم، ويقال لها: (الماورائيات) أو (الميتافيزيقيا).

فإن القرآن الكريم يتضمن أكبر كمية من الحوادث الماورائيات، ولا نستطيع (بصفتنا مسلمين) أن نرفضها أو نتردد في قبولها، وخاصة بعد أن آمنا أن القرآن كتاب من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

مثلاً: طبيعة النار هي الإحراق، وإسناد الإحراق إلي النار من الأمور البديهية الثابتة، والقرآن الحكيم يحدثنا عن إبراهيم وأنه لما كسر الأصنام حكم المشركون عليه بالإعدام فقالوا: (حرّقوه) فأضرموا ناراً عظيمة اشترك جميع طبقات الناس في جمع الحطب لها، فوضعوا إبراهيم الخليل في آلة تسمي (المنجنيق)، وقذفوه من مكان بعيد في وسط تلك النار العظيمة.

قال تعالي: (وقلنا يا نار كوني برداً وسلاماً علي إبراهيم) [1] في الحديث في تفسير هذه الآية: لما خاطب الله النار بقوله: (كوني برداً) كاد إبراهيم أن يموت من البرد فقال تعالي: (وسلاماً) فسلم إبراهيم من الموت بالبرد.

وكذلك عصا موسي (عليه السلام) وانقلابها إلي ثعبان وابتلاعه الحبال والعصي التي كانت يخيل إليهم من سحرهم أنها تسعي، ثم عادت العصا كما كانت.

وهكذا ما قام به عيسي بن مريم (عليه السلام) من إبراء الأكمه (الذي ولد أعمي) والأبرص، وإحياء الموتي حتي الذين انقضت علي وفاتهم مئات السنوات، وقد أشار القرآن الكريم إلي هذه المعجزة في ثلاثة

مواضع.

وهكذا وهلم جراً، من القضايا والحوادث الخارقة للعادة والطبيعة المستندة إلي إرادة الله وقدرته، ويسهل الإيمان بهذه الأمور كلها إذا حصل الإيمان بأن الله قادر علي كل شي ء، وأن جميع الموجودات خاضعة ومطيعة لإرادة الله تعالي.

إذا ثبت هذا فلا مانع لدي العقل من قبول انشقاق جدار الكعبة لدخول فاطمة بنت أسد حتي تضع ولدها الإمام في جوف الكعبة، وإليك الواقعة:

أحست السيدة فاطمة بنت أسد بوجع الولادة وهي في الشهر التاسع من الحمل، وأقبلت إلي المسجد الحرام وطافت حول الكعبة، ثم وقفت للدعاء والتضرع إلي الله تعالي ليسهل عليها أمر الولادة، قائلة: يا رب إني مؤمنة بك وبكل كتاب أنزلته، وبكل رسول أرسلته …

ومصدقة بكلامك وكلام جدي إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وقد بني بيتك العتيق، وأسألك بحق أنبياءك المرسلين، وملائكتك المقربين وبحق هذا الجنين الذي في أحشائي.. إلا يسرت عليّ ولادتي.

انتهي دعاء السيدة، وانشق جدار الكعبة من الجانب المسمي (بالمستجار) ودخلت السيدة فاطمة بنت أسد إلي جوف الكعبة، وارتأب الصدع، وعادت الفتحة والتزقت وولدت السيدة ابنها علياً هناك. [2].

من المعلوم: أن للكعبة باباً يمكن منه الدخول والخروج، ولكن الباب لم ينفتح، بل انشق الجدار ليكون أبلغ وأوضح وأدل علي خرق العادة، وحتي لا يمكن إسناد الأمر إلي الصدفة.

والغريب: أن الأثر لا يزال موجوداً علي جدار الكعبة حتي اليوم بالرغم من تجدد بناء الكعبة في خلال هذه القرون، وقد ملأوا أثر الانشقاق بالفضة والأثر يري بكل وضوح علي الجدار المسمي بالمستجار، والعدد الكثير من الحجاج يلتصقون بهذا الجدار ويتضرعون إلي الله تعالي في حوائجهم.

روي الشيخ الطوسي عليه الرحمة في أماليه عن الإمام الصادق (عليه السلام): كان العباس بن عبدالمطلب ويزيد بن قعنب جالسين ما بين فريق بني هاشم إلي

فريق بني عبدالعزي إزاء بيت الله الحرام، إذ أتت فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكانت حاملة بأميرالمؤمنين (عليه السلام) لتسعة أشهر، وكان يوم التمام، فوقفت إزاء البيت الحرام، وقد أخذها الطلق، ورمت بطرفها نحو السماء وقالت …

إلي آخر كلامها الذي تقدم.

ووصل الخبر إلي أبي طالب، فأقبل هو وجماعة وحاولوا ليفتحوا باب الكعبة حتي تصل النساء إلي فاطمة ليساعدنها علي أمر الولادة، ولكنهم لم يستطيعوا فتح الباب، فعلموا أن هذا الأمر من الله سبحانه وتعالي.

وحدثت السيدة فاطمة بما جري عليها في الكعبة، قالت: فجلست علي الرخامة الحمراء ساعة، وإذا أنا قد وضعت ولدي علي بن أبي طالب ولم أجد وجعاً ولا ألماً.

وبقيت السيدة في الكعبة ثلاثة أيام، وانتشر الخبر في مكة، وجعل الناس يتحدثون به حتي النساء، وازدحم الناس في المسجد الحرام، ليشاهدوا مكان الحادثة، حتي كان اليوم الثالث، وإذا بفاطمة قد خرجت من الموضع الذي كان قد انشق لدخولها وعلي يدها صبي كأنه فلقة قمر وأسرعت الجماهير المتجمهرة إليها فقالت: معاشر الناس، إن الله عزوجل اختارني من خلقه وفضلني علي المختارات ممن مضي قبلي، وقد اختار الله آسية بنت مزاحم فإنها عبدت الله سراً في موضع لا يحب أن يعبد الله فيه إلا اضطراراً، ومريم بنت عمران، حيث هانت ويسرت ولادة عيسي فهزت الجذع اليابس من النخلة في فلاة من الأرض حتي تساقط عليها رطباً جنياً وإن الله تعالي اختارني (فضلني) عليها وعلي كل من مضي قبلي من نساء العالمين لأني ولدت في بيته العتيق، وبقيت فيه ثلاثة أيام آكل من ثمار الجنة وأرزاقها …

الخ. [3].

وبعد هذا كله لم يبق مجال للشك في هذه الحادثة والاستبعاد من قدرة الله تعالي وإرادته، وما المانع أن يختار الله لمولد وليه

أشرف بقاع الأرض حتي يكون مولده في ذلك المكان من مزاياه التي تفرد بها عن الخلق أجمعين؟؟ وما المانع أن يمنح الله عباده المقربين هذه العطايا والمنح كي تكون لهم دليلاً علي كرامتهم عند الله.

فقد ذكر الشيخ المفيد (ره) المتوفي سنة 431 ه في الإرشاد مولد الإمام في البيت الحرام، وكذلك من جاء بعده كالشيخ الطوسي والنسابة علي بن أبي الغنائم والشهيد في مزاره والسيد ابن طاووس في المصباح والعلامة الحلي المتوفي سنة 736 ه في كتابه كشف الحق وكشف اليقين.

وتطرق السيد الحميري في نظمه إلي هذه المفخرة وهو من شعراء القرن الثاني وهو قوله:

ولدته في حرم الإله وأمنه

والبيت حيث فناؤه والمسجد

بيضاء طاهرة الثياب كريمة

طابت وطاب وليدها والمولد

ما لف في خرق القوابل مثله

إلا ابن آمنة النبي محمد

وكذلك الشاعر محمد بن منصور السرخسي، وهو من شعراء القرن السادس أشار إلي هذه الفضيلة بقوله:

ولدته منجبة وكان ولادها

في جوف كعبة أفضل الأكنان

ولم ينفر أساطين الشيعة وعلماؤهم بذكر هذه المأثرة، بل شاركهم الكثير من علماء السنة، كالمسعودي في مروج الذهب وإثبات الوصية وعبدالحميد خان الدهلوي، في سيرة الخلفاء وغيرهما من المحدثين.

وأشار عبدالباقي العمري وعبدالمسيح الأنطاكي أيضاً إلي هذه الحادثة وأنها من الأمور المتفق عليها، وأنها من خصائص الإمام ولم يشاركه أحد قبله ولا بعده في هذه المكرمة، حتي قال محمود الآلوسي في شرح قصيدة عبدالباقي العمري ما هذا نصه: (وفي كون الأمير كرم الله وجهه ولد في البيت أمر مشهور في الدنيا وذكر في كتب الفريقين السنة والشيعة …

ولم يشتهر وضع غيره كرم الله وجهه كما اشتهر وضعه، وأحري بإمام الأئمة أن يكون وضعه فيما هو قبلة للمؤمنين، سبحان من يضع الأشياء في مواضعها وهو أحكم الحاكمين).

استقبل سيدنا أبوطالب السيدة فاطمة بنت

أسد مهنئاً، وأخذ أبوطالب وليده الحبيب وضمه إلي صدره ثم رده إلي أمه، وأقبل رسول الله وذلك قبل أن يبعث فلما رآه علي جعل يهش ويضحك كأنه ابن سنة، من حيث المشاعر والإدراك فأخذه النبي (صلّي الله عليه وآله) وقبله وحمد الله علي ظهور هذا المولود الذي كان يعلم أنه سيكون له أحسن وزير وخير أخ وأول مؤمن به، وتتحقق به آمال رسول الله وأمانيه بنشر دينه الذي سيبعث به فسلم علي علي رسول الله ثم قرأ هذه الآيات:

بسم الله الرحمن الرحيم

قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون [4] إلي آخر الآيات، فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قد أفلحوا بك.

وقرأ تمام الآيات إلي قوله (أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون). [5].

فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): أنت والله أميرهم تميرهم من علومك فيمتارون، وأنت والله دليلهم وبك يهتدون.

وأذن أبوطالب في الناس أذاناً جامعاً وقال: هلموا إلي وليمة ابني علي.

قال: ونحر ثلاث مائة من الإبل وألف رأس من البقر والغنم واتخذوا وليمة عظيمة وقال: معاشر الناس، ألا من أراد من طعام علي ولدي فهلموا وطوفوا بالبيت سبعاً سبعاً، وادخلوا وسلموا علي ولدي علي فإن الله شرفه. [6].

وهنا سؤالان: الأول كيف تكلم علي وهو ابن ثلاثة أيام، والسؤال الثاني كيف قرأ آيات القرآن والقرآن بعد لم ينزل علي النبي؟

أما الجواب عن السؤال الأول: إن القرآن الكريم يصرح بتكلم عيسي لما حملته أمه مريم وجاءت به إلي قومها، فسألها قومها عن عيسي (فأشارت إليه) أي سلوا الطفل فإنه يخبركم عن الحقيقة.

قال اليهود: كيف نكلم من كان في المهد صبياً؟ قال (عيسي): (إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبياً) فإذا أمكن أن يتكلم عيسي في المهد صبياً

فما المانع أن يتكلم علي وهو طفل فإن كان عيسي نبياً فعلي خليفة نبي ووصيه وليس ذلك علي الله بعزيز، وليس هذا بمستحيل أمام قدرة الله تعالي فإن الله علي كل شي ء قدير.

والجواب عن السؤال الثاني: أن القرآن الحكيم يقول: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) [7] مع العلم أن القرآن نزل علي النبي (صلّي الله عليه وآله) في خلال ثلاث وعشرين سنة، من يوم مبعثه إلي أيام قبل وفاته، فما المقصود من هذه الآية المباركة التي تصرح بنزول القرآن في ليلة القدر؟

هناك أحاديث متواترة عن أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير هذه الآية مفادها: أن القرآن أنزل إلي السماء الدنيا جملة واحدة ومن السماء الدنيا نزل تدريجياً ومن هنا يستفاد أن القرآن كان موجوداً في السماء قبل نبوة محمد (صلّي الله عليه وآله).

فالطفل الذي اختار الله له الكعبة مولداً وأنطق لسانه يوم ولادته لا مانع عند العقل أن يلهمه الله شيئاً من كتابه المخلوق الموجود في السماء.

وكانت ولادته يوم الجمعة في الثالث عشر من شهر رجب، بعد مضي ثلاثين سنة من عام الفيل.

وقيل: أقل من ذلك، والله العالم.

علي أول المسلمين

اشاره

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله، والصلاة والسلام علي محمد وآله خير البرية.

كلامنا الليلة: حول التربية الإسلامية التي ترباها علي (عليه السلام) خلال السنوات الطوال التي قضاها مع النبي (صلّي الله عليه وآله) منذ نعومة أظفاره حتي بلغ من العمر ثلاثاً وثلاثين سنة، وهي المدة التي عاش فيها مع الرسول، ولا أملك بياناً كافياً لوصف تلك التربية المدهشة، وتأثيرها في نفس علي (عليه السلام)، والأفضل أن نستمع إلي كلام علي (عليه السلام) في هذا الموضوع، فإنه يشرح لنا مدي اختصاصه والتصاقه بالنبي (صلّي الله عليه وآله) من صغر

سنه، يذكر (عليه السلام) ذلك في خطبته الجليلة المعروفة بالقاصعة.

قال (عليه السلام): (أنا وضعت في الصغر بكلاكل العرب، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر.

وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلّي الله عليه وآله) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمني إلي صدره، ويكنفني إلي فراشه، ويمسني جسده ويشمني عرقه.

وكان يمضغ الشي ء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به (صلّي الله عليه وآله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري.

ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما أري نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة.

ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلّي الله عليه وآله) فقلت يا رسول الله: ما هذه الرنة؟ فقال: إنه الشيطان أيس من عبادته. إنك تسمع ما أسمع وتري ما أري إلا أنك لست بنبي. ولكنك وزير وإنك لعلي خير. [15].

فقد روي العلامة الحلي عليه الرحمة في كشف اليقين وغيره … : وقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لفاطمة بنت أسد: اجعلي مهده بقرب فراشي، وكان رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يلي علياً أكثر تربيته، وكان يطهر علياً في وقت غسله، ويوجره اللبن (يجعله في فمه) عند شربه، ويحرك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله علي صدره، ويقول: هذا أخي ووليي، وصفيي، وذخري وكهفي وظهري، ووصيي، وزوج كريمتي، وأميني علي وصيتي وخليفتي، وكان يحمله دائماً

ويطوف به في جبال مكة وشعابها وأوديتها. [16].

وذكر الثعلبي في تفسيره عن مجاهد قال: كان من نعم الله علي علي بن أبي طالب (عليه السلام) وما صنع الله له وزاده من الخير أن قريشاً أصابتهم أزمة (قحط) شديدة، وكان أبوطالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) للعباس عمه وكان أيسر بني هاشم: يا عباس أخوك أبوطالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما تري من هذه الأزمة، فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله، آخذ أنا من بنيه رجلاً، وتأخذ أنت من بنيه رجلاً، فنكفيهما عنه من عياله.

قال العباس: نعم فانطلقا، حتي أتيا أباطالب فقالا: نريد أن نخفف عنك عيالك حتي ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال أبوطالب: إن تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما.

فأخذ النبي (صلّي الله عليه وآله) علياً فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرَ فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول الله (صلّي الله عليه وآله) حتي بعثه الله نبياً، واتبعه علي فآمن به وصدقه.. الخ.

وأخذ رسول الله (صلّي الله عليه وآله) علياً، فانتخبه لنفسه واصطفاه لمهم أمره، وعول عليه في سره وجهره، وهو مسارع لمرضاته موفق للسداد في جميع حالاته، وكان رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في ابتداء طروق الوحي إليه، كلما هتف به هاتف أو سمع من حوله رجفة راجف، أو رأي رؤياً أو سمع كلاماً يخبر بذلك خديجة وعلياً (عليهماالسلام) ويستسرهما هذه الحالة فكانت خديجة نثبته وتصبره، وكان علي (عليه السلام) يهنئه ويبشره ويقول له: والله يا ابن عم ما كذب عبدالمطلب فيك، ولقد صدقت الكهان فيما نسبته إليك، ولم يزل كذلك إلي أن أمر (صلّي الله عليه وآله) بالتبليغ.

فكان أول من آمن به من النساء خديجة، ومن الذكور أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب

(عليه السلام) وعمره يومئذ عشر سنين، وكانت السيدة خديجة الكبري (عليهاالسلام) تشاهد النبي يعطف ويحنو علي علي (عليه السلام) ويتولي رعايته منذ نعومة أظفاره، فكانت السيدة خديجة تستزيده وتزينه وتحليه وتلبسه وترسله مع جواريها، ويحمله خدمها.

وقد أجمع علماء النفس والتربية واتفقت كلمتهم علي: أن جميع نفسيات الإنسان وأخلاقه وصفاته إنما هي انطباعات التربية التي تركزت في نفسه منذ صغره، بحيث يمكن لنا أن نعرف مصير الطفل ومستقبله من منهاج التربية التي قام بها الوالدان والمربي تجاه الطفل في صباه.

فالحقارة والعقد النفسية والدناءة والخمول وما شاكلها من الصفات التي تظهر في الناس إنما هي من ولائد التربية الفاسدة في باكورة حياتهم.

وكذلك شرافة النفس وعلو الهمة، وقوة الروح وما شابهها إنما هي من نتائج التربية الصحيحة في أيام الصبا.

وفي المناقب: عن أبي رافع أن النبي (صلّي الله عليه وآله) …

قال لعمه أبي طالب: إني أحب أن تدفع إلي بعض ولدك يعينني علي أمري ويكفيني، وأشكر لك بلاءك عندي، فقال أبوطالب: خذ أيهم شئت.

فأخذ علياً (عليه السلام) فاستقي عروقه من منبع النبوة، ورضعت شجرته من ثدي الرسالة، وتهدلت أغصانه عن نبعة الإمامة، ونشأ في دار الوحي، وربي في بيت التنزيل، ولم يفارق النبي (صلّي الله عليه وآله) في حال حياته إلي حال وفاته، لا يقاس بسائر الناس، إذ كان (عليه السلام) في أكرم أرومة، وأطيب مغرس، والعرق الصالح ينمي والشهاب الثاقب يسري …

ولم يكن الرسول ليتولي تأديبه، ويتضمن حضانته وحسن تربيته إلا علي ضربين: إما علي التفرس فيه، أو بوحي من الله تعالي، فإن كان بالتفرس فلا تخطي فراسته، ولا يخيب ظنه، وإن كان بالوحي فلا منزلة أعلي ولا حال أدل علي الفضيلة والإمامة.

بناء علي هذا اهتم رسول الله (صلّي الله عليه وآله) غاية الاهتمام

وبذل ما في وسعه في تربية علي (عليه السلام) وتأديبه وتقوية نفسه وتوجيهه، وطبع غرائزه علي أحسن ما يرام وتعليمه الفضائل والمكارم.

فأنتجت تلك التربية الإسلامية الفريدة في نفس علي (عليه السلام) أحسن الأثر، وتربي تحت ظل الرسول أفضل تربية، واجتمعت فيه جميع المؤهلات للصعود إلي أعلي مرقاة، فاستحق أن يجعله الله نفس النبي في آية المباهلة، وكملت فيه الكفاءة والإنسانية بجميع معني الكلمة حتي صار أهلاً لكل منحة إلهية وعطية ربانية وصار جديراً بالولاية والخلافة، والوصية، والوراثة، وبكل عظمة وكل تقدير من الخالق والمخلوق، وكل إكبار وإعجاب من الرسول، وتجلت فيه الفتوة والشهامة، والاعتماد علي النفس، والإحساس بالشخصية وعظمة النفس حينما قدم لتقبل أكبر مسؤولية في العالم، واستعد للقيام بأكبر مهمة من أقل لوازمها التضحية بكل غال ونفيس، وذلك يوم الدار أو الإنذار، وإليك الواقعة:

في أمالي الشيخ عن ابن عباس عن علي (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية علي رسول الله (صلّي الله عليه وآله): (وأنذر عشيرتك الأقربين) [17] دعاني رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقال لي: يا علي إن الله تعالي أمرني: أن أنذر عشيرتك الأقربين.

قال: فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أني متي أبادئهم بهذا الأمر أري منهم ما أكره، فصمت علي ذلك.

فاصنع لي يا علي صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عساً من لبن، ثم اجمع لي بني عبدالمطلب حتي أكلمهم، وأبلغهم ما أمرت به.

ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم أجمع وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون أو ينقصون رجلاً، فيهم أعمامه: أبوطالب وحمزة والعباس وأبولهب، فلما اجتمعوا له، دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به، ولما وضعته تناول رسول الله (صلّي الله عليه وآله) جذمة من اللحم فنتفها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصفحة، ثم قال:

خذوا باسم الله.

فأكل القوم حتي صدروا ما لهم بشي ء من طعام حاجة، وما أري إلا مواضع أيديهم، وأيم الله الذي نفس علي بيده أن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم، ثم جئتهم بذلك العسّ فشربوا حتي رووا جميعاً، وأيم الله أن كان الرجل الواحد منهم يشرب مثله، فلما أراد رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أن يكلمهم بدره أبولهب إلي الكلام فقال: لشد ما سحركم صاحبكم!! فتفرق القوم، ولم يكلمهم رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقال لي في الغد: يا علي إن هذا الرجل قد سبقني إلي ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثم اجمعهم لي.

قال: ففعلت، ثم جمعتهم، فدعاني بالطعام، فقربته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، وأكلوا حتي صدروا ما لهم به من حاجة ثم قال: اسقهم.

فجئتهم بذلك العس، فشربوا حتي رووا منه جميعاً، ثم تكلم رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقال: يا بني عبدالمطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله عزوجل أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤمن بي ويؤازرني علي أمري فيكون أخي، ووصيي ووزيري وخليفتي في أهلي من بعدي؟

قال: فأمسك القوم، وأحجموا (سكتوا) عنها جميعاً، قال: فقمت وإني لأحدثهم سناً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً، فقلت: أنا يا نبي الله أكون وزيرك علي ما بعثك الله به …

قال: فأخذ بيدي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا.

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيعه.

وفي رواية فقال: ليقومن قائمكم أو ليكونن من غيركم ثم لتندمن، ثم أعاد الكلام

ثلاث مرات فقام علي فبايعه ثم قال له (صلّي الله عليه وآله): ادن مني، فدنا منه ففتح فاه، ومج من ريقه وتفل بين كتفيه وثدييه فقال أبولهب: بئس ما حبوت به ابن عمك إن أجابك فملأت وجهه وفاهه بزاقاً! فقال النبي (صلّي الله عليه وآله): ملأته حكماً وعلماً وفهماً. [18].

وللمأمون العباسي مناظرة لطيفة ظريفة قيمة مع الفقهاء، نقتطف منها محل الحاجة: المأمون: يا إسحاق أي الأعمال كان أفضل يوم بعث الله رسوله؟ إسحاق: الإخلاص بالشهادة.

المأمون: أليس السبق إلي الإسلام؟

إسحاق: نعم.

المأمون: اقرأ ذلك في كتاب الله يقول: (والسابقون السابقون أولئك المقربون) [19] إنما عني من سبق إلي الإسلام، فهل علمت أحداً سبق علياً إلي الإسلام؟

إسحاق: يا أميرالمؤمنين إن علياً أسلم وهو حديث السن، لا يجوز عليه الحكم، وأبوبكر أسلم وهو مستكمل يجوز عليه الحكم.

المأمون: أخبرني أيهما أسلم قبل؟

ثم أناظرك من بعده في الحداثة والكمال.

إسحاق: علي أسلم قبل أبي بكر علي هذه الشريطة.

المأمون: فأخبرني عن إسلام علي حين أسلم؟ لا يخلو من أن يكون رسول الله (صلّي الله عليه وآله) دعاه إلي الإسلام أو يكون إلهاماً من الله؟؟ أطرق إسحاق!!

المأمون: يا إسحاق لا تقل: إلهاماً.

فتقدمه علي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لأن رسول الله لم يعرف الإسلام حتي أتاه جبرائيل عن الله تعالي.

إسحاق: أجل بل دعاه رسول الله إلي الإسلام.

المأمون: يا إسحاق فهل يخلو رسول الله (صلّي الله عليه وآله) حين دعاه إلي الإسلام من أن يكون دعاه بأمر الله أو تكلف ذلك من نفسه؟؟ (أطرق إسحاق)!!.

المأمون: يا إسحاق لا تنسب رسول الله إلي تكلف، فإن الله قال: (وما أنا من المتكلفين). [13].

إسحاق: أجل، يا أميرالمؤمنين بل دعاه بأمر الله.

المأمون: فهل من صفة الجبار (جل ذكره) أن يكلف رسله دعاء من لا يجوز

عليه حكم؟

إسحاق: أعوذ بالله.

المأمون: أفتراه في قياس قولك يا إسحاق أن علياً أسلم صبياً لا يجوز عليه الحكم قد تكلف رسول الله (صلّي الله عليه وآله) من دعاء الصبيان ما لا يطيقون، فهل يدعوهم الساعة ويرتدون بعد ساعة فلا يجب عليهم في ارتدادهم شي ء، ولا يجوز عليهم حكم الرسول (صلّي الله عليه وآله)؟؟ أتري هذا جائزاً عندك أن تنسبه إلي رسول الله؟؟

إسحاق: أعوذ بالله … الخ.

وليس هذا بأول خطوة كبيرة خطاها (عليه السلام) إلي مراقي الصعود ولا بأول موقف مشرف وقف فيه للحق، فقد دعاه الرسول قبل ذلك إلي الاعتراف له بالنبوة والتصديق له بالرسالة، وذلك يوم بعثه الله تعالي في غار حراء وانحدر متحملاً أعباء الرسالة وقصد بيت خديجة وفتحت له الباب وقالت: ما هذا النور؟ فأجابها: إنه نور النبوة، اشهدي يا خديجة بأن لا إله إلا الله وإني رسول الله.

فشهدت بذلك فكانت أول امرأة آمنت، ثم دعا علياً (عليه السلام) ليشهد له بذلك فاعترف له علي فكان أول من أسلم من الرجال.

ويمتاز إسلام علي (عليه السلام) عن بقية المسلمين في ذلك العهد فإن الذين أسلموا علي يد النبي (صلّي الله عليه وآله) كان جلهم غير موحدين، بل يهوداً ونصاري ومشركين، وسبق الكفر أو الشرك إسلامهم، ولكن علياً (عليه السلام) لم تتغير فطرته التي فطره الله عليها، ولم يدنس ساحته شرك ولا كفر، بل كان موحداً وبقي علي التوحيد، وازداد إيماناً بالله ويقيناً به علي أثر تلك العلوم والمعارف الإلهية التي كان الرسول (صلّي الله عليه وآله) يزقه إياها زقاً، ولما بعث النبي بالنبوة كان علي أول من صدقه وآمن به وقام بما يتطلب ذلك التصديق والإيمان.

ولا بأس أن نذكر الشي ء اليسير من الأحاديث التي تصرح بهذه الفضيلة الفريدة لعلي

(عليه السلام): قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): أوّلكم وروداً علي الحوض أوّلكم إسلاماً علي بن أبي طالب.

ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه وابن أبي الحديد في شرحه.

وأخذ النبي بيد علي فقال: إن هذا أول من آمن بي، وهذا أول من يصافحني يوم القيامة، وهذا الصديق الأكبر.

وقال أيضاً: لقد صلت الملائكة علي وعلي علي سبع سنين لأنا كنا نصلي وليس معنا أحد يصلي غيرنا.

وقال أميرالمؤمنين (عليه السلام): أنا عبدالله وأخو رسول الله، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذب مفترٍ، ولقد صليت مع رسول الله قبل الناس بسبع سنين، وأنا أول من صلي معه.

وقال أيضاً: أنا أول رجل أسلم مع رسول الله (صلّي الله عليه وآله).

وقال أيضاً: أنا أول من صلي مع رسول الله (صلّي الله عليه وآله).

وقال أيضاً: أسلمت قبل أن يسلم الناس بسبع سنين.

وقال أيضاً: اللهم إني لا أعرف عبداً من هذه الأمة عبَدَك قبلي غير نبيك.

(قاله ثلاث مرات) ثم قال: لقد صليت قبل أن يصلي الناس.

وقال أيضاً: بُعث رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يوم الاثنين وأسلمت يوم الثلاثاء وقال في أبيات له:

سبقتكم إلي الإسلام طراً

غلاماً ما بلغت أوان حلمي

وله أيضاً:

أنا أخو المصطفي لا شك في نسبي

به ربيت وسبطاه هما ولدي

صدقته وجميع الناس في بُهَم

من الضلالة والإشراك والنكد

قال جابر: سمعت علياً ينشد بهذا ورسول الله يسمع، فتبسم رسول الله وقال: صدقت يا علي.

وكان هذا الأمر من الأمور الثابتة عند الصحابة والتابعين وقد روي ذلك نظماً ونثراً عن جماعة منهم يتجاوز عددهم خمسين رجلاً، تجد ذلك بالتفصيل في الجزء الثالث من الغدير لشيخنا الأميني (رحمه الله).

ولشيخنا الأميني كلام لطيف قيّم في هذا الموضوع (وكل كلامه لطيف) قال: وأما نحن فلا نقول: إنه (علياً) أول من أسلم بالمعني الذي يحاوله ابن كثير وقومه، لأن البدأة به

(الإسلام) تستدعي سبقاً من الكفر، ومتي كفر أميرالمؤمنين حتي يسلم؟ ومتي أشرك حتي يؤمن؟ وقد انعقدت نطفته علي الحنيفية البيضاء، واحتضنه حجر الرسالة، وغذته يد النبوة، وهذبه الخلق النبوي العظيم، فلم يزل مقتصاً أثر الرسول قبل أن يصدع بالدين الحنيف وبعده، فلم يكن له هوي غير هواه، ولا نزعة غير نزعته (إلي أن قال) بل نحن نقول: إن المراد من إسلامه وإيمانه وأوليته فيهما وسبقه إلي النبي في الإسلام هو المعني المراد من قوله تعالي عن إبراهيم الخليل (عليه السلام): (وأنا أول المسلمين). [14].

وفيما قال سبحانه عنه: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) [15] وفيما قال سبحانه عن موسي (عليه السلام): (وأنا أول المؤمنين) [16] وفيما قال تعالي عن نبيه الأعظم: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه) [17] وفيما قال: (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) [18] وفي قوله: (وأُمرت أن أُسلم لرب العالمين). [19].

وقال ابن أبي الحديد:

وما أقول في رجل سبق الناس إلي الهدي وآمن بالله، وعبده، وكل من في الأرض يعبد الحجر ويجحد الخالق، لم يسبقه أحد إلي التوحيد إلا السابق إلي كل خير: محمد رسول الله (صلّي الله عليه وآله).

ذهب أكثر أهل الحديث إلي أنه عليه الصلاة والسلام أول الناس اتباعاً لرسول الله (صلّي الله عليه وآله) وإيماناً به، ولم يخالف في ذلك إلا الأقلون.

ومن وقف علي كتب أصحاب الحديث تحقق له ذلك، وعلمه واضحاً وإليه ذهب الواقدي وابن جرير الطبري، وهو القول الذي رجحه ونصره صاحب كتاب الاستيعاب.

ابوطالب حامي الرسول

قد ذكرنا في أول كلامنا الليلة أن التربية الصحيحة إنما تتسني للطفل عن طريق المربي والوالدين والبيت الذي يفتح الطفل فيه عيناه، فقد كان علي (عليه السلام) يتلقي دروس التوحيد من الرسول الأعظم

(صلّي الله عليه وآله) من أيام صباه ويتعلم منه العلوم الإلهية طيلة أيام كونه طفلاً ويافعاً وشاباً وخليفة، وكان يجد كل التشجيع من والده أبي طالب (عليه السلام) الذي كفل النبي من يوم وفاة عبدالمطلب، ولم يبلغ النبي يومذاك من العمر ثمان سنين وأخذه إلي بيته وضمه إلي أهله وولده، وكان هو وزوجته السيدة فاطمة بنت أسد يبذلان كل ما في وسعهما في خدمة النبي والترفيه عنه حتي أنهما كانا يفضلانه علي أولادهما في المطعم والملبس والعناية والخدمة، وقام أبوطالب بما قام من أنواع العطف والحنان والرعاية والاهتمام بشأن النبي والإشادة بمواهبه في السفر والحضر.

ولأبي طالب (عليه السلام) الحظ الأوفر في القيام بتزويج النبي من السيدة خديجة والقضاء علي المشاغبات والمنافسات التي كادت أن تحول دون ذلك الزواج الميمون.

ومواقف أبي طالب في سبيل التحفظ علي النبي والدفاع عنه والحماية له من بدء بعثته إلي آخر حياة أبي طالب، مشكورة مذكورة في تاريخ المسلمين، وإسلام أبي طالب (عليه السلام) وإيمانه بالنبي مما لا شك فيه عند كل مسلم منصف، وهذا بعض تلك البحوث الشاهدة لما نحن فيه الآن: قال ابن الأثير: إن أباطالب رأي النبي (صلّي الله عليه وآله) وعلياً يصليان وعلي علي يمينه فقال لجعفر رضي الله عنه: صل جناح ابن عمك وصل عن يساره.

وفي رواية: فقام جعفر إلي جنب علي، فأحس النبي، فتقدمهما، فأقبلوا علي أمرهم حتي فرغوا، فانصرف أبوطالب مسروراً، وأنشأ يقول:

إن علياً وجعفراً ثقتي

عند ملم الزمان والنُوَب

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما

أخي لأمي من بينهم وأبي

والله لا أخذل النبي ولا

يخذله من بنيَّ ذو حسب

وكان أبوطالب إذا رأي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أحياناً يبكي ويقول: إذا رأيته ذكرت أخي، وكان عبدالله أخاه لأبويه، وكان شديد الحب والحنو عليه، وكذلك كان عبدالمطلب شديد

الحب له، وكان أبوطالب كثيراً ما يخاف علي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) البيات إذا عرف مضجعه، فكان يقيمه ليلاً من منامه ويضجع ابنه علياً مكانه، فقال له علي ليلة: يا أبت إني مقتول.

فقال له:

اصبرنْ يا بني فالصبر أحجي

كل حي مصيره لشعوب

قد بذلناك والبلاءُ شديد

لفداء الحبيب وابن الحبيب

لفداء الأغر ذي الحسب الثا

قب والباع والكريم النجيب

فأجاب علي بقوله:

أتأمرني بالصبر في نصر أحمد

والله ما قلت الذي قلت جازعا

ولكنني أحببت أن تر نصرتي

وتعلم أني لم أزل لك طائعا

سأسعي لوجه الله في نصر أحمد

نبي الهدي المحمود طفلاً ويافعا

وقال القرطبي في تفسيره: روي أهل السير قال: كان النبي قد خرج إلي الكعبة يوماً وأراد أن يصلي، فلما دخل في الصلاة قال أبوجهل لعنه الله: من يقوم إلي هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعري فأخذ فرثاً ودماً فلطخ به وجه النبي (صلّي الله عليه وآله) فانفتل النبي من صلاته، ثم أتي أباطالب عمه فقال: يا عم! ألا تري إلي ما فعل بي؟ فقال أبوطالب: من فعل هذا بك؟ فقال النبي (صلّي الله عليه وآله): عبدالله بن الزبعري.

فقام أبوطالب ووضع سيفه علي عاتقه ومشي معه حتي أتي القوم، فلما رأوا أباطالب قد أقبل جعل القوم ينهضون، فقال أبوطالب: والله لئن قام رجل لجللته بسيفي.

فقعدوا حتي دنا إليهم، فقال: يا بني من الفاعل بك هذا؟ فقال: عبدالله بن الزبعري، فأخذ أبوطالب فرثاً ودماً فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم، وأساء لهم القول.

وهناك أحاديث كثيرة متواترة حول إسلام أبي طالب وإيمانه، بل وكتب طائفة من العلماء والفضلاء مؤلفات واسعة قيمة حول إيمان أبي طالب أمثال كتاب أسني المطالب، وأبوطالب مؤمن قريش، وكتاب: الحجة علي الذاهب إلي تكفير أبي طالب، وفي المجلد السابع من الغدير لشيخنا الأميني ما يروي

الغليل.

ولسيدنا أبي طالب (عليه السلام) قصائد وأبيات في مدح النبي (صلّي الله عليه وآله) والاعتراف برسالته والتصديق بنبوته، وذكر الشيخ الأميني في المجلد السابع من الغدير عن بعض المؤرخين: أن الأبيات التي قالها أبوطالب في مدح النبي (صلّي الله عليه وآله) قد بلغت ثلاثة آلاف ونحن نقتطف أبياتاً تصرح بإيمان أبي طالب وتفانيه في نصرة النبي، فقد كتب أبوطالب أبياتاً إلي النجاشي ملك الحبشة وهي:

ليعلم خيار الناس أن محمداً

وزير كموسي والمسيح بن مريم

أتانا بهدي مثل ما أتنا به

فكل بأمر الله يهدي ويعصم

وقال أيضاً:

ألا أبلغا عني علي ذات بينها

لوَّيا وخُصّا من لويِ بني كعب

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً

رسولاً كموسي خُطّ في أول الكتب

وقال أيضاً:

يرجون أن نسخي بقتل محمد

ولم تختضب سمر العوالي من الدم

كذبتم وبيت الله حتي تفلقوا

جماجم تلقي بالحطيم وزمزم

وقال يخاطب النبي:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتي أوسّد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وابشر بذاك وقُرّ منك عيونا

ودعوتني وعلمت أنك ناصحي

ولقد دعوت وكنت ثَم أمينا

ولقد علمت بأن دين محمد

من خير أديان البرية دينا

وقال يمدح النبي:

لقد أكرم الله النبي محمداً

فأكرم خلق الله في الناس أحمد

وشق له من اسمه ليجله

فذو العرش محمود وهذا محمد [20].

وقال أيضاً:

كذبتم وبيت الله نبزي محمداً

ولما نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه حتي نصرّع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه

ثمال اليتامي عصمة للأرامل

يلوذ به الهُلاك من آل هاشم

فهم عنده في رحمة وفواضل

ألم تعلموا أن ابننا لا مكذب

لدينا ولا نعبأ بقول الأباطل

فأيده رب العباد بنصره

وأظهر ديناً حقه غير باطل

وقال أيضاً:

أوصي بنصر نبي الخير أربعة

ابني علياً وشيخ القوم عباسا

وحمزة الأسد الحامي حقيقته

وجعفراً أن تذودوا دونه الناسا

كونوا فداءً لكم أمي وما ولدت

في نصر أحمد دون الناس أتراسا

وقال أيضاً:

إن ابن آمنة النبي محمداً

عندي يفوق منازل الأولا

دراعيت فيه قرابة موصولة

وحفظت فيه وصية الأجداد

وغير ذلك من

قصائده وأبياته المفصلة المذكورة في ديوانه وسجلتها كتب التراجم والتاريخ.

أما تكفي هذه الأحاديث وهذه القصائد أن تكون وثيقة لإيمان أبي طالب وإسلامه، وهل الإسلام غير هذا؟ ولو كان جزء من هذه الآثار والمآثر لأبي قحافة والخطاب أو عفان لكانوا أول المسلمين، ولكن أباطالب (عليه السلام) بالرغم من تلك المواقف والمواطن التي وقف بها للدفاع عن النبي والمحافظة علي حياته في الشعب وقبله وبعده، وهذه الاعترافات منه بنبوة محمد ورسالته، لا تكفي للدلالة علي إسلامه فيقولون: مات أبوطالب مشركاً كافراً.

فليكن كل هذا، فإن هذه الغارات التي تشن علي كفيل رسول الله وناصره والمحامي عنه إنما هي لأجل ولده علي (عليه السلام) فإن القوم لم يرضوا أن تكون ساحة نسب علي (عليه السلام) منزهة عن كفر الجاهلية، ولم تطب نفوسهم أن تكون هذه المفاخر لعلي (عليه السلام) وسيعلمون غداً يوم يساقون إلي الحساب عما كتبت أيديهم.

علي ليلة المبيت

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وسلام علي سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين.

قال الله تعالي: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد). [21].

حديثنا الليلة حول ما قام به علي (عليه لسلام) من التضحية والتفادي في سبيل رسول الله والدفاع عنه، ولقد ذكرنا في الليلة الماضية شيئاً يسيراً مما قام به أبوه سيدنا أبوطالب (عليه السلام) في الدفاع عن النبي (صلّي الله عليه وآله) والحماية له.

ومن هذه الليلة نبدأ بشرح ما قام به علي (عليه السلام) من توطين النفس لكل بلاء ومكروه في سبيل الإسلام، ولقد صدق من قال:

ولولا أبوطالب وابنه

لما مثل الدين شخصاً وقاما

فذاك بمكة آوي وحامي

وهذا بيثرب جس الحماما

فلله ذا فاتحاً للهدي

ولله ذا للمعالي ختاما

فقد خلق الله تعالي علياً (عليه السلام) ليكون أحسن وزير وأشرف نصير للرسول وأوفي مدافع وأقوي مجاهد في سبيل الإسلام، ولقد

تحقق الهدف الذي خلق علي (عليه السلام) من أجله، وقد ذكرنا نهضته المباركة يوم الإنذار وإجابته طلب الرسول وتلبيته لندائه، وكانت تلك النهضة فاتحة قيامه وجهاده، إذ تجلت فيها شخصية علي (عليه السلام) وعبقريته، وظهر مدي اعتماده علي الله تعالي وعلي نفسه المتشبعة بالإيمان وقلبه المطمئن بذكر الله.

واستمر الأمر من ذلك اليوم فكأنه فترة التدريب أو الامتحان التمهيدي الذي لا بد منه لكل مصلح منقذ أن يجس نبض المجتمع ليكون علي بصيرة أكثر فينضج فكره بالتجارب لاتخاذ التدابير اللازمة لمشروعه الذي ينوي القيام به والسير علي المخطط الذي جعله برنامجاً لحياته.

ولولا خشية الافتراء علي علي (عليه السلام) لقلت: إن قلب علي (عليه السلام) هو أقوي قلب خلقه الله في صدور البشر، وإن أعصاب علي كانت تستمد القوي من طاقة غير متناهية.

وإلا فكيف يمكن للبشر أن لا يدخل الخوف قلبه، ولا تتوتر من الأهوال أعصابه، ولا يخشي من المستقبل المبهم الغامض ولا تستولي عليه الغرائز: غريزة حب الذات، حب الحياة، الأنانية وغيرها من الطبائع التي كثيراً ما تحول بين الإنسان وبين ما يريد؟

ومن هذا الحديث ندرك الشجاعة التي خامرت نفس علي (عليه السلام) من صباه: عن أبي عبدالله (الصادق) (عليه السلام) أنه سئل عن معني قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه علي (عليه السلام): يا قضم؟

قال: إن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب، وأغروا به الصبيان وكانوا إذا خرج رسول الله يرمونه بالحجارة والتراب، وشكي ذلك إلي علي (عليه السلام)، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إذا خرجت فأخرجني معك.

فخرج رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ومعه أميرالمؤمنين (عليه السلام) فتعرض الصبيان لرسول الله (صلّي الله عليه وآله) كعادتهم، فحمل عليهم أميرالمؤمنين (عليه السلام)، وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم، الصبيان يرجعون

باكين إلي آبائهم ويقولون: قضمنا علي (عليه السلام) قضمنا علي.

فسمي لذلك: القضم.

ولقد حاول المشركون وكفار مكة خنق الإسلام والقضاء علي حياة الرسول (صلّي الله عليه وآله) بشتي الطرق والأساليب، فكانت حركاتهم فاشلة، وجاءوا إلي أبي طالب وسألوه أن يمنع الرسول عن سب الآلهة!! وإفساد الشبان!! وتسفيه الأحلام! فلم يجدوا التجاوب من أبي طالب (عليه السلام).

فجعلوا يحاربون النبي حرب الأعصاب، وجاءوا عن طريق التهديد والوعيد وإسناد السحر والجنون إليه، وقذفه بالحجارة وتلويث ثيابه بالدم والأقذار.

وكتبوا الصحيفة القاطعة وقاطعوا بني هاشم أقسي مقاطعة، كل ذلك لا يزيد النبي إلا ثباتاً واستقامة، وخاصة لما نزلت عليه الآية: (فاستقم كما أُمرت) [22] واستمر الحال علي هذا المنوال حتي توفيت السيدة خديجة الكبري وبعد مدة يسيرة توفي سيدنا أبوطالب، وكانا بمنزلة جناحين لرسول الله، وخيمت الأحزان علي قلب الرسول حتي سمي تلك السنة (عام الحزن).

وعند ذلك خلا الجو للمشركين، واستضعفوا النبي لفقدان الناصر، وعزموا علي اغتيال النبي وقتله، وإليكم التفصيل: اجتمع المشركون في دار الندوة وتذاكروا حول قتل النبي (صلّي الله عليه وآله) وتقرر أخيراً أن يجتمع من كل قبيلة رجل واحد ويهجموا علي النبي (صلّي الله عليه وآله)، ويقتلوه في بيته، واجتمع أربعون رجلاً من أربعين قبيلة واجتمعوا علي باب دار النبي (صلّي الله عليه وآله) ونزل جبرائيل علي النبي وأخبره بمكيدة القوم وأمره بالهجرة من مكة إلي المدينة، فأرسل النبي إلي علي وقال له: يا علي إن الروح هبط علي يخبرني أن قريشاً اجتمعت علي المكر بي وقتلي وأنه أوحي إلي عن ربي أن أهجر دار قومي وأن أنطلق إلي غار ثور، تحت ليلتي، وأنه أمرني أن آمرك بالمبيت علي مضجعي لتخفي بمبيتك عليه أثري فما أنت قائل وصانع؟

فقال علي (عليه السلام): أوَ تسلمنّ

بمبيتي هناك يا نبي الله؟ قال: نعم، فتبسم علي (عليه السلام) ضاحكاً، وأهوي إلي الأرض ساجداً، شكراً لما أنبأه به رسول الله (صلّي الله عليه وآله) من سلامته، فكان علي (عليه السلام) أول من سجد لله شكراً، وأول من وضع وجهه علي الأرض بعد سجدته من هذه الأمة بعد رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فلما رفع رأسه قال له: امضي لما أمرت، فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت أكون فيه كمسرتك وأقع منه بحيث مرادك، وإن توفيقي إلا بالله، وقال النبي (صلّي الله عليه وآله): أو أن ألقي عليك شبهة مني، أو قال: شبهي، قال: أن يمنعوني نعم، قال: فارقد علي فراشي واشتمل ببردي الحضرمي، ثم إني أخبرك يا علي أن الله تعالي يمتحن أولياءه علي قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يا ابن أم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم (عليه السلام) والذبيح إسماعيل (عليه السلام)، فصبراً صبراً، فإن رحمة الله قريب من المحسنين، ثم ضمه النبي (صلّي الله عليه وآله) إلي صدره وبكي إليه وجداً به، وبكي علي (عليه السلام) جزعاً علي فراق رسول الله (صلّي الله عليه وآله).

وفي رواية: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): أرضيت أن أُطلب فلا أُوجد وتوجد؟ فلعله أن يبادر إليك الجهال فيقتلوك؟ قال: بلي يا رسول الله رضيت أن يكون روحي لروحك وقاءً ونفسي لنفسك فداء، بل رضيت أن يكون روحي ونفسي فداء أخ لك أو قريب …

وهل أحب الحياة إلا لخدمتك، والتصرف بين أمرك ونهيك، ولمحبة أوليائك ونصرة أصفيائك ومجاهدة أعدائك.

لولا ذلك لما أحببت أن أعيش في هذه الدنيا ساعة واحدة.

وقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): لعلي (عليه السلام) فإذا قضيت

ما أمرتك من أمر فكن علي أهبة الهجرة إلي الله ورسوله، وسر إلي لقدوم كتابي عليك، ولا تلبث بعده.

فانطلق النبي إلي الغار، ونام علي في مكانه ولبس برده، فجاء قريش يريدون أن يقتلوا النبي (صلّي الله عليه وآله)، فجعلوا يرمون علياً وهم يرون أنه النبي وكان علي (عليه السلام) يتضور (يتلوي) من الألم ولا يتكلم لئلا يعرفوه، وكان القوم يريدون الهجوم علي البيت ليلاً، فيمنعهم أبولهب ويقول لهم: يا قوم إن في هذه الدار نساء بني هاشم وبناتهم، ولا نأمن أن تقع يد خاطئة إذا وقعت الصيحة عليهن، فيبقي ذلك علينا مسبة وعاراً إلي آخر الدهر في العرب.

فجلسوا علي الباب حتي طلع الفجر، فتواثبوا إلي الدار شاهرين سيوفهم، وقصدوا نحو مضجع النبي ومعهم خالد بن الوليد، فقال لهم أبوجهل: لا تقعوا به وهو نائم لا يشعر، ولكن ارموه بالأحجار لينتبه بها ثم اقتلوه، أيقظوه ليجد ألم القتل، ويري السيوف تأخذه!! فرموه بأحجار ثقال صائبة، فكشف عن رأسه، وقال: ما شأنكم؟ فعرفوه، فإذا هو علي (عليه السلام) فقال أبوجهل: أما ترون محمداً كيف أبات هذا ونجا بنفسه لتشتغلوا به؟ وينجو محمد، لا تشتغلوا بعلي المخدوع لينجو بهلاكه محمد، وإلا فما منعه أن يبيت في موضعه إن كان ربه يمنع عنه كما يزعم.

ثم قالوا: أين محمد؟ قال: أجعلتموني عليه رقيباً؟ ألستم قلتم: نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم.

فأرادوا أن يضربوه فمنعهم أبولهب، وقالوا لعلي: أنت كنت تخدعنا منذ الليلة (أي بنومك علي فراش النبي خدعتنا وظننا أنك محمد) وبقي النبي (صلّي الله عليه وآله) في الغار ثلاثة أيام وكان علي يأتيه بالطعام والشراب وفي رواية: استأجر ثلاث رواحل للنبي ولأبي بكر ولدليلهم.

وخرج النبي بعد ذلك من الغار وتوجه نحو

المدينة.

روي الثعلبي في تفسيره قال: لما أراد النبي (صلّي الله عليه وآله) الهجرة خلف علياً (عليه السلام) لقضاء ديونه، ورد الودائع التي كانت عنده وأمر ليلة خرج إلي الغار، وقد أحاط المشركون بالدار، وقال له يا علي: اتشح ببردي الحضرمي، ثم نم علي فراشي فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله، ففعل ما أمره، فأوحي الله عزوجل إلي جبرائيل وميكائيل: إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كل منهما الحياة، فأوحي الله عزوجل إليهما: ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب؟ آخيت بينه وبين محمد (صلّي الله عليه وآله) فبات علي فراشه يفديه بنفسه، ويؤثره بالحياة، اهبطا إلي الأرض فاحفظاه من عدوه، فنزلا، فكان جبرائيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرائيل يقول: بخ بخ! من مثلك يا بن أبي طالب، يباهي الله بك ملائكته؟؟ فأنزل الله عزوجل علي رسوله (صلّي الله عليه وآله) وهو متوجه إلي المدينة في شأن علي بن أبي طالب (عليه السلام) (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد). [23].

قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): نزل علي جبرائيل صبيحة يوم الغار، فقلت: حبيبي جبرائيل أراك فرحاً، فقال: يا محمد وكيف لا أكون كذلك وقد قرت عيني بما أكرم الله به أخاك ووصيك وإمام أمتك علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقلت: بماذا أكرمه الله؟ قال: باهي بعبادته البارحة ملائكته، وقال: ملائكتي! انظروا إلي حجتي في أرضي بعد نبيي وقد بذل نفسه، وعفر خده في التراب تواضعاً لعظمتي، أشهدكم أنه إمام خلقي ومولي بريتي.

وكان علي (عليه السلام) يعتز ويفتخر بهذه الموفقية التي نالها من عند الله تعالي فقال شعراً:

وقيت بنفسي خير من وطأ الحصي

ومن طاف بالبيت العتيق

وبالحجر

محمد لما خاف أن يمكروا به

فوقاه ربي ذو الجلال من المكرو

بتُّ أراعيهم متي ينشرونني

وقد وطنت نفسي علي القتل والأسر

وبات رسول الله في الغار آمناً

هناك وفي حفظ الإله وفي ستر

أقام ثلاثاً ثم زمت قلائص

قلائص يفرين الحصي أينما تفري

إن هذا العمل العظيم الذي قام به الإمام العظيم علي (عليه السلام) وقع من أهل السماوات موقع الإعجاب والإكبار والتقدير، وهذه المواساة هي الفريدة من نوعها في تاريخ الإسلام بل وفي تاريخ الأنبياء، فلا غرو ولا عجب إذا طأطأ العظماء رؤوسهم إجلالاً لعلي (عليه السلام) ونثروا الثناء الجميل نظماً ونثراً، ولم ينحصر التنويه والإشادة بهذه المكرمة بالمسلمين، بل شاركهم من غير المسلمين كل من تطبع بروح الفضيلة وحمل بين جوانح صدره قلباً وعي جزءً من الفتوة والشهامة والنجدة وكل يعمل علي شاكلته، وكل إناء بالذي فيه ينضح.

أما من المسلمين فالسيد ابن طاووس له كلام لطيف وتحقيق ظريف سنذكره.

وأما من غير المسلمين فأحدهم جورج جرداق الكاتب المعاصر وبولس سلامة في ملحمة الغدير، ونكتفي هنا بكلام ابن طاووس وجورج جرداق وبولس سلامة.

قال السيد ابن طاووس في كتاب الإقبال …

ومن أسرار هذه المهاجرة: أن مولانا علياً (عليه السلام) بات علي فراش المخاطرة وجاد بمهجته لمالك الدنيا والآخرة ولرسوله (صلّي الله عليه وآله) فاتح أبواب النعم الباطنة والظاهرة، ولولا ذلك المبيت واعتقاد الأعداء أن النائم علي الفراش هو سيد الأنبياء (صلّي الله عليه وآله) لما كانوا صبروا عن طلبه إلي النهار حتي وصل إلي الغار، فكانت سلامة صاحب الرسالة من قبل أهل الضلالة صادرة عن تدبير الله جل جلاله بمبيت مولانا علي (عليه السلام) في مكانه وآية باهرة لمولانا علي (عليه السلام) شاهدة بتعظيم شأنه، وأنزل الله جل جلاله في مقدس قرآنه: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف

بالعباد) [24] فأخبر أن لمولانا علي (عليه السلام) كانت بيعاً لنفسه الشريفة، وطلباً لرضاء الله جل جلاله دون كل مراد، وقد ذكرنا في الطرائف من روي هذا الحديث من المخالف، ومباهاة الله جل جلاله تلك الليلة بجبرائيل وميكائيل في بيع مولانا علي (عليه السلام) بمهجته، وأنه سمح بما لم يسمح به خواص ملائكته.

ومنها: أن الله جل جلاله زاد مولانا علياً (عليه السلام) من القوة الإلهية والقدرة الربانية إلي أنه ما قنع له أن يفدي النبي (صلّي الله عليه وآله) بنفسه الشريفة، حتي أمره أن يكون مقيماً بعده في مكة مهاجراً للأعداء قد هربه منهم وستره بالمبيت علي الفراش وغطاه عنهم، وهذا ما لا يحتمله قوة البشر إلا بآيات باهرة من واهب النفع ودافع الضرر.

ومنها: أن الله عزوجل لم يقنع لمولانا علي (عليه السلام) بهذه الغاية الجليلة حتي زاده من المناقب الجميلة، وجعله أهلاً أن يقيم ثلاثة أيام بمكة لحفظ عيال سيدنا رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، وأن يسير بهم ظاهراً علي رغم الأعداء وهو وحيد من رجاله، ومن يساعده علي ما بلغ من المخاطرة إليه.

ومنها: أن فدية مولانا علي (عليه السلام) لسيدنا رسول الله (صلّي الله عليه وآله) كانت من أسباب التمكين من مهاجرته ومن كل ما جري من السعادات والعنايات بنبوته، فيكون مولانا علي (عليه السلام) قد صار من أسباب التمكين من ما جرت حال الرسالة عليه ومشاركاً في كل خير فعله النبي (صلوات الله عليه)، وبلغ حاله إليه، وقد اقتصرت في ذكر أسرار المهاجرة الشريفة النبوية علي هذه المقامات الدينية، ولو أردت بالله جل جلاله أوردت مجلداً منفرداً في هذه الحال، ولكن هذا كاف شاف للمنصفين وأهل الإقبال.

وقال الكاتب المسيحي جورج جرداق في كتابه: (صوت العدالة الإنسانية): أما علي بن

أبي طالب، فما كان أعجب أمره يوم غامر في سبيل عقيدته التي هي عقيدة محمد بن عبدالله، وفي سبيل الحق ورعاية الشرف والإخاء هذه المغامرة التي لم يعرف التاريخ أجل منها، وأقوي وأدل علي وحدة الذات بين عظيم وعظيم.

وإنها لإرادة علي التضحية قل أن تجد لها مثيلاً إلا في الظروف النادرة التي تقف بها النفس الإنسانية الواعية بين حالين من وجود وفناء في حيز من إدراك معني الوجود علي مثال خاص.

فإما أن تؤثر لهذا الجسد عيشاً يقربه دون ما يحييه من قيم الحياة الصاعدة، فتنكر هذه القيم وتفضل عليها وجوداً هو أشبه بالفناء من حيث أن الوجود حياة تحيا! وإما أن تؤثر لهذا الكيان الإنساني انصهاراً بكليات القيم دونما نظر إلي وجود عضوي لا يتصل بروح الوجود الفذ، فتأتي هذه القيم سالكاً إليها طريق التهلكة.

وما فناؤك آنذاك إلا دليل علي أن الوجود إنما هو لديك حياة تحيا لا عيش يعاش!

أجل، إنها لتضحية قل أن تجد لها مثيلاً إلا في اختيار سقراط للموت وفي مسلك غيره من السقارطة، تضحية علي بن أبي طالب يفدي النبي بنفسه راضياً مختاراً علي صورة أهون منها علي لقاء الموت في ساحة القتال، أو علي شفاه قمقم السم! فما أصعب علي المرء أن يأخذ مكان رجل حكم عليه المجرمون بالقتل.

وأن يرقد في فراشه فلا يخطئه هؤلاء إذا دخلت إرادتهم طور التنفيذ وهم منه علي خطوات ينظرون إليه ويسمع إليهم.

ثم إنه يترقب بين حين وحين رؤية أنظارهم تتوامض بالغدر تحت عينيه، وسيوفهم تتلامع بالموت فوق رأسه، طوال ليلة كاملة!

لقد كان علي بمغامرته هذه استمراراً لمحمد.

وكانت تضحيته من روح المقاومة التي عرف بها ابن عمه العظيم، وكان مبيته في فراش النبي تزكية للدعوة وحافزاً علي

الجهاد الطويل! ثم إن في هذه المغامرة ما يوجز الحقيقة عن الإمام وطباعه ومزاجه، فإذا هي صادرة عنه كما تصدر الأشياء عن معادنها دون تكلف ودون إجهاد.

ففيها نموه الذهني المبكر الذي جعله يدرك من الدعوة التي يدق فهمها فهماً صحيحاً علي من كان في مثل سنه.

وفيها زهده بالحياة إذا لم تكن عمراً لمكارم الأخلاق.

وفيها صدقه المر وإخلاصه العجيب.

وفيها عدله بين نفسه وبين سواه من أهل الجهاد وما يتوخاه بذلك من نصرة للمظلومين والمستضعفين إذا قتل هو ونجحت الرسالة علي يدي صاحب الهجرة.

وفيها مواجهته للأمور بسماحة وبساطة لا يعرف معهما إلي الكلفة سبيلاً.

وفيها المروءة والوفاء والطيبة والشجاعة وسائر صفات الفروسية التي يمثلها علي بن أبي طالب.

بل قل هي شي ء من استشهاده المقبل وقال الأستاذ بولس سلامة في ملحمة الغدير:

هزه الشوق للنبي فشد

العزم يهفو إلي جماع المآثر

في رمال الصحراء يسري وحيداً

مقفر الكف أعوزته الأباعر

صابر في العذاب والجوع حتي

عجب القفر من تقشف صابر

إلي أن يقول:

لا فراش سوي الثري، لا غطاء

لا ضياء سوي النجوم الزواهر

فيناجي السهي يصعد في الأج

واء طرفاً يشق ستر الدياجر

إن هذا الصمت الرهيب لقدس

يغسل المرء بالعذاب الصاهرفا

لخطوب الجسام والألم المم

دود وحي مطهر للضمائر

فإذا كان طاهراً كعلي

شد لله قلبه بأواصر

يذكر الله بكرة وعشيا

ويصلي في كل ومضة خاطر

فالمناجاة والصلاة عطور

تتعالي إلي السماء مباخر

يا رمال الصحراء هذا علي

فاملئي الدرب والضفاف أزاهر

هو بعد النبي أشرف ظل

لاح في السبسب الخلي مهاجر

حملي أجنح الأثير نسيماً

من جفون الأسحار ريان عاطروا

بسطي حوله الزنابق فرشاً

وانشري فوقه الغمام مقاصر

علي والهجرة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلي الله علي سيد أنبياء الله محمد وآله سادات أولياء الله.

ومن كلام لإمامنا أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): (أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم مندحق البطن يأكل ما يجد ويطلب ما

لا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه، ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني.

فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرأوا مني فإني ولدت علي الفطرة وسبقت إلي الإيمان والهجرة).

هذه الجملات تجدونها في أكثر كتب الحديث وخصوصاً في كتاب نهج البلاغة في ضمن خطب الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام).

أخبر الإمام الناس باستيلاء معاوية علي رقاب المسلمين، وذكر صفة من رذائله وهي كثرة الأكل وعدم الشبع لأن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) دعا عليه بقوله: (لا أشبع الله بطنه).

ولسنا الآن في مقام التحدث عن معاوية ونفسياته وإنما نقتطف من هذه الجملات جملة واحدة، ونجعلها محور حديثنا الليلة، وهي قوله (عليه السلام): (سبقت إلي الإيمان والهجرة) أما السبق إلي الإسلام والإيمان فقد مضي الكلام عنه، وأما السبق إلي الهجرة، فليس المقصود من الهجرة الانتقال من بلد إلي آخر، ولا يعد هذا فضيلة، فما أكثر المهاجرين! ولعل المقصود من الهجرة هو ترك الوطن وكل ما فيه لله وفي الله، وقد قال تعالي: (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلي الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره علي الله) [25] وهذه الآية في شأن المجاهدين الذين يقتلون في سبيل الله والحجاج الذين يموتون في طريق الحج.

والله تعالي يفضل المهاجرين علي غيرهم لأنهم تركوا كل ما كانوا يملكون من المال والأهل والولد لأجل المحافظة علي دينهم والتخلص من المشركين الذين كانوا يحاربون المسلمين أشد محاربة.

وعلي (عليه السلام) سبق المسلمين إلي الهجرة، وقد اتفق المؤرخون وأجمعوا علي أن علياً هو أول من التحق بالرسول وهو في المدينة وذلك بعد أن رد الودائع والأمانات إلي أهلها وعزم علي الخروج من مكة إلي المدينة، وقد ذكر المؤرخون: أن أبابكر هاجر مع النبي من الغار إلي المدينة فيمكن

لنا أن نقول: أن خطاب علي (عليه السلام) كان موجهاً إلي الناس المخاطبين في ذلك اليوم وليس فيهم أبوبكر، وعلي سبق المسلمين إلي الهجرة، ويمكن أن نناقش في خروج أبي بكر مع النبي بأنه لم يقصد الهجرة أي ترك مكة وما فيها وإنما خرج مداراة ومجاراة وصحبة مع النبي وسايره حتي وصل إلي قباء خارج المدينة.

وعلي خرج من مكة بهذا القصد، وترك وراءه كل شي ء، فيصح أن يقال عنه: إنه أول المهاجرين علي الإطلاق، ويمكن أن يكون المقصود الهجرة إلي الدين كما قال تعالي عن لسان لوط: (إني مهاجر إلي ربي) [26] وأما كيفية هجرة علي (عليه السلام) من مكة إلي المدينة فقد رواها المحدثون بهذه الكيفية: كتب رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إلي علي بن أبي طالب (عليه السلام) كتاباً يأمره فيه بالمسير إليه، وقلة التلوم، وكان الرسول بعث إليه أباواقد الليثي، فلما أتاه كتاب رسول الله (صلّي الله عليه وآله) تهيأ للخروج والهجرة.

قال ابن شهر آشوب: واستخلفه الرسول (صلّي الله عليه وآله) لرد الودائع، لأنه كان أميناً، فلما أداها قام علي الكعبة فنادي بصوت رفيع: يا أيها الناس هل من صاحب أمانة؟ هل من صاحب وصية؟ هل من عدة له قبل رسول الله؟ فلما لم يأت أحد لحق بالنبي.

وقال ابن شهر آشوب أيضاً: أمره النبي أن يؤدي عنه كل دين وكل وديعة وأوصي إليه بقضاء ديونه، فأذن من كان معه من ضعفاء المؤمنين فأمرهم أن يتسللوا ويتخففوا إذا ملأ الليل بطن كل واد إلي ذوي طوي، وخرج علي (عليه السلام) بفاطمة (عليهاالسلام) بنت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت الزبير بن عبدالمطلب، وقد قيل: هي ضباعة، وتبعهم أيمن بن أم أيمن مولي رسول الله (صلّي الله عليه

وآله)، وأبوواقد رسول رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم، فقال علي (عليه السلام): ارفق بالنسوة أباواقد! إنهن من الضعائف، قال: إني أخاف أن يدركنا الطالب أو قال: الطلب فقال علي (عليه السلام): أربع عليك، فإن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قال لي: يا علي إنهم لن يصلوا من الآن إليك بأمر تكرهه، ثم جعل يعني علياً (عليه السلام) يسوق بهن سوقاً رفيقاً وهو يرتجز ويقول:

ليس إلي الله فارفع ظنكا

يكفيك رب الناس ما أهمكا

وسار، فلما شارف ضجنان أدركه الطلب سبع فوارس من قريش مستلئمين وثامنهم مولي الحارث بن أمية يدعي جناحا، فأقبل علي (عليه السلام) علي أيمن وأبي واقد وقد ترأي القوم فقال لهما: أنيخا الإبل وأعقلاها.

وتقدم حتي أنزل النسوة، ودنا القوم فاستقبلهم علي (عليه السلام) منتضياً سيفه، فأقبلوا عليه فقالوا: ظننت أنك يا غدار ناج بالنسوة، ارجع لا أبالك، قال: فإن لم أفعل؟ قالوا: لترجعن راغماً، أو لنرجعن بأكثرك شعراً، وأهون بك من هالك.

ودنا الفوارس من النسوة والمطايا ليثوروها، فحال علي (عليه السلام) بينهم وبينها، فأهوي له جناح بسيفه فراغ علي (عليه السلام) عن ضربته، وتختله علي (عليه السلام) فضربه علي عاتقه، فأسرع السيف مضياً فيه حتي مس كاثبة فرسه، فكان علي (عليه السلام) يشد علي قدمه شد الفرس، أو الفارس علي فرسه، فشد عليهم بسيفه وهو يقول:

خلوا سبيل الجاهد المجاهد

آليت لا أعبد غير الواحد

فتصدع القوم عنه، فقالوا له: اغن عنا نفسك يا ابن أبي طالب، قال: فإني منطلق إلي ابن عمي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) بيثرب، فمن سره أن أفري لحمه وأهريق دمه فليتبعني، أو فليدن مني، ثم أقبل علي صاحبيه أيمن وأبي واقد فقال لهما: أطلقا مطاياكما، ثم سار ظاهراً قاهراً حتي نزل ضجنان، فتلوم بها قدر يومه وليلته، ولحق

به نفر من المستضعفين من المؤمنين، وفيهم أم أيمن مولاة رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، فلبثوا هناك هو والفواطم: أمه فاطمة بنت أسد رضي الله عنها، وفاطمة (عليهاالسلام) بنت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وفاطمة بنت الزبير يصلون لله ليلتهم ويذكرونه قياماً وقعوداً وعلي جنوبهم، فلم يزالوا كذلك حتي طلع الفجر، فصلي علي (عليه السلام) بهم صلاة الفجر، ثم سار لوجهه، فجعل وهم يصنعون ذلك منزلاً بعد منزل يعبدون الله عزوجل ويرغبون إليه كذلك حتي قدموا المدينة، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلي جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً) [27] إلي قوله: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثي). [28].

ولما نزل الرسول (صلّي الله عليه وآله) بقباء خارج المدينة بقي ينتظر قدوم علي (عليه السلام)، فقال له أبوبكر: انهض بنا إلي المدينة فإن القوم قد فرحوا بقدومك، وهم يستريثون إقبالك إليهم فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظر علياً، فما أظنه يقدم إليك إلي شهر، فقال له رسول الله (صلّي الله عليه وآله): كلا، ما أسرعه.

ولست أريم حتي يقدم ابن عمي وأخي في الله عزوجل وأحب أهل بيتي إلي فقد وقاني بنفسه من المشركين فبقي النبي (صلّي الله عليه وآله) خمسة عشر يوماً فوافي علي بعياله وقد تفطرت قدماه فاعتنقه النبي وبكي رحمة لما بقدميه من الورم.

وتفل في يديه وأمرهما علي قدميه فلم يشتكهما بعد ذلك أبداً.

اقتران النورين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام علي رسول الله وعلي آله آل الله.

قال الله تعالي: (وأنكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم). [29].

النكاح

من سنن الله تعالي في عباده، والمقصود منه التناسل والتكاثر تحت ظل القانون الإلهي، وليس الهدف منه إشباع الغريزة الجنسية فقط بل هو في ضمنه وإنما هو كالحصن يحفظ الإنسان من فساد الخلاعة وويلات الفجور.

والهدف الأسمي من النكاح هو: تأسيس بيت عائلي لتكوين جيل يربط الوالدين بتقبل المسؤوليات التي يتطلبها الجيل من بدو إيجاده إلي أن يقطع أدوار الحياة، وأطوارها من جنين ووليد ورضيع وفطيم وصبي وغلام ومراهق وشاب ويافع، أو بنت وشابة وفتاة وامرأة.

فالنسل بحاجة ماسة في أدواره إلي الكفيل والمربي والمنفق والمؤدب والولي، إلي جانب حاجته إلي الرضاعة والحضانة والتربية والعناية والخدمة وتأمين لوازم الحياة من المأكل والملبس والمسكن والتعليم وما شابه ذلك.

ولا يندفع أحد إلي تحمل هذه المسؤوليات كما يندفع الوالدان، ولا أظن أني أحتاج في هذا البحث إلي إقامة الدليل والبرهان.

فهل تكون المرضعة كالأم؟، وهل الموظفات في دور الحضانة والروضات يسهرن الليالي للطفل المريض كما تسهر الأم الحنون؟؟ وقد قيل: ليست الثكلي كالمستأجرة، فهناك فرق كبير وبون شاسع بين من يندفع للعناية والرعاية بالأطفال بدافع الأبوة والعاطفة والمحبة التي لا يكدرها شي ء، وبين من يتحمل مسؤولية بدافع الراتب والوظيفة.

وإدراك أهمية هذا الموقف كثيراً ما يحول بين الوالدين وبين إجابة رغبات الأولاد وتحقيق هواياتهم التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فالارتباط بالعائلة يدفع الإنسان إلي التفكير حول تأمين حياته والخوض في معركة العمل المثمر والإنتاج المفيد، وفي الوقت نفسه يردعه عن كل مجازفة تهدد كيانه وحريته وتعرقل عليه المساعي كالإقدام علي جريمة القتل أو ارتكاب الجنايات التي تؤدي إلي شقاء الوالدين.

وإن هذه الأحزاب والمبادئ التي استولت علي الشباب واستنزفت منهم كل نشاط وطاقة لم تنجح إلا بعد أن تقهقرت سنة الزواج

بين المسلمين، وكثر عدد العزاب والبطالين الذين لا تربطهم بالحياة البيتية والعائلية أية رابطة أو مسؤولية، ولعل الحديث المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) يشير إلي هذا الموضوع حيث قال (عليه السلام): من تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق الله في النصف الآخر.

هذا والبحث طويل والكلام يحتاج إلي تفصيل، وقد ذكرنا هذه المقدمة لحديثنا العذب في هذه الليلة.

العراقيل والمشاكل التي سدت علي شبابنا طرق الزواج وجعلتهم يهابون النكاح ولا يهابون السفاح، ويفضلون الكبت والضغط (علي غرائزهم) أو يرجحون الفساد والمجون علي انتخاب زوجة تشاركهم حلو الحياة ومرها وأفراحها وأتراحها.

هذه العراقيل كانت موجودة في الجاهلية ولكن بصورة أخري.

كغلاء المهر والعصبيات القبلية وما شاكلها، فتكونت عندهم الأزمات بجميع أقسامها، واشتدت الحالة حتي أدت إلي دفن البنات وهن في قيد الحياة، قال تعالي: (وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت) [30] وقال عزوجل: (وإذا بشر أحدهم بالأنثي ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتواري من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه علي هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون). [31].

فكان من جملة الخطوات الإصلاحية التي قام بها الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله) هو القضاء علي هذه العادات الجهنمية والتقاليد الجاهلية، وإلي هذه الناحية أشار القرآن الكريم بقوله تعالي: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم). [32].

ولم يكتف الرسول الأقدس (صلّي الله عليه وآله) بمكافحة هذه السيئات ن طريق اللسان، فالكلام وحده لا يجدي، وإنما قام الرسول بفك هذه الأغلال عن طريق العمل.

فمن جملة ذلك: أنه زوج ابنته الطاهرة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليهاالسلام) بأبسط

ما يمكن، وتجسم التساهل في ذلك الزواج المبارك بخفة المؤونة وانتهاء الأمر بكل بساطة بعيداً عن التكاليف المجهدة المتعبة التي يفر من شبحها الشباب المغلول بسلاسل التقاليد ويفضل العزوبة علي الزواج المقرون بالمشاكل، وإليكم الواقعة:

لما أدركت فاطمة بنت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) مدرك النساء خطبها أكابر قريش من أهل الفضل والسابقة في الإسلام، والشرف والمال، وكان كلما ذكرها رجل من قريش لرسول الله (صلّي الله عليه وآله) أعرض عنه رسول الله بوجهه، حتي كان الرجل منهم يظن في نفسه أن رسول الله فيه وحي من السماء.

ولقد خطبها من رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أبوبكر، فقال له رسول الله: أمرها إلي ربها، وخطبها بعد أبي بكر عمر بن الخطاب، فقال له رسول الله (صلّي الله عليه وآله) كمقالته لأبي بكر.

فجاء أبوبكر وسعد بن معاد إلي علي (عليه السلام) وهو خارج المدينة يسقي نخلاً له، وسألاه عما يمنعه عن خطبة فاطمة (عليهاالسلام) فقال لهما علي: ما يمنعني إلا الحياء وقلة ذات اليد (المال) فقال له سعد: اذهب إلي رسول الله واخطب منه فاطمة، فإنه يزوجك، والله ما أري رسول الله يحبسها إلا عليك.

فقال علي: فأقول ماذا؟ فقال سعد: تقول: جئت خاطباً إلي الله ورسوله فاطمة بنت محمد.

فأقبل علي (عليه السلام) يقصد دار النبي، وهبط جبرائيل علي الرسول وأخبره بمجي ء علي، وكان رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في دار أم سلمة، فدق علي الباب، فقالت أم سلمة: من بالباب؟ فقال لها الرسول من قبل أن يقول علي: أنا: قومي يا أم سلمة فافتحي له الباب، ومريه بالدخول، فهذا رجل يحبه الله ورسوله ويحبهما.

فقالت أم سلمة: فداك أبي وأمي، ومن هذا الذي تذكر فيه هذا وأنت لم تره؟ فقال: مه يا أم سلمة، فهذا رجل ليس بالخرق ولا بالنزق [33] هذا أخي

وابن عمي وأحب الخلق إلي.

فقامت أم سلمة وفتحت الباب وإذا هو علي بن أبي طالب قالت أم سلمة: والله ما دخل حين فتحت الباب حتي علم أني رجعت إلي خدري، ثم دخل علي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.

فقال النبي: وعليك السلام اجلس.

فجلس علي، وجعل ينظر إلي الأرض، كأنه قصد لحاجة وهو يستحي أن يبديها، فهو مطرق إلي الأرض حياء من رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقال النبي: إني أري أنك أتيت لحاجة، فقل ما حاجتك؟ وأبد ما في نفسك فكل حاجة لك مقضية.

فقال علي (عليه السلام): فداك أبي وأمي، إنك لتعلم أنك أخذتني من عمك أبي طالب ومن فاطمة بنت أسد وأنا صبي، فغذيتني بغذائك وأدبتني بأدبك، فكنت إلي أفضل من أبي طالب ومن فاطمة بنت أسد في البر والشفقة، وأن الله تعالي هداني بك وعلي يديك وأنت (والله) يا رسول الله ذخري وذخيرتي في الدنيا والآخرة.

يا رسول الله: فقد أحببت مع ما شد الله من عضدي بك أن يكون لي بيت وأن يكون لي زوجة أسكن إليها، وقد أتيتك خاطباً راغباً، أخطب إليك ابنتك فاطمة! فهل أنت مزوجي يا رسول الله؟ فتهلل وجه رسول الله فرحاً وسروراً، ثم تبسم في وجه علي وقال: فهل معك شي ء أزوجك به؟ فقال علي: فداك أبي وأمي، والله ما يخفي عليك من أمري شي ء، أملك سيفي ودرعي وناضحي (البعير الذي يحمل عليه الماء) وما لي شي ء غير هذا.

فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): يا علي أما سيفك فلا غني بك عنه، تجاهد به في سبيل الله وتقاتل به أعداء الله.

وناضحك تنضح به علي نخلك وأهلك، وتحمل عليه رحلك في سفرك ولكني قد زوجتك بالدرع، ورضيت بها منك.

يا علي أبشرك؟.

فقال: نعم

فداك أبي وأمي، بشرني فإنك لم تزل ميمون النقيبة، مبارك الطائر، رشيد الأمر، صلي الله عليك.

فقال (صلّي الله عليه وآله): ابشر فإن الله قد زوجكها في السماء من قبل أن أزوجك في الأرض.. إلي آخر كلامه.

ثم قال: يا علي إنه قد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها فرأيت الكراهة في وجهها ولكن علي رسلك حتي أخرج إليك فدخل عليها فقامت فأخذت رداءه ونزعت نعليه وأتته بالوضوء فوضئته بيدها وغسلت رجليه ثم قعدت فقال لها: يا فاطمة فقالت: لبيك ما حاجتك يا رسول الله؟ قال: إن علي بن أبي طالب من قد عرفت قرابته وفضله وإسلامه وإني قد سألت ربي أن يزوجك خير خلقه وأحبهم إليه وقد ذكر عن أمرك شيئاً فما ترين؟ فسكتت ولم تول وجهها ولم ير فيها رسول الله (صلّي الله عليه وآله) كراهة، فقام وهو يقول: الله أكبر، سكوتها إقرارها، فمضي علي إلي المسجد، وجاء رسول الله في أثره، وفي المسجد المهاجرون والأنصار، فصعد رسول الله (صلّي الله عليه وآله) علي درجة من المنبر، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: معاشر المسلمين إن جبرائيل أتاني آنفاً فأخبرني عن ربي عزوجل أنه جمع الملائكة عند البيت المعمور وأنه أشهدهم جميعاً أنه زوج أمته فاطمة بنت رسول الله من عبده علي بن أبي طالب، وأمرني أن أزوجه في الأرض وأشهدكم علي ذلك، ثم جلس وقال لعلي: قم يا أباالحسن فاخطب أنت لنفسك: فقام وحمد الله وأثني عليه وصلي علي النبي (صلّي الله عليه وآله) وقال: الحمد لله شكراً لأنعمه وأياديه، ولا إله إلا الله شهادة تبلغه وترضيه، وصلي الله علي محمد صلاة تزلفه وتحظيه، والنكاح مما أمر الله عزوجل به ورضيه، ومجلسنا هذا مما قضاه الله وأذن فيه، وقد زوجني رسول الله

ابنته فاطمة، وجعل صداقها درعي هذا وقد رضيت بذلك فاسألوه واشهدوا.

فقال المسلمون لرسول الله (صلّي الله عليه وآله): زوجته يا رسول الله؟ فقال: نعم.فقالوا بارك الله لهما شملهما.

وانصرف رسول الله إلي أزواجه وأقبل فقال: يا علي انطلق الآن فبع درعك وائتني بثمنه حتي أهيئ لك ولابنتي فاطمة ما يصلحكما قال علي: فانطلقت فبعته بأربعمائة درهم سود هجرية وقيل بأربعمائة وثمانين أو خمسمائة من عثمان بن عفان فلما قبضت الدراهم أقبلت إلي رسول الله وطرحت الدراهم بين يديه، فدعا رسول الله (صلّي الله عليه وآله) بأبي بكر فدفعها إليه وقال: اشتر بهذه الدراهم لابنتي ما يصلح لها في بيتها، وبعث معه سلمان وبلالاً ليعيناه علي حمل ما يشتريه، قال أبوبكر: أحصيت الدراهم التي أعطانيها ثلاثة وستين درهماً فانطلقت واشتريت فراشاً من خيش مصر محشواً بالصوف، ونطعاً من أدم، ووسادة من أدم حشوها من ليف النخل، وعباءة خيبرية، وقربة للماء، وكيزاناً، وجراراً، ومطهرة للماء، وستر صوف، رقيقاً وحملناه جميعاً حتي وضعناه بين يدي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فلما نظر إليه بكي، وجرت دموعه ثم رفع رأسه إلي السماء وقال: اللهم بارك لقوم جل آنيتهم الخزف! قال علي: ودفع رسول الله باقي ثمن الدرع إلي أم سلمة فقال: اتركي هذه الدراهم عندك.

ومكثت بعد ذلك شهراً لا أعاود رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في أمر فاطمة بشي ء استحياء من رسول الله غير أني كنت إذا خلوت برسول الله يقول لي: يا أباالحسن ما زوجتك سيدة نساء العالمين.

قال علي: فلما كان بعد شهر دخل علي أخي عقيل بن أبي طالب فقال: يا أخي ما فرحت بشي ء كفرحي بتزويجك فاطمة بنت محمد (صلّي الله عليه وآله)، يا أخي فما بالك لا تسأل رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يدخلها عليك فتقر عيناً

باجتماع شملكما؟ قال علي: والله يا أخي إني لأحب ذلك وما يمنعني من مسألته إلا الحياء منه، فقال: أقسمت عليك إلا قمت معي.

فقمنا نريد رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فلقيتنا في طريقنا أم أيمن مولاة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فذكرنا ذلك لها فقالت لا تفعل ودعنا نحن نكلمه، فإن كلام النساء في هذا الأمر أحسن وأوقع بقلوب الرجال.

ثم انثنت راجعة فدخلت علي أم سلمة فأعلمتها بذلك وأعلمت نساء النبي فاجتمعن عند رسول الله وكان في بيته عائشة فأحدقن به وقلن: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله قد اجتمعنا لأمر لو أن خديجة في الأحياء لقرت بذلك عينها.

قالت أم سلمة: فلما ذكرنا خديجة بكي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ثم قال: خديجة! وأين مثل خديجة؟ صدقتني حين كذبني الناس وآزرتني علي دين الله وأعانتني عليه بمالها!! إن الله عزوجل أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب الزمرد، لا صخب فيه ولا نصب.

قالت أم سلمة فقلنا: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله إنك لم تذكر من خديجة أمراً إلا وقد كانت كذلك، غير أنها قد مضت إلي ربها فهنأها الله بذلك وجمع بيننا وبينها في درجات جنته ورضوانه ورحمته، يا رسول الله وهذا أخوك في الدنيا وابن عمك في النسب علي بن أبي طالب (عليه السلام) يحب أن تدخل عليه زوجته فاطمة تجمع بها شمله.

فقال: يا أم سلمة فما بال علي لا يسألني ذلك؟ فقلت: الحياء منك يا رسول الله.

قالت أم أيمن: فقال لي رسول الله (صلّي الله عليه وآله): انطلقي إلي علي فآتيني به، فخرجت من عند رسول الله، فإذا علي ينتظرني، ليسألني عن جواب رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، وحضر علي (عليه السلام) عند رسول الله (صلّي الله عليه وآله).

فقال له رسول الله (صلّي الله عليه وآله): هيئ منزلاً

حتي تحول فاطمة إليه، فقال علي (عليه السلام): يا رسول الله ما هاهنا منزل إلا منزل حارثة بن النعمان وكان لفاطمة (عليهاالسلام) يوم بني بها أميرالمؤمنين (عليه السلام) تسع سنين، فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): والله لقد استحينا من حارثة بن النعمان قد أخذنا عامة منازله.

فبلغ ذلك حارثة فجاء إلي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله أنا ومالي لله ولرسوله، والله ما شي ء أحب إلي مما تأخذه والذي تأخذه أحب إلي مما تتركه، فجزاه رسول الله (صلّي الله عليه وآله) خيراً، فحولت فاطمة إلي علي (عليه السلام) في منزل حارثة، وبسطوا في بيت علي كثيباً (الرمل)، ونصبوا عوداً يوضع عليه السقاء (القربة) وستروه بكساء ونصبوا خشبة من حائط إلي حائط للثياب وبسط جلد كبش ومخدة ليف.

فقال النبي (صلّي الله عليه وآله): يا علي اصنع لأهلك طعاماً فاضلاً، فجاء أصحابه بالهدايا، فأمر النبي فطحن البر (الحنطة) وخبز، وذبح الكبش واشتري علي تمرأ وسمناً، وأقبل رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وحسر عن ذراعيه، وجعل يشدخ التمر في السمن فقال النبي: يا علي ادع من أحببت.

قال علي: فأتيت المسجد وهو غاص بالناس، فناديت: أجيبوا إلي وليمة فاطمة بنت محمد، فأجابوا من النخلات والزروع، وأقبل الناس إرسالاً وهم أكثر من أربعة آلاف رجل، وساير نساء المدينة، ورفعوا منها ما أرادوا، ولم ينقص من الطعام شي ء، ثم دعا رسول الله (صلّي الله عليه وآله) بالصحاف (الأواني) فملئت، ووجه بها إلي منازل أزواجه ثم أخذ صحفة، وقال: هذه لفاطمة وبعلها.

(عن ابن بابويه): أمر النبي (صلّي الله عليه وآله) بنات عبدالمطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة سلام الله عليها وأن يفرحن ويرجزن ويكبرن ويحمدن ولا يقولن ما لا يرضي الله.

قال جابر: فأركبها علي

ناقته وفي رواية علي بغلته الشهباء وأخذ سلمان زمامها والنبي وحمزة وعقيل وجعفر وأهل البيت يمشون خلفها مشهرين سيوفهم ونساء النبي (صلّي الله عليه وآله) قدامها يرجزن، فأنشأت أم سلمة تقول:

سرن بعون الله جاراتي

واشكرنه في كل حالات

واذكرن ما أنعم رب العلا

من كشف مكروه وآفات

فقد هدانا بعد كفر وقد

أنعشنا رب السماوات

وسرن مع خير نساء الوري

تفدي بعمات وخالات

يا بنت من فضله ذو العلا

بالوحي منه والرسالات

وقالت عائشة:

يا نسوة استترن بالمعاجر

واذكرن ما يحسن في المحاضر

واذكرن رب الناس إذ يخصنا

بدينه مع كل عبد شاكر

والحمد لله علي أفضاله

والشكر لله العزيز القادر

سرن بها فالله أعطي ذكرها

وخصها منه بطهر طاهر

وقالت حفصة:

فاطمة خير نساء البشر

ومن لها وجه كوجه القمر

فضلك الله علي كل الوري

بفضل من خص بآي الزمر

زوجك الله فتي فاضلاً

أعني علياً خير من في الحضر

فسرن جاراتي بها فإنها

كريمة بنت عظيم الخطر

وقالت معاذة أم سعد بن معاذ:

أقول قولاً فيه ما فيه

وأذكر الخير وأبديه

محمد خير بني آدم

ما فيه من كبر ولا تيه

بفضله عرفنا رشدنا

فالله بالخير يجازيه

ونحن مع بنت نبي الهدي

ذي شرف قد مكنت فيه

في ذروة شامخة أصلها

فما أري شيئاً يدانيه

وكانت النسوة يرجعن أول بيت من كل رجز ثم يكبرن ودخلن الدار ثم أنفذ رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إلي علي (عليه السلام) ثم دعا فاطمة سلام الله عليها فأخذ يدها ووضعها في يده وقال: بارك الله في ابنة رسول الله.

يا علي: نعم الزوجة فاطمة ويا فاطمة نعم الزوج علي، ثم قال: يا علي هذه فاطمة وديعتي عندك، ثم قال النبي (صلّي الله عليه وآله): اللهم اجمع شملهما، وألف بين قلوبهما، واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم، وارزقهما ذرية طاهرة طيبة مباركة، واجعل في ذريتهما البركة واجعلهم أئمة يهدون بأمرك إلي طاعتك ويأمرون بما يرضيك، اللهم إنهما أحب خلقك إلي،

فأحبهما واجعل عليهما منك حافظاً وإني أعيذهما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم.

ثم خرج إلي الباب وهو يقول: طهركما وطهر نسلكما، أنا سلم لمن سالمكما، وحرب لمن حاربكما، أستودعكما الله، وأستخلفه عليكما.

وباتت أسماء عندهما في البيت، وأصبح الصباح، وجاء رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إلي زيارة العروسين، وقال: السلام عليكما، أأدخل؟ ففتحت أسماء الباب فدخل النبي، فسأل علياً (عليه السلام): كيف وجدت أهلك؟ قال: نعم العون علي طاعة الله، وسأل فاطمة فقالت: خير بعل، وجاء النبي بعس (قدح) فيه لبن فقال لفاطمة: اشربي فداك أبوك، وقال لعلي: اشرب فداك ابن عمك.

ثم قال (صلّي الله عليه وآله): يا علي آتيني بكوز من ماء، فجاء علي بكوز من ماء فتفل فيه ثلاثاً، وقرأ عليه آيات من كتاب الله تعالي ثم قال: يا علي اشربه، واترك فيه قليلاً ففعل علي ذلك.

فرش النبي (صلّي الله عليه وآله) باقي الماء علي رأسه وصدره، ثم قال: أذهب الله عنك الرجس يا علي وطهرك تطهيراً.

وأمره بالخروج من البيت وخلي بابنته فاطمة وقال: كيف أنت يا بنية؟ وكيف رأيت زوجك؟ قالت: يا أبه خير زوج إلا أنه دخل علي نساء من قريش وقلن لي: زوجك رسول الله من فقير لا مال له.

فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يا بنية ما أبوك بفقير، ولا بعلك بفقير.

ولقد عرضت علي خزائن الأرض من الذهب والفضة فاخترت ما عند ربي عزوجل، يا بنية لو تعلمين ما علم أبوك لسمحت الدنيا في عينيك، والله يا بنية ما ألوتك نصحاً، إني زوجتك أقدمهم سلماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً، يا بنية إن الله عزوجل اطلع إلي الأرض اطلاعة فاختار من أهلها رجلين فجعل أحدهما أباك والآخر بعلك.

يا بنية نعم الزوج زوجك لا تعصي

له أمراً. [34].

علي والجهاد

اشاره

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله علي ما أنعم وصلي الله علي سيد العرب والعجم محمد وآله أهل الجود والكرم.

قال الله تعالي: (إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) [35] الآية.

الإسلام هو الدين الوحيد الذي يحافظ علي الأمن والسلام، وهو الذي يحافظ علي النفوس والأموال والحقوق أكثر من أي دين آخر، وأبغض شي ء عند الإسلام هو إراقة دماء البشر وسلبهم نعمة الحياة بغير حق، ولكن الشرع والعقل والقانون يسمح بإراقة دم كل من يقف حجر عثرة في سبيل إسعاد أبناء البشر.

مثلاً: بلدة ليس فيها طبيب ولا دواء، وقد انتشرت فيهم الأمراض وأخذت منهم كل مأخذ، فجاء طبيب يداوي المرضي ويهب لهم الدواء مجاناً وبلا عوض، ويصلح كل ما فسد منهم ويعيد إليهم ما فقدوه من الصحة والعافية والسلامة ليعيشوا سعداء أصحاء.

وإذا بجماعة يحولون بين الطبيب وبين تداوي الناس ويحاربونه بكل ما لديهم من قوة ليحطوا من نشاط الطبيب، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وكلما صاح فيهم الطبيب وصرخ وذكر لهم الهدف الذي يبتغيه لأجلهم وهو الخير ازدادوا عناداً، وجعلوا يهددون المرضي الذين قد تحسنت صحتهم ولمسوا العافية من نصائح الطبيب بالوعيد، وكأن هؤلاء لا يعجبهم أن يروا السلامة والصحة تخيمان علي رؤوس المرضي.

أليس العقل يحكم علي هؤلاء المهرجين بالإعدام؟ أليس هؤلاء أضر علي البشر من الحيوانات المفترسة؟ أليس هؤلاء أشد خطراً من الأمراض الفتاكة التي تهدد البشر بالفناء؟ فالمريض هو المجتمع الجاهلي الفاسد، والطبيب هو الرسول، والمهرجون هم المناوئون للرسول، علي هذا أمر الإسلام بجهاد المشركين والكفار الذين حاربوا رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يوم كان في مكة وهجموا عليه ليقتلوه وكفاه الله شرهم،

واضطر النبي أن يترك مسقط رأسه ويهاجر من وطنه كي يستطيع الاستمرار في الدعوة إلي مبدئه وإذا بالأعداء يطاردونه، وتتحزب الأحزاب ضده، ويستعين بعضهم ببعض للقضاء علي الرسول ومبدئه وعلي كل من اعتنق ذلك الدين الذي اعتبروه ديناً جديداً.

ولابد للرسول الأعظم أن يقف أمام هؤلاء للدفاع عن نفسه ومبدئه فهو بحاجة ماسة إلي الأنصار والأعوان ليقاوم بهم الأعداء الألداء، وهم الأنصار أصحابه الذين أسلموا علي يديه وهاجروا من مكة، وفيهم الشيوخ والكهول والشبان والمراهقون، وقد امتلأوا حباً للإسلام وتسلحوا بسلاح الإيمان الذي هو أقوي سلاح.

ولكن غريزة حب الحياة ما فارقتهم في بدء الأمر، فمن الصعب المستصعب عليهم أن يخوضوا غمار الموت، ويستقبلوا السيوف والرماح وخاصة وهم الأقلون عدداً وعدة، وعدوهم هو الأكثر عدداً وعدة.

وقعت الحرب الأولي للمسلمين في منطقة بين المدينة ومكة يقال لها: (بدر) فقد خرج الرسول بجيشه إلي ذلك الموضع واستقبل المشركين الذين قصدوه من مكة، وفي بدر التقي العسكران وكان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وعدد المشركين بين التسعمائة والألف وقد اجتمع مشركو مكة وكفارها، وفيهم أقطاب الشرك كأبي جهل وأبي سفيان، وهم يزعمون أن الغلبة لهم والنصر والظفر من نصيبهم، ولكن الله أراد شيئاً آخر، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله.

وكان علي (عليه السلام) له الحظ الأوفر والنصيب الأكثر من الشجاعة ومقاتلة الأبطال ومنازلة الشجعان، ولا أقصد من كلمتي هذه أن علياً كان سفاكاً للدماء، بل المقصود: أن إيمان علي (عليه السلام) بالله كان فوق كل غريزة وكل اتجاه، مع العلم أنه كان يومذاك في ريعان الشباب، والشاب أكثر تعلقاً بالحياة من الشيخ الذي قضي وطره في حياة الدنيا، مع ذلك لم يكن علي (عليه السلام) يعرف للخوف معني، ولا للجبن مفهوماً

في نفسه، بل كان يستقبل الموت برحابة صدر ويهرول في الحرب جانب العدو كأنه يقصد شيئاً يحبه حتي أجمع المسلمون وغير المسلمين أن علياً أشجع العرب والعجم، ولم يشهد التاريخ له مثيلاً ونظيراً فضلاً من أن يري أشجع منه.

وهذه نبذة من غزوات الرسول (صلّي الله عليه وآله) التي حضرها الإمام.

وكان نصيبه من الجهد والعناء أكثر من غيره، ولم يسلم علي من سهام العدو وسيوفهم، بل كانت الجراحات تأخذ من مقاديم بدنه كل مأخذ، ولولا حفظ الله وعنايته لكان علي من المقتولين في تلك الحروب.

قال ابن أبي الحديد: وأما الجهاد في سبيل الله فمعلوم عند صديقه وعدوه أنه سيد المجاهدين وهل الجهاد لأحد من الناس إلا له؟ وقد عرفت أن أعظم غزوة غزاها رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وأشدها نكاية في المشركين: بدر الكبري التي قتل فيها سبعون من المشركين، قتل علي نصفهم، وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر، وإذا رجعت إلي مغازي محمد بن عمر الواقدي وتاريخ الأشراف ليحيي بن جابر البلاذري وغيرهما علمت صحة ذلك دع من قتله في غيرها كأحد والخندق وغيرهما …

فلنبدأ بذكر الغزوات حسب التاريخ مع رعاية الإجمال والاختصار ونذكر مواقف علي (عليه السلام) فيها:

علي يوم بدر

في البحار: ج 6 قال الإمام الباقر (عليه السلام): انتدب رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ليلة بدر إلي الماء، فانتدب علي (عليه السلام)، فخرج، وكانت ليلة باردة ذات ريح وظلمة فخرج بقربته، فلما كان إلي القليب (البئر) لم يجد دلواً، فنزل في الجب تلك الساعة، فملأ قربته، ثم أقبل فاستقبلته ريح شديدة فجلس حتي مضت، ثم قام، ثم مرت به ريح أخري فجلس حتي مضت، ثم قام، ثم مرت به أخري فجلس حتي مضت، فلما جاء إلي النبي قال له النبي

(صلّي الله عليه وآله): ما حبسك يا علي؟ قال: لقيت ريحاً ثم ريحاً ثم ريحاً شديدة فأصابتني قشعريرة.

فقال: أتدري ما كان ذلك يا علي؟ فقال: لا.

فقال: ذاك جبريل مر في ألف من الملائكة وقد سلم عليك وسلموا، ثم مر ميكائيل في ألف من الملائكة فسلم عليك وسلموا، ثم مر إسرافيا وألف من الملائكة فسلم عليك وسلموا.

وفي هذه الليلة اختص أميرالمؤمنين (عليه السلام) بثلاثة آلاف فضيلة وثلاث فضائل، لتسليم ثلاثة آلاف وثلاثة من الملائكة عليه، وفيها يقول الحميري:

أقسم بالله وآلائه

والمرء عما قال مسؤول

إن علي بن أبي طالب

علي التقي والبر مجبول

كان إذا الحرب مرتها القنا

وأحجمت عنها البهاليل

يمشي إلي القرن وفي كفه

أبيض ماضي الحد مصقول

مشي العفرنا بين أشباله

أبرزه للقنص الغيل

ذاك الذي سلم في ليلة

عليه ميكال وجبريل

ميكال في ألف وجبريل في

ألف ويتلوهم اسرافيل

ليلة بدر مدداً أنزلوا

كأنهم طير أبابيل

ولما أصبح الصباح استعد الفريقان للحرب، وتقدم عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد، وقالوا: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش، فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار وانتسبوا لهم فقالوا: ارجعوا إنما نريد الأكفاء من قريش، فنظر رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إلي عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب وكان له يومئذ سبعون سنة فقال: قم يا عبيدة، فقام بين يديه بالسيف ونظر إلي حمزة فقال: قم يا عم، ثم نظر إلي علي فقال: قم يا علي (وكان أصغر القوم) فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها، تريد أن تطفئ نور الله، ويأبي الله إلا أن يتم نوره فقاموا بين يدي رسول الله رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ثم قال: يا عبيدة عليك بعتبة بن ربيعة وقال لحمزة: عليك بشيبة.

وقال لعلي (عليه السلام): عليك بالوليد، فمروا حتي انتهوا إلي القوم فقالوا: أكفاء كرام فحمل

عبيدة علي عتبة فضربه علي رأسه ضربة فلقت هامته، وضرب عتبة عبيدة علي ساقه فأطنها (قطعها) فسقطا جميعاً وحمل شيبة علي حمزة فتضاربا بالسيفين حتي انثلما، وحمل أميرالمؤمنين (عليه السلام) علي الوليد فضربه علي حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه، قال علي (عليه السلام) لقد أخذ الوليد يمينه بشماله فضرب بها هامتي فظننت أن السماء وقعت علي الأرض ثم اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون: يا علي أما تري الكلب (بهر) نهز عمك؟ فحمل عليه علي (عليه السلام) فقال: يا عم طأطئ رأسك، وكان حمزة أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره فضرب علي (عليه السلام) شيبة فطرح نصفه، ثم جاء إلي عتبة وبه رمق فأجهز عليه.

وفي رواية أخري: أنه برز حمزة لعتبة، وبرز عبيدة لشيبة وبرز علي للوليد فقتل حمزة عتبة، وقتل عبيدة شيبة، وقتل علي الوليد، وضرب شيبة رجل عبيدة فقطعها فاستنقذه حمزة وعلي، وحمل حمزة وعلي عبيدة حتي أتيا به رسول الله رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فاستعبر فقال: يا رسول الله ألست شهيداً؟ قال: بلي أنت أول شهيد من أهل بيتي.

فقال: أما لو كان عمك حياً لعلم أني أولي بما قال منه، قال: وأي أعمامي تعني؟ فقال: أبوطالب حيث يقول:

كذبتم وبيت الله يبزي محمد

ولما نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه حتي نصرع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال رسول الله رسول الله (صلّي الله عليه وآله): أما تري ابنه كالليث العادي بين يدي الله ورسوله وابنه الآخر في جهاد الله بأرض الحبشة، فقال: يا رسول الله أسخطت علي في هذه الحالة؟ فقال: ما سخطت عليك، ولكن ذكرت عمي فانقبضت لذلك.

كان القتلي من المشركين في يوم بدر سبعين، قتل منهم علي بن أبي طالب سبعة وعشرين، وكان الأسري سبعين!! صورة أخري للواقعة: فصاح بهم عتبة: اتسبوا نعرفكم،

فإن تكونوا أكفاء نقاتلكم.

فقال عبيدة: أنا عبيدة وهو يومئذ أكبر المسلمين، فقال: هو كفو كريم، ثم قال لحمزة: من أنت؟ قال: حمزة بن عبدالمطلب، أنا أسد الله وأسد رسوله، أنا صاحب الحلفاء، فقال له عتبة: ستري صولتك اليوم يا أسد الله وأسد رسوله قد لقيت أسد المطيبين!! فقال لعلي: من أنت؟ فقال: أنا عبدالله وأخو رسوله، أنا علي بن أبي طالب.

فقال: يا وليد دونك الغلام، فأقبل الوليد يشتد إلي علي، قد تنور وتخلق.

وعليه خاتم من ذهب، بيده السيف قال علي: قد طال علي في طول نحو من ذراع، فختلته حتي ضربت يده التي فيها السيف، فبدرت يده وبدر السيف حتي نظرت إلي بصيص (بريق) الذهب في البطحاء، وصاح صيحة أسمع أهل العسكرين فذهب مولياً نحو أبيه وشد عليه علي (عليه السلام)، فضرب فخذه فسقط، وقام علي (عليه السلام) وقال:

أنا ابن ذي الحوضين عبدالمطلب

وهاشم المطعم في العام السغب

أوفي بميثاقي وأحمي عن حسب ثم ضربه فقطع فخذه.

ففي ذلك تقول هند بنت عتبة:

أبي وعمي وشقيق بكري

أخي الذي كانوا كضوء البدر

بهم كسرت يا علي ظهري

علي يوم أحد

أحد: اسم منطقة بالقرب من المدينة في سفح الجبل، وفيها وقعت واقعة أحد، والتقي المسلمون بالمشركين، واشتعلت نار الحرب وقامت علي ساق، نقتطف من الواقعة موقف علي (عليه السلام) فيها، وما أصابه من العناء.

وقد كانت راية قريش مع طلحة بن أبي العبدري من بني عبدالدار، فبرز ونادي: يا محمد أو يا معاشر أصحاب محمد تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلي النار ونجهزكم بأسيافنا إلي الجنة، فمن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إلي، فبرز إليه أميرالمؤمنين (عليه السلام) وهو يقول:

يا طلح إن كنتم كما تقول

لكم خيول ولنا نصول

فاثبت لننظر أينا المقتول

وأينا أولي بما تقول

فقد أتاك الأسد الصؤل

بصارم ليس به فلول

ينصره القاهر والرسول

فقال طلحة:

من أنت يا غلام؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، قال: قد علمت يا قضم، إنه لا يجسر علي أحد غيرك، فشد عليه طلحة فضربه، فاتقاه أميرالمؤمنين (عليه السلام) بالحجفة، ثم ضربه أميرالمؤمنين علي فخذيه فقطعهما جميعاً فسقط علي ظهره، وسقطت الراية، فذهب علي (عليه السلام) ليجهز عليه فحلفه بالرحم فانصرف عنه، فقال المسلمون: ألا أجهزت عليه؟ قال: قد ضربته ضربة لا يعيش منها أبداً، ثم أخذ الراية سعيد بن أبي طلحة، فقتله علي (عليه السلام)، وسقطت رايته إلي الأرض فأخذها عثمان بن طلحة، فقتله علي (عليه السلام) وسقطت رايته إلي الأرض فأخذها الحارث بن أبي طلحة، فقتله علي (عليه السلام) وسقطت رايته إلي الأرض فأخذها عزيز بن عثمان فقتله علي (عليه السلام) وسقطت رايته إلي الأرض فأخذها عبدالله بن جميلة بن زهير فقتله علي (عليه السلام) وسقطت رايته إلي الأرض، فقتل أميرالمؤمنين التاسع من بني الدار وهو أرطأة بن شرحبيل مبارزة، وسقطت الراية إلي الأرض فأخذها مولاهم صوأب فضربه أميرالمؤمنين (عليه السلام) علي يمينه فقطعها، وسقطت الراية إلي الأرض فأخذها بشماله، فضربه أميرالمؤمنين (عليه السلام) علي شماله فقطعها فسقطت الراية إلي الأرض فاحتضنها بيديه المقطوعتين، ثم قال: يا بني عبدالدار هل أعذرت فيما بيني وبينكم؟ فضربه أميرالمؤمنين (عليه السلام) علي رأسه فقتله وسقطت الراية إلي الأرض، فأخذتها عمرة بنت علقمة الحارثية فنصبتها.

وانهزم المشركون وتبعهم المسلمون وشرعوا بجمع الغنائم، ولما رأي المشركون ذلك ووجدوا المسلمين مشغولين بالنهب رجعوا من طريق آخر، وجعلوا المسلمين في الوسط، وحملوا عليهم حملة رجل واحد، بقيادة خالد بن الوليد، وقتلوا من المسلمين مقتلة عظيمة، وانقسم الناس آنذاك إلي قسمين: المنهزمين وهم الأكثر عدداً، والثابتين وهم ما بين قتيل وجريح، وكان علي (عليه السلام) أكثرهم جراحاً، فقد أصيب في ذلك اليوم بتسعين جراحة يصعب علاجها

وتداويها. [36].

في البحار: وقال شقيق بن سلمة: كنت أماشي عمر بن الخطاب إذ سمعت منه همهمة، فقلت له: مه يا عمر؟ فقال: ويحك!! أما تري الهزبر القثم بن القثم، والضارب بالبهم، الشديد علي من طغي وبغي، بالسيفين والراية!!! فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب.

فقال: ادن مني أحدثك عن شجاعته وبطولته، بايعنا النبي (صلّي الله عليه وآله) يوم أحد علي أن لا نفر، ومن فر منا فهو ضال، ومن قتل منا فهو شهيد، والنبي (صلّي الله عليه وآله) زعيمه، إذ حمل علينا مائة صنديد، تحت كل صنديد مائة رجل أو يزيدون، فأزعجونا عن طاحونتنا، فرأيت علياً (عليه السلام) كالليث يتقي الذر إذ قد حمل كفاً من حصي فرمي به وجوهنا، ثم قال: (شاهت الوجوه، وقطت وبطت ولطت، إلي أين تفرون؟ إلي النار؟) فلم نرجع، ثم كر علينا الثانية وبيده صفيحة يقطر منها الموت!!! فقال: بايعتم ثم نكثتم؟ فو الله لأنتم أولي بالقتل ممن أقتل، فنظرت إلي عينيه كأنهما سليطان يتوقدان ناراً، أو كالقدحين المملوءين دماً، فما ظننت إلا ويأتي علينا كلنا فبادرت أنا إليه من بين أصحابي فقلت: يا أباالحسن، الله الله!! فإن العرب تفر وتكر، وإن الكرة تنفي الفرة.

فكأنه استحيا، فوليا بوجهه عني، فما زلت أسكن روعة فؤادي فو الله ما خرج ذلك الرعب من قلبي حتي الساعة …

ولم يبق مع رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إلا أبودجانة سماك بن خرشة وأميرالمؤمنين (عليه السلام) وكلما حملت طائفة علي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) استقبلهم أميرالمؤمينن (صلوات الله عليه) فيدفعهم عن رسول الله، ويقتلهم حتي انقطع سيفه.

عن عكرمة قال: سمعت علياً (عليه السلام) يقول: لما انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لحقني من الجزع عليه ما

لم يلحقني قط، ولم أملك نفسي وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه، فرجعت أطلبه فلم أره فقلت: ما كان رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ليفر، وما رأيته في القتلي، وأظنه رفع من بيننا إلي السماء، فكسرت جفن سيفي، وقلت في نفسي: لأقاتلن به عنه حتي أقتل، وحملت علي القوم فأفرجوا عني وإذا أنا برسول الله (صلّي الله عليه وآله) قد وقع علي الأرض مغشياً عليه فقمت علي رأسه، فنظر إلي فقال: ما صنع الناس يا علي: فقلت: كفروا يا رسول الله، وولوا الدبر من العدو، وأسلموك، فنظر النبي (صلّي الله عليه وآله) إلي كتيبة قد أقبلت إليه فقال لي: رد عني يا علي هذه الكتيبة، فحملت عليها أضربها بسيفي يميناً وشمالاً حتي ولوا الأدبار، فقال النبي (صلّي الله عليه وآله): أما تسمع يا علي مديحك في السماء؟ إن ملكاً يقال له رضوان ينادي: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتي إلا علي.

فبكيت سروراً وحمدت الله سبحانه علي نعمته.

وفي رواية قال الصادق (عليه السلام): انهزم الناس عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فغضب غضباً شديداً وكان إذا غضب انحدر من وجهه وجبهته مثل اللؤلؤ من العرق، فنظر فإذا علي (عليه السلام) إلي جنبه، فقال: ما لك لم تلحق ببني أبيك؟ فقال علي (عليه السلام): يا رسول الله أكفر بعد إيماني؟ إن لي بك أسوة، فقال: أما الآن فاكفني هؤلاء، فحمل علي (عليه السلام) فضرب أول من لقي منهم، فقال جبرائيل (عليه السلام): إن هذه لهي المواساة يا محمد، قال: (إنه مني وأنا منه) قال جبرائيل: وأنا منكما.

وأقبل علي (عليه السلام) إلي المدينة وهو ثقيل بالجراحات، وبات علي الفراش، ولما أصبح النبي (صلّي الله عليه وآله) جاء إلي دار علي يعوده، فبكي علي (عليه السلام) وقال: يا

رسول الله أرأيت كيف فاتتني الشهادة؟ فقال الرسول: إنها من ورائك يا علي. [37].

علي يوم بني النضير

يوم توجه رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إلي بني النضير عمد يحمل علي حصارهم، فضرب قبته في أقصي بني حطمة من البطحاء، فلما جن الليل رماه رجل من بني النضير بسهم، فأصاب القبة، فأمر النبي (صلّي الله عليه وآله) أن تحول قبته إلي السفح، وأحاط بها المهاجرون والأنصار فلما اختلط الظلام فقدوا أميرالمؤمنين (عليه السلام)، فقال الناس: يا رسول الله ما نري علياً؟!، فقال (صلّي الله عليه وآله): أراه في بعض ما يصلح شأنكم.

فلم يلبث أن جاء برأس اليهودي الذي رمي النبي (صلّي الله عليه وآله)، وكان يقال له: عزوراً، فطرحه بين يدي النبي (صلّي الله عليه وآله)، فقال النبي: كيف صنعت؟ فقال: إني رأيت هذا الخبيث جريئاً شجاعاً، فكمنت له، وقلت: ما أجرأ أن يخرج إذا اختلط الظلام يطلب منا غرة، فأقبل مصلتاً بسيفه في تسعة نفر من اليهود، فشددت عليه وقتلته، فأفلت أصحابه، ولم يبرحوا قريباً، فابعث معي نفراً فإني أرجو أن أظفر بهم.

فبعث رسول الله (صلّي الله عليه وآله) معه عشرة، فأدركوهم قبل أن يدركوا الحصن، فقتلوهم وجاءوا برؤوسهم إلي النبي وأمر أن تطرح في بعض آبار بني حطمة.

وكان ذلك سبب فتح حصون بني النضير.

علي يوم الخندق

تحزبت الأحزاب ضد رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في مكة وضواحيها وقصدت المدينة لمحاربة رسول الله، ونزل جبرائيل علي النبي وأخبره فاستشار النبي أصحابه، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق حول المدينة، فأقبل رسول الله ومعه المهاجرون والأنصار، وحفروا الخندق، في جانب من المدينة يشبه نصف الدائرة، فلما فرغوا من حفر الخندق، وصل المشركون، ونزلوا بالقرب من الخندق.

وخرج فوارس من قريش منهم: عمرو بن عبدود أخو بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبدالله قد

تلبسوا للقتال، وخرجوا علي خيولهم حتي مروا بمنازل بني كنانة فقالوا: تهيئوا للحرب يا بني كنانة، فستعلمون اليوم من الفرسان؟ ثم أقبلوا تعنق بهم خيولهم حتي وقفوا علي الخندق فقالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، وتعرفها قبل ذلك فقيل لهم: هذا من تدبير الفارسي الذي معه (سلمان) ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فضربوا خيولهم، فاقتحموا فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتي أخذ منهم الثغرة التي منها اقتحموا، وأقبلت الفرسان نحوهم، وكان بينهم عمرو بن عبدود فارس قريش وكان قد قاتل يوم بدر حتي ارتث (حمل من المعركة) وأثقلته الجراح فلم يشهد أحداً، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليري مشهده، وكان يعد بألف فارس وكان يسمي: فارس يليل لأنه: أقبل في ركب من قريش حتي إذا هو بيليل وهو واد قريب من بدر عرضت لهم بنو بكر في عدد فقال لأصحابه: امضوا، فمضوا، فقام في وجوه بني بكر حتي منعهم من أن يصلوا إليه، فعرف بذلك، وكان اسم الموضع الذي حفر فيه الخندق: المداد، وكان أول من طفره عمرو وأصابه، فقيل في ذلك:

عمرو بن ود كان أول فارس

جزع المداد وكان فارس يليل

وركز عمرو بن عبدود رمحه في الأرض وأقبل يجول حوله، ويرتجز.

وذكر ابن إسحاق أن عمرو بن عبدود كان ينادي من يبارز؟ فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): من لهذا الكلب؟ فلم يجبه أحد فقام علي (عليه السلام) وهو مقنع في الحديد، فقال: أنا له يا نبي الله، فقال إنه عمرو، اجلس، ونادي عمرو: ألا رجل؟ وجعل يؤنبهم ويسبهم، ويقول أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها؟ فقام علي (عليه السلام) فقال:

أنا له يا رسول الله، فأمره النبي بالجلوس رعاية لابنته فاطمة التي كانت تبكي علي جراحات علي (عليه السلام) يوم أحد، ثم نادي الثالثة فقال:

ولقد بححت من النداء

بجمعكم هل من مبارز؟

ووقفت إذ جبن المشجع

موقف البطل المناجز

إني كذلك لم أزل

متسرعاً نحو الهزائز

إن السماحة والشجا

عة في الفتي خير الغرائز

فقام علي (عليه السلام) فقال: يا رسول الله أنا.

فقال: إنه عمرو، فقال: وإن كان عمراً وأنا علي بن أبي طالب!! فاستأذن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فأذن له، وألبسه درعه ذات الفضول، وأعطاه سيفه ذا الفقار، وعممه عمامة السحاب علي رأسه تسعة أكوار (أدوار) ثم قال له: تقدم.

فقال لما ولي: (اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه).

ثم قال: برز الإيمان كله إلي الشرك كله.

فمشي إليه وهو يقول:

لا تعجلن فقد أتا

ك مجيب صوتك غير عاجز

ذو نية وبصيرة

والصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن أقيم

عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقي

ذكرها عند الهزاهز

وما زال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) آنذاك رافعاً يديه مقحماً رأسه إلي السماء داعياً به قائلاً: اللهم إنك أخذت مني عبيدة يوم بدر وحمزة يوم أحد، فاحفظ علي اليوم علياً، رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين.

فقال عمرو: من أنت؟ وكان عمرو شيخاً كبيراً قد جاوز الثمانين، وكان نديم أبي طالب بن عبدالمطلب في الجاهلية، فانتسب علي له.

فقال عمرو: أجل، لقد كان أبوك نديماً لي وصديقاً، فارجع فإني لا أحب قتلك! فقال علي (عليه السلام): لكني أحب أن أقتلك! فقال عمرو: يا ابن أخي إني لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، فارجع وراءك خير لك، ما آمن ابن عمك حين بعثك إلي أن أختطفك برمحي هذا فأتركك شايلاً بين السماء والأرض لا حي ولا ميت!! فقال له

علي (عليه السلام): قد علم ابن عمي أنك إن قتلتني دخلت الجنة وأنت في النار، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنة.

فقال عمرو: كلتاهما لك يا علي؟ تلك إذاً قسمة ضيزي!! فقال علي (عليه السلام): إن قريشاً تتحدث عنك أنك قلت: لا يدعوني أحد إلي ثلاث إلا أجيب، ولو إلي واحدة منها؟ قال: أجل.

قال: فإني أدعوك إلي الإسلام، وفي رواية: أدعوك إلي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

قال: دع هذه!! أو نح هذا.

قال: فإني أدعوك إلي أن ترجع بمن يتبعك من قريش إلي مكة، فإن يك محمد صادقاً فأنتم أعلي به عيناً، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره.

قال: إذن تتحدث نساء قريش عني: أن غلاماً خدعني وينشد الشعراء في أشعارها أني جبنت، ورجعت علي عقبي من الحرب، وخذلت قوماً رأسوني عليهم.

قال: فإني أدعوك إلي البراز راجلاً، فجمي عمرو وقال: ما كنت أظن أحداً من العرب يرومها مني.

ثم نزل فعقر فرسه وقيل ضرب وجه فرسه ففر ثم قصد نحو علي (عليه السلام) وضربه بالسيف علي رأسه، فأصاب السيف الدرقة فقطعها، ووصل السيف إلي رأس علي (عليه السلام).

فضربه علي (عليه السلام) علي عاتقه فسقط، وفي رواية: فضربه علي رجليه بالسيف فوقع علي قفاه، وثار العجاج والغبار، وأقبل علي ليقطع رأسه فجلس علي صدره، فتفل اللعين في وجه الإمام (عليه السلام) فغضب (عليه السلام)، وقام عن صدره يتمشي حتي سكن غضبه، ثم عاد إليه فقتله.

وقال ربيعة بن مالك السعدي: أتيت حذيفة بن اليمان، فقلت: يا أباعبدالله: إن الناس يتحدثون عن علي بن أبي طالب ومناقبه، فيقول لهم أهل البصيرة: إنكم لتفرطون في تفريط (تقريظ) هذا الرجل.

فهل أنت محدثي بحديث عنه أذكره للناس؟ فقال: يا ربيعة وما الذي تسألني عن علي؟ وما

الذي أحدثك به عنه؟ والذي نفس حذيفة بيده: لو وضع جميع أعمال أمة محمد في كفة الميزان منذ بعث الله تعالي محمداً إلي يوم الناس هذا، ووضع عمل واحد من أعمال علي في كفة أخري لرجح علي أعمالهم كلها، فقال ربيعة: هذا المدح الذي لا يقام له ولا يقعد ولا يحمل، إني لأظنه إسرافاً يا أباعبدالله!!! فقال حذيفة: يا لكع! وكيف لا يحمل؟ وأين كان المسلمون يوم الخندق وقد عبر إليهم عمرو وأصحابه؟ فملكهم الهلع والجزع، ودعا إلي المبارزة فأحجموا عنه حتي برز إليه علي فقتله؟

والذي نفس حذيفة بيده: لعمله ذلك اليوم أعظم أجراً من أعمال أمة محمد إلي هذا اليوم وإلي أن تقوم القيامة.

وجاء علي برأس عمرو إلي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فتهلل وجه رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقام أبوبكر وعمر بن الخطاب وقبلا رأسه، وكان علي (عليه السلام) يقول:

أنا علي وابن عبدالمطلب

الموت خير للفتي من الهرب

فقال عمر: هلا سلبته درعه، فإنه ليس في العرب درع مثلها؟ فقال علي (عليه السلام): إني استحييت أن أكشف سوأة ابن عمي.

وفي رواية: لما جلس علي (عليه السلام) علي صدر عمرو ليذبحه قال له عمرو: يا علي قد جلست مني مجلساً عظيماً، فإذا قتلتني فلا تسلبني حلتي، فقال (عليه السلام): هي أهون علي من ذلك.

ولما قتل علي (عليه السلام) عمراً انهزم المشركون وانكسرت شوكتهم، وكفي الله المؤمنين القتال بعلي (عليه السلام).

قال حسان بن ثابت في قتل عمرو بن عبدود:

أمسي الفتي عمرو بن عبدود يبتغي

بجنوب يثرب غارة لم تنظر

فلقد وجدت سيوفنا مشهورة

ولقد وجدت جيادنا لم تقصر

ولقد رأيت غداة بدر عصبة

ضربوك ضرباً غير ضرب المحضر

أصبحت لا تدعي ليوم كريهة

يا عمرو أو لجسيم أمر منكر

فأجابه بعض بني عامر:

كذبتم وبيت الله لم تقتلوننا

ولكن بسيف الهاشميين فافخروا

بسيف

ابن عبدالله أحمد في الوغا

بكف علي نلتم ذاك فاقصروا

ولم تقتلوا عمرو بن عبدود ولا ابنه

ولكنه الكفو الهزبر الغضنفر

علي الذي في الفخر طال ثناؤه

فلا تكثروا الدعوي عليه فتفجروا

ببدر خرجتم للبراز فردكم

شيوخ قريش جهرة وتأخروا

فلما أتاهم حمزة وعبيدة

وجاء علي بالمهند يخطر

فقالوا: نعم أكفاء صدق فاقبلوا

إليهم سراعاً إذ بغوا وتجبروا

فجال علي جولة هاشمية

فدمرهم لما عتوا وتكبروا

فليس لكم فخر علينا بغيرنا

وليس لكم فخر يعد ويذكر

وكان (عليه السلام) يقول مشيراً إلي هذه الفضيلة:

أعليّ تفتخر الفوارس هكذا؟

عني وعنهم خبروا أصحابي

اليوم يمنعني الفرارَ حفيظتي

ومصمم بالرأس ليس بنابي

أرديت عمراً إذ طغي بمهند

صافي الحديد مجرب قضاب

نصر الحجارة عن سفاهة رأيه

ونصرت رب محمد بصواب

فصدرت حين تركته متجدلاً

كالجذع بين دكادك وروابي

وعففت عن أثوابه ولو أنني

كنت المقطّر بزّني أثوابي

لا تحسبن الله خاذل دينه

ونبيه يا معشر الأحزاب

وقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين.

وفي رواية الحاكم في المستدرك: لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبدود يوم الخندق أفضل من أعمال أمتي إلي يوم القيامة.

وسبب ذلك أنه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا وقد دخله وهنٌ بقتل عمرو، ولم يبق في المسلمين بيت من بيوت المسلمين إلا ودخله عزٌّ بقتل عمرو.

ولما وصل الخبر إلي أخت عمرو قالت: من ذا الذي اجترأ عليه؟ فقالوا: علي بن أبي طالب.

فقالت: لم يعد موته إلا علي يد كفو كريم لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه، قاتل الأبطال وبارز الأقران، وكانت منيته علي يد كفو كريم من قومه، ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر، ثم أنشأت تقول:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله

لكنت أبكي عليه آخر الأبد

لكن قاتله من لا يعاب به

وكان يدعي قديماً بيضة البلد

وفي نسخة: وكان يدعي أبوه بيضة البلد.

ولقد أجاد المرحوم الشيخ كاظم الأزري (عليه الرحمة)

في قصيدته الألفية التي يقول فيها:

ظهرت منه في الوغي سطوات

ما أتي القوم كلهم ما أتاها

يوم غصت بجيش عمرو بن عبدود

لهوات الفلا وضاق فضاها

وتخطي إلي المدينة فرداً

بسرايا عزائم ساراها

فدعاهم وهم ألوف ولكن

ينظرون الذي يشب لظاها

أين أنت عن قسور عامري

تتقي الأسد بأسه في شراها

فابتدي المصطفي يحدث عما

يؤجر الصابرون في أخراها

قائلاً: إن للجليل جناناً

ليس غير المجاهدين يراها

أين من نفسه تتوق إلي

الجنات أو يورد الجحيم عداها

من لعمرو؟ وقد ضمنت علي

الله له من جناته أعلاها

فالتووا عن جوابه كسوام

لا تراها مجيبة من دعاها

وإذا هم بفارس قرشي

ترجف الأرض خيفة إذ يطاها

قائلاً: ما لها سواي كفيل

هذه ذمة علي وفاها

ومشي يطلب الصفوف كما

تمشي خماص الحشا إلي مرعاها

فانتضي مشرفية فتلقي

ساق عمرو بضربة فبراها

وإلي الحشر رنة السيف منه

يملأ الخافقين رجع صداها

يا لها ضربة حوت مكرمات

لم يزن ثقل أجرها ثقلاها

هذه من علاه إحدي المعالي

وعلي هذه فقس ما سواها

علي يوم خيبر

قال الطبرسي (رحمه الله): لما قدم رسول الله (صلّي الله عليه وآله) المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلة، ثم خرج منها غازياً إلي خيبر.

خيبر اسم منطقة تبعد عن المدينة المنورة ساعات، وهي عبارة عن حصون وقلاع محصنة، كانت اليهود تسكنها يومذاك، فلما وصل النبي (صلّي الله عليه وآله) إلي خيبر، واستعد للقتال واصطف العسكران، خرج رجل من المسلمين اسمه: عامر بن الأكوع يبارز رجلاً من اليهود اسمه مرحب، وكان مرحب يرتجز ويقول:

قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب

فأجابه عامر:

قد علمت خيبر أني عامر

شاكي السلاح بطل مغامر

فتضاربا بالسيف، فوقع سيف عامر علي ركبته فمات منه.

وحاصر النبي تلك الحصون خمساً وعشرين يوماً، ثم أعطي رايته أبابكر وقيل: أعطي الراية إلي عمر بن الخطاب أولاً فنهض ونهض معه المسلمون فلقوا أهل خيبر فرجعوا.

وأعطي الراية أبابكر في اليوم الثاني فذهب مع المسلمين

فرجع يجبِّن أصحابه ويجبنونه، فلما علم النبي ذلك قال: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار، لا يرجع حتي يفتح الله علي يديه.

فبات الناس يتفكرون حول الرجل الموصوف بهذا الصفات، المقصود بكلام رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وكان علي غائباً في تلك الغزوة، وما كان الناس يحسبونه المقصود بكلام النبي، حتي قال بعضهم: أما علي فقد كُفيتموه فإنه أرمد لا يبصر موضع قدمه.

بل كان كل منهم يرجو أن يعطي الراية، وأصبح الصباح وخرج رسول الله (صلّي الله عليه وآله) بالراية، وأقبل الناس إلي النبي ليعرفوا الرجل الذي يستحق أن يكون حاملاً لراية الإسلام وفاتحاً لحصون اليهود؟ فقال النبي (صلّي الله عليه وآله): أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه، فقال: أرسلوا إليه.

فجاءوا به علي بغلة وعينه معصوبة بخرقة، فأخذ سلمة بن الأكوع بيده وأتي به إلي النبي (صلّي الله عليه وآله) فقال النبي: ما تشتكي يا علي؟ قال: رمد ما أبصر معه، وصداع برأسي.

فقال النبي: اجلس وضع رأسك علي فخذي.

ففعل علي ذلك، فدعا له النبي (صلّي الله عليه وآله) وتفل في يده فمسح بها علي عينيه ورأسه فانفتحت عيناه وسكن ما كان يجده من الصداع وقال النبي: اللهم قِهِ الحر والبرد.

وأعطاه الراية وكانت بيضاء فقال له: خذ الراية وامض بها، فجبرائيل معك، والنصر أمامك والرعب مبثوث في صدور القوم، واعلم يا علي أنهم يجدون في كتابهم: أن الذي يدمر عليهم اسمه: (إيليا) فإذا لقيتهم فقل: أنا علي، فإنهم يخذلون إن شاء الله.

فأقبل علي (عليه السلام) بالراية يهرول بها ولحقه الناس فركز رمحه قريباً من الحصن، وأشرف عليه حبر من الأحبار فقال: من أنت؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب.

فقال اليهودي: غُلبتم

وما أُنزل علي موسي أي غلبتم قسماً بالتوراة التي نزلت علي موسي (عليه السلام).

فخرج إليه مرحب في عامة اليهود، وعليه مغفرة وحجر قد ثقبه مثل البيضة علي أُم رأسه وهو يرتجز ويقول:

قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب

أطعن أحياناً وحيناً أضرب

فقال علي (عليه السلام):

أنا الذي سمتني أمي حيدرة

ضرغام آجام وليث قسورة

علي الأعادي مثل ريح صرصرة

أكيلكم بالسيف كيل السندرة

أضرب بالسيف رقاب الكفرة

فلما سمع مرحب منه ذلك هرب ولم يقف، خوفاً مما حذرته منه ظئره، فتمثل له إبليس في صورة حبر من أحبار اليهود فقال له: إلي أين يا مرحب؟ فقال: قد تسمي علي هذا القرن بحيدرة فقال له إبليس: فما حيدرة؟ قال مرحب: إن فلانة ظئري (مرضعتي) كانت تحذرني من مبارزة رجل اسمه: حيدرة.

وتقول: إنه قاتلك.

فقال إبليس: شوهاً لك! لو لم يكن حيدرة إلا هذا وحده لما كان مثلك يرجع عن مثله، تأخذ بقول النساء وهن يخطئن أكثر مما يصبن، وحيدرة في الدنيا كثير، فارجع فلعلك تقتله، فإن قتلته سدت قومك، وأنا في ظهرك أستصرخ اليهود لك.

فرجع مرحب إلي قتال علي (عليه السلام) فدعاهم علي (عليه السلام) إلي الإسلام أو الجزية أو الحرب فاختاروا الحرب، فضربه الإمام بالسيف علي رأسه ضربة قطعت الحجر والمغفر رأسه حتي وقع السيف في أضراسه، فخر صريعاً، وحمل علي (عليه السلام) علي الجيش اليهودي فانهزموا ودخلوا الحصن، وسدوا بابه، وكان الباب حجراً منقوراً في صخر، والباب من الحجر في ذلك الصخر المنقور، كأنه حجر رحي، وفي وسطه ثقب لطيف، وقد ذكرنا في الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة بياناً حول الباب المزبور.

رمي علي (عليه السلام) القوس من يده اليسري وجعل يده اليسري في ذلك الثقب الذي في وسط الحجر وكان السيف بيده اليمني ثم جذبه إليه فانهار

الصخر المنقور، وصار الباب في يده اليسري، فحملت عليه اليهود، فجعل علي (عليه السلام) الباب ترساً له، وحمل عليهم فانهزموا، فرمي الحجر بيده اليسري إلي خلفه فمر الحجر علي رؤوس الناس من المسلمين إلي أن وقع في آخر العسكر، وإلي هذا أشار ابن أبي الحديد في قصيدته مخاطباً الإمام (عليه السلام):

يا قالع الباب الذي عن هزه

عجزت أكف أربعون وأربع

واجتمع المسلمون ليرفعوا ذلك الحجر فلم يستطيعوا وهم أربعون رجلاً، وفتح علي تلك الحصون.

وتقدم حسان بن ثابت واستأذن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أن يقول شعراً فقال له: قل.

فأنشأ يقول:

وكان علي أرمد العين يبتغي

دواء فلما لم يحس مدا

وياشفاه رسول الله منه بتفلة

فبورك مرقياً وبورك راقيا

وقال: سأعطي الراية اليوم صارماً

كمياً محباً للرسول مواليا

يحب إلهي والإله يحبه

به يفتح الله الحصون الأوابيا

فأصفي بها دون البرية كلها

علياً وسماه الوزير المواخيا

فعند ذلك قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصاري في عيسي بن مريم لقلت فيك قولاً لا تمر بملأ إلا أخذوا من تراب رجليك، ومن فضل طهورك يستشفون به، ولكن حسبك: أن تكون أنت مني وأنا منك، ترثني وأرثك، وأنك مني بمنزلة هارون من موسي، إلا أنه لا نبي بعدي، وأنك تبرئ ذمتي وتقاتل علي سنتي، وأنك في الآخرة أقرب الناس مني، وأنك غداً علي الحوض خليفتي، وأنك أول من يرد علي الحوض غداً، وأنك أول من يكسي معي، وأنك أول من يدخل الجنة من أمتي، وأن شيعتك علي منابر من نور مبيضة وجوههم حولي أشفع لهم، ويكونون في الجنة جيراني، وأن حربك حربي، وأن سلمك سلمي، وأن سرك سري وأن علانيتك علانيتي، وأن سريرة صدرك كسريرة صدري وأن ولدك ولدي وأنك تنجز عدتي، وأن

الحق علي لسانك وفي قلبك، وبين عينيك، وأن الإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي، وأنه لا يرد علي الحوض مبغض لك، ولن يغيب عنه محب لك غداً حتي يردوا الحوض معك.

فخر علي ساجداً شكراً لله.

وقال المرحوم الشيخ الأزري في قصيدته الفريدة:

وله يوم خيبر فتكات

كبرت منظراً علي من رآها

يوم قال النبي: إني لأعطي

رايتي ليثها وحامي حماها

فاستطالت أعناق كل فريق

ليروا أي ماجد يعطاها

فدعي: أين وارث العلم والحل

م مجير الأيام من باساها

أين ذو النجدة الذي لو دعته

في الثريا مروعة لباها

فأتاه الوصي أرمد عين

فسقاها من ريقه فشفاها

ومضي يطلب الصفوف فولّت

عنه علماً بأنه أمضاها

وبري مرحباً بكف اقتدار

أقوياء الأقدار من ضعفاها

ودحي بابها بقوة بأس

لو حمتها الأفلاك منه دحاها

عائد للمؤملين مجيب

سامع ما تسر من نجواها

إنما المصطفي مدينة علم

وهو الباب من أتاه أتاها

وهما مقلتا العوالم: يسرا

ها علي وأحمد يمناها

علي يوم حنين

وفي يوم حنين لما تقدم أبوجرول ووراءه المشركون، وكانت الراية بيده وهو يرتجز قائلاً:

أنا أبوجرول لا براح

حتي نبيح القوم أو نباح

فقصده أميرالمؤمنين فضرب عجز بعيره ثم ضربه وقتله ثم قال:

قد علم القوم لدي الصباح

إني لدي الهيجاء ذو نصاح

فكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول، وحمل عليهم المسلمون يقدمهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقتل منهم أربعين رجلاً وانهزم الباقون، وأُسر من أُسر منهم، وذلك بعد هزيمة المسلمين وتفرقهم عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، وقد ذكر القرآن الكريم موقف المسلمين يومذاك بقوله تعالي: (ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين) [38] ثم أنزل الله سكينته علي رسول الله وعلي المؤمنين.

ولابن أبي الحديد كلمة بالمناسبة في مقدمة شرحه علي النهج:

(أما الشجاعة: فإنه أنسي الناس فيها ذكر من كان قبله ومحي اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة،

يضرب بها الأمثال إلي يوم القيامة، وهو الشجاع الذي ما فرّ قط، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحداً إلا قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولي إلي ثانية.

وفي الحديث: كانت ضرباته وتراً، ولما دعي معاوية إلي المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما، فقال له عمرو بن العاص: لقد أنصفك! فقال معاوية: ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم!! أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق؟ أراك طمعت في إمارة الشام بعدي … ).

علي والقرآن

اشاره

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين.

القرآن كتاب الله عزوجل ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو كلام الله الذي لا يتبع الهوي ولا يميل إلي الاتجاهات بدافع العاطفة بل هو الحق.

هناك حديث نبوي شريف اتفق عليه الشيعة والسنة، أنه قال (صلّي الله عليه وآله): (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض).

نجد في الحديث الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله) يقرن العترة بالقرآن والقرآن بالعترة، ويخبر عنهما أنهما لن يفترقا ولن يختلفا في المبدأ وفي أي شي ء، فالقرآن يوافق العترة، والعترة تمشي تحت ظل القرآن، فلا اختلاف ولا تنافي بين القرآن والعترة، بل هما متلازمان ومتفقان.

وبناء علي هذا هل يمكن أن يسكت القرآن عن عديله وقرينه؟ فيخلو عن اسم العترة والإشارة إليهم؟؟ كلا ثم كلا، فالقرآن فيه تبيان كل شي ء وحاشاه أن يسكت عن الإشادة والتنويه عن أشرف أسرة علي وجه الأرض وهم أسرة رسول الله الطيبة وعترته الطاهرة، وعلي رأسهم سيد العترة أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي ضرب الرقم القياسي في كل مباراة وفاز بكأس البطولة في كل ميدان سباق،

وهو والقرآن يسيران في طريق واحد، ويدعوان إلي مبدأ وهدف واحد، فعلي (عليه السلام) يعرف القرآن وفنونه وعلومه وأحكامه وفضائله ومزاياه، والقرآن يجلب الانتباه إلي شخصية علي (عليه السلام) ومكارمه ومحاسنه وخصائصه، وينوّه عن مواقفه ومواطنه وتضحياته في سبيل الهدف الذي أنزل من أجله القرآن.

أليس القرآن هدي للناس وبينات من الهدي والفرقان؟ أو ليس القرآن يهدي للتي هي أقوم؟ أو ليس القرآن فيه موعظة وشفاء وهدي ورحمة للمؤمنين؟ أو ليس القرآن هو الحق ويدعو إلي الحق؟ فهذا علي (عليه السلام) عديل القرآن ويسير مع القرآن جنباً بجنب، يدعو ويهدي ويبين ويعظ ويفرق بين الحق والباطل.

إذن، فلا مانع أن يحتوي القرآن (وهو كلام الله المجيد) شيئاً من تقدير الله تعالي لمواقف علي (عليه السلام) والإشادة بفضله وإن لم يكن التنويه صريحاً فقد تكون الكناية أبلغ من التصريح وأوقع في النفس للتحري عن الحقيقة المقصودة.

ولم يكتف القرآن بالإشارة إلي فضائل علي، فحسب، بل نجد كمية هائلة وافرة من الآيات البينات التي شملت أهل البيت (عليهم السلام) أولاً ثم بقية المسلمين ثانياً، فقد روي ابن عباس عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أنه قال: ما أنزل الله آية فيها: (يا أيها الذين آمنوا) إلا وعلي رأسها وأميرها.

وروي ابن حجر في الصواعق: عن ابن عباس لما نزلت هذه الآية (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) [39] قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): هم أنت يا علي وشيعتك، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين، وتأتي أعداؤك غضاباً مقحمين.

إلي غير ذلك من عشرات الآيات المأولة بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) المذكورة في الصحاح ورواها المحدثون في صحاحهم.

وفي القرآن آيات واضحات نزلت في شأن أهل البيت (عليهم السلام) وكان علي (عليه السلام) أحدهم بل سيدهم، كما في آية المباهلة

وسورة هل أتي وآية التطهير وغيرها مما يطول الكلام بذكر تلك الآيات فلنذكر بصورة موجزة كلاماً حول آية التطهير والمباهلة وسورة هل أتي، ثم ننظر أين ينتهي بنا الكلام: لقد أجمع المفسرون والمحدثون إلا الشاذ النادر منهم واتفقت كلمتهم علي: أن آية التطهير نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وإن كان هناك اختلاف في ألفاظ الحديث فالمؤدي واحد.

وخلاصة الواقعة: أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ألقي رداء أو عباءة أو كساء أو ثوباً أو قطيفة علي علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

فقالت أم سلمة: يا رسول الله فأنا؟ وفي رواية: فأنا من أهلك أو: وأنا معكم؟ أو: ألا أدخل معكم؟ فقال النبي (صلّي الله عليه وآله): إنك علي خير، أو: مكانك، أو: تنحي وفي رواية: فرفعت الكساء لأدخل فجذبه من يدي وقال: إنك علي خير وإنك من أزواج النبي.

فنزلت الآية: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). [40].

قال أبوسعيد الخدري: كان النبي (صلّي الله عليه وآله) يأتي باب علي أربعين صباحاً فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ويطهركم تطهيرا، أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم.

وقال أبوالحمراء: خدمت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) تسعة أشهر أو عشرة أشهر فأما التسعة فلا أشك فيها ورسول الله يخرج من طلوع الفجر فيأتي باب فاطمة وعلي والحسن والحسين فيأخذ بعضادتي الباب فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الصلاة، يرحمكم الله.

فيقولون: وعليك السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.

فيقول رسول الله: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً.

أما المحدثون والمفسرون من الشيعة فكلهم متفقون علي اختصاص آية التطهير بعلي وفاطمة

والحسن والحسين، لا تشاركهم زوجات النبي فيها.

ومن أعلام السنة ذكر ذلك: الثعلبي في تفسيره وأحمد بن حنبل في مسنده، والواحدي في تفسيره (البسيط)، وابن البطريق في المستدرك.

والرازي في تفسيره وغيرهم ممن يطول الكلام بذكرهم والباقون يقولون إن الآية تشمل أهل البيت وسائر زوجات النبي (صلّي الله عليه وآله).

وقد مر عليكم أن المفسرين والمحدثين ذكروا أن النبي لم يأذن لزوجته أم سلمة أن تدخل تحت الكساء أو الثوب، فكيف تشمل الآية صفية أخت مرحب التي كانت يهودية خيبرية وغيرهن ممن سبق الكفر والشرك إسلامهن؟ ولا دليل لهؤلاء إلا سياق الآية وترتيبها، أو ما يكفي مجي ء رسول الله إلي باب بيت علي وفاطمة أربعين صباحاً أو ستة أشهر أو تسعة أشهر يطرق عليهم الباب ويتلو عليهم الآية ليكون دليلاً علي أن المقصود بآية التطهير هم أهل هذا البيت فقط، ولم يعهد من النبي (صلّي الله عليه وآله) أنه طرق باب إحدي زوجاته وتلي عليها الآية ولو مرة واحدة.

ثم إن سياق الآية وأسلوبها يدلان علي كلامنا، فإن الخطابات الموجهة إلي زوجات النبي في الآية كلها ضمائر مؤنثة.

قال تعالي: (يا نساء النبي (لستن) كأحد من النساء إن (اتقيتن) فلا (تخضعن) بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض و(قلن) قولاً معروفاً و(قرن) في (بيوتكن) ولا (تبرجن) تبرج الجاهلية الأولي، و(أقمن) الصلاة و(آتين) الزكاة و(أطعن) الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، و(اذكرن) ما يتلي في (بيوتكن) من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً). [41].

ويظهر بكل وضوح أن الضمائر الموجودة في آية التطهير تختلف عما سبقتها ولحقتها من الآيات والخطابات، فقد قال تعالي: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) ولم يقل: عنكن،

ويطهركن.

فالعدول عن الضمائر المؤنثة إلي الضمائر المذكرة يدل علي اختصاص الخطاب بغير نساء النبي المخاطبات في الآية.

هذا وقد ذكر سيدنا المغفور له السيد عبدالحسين شرف الدين في كتابه: (الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء) بياناً كافياً وكلاماً شافياً حول الأدلة والبراهين والقرائن التي تدل علي تخصيص آية التطهير بفاطمة وبعلها وبنيها، وقبل ذلك أسهب شيخنا المجلسي رحمه الله في تفسير هذه الآية وفي ما قيل فيها من الدلالة علي الاختصاص بأهل البيت (عليهم السلام).

وقد ذكروا في شأن نزول آية التطهير واجتماع النبي (صلّي الله عليه وآله) مع علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وجوهاً كثيرة، والكل متفقون علي أن آية التطهير نزلت في هؤلاء (عليهم السلام).

وهذه الآية تدل بكل صراحة علي عصمة أصحاب الكساء، وإنهم معصومون من كل ذنب وكل خطأ، والعصمة من مراتب الأنبياء والأوصياء وهي أعلي درجات الرقي والتقرب عند الله تعالي.

علي يوم المباهلة

ذكر البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده أن رسول الله كتب إلي أهل نجران قبل أن تنزل عليه سورة النمل (طس) سليمان: (بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد رسول الله إلي أسقف نجران وأهل نجران، إن أسلمتم فإني أحمد إليكم الله إله إبراهيم، وإسحاق ويعقوب، أما بعد: فإني أدعوكم إلي عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلي ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية وإن أبيتم فقد أُوذنتم بحرب، والسلام) فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به وذعر ذعراً شديداً فبعث إلي رجل من أهل نجران يقال له: شرحبيل بن وادعة، فدفع إليه كتاب رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقرأه، فقال له الأسقف: ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما

يؤمن من أن يكون ذلك الرجل، ليس لي في النبوة رأي، لو كان أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه وجهدت لك، فبعث الأسقف إلي واحد من بعد واحد من أهل نجران فكلهم قال مثل قول شرحبيل، فاجتمع رأيهم علي أن يبعثوا شرحبيل بن وادعة وعبدالله بن شرحبيل وجبار بن فيض فيأتونهم بخبر رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فانطلق الوفد حتي أتوا رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فسألهم وسألوه، فلم تنزل بهم وبه المسألة حتي قالوا له: ما تقول في عيسي بن مريم؟ فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): ما عندي فيه شي ء يومي هذا فأقيموا حتي أخبركم بما يقال لي في عيسي صبح الغداة، فأنزل الله (إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم) [42] إلي قوله: (فنجعل لعنة الله علي الكاذبين) [43] فأبوا أن يقروا بذلك.

فلما أصبح رسول الله (صلّي الله عليه وآله) الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملاً علي الحسن والحسين في خميلة له ومعه علي (عليه السلام) وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة، وله يومئذ عدة نسوة، فقال شرحبيل لصاحبيه: إني أري أمراً مقبلاً إن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فنُلاعنه ولا يبقي علي وجه الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك، فقالا له: ما رأيك؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أري رجلاً مقبلاً لا يحكم شططاً أبداً، فقالا له: أنت وذاك، فتلقي شرحبيل رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقال: إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك، قال: وما هو؟ قال: أحكمك اليوم إلي الليل وليلتك إلي الصباح، فمهما حكمت فينا فهو جائز فرجع رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ولم يلاعنهم وصالحهم علي الجزية.

صورة أخري للمباهلة

عن علي (عليه السلام) قال: لما قدم وفد نجران علي النبي (صلّي

الله عليه وآله) قدم فيهم ثلاثة من النصاري من كبارهم: العاقب ومحسن والأسقف فجاءوا إلي اليهود وهم في البيت، فصاحوا بهم يا إخوة القردة والخنازير هذا الرجل بين ظهرانيكم قد غلبكم، انزلوا إلينا، فنزل إليهم منصور اليهودي وكعب بن الأشرف اليهودي، فقالوا لهم: احضروا غداً نمتحنه، فقال: وكان النبي (صلّي الله عليه وآله) إذا صلي الصبح سأل: هيهنا من الممتحنة أحد؟ فإن وجد أحداً أجابه وإن لم يجد أحداً قرأ علي أصحابه ما أنزل عليه في تلك الليلة، فلما صلي الصبح جلسوا بين يديه فقال له الأسقف: يا أباالقاسم فذاك موسي من أبوه؟ النبي (صلّي الله عليه وآله): عمران.

الأسقف: فيوسف من أبوه؟ النبي (صلّي الله عليه وآله): يعقوب.

الأسقف: فداك أبي وأمي فأنت من أبوك؟ النبي (صلّي الله عليه وآله): عبدالله بن عبدالمطلب.

الأسقف: فعيسي من أبوه؟ فسكت النبي (صلّي الله عليه وآله) فنزل جبرائيل، فقال هو روح الله وكلمته.

الأسقف: يكون روح بلا جسد؟ فسكت النبي (صلّي الله عليه وآله)، فأوحي إليه (إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون) [44] فوثب الأسقف وثبة إعظام لعيسي أن يقال له من تراب.

ثم قال: ما نجد هذا يا محمد في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا نجد هذا إلا عندك.

فأوحي الله إليه (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) … [45].

فقالوا: أنصفتنا يا أباالقاسم، فمتي موعدك؟ قال: بالغداة إن شاء الله، ثم قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): فلما صلي النبي (صلّي الله عليه وآله) الصبح أخذ بيدي وجعلني بين يديه، وأخذ فاطمة (عليهاالسلام) فجعلها خلف ظهره، وأخذ الحسن والحسين عن يمينه وعن شماله ثم برك لهما باركاً، فلما

رأوه قد فعل ذلك ندموا وتآمروا فيما بينهم وقالوا: والله إنه لنبي، ولئن باهلنا ليستجيب الله له علينا فيهلكنا ولا ينجينا شي ء منه إلا أن نستقيله، قال: فأقبلوا حتي جلسوا بين يديه، ثم قالوا: يا أباالقاسم أقلنا، قال: نعم، قد أقلتكم، أما والذي بعثني بالحق لو باهلتكم ما ترك الله علي ظهر الأرض نصرانياً إلا أهلكه.

قال الشيخ المفيد رحمه الله في كتاب الفصول: قال المأمون يوماً للرضا (عليه السلام): أخبرني بأكبر فضيلة لأميرالمؤمنين (عليه السلام) يدل عليها القرآن؟ قال: فقال الرضا (عليه السلام) فضيلة في المباهلة، قال جل جلاله: (فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علي الكاذبين) [46] فدعا رسول الله (صلّي الله عليه وآله) الحسن والحسين (عليهماالسلام) فكانا ابنيه، ودعا فاطمة (عليهاالسلام) فكانت في هذا الموضع نساءه ودعا أميرالمؤمنين (عليه السلام) فكان نفسه بحكم الله عزوجل، وقد أثبت أنه ليس أحد من خلق الله تعالي أجل من رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وأفضل، فواجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله بحكم الله عزوجل، قال: فقال المأمون: أليس قد ذكر الله الأبناء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ابنيه خاصة؟ وذكر النساء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ابنته وحدها؟ فألا جاز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره؟ فلا يكون لأميرالمؤمنين (عليه السلام) ما ذكرت من الفضل، قال: فقال له الرضا (عليه السلام): ليس يصح ما ذكرت يا أميرالمؤمنين وذلك أن الداعي إنما يكون داعياً لغيره كما أن الآمر آمر لغيره ولا يصح أن يكون داعياً لنفسه في الحقيقة كما

لا يكون آمراً لها في الحقيقة، وإذ لم يدع رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في المباهلة رجلاً إلا أميرالمؤمنين (عليه السلام) فقد ثبت أنه نفسه التي عناها الله سبحانه في كتابه وجعل حكمة ذلك في تنزيله.

قال: فقال المأمون: إذا ورد الجواب سقط السؤال.

قال الطبرسي (رحمه الله): أجمع المفسرون علي أن المراد بأبنائنا الحسن والحسين (عليهماالسلام)، قال أبوبكر الرازي: هذا يدل علي أن الحسن والحسين ابنا رسول الله، وأن ولد الابنة ابن في الحقيقة.

وقال ابن أبي علان وهو أحد أئمة المعتزلة: هذا يدل علي أن الحسن والحسين (عليهماالسلام) كانا مكلفين في تلك الحال، لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين.

وقال أصحابنا: إن صغر السن ونقصانها عن حد بلوغ الحلم لا ينافي كمال العقل، وإنما جعل بلوغ الحلم حداً لتعلق الأحكام الشرعية، وكان سنهما في تلك الحال سناً لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل، علي أن عندنا يجوز أن يخرق العادات للأئمة ويخصهم بما لا يشركهم فيه غيرهم فلو صح أن كمال العقل غير معتاد في تلك السن لجاز ذلك فيهم إبانة لهم عمن سواهم، ودلالة علي مكانهم من الله تعالي واختصاصهم به، ومما يؤيده من الأخبار قول النبي (صلّي الله عليه وآله): ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا.

(ونساءنا) اتفقوا علي أن المراد به فاطمة (عليهاالسلام) لأنه لم يحضر المباهلة غيرها من النساء، وهذا يدل علي تفضيل الزهراء علي جميع النساء، (وأنفسنا) يعني علياً خاصة، ولا يجوز أن يكون المعني به النبي (صلّي الله عليه وآله) لأنه هو الداعي، ولا يجوز أن يدعي الإنسان نفسه، وإنما يصح أن يدعو غيره.

وإذا كان قوله: (وأنفسنا) لا بد أن يكون إشارة إلي غير الرسول وجب أن يكون إشارة إلي علي (عليه السلام) لأنه

لا أحد يدعي دخول غير أميرالمؤمنين (عليه السلام) وزوجته وولديه (عليهم السلام) في المباهلة، وهذا يدل علي غاية الفضل وعلو الدرجة والبلوغ منه إلي حيث لا يبلغه أحد، إذ جعله الله سبحانه نفس الرسول، وهذا ما لا يدانيه أحد ولا يقاربه انتهي.

قال شيخنا المجلسي (رحمه الله): ويدل علي كون المراد بأنفسنا أميرالمؤمنين (عليه السلام) ما رواه ابن حجر في صواعقه رواية عن الدار قطني: أن علياً (عليه السلام) يوم الشوري احتج علي أهلها فقال لهم: أنشدكم الله هل فيكم أحد أقرب إلي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في الرحم مني؟ ومن جعله نفسه، وأبناءه أبناءه ونساءه نساءه غيري؟ قالوا: اللهم لا.

ولا يخفي أن تخصيص هؤلاء من بين جميع أقاربه (صلّي الله عليه وآله) للمباهلة دون عباس وعقيل وجعفر وغيرهم لا يكون إلا لأحد شيئين:

إما لكونهم أقرب الخلق إلي الله بعده، حيث استعان بهم في الدعاء علي العدو دون غيرهم، وإما لكونهم أعز الخلق عليه حيث عرضهم للمباهلة إظهاراً لوثوقه علي حقيته، حيث لم يبال بأن يدعو الخصم عليهم مع شدة حبه لهم، وظاهر: أن حبه (صلّي الله عليه وآله) لم يكن من جهة البشرية والأمور الدنيوية، بل لم يكن يحب إلا من يحبه الله، ولم يكن حبه إلا خالصاً لله … الخ.

قال بعض الأعلام: وخلاصة الكلام: أن مدار الحب في رسول الله (صلّي الله عليه وآله) التقوي والورع وسائر الفضائل والملكات الحسنة لا الأغراض الدنيوية الفاسدة، فتخصيصه (صلّي الله عليه وآله) هؤلاء من بين جميع أقاربه دليل علي محبته إياهم، ومحبته دليل علي كونهم أتقي وأورع وأفضل من غيرهم.

قال المجلسي (رحمه الله): فإذا ثبت ذلك فيرجع هذا أيضاً إلي كونهم أقرب الخلق وأحبهم إلي الله، فيكونون أفضل من غيرهم، فيقبح عقلاً

تقديم غيرهم عليهم.

وأيضاً لما ثبت أن المقصود بنفس الرسول (صلّي الله عليه وآله) في هذه الآية، ليس المراد النفسية الحقيقية، لامتناع اتحاد الاثنين، وأقرب المجازات إلي الحقيقة اشتراكهما في الصفات والكمالات وخرجت النبوة بالدليل، فبقي غيرها، ومن جملتها وجوب الطاعة والرئاسة العامة والفضل علي من سواه وسائر الفضائل.

قال الإمام الرازي في كتابه الأربعين: وأما الشيعة فقد احتجوا علي أن علياً أفضل الصحابة بوجوه: الحجة الأولي التمسك بقوله تعالي (فقل تعالوا) [47] وثبت بالأخبار الصحيحة أن المراد من قوله: (وأنفسنا) هو علي، ومن المعلوم أنه يمتنع أن تكون نفس علي هي نفس محمد بعينه فلا بد أن يكون المراد هو المساواة بين النفسين وهذا يقتضي أن كل ما حصل لمحمد من الفضائل والمناقب فقد حصل مثله لعلي، ترك العمل بهذا في فضيلة النبوة فوجب أن تحصل المساواة بينهما وراء هذه الصفة، ثم لا شك أن محمداً (صلّي الله عليه وآله) كان أفضل الخلق في سائر الفضائل، فلما كان علي مساوياً له في تلك الفضائل وجب أن يكون أفضل الخلق، لأن المساوي للأفضل يجب أن يكون أفضل.

ولنعم ما قال الشيخ كاظم الأزري في هذه المناسبة:

يا بن عم النبي أنت يد

الله التي عم كل شي ء نداها

أنت قرآنه القديم وأوصا

فك آياته التي أوحاها

خصك الله في مآثر شتي

هي مثل الأعداد لا تتناهي

ليت عيناً بغير روضك ترعي

قذيت واستمر فيها قذاها

أنت بعد النبي خير البرايا

والسما خير ما بها قمراها

لك ذات كذاته حيث لولا

أنها مثلها لما آخاها

علي يتصدق بالخاتم

عن الإمام الباقر (عليه السلام) في قوله عزوجل: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) [48] الآية قال: إن رهطاً من اليهود أسلموا، منهم: عبدالله بن سلام وأسد وثعلبة وابن صوريا، فأتوا النبي (صلّي الله عليه وآله) فقالوا: يا

نبي الله إن موسي أوصي إلي يوشع بن نون فمن وصيك يا رسول الله؟ ومن ولينا بعدك؟ فنزلت هذه الآية: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) ثم قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): قوموا.

فقاموا فأتوا المسجد فإذا سائل خارج، فقال: يا سائل أما أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم هذا الخاتم، قال: من أعطاكه؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلي، قال: علي أي حال أعطاك؟ قال: كان راكعاً.

فكبر النبي (صلّي الله عليه وآله) وكبر أهل المسجد، فقال النبي (صلّي الله عليه وآله): علي بن أبي طالب وليكم بعدي، قالوا رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبعلي بن أبي طالب ولياً، فأنزل الله عزوجل: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) [49] فتقدم حسان بن ثابت وأنشأ يقول:

أباحسن تفديك نفسي ومهجتي

وكل بطي ء في الهدي ومسارع

أيذهب مدحي والمحبر ضائع

وما المدح في جنب الآله بضائع

فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعاً

فدتك نفوس القوم يا خير راكع

فأنزل فيك الله خير ولاية

وبيّنها في محكمات الشرايع

وقال أيضاً:

علي أميرالمؤمنين أخو الهدي

وأفضل ذي نعل ومن كان حافيا

وأول من أدي الزكاة بكفه

وأول من صلي ومن صام طاويا

فما أتاه سائل مد كفه

إليه ولم يبخل ولم يك جافيا

فدس إليه خاتماً وهو راكع

وما زال أواهاً إلي الخير داعيا

فبشر جبريل النبي محمداً

بذاك وجاء الوحي في ذاك ضاحيا

وقال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين:

فديت علياً إمام الوري

سراج البرية مأوي التقي

وصي الرسول وزوج البتول

إمام البرية شمس الضحي

تصدق خاتمه راكعاً

فأحسن بفعل إمام الوري

ففضله الله رب العباد

وأنزل في شأنه هل أتي

صورة أخري لنزول الآية عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: كنا جلوساً عند رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إذ ورد علينا أعرابي أشعث الحال عليه أثواب

رثة والفقر ظاهر بين عينيه، ومعه عياله، فلما دخل المسجد سلم علي النبي (صلّي الله عليه وآله) ووقف بين يديه وأنشد يقول:

أتيتك والعذراء تبكي بِرنةِ

وقد ذهلت أم الصبي عن الطفل

وأخت وبنتان وأم كبيرة

وقد كدت من فقري أخالط في عقلي

وقد مسني فقر وذل وفاقة

وليس لنا شي ء يمر ولا يحلي

ولسنا نري إلا إليك فرارنا

وأين مفر الخلق إلا إلي الرسل

فلما سمع النبي (صلّي الله عليه وآله) ذلك بكي بكاء شديداً، ثم قال لأصحابه: معاشر المسلمين إن الله تعالي، قد ساق إليكم ثواباً، وقاد إليكم أجراً، والجزاء من الله غرف في الجنة، تضاهي غرف إبراهيم الخليل (عليه السلام)، فمن منكم يواسي هذا الفقير؟ فلم يجبه أحد، وكان في ناحية المسجد علي بن أبي طالب يصلي ركعات تطوعاً كانت له دائماً، فأومأ إلي الأعرابي بيده فدنا منه، فدفع إليه الخاتم من يده وهو في صلاته فأخذه الأعرابي وانصرف.

ثم إن النبي أتاه جبرائيل ونادي: السلام عليك يا رسول الله ربك يقرئك السلام ويقول لك: اقرأ (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.

ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون). [50].

فعند ذلك قام النبي (صلّي الله عليه وآله) قائماً علي قدميه وقال: معاشر المسلمين أيكم اليوم عمل خيراً حتي جعله الله ولي كل من آمن؟ قالوا: يا رسول الله ما فينا من عمل خيراً سوي ابن عمك علي بن أبي طالب فإنه تصدق بخاتمه علي الأعرابي وهو يصلي.

فقال النبي (صلّي الله عليه وآله): وجبت الغرف لابن عمي علي بن أبي طالب، فقرأ عليهم الآية … الخ. صورة ثالثة في المناقب وكشف الغمة: بينا عبدالله بن عباس جالس علي شفير زمزم يقول: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إذ أقبل

رجل متعمم بعمامة، فجعل كلما قال ابن عباس: سألتك بالله من أنت؟ فكشف العمامة عن وجهه وقال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه نفسي: أنا جندب بن جنادة البدري أبوذر الغفاري سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) بهاتين وإلا صُمّتا، ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول: علي قائد البررة، وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله.

أما إني صليت مع رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يوماً من الأيام صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد، فلم يعطه أحد، فرفع السائل يده إلي السماء وقال: اللهم اشهد أني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئاً.

وكان علي (عليه السلام) راكعاً، فأومأ إليه بخنصره اليمني وكان يتختم فيه، فأقبل السائل فأخذ الخاتم من خنصره، وذلك بمرأي من النبي (صلّي الله عليه وآله) وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلي السماء وقال: اللهم إن أخي موسي سألك فقال: (اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري) [51] فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً: (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا) [52] اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك، اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أشدد به أزري.

قال أبوذر: فلما أتم رسول الله (صلّي الله عليه وآله) كلامه حتي نزل جبرائيل من عند الله عزوجل فقال: يا محمد: اقرأ فأنزل الله عليه (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون).

وقد روي المفسرون في نزول هذه الآية أنها نزلت في شأن علي (عليه السلام) لما تصدق بخاتمه علي السائل، وإن اختلفت

ألفاظ الحديث فالمفاد والمضمون واحد.

وهذه الآية تصرح لعلي (عليه السلام) بالولاية العامة علي المسلمين تلك الولاية الثابتة لله ولرسوله، وسنذكر في حديث الغدير ما تيسر من معني الولي والمولي إن شاء الله …

علي في سورة هل أتي

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي محمد وآله الطيبين الطاهرين.

في أمالي الصدوق عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه في قوله عزوجل: (يوفون بالنذر) [53] قالا: مرض الحسن والحسين (عليهماالسلام) وهما صبيان صغيران فعادهما رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ومعه رجلان، فقال أحدهما: يا أباالحسن لو نذرت في ابنك نذراً إن الله عافاهما، فقال أصوم ثلاثة أيام شكراً لله عزوجل، وكذلك قالت فاطمة (عليهاالسلام) وقال الصبيان: ونحن أيضاً نصوم ثلاثة أيام، وكذلك قالت جاريتهم فضة، فألبسهما الله عافية، فأصبحوا صياماً وليس عندهم طعام، فانطلق علي (عليه السلام) إلي جار له من اليهود يقال له: شمعون.

يعالج الصوف فقال هل لك أن تعطيني جزة من صوف تغزلها لك ابنة محمد بثلاثة أصوع من شعير؟ قال: نعم، فأعطاه فجاء بالصوف والشعير وأخبر فاطمة (عليهاالسلام) فقبلت وأطاعت، ثم عمدت فغزلت ثلث الصوف، ثم أخذت صاعاً من الشعير فطحنته وعجنته وخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد قرصاً، وصلي علي (عليه السلام) مع النبي (صلّي الله عليه وآله) المغرب؟ ثم أتي منزله فوضع الخوان وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي (عليه السلام) وإذا مسكين قد وقف بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني مما تأكلون أطعمكم الله علي موائد الجنة، فوضع علي (عليه السلام) اللقمة من يده ثم قال:

فاطم ذات المجد واليقين

يا بنت خير الناس أجمعين

إلي آخر الأبيات.

ومضمونها التعطف علي المسكين ويطلب (عليه السلام) من فاطمة (عليهاالسلام) أن تعطي شيئاً للمسكين.

فأقبلت فاطمة تقول:

أمرك سمع يا

بن عم وطاعة

ما بي من لؤم ولا وضاعة

إلي آخر الأبيات التي تذكر فيها استعدادها لمساعدة المسكين الواقف علي الباب ينتظر، وعمدت إلي ما كان علي الخوان فدفعته إلي المسكين، وباتوا جياعاً وأصبحوا صياماً لم يذوقوا إلا الماء القراح.

ثم عمدت إلي الثلث الثاني من الصوف فغزلته، ثم أخذت صاعاً من الشعير وطحنته وغزلته وخبزت منه خمسة أقرصة لكل واحد قرصاً، وصلي علي المغرب مع النبي (صلّي الله عليه وآله) ثم أتي منزله فلما وضع الخوان بين يديه وجلسوا خمستهم فأول لقمة كسرها علي (عليه السلام) وإذا بيتيم من يتامي المسلمين قد وقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد أنا يتيم من يتامي المسلمين أطعموني مما تأكلون أطعمكم الله علي موائد الجنة، فوضع علي اللقمة من يده ثم قال:

فاطم بنت السيد الكريم

قد جاءنا الله بذا اليتيم

إلي آخر أبياته التي يحرضها علي إطعام اليتيم.

ثم أقبلت فاطمة وهي تقول:

فسوف أعطيه ولا أبالي

وأوثر الله علي عيالي

أمسوا جياعاً وهم أشبالي

إلي آخر الأبيات التي تظهر فيها الموافقة علي إطعام اليتيم ثم عمدت فأعطته جميع ما علي الخوان، وباتوا جياعاً لم يذوقوا إلا الماء القراح، وأصبحوا صياماً، وعمدت فاطمة (عليهاالسلام) فغزلت الثلث الباقي من الصوف وطحنت الباقي وعجنته وخبزت منه خمسة أقراص لكل واحد قرصاً.

وصلي علي المغرب مع النبي (عليهماالسلام)، ثم أتي منزله، فقرب إليه الخوان وجلسوا خمستهم فأول لقمة كسرها علي (عليه السلام) وإذا بأسير من أسراء المشركين قد وقف بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا؟ فوضع علي (عليه السلام) اللقمة من يده ثم قال:

فاطم يا بنت النبي أحمد

بنت نبي سيد مسود

إلي آخر الأبيات.

ثم أقبلت فاطمة وهي تقول:

لم يبق مما كان غير صاع

قد دبرت كفي مع الذراع

ثم تذكر

استعدادها لمواساة الأسير.

وعمدوا إلي ما كان علي الخوان فأعطوه وباتوا جياعاً، وأصبحوا مفطرين وليس عندهم شي ء.

قال شعيب في حديثه: وأقبل علي بالحسن والحسين (عليهماالسلام) نحو رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وهما يرتعشان كالفراخ من شدة الجوع، فلما بصر بهم النبي (صلّي الله عليه وآله) قال: يا أباالحسن شد ما يسوؤني ما أري بكم!؟ انطلق إلي ابنتي فاطمة، فانطلقوا إليها وهي في محرابها قد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها، فلما رآها رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ضمها إليه وقال: واغوثاه بالله؟ أنتم منذ ثلاث فيما أري؟ فهبط جبرائيل فقال: يا محمد خذ ما هيأ الله لك في أهل بيتك، قال: وما آخذ يا جبرائيل؟ قال: (هل أتي علي الإنسان حين من الدهر) [54] حتي إذا بلغ (إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً). [55].

وقال الحسن بن مهران في حديثه: فوثب النبي (صلّي الله عليه وآله) حتي دخل منزل فاطمة (عليهاالسلام) فرأي ما بهم فجمعهم ثم انكب عليهم فبكي وهو يقول: أنتم منذ ثلاث فيما أري وأنا غافل عنكم؟ فهبط عليه جبرائيل بهذه الآيات: (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً، عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً) [56] قال: هي عين في دار النبي (صلّي الله عليه وآله) يفجر إلي دور الأنبياء والمؤمنين (يوفون بالنذر) [57] يعني علياً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وجاريتهم (ويخافون يوماً كان شره مستطيراً) (ويطمعون الطعام علي حبه) [58] يقول: علي شهوتهم للطعام وإيثارهم له (مسكيناً) من مساكين المسلمين (ويتيماً) من يتامي المسلمين (وأسيراً) من أسراء المشركين ويقولون إذا أطعموهم: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً) [59] قال: والله ما قالوا هذا لهم

ولكنهم أضمروه في أنفسهم، فأخبر الله بما في ضمائرهم، ويقولون: لا نريد جزاء تكافئوننا، به ولا شكوراً تثنون علينا به، ولكن إنما أطعمناكم لوجه الله وطلب ثوابه، قال الله تعالي ذكره: (فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة) [60] في الوجوه (وسروراً) في القلوب (وجزاهم بما صبروا جنة) [61] يسكنونها (وحريراً) يفترشونه ويلبسونه (متكئين فيها علي الأرائك) والأريكة: السرير عليه الحجلة (لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً) [62] قال شيخنا المجلسي (رحمه الله) بعد ذكر أقوال المفسرين والمحدثين: في هذه السورة أقوال: بعدما عرفت من إجماع المفسرين والمحدثين علي نزول هذه السورة في أصحاب الكساء (عليهم السلام) علمت أنه لا يريب (يشك) أريب ولا لبيب في أن مثل هذا الإيثار لا يتأتي إلا من قبل الأئمة الأخيار وأن نزول هذه السورة مع المائدة عليهم يدل علي جلالتهم ورفعتهم ومكرمتهم لدي العزيز الجبار … الخ.

أقول: وأما كيف يمكن لهؤلاء أن يتجوعوا ثلاثة أيام بلياليها فليس ذلك بمستبعد، لأننا نسمع ونقرأ في الصحف أن بعض الأفراد استمر صومهم تسعة أيام بدون أن يدخل شي ء في جوفهم، وأما المرتاضون الذين يتجوعون بصورة مدهشة وينحصر أكلهم في كل يوم في لوزة واحدة ولا يموتون من الجوع بل يعيشون أعواماً وأعواماً، ويمكن أن نقول: إن العادة في التجوع وعدمه لها تأثير ودخل في الموضوع.

وما قاله بعض الجهال: أنه هل يجوز أن يبالغ الإنسان في الصدقة إلي هذا الحد ويجوع نفسه وأهله حتي يشرف علي الهلاك؟ فقد ضرب الرقم القياسي في التجاهل أو العناد، لأن هذا هو المواساة والله تعالي يقول: (ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) [63] مع احتياجهم إلي الطعام يفضلون غيرهم علي أنفسهم فلو كان هذا الإيثار قبيحاً

لما مدحهم الله تعالي: وأيضاً: إن الله تعالي أنزل سورة علي نبيه تقديراً لهذا الإيثار الذي لا نظير له في البشر، إلا عند الأنبياء فما دونهم.

فما قيمة انتقاد المخلوق الجاهل لهذا العمل العظيم الذي لم يسجل ولا يسجل التاريخ شبيهاً ومثيلاً له في تاريخ الكرماء الأسخياء فضلاً عن غيرهم؟؟

مفاخرة علي والعباس

روي الحاكم أبوالقاسم الحسكاني عن ابن بريدة عن أبيه قال: بينا شيبة بن أبي طلحة والعباس عم النبي يتفاخران إذ مر بهما علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: بماذا تتفاخران؟ فقال العباس: لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد: سقاية الحاج.

وقال شيبة: أوتيت عمارة المسجد الحرام.

فقال علي (عليه السلام) استحييت لكما فقد أوتيت علي صغري ما لم تأتيا، فقالا: وما أوتيت يا علي؟ قال: ضربت خراطيمكما بالسيف حتي آمنتما بالله ورسوله.

فقام العباس يجر ذيل ثوبه حتي دخل علي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وقال: أما تري إلي ما يستقبلني به علي؟ فقال (صلّي الله عليه وآله): ادعوا لي علياً فدعي له، فقال: ما حملك علي ما استقبلت به عمك؟ فقال: يا رسول الله صدمته (دفعته) بالحق، فمن شاء ليغضب ومن شاء فليرضي.

فنزل جبرائيل وقال: يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول: أتل عليهم: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون) [64] فقال العباس: إنا قد رضينا ثلاث مرات.

آية النجوي

المفاخرة بصورة أخري قد ذكرنا فيما مضي شيئاً من خصائص الإمام (عليه السلام) التي تفرد بها عن غيره وكان يفتخر بها، لأن الله تعالي أنزل في حقه وشأنه آية أو أكثر.

ومن جملة تلك الخصائص الفريدة والمزايا الحميدة ما رواه المفسرون، في تفسير قوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر). [65].

فقد أورد الثعلبي والواحدي وغيرهما من علماء التفسير: أن الأغنياء أكثروا مناجاة النبي (صلّي الله عليه وآله) وغلبوا الفقراء علي المجالس عنده حتي كره رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ذلك واستطالة جلوسهم وكثرة مناجاتهم، فأنزل الله تعالي (يا أيها الذين آمنوا إذا

ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) فأمر بالصدقة أمام المناجاة.

وأما أهل العسرة (الفقراء) فلم يجدوا، وأما الأغنياء فبخلوا، وخف ذلك علي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وخف ذلك الزحام، وغلبوا علي حبه والرغبة في مناجاته حب الحطام، واشتد علي أصحابه، فنزلت الآية التي بعدها راشقة لهم بسهام الملام، ناسخة بحكمها حيث أحجم من كان دأبه الإقدام.

وقال علي (عليه السلام): إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، وهي آية المناجاة، فإنها لما نزلت كان لي دينار فبعته بعشر دراهم وكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حتي فنيت الدراهم، فنسخت (الآية) بقوله: (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات) [66] الآية.

وقال ابن عمر: ثلاث كن لعلي لو أن لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه بفاطمة، وإعطاءه الراية يوم خيبر، وآية النجوي.

وروي الشيخ الطوسي (ره) عن الترمذي والثعلبي عن علي (عليه السلام) أنه قال: بي خفف الله عن هذه الأمة، لأن الله امتحن الصحابة بهذه الآية فتقاعسوا عن مناجاة الرسول، وكان قد احتجب في منزله من مناجاة كل أحد إلا من تصدق وكان معي دينار فتصدقت به، فكنت أنا سبب التوبة من الله علي المسلمين حين عملت بالآية، ولو لم يعمل بها أحد لنزل العذاب لامتناع الكل عن العمل بها.

وفي كتاب فرائد السمطين: أن علياً (عليه السلام) ناجي رسول الله عشر مرات بعشر كلمات قدمها عشر صدقات، فسأل في الأولي: ما الوفاء؟ قال: التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله.

ثم قال: وما الفساد؟ قال: الكفر والشرك بالله عزوجل.

قال: وما الحق؟ قال: الإسلام والقرآن والولاية إذا انتهت إليك.

قال: وما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة.

قال: وما علي؟ قال: طاعة الله وطاعة رسوله، قال:

وكيف أدعو الله تعالي؟ قال: بالصدق واليقين، قال: وما أسأل الله تعالي؟ قال: العافية.

قال: وماذا أصنع لنجاة نفسي؟ قال: كل حلالاً وقل صدقاً قال: وما السرور؟ قال: الجنة.

قال: وما الراحة؟ قال: لقاء الله تعالي، فلما فرغ نسخ حكم الآية.

قال بعض الأعلام: وأنت إذا تأملت في هذه الكلمات العشر وما فيها من الحكم والخير الكثير التي لا يعطيها الله ولا يؤتيها إلا خاصة خلقه والصالحين من عباده تجد أنها جديرة بأن يبذل بإزائها الدنيا وما فيها، وكيف لا وقد بذل أميرالمؤمنين (عليه السلام) كل ما كان يملك وهو دينار واحد كما استفدنا من الروايات السابقة ليأخذ هذه الكنوز الغالية من الحكم …

الخ وقد ذكرنا فيما مضي نزول قوله تعالي: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله). [67].

أنها نزلت في مبيت علي (عليه السلام) علي فراش رسول الله، وقد ذكر ذلك المفسرون من الشيعة والسنة.

وقد ذكر المفسرون والمحدثون من الفريقين آيات كثيرة نزلت في شأن علي (عليه السلام) وأنه المقصود بها تفسيراً أو تأويلاً بأنه: الشهيد، والشاهد، والمشهود، والذكر والنور والهدي والصادق والمصدق والصديق والفضل والرحمة والنعمة، والذي عنده علم الكتاب، وقد ورد لكل اسم من هذه الأسماء حديث أو أكثر، يصرح بأن علياً (عليه السلام) هو المقصود بذلك الاسم ورعاية للاختصار اكتفينا بالإشارة فقط، ولنا في المستقبل مجال للتحدث عن الآيات القرآنية التي ترتبط بالإمام علي (عليه السلام).

علي والعلم

اشاره

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله فوق حمد الحامدين وصلي الله علي سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

قال الله تعالي في كتابه العزيز: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) [68] لا شك أن العلم فضيلة وكمال، ويعترف البشر بشرفه، ويفضل العالم علي الجاهل بالفطرة لا بالتقليد، وعلي هذا الأساس لم يسكت

الإسلام عن فضيلة العلم والعالم فقد قال الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله): طلب العلم فريضة علي كل مسلم.

والقرآن الكريم يشير إلي مزية العلم وقيمته وكرامته في كثير من الآيات، ويثني علي كل من أوتي العلم نصيباً.

ومن أهم الأسس للوظائف الراقية والمناصب السامية (كالحكم والقضاء) هو العلم بالأحكام الشرعية وتعاليم آداب القضاء والفتوي، ودرجات الإيمان بالله ومعرفته تابعة لمراتب العلم.

ونحن لا نستطيع أن نعرف علم الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) ومدي إيمانه بالله تعالي، لأن الرسول (صلّي الله عليه وآله) قال في حديث صحيح: يا علي لا يعرف الله إلا أنا وأنت، ولا يعرفني إلا الله وأنت، ولا يعرفك إلا الله وأنا.

ولا نستطيع أن نحدد علم الإمام ونحيط به، لأنه من علم رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وعلم رسول الله من الله تعالي، وليس عن طريق الاكتساب والتحصيل بل بالإفاضة من عند الله تعالي، ونجد في القرآن الكريم طائفة كبيرة من الآيات البينات التي تصرح بأن علوم الأنبياء من عند الله تعالي عن طريق الإفاضة والإلقاء في القلب، ومعلوم: أن هذا النوع من العلم لا يشوبه شي ء، ولا مجال للباطل إليه، بل هو الحق الصحيح الصدق المطابق للواقع، وإليكم بعض تلك الآيات: (وقل: رب زدني علماً). [69].

(فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً). [70].

(وزاده بسطة في العلم والجسم). [71].

(وكلاً آتيناه حكماً وعلماً). [72].

(ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً). [73].

(ولقد آتينا داود وسليمان علماً). [74].

(فلما بلغ أشده واستوي آتيناه حكماً وعلماً). [75].

(إني اصطفيتك علي الناس برسالاتي وبكلامي). [76].

(إذ قال الله يا عيسي بن مريم أذكر نعمتي عليك وعلي والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً، وإذ علمتك الكتاب والحكمة). [77].

(وعلم آدم الأسماء كلها).

[78].

(يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك). [79].

(ففهمناه سليمان). [80].

(ذلكما مما علمني ربي). [81].

(وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم). [82].

(وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء). [83].

(وإنه لذو علم لما علمناه). [84].

(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله). [85].

إذا عرفتم ذلك فكيف نستطيع أن نعرف مقياس علوم الإمام ومستوي معارفه وثقافته الإلهية؟ وكيف نتمكن من الإحاطة بعلم باب مدينة علم الرسول (صلّي الله عليه وآله) والتلميذ الأول للرسول الأعظم الذي فرغ رسول الله علومه في صدر الإمام، وعلمه في وجبة واحدة ألف باب من العلم يفتح له من كل باب ألف باب؟.

وما يدري هل آسف علي الإمام الذي ضاع قدره في ذلك العهد فلم يفسح له المجال ليبث للمسلمين شيئاً من علومه الإلهية ومعارفه الربانية؟ أم آسف علي المسلمين الذين حرموا من ذلك المنهل العذب وهم بأمس الحاجة إلي العلم؟ فقد مضي خمس وعشرون سنة وعلي (عليه السلام) جليس بيته مسلوب الإمكانيات مكبوتاً عليه لا يستطيع تنوير العقول بعلومه وتزويد النفوس بمواهبه؟ قد نسمع أن بعض الغربيين يبدي أسفه علي مكتبة الإسكندرية التي حكم عليها بالإحراق، وما ضاعت هناك من علوم وكنوز وأسرار وفنون وصارت طعمة للحريق، فلو كانت تلك العلوم في متناول البشر اليوم وقبل اليوم لكانوا في أرقي درجات الحضارة وأوج العظمة يتصرفون في تلك الكنوز ويعيشون في أوسع فضاء يستنشقون شتي العلوم ويتنعمون بتلك الثروة الفكرية التي كانت تساعدهم في التقدم بصورة مدهشة.

وسبب تأخر المسلمين خاصة والبشر عامة في خلال هذه القرون إنما هو من بركات ذلك العمل اللالإنساني!.

إن كان احتراق مكتبة تضم الكتب المتنوعة يوجب التأثر والتألم في نفوس هواة

العلم ورواد الفضيلة مع العلم أن الكتب كانت صامتة لا ينتفع بها الأميون والذين لا يحسنون لغة تلك الكتب، فإن تجميد شخصية قد تمثلت وتجمعت فيها دوائر المعارف بكافة أنواعها وجميع أقسامها يؤسف له أكثر وأكثر، أليس من المؤسف أن تعيش أمة من الناس في الظلمات، وعندهم الضياء اللامع والسراج المنير الذي يضي ء لهم الدروب والطرق وهم بأمس الحاجة إليه؟؟ وإذا بجماعة يحاولون إخفاء ذلك الضياء والحيلولة بينه وبين الإضاءة والإشراق، ويعجبهم أن يشاهدوا الناس محرومين عن الاستضاءة بأنوار ذلك القمر، وفعلاً وصلوا إلي ما أرادوا، وحكموا علي المجتمع الإسلامي بالخيبة والحرمان من العلوم الإلهية وكنوز المعارف الربانية، وذلك حينما حكموا علي علي (عليه السلام) بالاعتزال وسلبوه كل نشاط علمي، وضيقوا عليه المجال غاية التضييق خلال خمس وعشرين سنة كما تقدم الكلام.

وبعد أن وجد المجال وعادت إليه الإمكانيات واسترد ما سلب منه، وإذا بالحروب الداخلية والاضطرابات تحط من نشاطه العلمي وتبلبل فكره وتشغل قلبه، وتسلب القرار والاطمئنان من ذلك المجتمع، فينقلب النشاط العلمي إلي طاقة حربية، وتنقلب المعاهد الثقافية إلي معارك دامية ومجازر مشجية وما هنالك من نتائج وخيمة.

بالرغم من هذا كله فقد استطاع الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) أن يرفع أضوأ مشعل للعلم في سماء الثقافة والمعرفة، فهذا كتاب نهج البلاغة وهو جزء من أربعة وعشرين جزءاً من خطب الإمام وكلماته الحكمية ورسائله القيمة، وهذه الكمية هي التي حفظها التاريخ ولا تسأل عن الخطب والعلوم التي ضاعت ولم تلتقطها الأدمغة ولم تسجلها مسجلات التاريخ، فقد روي أن علياً (عليه السلام) خطب في الناس يوماً من بعد صلاة الصبح إلي قبيل الظهر، فكان الإمام يفيض علي الخلائق العلوم بشتي أنواعها طيلة ست ساعات تقريباً.

والآن نذكر لكم ما تيسر من

الأحاديث الواردة حول علوم الإمام ومدي سعة معلوماته الجمة: (في البحار) قال أميرالمؤمنين (عليه السلام): لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل القرآن حتي يزهر إلي الله ولحكمت بين أهل التوراة بالتوراة حتي يزهر إلي الله، ولحكمت بين أهل الإنجيل بالإنجيل حتي يزهر إلي الله، ولحكمت بين أهل الزبور بالزبور حتي يزهر إلي الله، ولولا آية في كتاب الله لأنبأتكم بما يكون حتي تقوم الساعة.

وقال علي (عليه السلام): لأنا أعلم بالتوراة من أهل التوراة وأعلم بالإنجيل من أهل الإنجيل.

عن الأصبغ بن نباتة قال: لما قدم علي (عليه السلام) الكوفة صلي بهم أربعين صباحاً فقرأ بهم: (سبح اسم ربك الأعلي) [86] فقال المنافقون: والله ما يحسن أن يقرأ ابن أبي طالب القرآن، ولو أحسن أن يقرأ لقرأ بنا غير هذه السورة، قال: فبلغه ذلك، فقال ويلهم! إني لأعرف ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، وفصاله من وصاله، وحروفه من معانيه، والله ما حرف نزل علي محمد (صلّي الله عليه وآله) إلا وأنا أعرف فيمن أنزل وفي أي يوم نزل وفي أي موضع نزل، ويلهم أما يقرءون (إن هذا لفي الصحف الأولي صحف إبراهيم وموسي) [87] والله عندي، ورثتها من رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وورثها رسول الله (صلّي الله عليه وآله) من إبراهيم وموسي، ويلهم! والله إني أنا الذي أنزل الله في: (وتعيها أذن واعية) [88] فإنا كنا عند رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فيخبرنا بالوحي، فأعيه ويفوتهم، فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفاً؟.

عن عبابة بن ربعي قال: سمعت علياً (عليه السلام) يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، ألا تسألون من عنده علم المنايا والبلايا والأنساب؟

عن الأصبغ بن نباته، قال: لما بويع أميرالمؤمنين (عليه السلام) بالخلافة خرج إلي المسجد معتماً بعمامة رسول الله (صلّي الله عليه وآله)

لابساً برديه، فصعد المنبر فحمد الله وأثني عليه ووعظ وأنذر، ثم جلس متمكناً وشبك بين أصابعه ووضعها أسفل سرته، ثم قال: يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فإن عندي علم الأولين والآخرين، أما والله لو ثني لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، حتي ينهي كل كتاب من هذه الكتب ويقول: يا رب إن علياً قضي بقضائك.

والله إني لأعلم بالقرآن وتأوليه من كل مدّعِ علمه، ولولا آية في كتاب الله تعالي لأخبرتكم بما يكون إلي يوم القيامة.

ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية لأخبرنكم بوقت نزولها وفيم نزلت، وأنبأتكم بناسخها من منسوخها وخاصها من عامها، ومحكمها من متشابهها، ومكييها من مدنيها والله ما من فئة تضل أو تهدي إلا وأنا أعرف قائدها وسائقها وناعقها إلي يوم القيامة.

قال ابن عباس: علي علم علماً علمه رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ورسول الله (صلّي الله عليه وآله) علمه الله، فعلم النبي صلوات الله عليه وآله من علم الله، وعلم علي من علم النبي (صلّي الله عليه وآله) وعلمي من علم علي (عليه السلام)، وما علمي وعلم أصحاب محمد (صلّي الله عليه وآله) في علم علي إلا كقطرة في سبعة أبحر.

عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قال له: يا أباالحسن إنك لتعجل في الحكم والفصل للشي ء إذا سئلت عنه! قال: فأبرز علي كفه وقال له: كم هذا؟ فقال عمر: خمسة، فقال عجلت: أباحفص؟ قال: لم يخف علي، فقال علي (عليه السلام): وأنا أسرع فيما لا يخفي علي.

قال الصادق (عليه السلام) لابن أبي ليلي: أتقضي بين الناس يا عبد الرحمن؟ قال: نعم يا ابن رسول الله،

قال: بأي شي ء تقضي؟ قال: بكتاب الله.

قال: فما لم تجد، في كتاب الله؟ قال من سنة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وما لم أجده فيهما أخذته عن الصحابة بما اجتمعوا عليه، قال: فإذا اختلفوا فبقول من تأخذ منهم؟ قال: بقول من أردت وأخالف الباقين، قال أبوعبدالله (عليه السلام): ما تقول يوم القيامة إذا رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قال: أي رب إن هذا بلغه عني قول فخالفه؟ قال: وأين خالفت قوله يا ابن رسول الله؟ قال: فبلغك أن رسول الله قال: أقضاكم علي (عليه السلام)؟ قال: نعم، قال: فإذا خالفت قوله ألم تخالف قول رسول الله (صلّي الله عليه وآله)؟ فاصفر وجه ابن أبي ليلي وسكت.

عن الأصبغ بن نباتة وجماعة أن أميرالمؤمنين (عليه السلام) قال بحضرة المهاجرين والأنصار وأشار إلي صدره كيف ملئ علماً لو وجدت له طالباً؟ سلوني قبل أن تفقدوني، هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله (صلّي الله عليه وآله) هذا ما زقني رسول الله (صلّي الله عليه وآله) زقاً، فاسألوني فإن عندي علم الأولين والآخرين أما والله لو ثنيت لي الوسادة..

الخ.

وفي نهج البلاغة: (فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شي ء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا نبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً ويموت موتاً).

وعن سلمان أنه قال (عليه السلام): عندي علم المنايا والبلايا والوصايا والأنساب وفصل الخطاب، ومولد الإسلام ومولد الكفر، وأنا صاحب الميسم، وأنا الفاروق الأكبر، ودولة الدول فسلوني عما يكون إلي يوم القيامة، وعما كان قبلي وعلي عهدي وإلي أن يعبد الله.

علي والخطابة

ألا تري إلي خطبه (عليه السلام) مثل: التوحيد والشقشقية والهداية والملاحم واللؤلؤة والغراء والقاصعة والافتخار والأشباح والدرة اليتيمة والأقاليم والوسيلة والطالوتية والقصبية والسلمانية والناطقة والدامغة والفاضحة، بل

إلي نهج البلاغة عن الشريف الرضي، وكتاب خطب أميرالمؤمنين عن إسماعيل بن مهران السكوني عن زيد بن وهب أيضاً، قال الرضي: كان أميرالمؤمنين (عليه السلام) مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها.

الجاحظ في كتاب الغرة: كتب علي (عليه السلام) إلي معاوية: غرّك عزّك، فصار قصار ذلك ذلك، فاخش فاحش فعلك فعلك تهدا بهدا.

وقال (عليه السلام): (من آمن أمن).

قال ابن أبي الحديد في شرحه علي نهج البلاغة: وأما الفصاحة فهو (عليه السلام) إمام الفصحاء، وسيد البلغاء وعن كلامه قيل: هو (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق) ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة.

قال عبدالحميد بن يحيي: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت.

وقال نباتة: حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب.

ولما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية: (جئتك من عند أعيي الناس) قال له: ويحك! كيف يكون أعيي الناس؟! فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره.

ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة علي أنه لا يجاري في الفصاحة، ولا يباري في البلاغة، وحسبك أنه لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة العُشر ولا نصف العُشر مما دون له، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبوعثمان الجاحظ في مدحه في كتاب (البيان والتبيين) وفي غيره من كتبه.

من خطبة له يذكر فيها بديع خلقة الخفاش

منها: ومن لطائف صنعته وعجائب خلقته ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شي ء ويبسطها الظلام القابض لكل حي.

وكيف عشيت أعينها، عن أن تستمد من الشمس المضيئة نوراً تهتدي به في مذاهبها، وتتصل بعلانية برهان الشمس إلي معارفها، وردعها بتلألؤ ضيائها عن المضي في سبحات إشراقها، وأكنها في مكانها عن الذهاب في بلج ائتلاقها، فهي مسدلة الجفون

بالنهار علي أحداقها، وجاعلة الليل سراجاً تستدل به في التماس أرزاقها.

فلا يرد أبصارها إسداف ظلمته، ولا تمتنع من المضي فيه لغسق دجنته، فإذا ألقت الشمس قناعها، وبدت أوضاح نهارها، ودخل من إشراق نورها علي الضباب في وجارها، أطبقت الأجفان علي مآقيها، وتبلغت بما اكتسبت من في ء ظلم لياليها، فسبحان من جعل الليل لها نهاراً ومعاشاً، والنهار سكناً وقراراً، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلي الطيران كأنها شظايا الآذان، غير ذوان ريش ولا قصب، إلا أنك تري مواضع العروق بينة أعلاماً، لها جناحان لم يرقا فينشقا، ولم يغلظا فيثقلا.

تطير وولدها لاصق بها، لاجئ إليها، يقع إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت.

لا يفارقها حتي تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه.

فسبحان البارئ لكل شي ء علي غير مثال خلا من غيره.

من خطبة له يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس

ابتدعهم خلقاً من حيوان وموات، وساكن وذي حركات.

فأقام من شواهد البينات علي لطيف صنعته وعظيم قدرته ما انقادت له العقول معترفة به..

ومسلمة له.

ونعقت في أسماعنا دلائله علي وحدانيته وما ذرأ من مختلف طيور الأطيار التي أسكنها أخاديد الأرض وخروق فجاجها، ورواسي أعلامها.

من ذات أجنحة مختلفة، وهيئات متباينة، مصرفة في زمام التسخير ومرفرفة بأجنحتها في مخارق الجو المنفسح، والفضاء المنفرج.

كونها بعد أن لم تكن في عجائب صور ظاهرة، وركّبها في حقاق مفاصل محتجبة.

ومنع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو في السماء خفوفاً، وجعله يدف دفيفاً.

ونسقها علي اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته ودقيق صنعته.

فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه.

ومنها مغموس في لون صبغ قد طوق بخلاف ما صبغ به ومن أعجبها خلقاً: الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه، وذنب أطال

مسحبه، إذا درج إلي الأنثي نشره من طيه، وسما به مطلاً علي رأسه كأنه قلع داري عنجه نوتيه.

يختال بألوانه، ويميس بزيفانه، يفضي كأفضاء الديكة، ويؤر بملاحقةِ أرّ الفحول المغتلمة في الضراب.

أحيلك من ذلك علي معاينة، لا كمن يحيل علي ضعيف إسناده.

ولو كان كزعم من يزعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه فتقف في ضفتي جفونه وأن أنثاه تطعم ذلك، ثم تبيض لا من لقاح فحل سوي الدمع المنبجس لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب، تخال قصبه مداري من فضة وما أنبت عليها من عجيب داراته وشموسه خالص العقبان وفلذ الزبرجد فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت جني جني من زهرة كل ربيع.

وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشي الحلل أو كمونق عصب اليمن.

وإن شاكلته بالحلي فهو كفصوص ذات ألوان قد نطقت باللجين المكلل، يمشي مشي المرح المختال، ويتصفح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله وأصابيغ وشاحه، فإذا رمي ببصره إلي قوائمه زقا معولاً بصوت يكاد يبين عن استغاثته، ويشهد بصادق توجعه، لأن قوائمه حمش كقوائم الديكة الخلاسية وقد نجمت من ظنبوب ساقه صيصية خفية وله في موضع العرف قنزعة خضراء موشاة، ومخرج عنقه كالإبريق ومغرزها إلي حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال وكأنه متلفع بمعجر أسحم، إلا أنه يخيل لكثرة مائه وشدة بريقه أن الخضرة الناضرة ممتزجة به.

ومع فتق سمعه خط كمستدق القلم في لون الأقحوان أبيض يقق.

فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق.

وقل صبغ إلا وقد أخذ منه بقسط، وعلاه بكثرة صقاله وبريقه وبصيص ديباجه ورونقه، فهو كالأزاهير المبثوثة لم تربها أمطار ربيع ولا شموس قيظ.

وقد يتحسر من ريشه، ويعري من لباسه، فبسقط تتري، وينبت تباعاً …

فينحت من قصبه انحتات أوراق

الأغصان، ثم يتلاحق نامياً حتي يعود كهيئته قبل سقوطه.

لا يخالف سالف ألوانه، ولا يقع لون في غير مكانه.

وإذا تصفحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة وردية، وتارة خضرة زبرجدية، وأحياناً صفرة عسجدية فكيف تصل إلي صفة هذا عمائق الفطن، أو تبلغه قرائح العقول، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين وأقل أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدركه، والألسنة أن تصفه.

فسبحان الذي بهر العقول عن وصف خلق جلاه للعيون فأدركته محدوداً مكوناً، ومؤلفاً ملوناً.

وأعجز الألسن عن تلخيص صفته، وقعد بها عن تأدية نعته.

وسبحان من أدمج قوائم الذرة والهمجة إلي ما فوقهما من خلق الحيتان والأفيلة.

ووأي علي نفسه أن لا يضطرب شبح مما أولج فيه الروح إلا وجعل الحمام موعده والفناء غايته.

ومنها خطبتان له الأولي خالية من الألف والثانية خالية من النقط

إحداهما بلا ألف والأخري بلا نقطة (الأولي) في المناقب روي الكلبي عن أبي صالح وأبوجعفر بن بابويه قدس سره بإسناده عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) أنه اجتمعت الصحابة فتذاكروا أن الألف أكثر دخولاً في الكلام فارتجل (عليه السلام) الخطبة المونقة وهي:

حمدت من عظمت منته وسبغت نعمته وسبقت رحمته غضبه، وتمت كلمته، ونفذت مشيئته، وبلغت قضيته، حمدته حمد مقر بربوبيته، متخضع لعبوديته، متنصل من خطيئته، متفرد بتوحده، مؤمل منه مغفرة تنجيه يوم يشغل عن فصيلته وبنيه، ونستعينه ونسترشده ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه وشهدت له شهود مخلص موقن، وفردته تفريد مؤمن متيقن، ووحدته توحيد عبد مذعن، ليس له شريك في ملكه ولم يكن له ولي في صنعه، جل عن مشير ووزير، وعن عون ومعين ونصير ونظير علم فستر، وبطن فخبر، وملك فقهر، وعصي فغفر، وحكم فعدل، لم يزل ولن يزول ليس كمثله شي ء وهو بعد كل شي ء، رب معتزز بعزته، متمكن بقوته، متقدس بعلوه متكبر بسموه ليس يدركه بصر،

ولم يحط به نظر، قوي منيع، بصير سميع، رؤوف رحيم عجز عن وصفه من يصفه، وضل عن نعته من يعرفه، قرب فبعد، وبعد فقرب، يجيب دعوة من يدعوه، ويرزقه ويحبوه، ذو لطف خفي، وبطش قوي، ورحمة موسعة، وعقوبة موجعة، رحمته جنة عريضة مونقة، وعقوبته جحيم ممدودة موبقة، وشهدت ببعث محمد رسوله وعبده وصفيه ونبيه ونجيه وحبيبه وخليله، بعثه في خير عصر، وحين فترة، وكفر، رحمة لعبيده ومنه لمزيده، ختم به نبوته، وشيد به حجته، فوعظ، ونصح وبلغ وكدح، رؤوف بكل مؤمن رحيم، رضي ولي زكي، عليه رحمة وتسليم وبركة وتكريم، من رب غفور رحيم قريب مجيب، وصيتكم معشر من حضرني بوصية ربكم وذكرتكم بسنة نبيكم، فعليكم برهبة تسكن قلوبكم، وخشية تذري دموعكم، وتقية تنجيكم قبل يوم يبليكم ويذهلكم، يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته، وخف وزن سيئته ولتكن مسألتكم وتملقكم مسألة ذل وخضوع، وشكر وخشوع، بتوبة ونزع، وندم ورجوع، وليغتنم كل مغتنم منكم صحته قبل سقمه، وشيبته قبل هرمه، وسعته قبل فقره، وفرغته قبل شغله، وحضره قبل سفره، قبل تكبر وتهرم وتسقم، يمله طبيبه ويعرض عنه حبيبه، ويقطع عمره ويتغير عقله، ثم قيل هو موعوك، وجسمه منهوك، ثم جد في نزع شديد، وحضره كل قريب وبعيد، فشخص بصره وطمح نظره، ورشح جبينه وعطف عرينه، وسكن حنينه، وحزنته نفسه، وبكته عرسه، وحفر رمسه، ويتم منه ولده، وتفرق منه عدده، وقسم جمعه، وذهب بصره وسمعه، ومدد وجرد وعري وغسل، ونشف وسجي، وبسط له وهيئ، ونشر عليه كفنه، وشد منه ذقنه، وقمص وعمم، وودع وسلم، وحمل فوق سرير، وصُلي عليه بتكبير، ونقل من دور مزخرفة، وقصور مشيدة، وحجر منجدة، وجعل في ضريح ملحود وضيق مرصود، بملبن منضود،

مسقف بجلمود، وهيل عليه حفره، وحثي عليه قدره وتحقق حضره، ونسي خيره، ورجع عنه وليه، وصفيه ونديمه ونسيبه، وتبدل به قرينه وحبيبه، فهو حشو قبر، ورهين قفر، يسعي بجسمه دود قبره ويسيل صديده من منخره، يسحق برمته لحمه، وينشف دمه ويرم عظمه، حتي يوم حشره.

فنشر من قبره حين ينفخ في صور، ويدعي بحشر ونشور فثم بعثرت قبور، وحصلت سريرة صدور، وجي ء بكل نبي وصديق وشهيد، وتوحد للفصل قدير، بعبده خبير بصير، فكم من زفرة تضنيه، وحسرة تنضيه، في موقف مهول، ومشهد جليل، بين يدي ملك عظيم وبكل صغير وكبير عليم، فحينئذ يلجمه عرقه، ويحصره قلقه، عبرته غير مرحومة، وصرخته غير مسموعة وحجته غير مقبولة، زاول جريدته، ونشر صحيفته، نظر في سوء عمله، وشهدت عليه عينه بنظره، ويده ببطشه، ورجله بخطوه، وفرجه بلمسه، وجلده بمسه، فسلسل جيده، وغلت يده، وسيق فسحب وحده، فورد جهنم بكرب وشدة فظل يعذب في جحيم، ويسقي شربة من حميم، تشوي وجهه وتسلخ جلده، وتضربه زبنيته بمقمع من حديد، ويعود جلده بعد نضجه كجلد جديد، يستغيث فتعرض عنه خزنة جهنم، ويستصرخ فيلبث حقبة يندم، نعوذ برب قدير، من شر كل مصير، ونسأله عفو من رضي عنه، ومغفرة من قبله، فهو ولي مسألتي، ومنجح طلبتي، فمن زحزح عن تعذيب ربه جعل في جنته بعزته وخلد في قصور مشيدة، وملك بحور عين وحفدة، وطيف عليه بكؤوس وسكن حظيرة قدس، وتقلب في نعيم، وسقي من تسنيم، وشرب من عين سلسبيل، ومزج له بزنجبيل، مختم بمسك وعبير، مستديم للملك، مستشعر للسرور، يشرب من خمور في روض مغدق ليس يصدع من شربه، وليس ينزف، هذه منزلة من خشي ربه، وحذر نفسه معصيته، وتلك عقوبة من جحد مشيئته،

وسولت له نفسه معصيته، فهو قول فصل، وحكم عدل، وخبر قصص قص، ووعظ نص، تنزيل من حكيم حميد، نزل به روح قدس مبين، علي قلب نبي مهتد رشيد، صلت عليه رسل سفرة مكرمون بررة، عذت برب عليم رحيم كريم من شر كل عدو لعين رجيم، فليتضرع متضرعكم وليبتهل مبتهلكم ويستغفر كل مربوب منكم لي ولكم وحسبي ربي وحده.

ثم ارتجل الإمام (عليه السلام) خطبة أخري خالية من النقط وهي علي نسختين (الأولي):

الحمد لله الملك المحمود، المالك الودود مصور كل مولود، ومآل كل مطرود، ساطح المهاد وموطد الأطواد، ومرسل الأمطار ومسهل الأوطار، عالم الأسرار ومدركها، ومدمر الأملاك ومهلكها، ومكور الدهور ومكررها، ومورد الأمور ومصدرها، عم سماحه وكمل ركامه، وهمل، وطاوع السؤال والأمل، وأوسع الرمل وأرمل، أحمده حمداً ممدوداً، وأوحده كما وحد الأواه، وهو الله لا إله للأمم سواه ولا صادع لما عدله وسواه أرسل محمداً علماً للإسلام وإماماً للحكام مسدداً للرعاع ومعطل أحكام ودٍّ وسواع، أعلم وعلم، وحكم وأحكم، وأصل الأصول، ومهد وأكد الموعود، وأوعد أوصل الله له الإكرام، وأودع روحه السلام، ورحم آله وأهله الكرام، ما لمع رائل وملع دال، وطلع هلال، وسمع إهلال، اعملوا رعاكم الله أصلح الأعمال واسلكوا مسالك الحلال، واطرحوا الحرام، ودعوه، واسمعوا أمر الله وعوه، وصلوا الأرحام وراعوها وعاصوا الأهواء واردعوها، وصاهروا أهل الصلاح والورع وصارموا رهط اللهو والطمع، ومصاهركم أطهرالأحرار مولداً وأسراهم سؤدداً، وأحلاهم مورداً، وها هو أمكم وحل حرمكم مملكاً عروسكم المكرمه وما مهر لها كما مهر رسول الله أم سلمه، وهو أكرم صهر أودع الأولاد وملك ما أراد وما سها مملكه ولا وهم ولا وكس ملاحمه ولا وصم، اسأل الله حكم أحماد وصاله، ودوام إسعاده، وألهم كلاً إصلاح حاله والأعداد لمآله ومعاده وله

الحمد السرمد والمدح لرسوله أحمد.

(الثانية): في المناقب روي الكلبي عن أبي صالح وأبوجعفر بن بابويه بإسناده عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) أن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ارتجل خطبة أخري من غير النقط التي أولها:

الحمد لله أهل الحمد ومأواه وأوكد الحمد وأحلاه وأسرع الحمد وأسراه وأطهر الحمد وأسماه وأكرم الحمد وأولاه إلي آخرها.

ومنهم الشعراء وهو (عليه السلام) أشعرهم وذكر البلاذري في أنساب الأشراف أن علياً أشعر الصحابة وأفصحهم وأكتبهم.

في تاريخ البلاذري: كان أبوبكر يقول الشعر، وعمر يقول الشعر وعثمان يقول الشعر، وكان علي (عليه السلام) أشعر الثلاثة.

ومنهم الوعاظ وليس لأحد من الأمثال والعبر والمواعظ والزواجر ما له نحو قوله (عليه السلام): (من زرع العدوان حصد الخسران، من ذكر المنية نسي الأمنية، من قعد به العقل قام به الجهل، يا أهل الغرور ما ألهجكم بدار خيرها زهيد، وشرها عتيد، ونعيمها مسلوب، وعزيزها منكوب، ومسالمها محروب، ومالكها مملوك وتراثها متروك؟).

ومنهم الفلاسفة وهو (عليه السلام) أرجحهم، قال (عليه السلام): أنا النقطة أنا الخط، أنا الخط أنا النقطة، أنا النقطة والخط، فقال جماعة: إن القدرة هي الأصل، والجسم حجابه، والصورة حجاب الجسم، لأن النقطة هي الأصل، والخط حجابه ومقامه، والحجاب غير الجسد الناسوتي.

وسئل (عليه السلام) عن العالم العلوي فقال: صور عارية من المواد، عالية عن القوة و الاستعداد، تحلي لها فأشرقت، وطالعها فتلألأت، وألقي في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله، وخلق الإنسان ذا نفس ناطقة.

إن زكاها بالعلم فقد شابهت جواهر أوائل عللها، وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد.

قال ابن سينا: لم يكن شجاعاً فيلسوفاً قط إلا علي (عليه السلام).

قال الشريف الرضي: من سمع كلامه (عليه السلام) لا يشك أنه كلام من قبع في كسر بيت أو انقطع في سفح جبل، لا يسمع إلا حسه،

ولا يري إلا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب، مصلتاً سيفه، فيقطّ الرقاب ويجدل الأبطال، ويعود به ينطف دماً ويقطر مهجاً، وهو مع ذلك زاهد الزهاد وبدل الأبدال، وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه التي جمع بها بين الأضداد.

ومنهم المنجمون وهو (عليه السلام) أكيسهم، قال سعيد بن جبير استقبل أميرالمؤمنين (عليه السلام) دهقان فقال له: يا أميرالمؤمنين تناحست النجوم الطالعات وتناحست السعود بالنحوس فإذا كان مثل هذا اليوم وجب علي الحكيم الاختفاء، ويومك هذا يوم صعب قد اقترن كوكبان، وانفكأ فيه الميزان، وانقدح من برجك النيران، وليس الحرب لك بمكان، فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام): أيها الدهقان، المنبئ بالآثار، المخوف من الأقدار ما كان البارحة صاحب الميزان؟ وفي أي برج كان صاحب السرطان؟ وكم الطالع من الأسد والساعات في الحركات؟ وكم بين السراري والزراري؟ قال: سأنظر في الإسطرلاب فتبسم أميرالمؤمنين (عليه السلام) وقال له: ويلك يا دهقان أنت مسير الثابتات؟ أم كيف تقضي علي الجاريات؟ وأين الأسد من المطالع؟ وما الزهرة من التوابع والجوامع؟ وما دور السراري المحركات؟ وكم قدر شعاع المنيرات؟ وكم التحصيل بالغدوات؟ فقال: لا علم لي بذلك يا أميرالمؤمنين، فقال له: يا دهقان هل نتج علمك أن انتقل بيت ملك الصين، واحترقت دور بالزنج، وخمد بيت نار فارس وانهدمت منارة الهند، وغرقت سرانديب، وانقض حصن الأندلس، ونتج بترك الروم بالرومية؟؟ فخر الدهقان ساجداً فلما أفاق قال أميرالمؤمنين (عليه السلام) ألم أروك من عين التوفيق؟ فقال: بلي، فقال: أنا وصاحبي لا شرقيون ولا غربيون، نحن ناشئة القطب وأعلام الفلك، أما قولك (انقدح من برجك النيران وظهر منه السرطان) فكان الواجب أن تحكم به لي لا علي، أما نوره وضياؤه فعندي، وأما حريقه ولهبه فذهب عني وهذا

مسألة عقيمة احسبها إن كنت حاسباً.

فقال الدهقان: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنك علي ولي الله.

هذا وللإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) آراء ونظريات في التوحيد حول الإلهيات، كالصفات الثبوتية والسلبية، وما يتعلق بذلك وله كلام وبحث دقيق حول العلوم الكونية والطبيعية كالفلك والنجوم والسحاب والرعد والبرق وتكوُّن الأمطار وما شابه من المواضيع المتعلقة بالعالم الأعلي.

وله تحليل جليل حول الإنسان نطفة وجنيناً ورضيعاً ووليداً وشاباً وكهلاً وما يدور في هذا الفلك من علم النفس والفلسفة البشرية، وغير ذلك.

يظهر كل هذا من مطاوي كلماته وخطبه الموجودة في نهج البلاغة وغيره من كتب الحديث.

وتتميماً لهذا البحث نذكر كلام ابن الحديد في هذا الموضوع، قال: وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم، ومن كلامه (عليه السلام) اقتبس، وعنه نقل، وإليه انتهي ومنه ابتدأ.

فإن المعتزلة الذين هم أهل التوحيد والعدل، وأرباب النظر، ومنهم تعلم الناس هذا الفن تلامذته وأصحابه، لأن كبيرهم واصل بن عطا تلميذ أبي هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية، وأبوهاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه (عليه السلام).

وأما الأشعرية فإنهم يضمون إلي أبي الحسن بن أبي بشير الأشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبوعلي أحد مشايخ المعتزلة، فالأشعرية ينتهون بالآخرة إلي أستاذ المعتزلة ومعلمهم، وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام).

وأما الإمامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر.

ومن العلوم: علم الفقه، وهو (عليه السلام) أصله وأساسه، وكل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه، ومستفيد من فقهه.

أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة.

وأما الشافعي فقرأ علي محمد بن الحسن فيرجع فقهه إلي أبي حنيفة، وأبوحنيفة قرأ علي جعفر بن محمد (عليه السلام)، وجعفر قرأ علي أبيه، وينتهي الأمر إلي علي (عليه السلام).

وأما مالك فقرأ علي ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة

علي عكرمة، وقرأ عكرمة علي عبدالله بن عباس، وقرأ عبدالله بن عباس علي علي بن أبي طالب (عليه السلام).

وإن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته علي مالك كان ذلك لك، فهؤلاء الفقهاء الأربعة.

أما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر، وأيضاً فإن فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطاب وابن عباس، وكلاهما أخذ عن علي (عليه السلام).

أما ابن عباس فظاهر، وأما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلي غيره من الصحابة، وقوله غير مرة: لولا علي لهلك عمر وقوله: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبوالحسن، وقوله: لا يفتين أحد في المسجد وعلي حاضر.

فقد عرف بهذا الوجه انتهاء الفقه إليه.

وقد روت العامة والخاصة قوله (صلّي الله عليه وآله) أقضاكم علي والقضاء هو الفقه، فهو إذن أفقههم.

وروي الكل أيضاً أنه (صلّي الله عليه وآله) قال له وقد بعثه إلي اليمن قاضياً: اللهم اهد قلبه، وثبت لسانه.

قال: فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين.

وهو (عليه السلام) الذي أفتي في المرأة التي وضعت لستة أشهر، وهو الذي أفتي به في الحامل الزانية، وهو الذي قال في المنبرية: صار ثمنها تسعاً.

وهذه المسألة لو فكر الفرضي فيها فكراً طويلاً لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب، فما ظنك بمن قاله بديهة واقتضبه ارتجالاً؟ ومن العلوم: علم تفسير القرآن، وعنه أخذ، ومنه فرع، وإذا راجعت إلي كتب التفسير علمت صحة ذلك، لأن أكثره عنه، وعن عبدالله بن عباس، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته وانقطاعه إليه، وأنه تلميذه وخريجه، وقيل له: أين علمك من علم ابن عمك؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلي البحر المحيط …

ومن العلوم: علم النحو والعربية، وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه وأملي علي أبي الأسود

الدؤلي جوامعه وأصوله ومن جملتها: الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف.

ومن جملتها تقسيم الكلمة إلي معرفة ونكرة، وتقسيم وجوه الإعراب إلي الرفع والنصب والجر والجزم، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات، لأن القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر، ولا تنهض بهذا الاستنباط.

علي والفضائل النفسية

اشاره

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله علي نعمائه وصلي الله علي سيدنا محمد سيد أنبيائه وآله سادات أوليائه.

قال الله تعالي في القرآن العظيم: (قل كلٌّ يعمل علي شاكلته). [89].

قال علماء النفس والفلاسفة: إن أعمال الإنسان وأفعاله التي تظهر إلي الوجود إنما هي آثار نفسيته التي تطبع عليها، وانطباعاته التي خامرت روحه عن الوراثة والتربية، فالفضائل بكافة أنواعها وأقسامها، والرذائل بجميع أشكالها وأجناسها ما هي إلا ولائد التربية أو رواسب الوراثة.

وقد ذكرنا في بعض الليالي الماضية بعض جوانب التربية ونتائجها، ولو أردنا الخوض في هذا البحث فاتنا الكلام الأصلي المقصود بيانه في هذه الليلة.

حديثنا الليلة حول الفضائل النفسية التي امتاز بها الإمام (عليه السلام) وإنما وصفنا الفضائل بالنفسية لأن هناك فضائل لا ترتبط بالنفس كالنسب الشريف والجمال والقوة فإنها أمور لا اختيارية، والفضائل النفسية تظهر إلي الوجود بالطوع والاختيار كالجود والعفو والزهد والعبادة وما شاكل ذلك فإنها منبعثة من نفس طاهرة شريفة فاضلة وإلي هذا أشار القرآن الكريم بقوله تعالي: (قل كلٌّ يعمل علي شاكلته) [90] أي قل يا محمد كل واحد من المؤمن والكافر يعمل علي طبيعته وخليقته التي تخلق بها أو علي طريقته وسنته التي اعتادها، وقال الشاعر:

ملكنا فكان العفو منا سجية

فلما ملكتم سال بالدم أبطح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا

فكل إناء بالذي فيه ينضح

وقد مر عليكم الشي ء الكثير القليل مما يتعلق بهذا الإمام العظيم من عوامل التشريف والتأثير في نفسيته الطاهرة (عليه السلام) من حيث الميلاد والمواهب

والمزايا والخصائص والتربية، فأنتجت تلك العوامل الإلهية والنبوية أحسن إنتاج، وجعلت نفس علي مركزاً لانطلاق كل فضيلة وخير فلا عجب إذا كان الإمام (عليه السلام) صوتاً للعدالة الإسلامية ورمزاً للفتوة والمروة ومثالاً للعطف والحنان الأبوي.

وأصحاب النفوس الشريفة تختلف هواياتهم عن غيرهم، فهم دائماً وأبداً يلبون نداء ضميرهم الإنساني، ويستلذون بإسعاف الفقير والمسكين.

ويبتهجون بإشباع البطون الجائعة وإكساء الأجساد العارية وإنقاذ البؤساء من براثن الفاقة، وحيث أنهم أشربوا معرفة الله تعالي وخالط حب الله لحومهم ودماءهم فإن أسعد أوقاتهم وألذها عندهم هي الساعات التي يشتغلون فيها بمناجاة ربهم والخضوع والخشوع أمام عظمة الله تعالي، فلا يملون من العبادة كما لا يمل الحبيب من مكالمة حبيبه.

وجملة أخري لا بأس بالإشارة إليها وهي: أن الإنسان حينما يحس بالنقص في نفسه من حيث العلم أو الفن أو الفضيلة أو القوة أو الجمال أو ما شابه ذلك فإنه يحاول إخفاء ذلك النقص وجبران ذلك العيب عن طريق التزيين والتجميل في الملبس والمسكن وسائر لوازم الحياة ومظاهر الترف، كل ذلك إرضاء لوجدانه وضميره الذي يؤنبه بالنقص، أما أولياء الله فإنهم يحسون بالكمال في أنفسهم، فهم في غني عن ستر النقص عن طريق التجميل والتفنن في الملبس والمأكل والمسكن وما جري مجري ذلك لأنه لا نقص فيهم.

وعلي هذا الأساس كانوا يختارون لأنفسهم البساطة في المعيشة، ويتجلي الزهد في جميع مظاهر حياتهم بدون أي تكلف وتعسف، فلا يشتاقون إلي اختلاف الأطعمة ولا تميل نفوسهم إلي زخارف الحياة وزبرجدها، فإن الإحساس بالكمال يحول بينهم وبين الشعور بالحاجة إلي ما تتهافت عليه نفوس الآخرين من حطام الدنيا.

فإذا قرأنا أو سمعنا عن نبي أو إمام شيئاً من الزهد وعدم الإقبال علي مباهج الحياة فلعله معلول هذه العلة التي

تقدمت.

وسنذكر ما تيسر من الأخبار والأحاديث التي اشتهرت بين أعلام الحديث وحفاظه حول الفضائل النفسية التي أنعم الله بها علي أميرالمؤمنين عليه الصلاة والسلام.

قال ابن أبي الحديد في مقدمته علي شرح نهج البلاغة:

وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل؟ ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله؟ فقد علمت أنه استولي بني أمية علي سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره، والتحريف عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه علي جميع المنابر وتوعدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم ومنعوا من راوية حديث يتضمن له فضيلة أو يرفع له ذكراً، حتي حضروا (منعوا) أن يسمي أحد باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعة وسمواً، وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه وكلما كتم تضوع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة.

وما أقول في رجل تعزي (تنسب) إليه كل فضيلة؟ وتنتمي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبوعذرها وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها.

وكل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفي، وعلي مثاله احتذي …

وإن رجعت إلي الخصائص الخلقية والفضائل النفسية والدينية وجدته ابن جلاها، وطلاع ثناياها.

علي واليقين

في البحار ج 9 قال الإمام الصادق (عليه السلام): كان لعلي غلام اسمه قنبر وكان يحب علياً (عليه السلام) حباً شديداً فإذا خرج علي خرج علي أثره بالسيف فرآه ذات ليلة فقال يا قنبر: ما لك؟ قال: جئت لأمشي خلفك فإن الناس كما تراهم يا أميرالمؤمنين فخفت عليك.

فقال ويحك! أمن أهل السماء تحرسني أم من أهل الأرض؟ قال: بل من أهل الأرض.

قال: إن أهل الأرض لا يستطيعون بي شيئاً إلا أن يأذن الله عزوجل من السماء، فارجع فرجع.

وقيل له (عليه السلام) يوم

صفين احترس يا أميرالمؤمنين فإنا نخشي أن يقتلك هذا اللعين.

فقال (عليه السلام): كفي بالأجل حارساً، ليس أحد من الناس إلا ومعه ملائكة حفظة يحفظونه من أن يتردي في بئر، أو يقع عليه حائط أو يصيبه سوء، فإذا حان أجله خلوا بينه وبين ما يصيبه، فكذلك أنا إذا حان أجلي انبعث أشقاها فخضب هذه بهذه وأشار إلي لحيته وهامته عهداً معهوداً ووعداً غير مكذوب.

علي والحفظ

في البحار ج 9 عن سليم بن قيس قال: سمعت علياً (عليه السلام) يقول ما نزلت علي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبنها بخطي، وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها، ودعا الله عزوجل أن يعلمني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله عزوجل ولا علماً أملاه علي فكتبته، وما ترك شيئاً علمه الله عزوجل من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي وما كان وما يكون من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته، ولم أنس منه حرفاً واحداً، ثم وضع يده علي صدري ودعا الله تبارك وتعالي بأن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكمة ونوراً، ولم أنس من ذلك شيئاً، ولم يفتني من ذلك شي ء لم أكتبه جهلاً وقد أخبرني أن ربي عزوجل قد استجاب لي فيك …

إلي آخره.

علي والتعطف

(في البحار ج 9) عن الإمام الباقر (عليه السلام): رجع علي (عليه السلام) إلي داره في وقت القيظ، فإذا امرأة قاتمة تقول: إن زوجي ظلمني وأخافني وتعدي علي وحلف ليضربني.

فقال: يا أمة الله حتي يبرد النهار ثم أذهب معك إنشاء الله.

فقالت: يشتد غضبه وحرده علي.

فطأطأ رأسه ثم رفعه وهو يقول: لا والله أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، أين منزلك؟ فمضي إلي بابه فوقف فقال: السلام عليكم.

فخرج شاب، فقال علي: يا عبدالله اتق الله فإنك قد أخفتها وأخرجتها، فقال الفتي: وما أنت وذاك والله لأحرقنها لكلامك.

فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام) آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر وتستقبلني بالمنكر وتنكر المعروف، قال: فأقبل الناس من الطرق يقولون: سلام عليكم يا أميرالمؤمنين فسقط الرجل في يديه وقال: يا أميرالمؤمنين: أقلني عثرتي، فوالله لأكونن لها أرضاً تطأني.

فأغمد سيفه فقال: يا أمة الله ادخلي منزلك ولا تلجئي زوجك

إلي مثل هذا وشبهه.

قال أبوالطفيل: رأيت علياً (عليه السلام) يدعو اليتامي فيطعمهم العسل حتي قال بعض أصحابه: لوددت أني كنت يتيماً.

علي والحق

قال الله الحكيم في كتابه الكريم: (وقل جاء الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) [91] وقال تعالي: (أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتبع). [92].

سئل أبوذر عن اختلاف الناس فقال: عليك بكتاب الله والشيخ علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإني سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: (علي مع الحق والحق معه وعلي لسانه، يدور حيث ما دار علي).

وسلم محمد بن أبي بكر يوم الجمل علي عائشة فلم تكلمه فقال: أسألك بالله الذي لا إله إلا هو ألا سمعتك تقولين: ألزم علي بن أبي طالب فإني سمعت رسول الله يقول: (الحق مع علي وعلي مع الحق لا يفترقان حتي يردا علي الحوض)؟ قالت: بلي قد سمعت ذلك منه.

عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أميرالمؤمنين (عليه السلام) يقول: ويل لمن جهل معرفتي ولم يعرف حقي، ألا إن حقي هو حق الله، ألا إن حق الله هو حقي.

علي والغني

(في الكافي) عن عبد الأعلي قال: قلت لأبي عبدالله (الصادق) (عليه السلام)، إن الناس يرون أن لك مالاً كثيراً.

فقال: ما يسوءني ذاك إن أميرالمؤمنين (صلوات الله عليه) مر ذات يوم علي ناس شتي من قريش وعليه قميص مخرق، فقالوا: أصبح علي لا مال له، فسمعها أميرالمؤمنين، فأمر الذي يلي صدقته أن يجمع ثمره ولا يبعث إلي إنسان شيئاً، وأن يوفره، ثم قال: بعه الأول فالأول، واجعلها دراهم ثم اجعلها حيث تجعل التمر فاكبسه معه حيث تري، وقال للذي يقوم عليه: إذا دعوت بالتمر فاصعد وانظر المال فاضربه برجلك كأنك لا تعمد الدراهم حتي تنثرها.

ثم بعث إلي رجل منهم يدعوه، ثم دعي بالتمر فلما صعد ينزل التمر ضرب برجله فانتثرت الدراهم، فقالوا: ما هذا يا أباالحسن؟ فقال: هذا مال من لا مال له، ثم

أمر بذلك المال فقال انظروا أهل كل بيت كنت أبعث إليهم فانظروا ماله وابعثوا إليه.

وذكر ابن أبي الحديد: أن غلة أرضه في ينبع كانت في السنة أربعين ألف دينار فكان يتصدق بها في سبيل الله.

علي والعفو

بعث أميرالمؤمنين إلي لبيد بن عطارد التميمي في كلام بلغه، فمر به إلي أميرالمؤمنين في بني أسد، فقام إليه نعيم بن دجاجة الأسدي فأفلته، فبعث أميرالمؤمنين (عليه السلام) فأتوه به وأمر به أن يضرب فقال له نعيم: إن المقام معك لذل، وإن فراقك لكفر فلما سمع ذلك منه قال: قد عفونا عنك إن الله عزوجل يقول: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) [93] أما قولك: إن المقام معك لذل فسيئة اكتسبتها، وأما قولك: إن فراقك لكفر فحسنة اكتسبتها، فهذه بذه.

علي والحكمة

قال الله تعالي: (من يؤتي الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً). [94].

وقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): (أنا مدينة الحكمة وعلي بابها).

قد ذكر المفسرون للحكمة معاني متعددة وقد فاز الإمام بالحكمة بجميع معانيها وبكافة نواحيها فقد ذكر الطبرسي في تفسير الآية وجوهاً.

1 علم القرآن: ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره حلاله وحرامه.

2 الإصابة في القول والعقل.

3 علم الدين.

4 العلم الذي تعظم منفعته وتجل فائدته.

5 القرآن والفقه.

6 ما أتي الله أنبياءه وأممهم في كتابه وآياته ودلالاته التي يدلهم بها علي معرفتهم به وبدينه.

(عن أمالي الطوسي): قال جابر بن عبدالله الأنصاري: رأيت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أخذ بيد علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يقول: هذا أمير البررة وقاتل الفجرة، منصور من نصره مخذول من خذله.

ثم رفع صوته: أنا مدينة الحكمة وعلي بابها، فمن أراد الحكمة فليأت الباب.

وذكر البغوي في الصحاح: أنا دار الحكمة وعلي بابها.

(في حلية الأولياء): سئل النبي (صلّي الله عليه وآله) عن علي بن أبي طالب فقال: قُسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطي علي (عليه السلام) تسعة أجزاء والناس جزء واحد.

وذكر الغزالي عن النبي (صلّي الله عليه وآله) أنه قال: أنا ميزان الحكمة وعلي لسانها.

علي والزهد

قال عمر بن عبدالعزيز: ما علمنا أحداً كان في هذه الأمة أزهد من علي بن أبي طالب بعد النبي (صلّي الله عليه وآله).

قال (عليه السلام): لقد رقعت مدرعتي هذه حتي استحييت من راقعها.

وفي البحار عن السيد ابن طاووس عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) قال: تزوجت فاطمة (عليهاالسلام) وما كان لي فراش، وصدقتي اليوم لو قسمت علي بني هاشم لوسعتهم.

وقال فيه أنه (عليه السلام): وقف أمواله وكانت غلتها أربعين ألف دينار وباع سيفه وقال: من يشتري سيفي؟ ولو كان عندي عشاء ما بعته! وقال مرة: من يشتري سيفي الفلاني، ولو

كان عندي ثمن إزار ما بعته! قال: قال: وكان يفعل هذا وغلته أربعون ألف دينار من صدقته.

وقال الإمام الباقر (عليه السلام) في زهد علي (عليه السلام) أنه ولي (أيام خلافته) خمس سنين، وما وضع آجرة ولا لبنة علي لبنة ولا أقطع قطيعاً ولا أورث بيضاء ولا حمراء.

عن الزمخشري: إن علياً (عليه السلام) اشتري قميصاً، فقطع ما فضل عن أصابعه ثم قال للرجل: حصه (أي خط كفافه).

عن الأصبغ بن نباته قال علي (عليه السلام) لأهل البصرة: دخلت بلادكم بأشمالي هذه ورحلتي وراحلتي ها هي، فإن أنا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت فإنني من الخائنين.

وفي رواية: يا أهل البصرة ما تنقمون مني إن هذا لمن غزل أهلي؟ وأشار إلي قميصه.

وترصد غداءه عمرو بن حريث، فأتت فضة بجراب مختوم، فأخرج منه خبزاً متغيراً خشناً، فقال عمرو: يا فضة لو نخلت هذا الدقيق وطيّبْتيه قالت: كنت أفعل فنهاني، وكنت أضع في جرابه طعاماً طيباً فختم جرابه، ثم إن أميرالمؤمنين (عليه السلام) فته في قصعة وصب عليه الماء ثم ذر عليه الملح وحسر عن ذراعه، فلما فرغ قال (عليه السلام): يا عمرو لقد حانت هذه ومد يده إلي محاسنه وخسرت هذه أن أدخلها النار من أجل الطعام، وهذا يجزيني.

ورآه عدي بن حاتم وبين يديه شنة فيها قراح ماء وكسرات من خبز شعير وملح، فقال: إني لا أري لك يا أميرالمؤمنين لتظل نهارك طاوياً مجاهداً وبالليل ساهراً مكابداً، ثم يكون هذا فطورك، فقال (عليه السلام):

علل النفس بالقنوع وإلا

طلبت منك فوق ما يكفيها

ونظر علي (عليه السلام) إلي فقير انخرق كُمّ ثوبه فخرق علي (عليه السلام) كُمّ قميصه وألقاه إليه.

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): إن علياً أتي البزازين فقال لرجل: بعني ثوبين.

فقال الرجل: يا أميرالمؤمنين عندي حاجتك فلما عرفه مضي عنه، فوقف علي

غلام، فأخذ ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين فقال: يا قنبر خذ الذي بثلاثة فقال: أنت أولي به، تصعد المنبر، وتخطب الناس فقال: وأنت شاب ولك شره الشباب، وأنا أستحي من ربي أن أتفضل عليك! سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: ألبسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تأكلون.

فلما لبس علي القميص مدّ كُمّ القميص فأمر بقطعه واتخاذه قلانس للفقراء، فقال الغلام: هلم أكفه (أي أخيطه)، قال: دعه كما هو فإن الأمر أسرع من ذلك، فجاء (أبوالغلام) أي (بائع الثوب) وقال: إن ابني لم يعرفك وهذان درهمان ربحهما، فقال: ما كنت لأفعل، قد ماكست وماكسني، واتفقنا علي رضي.

روي ابن عبدالبر المالكي في الاستيعاب بسنده وغيره أن معاوية قال لضرار بن ضمرة: صف لي علياً، قال: اعفني.

قال: لتصفنه.

قال: أما: إذا كان لا بد من وصفه، فإنه: كان بعيد المدي شديد القوي، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس (ويستأنس) بالليل ووحشته وكان غزير الدمعة (العبرة) طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب، (من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن) وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، (وينبئنا إذا استنبأناه) ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخي الليل سدوله وغارت نجومه، قابضاً علي لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وهو يقول: يا دنيا غُري غيري، أبي نعرضت؟ أم إلي تشوقت؟ هيهات! قد بنتك (باينتك) ثلاثة، لا رجعة فيها، فعمرك قصير وخطرك كبير

(حقير) وعيشك حقير، آه! من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.

فبكي معاوية وقال: رحم الله أباالحسن كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها بحجرها فهي لا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها.

وفي المناقب: ثم قام وخرج باكياً فقال معاوية: أما إنكم لو فقدتموني لما كان فيكم من يثني علي هذا الثناء.

فقال بعض من حضر: الصاحب علي قدر صاحبه.

قال ابن أبي الحديد: (وأما الزاهد في الدنيا: فهو سيد الزهاد وبدل الأبدال، وإليه تشد الرحال، وعنده تنفض الأحلاس، ما شبع من طعام قط، وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً).

قال عبدالله بن أبي رافع: دخلت إليه يوم عيد، فقدم جراباً مختوماً، فوجدنا فيه خبز شعير يابساً مرضوضاً، فقدم فأكل فقلت: يا أميرالمؤمنين فكيف تختمه؟ قال: خفت هذين الولدين (الحسنين) أن يلتاه بسمن أو زيت!! وكان ثوبه مرقوعاً بجلد تارة وليف أخري، ونعلاه من ليف، وكان يلبس الكرباس الغليظ، فإذا وجد كمه طويلاً قطعه بشفرة ولم يخطه، فكان لا يزال متساقطاً علي ذراعيه حتي يبقي سدي لا لحمة له!! وكان يأتدم إذا ائتدم (أي يجعل إداماً) بخل أو بملح، فإن ترقي عن ذلك فببعض نبات الأرض فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل، ولا يأكل اللحم إلا قليلاً ويقول: لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوانات.

علي والعفة

في التاسع من البحار نقلاً عن كتاب مناقب ابن شهر آشوب وكتاب الاحتجاج وغيرهما عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) قال: …

وسافرت مع رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وليس له خادم غيري، وكان له لحاف ليس له لحاف غيره، ومعه عائشة وكان رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ينام بيني وبين عائشة ليس علينا لحاف غيره، فإذا قام: إلي صلاة الليل يحط بيده اللحاف من وسطه بيني

وبين عائشة حتي يمس اللحاف الفراش الذي تحتنا.. الخ.

هذا الحديث كما تراه يدل علي شدة ثقة النبي بعلي، وكثرة اختصاصه به واطمئنانه منه، وكثيراً ما تحدث أمثال هذه القضايا في العوائل المحافظة علي الحجاب والغيرة نظراً لنزاهة الأفراد وطهارة القلوب فكيف بالمعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

(في البحار) عن عبدالله بن مسعود قال: خرج رسول الله (صلّي الله عليه وآله) من بيت زينب بنت جحش حتي أتي بيت أم سلمة، وجاء داق ودق الباب، فقال: يا أم سلمة قومي فافتحي له.

قالت: فقلت: ومن هذا يا رسول الله الذي من خطره أن أفتح له الباب؟ وأتلقاه بمعاصمي؟ وقد نزلت في بالأمس آيات من كتاب الله: (يا نساء النبي … ).

فقال: يا أم سلمة إن طاعة الرسول طاعة الله وإن معصية الرسول معصية الله، وإن بالباب لرجلاً ليس بنزق ولا خرق، وما كان ليدخل منزلاً حتي لا يسمع حساً، وهو يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.

فقلت: ففتحت الباب، فأخذ بعضادتي الباب ثم جئت حتي دخلت الخدر، فلما أن لم يسمع وطئ قدمي دخل ثم سلم علي رسول الله ثم قال: يا أم سلمة وأنا من وراء الخدر أتعرفين هذا؟ قلت: نعم هذا علي بن أبي طالب قال: هو أخي، سجيته سجيتي ولحمه من لحمي، ودمه من دمي … الخ.

علي والتواضع

قال سعد بن معاذ لعلي (عليه السلام)، وكان نازلاً عليه: ما منعك أن تخطب إلي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ابنته؟ فقال (عليه السلام) أنا أجترئ أن أخطب إلي رسول الله (صلّي الله عليه وآله)؟ والله لو كانت أمة ما اجترأت عليه.

فحكي سعد مقالته لرسول الله (صلّي الله عليه وآله) وقال له رسول الله: قل له: يفعل.

فإني سأفعل.

قال: فبكي علي حيث قال له سعد، ثم قال (عليه السلام): لقد

سعدت إذ أن جمع الله لي صهره مع قرابته.

وشرف أبي طالب ما قد علمه الناس وهو ابن عم رسول الله لأبيه وأمه.

(في البحار): بالإسناد إلي أبي محمد العسكري (عليه السلام) أنه قال: أعرف الناس بحقوق إخوانه وأشدهم قضاء لها أعظمهم عند الله شأناً، ومن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند الله من الصديقين ومن شيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) حقاً.

ولقد ورد علي أميرالمؤمنين أخوان له مؤمنان: (أب وابن)، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر المجلس، وجلس بين أيديهما: ثم أمر بطعام فأحضر فأكلا منه ثم جاء قنبر بطست وإبريق خشب ومنديل لليبس، وجاء ليصب علي يد الرجل فوثب أميرالمؤمنين وأخذ الإبريق: ليصب علي يد الرجل، فتمرغ الرجل في التراب، وقال: يا أميرالمؤمنين الله يراني وأنت تصب علي يدي؟ قال: اقعد واغسل، فإن الله عزوجل يراك، وأخوك الذي لا يتميز منك ولا ينفصل عنك يخدمك يريد بذلك في خدمته في الجنة مثل أضعاف عدد أهل الدنيا، وعلي حسب ذلك في مماليكه فيها.

فقعد الرجل فقال له علي: أقسمت بعظيم حقي الذي عرفته ونحلته وتواضعك لله حتي جازاك عنه بأن تدنيني لما شرفك به من خدمتي لك لما غسلت مطمئناً، كما كنت تغسل لو كان الصاب عليك قنبراً.

ففعل الرجل ذلك، فلما فرغ ناول الإبريق محمد بن الحنفية وقال: يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت علي يده ولكن الله عزوجل يأبي أن يسوي بين ابن وأبيه، إذا جمعهما مكان، ولكن قد صب الأب علي الأب فليصب الابن علي الابن، فصب محمد بن الحنفية علي الابن.

ثم قال الإمام الحسن بن علي العسكري: فمن اتبع علياً علي ذلك فهو الشيعي حقاً.

عن الإمام الصادق (عليه السلام) كان أميرالمؤمنين (عليه السلام) يحتطب ويستسقي ويكنس، وكانت

فاطمة سلام الله عليها تطحن وتعجن وتخبز.

وإن علياً اشتري تمراً بالكوفة فحمله في طرف ردائه فتبادر الناس إلي حمله، وقالوا: يا أميرالمؤمنين نحن نحمله، فقال (عليه السلام): رب العيال أحق بحمله.

وكان علي (عليه السلام) يحمل التمر والمالح (الملح) بيده ويقول:

لا ينقص الكامل من كماله

ما جر من نفع إلي عياله

وعن زيد بن علي إن علياً كان يمشي في خمسة (مواضع) حافياً، ويعلق نعله بيده اليسري: يوم الفطر، والنحر، والجمعة، وعند العيادة، وتشييع الجنازة، ويقول: إنها مواضع الله وأحب أن أكون فيها حافياً.

وكان (عليه السلام) يمشي في الأسواق وحده وهو إذ ذاك يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ.

علي والحلم

(في البحار) مرت امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام): إن أبصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلك سبب هناتها، فإذا نظر أحدكم إلي امرأة تعجبه فليلمس أو فليمس أهله، فإنما هي امرأة كامرأة، فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه!! فوثب القوم ليقتلوه فقال (عليه السلام): رويداً إنما هو سبٌّ بسبٍّ أو عفو عن ذنب.

قال قنبر: دخلت مع أميرالمؤمنين علي عثمان فأحب الخلوة فأومي إليه (إلي) بالتنحي، فتنحيت غير بعيد، فجعل عثمان يعاتبه وهو مطرق برأسه، وأقبل إليه وقال عثمان: ما لك لا تقول؟ فقال: ليس جوابك إلا ما تكره، وليس لك عندي إلا ما تحب ثم خرج قائلاً:

ولو أنني جاوبته لأمضه

نوافذ قولي واحتضار جوابي

ولكنني أغضي علي مضض الحشا

ولو شئت إقداماً لأنشب نابي

في البحار إن أميرالمؤمنين (عليه السلام) مر بأصحاب التمر فإذا هو بجارية تبكي فقال: يا جارية ما يبكيك؟ فقالت: بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمراً فأتيتهم به فلم يرضوه، فلما أتيته به أبي أن يقبله.

قال (عليه السلام): يا عبدالله: إنها خادم وليس لها أمر،

فاردد إليها درهمها وخذ التمر.

فقام إليه الرجل فلكزه فقال الناس: هذا أميرالمؤمنين.

فربا الرجل واصفر وأخذ التمر ورد إليها درهمها ثم قال: يا أميرالمؤمنين ارض عني.

فقال: ما أرضاني عنك إن أصلحت أمرك، وفي رواية: (إذا وفيت الناس حقوقهم).

ودعي (عليه السلام) غلاماً له مراراً فلم يجبه، فخرج فوجده علي باب البيت فقال: ما حملك علي ترك إجابتي؟ قال: كسلت عن إجابتك وأمنت عقوبتك، فقال: الحمد لله الذي جعلني ممن يأمنه خلقه، امض، فأنت حر لوجه الله.

وكان (عليه السلام) في صلاة الصبح فقرأ ابن الكواء: (ولقد أوحي إليك وإلي الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) [95] فأنصت علي (عليه السلام) تعظيماً للقرآن حتي فرغ من الآية ثم عاد في قراءته ثم أعاد ابن الكواء الآية فأنصت أيضاً.

ثم قرأ فأعاد ابن الكواء فأنصت علي، ثم قرأ: (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) [96] ثم أتم السورة وركع.

(في البحار) عن الأصبغ بن نباتة قال: أمرنا أميرالمؤمنين (عليه السلام) بالمسير إلي المدائن من الكوفة فسرنا يوم الأحد وتخلف عمرو بن حريث في سبعة نفر فخرجوا إلي مكان بالحيرة يسمي (الخورنق) فقالوا: نتنزه فإذا كان يوم الأربعاء خرجنا فلحقنا علياً قبل أن يجتمع (أن يصلي الجمعة) فبينما هم يتغدون إذ خرج عليهم ضب، فصادوه، فأخذه عمرو بن حريث فنصب كفه وقال: بايعوا، هذا أميرالمؤمنين!! فبايعه السبعة وعمرو ثامنهم، فارتحلوا ليلة الأربعاء فقدموا المدائن يوم الجمعة وأميرالمؤمنين يخطب، ولم يفارق بعضهم بعضاً، فكانوا جميعاً حتي نزلوا علي باب المسجد فلما دخلوا نظر إليهم أميرالمؤمنين (عليه السلام) فقال: أيها الناس إن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أسر إلي ألف حديث لكل حديث ألف باب لكل باب ألف مفتاح، وإني سمعت الله جل جلاله يقول:

(يوم ندعو كل أناس بإمامهم) [97] وإني أقسم لكم بالله ليبعثن يوم القيامة ثمانية نفر يدعون بإمامهم وهو ضب، ولو شئت أن أسميهم لفعلت! قال: فلقد رأيت عمرو بن حريث قد سقط كما سقط السعف حياء ولوماً وجبناً.

قال ابن أبي الحديد في شرحه: (وأما الحلم والصفح: فكان أحلم الناس عن مذنب، وأصفحهم عن مسي ء وقد ظهرت صحة ما قلنا يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم، وكان أعدي الناس له وأشدهم بغضاً، فصفح عنه.

وكان عبدالله بن الزبير يشتمه علي رؤوس الأشهاد …

وكان علي يقول: ما زال الزبير رجلاً منا أهل البيت حتي شب عبدالله.

فظفر به يوم الجمل فأخذه أسيراً فصفح عنه، وقال: اذهب فلا أرينك.

لم يزده علي ذلك.

وظفر بسعيد بن العاصي بعد وقعة الجمل بمكة، وكان عدواً فأعرض عنه ولم يقل له شيئاً.

وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره، فلما ظفر بها أكرمها وبعث معها إلي المدينة عشرين امرأة من نساء عبدالقيس، عممهن بالعمائم، وقلدهن بالسيوف، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به، وتأففت، وقالت: هتك ستري ورجاله الذين وكلهم بي!! فلما وصلت إلي المدينة ألقت النساء عمائمهن وقلن لها: إنما نحن نسوة.

وحاربه أهل البصرة، وضربوا وجهه، ووجوه أولاده بالسيوف وسبوه ولعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادي مناديه في أقطار العسكر: ألا: لا يتبع مول، ولا يجهز علي جريح، ولا يقتل مستأسر ومن ألقي سلاحه فهو آمن ومن تحيز إلي عسكر الإمام فهو آمن، ولم يأخذ أثقالهم، ولا سبي ذراريهم ولا غنم شيئاً من أموالهم، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل، ولكنه أبي إلا الصفح والعفو.

علي والمواساة

عن أمالي المفيد عن أبي هريرة قال: جاء إلي النبي (صلّي الله عليه

وآله) فشكي إليه الجوع، فبعث رسول الله إلي بيوت أزواجه فقلن: ما عندنا إلا الماء، فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): من لهذا الرجل الليلة؟ فقال علي بن أبي طالب: أنا له يا رسول الله.

وأتي علي فاطمة (عليهاالسلام) فقال لها: ما عندك يا بنت رسول الله؟ فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية نؤثر ضيفنا.

فقال علي (عليه السلام): يا بنت محمد: نومي الصبية وأطفئ المصباح فلما أصبح عدا علي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فأخبره الخبر فلم يبرح حتي أنزل الله عزوجل: (ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون). [98].

وفي رواية: فقال علي: يا بنت محمد: نومي الصبية وأطفئ المصباح.

وجعلا يمضغان بألسنتهما فلما فرغ من الأكل أتت فاطمة بسراج فوجدت الجفنة مملوءة من فضل الله، فلما أصبح صلي مع النبي (صلّي الله عليه وآله) فلما سلم النبي من صلاته نظر إلي أميرالمؤمنين وبكي بكاء شديداً وقال يا أميرالمؤمنين لقد عجب الرب من فعلكم البارحة وقرأ: (ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة … ) [99] الخ.

(عن محمد بن الصمة عن أبيه عن عمه): قال: رأيت في المدينة رجلاً علي ظهره قربة، وفي يده صحفة يقول: اللهم ولي المؤمنين إله المؤمنين وجار المؤمنين، اقبل قرباني الليلة، فما أمسيت أملك سوي ما في صحفتي، وغير ما يواريني، فإنك تعلم أني منعته نفسي مع شدة سغبي أطلب القربة إليك غنماً، اللهم فلا تخلق وجهي ولا ترد دعوتي، فأتيته حتي عرفته فإذا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فأتي رجلاً فأطعمه.

علي والكرم

(في البحار): جاء أعرابي إلي علي فقال: يا أميرالمؤمنين إني مأخوذ بثلاث علل: علة النفس وعلة الفقر وعلة الجهل.

فأجاب أميرالمؤمنين (عليه السلام) وقال: يا أخا العرب: علة النفس تعرض

علي الطبيب وعلة الجهل تعرض علي العالم وعلة الفقر تعرض علي الكريم.

فقال الأعرابي أنت الكريم، وأنت العالم، وأنت الطبيب، فأمر أميرالمؤمنين بأن يعطي له من بيت المال ثلاثة آلاف درهم وقال: تنفق ألفاً بعلة النفس، وألفاً بعلة الجهل، وألفاً بعلة الفقر.

وسأله أعرابي شيئاً فأمر له بألف، فقال الوكيل: من ذهب أو فضة؟ فقال (عليه السلام) كلاهما عندي حجران، فأعط الأعرابي أنفعهما له.

وقال له ابن الزبير: إني وجدت في حساب أبي: أن له علي أبيك ثمانين ألف درهم، فقال له: إن أباك صادق، فقضي ذلك، ثم جاءه فقال: غلطت فيما قلت، إنما كان لوالدك علي والدي ما ذكرته لك فقال: والدك في حل والذي قبضته مني هو لك!! قال الصادق (عليه السلام): إن أميرالمؤمنين (عليه السلام) أعتق ألف نسمة من كد يده، جماعة لا يحصون كثرة.

وقال له رجل ورأي عنده وسق نوي: ما هذا يا أباالحسن؟ قال: مائة ألف نخل إن شاء الله، فغرسه فلم يغادر منه نواة واحدة، فهو من أوقافه ووقف مالاً بخيبر وبوادي القري، ووقف مال أبي نيرز والبغيبغة وأرباحاً وأرينة ورغد ورزيناً ورياحاً علي المؤمنين وأخرج مائة عن بينبع وجعلها للحجيج، وهو باق إلي يومنا هذا وحفر آباراً في طريق مكة والكوفة، وهي مسجد الفتح في المدينة، وعند مقابل قبر حمزة (عليه السلام)، وفي الميقات وفي الكوفة وجامع البصرة وفي عبادان وغير ذلك.

عن أحمد بن أبي المقدام العجلي قال: يروي أن رجلاً جاء إلي علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال له: يا أميرالمؤمنين إن لي إليك حاجة، فقال: اكتبها في الأرض فإني أري الضر فيك بيناً، فكتب في الأرض أنا فقير محتاج، فقال علي (عليه السلام): يا قنبر اكسه حلتين، فأنشأ الرجل يقول:

كسوتني حلة تبلي محاسنها

فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا

إن

نلت حسن ثنائي نلت مكرمة

ولست تبغي بما قد نلته بدلا

إن الثناء ليحيي ذكر صاحبه

كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا

لا تزهد الدهر في عرف بدأت به

فكل عبد سيجزي بالذي فعلا

فقال (عليه السلام): أعطوه مائة دينار، فقيل له: يا أميرالمؤمنين لقد أغنيته.

فقال: إني سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: أنزل الناس منازلهم، ثم قال علي (عليه السلام): إني لأعجب من أقوام يشترون المماليك بأموالهم ولا يشترون الأحرار بمعروفهم.

عن أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله) [100] قال: نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام).

عن أيوب بن عطية الحذاء قال: سمعت أباعبدالله (عليه السلام) يقول: قسم نبي الله الفي ء فأصاب علياً أرض، فاحتفر فيها عيناً فخرج ماء ينبع في السماء كهيئة عنق البعير، فسماها ينبع، فجاء البشير يبشر فقال (عليه السلام) بشر الوارث هي صدقة بتة بتلاء في حجيج بيت الله وعابر سبيل لا تباع ولا تورث، فمن باعها أو وهبها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.

قال ابن أبي الحديد في شرحه، وأما السخاء والجود: فحاله فيه ظاهرة كان يصوم ويطوي، ويؤثر بزاده، وفيه أنزل (ويطعمون الطعام علي حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً) [101] وروي المفسرون: أنه لم يملك إلا أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية، فأنزل فيه: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية). [102].

وروي أنه كان يسقي بيده النخل لقوم من يهود المدينة حتي مجلت يداه، ويتصدق بالأجرة، ويشد علي بطنه حجراً.

قال الشعبي وقد ذكره (عليه السلام): كان أسخي الناس، كان علي الخلق الذي يحبه الله: السخاء والجود، ما قال: لا، لسائل قط.

وقال عدوه ومبغضه الذي يجتهد

في وصمه وعيبه: معاوية بن أبي سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبي (لما قال له: جئتك من عند أبخل الناس): قال ويحك! كيف تقول: إنه أبخل الناس وهو الذي لو ملك بيتاً من تبر وبيتاً من تبن، لأنفد تبره قبل تبنه؟!!

علي والعدل

العدل: ما أحلي هذا الاسم عند النفوس المظلومة، وما أحبه إلي المضطهدين وما أبغضه عند الظالمين الذين يزاحم العدل منافعهم، وأرباحهم.

هذه الكلمة التي تتلهف إليها النفوس وعليها أساس الملك وبها نظام الاجتماع واعتداله، وإنني أعتقد أن أصعب قانون يمكن تطبيقه وتنفيذه في المجتمع هو قانون العدالة!! لاصطدام هذا القانون بنزعات الأقوياء الذين لو كانت العدالة موجودة لما كانوا أقوياء، وهؤلاء في طليعة المكافحين لهذه الفضيلة، والتاريخ والحس والوجدان شواهد علي هذا، ولا أراني بحاجة إلي دليل.

ومن لوازم تطبيق العدالة وتنفيذها قوة الإيمان بالله تعالي والتقوي أولاً، وحزم وعزم فوق كل عاطفة واتجاه ومصانعة ثانياً وعدم الخوف من المشاكل المتوقعة، المحتمل وقوعها ثالثاً.

وقد توفرت هذه المؤهلات كلها في نفسية علي (عليه السلام) فهو الإيمان كله والتقوي المتجسدة، وهو أقوي رجل يستطيع السيطرة علي أعصابه وعواطفه وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو الحق المحض الذي لا يشوبه شي ء، ونستطيع أن نقول: إن تطبع نفسية الإمام (عليه السلام) علي العدالة والتزامه بها بالغاً ما بلغ هو السبب الوحيد الذي فرق عنه ذوي الأطماع والأغراض، وأخاف ذوي المناصب والكنوز التي كانت عصارة دماء المسلمين، وهدد الفسقة الفجرة الذين استوجبوا إقامة الحدود الإلهية وقطع آمال المستغلين وآماني حواشي السلاطين، وغير ذلك من الأمور التي تدرك ولا توصف، فاجتمعت هذه العوامل، وأججت نيران الحروب الداخلية ضد الإمام (عليه السلام).

إذ لولا عدالة علي (عليه السلام) لما ذهب أخوه عقيل إلي معاوية ولولا عدل أبي الحسن

(عليه السلام) لما انضم طلحة والزبير إلي عائشة للمساهمة في تكوين حرب الجمل.

لو كان علي (عليه السلام) ظالماً لأمهل معاوية يتصرف في مقدرات المسلمين وما كانت حرب صفين.

وهكذا وهلم جراً، فإن كانت العدالة نغصت علي علي (عليه السلام) عيشته وسلبته الراحة والاطمئنان، وجرت عليه النوائب فإن التاريخ الصحيح عرف لعلي (عليه السلام) هذه الفضيلة وشكره عليها، وإن كان بعض الشواذ يعتبرون العدالة منافية للسياسة، ويرون الأرجح تقديم السياسة علي الدين عند التعارض، فإن علياً (عليه السلام) يضرب بالسياسة التي تزاحم دين علي (عليه السلام) عرض الجدار ويتبرأ منها.

وهو التلميذ الأول للرسول (صلّي الله عليه وآله) والمعلم الثاني للأمم عبر التاريخ، ولو كان علي (عليه السلام) يمشي وراء السياسة لعرفه التاريخ رجلاً سياسياً فحسب، وما كانت الملوك والعظماء يطأطئون هاماتهم أمام عظمته وينظرون إليه بكل تقدير وتقديس.

نذكر نماذج من تلك العدالة، ولا يسعنا الإسهاب في الكلام لضيق المجال، ولعلنا نستطيع التحدث عن هذه الفضيلة بصورة أوسع في مناسبة أخري إن شاء الله.

دخل عمرو بن العاص علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) ليلة وهو في بيت المال وكان الإمام ينظر في أموال المسلمين وحسابهم ودواوين العطاء وعنده سراج يضي ء بنوره الضئيل، وقد اشتري زيت السراج من بيت المال، لأن السراج عائد لمصالح بيت مال المسلمين.

فلما دخل ابن العاص وأراد أن يتحدث مع الإمام في بعض الشؤون أطفأ الإمام السراج وجلس في ضوء القمر ولم يستحل أن يجلس في الضوء بغير استحقاق!! وبني (عليه السلام) موضعاً تحبس فيه الإبل والغنم الضالة يقال له: (المربد) فكان يعلفها علفاً لا يسمنها ولا يهزلها من بيت المال.

فلمن أقام عليها بينة أخذها، وإلا أقرها علي حالها.

وتظهر الحكمة في تحديد كمية علف الحيوانات، وهي رعاية الحيوان والمحافظة عليه ورعاية بيت المال والاهتمام به.

في الكافي عن

الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: بعث أميرالمؤمنين (عليه السلام) مصدقاً من الكوفة (المصدق: عامل الزكاة التي يستوفيها) إلي باديتها وقال: يا عبدالله: انطلق، وعليك بتقوي الله وحده لا شريك له ولا تؤثرن دنياك علي آخرتك، وكن حافظاً لما ائتمنك عليه، مراعياً لحق الله فيه حتي تأتي نادي بني فلان، فإذا قدمت فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ثم امض إليهم بسكينة ووقار حتي تقدم بينهم وتسلم عليهم ثم قل لهم: يا عباد الله أرسلني إليكم ولي الله لآخذ منكم حق الله في أموالكم فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلي وليه؟ فإن قال قائل لك: لا.

فلا تراجعه، وإن أنعم لك منهم منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو تعده إلا خيراً، فإذا أتيت ماله فلا تدخله إلا بإذنه، فإن أكثره له، فقل: يا عبدالله أتأذن لي في دخول مالك؟ فإن أذن لك فلا تدخله دخول متسلط عليه فيه، ولا عنف به، فاصدع المال صدعين ثم خيّره أي الصدعين شاء، فأيهما اختار فلا تعرض له، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيره فأيهما اختار فلا تعرض له، ولا تزال كذلك حتي يبقي ما فيه وفاء لحق الله تبارك وتعالي في ماله، فإذا قبض يقرأ ذلك فاقبض حق الله منه وإن استقالك فأقله، ثم اخلطهما واصنع مثل الذي صنعت أولاً، حتي تأخذ حق الله في ماله، فإذا قبضته فلا توكل به إلا ناصحاً أميناً حفيظاً غير معنف بشي ء منها، ثم احدر كلما اجتمع عندك من كل ناد إلينا فصيره حيث أمر الله عزوجل، فإذا انحدر فيها رسولك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة وفصيلها ولا يفرق بينهما، ولا يمصرن لبنها فيضر ذلك بفصيلها ولا

يجهد بها ركوباً، وليعدل بينهن في ذلك وليوردهن كل ماء يمر به، ولا يعدل بهن عن ليت الأرض إلي جواد الطريق في الساعة التي فيها تريح وتغبق، وليرفق بهن جهده حتي يأتينا بإذن الله سحاحاً سماناً غير متعبات ولا مجهدات، فنقسمهن بإذن الله علي كتاب الله وسنة نبيه (صلّي الله عليه وآله) علي أولياء الله فإن ذلك أعظم لأجرك وأقرب لرشدك، ينظر الله إليها وإليك وإلي جهدك ونصيحتك لمن بعثك وبعثت في حاجته، فإن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قال: ما ينظر الله إلي ولي له يجهد نفسه بالطاعة والنصيحة له ولإمامه إلا كان معنا في الرفيق الأعلي.

قال: ثن بكي أبوعبدالله (عليه السلام) ثم قال: لا والله ما بقيت لله حرمة إلا انتهكت، ولا عمل بكتاب الله وسنة نبيه في هذا العالم، ولا أقيم في هذا الخلق حد منذ قبض الله أميرالمؤمنين (عليه السلام) ولا عمل بشي ء من الحق إلي يوم الناس هذا، ثم قال: أما والله لا تذهب الأيام والليالي حتي يحيي الله الموتي ويميت الأحياء ويرد الله الحق إلي أهله ويقيم دينه الذي ارتضاه لنفسه ونبيه (صلّي الله عليه وآله)، فابشروا ثم ابشروا ثم ابشروا فوالله ما الحق إلا في أيديكم.

في البحار: روي أن سودة بنت عمارة الهمدانية دخلت علي معاوية بعد موت علي (عليه السلام)، فجعل يؤنبها علي تحريضها عليه أيام صفين، وآل أمره إلي أن قال: ما حاجتك؟ قالت: إن الله مسائلك عن أمرنا وما افترض عليك من حقنا، ولا يزال يتقدم علينا من قبلك من يسمو بمكانك، ويبطش بقوة سلطاتك فيحصدنا حصد السنبل ويدوسنا دوس الحرمل، يسومنا الخسف ويذيقنا الحتف، هذا بسر بن أرطأة قدم علينا فقتل رجالنا، وأخذ أموالنا، ولولا الطاعة لكان

فينا عزة ومنعة، فإن عزلته عنا شكرناك وإلا كفرناك، فقال معاوية: إياي تهددين بقومك يا سودة؟ لقد هممت أن أحملك علي قتب أشوس فأردك إليه فينفذ فيك حكمه، فأطرقت سودة ساعة ثم قالت:

صلي الإله علي روح تضمنها

قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحق لا يبغي به بدلا

فصار بالحق والإيمان مقرونا

فقال معاوية: من هذا يا سودة؟ قالت: هو والله أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) والله لقد جئته في رجل كان قد ولاه صدقاتنا، فجار علينا، فصادفته قائماً يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته ثم أقبل علي برحمة ورفق ورأفة وتعطف، وقال: ألك حاجة؟ قلت: نعم فأخبرته الخبر، فبكي ثم قال: اللهم أنت الشاهد علي وعليهم، وأني لم آمرهم بظلم خلقك، ثم أخرج قطعة جلد فكتب فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم.

قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلك خير لكم إن كنتم مؤمنين، فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتي يقدم عليك من يقبضه منك، والسلام).

ثم دفع الرقعة إلي، فو الله ما ختمها بطين ولا خزنها، فجئت بالرقعة إلي صاحبه فانصرف عنا معزولاً، فقال معاوية: اكتبوا لها كما تريد، واصرفوها إلي بلدها غير شاكية.

علي والعبادة

في الأمالي عن عروة بن الزبير قال: كنا جلوساً في مسجد رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فتذاكرنا أعمال أهل بدر وبيعة الرضوان، فقال أبوالدرداء: يا قوم ألا أخبركم بأقل القوم مالاً وأكثرهم ورعاً وأشدهم اجتهاداً في العبادة؟ قالوا: من؟ قال: أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: فوالله إن كان في جماعة أهل المجلس إلا معرض عنه وجهه، ثم انتدب له رجل من الأنصار فقال له: يا عويمر لقد

تكلمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها، فقال أبوالدرداء: يا قوم إني قائل ما رأيت، وليقل كل قوم منكم ما رأوا، شهدت علي بن أبي طالب (عليه السلام) بشويحطات (أشجار) النجار، وقد اعتزل عن مواليه واختفي ممن يليه واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته وبعُد علي مكانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجي وهو يقول: (إلهي كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك، إلهي إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك) فشغلني الصوت واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعينه فاستترت له وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثم فرغ إلي الدعاء والبكاء والبث والشكوي، فكان مما به الله ناجاه أن قال: (إلهي أفكر في عفوك فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم علي بليتي) ثم قال: (آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه.

فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء) ثم قال: (آه من نار تنضج الأكباد والكلي، آه من نار نزاعة للشوي، آه من غمرة من ملهبات لظي).

قال: ثم انغمر في البكاء فلم أسمع له حساً ولا حركة فقلت غلب عليه النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر، قال أبوالدرداء: فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحركته فلم يتحرك، وزويته فلم ينزو) فقلت: (إنا لله وإنا إليه راجعون) مات والله علي بن أبي طالب.

قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة (عليهاالسلام): يا أباالدرداء ما كان من شأنه ومن قصته؟ فأخبرها الخبر، فقالت هي والله يا

أباالدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله، ثم أتوه بماء فنضحوه علي وجهه فأفاق، ونظر إلي وأنا أبكي، فقال: مما بكاؤك يا أباالدرداء؟ فقلت: ما أراه تنزله بنفسك، فقال: يا أباالدرداء فكيف ولو رأيتني ودعي بي إلي الحساب وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبار قد أسلمني الأحياء ورحمني أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفي عليه خافية، فقال أبوالدرداء: فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله (صلّي الله عليه وآله).

قال ابن أبي الحديد: وأما العبادة: فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوماً، وملازمة للأوراد، وقيام النافلة، وما ظنك برجل يبلغ من محافظته علي ورده: أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فيصلي عليه ورده، والسهام تقع بين يديه، وتمر علي صماخيه يميناً وشمالاً، فلا يرتاع لذلك ولا يقوم حتي يفرغ من وظيفته؟؟ وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده؟ وأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته، ووقفت علي ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله، وما يتضمنه من الخضوع لهيبته والخشوع لعزته، والاستخذاء له عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من أي قلب خرجت، وعلي أي لسان جرت؟؟!! وقيل لعلي بن الحسين (عليه السلام) وكان الغاية في العبادة: أين عبادتك من عبادة جدك؟ قال: عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله (صلّي الله عليه وآله).

علي وطلاقة الوجه مع المهابة

قال ابن أبي الحديد في مقدمته علي شرح النهج: وأما سجاحة الأخلاق وبشر الوجه وطلاقة المحيا والتبسم فهو مضروب به المثل فيه، حتي عابه بذلك أعداؤه، قال عمرو بن العاص لأهل الشام: إنه ذو دعابة شديدة، وقال علي (عليه السلام) في ذلك: عجباً لابن النابغة! يزعم لأهل الشام

أن في دعابة وإني امرؤ تلعابة، أعافس وأمارس.

وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر لقوله لما عزم علي استخلافه: لله أبوك! لولا دعابة فيك.

إلا أن عمر اقتصر عليها وعمرو زاد فيها ونسجها.

قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه: كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدة تواضع، وسهولة قياد.

وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف علي رأسه.

وقال معاوية لقيس بن سعد: رحم الله أباحسن فلقد كان هشاً بشاً، ذا فكاهة، قال قيس: نعم كان رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يمزح ويبتسم إلي أصحابه، وأراك حسواً في ارتغاء وتعيبه، أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوي، تلك هيبة التقوي ليس كما يهابك أهل الشام!!

علي والخصائص

اشاره

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما يجب ويرضي والصلاة علي محمد المصطفي وأخيه المرتضي وآله الأصفياء.

قال الله تبارك وتعالي: (أم يحسدون الناس علي ما آتاهم الله من فضله) [103] كلامنا الليلة حول شي ء يسير من خصائص أميرالمؤمنين (عليه السلام) وفضائله المختصة به، ولا شك أن في الناس من تشمله العناية الإلهية ويساعده التوفيق أو الحظ فتتوفر فيه النعم والمواهب والفضائل فيمتاز عن غيره وتتكون له شخصية بارزة في النفوس يذكر ويشكر عليها.

وفي الوقت نفسه نجد أفراداً حرموا من تلك المواهب لعدم استعدادهم أو عدم توفر الظروف المساعدة لهم، فلا تكون لهم في المجتمع أي وزن وقيمة وكرامة، وهذه الطبقة المسكينة تتكون عندهم عقدة الحقارة النفسية فيحسبون أنفسهم منبوذين لفقدانها المزايا والفضائل، ويشتد شعورهم بالحقارة النفسية فتهون عليهم أنفسهم، وإرضاء لغرائزهم المتكونة من تلك العقدة، يحاولون سلب الخصائص الموجودة عن المنعمين بها، أو انتقاصهم والمس بكرامتهم والتشنيع عليهم إجابة للحسد الذي يحز في صدورهم ولا شك أن

عدد الفاقدين للفضائل أكثر من الواجدين لها، وعلي هذا نري أصحاب النعم والمواهب محسودين وكلما ازدادوا فضيلة ازداد عدد حسادهم!! ولا يقف أمام الحسد شي ء إلا الإيمان بالله والرضي بالتقدير أو السعي والاهتمام في تحصيل تلك المزايا والفضائل الموجودة في المحسود فتحصل المشاركة معه ويزول الاختصاص عنه.

وكان رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وأهل بينه (عليهم السلام) هم المحسودون في كل زمان ومكان للسبب المتقدم ذكره، وقد وردت أحاديث في تفسير الآية التي افتتحنا بها الكلام أن المقصود من (الناس) في قوله تعالي: (أم يحسدون الناس علي ما آتاهم الله من فضله) [104] هم عترة رسول الله (صلّي الله عليه وآله).

ونذكر في هذه الليلة بعض خصائص الإمام (عليه السلام) وقد مر عليكم فيما سبق شي ء من ذلك، ويمكن لنا أن نقول: أن فضائل الإمام (عليه السلام) كلها خصائص منحصرة به لا يشاركه فيها أحد من الناس.

ومن جملة ذلك: حديث رد الشمس لعلي (عليه السلام).

أما الشيعة فلا يشكون في قدرة الله تعالي، ويعتقدون أن الله تعالي هو خالق الشمس، وخالق الشمس قادر علي ردها بعد الغروب، وليس ذلك محالاً عقلاً ولا قدرة وليس من قبيل اجتماع الضدين أو النقيضين، وكذلك لا يشكون في استجابة دعاء النبي (صلّي الله عليه وآله) ومسألته من الله تعالي أن يرد الشمس لعلي (عليه السلام) ليصلي صلاة العصر.

والشيعة يعتقدون أن علياً (عليه السلام) مستجاب الدعوة بالإضافة إلي منزلته الرفيعة ودرجاته العالية عند الله تعالي، وبناء علي هذا يعتقدون صحة هذا الخبر.

أما لفظ الحديث فعن أسماء بنت عميس: أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) صلي الظهر بالصهباء من أرض خيبر، ثم أرسل علياً في حاجة، فجاء وقد صلي رسول الله العصر، فوضع رأسه في حجر علي ولم يحركه حتي غربت الشمس

فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): اللهم إن عبدك علياً احتبس نفسه علي نبيه فرد عليها شرقها.

قالت أسماء: فطلعت الشمس حتي رفعت علي الجبال فقام فتوضأ وصلي العصر ثم غابت الشمس.

أما المحدثون من الشيعة فكلهم متفقون علي هذه الفضيلة وذكروها في كتبهم وموسوعاتهم، ولقد ذكروا أن هذه الفضيلة وقعت مرتين: مرة علي عهد رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ومرة أخري أيام خلافة الإمام (عليه السلام) ومروره علي أرض بابل بالقرب من مدينة الحلة، كما روي ذلك نصر بن مزاحم بإسناده عن عمر قال: حدثني عمر بن عبدالله بن يعلي بن مرة الثقفي عن أبيه عن عبد خير قال: كنت مع علي أسير في أرض بابل وحضرت الصلاة صلاة العصر، قال: فجعلنا لا نأتي مكاناً إلا رأيناه أقبح من الآخر حتي أتينا علي مكان أحسن ما رأينا، وقد كادت الشمس أن تغيب فنزل علي ونزلت معه، فدعا الله فرجعت الشمس كمقدارها من صلاة العصر، فصلينا العصر ثم غابت الشمس … الخ.

وفي علل الشرائع: عن جويرية بن مسهر قال: قطعنا مع أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) جسر الصلاة في وقت العصر، فقال: إن هذه أرض معذبة، لا ينبغي لنبي ولا وصي نبي أن يصلي فيها، فمن أراد منكم أن يصلي فيها فليصل.

فتفرق الناس يمنة ويسرة يصلون، فقلت أنا: والله لأقلدن هذا الرجل صلاتي اليوم، ولا أصلي حتي يصلي.

فسرنا وجعلت الشمس تسفل وجعل يدخلني من ذلك أمر عظيم حتي وجبت (غابت) الشمس، وقطعنا الأرض، فقال: يا جويرية أذّن.

فقلت: تقول أذّن وقد غابت الشمس، فقال: يا جويرية أذّن.

فأذنت ثم قال لي: أقم.

فأقمت فلما قلت: (قد قامت الصلاة) رأيت شفتيه يتحركان، وسمعت كلاماً كأنه كلام العبرانية، فارتفعت الشمس حتي صارت في

مثل وقتها في العصر فصلي، فلما انصرف هوت إلي مكانها واشتبكت النجوم، فقلت: أنا أشهد أنك وصي رسول الله.

فقال يا جويرية أما سمعت الله عزوجل يقول: (فسبح باسم ربك العظيم). [105].

فقلت: بلي.

قال: فإني سألت الله باسمه العظيم فردها علي.

وهنا حديث يجمع بين المرتين اللتين ردت الشمس لعلي (عليه السلام) فيها.

في البحار ج 9 عن إرشاد المفيد: (مما أظهره الله تعالي من الأعلام الباهرة علي يد أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ما استفاضت به الأخبار ورواه علماء السير والآثار ونظمت فيه الشعراء الأشعار، رجوع الشمس له (عليه السلام) مرتين: في حياة النبي (صلّي الله عليه وآله) مرة وبعد وفاته (صلّي الله عليه وآله) أخري، وكان من حديث رجوعها عليه في المرة الأولي ما روته أسماء بنت عميس وأم سلمة زوجة النبي (صلّي الله عليه وآله) وجابر بن عبدالله الأنصاري وأبوسعيد الخدري في جماعة من الصحابة أن النبي (صلّي الله عليه وآله) كان ذات يوم في منزله وعلي (عليه السلام) بين يديه إذ جاءه جبرائيل (عليه السلام) يناجيه عن الله سبحانه، فلما تغشاه الوحي توسد فخذ أميرالمؤمنين (عليه السلام) فلم يرفع رأسه عنه حتي غربت العصر، فصلي أميرالمؤمنين (عليه السلام) جالساً يومئ بركوعه وسجوده إيماء، فلما أفاق من غشيته (صلّي الله عليه وآله) قال لأميرالمؤمنين (عليه السلام): أفاتتك صلاة العصر؟ قال: لم أستطع أن أصليها قائماً لمكانك يا رسول الله والحال التي كنت عليها في استماع الوحي، فقال له ادع الله حتي يرد عليك الشمس لتصليها قائماً في وقتها كما فاتتك فإن الله تعالي يجيبك بطاعتك لله ورسوله، فسأل أميرالمؤمنين (عليه السلام) الله في رد الشمس، فردت حتي صارت في موضعها من السماء وقت صلاة العصر، فصلي أميرالمؤمنين (عليه السلام) صلاة العصر في وقتها ثم غربت.

وكان رجوعها بعد

النبي (صلّي الله عليه وآله) أنه لما أراد أن يعبر الفرات ببابل اشتغل كثير من أصحابه بتعبير دوابهم ورحالهم، فصلي (عليه السلام) بنفسه في طائفة معه العصر فلم يفرغ الناس من عبورهم حتي غربت الشمس وفاتت الصلاة كثيراً منهم، وفات الجمهور فضل الاجتماع معه، فتكلموا في ذلك، فلما سمع كلامهم فيه سأل الله تعالي أن يرد الشمس عليه ليجتمع كافة أصحابه علي صلاة العصر في وقتها، فأجابه الله تعالي في ردها عليه وكانت في الأفق علي الحال التي تكون عليه وقت العصر، فلما سلم القوم غابت الشمس فأكثروا من التسبيح والتهليل والاستغفار والحمد لله علي النعمة التي ظهرت فيهم، وسار خبر ذلك في الآفاق وانتشر ذكره في الناس.

رواة حديث رد الشمس لعلي (عليه السلام) من علماء العامة هم:

1 أبوبكر الوراق، له كتاب: (من روي رد الشمس).

2 أبوالحسن شاذان الفضيلي، له رسالة.

3 الحافظ أبوالفتح محمد بن حسين الأزدي الموصلي، له كتاب مفرد فيه.

4 أبوالقاسم الحاكم ابن الحداد الحسكاني النيسابوري الحنفي له رسالة (مسألة في تصحيح رد الشمس).

5 أبوعبدالله الجعل الحسين بن علي البصري ثم البغدادي له كتاب: (جواز رد الشمس).

6 أخطب خوارزم أبوالمؤيد موفق بن أحمد له كتاب: (رد الشمس لأميرالمؤمنين).

7 أبوعلي الشريف محمد بن أسعد بن المعمر الحسني النقيب النسابة له جزء في جمع (طرق حديث رد الشمس) لعلي (عليه السلام).

8 أبوعبدالله محمد بن يوسف الدمشقي الصالحي له جزء (مزيل اللبس عن حديث رد الشمس).

9 الحافظ جلال الدين السيوطي له رسالة في الحديث أسماها (كشف اللبس عن حديث رد الشمس).

10 الحافظ أبوالحسن عثمان بن أبي شيبة العبسي الكوفي رواه في سننه.

11 الحافظ أبوجعفر أحمد بن صالح المصري.

12 محمد بن الحسين الأزدي ذكره في كتابه في (مناقب علي).

13 الحافظ أبوبشر محمد

بن أحمد الدولابي أخرجه في كتابه الذرية الطاهرة.

14 الحافظ أبوجعفر أحمد بن محمد الطحاوي في (مشكل الآثار).

15 الحافظ أبوجعفر محمد بن عمرو العقيلي.

16 الحافظ أبوالقاسم الطبراني رواه في (معجمه الكبير).

17 الحاكم أبوحفص عمر بن أحمد الشهير بابن شاهين ذكره في (مسنده الكبير).

18 الحاكم أبوعبدالله النيسابوري رواه في تاريخ (نيسابور).

19 الحافظ ابن مردويه الأصبهاني أخرجه في (المناقب).

20 أبوإسحاق الثعلبي رواه في (تفسيره).

21 الفقيه أبوالحسن علي بن حبيب البصري البغدادي الشافعي عده من أعلام النبوة في كتابه (أعلام النبوة).

22 الحافظ أبوبكر البيهقي رواه في (الدلائل).

23 الحافظ الخطيب البغدادي ذكره في (تلخيص المتشابه).

24 الحافظ أبوزكريا الأصبهاني الشهير بابن مندة أخرجه في كتابه (المعرفة).

25 الحافظ القاضي عياض أبوالفضل المالكي الأندلسي رواه في كتابه (الشفاء).

26 أخطب الخطباء الخوارزمي رواه (في المناقب).

27 الحافظ أبوالفتح النطنزي رواه في (الخصائص العلوية).

28 أبوالمظفر يوسف قزأوغلي الحنفي رواه في (التذكرة).

29 الحافظ أبوعبدالله محمد بن يوسف الكنجي الشافعي، جعل في كتابه (كفاية الطالب) فصلاً في حديث رد الشمس لعلي (عليه السلام).

30 أبوعبدالله شمس الدين محمد بن أحمد الأنصاري الأندلسي ذكره في كتابه (التذكرة بأحوال الموتي وأمور الآخرة).

31 شيخ الإسلام الحمويني رواه في (فرائد السمطين).

32 الحافظ ولي الدين أبوزرعة العراقي أخرجه في (طرح التثريب).

33 الإمام أبوالربيع سليمان السبتي الشهير بابن سبع ذكره في كتابه (شفاء الصدور).

34 الحافظ ابن حجر العسقلاني ذكره في (فتح الباري).

35 الإمام العيني الحنفي ذكره في (عمدة القاري).

36 الحافظ السيوطي رواه في (جمع الجوامع).

37 نور الدين السمهودي الشافعي ذكره في (وفاء الوفاء).

38 الحافظ أبوالعباس القسطلاني ذكره في (المواهب اللدنية).

39 الحافظ ابن ربيع رواه في (تمييز الطيب من الخبيث).

40 السيد عبدالرحيم بن عبدالرحمن العباسي ذكره في (معاهد التنصيص).

41 الحافظ شهاب الدين ابن حجر الهيثمي عده في (الصواعق).

42 الملا علي القارئ

ذكره في (المرقاة).

43 نور الدين الحلبي الشافعي رواه في (السيرة النبوية).

44 شهاب الدين الخفاجي الحنفي ذكره في (شرح الشفا).

45 أبوالعرفان الشيخ برهان الدين إبراهيم بن حسن شهاب الدين الكردي الكوراني ذكره في كتابه (الأمم لإيقاظ الهمم).

46 أبوعبدالله الزرقاني المالكي صححه في (شرح المواهب).

47 شمس الدين الحنفي الشافعي ذكره في تعليقه علي (الجامع الصغير) للسيوطي.

48 ميرزا محمد البدخشي ذكره في (نزل الأبرار).

49 الشيخ محمد الصبان عده في (إسعاف الراغبين).

50 الشيخ محمد أمين بن عمر الشهير بابن عابدين الدمشقي إمام الحنفية في عصره ذكره في (حاشيته).

51 السيد أحمد زيني دحلان الشافعي ذكره في (السيرة النبوية) هامش (السيرة الحلبية).

52 السيد محمد مؤمن الشبلنجي عده (في نور الأبصار).

اقتطفنا هذه المصادر من كتاب (الغدير ج3) لشيخنا الأميني رحمه الله.

هذا وللشعراء دور هام في الإشادة بهذه الفضيلة أعرضنا عن سرد قصائدهم رعاية للاختصار.

خبر الطائر المشوي

في احتجاج الطبرسي: عن الإمام الصادق عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: كنت أنا ورسول الله (صلّي الله عليه وآله) في المسجد بعد أن صلي الفجر، ثم نهض ونهضت معه، وكان إذا أراد أن يتجه إلي موضع أعلمني بذلك فكان إذا أبطأ في الموضع صرت إليه لأعرف خبره، لأنه لا يتقار (لا يسكن) قلبي علي فراقه ساعة واحدة، فقال لي: إنه متجه إلي بيت عائشة.

فمضي ومضيت إلي بيت فاطمة (عليهاالسلام) فلم أزل مع الحسن والحسين، وهي وأنا مسروران بهما، ثم إني نهضت وصرت إلي باب عائشة فطرقت الباب فقالت لي عائشة: من هذا؟ فقلت لها: أنا علي، فقالت: إن النبي راقد، فانصرفت، ثم قلت: النبي راقد وعائشة في الدار؟! فرجعت وطرقت الباب فقالت لي عائشة: من هذا؟ فقلت أنا علي.

فقالت: إن النبي علي حاجة، فانثنيت (انصرفت) مستحيياً من دقي

الباب، ووجدت في صدري ما لا أستطيع عليه صبراً، فرجعت مسرعاً فدققت الباب دقاً عنيفاً فقالت لي عائشة: من هذا؟ قلت: أنا علي، فسمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول لها: يا عائشة افتحي له الباب، ففتحت فدخلت فقال لي: اقعد يا أباالحسن، أحدثك بما أنا فيه أو تحدثني بإبطائك عني، فقلت: يا رسول الله حدثني، فإن حديثك أحسن.

فقال: يا أباالحسن كنت في أمر كتمته من ألم الجوع، فلما دخلت بيت عائشة وأطلت القعود ليس عندها شي ء تأتي به مددت يدي وسألت الله القريب المجيب، فهبط علي حبيبي جبرائيل ومعه هذا الطير ووضع إصبعه علي طائر بين يديه فقال جبرائيل: إن الله عزوجل أوحي إلي أن آخذ هذا الطير وهو أطيب طعام في الجنة فآتيك به يا محمد.

فحمدت الله كثيراً، وعرج جبرائيل فرفعت يدي إلي السماء فقلت: اللهم يسر عبداً يحبك ويحبني يأكل معي من هذا الطائر، فمكثت ملياً فلم أر أحداً يطرق الباب، فرفعت يدي، ثم قلت: اللهم يسر عبداً يحبك ويحبني وتحبه وأحبه يأكل معي من الطائر، فسمعت طرقك للباب، وارتفاع صوتك فقلت لعائشة: أدخلي علياً، فدخلت، فلم أزل حامداً لله حتي بلغت إلي إذ كنت تحب الله وتحبني، ويحبك الله وأحبك فكل يا علي.

فلما أكلت أنا والنبي الطائر قال لي: يا علي حدثني، فقلت: يا رسول الله لم أزل منذ فارقتك أنا وفاطمة والحسن والحسين مسرورين جميعاً، ثم نهضت أريدك، فجئت فطرقت الباب، فقالت لي عائشة: من هذا؟ فقلت: أنا علي.

فقالت: إن النبي راقد.

فانصرفت، فلما أن صرت إلي الطريق الذي سلكته رجعت فقلت: إن النبي راقد وعائشة في الدار؟ لا يكون هذا!! فجئت فطرقت الباب فقالت لي: من هذا؟ فقلت: أنا علي.

فقالت: النبي علي

حاجة فانصرفت مستحيياً.

فلما انتهيت إلي الموضع الذي رجعت منه أول مرة وجدت في قلبي ما لا أستطيع عليه صبراً، وقلت: النبي علي حاجة وعائشة في الدار؟ فرجعت فدققت الباب الذي سمعته يا رسول الله، فسمعتك يا رسول الله تقول لها: أدخلي علياً.

فقال النبي (صلّي الله عليه وآله): أبي الله إلا أن يكون الأمر هكذا، يا حميراء ما حملك علي هذا؟ فقالت: يا رسول الله اشتهيت أن يكون أبي يأكل من هذا الطير …

الخ.

في مناقب ابن شهر آشوب: روي حديث الطير جماعة منهم: الترمذي في جامعه، وأبونعيم في حلية الأولياء، والبلاذري في تاريخه، والخركوشي في شرف المصطفي، والسمعاني في فضائل الصحابة، والطبري في الولاية، وابن البيع في الصحيح، وأبويعلي في المسند، وأحمد في الفضائل والنطنزي في الاختصاص.

وقد رواه محمد بن يحيي الأزدي، وسعيد والمازني وابن شاهين والسدي، وأبوبكر البيهقي، ومالك وإسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة وعبدالملك بن عمير، ومسعر بن كدام، وداوود بن علي بن عبدالله بن عباس وأبوحاتم الرازي بأسانيدهم عن أنس وابن عباس وأم أيمن.

ورواه ابن بطة في الإبانة من طريقين، والخطيب وأبوبكر في تاريخ بغداد من سبعة طرق.

وقد صنف أحمد بن محمد بن سعيد كتاب الطير، وقال القاضي أحمد: قد صح عندي حديث الطير.

وقال أبوعبدالله البصري، إن طريقة أبي عبدالله الجبائي في تصحيح الأخبار تقتضي القول بصحة هذا الخبر لإيراده يوم الشوري فلم ينكر.

قال الشيخ: قد استدل به أميرالمؤمنين (عليه السلام) علي فضله في قصة الشوري بمحضر من أهلها، فما كان فيهم إلا من عرفه وأقر به، والعلم بذلك كالعلم بالشوري نفسها، فصار متواتراً، وليس في الأمة علي اختلافها من دفع هذا الخبر.

وحدثني أبوالعزيز كادش العكبري عن أبي طالب الحربي العشاري عن ابن شاهين الواعظ في كتابه: (ما قرب سنده) قال: حدثني نصر بن أبي القاسم الفرائضي،

قال: قال محمد بن عيسي الجوهري قال: قال نعيم بن سالم بن قنبر، قال: قال أنس بن مالك …

الخبر.

وقد أخرجه علي بن إبراهيم في كتابه قرب الإسناد، وقد رواه خمسة وثلاثون رجلاً من الصحابة عن أنس، وعشرة عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقد صح أن الله تعالي والنبي يحبانه، وما صح ذلك لغيره، فيجب الاقتداء به.

ومن نسب خبر الطائر إليه قصر الإمامة عليه.

حديث الطائر بصورة أخري

مجمع الحديث: إن أنس بن مالك تعصب بعصابة، فسئل عنها فقال: هذه دعوة علي، قيل: وكيف ذلك؟ قال: أهدي إلي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) طائر مشوي فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، يأكل معي هذا الطير، فجاء علي فقلت له: رسول الله عنك مشغول، وأحببت أن يكون رجلاً من قومي.

فدعا رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ثانياً، فجاء علي فقلت: رسول الله عنك مشغول، فرفع علي صوته وقال: وما يشغل رسول الله عني؟ وسمعه رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقال: يا أنس من هذا؟ قلت: علي بن أبي طالب.

قال: ائذن له، فلما دخل قال له: يا علي إني قد دعوت الله ثلاث مرات أن يأتيني بأحب خلقه إليه وإلي يأكل معي هذا الطير، ولو لم تجئني في الثالثة لدعوت الله باسمك أن يأتيني بك.

فقال: يا رسول الله إني قد جئت ثلاث مرات، كل ذلك يردني أنس ويقول: رسول الله عنك مشغول، فقال لي رسول الله (صلّي الله عليه وآله): ما حملك علي هذا؟ قلت: أحببت أن يكون رجلاً من قومي، وفي رواية: قال: رجوت أن يكون رجلاً من الأنصار، فقال لي: أو في الأنصار خير من علي؟ أو في الأنصار أفضل من علي؟؟ قال أنس: فلما كان يوم الدار استشهدني علي فكتمته، فقلت إني نسيته، فرفع علي يده

إلي السماء فقال: اللهم ارم أنساً بوضح لا يستره من الناس.

وفي رواية: لا تواريه العمامة.

ثم كشف العمامة عن رأسه فقال: هذه دعوة علي!!.

حديث المنزلة

كانت غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وخرج معه المسلمون الوضيع منهم والشريف، ولم يبق في المدينة إلا النساء والصبيان وعدد من المتخلفين، فأمر النبي (صلّي الله عليه وآله) أن يبقي علي في المدينة يحرس المدينة ومن فيها من عوائل المسلمين، وإليكم التفصيل كما رواه المفيد في الإرشاد قال: لما أراد رسول الله (صلّي الله عليه وآله) الخروج استخلف أميرالمؤمنين (عليه السلام) في أهله وولده وأزواجه ومهاجره، وقال له: يا علي إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، وذلك أنه (صلّي الله عليه وآله) علم من خبث نيات الأعراب وكثير من أهل مكة ومن حولها ممن غزاهم وسفك دماءهم، وأشفق أن يطلبوا المدينة عند نأيه (ابتعاده) عنها، وحصوله ببلاد الروم أو نحوها فمتي لم يكن في المدينة من يقوم مقامه لم يؤمن معرتهم، وإيقاع الفساد في دار هجرته والتخطي إلي ما يشين أهله ومخلفيه، وعلم (صلّي الله عليه وآله) أنه لا يقوم مقامه في إرهاب العدو وحراسة دار الهجرة وحياطة من فيها إلا أميرالمؤمنين (عليه السلام) فاستخلفه استخلافاً ظاهراً، ونص عليه بالإمامة من بعده نصاً جلياً وذلك فيما تظاهرت به الرواة: أن أهل النفاق لما علموا باستخلاف رسول الله (صلّي الله عليه وآله) علياً علي المدينة لذلك، وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه، وعلموا أنها تتحرس به وتتحصن، ولا يكون فيها للعدو مطمع، فساءهم ذلك وكانوا يؤثرون خروجه معه لما يرجونه من وقوع الفساد والاختلاط عند نأي رسول الله عن المدينة وخلوها من مرهوب مخوف يحرسها وغبطوه علي الرفاهية والدعة بمقامه في

أهله، وتكلف من خرج منهم المشاق بالسفر والخطر، فأرجفوا (خاضوا في الأخبار السيئة قصد أن يهيج الناس) به، وقالوا: لم يستخلفه رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إكراماً له وإجلالاً ومودة، وإنما خلفه استثقالاً له، فبهتوا بهذا الإرجاف، كبهت قريش للنبي (صلّي الله عليه وآله) بالجنة (الجنون) تارة وبالشعر أخري وبالسحر مرة وبالكهانة أخري، وهم يعلمون ضد ذلك ونقيضه، كما علم المنافقون ضد ما أرجفوا به علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) وخلافه، وأن النبي كان أخص الناس بأميرالمؤمنين (عليه السلام) وكان هو أحب الناس إليه وأسعدهم عنده وأفضلهم لديه، فلما بلغ أميرالمؤمنين (عليه السلام) إرجاف المنافقين به أراد تكذيبهم وإظهار فضيحتهم، فلحق بالنبي (صلّي الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إن المنافقين يزعمون أنك إنما خلفتني استثقالاً ومقتاً.

فقال له النبي (صلّي الله عليه وآله): ارجع يا أخي إلي مكانك، فإن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، فأنت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي، أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي.

فتضمن هذا القول من رسول الله (صلّي الله عليه وآله) نصه عليه بالإمامة وإبانته من الكافة بالخلافة، ودل به علي فضل لم يشركه فيه أحد سواه، وأوجب له به جميع منازل هارون من موسي إلا ما خصه العرف من الأخوة (في النسب) واستثناه هو من النبوة.

ألا تري أنه (صلّي الله عليه وآله) جعل له كافة منازل هارون من موسي إلا المستثني منه لفظاً وعقلاً.

وقد علم كل من تأمل معاني القرآن وتصفح الروايات والأخبار: أن هارون كان أخا موسي (عليه السلام) لأبيه وأمه، وشريكه في أمره، ووزيره علي نبوته وتبليغه رسالات ربه، وأن الله شد به أزره، وأنه كان خليفته علي قومه، وكان له من

الإمامة عليهم وفرض الطاعة كإمامته وفرض طاعته.

وأنه كان أحب قومه إليه، وأفضلهم لديه، قال الله عزوجل حاكياً عن موسي (عليه السلام): (رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيراً من أهلي، هارون أخي، أشدد به أزري، وأشركه في أمري) [106] فأجاب الله تعالي مسألته، وأعطاه أمنيته، حيث يقول: (قد أوتيت سؤلك يا موسي). [107].

وقال تعالي حاكياً عن موسي: (وقال موسي لأخيه هارون اخلفني في قومي واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين). [108].

فلما جعل رسول الله (صلّي الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) منه بمنزلة هارون من موسي أوجب له بذلك جميع ما عددناه إلا ما خصه العرف من الأخوة في النسب واستثناه من النبوة لفظاً، وهذه فضيلة لم يشركه فيها أحد من الخلق أميرالمؤمنين ولا ساواه في معناها، ولا قاربه فيها علي حال …

الخ.

لا زال ولا يزال بعض المتجاهلين من المسلمين يزعمون أن هذا الحديث غير ثابت في الصحاح ولا معترف به عند الحفاظ وأئمة الحديث.

أو يدعون اختصاص الحديث بيوم تبوك، فيسلبون منه الدلالة علي الخلافة والإمامة العامة المطلقة، ونحن نجيب عن الموضوع الأول: بأن هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة المتواترة عند المسلمين لا يشك فيه ذو دراية بالأحاديث، وإلمام بالروايات، ومعرفة وبصيرة بالأخبار، ولا مجال للمناقشة عند ذي الألباب حول صحة هذا الحديث.

وأما الرواة لهذا الحديث فكثيرون جداً يصعب استيعاب أسمائهم، ونذكر جملة من مشاهير علماء السنة وحفاظهم ورواتهم:

1 الذهبي في تلخيص المستدرك.

2 ابن حجر الهيثمي في الصواعق.

3 صاحب الجمع بين الصحاح الستة.

4 صاحب الجمع بين الصحيحين.

5 البخاري في صحيحه.

6 مسلم في صحيحه.

7 ابن ماجه في سننه.

8 أحمد بن حنبل في مسنده.

9 البزاز في مسنده.

10 الترمذي في صحيحه.

11 ابن عبدالبر في الاستيعاب.

وغيرهم ممن

كتب أو ألف كتاباً في فضائل علي (عليه السلام).

وأما محدثو الشيعة وحفاظهم فلا يشكون في صحة هذا الحديث وشهرته، وهذه كتبهم مشحونة بذكر هذا الحديث بجميع الطرق والأسانيد والمصادر والمدارك.

أما الجواب عن الموضوع الثاني فنقول: إن الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله) قد كرر كلمته الذهبية (حديث المنزلة) في مواقف عديدة ومواطن كثيرة، ذكرها أعلام المسلمين متفقين علي صحتها، وثبوتها واستقامة دلالتها تلك الموارد كما في بشارة المصطفي عن ابن عباس، قال: رأيت حسان بن ثابت واقفاً بمني، والنبي (صلّي الله عليه وآله) وأصحابه مجتمعين، فقال النبي (صلّي الله عليه وآله): هذا علي بن أبي طالب سيد العرب والوصي الأكبر، منزلته مني منزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي لا تقبل التوبة من تائب إلا بحبه.

يا حسان قل فيه شيئاً، فأنشأ حسان بن ثابت يقول:

لا تقبل التوبة من تائب

إلا بحب ابن أبي طالب

أخي رسول الله بل صهره

والصهر لا يعدل بالصاحب

ومن يكن مثل علي وقد

ردت له الشمس من المغرب

رُدت عليه الشمس في ضوئها

بيضاً كأن الشمس لم تغرب

ومن تلك الموارد: حديث رسول الله (صلّي الله عليه وآله) مع أم سليم (أم أنس بن مالك) وكان النبي يزورها ويحدثها في بيتها: يا أم سليم إن علياً لحمه من لحمي ودمه من دمي، وهو مني بمنزلة هارون من موسي …

الخ.

روي ذلك في كنز العمال ومسند أحمد.

ومنها: يوم كان أبوبكر وعمر وأبوعبيدة بن الجراح عند النبي (صلّي الله عليه وآله) وهو متكئ علي علي (عليه السلام) فضرب بيده علي منكبيه ثم قال: يا علي أنت أول المؤمنين إيماناً، وأولهم إسلاماً، وأنت مني بمنزلة هارون من موسي …

الخ.

ومنها: يوم الدار وقد سبق في أول ترجمة حياة أميرالمؤمنين (عليه السلام) ومنها: يوم المؤاخاة الثانية وقد مضي ذكره، وكذلك يوم سد

الأبواب وقد مر كل ذلك فيما سبق.

ولولا خوف الملل لذكرنا المصادر لهذه الأحاديث ويمكن لكم مراجعة كتاب (المراجعات) و(الغدير) وغيرهما من الكتب التي كتبت حول هذا الموضوع.

المواخاة بين النبي وعلي

كل شيئين إذا جمعهما جامع يطلق علي أحدهما: أنه أخو الآخر مثلاً: العربي تجمع العروبة بينه وبين العرب، فيقال للعربي: يا أخا العرب.

والفارسي يشارك الفرس في العنصر فيقال له: يا أخا الفرس.

واليهودية تجمع بين اليهود فيقال لليهودي: يا أخا اليهود، وأفراد القبيلة يجمعهم كونهم من تلك القبيلة فيقال لهم: يا أخا كندة أو يا أخا تميم وهكذا بقية الأديان أو القبائل أو الأشياء التي تجمع بين الأفراد كالمماثلة والمشابهة …

والأخوان الشقيقان أو الأخوان من قبل الأب وحده أو الأم وحدها يقال لهما: أخوان لأن الأب أو الأم أو كلاهما يجمعان الإنسانين وعلي هذا الأساس يقول الله تعالي: (إنما المؤمنون أخوة) [109] أي أن مبدأ الإيمان يجمعهما.

هذه نظرة خاطفة ولمحة موجزة عن الأخوة والإخاء في العرف والقرآن وقد تجتمع هذه العلل كأخوة النسب وأخوة الدين، وأخوة المماثلة في إنسانين فتتقوي أواصر الأخوة فيما بينهما.

روي البلاذري عن ابن عباس وغيره: لما نزل قوله تعالي: (إنما المؤمنون أخوة) [110] آخي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) بين الأشكال والأمثال، فآخي بين أبي بكر وعمر، وبين عثمان وعبدالرحمن، وبين سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد، وبين طلحة والزبير، وبين أبي عبيدة وسعد بن معاذ، وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب الأنصاري، وبين أبي ذر وأبي مسعود، وبين سلمان وحذيفة، وبين حمزة وزيد بن حارثة وبين أبي الدرداء والبلال، وبين جعفر الطيار ومعاذ بن جبل، وبين المقداد وعمار وبين عائشة وحفصة، وبين زينب بنت جحش وميمونة، وبين أم سلمة وصفية حتي آخي بين أصحابه بأجمعهم علي قدر منازلهم ثم قال: (أنت أخي،

وأنا أخوك يا علي): وفي لفظ: قال علي (عليه السلام): يا رسول الله آخيت بين أصحابك وتركتني، فقال: أنت أخي، أما ترضي أن تدعي إذا دعيت، وتكسي إذا كسيت، وتدخل الجنة إذا دخلت؟ قال: بلي يا رسول الله.

وفي رواية مناقب آل أبي طالب: فقال له النبي (صلّي الله عليه وآله): إنما أخرتك لنفسي، أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة.

فبكي علي عند ذلك وقال:

أقيك بنفسي أيها المصطفي الذي

هدانا به الرحمن من عمه الجهل

وأفديك حوبائي وما قدر مهجتي؟

لمن أنتمي منه إلي الفرع والأصل [111].

ومن ضمني مذ كنت طفلاً ويافعاً

وأنعشني بالبر والعل والنهل

ومن جده جدي ومن عمه عمي

ومن أهله أمي ومن بنته أهلي

ومن حين آخي بين من كان حاضراً

دعاني وآخاني وبين من فضلي

لك الفضل إني ما حييت لشاكر

لإتمام ما أوليت يا خاتم الرسل

وقال: أنا أخو المصطفي لا شك في نسبي

معه ربيت وسبطاه هما ولدي

وقال: محمد النبي أخي وصنوي

وحمزة سيد الشهداء عمي

ولا شك أن هذه الأخوة ليست نسبية، إذ لم يكونا أخوين من النسب تحقيقاً وإنما قال ذلك فيه إبانة لمنزلته وفضله وإمامته علي سائر المسلمين، لئلا يتقدمه أحد منهم، ولا يتآمر عليه بعد ما آخي بينهم أجمعين: الأشكال، وجعله شكلاً لنفسه، ولهذا كان علي (عليه السلام) يفتخر بهذه المنقبة والفضيلة لما فيه من علو الرتبة وسمو المنزلة، وشدة الاختصاص بالنبي، وكان علي (عليه السلام) يقول: أنا عبدالله وأخو رسول الله، وأنا الصديق الأكبر والفاروق الأعظم، لا يقوله غيري إلا كذاب.

إن كثرة النصوص الواردة حول هذه الفضيلة وتواترها لا تبقي مجالاً للشك والريب، وقد ذكرها طائفة كبيرة من علماء السنة وحفاظهم، وتطرق إلي ذلك الشعراء في نظمهم وقريضهم لم نذكرها رعاية للاختصار.

مصادر حديث المواخاة بين رسول الله وعلي

وهي خمسون مصدراً:

1 جامع الترمذي 2 ص 213.

2 مصابيح البغوي 2 ص 199.

3

مستدرك الحاكم 3 ص14.

4 الاستيعاب2 ص 460.

5 تيسير الوصول 3 ص 271.

6 مشكاة المصابيح هامش المرقاة 5 ص 569.

7 الرياض النضرة 2 ص 167 وفي ص 212.

8 الفصول المهمة ص 22 و 29.

9 تذكرة السبط ص 13 و 15.

10 كفاية الكنجي ص 82.

11 السيرة النبوية لابن سيد الناس 1 ص 200 و 203.

12 تاريخ ابن كثير 7 ص 335.

13 أسني المطالب للجزري ص 9.

14 مطالب السؤول ص 18.

15 الصواعق ص 73 و 75.

16 تاريخ الخلفاء ص 114.

17 الإصابة 2 ص 507.

18 المواقف 3 ص 276.

19 شرح المواهب 1 ص 373.

20 طبقات الشعراني 2 ص 55.

21 تاريخ القرماني هامش الكامل 1 ص 216.

22 السيرة الحلبية 1 ص 23 و 101.

23 السيرة النبوية لزيني دحلان 1 ص 325.

24 كفاية الشنقيطي ص 34.

25 الإمام علي بن أبي طالب للأستاذ محمد رضا ص 21.

26 الإمام علي بن أبي طالب للأستاذ عبدالفتاح عبدالمقصود قاله في ص 73.

27 الرياض النضرة 2 ص 209.

28 تاريخ ابن عساكر 6 ص 201.

29 كنز العمال 6 ص 390.

30 تاريخ ابن هشام 2 ص 123.

31 الفتاوي الحديثية ص 42.

32 تاريخ الخطيب 12 ص 268.

33 مسند أحمد 1 ص 230.

34 الإمتاع للمقريزي ص 340.

35 المحاسن والمساوئ 1 ص 31.

36 مجمع الزوائد 9 ص 111.

37 مناقب الخوارزمي ص 87.

38 شمس الأخيار ص 35.

39 فيض القدير 4 ص 355.

40 مصباح الظلام 2 ص 56.

41 حلية الأولياء 1 ص 67.

42 شرح ابن أبي الحديد 2 ص 449.

43 فرائد السمطين في الباب 30 و 50.

44 نزهة المجالس 2 ص 241.

45 ذخائر العقبي ص 91.

46 تاريخ بغداد 11 ص 112.

47 خصائص النسائي ص 32.

48 سنن ابن ماجه 1 ص 57.

49 العقد الفريد ص 275.

50 تاريخ الطبري 312.

سورة براءة

لما نزلت

هذه السورة علي النبي محمد (صلّي الله عليه وآله) أمر رسول الله أبابكر أن يذهب إلي مكة ويقرأها علي الناس، وفي رواية: يقرأ عشر آيات من أول هذه السورة، وأن ينبذ إلي كل ذي عهد عهده، فلما وصل أبوبكر إلي ذي الحلفية نزل جبرائيل علي النبي وقال: لا يبلغ عنك إلا علي.

فدعا رسول الله علياً وأمره أن يركب ناقته العضباء، وأمره أن يلحق أبابكر ويأخذ منه سورة براءة ويقرأها علي الناس بمكة، فأدرك علي أبابكر فلما رآه أبوبكر فزع من لحوقه به واستقبله فقال: فيم جئت يا أباالحسن؟ أسائر أنت معي أم لغير ذلك؟ فقال علي: إن رسول الله أمرني أن ألحقك فأقبض منك الآيات من براءة وأنبذ بها عهد المشركين إليهم، وأمرني أن أخيرك بين أن تسير معي أو ترجع إليه، فقال: بل أرجع إليه وعاد إلي النبي (صلّي الله عليه وآله) فلما دخل عليه قال: يا رسول الله إنك أهلتني لأمر طالت الأعناق إلي فيه، فلما توجهت إليه رددتني عنه، ما لي أنزل في قرآن؟ فقال له النبي (صلّي الله عليه وآله): لا، ولكن الأمين جبرائيل (عليه السلام) هبط إلي عن الله عزوجل بأنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، وعلي مني، ولا يؤدي عني إلا علي.

قال المقريزي في الإمتاع: بأن العرب كان إذا تحالف سيدهم أو رئيسهم لم ينقض ذلك إلا الذي يحالف أو أقرب الناس قرابة منه، وكان علي رضي الله عنه هو الذي عاهد المشركين فلذلك بعثه (صلّي الله عليه وآله) ببراءة.

وذكر أبوعبدالله الحافظ بإسناده عن زيد بن نقيع قال: سألنا علياً بأي شي ء بعثت في ذي الحجة؟ قال بعثت بأربعة: لا تدخل الكعبة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع

مؤمن وكافر في المسجد الحرام بعد عامه هذا، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلي مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر.

وروي أنه (عليه السلام) قام عند جمرة العقبة وقال: يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم بأن لا يدخل البيت كافر، ولا يحج البيت مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فله عهده إلي أربعة أشهر، ومن لا عهد له فله مدة بقية الأشهر الحرم، وقرأ عليهم سورة براءة، وقيل: قرأ عليهم ثلاث عشرة آية من أول براءة، وروي أنه (عليه السلام) لما نادي فيهم: (إن الله بري ء من المشركين). [112].

قال المشركون: نحن نتبرأ من عهدك وعهد ابن عمك.

وهذه صور أخري:

في البحار عن الإمام الباقر (عليه السلام): لما سرح رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أبابكر بأول سورة براءة إلي أهل مكة أتاه جبرائيل (عليه السلام) فقال: يا محمد إن الله يأمرك أن لا تبعث هذا وأن تبعث علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وإنه لا يؤديها عنك غيره، فأمر النبي (صلّي الله عليه وآله) علي بن أبي طالب فلحقه وأخذ منه الصحيفة وقال: ارجع إلي النبي، فقال أبوبكر: هل حدث في شي ء؟ فقال: سيخبرك رسول الله، فرجع أبوبكر إلي النبي (صلّي الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله ما كنت تري أني مؤد عنك هذه الرسالة؟ فقال له النبي (صلّي الله عليه وآله): أبي الله أن يؤديها إلا علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأكثر أبوبكر عليه من الكلام فقال له النبي (صلّي الله عليه وآله): كيف تؤديها وأنت صاحبي في الغار.

قال: فانطلق علي (عليه السلام) حتي قدم مكة ثم وافي عرفات، ثم رجع إلي جمع، ثم إلي مني ثم ذبح وحلق، وصعد علي الجبل

المشرف المعروف بالشعب فأذن ثلاث مرات: ألا تسمعون أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم؟ ثم قال: (براءة من الله ورسوله إلي الذين عاهدتهم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين وأذان من الله ورسوله) [113] إلي قوله: (إن الله غفور رحيم) [114] تسع آيات من أولها، ثم لمع بسيفه (أي أشار) فأسمع الناس وكررها فقال الناس: من هذا الذي ينادي في الناس؟ فقالوا: علي بن أبي طالب، وقال من عرفه من الناس: هذا ابن عم محمد، وما كان ليجترئ علي هذا غير عشيرة محمد (صلّي الله عليه وآله)، فأقام أيام التشريق ثلاثة ينادي بذلك ويقرأ علي الناس غدوة وعشية، فناداه الناس من المشركين: أبلغ ابن عمك أن ليس له عندنا إلا ضرباً بالسيف وطعناً بالرماح.

ثم انصرف علي (عليه السلام) إلي النبي (صلّي الله عليه وآله) يقصد في السير، وأبطأ الوحي عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في أمر علي وما كان منه، فاغتم النبي لذلك غماً شديداً حتي رؤي في وجهه، وكف عن النساء من الهم والغم، فقال بعضهم لبعض: لعله قد نعيت إليه نفسه أو عرض له مرض، فقالوا لأبي ذر: قد نعلم منزلتك من رسول الله، وقد تري ما به، فنحن نحب أن تعلم لنا أمره، فسأل أبوذر النبي (صلّي الله عليه وآله) عن ذلك، فقال النبي: ما نعيت إلي نفسي وإني لميت، وما وجدت في أمتي إلا خيراً، وما بي من مرض، ولكن من شدة وجدي بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وإبطاء الوحي عني في أمره، فإن الله عزوجل قد أعطاني في علي (عليه السلام) تسع خصال: ثلاثة لدنياي، واثنتان لآخرتي واثنتان أنا منهما آمن، واثنتان أنا منهما خائف،

وقد كان رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إذا صلي الغداة استقبل القبلة بوجهه إلي طلوع الشمس يذكر الله عزوجل، وتقدم علي بن أبي طالب خلف النبي (صلّي الله عليه وآله) ويستقبل الناس بوجهه فيستأذنون في حوائجهم، وبذلك أمرهم رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فلما توجه علي (عليه السلام) إلي ذلك الوجه لم يجعل رسول الله مكان علي لأحد، وكان رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إذا صلي وسلم استقبل الناس بوجهه فأذن للناس.

فقام أبوذر فقال: يا رسول الله لي حاجة، قال: انطلق في حاجتك.

فخرج أبوذر من المدينة يستقبل علي بن أبي طالب (عليه السلام) فلما كان ببعض الطريق إذا هو براكب مقبل علي ناقته، فإذا هو علي فاستقبله والتزمه وقبله وقال: بأبي أنت وأمي اقصد في مسيرك حتي أكون أنا الذي أبشر رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فإن رسول الله من أمرك في غم شديد وهم، فقال له علي (عليه السلام): نعم، فانطلق أبوذر مسرعاً حتي أتي النبي (صلّي الله عليه وآله) فقال: البشري، قال: وما بشراك يا أباذر؟ قال: قدم علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال له: لك بذلك الجنة، ثم ركب النبي (صلّي الله عليه وآله) وركب معه الناس فلما رآه أناخ ناقته، ونزل رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فتلقاه والتزمه وعانقه ووضع خده علي منكب علي وبكي النبي فرحاً بقدومه وبكي علي معه، ثم قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): ما صنعت بأبي أنت وأمي؟ فإن الوحي أبطأ علي في أمرك، فأخبره بما صنع، فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) كان الله عزوجل أعلم بك مني حين أمرني بإرسالك.

عن الصادق (عليه السلام) قال: خطب علي فاخترط سيفه وقال: لا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحجن البيت مشرك، ومن كان له مدة فهو إلي مدته،

ومن لم يكن له مدة فمدته أربعة أشهر زيادة في مسند الموصلي: ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة وهذا هو الذي أمر الله تعالي به إبراهيم (عليه السلام) حين قال: (وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) [115] فكان الله تعالي أمر إبراهيم الخليل بالنداء أولاً قوله: (وأذن في الناس بالحج) [116] وأمر الولي بالنداء آخراً قوله: (وأذان من الله ورسوله) [117] قال السدي وأبومالك وابن عباس وزين العابدين (عليه السلام): الأذان علي بن أبي طالب الذي نادي به.

علي يكسر الأصنام

روي أبوبكر الشيرازي …

عن أبي هريرة قال: قال لي جابر بن عبدالله: دخلنا مع النبي مكة، وفي البيت وحوله ثلاث مائة وستون صنماً فأمر بها رسول الله (صلي الله عليه وآله) فألقيت كلها لوجوهها، وكان علي البيت صنم طويل يقال له (هبل) فنظر النبي (صلّي الله عليه وآله) إلي علي (عليه السلام) وقال له: يا علي تركب (تصعد) أو أركب عليك لألقي هبل عن ظهر الكعبة؟ قلت: يا رسول الله بل تركبني فلما جلس علي ظهري لم أستطع حمله لثقل الرسالة، قلت: يا رسول الله بل أركبك، فضحك ونزل وطأطأ لي ظهره واستويت عليه، فو الذي فلق الحبة وبرئ النسمة لو أردت أن أمسك السماء لمسكتها بيدي!! فألقيت هبل عن ظهر الكعبة، فأنزل الله تعالي: (وقل جاء الحق وزهق الباطل). [118].

وروي أحمد بن حنبل وأبوبكر الخطيب بإسناده عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: انطلق بي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إلي الأصنام فقال: اجلس، فجلست إلي جنب الكعبة ثم صعد رسول الله علي منكبي ثم قال لي: انهض بي إلي الصنم، فنهضت به، فلما رأي ضعفي عنه قال: اجلس فجلست وأنزلته عني، وجلس لي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ثم قال لي: اصعد يا علي، فصعدت

علي منكبه ثم نهض بي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فلما نهض بي خيّل لي أني لو شئت نلت السماء وصعدت علي الكعبة، وتنحي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فألقيت صنمهم الأكبر صنم قريش، وكان من نحاس موتداً بأوتاد من حديد إلي الأرض.

الحديث بصورة أخري:

روي إسماعيل بن محمد الكوفي في خبر طويل عن ابن عباس أنه كان صنم لخزاعة من فوق الكعبة، فقال له النبي (صلّي الله عليه وآله): يا أباالحسن انطلق بنا نلقي هذا الصنم عن البيت، فانطلقا ليلاً فقال له: يا أباالحسن ارق علي ظهري، وكان طول الكعبة أربعين ذراعاً، فحمله رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقال: انتهيت يا علي؟ قال: والذي بعثك بالحق لو هممت أن أمس السماء بيدي لمسستها.

واحتمل الصنم وجلد به الأرض فتقطع قطعاً، ثم تعلق بالميزاب وتخلي بنفسه إلي الأرض، فلما سقط ضحك، فقال النبي (صلّي الله عليه وآله): ما يضحكك يا علي أضحك الله سنك؟ قال: ضحكت يا رسول الله تعجباً من أني رميت بنفسي من فوق البيت إلي الأرض فما ألمت ولا أصابني وجع! فقال: كيف تألم يا علي أو يصيبك وجع إنما رفعك محمد وأنزلك جبرائيل..

وفي علل الشرائع وجامع الأخبار عن محمد بن حرب الهلالي أمير المدينة قال: سألت جعفر بن محمد (الصادق) (عليه السلام) فقلت له: يا ابن رسول الله في نفسي مسألة أريد أن أسألك عنها.

فقال: إن شئت أخبرتك بمسألتك قبل أن تسألني وإن شئت فاسأل قال قلت له: يا ابن رسول الله وبأي شي ء تعرف ما في نفسي قبل سؤالي؟ فقال بالتوسم والتفرس، أما سمعت قول الله عزوجل: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) [119] وقول رسول الله (صلّي الله عليه وآله): (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)؟ قال: فقلت له:

يا ابن رسول الله فأخبرني بمسألتي قال: أردت أن تسألني عن رسول الله لم لم يطق حمله علي (عليه السلام) عند حط الأصنام من سطح الكعبة مع قوته وشدته ومع ما ظهر منه في قلع باب القوم بخيبر والرمي به إلي ورائه أربعين ذراعاً؟ وكان لا يطيق حمله أربعون رجلاً؟ وقد كان رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يركب الناقة والفرس والحمار وركب البراق ليلة المعراج وكل ذلك دون علي في القوة والشدة؟ قال: فقلت له: عن هذا والله أردت أن أسألك يا ابن رسول الله فأخبرني.

فقال (عليه السلام): إن علياً برسول الله تشرف، وبه ارتفع وبه وصل إلي أن أطفأ نار الشرك وأبطل كل معبود من دون الله عزوجل ولو علاه النبي (صلّي الله عليه وآله) لحط الأصنام لكان بعلي مرتفعاً وشريفاً واصلاً إلي حط الأصنام، ولو كان ذلك كذلك لكان أفضل منه، ألا تري أن علياً (عليه السلام) قال: (لما علوت ظهر رسول الله شرفت وارتفعت حتي لو شئت أن أنال السماء لنلتها)؟ أما علمت أن المصباح هو الذي يهتدي به في الظلمة وانبعاث فرعه من أصله وقد قال علي (عليه السلام): (أنا من أحمد كالضوء من الضوء!).

حديث سد الأبواب

في البحار ج 9 عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لما بني مسجده بالمدينة وأشرع بابه وأشرع المهاجرون والأنصار أبوابهم أراد الله عزوجل إبانة محمد وآله الأفضلين بالفضيلة، فنزل جبرائيل (عليه السلام) عن الله: بأن سدوا الأبواب عن مسجد رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قبل أن ينزل بكم العذاب، فأول من بعث إليه رسول الله (صلّي الله عليه وآله) كان العباس، وكان الرسول معاذ بن جبل، ثم مر العباس بفاطمة (عليهاالسلام) فرآها قاعدة علي بابها وقد أقعدت الحسن والحسين (عليهماالسلام) فقال لها: ما بالك

قاعدة؟ انظروا إليها كأنها لبوءة بين يديها شبلاها! تظن أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يخرج عمه ويدخل ابن عمه! فمر بهم رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقال لها: ما بالك قاعدة؟ فقالت: أنتظر أمر رسول الله (صلّي الله عليه وآله) بسد الأبواب، فقال (صلّي الله عليه وآله): إن الله تعالي أمرهم بسد الأبواب واستثني منهم رسوله وأنتم نفس رسول الله، ثم إن عمر بن الخطاب جاء فقال: إني أحب النظر إليك يا رسول الله إذا مررت إلي مصلاك، فأذن لي في خوخة (فرجة) أنظر إليك منها! فقال: قد أبي الله ذلك، فقال: فمقدار ما أضع عليه وجهي، قال قد أبي الله ذلك، قال: فمقدار ما أضع عليه عيني، فقال: قد أبي الله ذلك ولو قلت: قدر طرف إبرة لم آذن لك، والذي نفسي بيده ما أنا أخرجتكم ولا أدخلتكم ولكن الله أدخلكم وأخرجكم.

ثم قال: لا ينبغي لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت في هذا المسجد جنباً إلا محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والمنتجبون من آلهم الطيبون من أولادهم..

الحديث بلفظ آخر:

حذيفة بن أسيد الغفاري قال: لما قدم أصحاب النبي (صلّي الله عليه وآله) المدينة لم تكن لهم بيوت فكانوا يبيتون في المسجد، فقال لهم النبي (صلّي الله عليه وآله): لا تبيتوا في المسجد فتحتلموا، ثم إن القوم بنوا بيوتاً حول المسجد وجعلوا أبوابها إلي المسجد، وإن النبي (صلّي الله عليه وآله) بعث إليهم معاذ بن جبل فنادي أبابكر فقال: إن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يأمرك أن تخرج من المسجد وتسد بابك، فقال: سمعاً وطاعة.

فسد بابه وخرج من المسجد، ثم أرسل إلي عمر فقال: إن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يأمرك أن تسد بابك الذي في المسجد

وتخرج منه، فقال: سمعاً وطاعة لله ولرسوله غير أني أرغب إلي الله تعالي في خوخة (فرجة) في المسجد.

فأبلغه معاذ ما قاله عمر، ثم أرسل إلي عثمان وعنده رقية فقال: سمعاً وطاعة.

فسد بابه وخرج من المسجد، ثم أرسل إلي حمزة رضي الله عنه فسد بابه وقال: سمعاً وطاعة لله ولرسوله وعلي (عليه السلام) علي ذلك متردد لا يدري أهو فيمن يقيم أو فيمن يخرج؟ وكان النبي (صلّي الله عليه وآله) قد بني له في المسجد بيتاً بين أبياته، فقال له النبي (صلّي الله عليه وآله): اسكن طاهراً مطهراً، فبلغ حمزة قول النبي (صلّي الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) فقال: يا محمد تخرجنا وتمسك غلمان بني عبدالمطلب فقال له نبي الله: لو كان الأمر إلي ما جعلت دونكم من أحد، والله ما أعطاه إياه إلا الله وإنك لعلي خير من الله ورسوله، أبشر، فبشره النبي (صلّي الله عليه وآله) فقتل يوم أحد شهيداً، ونفس ذلك رجال علي علي فوجدوا في أنفسهم، وتبين فضله عليهم وعلي غيرهم من أصحاب رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فبلغ ذلك النبي (صلّي الله عليه وآله) فقام خطيباً فقال إن رجالاً يجدون في أنفسهم في أن أسكن علياً في المسجد وأخرجهم والله ما أخرجهم ولا أسكنته، إن الله عزوجل أوحي إلي موسي وأخيه (أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة) [120] وأمر موسي أن لا يسكن مسجداً ولا ينكح فيه ولا يدخله إلا هارون وذريته، وإن علياً بمنزله هارون من موسي وهو أخي دون أهلي ولا يحل مسجدي لأحد ينكح فيه النساء إلا علي وذريته، فمن شاء فها هنا وأومأ بيده نحو الشام.

ولإبن أبي الحديد كلام جامع يشير إلي بعض الفضائل بصورة

موجزة يقول: وكان أميرالمؤمنين (عليه السلام) ذا أخلاق متضادة، فمنها أن الغالب علي أهل الإقدام والمغامرة والجرأة أن يكونوا ذوي قلوب قاسية وفتك وتنمر وجبرية، والغالب علي أهل الزهد ورفض الدنيا وهجران ملاذها والاشتغال بمواعظ الناس وتخويفهم المعاد وتذكيرهم الموت أن يكونوا ذوي رقة ولين.

وضعف قلب وخور طبع، وهاتان حالتان متضادتان وقد اجتمعتا له (عليه السلام).

ومنها: أن الغالب علي ذوي الشجاعة وإراقة الدماء أن يكونوا ذوي أخلاق سبعيه وطباع وحشية، وكذلك الغالب علي أهل الزهاد وأرباب الوعظ والتذكير ورفض الدنيا أن يكونوا ذوي انقباض في الأخلاق وعبوس في الوجوه ونفار من الناس واستيحاش.

وعلي (عليه السلام) كان أشجع الناس وأعظمهم إراقة للدم، وأزهد الناس وأبعدهم عن ملاذ الدنيا وأكثرهم وعظاً وتذكيراً بأيام الله ومثلاته وأشدهم اجتهادا في العبادة، وآداباً لنفسه في المعاملة.

وكان مع ذلك ألطف العالم أخلاقاً، وأسفرهم وجهاً، وأكثرهم بشراَ وأوفاهم هشاشة وبشاشة، وأبعدهم عن انقباض موحش أو خلق نافر، أو تجهم مباعد، أو غلظة وفظاظة ينفر معها نفس، أو يتكدر معها قلب، حتي عيب بالدعابة.

ولما لم يجدوا فيه مغمزاً ولا مطعناً تعلقوا بها (الدعابة)، واعتمدوا في التنفير عليها، وهذا من عجائبه وغرائبه اللطيفة.

ومنها: أن الغالب علي شرفاء الناس ومن هو من أهل السيادة والرئاسة أن يكون ذا كبرٍ وتيهٍ وتعظم، وخصوصاً إذا أضيف إلي شرفه من جهة النسب شرفه من جهات أخري.

وكان أميرالمؤمنين (عليه السلام) في مصاص الشرف ومعدنه، لا شك عدو ولا صديق أنه أشرف خلق الله نسباً بعد ابن عمه (صلوات الله عليه) وقد حصل له الشرف غير شرف النسب جهات كثيرة متعددة، وقد ذكرنا بعضها ومع ذلك كان أشد الناس تواضعاًَ لصغير وكبير، وألينهم عريكة، وأسمحهم خلقاً، وأبعدهم عن الكبر، وأعرفهم بحق.

وكانت حاله هذه حالة

في كل زمانيه: زمان خلافته، والزمان الذي قبله، ما غيرت سجيته الإمرة، ولا أحالت خلقه الرئاسة وكيف تحيل الرئاسة خلقه وما زال رئيساً؟ وكيف تغير الإمرة سجيته وما برح أميراً؟ لم يستفد بالخلافة شرفاً، ولا اكتسب بها زينة، بل هو كما قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: ذكر ذلك الشيخ أبوالفرج عبدالرحمن بن علي الجوزي في تاريخه المعروف (بالمنتظم) قال: تذاكروا عند أحمد خلافة أبي بكر وعلي وقالوا، وأكثروا فرفع رأسه إليهم وقال: قد أكثرتم، إن علياً لم تزنه الخلافة لكنه زانها، وهذا الكلام بفحواه ومفهومه علي أن غيره ازداد بالخلافة وتمت نقيصه، وأن علياً لم يكن فيه نقص يحتاج إلي أن يتم بالخلافة وكانت الخلافة ذات نقص في نفسها، فتم نقصها بولايته إياها.

ومنها: إن الغالب علي ذوي الشجاعة وقتل الأنفس وإراقة الدماء لأن يكونوا قليلي الصفح، بعيدي العفو، لأن أكبادهم واغرة، وقلوبهم ملتهبة، والقوة الغضبية عندهم شديدة، وقد علمت حال أميرالمؤمنين (عليه السلام) في كثرة إراقة الدماء وما عنده من الحلم والصفح ومغالبته هوي النفس، وقد رأيت فعله يوم الجمل.

ومنها ما رأيناه شجاعاً جواداً قط …

وقد علمت حال أميرالمؤمنين في الشجاعة والسخاء كيف هي؟ وهي من أعاجيبه (عليه السلام) …

إلي آخر كلامه.

علي يوم الغدير

اشاره

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما يرضي وسلام علي النبي المصطفي وأخيه المرتضي وآله.

قال الله تبارك وتعالي: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس). [121].

أيها الأخوة كلامنا الليلة حول واقعة الغدير، تلك الواقعة التي أكمل الله فيها الدين وأتم فيها النعمة، يوم تتويج الإمام المرتضي (عليه السلام) بتاج الخلافة العظمي والإمامة الكبري.

وهذا البحث من أهم البحوث الإسلامية، وهنا مفترق الطرق بين المذاهب الإسلامية، ويمكن

لنا أن نقول: إن الكتب والمؤلفات التي كتبت حول هذا الموضوع بالذات وحول الإمامة والخلافة بصورة عامة قد جاوزت العد والضبط والإحصاء، من إثبات أو رد أو مناقشة وما يدور في هذا الفلك.

ولا تسألوا عن الأرواح التي زهقت في سبيل هذه الواقعة ومضاعفاتها في خلال أربعة عشر قرناً، وما هناك من مآسي وكوارث ومصائب ومجازر وفتن تتعب القارئ وتجهد السامع.

وحيث إن الإمامة عندنا تالية للنبوة من حيث كونها وظيفة إلهية ومنصب رباني ليس لأحد حق الانتخاب أو الرد فيها، كما قال تعالي (وما كان لمؤمن ولا مؤمنه إذا قضي الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة) [122] ولهذا لا بأس بذكر هذه الواقعة وما يتعلق بها من أقوال الصحابة وأهل البيت والتابعين وتابعيهم من المحدثين والمفسرين والمؤرخين والشعراء والأئمة والأعلام والحفاظ.

ومن العجب أن عدداً من النصاري ذكروا هذه الحادثة نظماً ونثراً ولعلنا نشير إلي بعض أقوال هؤلاء بصورة موجزة رعاية للاختصار.

ومن أعجب العجب أن بعض المسلمين بعد إقامة الأدلة الكافية والبراهين الشافية والحجج القاطعة علي خلافة أميرالمؤمنين (عليه السلام) وبعد المناقشة في سند الحديث ودلالة متنه ومفهومه قال: إن عليا هو الأفضل ولكن غيره أصلح!! سبحان الله هذه كلمة تضحك الثكلي! لأن معناها، إن الله ورسوله ما كانا يعرفان الأصلح؟ أو كانا يعرفانه ولكنهما قدما غير الأصلح، نعوذ بالله من الباطل.

والأفضل أن نذكر الواقعة بصورة موجزة ثم ننظر أين ينتهي بنا الكلام؟ وأقوال المفسرين والمحدثين تختلف من حيث الإيجاز والتفصيل، ولكن المفاد واحد، وهذه صورة الواقعة: لما قضي رسول الله مناسكه وانصرف راجعاً إلي المدينة ومعه من كان من الجموع الغفيرة ووصل إلي غدير خم من الجحفة التي تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين وذلك يوم الخميس

الثامن عشر من ذي الحجة نزل إليه جبرائيل الأمين عن الله بقوله: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) [123] الآية.

وأمره أن يقيم علياً علماً للناس ويبلغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة علي كل أحد، وكان أوائل القوم قريباً من الجحفة فأمر رسول الله أن يرد من تقدم منهم، ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان ونهي عن سمرات خمس متقاربات دوحات عظام أن لا ينزل تحتهن أحد، حتي إذا أخذ القوم منازلهم فقم (كنس) ما تحتهن حتي إذا نؤدي بالصلاة صلاة الظهر عمد إليهن فصلي بالناس تحتهن، وكان يوماً هاجراً يضع الرجل بعض رداءه علي رأسه وبعضه تحت قدميه من شدة الرمضاء، وظلل لرسول الله بثوب علي شجرة سمرة من الشمس، فلما انصرف الرسول (صلّي الله عليه وآله) من صلاته قام خطيباً وسط القوم علي اقتاب الإبل وأسمع الجميع رافعاً عقيرته فقال: الحمد لله ونستعينه ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، الذي لا هادي لمن ضل، ولا مضل لمن هدي وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد عبده ورسوله أما بعد: أيها الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي إلا مثل نصف عمر الذي قبله، وإني أُوشك أن أُدعي فأُجيب، وإني مسؤول وانتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً.

قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن جنته حق وناره حق وأن الموت حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلي نشهد بذلك، قال: اللهم أشهد ثم قال: أيها الناس ألا تسمعون؟ قالوا نعم

قال: فإني فرط علي الحوض، وانتم واردون علي الحوض، وإن عرضه ما بين صنعاء وبصري فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين.

فنادي مناد: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: الثقل الأكبر كتاب الله طرف بيد الله عزوجل وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلوا، والآخر الأصغر عترتي، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض فسألت ذلك لهما ربي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ثم أخذ بيد علي فرفعها حتي رئي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون، فقال: أيها الناس من أولي الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ فمن كنت مولاه فعلي مولاه، يقولها ثلاث مرات، وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة: أربع مرات ثم قال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من بغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب.

وقد ذكروا لرسول الله (صلّي الله عليه وآله) خطبة مفصلة جداً رواها الطبرسي في الاحتجاج، ورواها غيره في كتبهم بغير تفصيل، وكيف كان لما فرغ رسول الله (صلّي الله عليه وآله) من خطبته نزل وأمر المسلمين أن يبايعوا علياً بالخلافة ويسلموا عليه بإمرة المؤمنين.

فتهافت عليه الناس يبايعونه، وجاء الشيخان: أبوبكر وعمر إلي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وقالا: هذا أمر منك أم من الله؟ فقال النبي: وهل يكون هذا عن غير أمر الله؟ نعم أمر من الله ورسوله فقاما وبايعا، فقال عمر: السلام عليك يا أميرالمؤمنين بخ بخ لك لقد أصبحت مولاي ومولي كل مؤمن ومؤمنه!! هذه الواقعة من أشهر الحوادث بين المفسرين والمحدثين والمؤرخين، وتعتبر عندهم من أصح الأحاديث لتواتر الروايات الواردة حول الحديث.

أما الصحابة الذين شهدوا بالغدير فالمشهور منهم

مائة ونيف وإليك أسماؤهم حسب الحروف:

1 أبوهريرة.

2 أبوليلي الأنصاري.

3 أبوزينب بن عوف الأنصاري.

4 أبوفضالة الأنصاري.

5 أبوقدامه الأنصاري.

6 أبوعمرة بن عمر بن محضر الأنصاري.

7 أبوالهيثم بن التيهان.

8 أبورافع القبطي.

9 أبوذويب بن خويلد.

10 أبوبكر بن أبي قحافة.

11 أسامة بن زيد.

12 أسعد بن زراره الأنصاري.

13 أبي بن كعب الأنصاري.

14 أسماء بنت عميس.

15 أم كلثوم زوجة النبي (صلّي الله عليه وآله).

16 أم هاني بنت أبي طالب.

17 براء بن عازب الأنصاري.

18 أبوحمزة أنس بن مالك.

19 بريرة بن الخصيب.

20 أبوسعيد ثابت بن وديعة الأنصاري.

21 جاب بن ثمرة.

22 جابر بن عبدالله الأنصاري.

23 جبلة بن عمرو الأنصاري.

24 جبير بن مطعم.

25 جرير بن عبدالله.

26 أبوذر جندب بن جنادة.

27 أبوجنيدة جندع بن عمرو.

28 حبة بن جرير العرني.

29 حبشي بن جنادة.

30 حبيب بن بديل.

31 حذيفة بن أسيد.

32 حذيفة بن اليمان.

33 حسان بن ثابت.

34 الإمام الحسن بن علي (عليه السلام).

35 الإمام الحسين بن علي (عليه السلام).

36 أبوأيوب الأنصاري.

37 خالد بن الوليد.

38 خزيمة بن ثابت.

39 خويلد بن عمر الخزامي.

40 رفاعة بن عبدالمنذر الأنصاري.

41 زبير بن العوام.

42 زيد بن ثابت.

44 زيد بن عبدالله الأنصاري.

45 زيد بن يزيد بن شراحيل الأنصاري.

46 سعد بن أبي وقاص.

47 سعد بن جنادة.

48 سعد بن عبادة.

49 أبوسعيد الخدري.

51 سعيد بن سعد بن عبادة الأنصاري.

52 سلمان الفارسي.

53 سمرة بن جندب.

54 سلمة بن عمرو.

55 سهل بن ساعد الأنصاري.

57 أبوأمامة الصدي بن عجلان.

58 ضميرة الأسدي.

59 طلحة بن عبيدالله.

60 عامر بن عمير.

61 عامر بن ليلي.

62 عامر بن وائلة.

63 عامر بن ليلي العقاري.

64 عائشة بنت أبي بكر.

65 عباس بن عبدالمطلب عم النبي (صلّي الله عليه وآله).

66 عبدالرحمن بن عبد رب الأنصاري.

67 عبدالرحمن بن عوف.

68 عبدالرحمن بن يعمر.

69 عبدالله بن أبي عبدالأسد المخزومي.

70 عبدالله بن بديل.

71 عبدالله بن بشير.

72 عبدالله بن ثابت الأنصاري.

73 عبدالله بن جعفر بن أبي طالب.

74 عبدالله

بن حنطب.

75 عبدالله بن ربيعة.

76 عبدالله بن عباس.

77 عبدالله بن أبي أوفي.

78 عبدالله بن عمر بن الخطاب.

79 عبدالله ياميل.

80 عثمان بن عفان.

81 عدي بن حاتم.

82 عبيد بن عازب الأنصاري.

83 عطية بن يسر.

84 عقبة بن عامر.

85 علي بن أبي طالب (عليه السلام).

86 عمار بن ياسر.

87 عمارة الخزرجي.

88 عمر بن أبي سلمة.

89 عمر بن الخطاب.

90 عمران بن حصين.

91 عمرو بن الحمق الخزاعي.

92 عمرو بن شراحيل.

93 عمرو بن العاص.

94 عمرو بن مرة.

95 فاطمة الزهراء بنت النبي (عليهاالسلام).

96 فاطمة بنت حمزة بن عبدالمطلب.

97 قيس بن ثابت.

98 قيس بن سعد بن عبادة.

99 كعب بن عجرة.

100 مالك بن الحويرث.

101 المقداد بن عمرو الكندي.

102 ناجية بن عمرو الخزاعي.

103 أبوبرزة فضلة بن عتبة.

104 نعمان بن عجلان.

105 هاشم المرقال.

106 وهب بن حمزة.

107 وهب بن عبدالله.

108 وحشي بن حرب.

109 يعلي بن مرة.

اكمال الدين

ولما انتهت البيعة لأميرالمؤمنين (عليه السلام) هبط جبرائيل علي النبي (صلّي الله عليه وآله) بهذه الآية: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً). [124].

أما المفسرون والمحدثون الشيعة فقد اتفقت كلمتهم علي نزول هذه الآية يوم الغدير بعد انتهاء البيعة لعلي (عليه السلام) وأما من حفاظ أهل السنة ومحدثيهم فقد روي:

1 محمد بن جرير الطبري في كتاب: (الولاية).

2 الحافظ ابن مردويه روي عنه في تفسير ابن كثير.

3 الحافظ أبونعيم الأصبهاني روي في كتابه: (ما نزل من القرآن في علي).

4 أبوبكر الخطيب البغدادي في تاريخه ج 8.

5 أبوسعيد السجستاني في كتابه (الولاية).

6 الحافظ أبوالقاسم الحاكم الحسكاني في كتابه (دعاة الهداة إلي أداء حق الموالاة).

7 الحافظ أبوالقاسم بن عساكر.

8 أبوالحسن بن المغازل روي في مناقبه.

9 أخطب الخطباء الخوارزمي روي في المناقب.

10 أبوالفتح النطنزي روي في كتابه الخصائص العلوية.

11 أبوحامد سعد الدين الصالحي روي عنه شهاب الدين أحمد في توضيح الدلائل

علي ترجيح الفضائل.

12 سبط ابن الجوزي ذكر في تذكرته.

13 شيخ الإسلام الحمويني روي في فرائد السمطين.

14 عماد الدين ابن كثير القرشي روي في تفسيره.

15 جلال الدين السيوطي الشافعي في الدر المنثور وفي الإتقان.

16 منير محمد البدخشي روي في كتاب مفتاح النجاة.

نزول العذاب

انتشر خبر واقعة الغدير، وشاع وطار في البلاد فبلغ ذلك الحارث ابن النعمان الفهري، فأتي رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، علي ناقة له حتي أتي الأبطح فنزل عن ناقته فأناخها، فقال: يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، وانك رسول الله فقبلناه، وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلناه منك وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا، وأمرتنا بالحج فقبلنا ثم لم ترض بهذا حتي رفعت بضبع ابن عمك، ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شي ء منك أم من الله عزوجل؟ فقال: والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله.

فولي الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.

فما وصل إليها راحلته حتي رماه الله تعالي بحجر فسقط علي هامته وخرج من دبره وقتله، وأنزل الله عزوجل: (سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين ليس له دافع، من الله ذي المعارج). [125].

الذين رووا نزول هذه الآية في شأن الحارث بن النعمان هم:

1 الحافظ أبوعبيد الهروي في تفسيره غريب القرآن.

2 أبوبكر النقاش الموصلي في تفسيره شفاء الصدور.

3 أبوإسحاق الثعلبي النيسابوري في تفسيره الكشف والبيان.

4 الحاكم أبوالقاسم الحسكاني في كتابه (دعاة الهداة).

5 أبوبكر يحيي القرطبي في تفسيره.

6 سبط ابن الجوزي الحنفي رواه في تذكرته.

7 إبراهيم بن عبدالله اليمني الشافعي روي في كتابه الاكتفاء.

8 الحمويني في فرائد السمطين.

9 الشيخ محمد الزرندي الحنفي روي في كتابيه

معارج الوصول ودرر السمطين.

10 شهاب الدين أحمد في كتابه هداية السعداء.

11 ابن الصباغ المالكي في كتابه الفصول المهمة.

12 نور الدين السمهودي الشافعي رواه في جواهر العقدين.

13 أبوالسعود العمادي في تفسيره.

14 شمس الدين الشربيني الشافعي في تفسيره السراج المنير.

15 جمال الدين الشيرازي في كتابه الأربعين.

16 شيخ زيد الدين المناوي الشافعي في كتابه فيض القدير.

17 السيد ابن العبدروس الحسيني اليمني في كتابه العقد النبوي والسير المصطفوي.

18 الشيخ أحمد ابن باكثير الشافعي ذكره في وسيلة المآل في عد مناقب الآل.

19 الشيخ عبدالرحمن الصفوي روي في نزهته.

20 الشيخ برهان الدين علي الحلبي الشافعي في السيرة الحلبية.

21 السيد محمود بن محمد القادري المدني قال في تأليفه الصراط السوي في مناقب النبي.

22 شمس الدين الحنفي الشافعي في شرح الجامع الصغير للسيوطي.

23 الشيخ محمد صدر العالم سبط الشيخ أبي الرضا قال في كتابه معارج العلي في مناقب المرتضي.

24 الشيخ محمد محبوب العالم رواه في تفسيره المعروف بتفسير شاهي.

25 أبوعبدالله الزرقاني المالكي حكاه في شرح المواهب اللدنية.

26 أحمد بن عبدالقادر الشافعي ذكره في كتابه ذخيرة المآل.

27 السيد أحمد بن إسماعيل اليماني ذكره في كتابه الروضة الندية.

28 السيد مؤمن الشبلنجي الشافعي ذكره في كتابه نور الأبصار.

29 الأستاذ الشيخ محمد عبده المصري في تفسير المنار.

أما المحدثون والمفسرون من الشيعة فلا يشك منهم أحد في نزول هذه الآية في شأن الحرث أو الحارث.

معاني المولي

ذكر اللغويون لكلمة (المولي) عشرين معني، وهذا هو سبب المناقشة في مفهوم الحديث، فيقول أصحاب القلوب المريضة: لم يظهر لنا المقصود من كلمة (مولاه)، ونجيب عن هذه المناقشة أو التشكيك بهذه الرواية المفسرة لمعني المولي، فقد روي أن عماراً سأل رسول الله (صلّي الله عليه وآله) عن معني قوله: (من كنت مولاه فعلي مولاه) قال رسول الله (صلّي

الله عليه وآله): الله مولاي: أولي بي من نفسي لا أمر لي معه، وأنا مولي المؤمنين: أولي بهم من أنفسهم، ولا أمر لهم معي، ومن كنت مولاه: أولي به من نفسه لا أمر له معي، فعلي مولاه: أولي به من نفسه لا أمر له معه.

سبحان الله! ما يصنع رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يعد هذا التفصيل والتشريح والبيان الكافي الموضح لكلامه والمبين لمقصوده؟ وهل أبقي لأحد شكا؟ وهل بقيت لأحد حجة علي الله؟ بل أتم الحجة علي الجميع، وأدي رسالة ربه علي أحسن ما يرام، وأفضل ما يمكن.

ولسيدنا الحجة المغفور له عبدالحسين شرف الدين (عليه الرحمة) بحث لطيف وتحقيق ظريف حول كلمة المولي نذكره تتميما للفائدة:

(فلو سألكم فلاسفة الأغيار عما كان منه يوم غدير خم فقال لماذا منع تلك الألوف المؤلفة يومئذ عن المسير؟ وعلي م حبسهم في تلك الرمضاء بهجير؟ وفيم اهتم بإرجاع من تقدم منهم وإلحاق من تأخر؟ ولم أنزلهم جميعا في ذلك العراء علي غير كلاء ولا ماء؟

ثم خطبهم عن الله عزوجل في ذلك المكان الذي منه يتفرقون ليبلغ الشاهد منهم الغائب، وما المقتضي لنعي نفسه إليهم في مستهل خطابه؟ إذ قال: (يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني مسؤول وإنكم مسؤولون) وأي أمر يسأل النبي (صلّي الله عليه وآله)، عن تبليغه؟ وتسأل الأمة عن طاعتها فيه؟ ولماذا سألهم فقال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن جنته حق، وأن ناره حق، وأن الموت حق، وأن البعث حق بعد الموت، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلي نشهد بذلك ولماذا أخذ حينئذ علي سبيل الفور بيد علي فرفعها حتي بان

بياض إبطيه؟ فقال: يا أيها الناس إن الله مولاي، وأنا مولي المؤمنين، ولماذا فسر كلمته وأنا مولي المؤمنين بقوله: وأنا أولي بهم من أنفسهم؟ ولماذا قال بعد هذا التفسير: فمن كنت مولاه فهذا مولاه، أو من كنت وليه فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، ولِمَ خصّه بهذه الدعوات التي لا يليق لها إلا أئمة الحق وخلفاء الصدق؟؟ ولماذا أشهدهم من قبل، فقال ألست أولي بكم من أنفسكم؟

فقالوا: بلي.

فقال: من كنت مولاه، فعلي مولاه، أو من كنت وليه، فعلي وليه؟ ولماذا قرن العترة بالكتاب؟ وجعلها قدوة لأولي الألباب إلي يوم الحساب؟ وفيم هذا الاهتمام العظيم من هذا النبي الحكيم؟ وما المهمة التي احتاجت إلي هذه المقدمات كلها؟ وما الغاية التي توخاها في هذا الموقف المشهور؟ وما الشي ء الذي أمره الله تعالي بتبليغه إذ قال عز من قائل: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) [126] وأي مهمة استوجبت من الله هذا التأكيد؟ واقتضت الحض علي تبليغها بما يشبه التهديد؟ وأي أمر يخشي النبي الفتنة بتبليغه؟ ويحتاج إلي عصمة الله من أذي المنافقين ببيانه؟ أكنتم بجدك لو سألكم عن هذا كله تجيبونه بأن الله عزوجل ورسوله (صلّي الله عليه وآله) إنما أراد بيان نصرة علي للمسلمين وصداقته لهم، ليس إلا؟ ما أراكم ترضون هذا الجواب، ولا أتوهم أنكم ترون مضمونه جائزا علي رب الأرباب، ولا علي سيد الحكماء، وخاتم الرسل والأنبياء وأنتم أجل من أن يصرف هممه كلها، وعزائمه بأسرها إلي تبيين شي ء بين لا يحتاج إلي بيان، وتوضيح أمر واضح بحكم الوجدان والعيان، ولا شك

أنكم تنزهون أفعاله وأقواله عن أن تزدري بها العقلاء، أو ينتقدها الفلاسفة والحكماء بل لا ريب في أنكم تعرفون مكانة قوله وفعله من الحكمة والعصمة، وقد قال الله تعالي: (إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون) [127] فيهتم بتوضيح الواضحات وتبيين ما هو بحكم البديهيات، ويقدم لتوضيح هذا الواضح مقدمات أجنبية ولا ربط له بها ولا دخل لها فيه، تعالي الله عن ذلك ورسوله علواً كبيراً وأنت نصر الله بك الحق تعلم أن الذي يناسب مقامه في ذلك الهجير ويليق بأفعاله وأقواله يوم الغدير، إنما تبليغ عهده، وتعيين القائم من بعده، والقرائن اللفظية، والأدلة العقلية، توجب القطع الثابت الجازم بأنه (صلّي الله عليه وآله) ما أراد يومئذ إلا تعيين علي وليا لعهده، وقائما من بعده، فالحديث مع ما قد حفّ به من القرائن نص جلي في خلافة علي لا يقبل التأويل، وليس إلي صرفه عن هذا المعني من سبيل، وهذا واضح (لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد). [128].

أما القرينة التي زعموها فجزاف وتضليل، ولباقة في التخليط والتهويل، لأن النبي (صلّي الله عليه وآله) بعث عليا إلي اليمن مرتين، والأولي كانت سنة ثمان وفيها أرجف المرجفون به وشكوه إلي النبي بعد رجوعهم إلي المدينة، فأنكر عليهم ذلك حتي أبصروا الغضب في وجهه، فلم يعودوا لمثلها، والثانية كانت سنة عشر وفيها عقد النبي له اللواء وعممه (صلّي الله عليه وآله) بيده، وقال له: امض ولا تلتفت.

فمضي لوجهه راشداً مهدياً، حتي أنفذ أمر النبي، ووافاه (صلّي الله عليه وآله) في حجة الوداع، وقد أهلّ بما أهلّ به رسول الله فأشركه (صلّي الله عليه وآله) بهديه، وفي تلك

المرة لم يرجف به مرجف، ولا تحامل عليه مجحف، فكيف يمكن أن يكون الحديث مسبباً عما قاله المعترضون؟ أو مسوقاً للرد علي أحد كما يزعمون.

علي أن مجرد التحامل علي علي، لا يمكن أن يكون سبباً لثناء النبي عليه، بالشكل الذي أشاد به (صلّي الله عليه وآله) علي منبر الحدائج يوم خم، إلا أن يكون والعياذ بالله مجازفاً في أقواله وأفعاله، وهممه وعزائمه، وحاشا قدسي حكمته البالغة، فإن الله سبحانه يقول: (إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين) [129] ولو أراد مجرد بيان فضله، والرد علي المتحاملين عليه، لقال: هذا ابن عمي، وصهري وأبوولدي، وسيد أهل بيتي، فلا تؤذوني فيه، أو نحو ذلك من الأقوال الدالة علي مجرد الفضل وجلالة القدر.

علي أن لفظ الحديث لا يتبادر إلي الأذهان منه إلا ما قلناه، فليكن سببه مهما كان، فإن الألفاظ إنما تحمل علي ما يتبادر إلي الإفهام منها، ولا يلتفت إلي أسبابها كما لا يخفي.

وأما ذكر أهل بيته في حديث الغدير، فإنه من مؤيدات المعني الذي قلناه، حيث قرنهم بمحكم الكتاب وجعلهم قدوة لأولي الألباب، فقال: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي.

وإنما فعل ذلك لتعلم الأمة أن لا مرجع بعد نبيها إلا إليهما، ولا معول لها من بعده إلا عليها وحسبك في وجوب إتباع الأئمة من العترة الطاهرة اقترانهم بكتاب الله عزوجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكما لا يجوز الرجوع إلي كتاب يخالف في حكمه كتاب الله سبحانه وتعالي، لا يجوز الرجوع إلي إمام يخالف في حكمه أئمة العترة، وقوله

(صلّي الله عليه وآله): إنهما لن ينقضيا أو لن يفترقا حتي يردا علي الحوض، دليل علي أن الأرض لن تخلو بعده من إمام منهم، وهو عدل الكتاب، ومن تدبر الحديث وجده يرمي إلي حصر الخلافة في أئمة العترة الطاهرة، ويؤيد ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلي الأرض، وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض الخ …

وهذا نص في خلافة أئمة العترة (عليهم السلام).

وأنت تعلم أن النص علي وجوب إتباع العترة نص علي وجوب إتباع علي، وهو سيد العترة لا يدافع، وإمامها لا ينازع، فحديث الغدير وأمثاله، يشتمل علي النص علي علي تارة، من حيث أنه إمام العترة، المنزلة من الله ورسوله منزلة الكتاب، وأخري من حيث شخصه العظيم وأنه ولي كل من كان رسول الله وليه، انتهي كلام السيد (ره).

أقول: وقد نظم الشعراء من المسلمين وغيرهم علي اختلاف لغاتهم قصائد متينة فاخرة اشتهرت علي مر القرون، تعطر بها المحافل والنوادي، وينشدها الغادي والبادي، ويترنم بها الموالي والمغالي، وقد ألف علماؤنا موسوعات كبيرة تتضمن الكثير من أشعارهم وقصائدهم وتراجمهم، ومن تلك الموسوعات موسوعة الغدير لشيخنا المفضال الحجة المرحوم الشيخ عبدالحسين الأميني (قدس سره)، فلقد كانت موسوعته إحدي مصادر حديثنا في هذه الليالي.

ومن جملة الذين نظموا واقعة الغدير هو سيدنا ومولانا أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقد قال:

محمد النبي أخي وصنوي

وحمزة سيد الشهداء عمي

وجعفر الذي يضحي ويمسي

يطير مع الملائكة ابن أمي

وبنت محمد سكني وعرسي

منوط لحمها بدمي ولحمي

وسبطا أحمد ولداي منها

فأيكم له سهم كسهمي

سبقتكم إلي الإسلام طراً

علي ما كان من فهمي وعلمي

فأوجب لي ولايته

عليكم

رسول الله يوم غدير خم

(الأبيات بصورة أخري).

أخرج الإمام علي بن أحمد الواحدي عن أبي هريرة قال: اجتمع عدة من أصحاب رسول الله (صلّي الله عليه وآله) منهم أبوبكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، والفضل بن العباس، وعمار، وعبدالرحمن بن عوف، وأبوذر، والمقداد، وسلمان، وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، فجلسوا وأخذوا في مناقبهم، فدخل عليهم علي (عليه السلام) فسألهم فيم أنتم؟ قالوا: نتذاكر مناقبنا مما سمعناه من رسول الله.

فقال علي (عليه السلام) اسمعوا مني ثم أنشأ يقول:

لقد علم الأناس بأن سهمي

من الإسلام يفضل كل سهم

وأحمد النبي أخي وصهري

عليه الله صلي وابن عمي

وإني قائد للناس طراً

إلي الإسلام من عرب وعجم

وقاتل كل صنديد رئيس

وجبار من الكفار ضخم

وفي القرآن ألزمهم ولائي

وأوجب طاعتي فرضاً بعزم

كما هارون من موسي أخوه

كذاك أنا أخوه وذاك اسمي

لذاك أقامني لهم إماماً

وأخبرهم به بغدير خم

فمن منكم يعادلني بسهمي

وإسلامي وسابقتي ورحمي

فويل ثم ويل ثم ويل

لمن يلقي الإله غداً بظلمي

وويل ثم ويل ثم ويل

لجاحد طاعتي ومريد هضمي

وويل للذي يشقي سفاهاً

يريد عداوتي من غير جرم

ومنهم حسان بن ثابت شاعر النبي (صلّي الله عليه وآله).

ذكر طائفة كبيرة من أعلام الإمامية والسنة أنه نصب رسول الله (صلّي الله عليه وآله) علياً يوم غدير خم بالخلافة قال حسان بن ثابت: يا رسول الله أقول في علي شعراً؟ فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): افعل، فقال:

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخمٍ وأسمع بالنبي مناديا

وقد جاءه جبريل عن أمر ربه

بأنك معصوم فلا تك وانيا

وبلغهم ما أنزل الله ربهم

إليك ولا تخشي هناك الأعاديا

فقام به إذ ذاك رافع كفه

بكف علي معلن الصوت عاليا

فقال: فمن مولاكم ووليكم؟

فقالوا ولم يبدوا هناك تعاميا

إلهك مولانا وأنت ولينا

ولن تجدن فينا لك اليوم عاصيا

فقال له: قم يا علي فإنني

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه

فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك

دعا: اللهم وال وليه

وكن للذي عادي علياً معاديا

فيا رب أنصر ناصريه لنصرهم

إمام هدي كالبدر يجلو الدياجيا

فلما فرغ حسان مؤيداً من هذا القول قال له النبي (صلّي الله عليه وآله): لا تزال يا حسان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك.

كانت واقعة الغدير من أشهر الأمور الثابتة عند الصحابة والتابعين، ولهذا روي عنهم ذلك نظماً ونثراً، ويمكن لنا أن نقول: إن ثبوت الخلافة والولاية لعلي (عليه السلام) عند الصحابة كان كثبوت نبوة محمد (صلّي الله عليه وآله) عند المسلمين.

ومنهم: قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري سيد الخزرج، قام بين يدي أميرالمؤمنين (عليه السلام) بصفين وقال:

قلت لما بغي العدو علينا

حسبنا ربنا ونعم الوكيل

حسبنا ربنا الذي فتح البص

رة بالأمس والحديث طويل

ويقول فيها:

وعلي إمامنا وإمام

لسوانا أتي به التنزيل

يوم قال النبي: من كنت مولا

ه فهذا مولاه خطب جليل

إن ما قاله النبي علي الأمة

حتم ما فيه قال وقيل

ومنهم عمرو بن العاص العدو اللدود للإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) فلقد أشار في قصيدته الجلجلية إلي واقعة الغدير، ومهما حاول العدو كتمان فضائل خصمه فإن الحق قد يطفح من لسانه، قال في خطابه لمعاوية:

معاوية الحال لا تجهل

وعن سبل الحق لا تعدل

نسيت احتيالي في جلّقٍ

علي أهلها يوم لبس الحلي

إلي أن يقول:

نصرناك من جهلنا يا بن هند

علي النبأ الأعظم الأفضل

وحيث رفعناك فوق الرؤوس

نزلنا إلي أسفل الأسفل

وكم قد سمعنا من المصطفي

وصايا مخصصة في علي

وفي يوم خم رقي منبراً

يبلغ والركب لم يرحل

وفي كفه كفه معلناً

ينادي بأمر العزيز العلي

ألست بكم منكم في النفوس

بأولي؟ فقالوا: بلي فافعل

فأنحله إمرة المؤمنين

من الله مستخلف المنحل

وقال: فمن كنت مولي له

فهذا له اليوم نعم الولي

فوالِ مواليه يا ذا الجلا

ل، وعاد معادي أخ المرسل

ولا تنقضوا العهد من عترتي

فقاطعهم بي لم يوصل

فبخبَخَ شيخك لما رأي

عُري عقد حيدر لم تحلل

فقال: وليكم فاحفظوه

فمدخله

فيكم مدخلي

إلي آخر القصيدة وهي ستة وستون بيتا.

ومن شعراء القرن الثاني الذين تطرقوا إلي واقعة الغدير هو أبوالمستهل الكميت بن زيد الأسدي قال في عينيته:

نفي عن عينك الأرق الهجوعا

وهمٌّ يمتري منها الدموعا

إلي أن يقول:

لدي الرحمن يصدع بالمثاني

وكان له أبوحسن قريعا

وأصفاه النبي علي اختيار

بما أعيي الرفوض له المذيعا

ويوم الدوح دوح غدير خُمٍّ

أبان له الولاية لو أطيعا

ولكن الرجال تبايعوها

فلم أر مثلها خطراً مبيعا

فلم أبلغ بها لعنا ولكن

أساء بذاك أولهم صنيعا

فصار بذاك أقربهم لعدل

إلي جور وأحفظهم مضيعا

أضاعوا أمر قائدهم فضلّوا

وأقومهم لدي الحدثان ريعا

تناسوا حقه وبغوا عليه

بلا ترة وكان لهم قريعا

إلي آخر القصيدة.

ومنهم السيد إسماعيل بن محمد الحميري فقد ذكر قصة الغدير في كثير من قصائده فمنها قوله:

يا بايع الدين بدنياه

ليس بهذا أمر الله

من أين أبغضت علي الوصي

وأحمد قد كان يرضاه

من الذي أحمد في بينهم

يوم غدير الخم ناداه

أقامه من بين أصحابه

وهم حواليه فسماه:

هذا علي بن أبي طالب

مولي لمن قد كنت مولاه

فوال من والاه يا ذا العلا

وعاد من قد كان عاداه

ومن قصائده:

هلا وقفت علي المكان المعشب

بين الطويلع فاللوي من كبكب

ويقول فيها:

وبخُم إذ قال الإله بعزمه:

قم يا محمد في البرية فاخطب

وانصب أباحسن لقومك إنه

هاد، وما بلّغت إن لم تنصب

فدعاه ثم دعاهم فأقامه

لهم، فبين مصدّق ومكذب

جعل الولاية بعده لمهذب

ما كان يجعلها لغير مهذب

وله مناقب لا ترام متي يرد

ساع تناول بعضها يتذبذب

إنا ندين بحب آل محمد

ديناً ومن يحببهم يستوجب

منا المودة والولاء ومن يرد

بدلاً بآل محمد لا يحبب

ومتي يمت يرد الجحيم ولا يرد

حوض الرسول وإن يرده يضرب

إلي آخر القصيدة.

ومن فرائده القصيدة العينية المعروفة:

لأم عمرو باللوي مربع

طامسة أعلامها بلقع

إلي أن يقول:

عجبت من قوم أتوا أحمدا

بخطبة ليس لها موضع

قالوا له: لو شئت أعلمتنا

إلي من الغاية والمفزع؟

إذا توفيت وفارقتنا

وفيهم في الملك من يطمع؟

فقال: لو أعلمتكم مفزعاً

كنتم عسيتم فيه

أن تصنعوا

صنيع أهل العجل إذ فارقوا

هارون فالترك له أوسع

وفي الذي قال بيان لمن

كان إذا يعقل أو يسمع

ثم أتته بعد ذا عزمة

من ربه ليس لها مدفع:

بلّغ وإلا لم تكن مبلغاً

والله منهم عاصم يمنع

فعندها قام النبي الذي

كان بما يأمر به يصدع

يخطب مأموراً وفي كفه

كف علي ظاهر تلمع

رافعها، أكرم بكف الذي

يرفع والكف الذي تُرفع

يقول والأملاك من حوله

والله فيهم شاهد يسمع:

من كنت مولاه فهذا له

مولي فلم يرضوا ولم يقنعوا

فاتهموه وحنت فيهم

علي خلاف الصدق الأصلع

وضلّ قوم غاظهم فعله

كأنما آنافهم تجدع

حتي إذا واروه في لحده

وانصرفوا عن دفنه ضيعوا

ما قال بالأمس وأوصي به

واشتروا الضر بما ينفع

إلي آخر القصيدة وهي أربعة وخمسون بيتا.

عيد الغدير

الأعياد الدينية والوطنية لها أهمية عند الأمم، وتهتم لها بمقدار تلك المناسبة من طقوس دينية وعادات وتقاليد محلية وشعبية، وأصول وقواعد تنسجم مع ذلك العيد.

ومناسبة عيد الغدير كانت ولا تزال ذات أهمية عظيمة عند الله تعالي وعند رسوله وأهل البيت (عليهم السلام) وبقية المسلمين.

أما الأهمية عند الله تعالي، فهو يوم توّج الله فيه عليا بالخلافة والولاية، ونزل جبرائيل من عند الله مهنئا الرسول الأعظم بالتتويج بقوله عز من قائل: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً). [130].

حتي روي الحافظ أبوسعيد في كتابه (شرف المصطفي) عن أحمد بن حنبل وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أنه قال يوم الغدير هنئوني، إن الله تعالي خصني بالنبوة وخصّ أهل بيتي بالإمامة.

وعلي هذا كان كل من الشيخين: أبي بكر وعمر يهنّئ علياً بقوله: (طوبي لك.

أو: بخ بخ.

أو: هنيئاً لك، أصبحت مولاي ومولي كل مؤمن ومؤمنة) كما ذكره زيني دحلان في الفتوحات الإسلامية والدارقطني كما في شرح المواهب.

وقد روي فرات بن إبراهيم الكوفي عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه قال:

قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي، وهو اليوم الذي أمرني الله (تعالي ذكره) بنصب أخي علي بن أبي طالب علما لأمتي يهتدون به من بعدي، وهو اليوم الذي أكمل فيه الدين، وأتم علي أمتي فيه النعمة، ورضي لهم الإسلام دينا.

واقتفي الأئمة الطاهرون نهج جدهم الرسول الأعظم في تعظيم هذا اليوم وكثرة الاهتمام به، كما روي عن فرات بن أحنف عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قلت: جعلت فداك، للمسلمين عيد أفضل من عيد الفطر والأضحي ويوم الجمعة ويوم عرفة؟ فقال لي: نعم، أفضلها وأعظمها وأشرفها عند الله منزلة هو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، وأنزل علي نبيه محمد: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) قال: قلت: وأي يوم هو؟ قال: إن أنبياء بني إسرائيل كانوا إذا أراد أحدهم أن يعقد الوصية والإمامة من بعده ففعل ذلك جعلوا ذلك اليوم عيداً، وإنه اليوم علماً، وأنزل فيه ما أنزل.

وكمل فيه الدين، وتمت فيه النعمة علي المؤمنين.

قال: قلت: وأي يوم هو في السنة؟ فقال لي: إن الأيام تتقدم وتتأخر، وربما كان يوم السبت والأحد والاثنين إلي آخر الأيام السبعة قال قلت: فما ينبغي لنا أن نعمل في ذلك اليوم؟ قال: هو يوم عبادة وصلاة وشكر لله وحمد له، وسرور لما من الله به عليكم من ولايتنا، فإني أحب لكم أن تصوموا.

والروايات في هذا الباب كثيرة جداً، وكانت ولا تزال الشيعة تجعل هذا اليوم عيداً في العراق وإيران والهند وباكستان وسوريا ولبنان وغيرها من البلاد التي يقطن فيها عدد من الشيعة.

وكانت البلاد المغربية في عهد الأدارسة والفاطميين وغيرهم تحتفل في هذا اليوم سروراً وبهجة وتشترك الحكومة والشعب في ذلك.

ولكن

بمرور الزمن وتطور الأحوال أصبح هذا العيد نسياً منسياً في بعض البلاد العربية الأفريقية.

وإنني أعتقد أن الاهتمام بهذا العيد أولي من بقية الأعياد، وإقامة الحفلات في هذه المناسبة السعيدة أحري من أية مناسبة أخري.

لأن المناسبة مهمة جداً، تسترعي الانتباه والعناية والرعاية أكثر وأكثر.

علي عند وفاة الرسول

اشاره

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة علي سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين.

قال الله تبارك وتعالي: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين). [131].

لقد ذكرنا من أول الشهر إلي الليلة الماضية شيئاً من اختصاص الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) برسول الله من حيث الانضمام والتربية والتأديب والتوجيه والأخوة والنفس وسائر الخصائص التي اختص بها كحديث الطائر المشوي وسد الأبواب وغير ذلك.

والليلة حديثنا حول وفاة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وموقف الإمام من تلك الفاجعة العظمي والمصيبة الكبري التي لم يشهد التاريخ مثلها، فقد مرض رسول الله (صلّي الله عليه وآله) بعد أن بلغ من العمر ثلاثاً وستين سنة، وكان النبي ينعي نفسه إلي أصحابه وأهل بيته وزوجاته، ويخبرهم أن تلك السنة آخر سنوات حياته الشريفة المباركة، وأن شمس وجوده قد اقتربت من الغروب، ولهذا قام بتعيين الخليفة والإمام القائم مقامه، وقد تقدم الكلام في الليلة الماضية حول واقعة الغدير.

من جملة الأحكام الشرعية والتعاليم الإسلامية هو الوصية عند الإحساس بخطر الوفاة، قال الله تعالي: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية). [132].

فهل من المعقول أن يموت صاحب الشريعة الإسلامية والمقتدي لقوافل المسلمين علي مر القرون والأجيال بلا وصية؟؟ هل يمكن أن يأمر النبي أمته بالوصية ويتركها هو؟ وعمله حجة وسنة يأخذ بها

المسلمون؟ وهو القائل: (من مات بلا وصية مات ميتة جاهلية).

إن الأخبار والأحاديث والنصوص الواردة حول وصية النبي (صلّي الله عليه وآله) مستفيضة متواترة، وقد زعم بعض الناس أن رسول الله مات بلا وصية وهم يبتغون من وراء هذا الافتراء تبرير مواقف بعض الأفراد، ولا يهمهم تشويه سمعة النبي والمس بكرامته والحط من مقامه.

وللمرحوم السيد عبدالحسين شرف الدين كلام قيّم حول هذا الموضوع تقتطف منه محل الحاجة، قال تغمده الله برحمته: ونصوص الوصية متواترة، عن أئمة العترة الطاهرة، وحسبك مما جاء من طريق غيرهم في قول النبي (صلّي الله عليه وآله) وقد أخذ برقبة علي: (هذا أخي ووصيي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا).

رواه محمد بن حميد الرازي عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله): (لكل نبي وصي ووارث، وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب (عليه السلام). [133].

وروي الطبراني في الكبير بالإسناد إلي سلمان الفارسي قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): (إن وصيي وموضع سري، وخير من أترك بعدي، ينجز عدتي، ويقضي ديني، علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهذا نص في كونه الوصي، وصريح في أنه أفضل الناس بعد النبي، وفيه من الدلالة الإلتزامية علي خلافته، ووجوب طاعته، ما لا يخفي علي أولي الألباب.

وأخرج أبونعيم الحافظ في حلية الأولياء عن أنس، قال: قال لي رسول الله (صلّي الله عليه وآله): يا أنس أول من يدخل عليك هذا الباب: إمام المتقين، وسيد المسلمين.

قال أنس: فجاء علي فقام إليه رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، مستبشراً فاعتنقه وقال له: أنت تؤدي عني، وتسمعهم صوتي، وتبين لهم ما اختلفوا فيه من بعدي.

وأخرج الطبراني في الكبير بالإسناد إلي أبي أيوب الأنصاري، عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قال: يا فاطمة، أما علمت أن الله عزوجل اطلع علي

أهل الأرض، فاختار منهم أباك فبعثه نبيا، ثم اطلع الثانية فاختار بعلك، فأوحي إلي فأنكحته واتخذته وصيا.

أنظر كيف اختار الله عليا من أهل الأرض كافة بعد أن اختار منهم خاتم أنبيائه، ونظر إلي اختيار الوصي وكونه علي نسق اختيار النبي، وانظر كيف أوحي الله إلي نبيه أن يزوجه ويتخذه وصياً، وانظر هل كانت خلفاء الأنبياء من قبل إلا أوصياؤهم، وهل يجوز تأخير خيرة الله من عباده، ووصي سيد أنبيائه، وتقديم غيره عليه، وهل يمكن عقلاً أن يكون طاعة ذلك المتولي الحكم عليه، فيجعله من سوقته ورعاياه؟ وهل يمكن عقلاً أن تكون طاعة ذلك المتولي واجبة علي هذا الذي اختاره الله كما اختار نبيه؟ وكيف يختاره الله ورسوله ثم نحن نختار غيره (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً). [134].

وقد تضافرت الروايات أن أهل النفاق والحسد والتنافس لما علموا أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) سيزوج علياً من بضعته الزهراء وهي عديلة مريم وسيدة نساء أهل الجنة حسدوه لذلك وعظم عليهم الأمر.

ولا سيما بعد أن خطبها من خطبها فلم يفلح، وقالوا: أن هذه ميزة يظهر بها فضل علي، فلا يلحقه بعدها لاحق ولا يطمع في إدارته طامع، فأجلبوا بما لديهم من إرجاف وعملوا لذلك أعمالا، فبعثوا نساءهم إلي سيدة نساء العالمين ينفرنها، فكان مما قلن لها: إنه فقير ليس له شي ء، لكنها (عليهاالسلام) لم يخف عليها مكرهن، وسوء مقاصد رجالهن، ومع ذلك لم تبد لهن شيئاً يكرهنه، ثم ما أراده الله عزوجل ورسوله لها، وحينئذ أرادت أن تظهر من فضل أميرالمؤمنين ما يخزي الله به أعداءه، فقالت: يا

رسول الله زوجتني من فقير لا مال له؟ فأجابها (صلّي الله عليه وآله) بما سمعت.

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود

وأخرج الخطيب في المتفق بسنده المعتبر إلي ابن عباس، قال: لما زوج النبي (صلّي الله عليه وآله) فاطمة من علي، قالت فاطمة: يا رسول الله زوجتني من رجل فقير ليس له شي ء، فقال النبي (صلّي الله عليه وآله): أما ترضين أن الله اختار من أهل الأرض رجلين، أحدهما أبوك والآخر بعلك.

وأخرج الحاكم في مناقب علي (صلّي الله عليه وآله) 129 الجزء الثالث من المستدرك عن طريق سريج بن يونس، عن أبي حفص الأبار، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قالت فاطمة: يا رسول الله زوجتني من علي وهو فقير لا مال له؟ قال (صلّي الله عليه وآله): يا فاطمة أما ترضين أن الله عزوجل اطلع إلي أهل الأرض فاختار رجلين، أحدهما أبوك والآخر بعلك، وعن ابن العباس قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): أما ترضين أني زوجتك أول المسلمين إسلاما، وأعلمهم علماً، وأنك سيدة نساء أمتي، كما سادت مريم نساء قومها، أما ترضين يا فاطمة أن الله اطلع علي أهل الأرض فاختار منها رجلين، فجعل أحدهما أباك، والآخر بعلك.

وكان رسول الله (صلّي الله عليه وآله) بعد هذا إذا ألمّ بسيدة النساء من الدهر لمم يذكرها بنعمة الله ورسوله عليها، إذ زوجها أفضل أمته، ليكون ذلك عزاءً لها، وسلوة عما يصيبها من طوارق الدهر، وحسبك شاهداً لهذا ما أخرجه الإمام أحمد في ص 26 من الجزء الخامس من مسنده من حديث معقل بن يسار، أن النبي (صلّي الله عليه وآله) عاد فاطمة في مرض أصابها علي عهده فقال لها: كيف تجدينك؟ قالت: والله لقد اشتد حزني واشتدت فاقتي وطال

سقمي، قال (صلّي الله عليه وآله) أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلماً وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً. الوصية بصورة أخري:

وصية النبي (صلّي الله عليه وآله) إلي علي لا يمكن جحودها، إذ لا ريب في أنه عهد إليه بعد أن أورثه العلم والحكمة بأن يغسله، ويجهزه ويدفنه، ويفي دينه، وينجز وعده، ويؤدي دينه ويواريه في حفرته، أخرجه الديلمي وهو الحديث 2583 ج 6 من الكنز، وعن عمر من حديث قال فيه رسول الله لعلي: وأنت غاسلي ودافني الحديث، في ص 393 ج 6 في الكنز، وفي هامش ص 45 ج 5 من مسند أحمد، وعن علي: سمعت رسول الله، يقول: أعطيت في علي خمساً لم يعطها نبي في أحد قبلي، أما الأولي فإنه يقضي ديني، ويواريني …

الحديث في أول ص 403 ج 6 من الكنز، ولما وضع علي السرير وأرادوا الصلاة عليه (صلّي الله عليه وآله) قال علي: لا يؤم علي رسول الله أحد، هو إمامكم حياً وميتاً، فكان الناس يدخلون رسلاً رسلاً، فيصلون صفاً صفاً، ليس لهم إمام ويكبرون، وعلي قائم حيال رسول الله يقول: سلام الله عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم إنا نشهد أن قد بلغ ما أنزلت إليه، ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله حتي أعز الله عزوجل دينه، وتمت كلمته، اللهم فاجعلنا ممن يتبع ما أنزل الله إليه، وثبتنا بعده وأجمع بيننا وبينه، فيقول الناس: آمين آمين، حتي صلي عليه الرجال ثم النساء ثم الصبيان، روي هذا كله باللفظ الذي أوردناه ابن سعد عند ذكره غسل النبي من طبقاته، وأول من دخل علي رسول الله يومئذ بنو هاشم، ثم المهاجرون، ثم الأنصار ثم الناس، وأول من صلي عليه علي والعباس وقفا صفاً وكبرا عليه خمساً.

إلي هنا

انتهي كلام سيدنا شرف الدين رحمه الله.

بعض النصوص الواردة حول الوصية

وأما ما ذكره الشعراء في القرن الأول من المهاجرين والأنصار والتابعين حول وصاية أميرالمؤمنين (عليه السلام) فلا مجال لبيان تلك الأبيات الشعرية والأراجيز التي تتضمن هذا الأمر.

والآن ننتقل إلي حديث وفاة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وقيام الإمام بإنجاز وصاياه، وقد ذكرنا فيما سبق أن علياً كان أول الناس عهداً برسول الله (صلّي الله عليه وآله) وسيظهر اليوم أنه كان آخر الناس عهدا به.

وفي كتاب أبي إسحاق قال: دخل أبوبكر علي النبي (صلّي الله عليه وآله) وقد ثقل (اشتد مرضه)، فقال: يا رسول الله متي الأجل؟ قال: قد حضر، قال أبوبكر: الله المستعان علي ذلك فإلي ما المنقلب؟ قال: إلي السدرة المنتهي وجنة المأوي وإلي الرفيق الأعلي والكأس الأوفي والعيش المهني، قال أبوبكر: فمن يلي غسلك؟ قال رجال أهل بيتي، الأدني فالأدني قال: ففيما نكفنك؟ قال: في ثيابي هذه التي علي أو حلة يمانية أو في بياض مصر قال: كيف الصلاة عليك؟ فارتجت الأرض بالبكاء فقال لهم النبي (صلّي الله عليه وآله) مهلاً، عفا الله عنكم، إذا غُسلت فكُفنت فضعوني علي سريري في بيتي هذا علي شفير قبري ثم أخرجوا عني فإن الله تبارك وتعالي أول من يصلي علي ثم يأذن الملائكة في الصلاة علي فأول من ينزل جبرائيل (عليه السلام) ثم إسرافيل ثم ميكائيل ثم ملك الموت (عليه السلام) في جنود كثير من الملائكة بأجمعها ثم أدخلوا علي زمرة زمرة، فصلوا علي وسلموا تسليما ولا تؤذوني وليبدأ بالصلاة علي الأدني من أهل بيتي ثم النساء ثم الصبيان زمراً.

قال أبوبكر: فمن يدخل قبرك؟ قال: الأدني فالأدني من أهل بيتي مع ملائكة لا ترونهم، قوموا فأدوا عني إلي من ورائكم؟ فقلت للحرث بن مرة: من

حدثك هذا الحديث؟ قال: عبدالله بن مسعود.

عن علي (عليه السلام) قال: كان جبرائيل ينزل علي النبي صلي الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه كل يوم وفي كل ليلة، فيقول،: السلام عليك إن ربك يقرؤك السلام فيقول: كيف تجدك؟ وهو أعلم بك ولكنه أراد أن يزيدك كرامة وشرفاً إلي ما أعطاك علي الخلق، وأراد أن يكون عيادة المريض سنة في أمتك، فيقول النبي (صلّي الله عليه وآله) إن كان وجعاً: يا جبرائيل أجدني وجعاً فقال له جبرائيل: اعلم يا محمد إن الله لم يشدد عليك وما من أحد من خلقه أكرم عليه منك، ولكنه أحب أن يسمع صوتك ودعاك حتي تلقاه مستوجباً للدرجة والثواب الذي أعد لك، والكرامة والفضيلة علي الخلق، وإن قال له النبي (صلّي الله عليه وآله) أجدني مريحاً في عافية.

قال له: فاحمد الله علي ذلك فإنه يحب أن تحمد وتشكره ليزيدك إلي ما أعطاك خيراً فإنه يحب أن يحمد ويزيد من شكر.

قال: وإنه نزل عليه في الوقت الذي كان ينزل فيه فعرفنا حسه فقال علي (عليه السلام): فيخرج من كان في البيت غيري؟ فقال له جبرائيل: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويسألك وهو أعلم بك كيف تجدك؟ فقال له النبي: أجدني ميتاً.

قال له جبرائيل: يا محمد أبشر فإن الله إنما أراد أن يبلغك بما تجد ما أعد لك من الكرامة.

قال له النبي صلي الله عليه وسلم: إن ملك الموت استأذن علي فأذنت له، فدخل واستنظرته مجيئك فقال له: يا محمد إن ربك إليك مشتاق فما استأذن ملك الموت علي أحد قبلك ولا يستأذن علي أحد بعدك.

فقال النبي (صلّي الله عليه وآله): لا تبرح يا جبرائيل حتي يعود، ثم أذن للنساء فدخلن فقال

لأبنته: أدني مني يا فاطمة فأكبت عليه فناجاها، فرفعت رأسها وعيناها تهملان دموعاً فقال لها: أدني مني فدنت منه فأكبت عليه فناجاها فرفعت رأسها وهي تضحك، فتعجبنا لما رأينا فسألناها فأخبرتنا أنه نعي نفسه فبكيت فقال: يا بنية لا تجزعي فإني سألت ربي أن يجعلك أول أهل بيتي لحاقاً بي فأخبرني أنه استجاب لي فضحكت، قال: ثم دعا النبي (صلّي الله عليه وآله) الحسن والحسين (عليهماالسلام) فقبلهما وشمهما وجعل يترشفهما وعيناه تهملان.

في علل الشرائع: عن الإمام الصادق عن أبيه عن جده (عليهم السلام) قال لما حضرت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) الوفاة دعا العباس بن عبدالمطلب وأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال للعباس: يا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته؟ فرد عليه وقال: يا رسول الله: أنا شيخ كبير كثير العيال، قليل المال، من يطيقك وأنت تباري الريح؟ قال: فأطرق هنيئة ثم قال: يا عباس أتأخذ تراث رسول الله وتنجز عداته وتؤدي دينه.

فقال: بأبي أنت وأمي أنا شيخ كبير كثير العيال قليل المال، من يطيقك وأنت تباري الريح؟ فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): أما إني سأعطيها من يأخذ بحقها.

ثم قال: يا علي يا أخا محمد أتنجز عداة محمد وتقضي دينه وتأخذ تراثه؟ قال: نعم بأبي أنت وأمي.

فنزع خاتمه من إصبعه فقال: تختم بهذا في حياتي فوضعه علي (عليه السلام) في إصبعه اليمني فصاح رسول الله (صلّي الله عليه وآله): يا بلال علي بالمغفر والدرع والراية وسيفي: ذي الفقار وعمامتي: السحاب والبرد والأبرقة والقضيب.

فقال: يا علي أن جبرائيل أتاني بها.

فقال: يا محمد إجعلها في حلقة الدرع واستوفر بها مكان المنطقة ثم دعا بزوجي نعال عربيين إحداهما مخصوفة والأخري غير مخصوفه، والقميص الذي اسري به فيه، والقميص الذي

خرج فيه يوم أحد والقلانس الثلاث قلنسوة السفر وقلنسوة العيدين وقلنسوة كان يلبسها.

ثم قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): يا بلال علي بالبغلتين: الصهباء والدلدل والناقتين: العضباء والصهباء والفرسين الجناح الذي كان يوقف بباب مسجد رسول الله لحوائج الناس، يبعث رسول الله (صلّي الله عليه وآله) الرجل في حاجته فيركبه وحيزوم وهو الذي يقول أقدم حيزوم.

والحمار اليعفور.

ثم قال: يا علي إقبضها في حياتي حتي لا ينازعك فيها أحد بعدي.

وعن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في مرضه الذي قبض فيه لفاطمة (عليهاالسلام) بأبي وأمي أنت!!! أرسلي إلي بعلك فادعيه لي.

فقالت فاطمة للحسين (عليه السلام): إنطلق إلي أبيك فقل: يدعوك جدي.

فانطلق إليه الحسين فدعاه فأقبل أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حتي دخل علي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وفاطمة (عليهاالسلام) عنده وهي تقول: واكرباه لكربك يا أبتاه.

فقال لها رسول الله (صلّي الله عليه وآله): لا كرب علي أبيك بعد اليوم يا فاطمة، إن النبي لا يشق عليه الجيب، ولا يخمش عليه الوجه، ولا يدعي عليه بالويل ولكن قولي كما قال أبوك علي إبراهيم: تدمع العينان وقد يوجع القلب ولا نقول ما يسخط الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون ولو عاش إبراهيم لكان نبياً.

ثم قال يا علي أدن مني.

فدنا منه فقال أدخل أذنك في في.

ففعل.

فقال: يا أخي ألم تسمع قول الله تعالي في كتابه (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية)؟ [135] قال: بلي يا رسول الله.

قال: هم أنت وشيعتك يجيئون غراً محجلين، شباعاً مرويين، أولم تسمع قول الله في كتابه (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية)؟ [136].

قال: بلي يا رسول الله.

قال: هم أعداؤك وشيعتهم، يجوزون

يوم القيامة ظماء مظمئين، أشقياء معذبين، كفار منافقين، ذلك لك ولشيعتك، وهذا لعدوك ولشيعتهم.

ولما حضره الموت كان أميرالمؤمنين (عليه السلام) حاضراً عنده فلما قرب خروج نفسه (صلّي الله عليه وآله) قال له: ضع يا علي رأسي في حجرك فقد جاء أمر الله تعالي فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثم وجهني إلي القبلة وتول أمري وصل علي أول الناس، ولا تفارقني حتي تواريني في رمسي، واستعن بالله تعالي.

فأخذ علي (عليه السلام) رأسه فوضعه في حجره فأغمي عليه فأكبت فاطمة (عليهاالسلام) تنظر في وحهه وتندبه وتبكي وتقول:

وأبيض يستقي الغمام بوجهه

ثمال اليتامي عصمة الأرامل

ففتح رسول الله (صلّي الله عليه وآله) عينه، وقال بصوت ضئيل: يا بنية هذا قول عمك أبي طالب لا تقوليه ولكن قولي (وما محمد إلا رسول الله قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل أنقلبتم علي أعقابكم) [137] فبكت طويلاً وأومأ إليها بالدنو منه فدنت منه فأسرّ إليها شيئاً تهلل وجهها له.

ثم قبض (صلّي الله عليه وآله) ويد أميرالمؤمنين (عليه السلام) تحت حنكه ففاضت نفسه (صلّي الله عليه وآله) فيها فرفعها إلي وجهه فمسحه بها، ثم وجهه وغمضه ومد عليه إزاره واشتغل بالنظر في أمره.

وقال جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): إن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أوصي إلي علي (عليه السلام) أن لا يغسلني غيرك فقال علي (عليه السلام): يا رسول الله من يناولني الماء؟ إنك رجل ثقيل لا أستطيع أن أُقلّبك؟ فقال: جبرائيل معك يعاونك، ويناولك الفضل الماء، وقل له فليغمض عينيه، فإنه لا أحد يري عورتي غيرك إلا انفقأت عيناه.

كان الفضل بن العباس يناوله الماء وجبرائيل يعاونه، وعلي يغسله، فلما أن فرغ من غسله وكفنه أتاه العباس فقال: يا علي إن الناس قد اجتمعوا علي أن يدفن

النبي (صلّي الله عليه وآله) في بقيع المصلي، وأن يؤمهم رجل منهم، فخرج علي إلي الناس فقال: يا أيها الناس: أما تعلمون أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إمامنا حياً وميتاً؟ وهل تعلمون أنه (صلّي الله عليه وآله) لعن من جعل القبور مصلي؟ ولعن من يجعل مع الله إلهاً؟ ولعن من كسر رباعيته وشق لثته؟ فقالوا: الأمر إليك فاصنع ما رأيت.

فقال: إني أدفن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في البقعة التي قبض فيها.

ثم قام علي الباب فصلي عليه ثم أمر الناس عشرة عشرة يصلون عليه ثم يخرجون.

لما أراد أميرالمؤمنين (عليه السلام) غسل الرسول (صلّي الله عليه وآله) استدعي الفضل بن العباس فأمره أن يناوله الماء لغسله فغسله بعد أن عصب عينيه، ثم شق قميصه من قبل جيبه حتي بلغ إلي سرته وتولي (عليه السلام) غسله وتحنيطه وتكفينه والفضل يعطيه الماء ويعينه عليه فلما فرغ من غسله وتجهيزه تقدم فصلي عليه وحده، ولم يشترك معه أحد في الصلاة عليه، وكان المسلمون في المسجد يخوضون فيمن يؤمهم بالصلاة عليه، وأين يدفن، فخرج إليهم أميرالمؤمنين (عليه السلام) وقال لهم: إن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إمامنا حياً وميتاً فيدخل عليه فوج بعد فوج منكم فيصلون عليه بغير إمام، وينصرفون، وإن الله تعالي لم يقبض نبياً في مكان إلا وقد ارتضاه لرمسه فيه، وإني لدافنه في حجرته التي قبض فيها.

فسلم القوم لذلك ورضوا به، ولما صلي المسلمون عليه أنفذ العباس بن عبدالمطلب برجل إلي أبي عبيدة بن الجراح وكان يحفر لأهل مكة ويضرح، وكان ذلك عادة أهل مكة، وأنفذ (أرسل) إلي زيد بن سهل وكان يحفر لأهل المدينة ويلحد، فاستدعاهما وقال: اللهم خر لنبيك.

فوجد أبوطلحه فقيل له: احفر لرسول الله.

فحفر له لحداً، ودخل أميرالمؤمنين

والعباس بن عبدالمطلب والفضل بن العباس وأسامة بن زيد ليتولوا دفن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فنادت الأنصار من وراء البيت: يا علي إن نذكرك الله وحقنا اليوم من رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أن يذهب، أدخل منا رجلاً يكون لنا به حظ من مواراة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقال ليدخل أنس بن خولي وكان بدرياً فاضلاً من بني عوف من الخزرج، فلما دخل قال له علي (عليه السلام) انزل القبر.

فنزل ووضع أميرالمؤمنين رسول الله (صلّي الله عليه وآله) علي يديه ودلاّه في حفرته، فلما حصل في الأرض قال له أخرج.

فخرج ونزل علي (عليه السلام) إلي القبر، فكشف عن وجه رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ووضع خده علي الأرض موجهاً إلي القبلة علي يمينه ثم وضع عليه اللبن وأهال عليه التراب.

وكان (عليه السلام) يرثي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ويقول:

الموت لا والداً يبقي ولا ولد

هذا السبيل إلي أن لا تري أحد

هذا النبي ولم يخلد لأمته

لو خلّد الله خلقاً قبله خلد

اللموت فينا سهام غير خاطئة

من فاته اليوم سهم لم يفته غدا

وكان (عليه السلام) يصلح قبر رسول الله بمسحاته، وكانت وفاة النبي (صلّي الله عليه وآله) في اليوم الثامن والعشرين من شهر صفر في السنة العاشرة من الهجرة كما هو مشهور عند أهل بيته عليهم و(عليه السلام).

علي في مصيبة الزهراء

كانت مصيبة وفاة الرسول (صلّي الله عليه وآله) من أوجع الفجائع علي قلب علي (عليه السلام) ولولا إيمان علي وصبره علي المصيبة لمات حزناً في تلك المأساة، إذ ما فارق الحزن قلب علي (عليه السلام) حتي فارق الحياة، فسرعان ما ابيضت لحيته الكريمة فقيل له: لو غيرت شيبك يا أميرالمؤمنين.

فقال (عليه السلام): الخضاب زينة ونحن قوم في مصيبة.

يريد بها وفاة رسول الله (صلّي الله عليه وآله).

ولم يختضب الإمام طيلة أيام

حياته لهذا السبب ولأن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أخبره بخضاب خاص، فقد روي ابن نباته قال: قلت لأميرالمؤمنين (عليه السلام): ما منعك من الخضاب وقد اختضب رسول الله (صلّي الله عليه وآله)؟ قال: أنتظر أشقاها أن يخضب لحيتي من دم رأسي، بعهد معهود أخبرني به حبيبي رسول الله.

ولما فارق النبي الحياة وهو بعد لم يدفن اجتمع الناس في موضع يقال له (السقيفة) وقد رشح سعد بن عبادة نفسه للإمارة وهو سيد الخزرج، وأسيد بن حصين أو بشير بن سعد قد رشح نفسه أيضاً لأنه سيد الأوس، وبين الأوس والخزرج عداء وتنافس قديم.

ودخل أبوبكر وعمر وأبوعبيدة في ذلك المجتمع واستمعوا إلي كلام المرشحين للإمارة والرئاسة، وتكلم أبوبكر ودعا الناس إلي عمر أو أبي عبيدة، وامتنع الرجلان أن يتقدما أبابكر لأنه صاحب الغار، وجري كلام ونزاع طويل واصطدام عنيف فيما بين المهاجرين والأنصار وبين أبي بكر وأهل السقيفة، حتي آل الأمر إلي التهديد والشتم.

وهنا انتهز رئيس الأوس الفرصة، وتضعيفاً لجانب سعد بن عبادة (منافسه) وافق علي تأمير أبي بكر، وضم صوته إلي صوت عمر وأبي عبيدة وقال: أنا ثالثكما.

ولما رأي الأوس سيدهم انحاز إلي تلك الناحية اتبعوا رئيسهم، وأقبلوا إلي أبي بكر وبايعوه، وكاد سعد بن عبادة يموت تحت الأقدام، فصاح قتلمتوني.

فصاح عمر: اقتلوا سعداً قتله الله.

وهكذا وقع الانتخاب، وبويع لأبي بكر بالخلافة، وذهبت مساعي النبي (حول تعيين الخليفة) أدراج الرياح، وصارت تلك الجهود هباء منثوراً.

وحدثت حوادث مؤلمة مشجية لا نذكرها تحفظاً علي العواطف أن تخدش، وإن كانت تلك الحوادث مذكورة في الآلاف المؤلفة من كتب الحديث والتاريخ، ومشهورة عند المسلمين.

ونذكر جملة عن موقف الإمام في ذلك العهد: فلقد أخذوا البيعة من الناس لأبي بكر، وجاؤا إلي علي ليخرجوه من البيت ليبايع لأبي بكبر فلم تأذن

لهم فاطمة بالدخول في بيتها، فصدر الأمر بالهجوم فهجموا وأخذوا علياً بعد أن خلعوا عنه سلاحه وأخرجوه من البيت يريدون به المسجد، وخرجت فاطمة خلفهم وهي بأشد الأحوال، إذ إنها أجهضت جنينها فكأنها نسيت آلامها فجعلت تعدو وتصيح: خلوا عن ابن عمي؟ خلوا عن بعلي! والله لأكشفن عن رأسي ولأضعن قميص أبي علي رأسي وأدعوا عليكم!!!

ووصلت إلي باب المسجد فرأت منظراً مؤلماً لا نستطيع أن نصفه إلا إنها استطاعت أن تخلص زوجها من أيدي الناس وتحول بينهم وبين أخذ البيعة منه، ورافقت زوجها إلي البيت سالماً.

أظلمّت الدنيا في عين علي (عليه السلام) وضاقت عليه الأرض بما رحبت، لأنه فقد الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله) ومصيبة النبي أعظم مصيبة علي قلب كل أحد، ولم تنته الكارثة، فقد خيمت الأحزان علي بيت علي، وانقلب البيت إلي مجلس عزاء وحزن وبكاء، فلقد كانت الصديقة الطاهرة لا تفارق البكاء علي وفاة أبيها وعلي مصائبها ونوائبها التي استولت علي قلبها المجروح، ولم تجد من الناس أي تعزية وتسلية.

ومما زاد في حزنها إخراج أراضيها (فدك) من يدها وهناك قضايا وقضايا ساعدت علي انحراف صحة فاطمة، واشتداد علتها واستيلاء الهزال عليها، فكانت تبكي ليلها ونهارها، ومنعوها عن البكاء، فكانت تخرج إلي قبر حمزة سيد الشهداء أو إلي البقيع أو إلي بيت بناه لها أميرالمؤمنين خارج المدينة وسماه (بيت الأحزان) وعاشت بعد أبيها مظلومة مهضومة باكية العين محترقة القلب منهدة الركن معصبة الرأس حليفة الفراش عليلة مريضة.

ودخل عليها علي (عليه السلام) قبل وفاتها فوجدها تغسل ثياب أولادها وتغسل رؤوسهم فسألها عما دعاها إلي العمل المجهد؟ فقالت: يا ابن عم إنه قد نعيت إلي نفسي، وإنني لا أري ما بي إلا أنني لاحقة بأبي، ساعة بعد

ساعة، وأنا أوصيك بأشياء في قلبي.

قال لها علي (عليه السلام): أوصيني بما أحببت يا بنت رسول الله.

فجلس عند رأسها، وأخرج من كان في البيت، ثم قالت: يا أبن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني!!! قال علي (عليه السلام): معاذ الله! أنت أعلم بالله، وأبر وأتقي وأكرم وأشد خوفاً من الله من أن أوبخك بمخالفتي، وقد عز علي مفارقتك وفقدك، إلا إنه أمر لا بد منه، والله لقد جددت علي مصيبة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ولقد عظمت وفاتك وفقدك، فإنا لله وإنا إليه راجعون، من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضها وأحزنها!! هذه والله مصيبة لا عزاء عنها، ورزية لا خلف لها.

ثم بكيا جميعاً، وأخذ علي رأسها وضمها إلي صدره ثم قال: أوصيني بما شئت، فإنك تجديني وفياً، أمضي كل ما أمرتني به وأختار أمرك علي أمري.

فقالت: جزاك الله عني خير الجزاء، يا ابن عم أوصيك أولاً: أن تتزوج بعدي بإبنة أختي أمامة، فإنها تكون لولدي مثلي، فإن الرجال لا بد لهم من النساء.

أوصيك يا ابن عم: أن تتخذ لي نعشاً فقد رأيت الملائكة صوروا لي صورته، فقال لها: صفيه لي.

فوصفته، فاتخذه لها.

ثم قالت: أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني فإنهم عدوي وعدو رسول الله، ولا تترك أن يصلي علي أحد منهم، ولا من أتباعهم، وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار.

إلي آخر وصاياها …

ثم فارقت روحها الحياة، وانتشر الخبر، فصاح أهل البيت صيحة واحدة، واجتمعت نساء بني هاشم في دارها فصرخن صرخة واحدة كادت المدينة تتزعزع من صراخهن.

وازدحم الناس علي باب بيت الإمام ينتظرون خروج الجنازة، فخرج أبوذر ونادي: ‘نصرفوا فإن ابنة رسول الله قد أُخّر إخراجها هذه العشية.

فتفرق الناس، وجن

الليل، ومضي شطر منه، فقام علي (عليه السلام) وغسل أبنة رسول الله من علي ثيابها وحنطها بفاضل حنوط أبيها رسول الله وكنفها في أكنافها، ثم أرسل إلي عمار والمقداد وسلمان وأبي ذر وعقيل والزبير وبريدة ونفر من بني هاشم فلما حضروا صلي عليها علي ودفنوها، ولم يعلم أحد حتي اليوم أين دفنوها؟ ولا يعرف أحد موضع قبرها، ففي البقيع قبر ينسب إليها، وبين منبر رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وقبره قول عند المحدثين، والله العالم بموضع قبرها، وسيبقي قبرها مجهولا عند الناس إلي يوم القيامة.

ولعل في هذا الكتمان أسرارا تستدعي انتباه المسلمين للتحري عن السبب المبرر لتلك الوصية، ولعل هذا الإخفاء رمز يرمز إلي معاني وأمور يعرفها الفطن الذكي.

وقد اختلف المسلمون في المدة التي عاشت فيها فاطمة (عليهاالسلام) بعد وفاة أبيها رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقيل: عاشت بعد أبيها أربعين يوماً، أو خمساً وسبعين يوماً، أو خمساً وتسعين يوماً، أو ستة أشهر، وفارقت الحياة وكانت أول أهل البيت لحوقاً بالنبي (صلّي الله عليه وآله).

انهد ركنا الإمام بفقد الزهراء سيدة النساء وازدادت مصيبته بأطفاله الأربعة (الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم) الذين فقدوا أمهم في عنفوان شبابها بعد أن فجعوا بجدهم البار العطوف الذي كان يمطر عليهم حنانه الأبوي ويشملهم عطفه النبوي.

ومما زاد في أحزان الإمام وبلغ به الاضطهاد أقصي درجة هو تنفيذ وصايا فاطمة بصورة سرية، كمباشرته تغسيلها وتحنيطها وتكفينها والصلاة عليها ودفنها سراً لا جهاراً وليلاً لا نهاراً، وإخفاء موضع قبرها، وغير ذلك من الأمور التي كان من الصعب المستصعب علي قلب الإمام تنفيذها وإنجازها.

فقد ماتت فاطمة ودفنت كأنها امرأة غريبة لا يعرفها أحد، وكأنها ليست ببضعة رسول الله وحبيبته، وأبنته الوحيدة!! وكان الإمام (عليه السلام) يتجلد في تلك المصيبة

رعاية ليتامي فاطمة، إلي أن دفنها في تلك الساعة من تلك الليلة وهو يحاول أن لا يطلع عليه أحد، فيكون سبباً للحيلولة دون تطبيق وصايا فاطمة وتنفيذها، إلي أن أدي جميع الوصايا كما ينبغي، فلما نفض يده من تراب القبر هاج به الحزن فأرسل دموعه علي خديه وحول وجهه إلي قبر رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقال: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرة عينك وزائرتك والبائتة في الثري ببقعتك، النازلة بجوارك، المختار لها الله سرعة اللحاق بك قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري وضعف عن سيدة الناس تجلدي، إلا أن لي في التأسي بسنتك والحزن الذي حلّ بي لفراقك موضع التعزي ولقد وسدتك في ملحود قبرك بعد أن فاضت نفسك علي صدري، وغمضتك بيدي، وتوليت أمرك بنفسي.

نعم، وفي كتاب الله أنعم القبول، وإنا لله وإنا إليه راجعون، قد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، واختلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء!! يا رسول الله: أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، لا يبرح الحزن من قلبي، أو يختار الله لي دارك التي فيها أنت مقيم، كمدٌ مقيّح وهمٌّ مهيج، سرعان ما فرق الله بيننا، إلي الله أشكو، وستنبئك أبنتك بتظاهر أمتك علي، وعلي هضمها حقها، فاستخبرها الحال فكم من غليل معتلج بصدرها، لم تجد إلي بثه سبيلاً، وستقول، ويحكم الله وهو خير الحاكمين.

سلام عليك يا رسول الله، سلام مودّع لا سئيم ولا قالٍ، فإن أنصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظني بما وعد الله مع الصابرين، والصبر أيمن وأجمل، ولولا غلبة المستولين علينا، لجعلت المقام عند قبرك لزاماً، والتلبث عنده عكوفاً، ولأعولت إعوال الثكلي علي جليل الرزية، فبعين الله تدفن ابنتك سراً، ويهتضم حقها

قهراً، ويمنع إرثها جهراً، ولم يطل العهد ولم يخلق منك الذكر، وإلي الله يا رسول الله المشتكي، وفيك أجمل العزاء، فصلوات الله عليها وعليك ورحمة الله وبركاته.

ثم جعل يقول:

أري علل الدنيا علي كثيرة

وصاحبها حتي الممات عليل

لكل اجتماع من خليلين فرقة

وكل الذي دون الفراق قليل

وإن افتقادي فاطماً بعد أحمد

دليل علي أن لا يدوم خليل

وينسب إليه (عليه السلام) هذان البيتان:

نفسي علي زفراتها محبوسة

يا ليتها خرجت مع الزفرات

لا خير بعدك في الحياة وإنما

أبكي مخافة أن تطول حياتي

زواج علي بعد فاطمة

إضطر الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) بعد وفاة سيدة نساء العالمين أن يبادر إلي إختيار زوجة تقوم بشؤون أيتام الإمام الذين فقدوا أمهم في عنفوان شبابها فقدوها وهم براعم صغار لم تتفتح بعد، إذ كان الإمام الحسن وهو أكبر أولاد الإمام عمره يومذاك سبع سنوات وشهوراً وكان الإمام الحسين أصغر منه بستة أشهر وأيام وكذلك السيدة زينب وأختها أم كلثوم هذا من ناحية ومن ناحية أخري كانت الزهراء قد أوصت يوم وفاتها أن يتزوج علي (عليه السلام) بالسيدة أمامة وهي حفيدة رسول الله (صلي الله عليه وآله) إذ أنها كانت بنت زينب بنت رسول الله، وتنفيذاً لهذه الوصية بادر الإمام إلي الزواج بأمامة بعد تسعة أيام من وفاة الزهراء كما ذكر ذلك الشيخ المفيد وروي عنه المجلسي في التاسع من البحار.

كلام حول أزواج الإمام وأولاده

وبالمناسبة لا بأس أن نذكر شيئاً مما يتعلق بعدد زوجات الإمام وأولاده فنقول: كان له (عليه السلام) سبعة وعشرون من الأولاد ذكوراً وإناثاً:

4-1 الإمام الحسن والإمام الحسين وزينب الكبري وزينب الصغري المكناة بأم كلثوم، وأمهم فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلّي الله عليه وآله).

5 محمد بن الحنيفة وأمه خولة بنت جعفر.

7-6 عمر ورقية، وكانا توأمين، وأمهما الصهباء، ويقال أم حبيب التغلبية.

12-8 أبوالفضل العباس وجعفر وعثمان وعبدالله، وأمهم فاطمة أم البنين بنت حزام بن خالد الكلابية، استشهدوا يوم الطف في نصرة الحسين (عليه السلام).

14-13 يحيي وعون وأمهما أسماء بنت عنيس الخثعمية.

16-15 محمد الأصغر المكني أبابكر، وعبيدالله وأمهما: ليلي بنت مسعود الدارمية وقتلا يوم الطف.

20-17 خديجة وأم هاني وميمونة وفاطمة وأمهن: أم ولد جارية.

22-21 أم الحسن ورملة وأمهما: أم شعيب الدارمية وقيل: أم سعيد وقيل: أم مسعود المخزومية.

27-23 نفيسة وزينب الصغري وأم سلمة وأم الكرام وجمانة لأمهات شتي.

وأما أولاده الذين أعقبوا فهم خمسة: الحسن والحسين (عليهماالسلام) ومحمد

بن الحنيفة والعباس وعمر، ومات عدد من الأولاد والبنات في أيام حياة الإمام (عليه السلام).

ولم يتزوج علي (عليه السلام) ما دامت الزهراء كانت علي قيد الحياة كرامة لها، كما أن رسول الله لم يتزوج ما دامت خديجة علي قيد الحياة، ولعل السبب في عدم تزويج علي في حياة فاطمة الزهراء هو قول الرسول (صلّي الله عليه وآله): من آذاها فقد آذاني.

هذا والمعروف: أن علياً تزوج بعد وفاة فاطمة الزهراء (عليهاالسلام) بأربع حرائر وملك عشر إماء وقد روي في المناقب عن الشيخ المفيد (عليه الرحمة) أن أولاده خمسة وعشرون وربما يزيدون علي ذلك إلي خمسة وثلاثين.

علي جليس البيت

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلي علي سيد أنبياء الله محمد وآله آل الله.

حديثنا الليلة حول الفترة التي انقضت علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) وهو جليس البيت، مسلوب الإمكانيات، وقد ابتدأت تلك الفترة من يوم وفاة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) واستيلاء أبي بكر علي مسند الحكم، ولما انقضت أيام أبي بكر أوصي من بعده إلي عمر بن الخطاب فكانت أيام حكمه عشر سنوات وشهوراً، ولما طعن عمر وأحس بالوفاة جعل الخلافة شوري، ورشح ستة من الصحابة وأمرهم أن ينتخبوا واحد من أنفسهم وإليكم التفصيل: لما علم عمر بن الخطاب بأنه ميت استشار الناس حول تعيين الخليفة، فأشير عليه بابنه: عبدالله بن عمر، فقال عمر: لاها الله لا يليها رجلان من ولد الخطاب! حسب عمر ما احتقب، لاها الله! لا أتحملها حياً وميتاً.

ثم قال: عن رسول الله مات وهو راض عن هؤلاء الستة من قريش: علي، عثمان، طلحة، الزبير، سعد بن أبي وقاص، عبدالرحمن بن عوف، وقد رأيت أن أجعلها شوري بينهم ليختاروا لأنفسهم إماماً.

ثم التفت عمر إلي هؤلاء الستة وقال: أكلكم يطمع في الخلافة؟ فسكتوا، فقال لهم ثانية

فقالوا: وما الذي يبعدنا منها؟ وليتها أنت فقمت بها ولسنا دونك في قريش، ولا في السابقة ولا في القرابة.

فقال عمر: أفلا أخبركم عن أنفسكم؟ قالوا: قل، فإنا لو استعفيناك لم تعفنا، فالتفت عمر إلي الزبير وذكر عيوبه ثم التفت إلي طلحة وذكر سوابقه السيئة ثم التفت إلي سعد بن أبي وقاص وذكره بنقائصه، وخاطب عبدالرحمن بن عوف قائلاً: إنك رجل عاجز تحب قومك!! ثم التفت إلي علي وقال: وأما أنت يا علي فلو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم، فقام علي وخرج فقال عمر: والله إني لأعلم مكان الرجل، لو وليتموه أمركم لحملكم علي المحجة البيضاء.

قالوا: من هو؟ قال: هذا المولي من بينكم.

قالوا فما يمنعك من ذلك؟ قال: ليس إلي ذلك من سبيل.

وفي رواية ابن أبي الحديد: ثم أقبل علي علي (عليه السلام) فقال: لله أنت!! لولا دعابة فيك أما والله لئن وليتهم لتحملنهم علي الحق الواضح والمحجة البيضاء.

ثم أقبل عمر علي عثمان وقال: أما أنت يا عثمان فو الله لروثة خير منك!! هؤلاء الذين مات رسول الله وهو راض عنهم!! وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا الموضوع في الجزء الأول من شرح نهج البلاغة.

التفت عمر وقال: ادعوا لي أباطلحة الأنصاري.

فدعوه فقال له: أنظر يا أباطلحة إذا عدتم من حفرتي (دفني) فكن في خمسين رجلاً من الأنصار حاملي سيوفكم، فخذ هؤلاء النفر الستة بإمضاء هذا الأمر وتعجيله، واجمعهم في بيت واحد، فإن اتفق خمسة منهم وأبي واحد فاضرب عنقه! وإن اتفق أربعة وأبي اثنان فأضرب أعناقهما! وإن اتفق ثلاثة وخالف ثلاثة فانظر الثلاثة التي فيها عبدالرحمن بن عوف فارجع إلي ما اتفقت عليه!!! فإن أصرت الثلاثة الأخري علي خلافها فاضرب أعناقها، وإن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا فاضرب أعناق الستة ودع

المسلمين يختاروا لأنفسهم!!! كان هذا هو القرار الصادر بحق الستة الذين مات رسول الله وهو راض عنهم!!! ومات عمر، ولما دفن، جمع أبوطلحة المرشحين للخلافة في بيت عائشة، ووقف هو علي باب البيت في خمسين رجلاً حاملي سيوفهم ولما استقر المجلس بهؤلاء الستة وقبل الشروع في الكلام نادي عمار بن ياسر من وراء الباب: إن وليتموها علياً سمعنا وأطعنا، وإن وليتموها عثمان سمعنا وعصينا، فقام الوليد بن عقبة وقال: يا معشر الناس: أهل الشوري إن وليتموها عثمان سمعنا وأطعنا، وإن وليتموها علي سمعنا وعصينا.

فانتهره عمار وقال له: متي كان مثلك يا فاسق يعترض أمور المسلمين وشتات جمعها؟؟.

وتسابا جميعاً وتناوشا حتي حيل بينهما.

فقال المقداد من وراء الباب: يا معشر المسلمين إن وليتموها أحد من القوم فلا تولوها من لم يحضر بدراً، وانهزم يوم أحد ولم يحضر بيعة الرضوان، وولي الدبر يوم التقي الجمعان فقال عثمان: أما والله لئن وليتها لأردنك إلي ربك الأول!!!! أما طلحة فإنه كان يعلم أن الخلافة لا تصل إليه مع وجود أميرالمؤمنين (عليه السلام) وعثمان، فلهذا أشهد القوم علي نفسه: أنه قد وهب حقه من الشوري لعثمان، وإنما فعل ذلك تقوية لجانب عثمان.

وأما الزبير فكان ابن عم أميرالمؤمنين ولما رأي ما صنعه طلحة لعثمان وهب هو حقه من الشوري إلي أميرالمؤمنين فقال: أنا أشهدكم أني قد وهبت حقي من الشوري لعلي.

فتساوي الجانبان ولكل منهما صوت واحد، فبقي عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، فوهب سعد حقه لعبد الرحمن بن عوف لأن سعداً كان يعلم أن الخلافة لا تتم له.

فقال عبدالرحمن لأمير المؤمنين وعثمان: أيكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين؟؟ فلم يتكلم منهما أحد، فقال عبدالرحمن: أشهدكم أنني قد أخرجت

نفسي من الخلافة علي أن أختار أحدهما.

فبدأ بعلي (عليه السلام) وقال له: (أبايعك علي كتاب الله وسنة النبي وسيرة الشيخين: أبي بكر وعمر) فقال علي بل علي كتاب الله وسنة النبي واجتهاد رأيي.

فعدل عبدالرحمن عنه، فعرض ذلك علي عثمان فقال: نعم.

فعاد عبدالرحمن إلي علي، فأعاد علي قوله، فعل ذلك عبدالرحمن ثلاث مرات فلما رأي أن علياً غير راجع عما قاله وأن عثمان ينعم له بالإجابة صفق علي يد عثمان وقال له: السلام عليك يا أميرالمؤمنين.

فقال علي (عليه السلام) لعبد الرحمن بن عوف: والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجي صاحبكما من صاحبه.

ثم دعي عليه وقال: دق الله بينكما عطر منشم.

أشار (عليه السلام) إلي سبب تقديم عبدالرحمن عثمان علي علي (عليه السلام) وذكر أن السبب في بيعة عبدالرحمن لعثمان كالسبب في بيعة عمر لأبي بكر أي كما أن عمر بايع أبابكر يوم السقيفة ليرد أبوبكر الخلافة إليه عند موته فدعي عليهما أن يفسد ما بينهما، لأن منشم بكسر الميم اسم امرأة عطارة بمكة وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيبوا من طيبها، وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلي فيما بينهم حتي صار يضرب به المثل فيقال أشأم من عطر منشم.

واستجاب الله دعاء الإمام (عليه السلام) ففسد بعد ذلك بين عبدالرحمن وعثمان فلم يكلم أحدهما صاحبه حتي مات عبدالرحمن.

لأن عثمان بني قصره (طمار) والزوراء، وصنع طعاماً كثيراً ودعا الناس إليه فكان فيهم عبدالرحمن، فلما نظر إلي البناء والطعام قال: يا أبن عفان لقد صدقنا عليك ما كنا نكذب فيك، وإني أستعيذ بالله من بيعتك فغضب عثمان وقال: أخرجه عني يا غلام، فأخرجوه، فأمر عثمان الناس أن لا يجالسوه..

وللإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) احتجاج مفصل في يوم الشوري مذكور في (كتاب الاحتجاج للطبرسي) يذكر فيه

فضائله وفواضله ومناقبه وخصائصه وينشد الناس ذلك فيحلف له الناس علي صدق كلامه وقد اشتهر بحديث المناشدة ورعاية للاختصار لم نذكره.

هذه خلاصة يوم الشوري وقد ذكرناها كما هي بدون أي تعليق ولما انتقلت الخلافة إلي عثمان بن عفان واشترطوا عليه العمل بكتاب الله وسنة النبي (صلّي الله عليه وآله) وسيرة الشيخين فما مضت مدة وإذا به يخالف الكتاب والسنة والشيخين فكان من أعماله أنه ضرب عمار بن ياسر ضرباً شديداً، وضربه برجليه وهما في الخف علي بطنه حتي أفتق عمار وأغمي عليه وما زال مغمي عليه حتي فاتته صلاة الظهر والعصر والمغرب، وأمر بتسيير أبي ذر إلي الشام ثم أمر بإرجاعه إلي المدينة فساروا به سيراً حثيثاً بلا نزول ولا راحة ولا نوم فلما وصل إلي المدينة، تناثر لحم فخذيه ورجليه، وبعد ذلك أمر بتسفيره إلي الربذة وهي منطقة ردية الماء والهواء لا زرع فيها ولا كلاء فمات أبوذر هناك جوعاً ولم يحضره أحد سوي ابنته الصغيرة.

ومنها إحراقه المصاحف (القرائين) ومنها ضربه عبدالله بن مسعود الصحابي الجليل وقطعه عطاءه مدة سنتين.

ومنها تسليط أقاربه وأرحامه علي رقاب المسلمين يلعبون بدمائهم وأموالهم، ويصلون بالمسلمين في حالة السكر، ويتقيئون الخمر في المحراب.

ومنها أنه بذل من بيت مال المسلمين أربع ملايين وثلاثمائة وعشرة آلاف دينار (4.310.000) ومائة وستة وعشرين مليون وسبع مائة وسبعين ألف درهم (126.770.000) كل ذلك من بيت مال المسلمين وهبها لأبن الزرقاء الزانية مروان بن الحكم ونظرائه من أقارب عثمان وبناته، إلي غير ذلك من المآسي التي يطول الكلام بذكرها.

فأحدثت أعماله في قلوب المسلمين ثورة ونقمة وفي طليعة الناقمين عليه عائشة وطلحة والزبير وغيرهم من المسلمين.

ولهذا كانت عائشة تحرض الناس علي عثمان وتخرج قميص رسول الله (صلّي الله عليه

وآله) علي قصبة وتقول: أيها المسلمون إن عثمان غير سنة رسول الله وهذا ثوبه لم يبل بعد!!

واجتمع المسلمون من مصر والبصرة والكوفة وقصدوا نحو المدينة يريدون مقابلة عثمان، فجاء إليهم مروان وقابلهم بالكلام الخشن وأجابوه بالسب والشتم، واستمر الثوار يحاصرون دار عثمان، وفي تلك الأيام خرجت عائشة إلي الحج وهي تقول: اقتلوا نعثلاً قتله الله، اقتلوا نعثلاً فقد كفر.

لم يستطع الثوار أن يقابلوا عثمان إلا بعد أن تدخل علي (عليه السلام) في القضية وبذل ما في وسعه للإصلاح بين عثمان والثوار.

فذهبت المساعي أدراج الرياح وكتب عثمان إلي والي مصر يأمره بقطع الأيدي والأرجل من بعض الثائرين بعد أن وعدهم أن ينزل عند رغبتهم ويلبي طلباتهم القانونية وحقوقهم المشروعة، فرجع الثوار وتفرقوا راضين عن عثمان وفي أثناء الطريق وجدوا غلام عثمان ففتشوه فوجدوا عنده ذلك الكتاب فرجعوا وقد أخذ الغضب منهم مأخذاً عظيماً، ولما علم علي (عليه السلام) بذلك انسحب عن الفتنة، واقترب الثوار من دار عثمان ومنعوا أحداً يدخل عليه أو يخرج من بيته، فصعد عثمان علي السطح وقال: من يبلغ علياً ليرسل لنا الماء.

فوصل الخبر إلي علي فأرسل ولديه الحسن والحسين وغلامه فنبر يحمل كل واحد منهم قربة من الماء.

وأراد الثوار أن يمنعوهم من الدخول، ولكن كرامة لرسول الله أذنوا لهم بإيصال الماء إلي عثمان، وأمر علي (عليه السلام) ولديه أن يقفا علي باب عثمان يحرسانه من هجوم الثوار عليه.

وأخيراً وجد المحاصرون طريقاً إلي دار عثمان من الدار المجاورة له وهجموا عليه يقدمهم محمد بن أبي بكر وقتلوا عثمان فإنا لله وإنا إليه راجعون.

كان موقف علي (عليه السلام) مقابل أعمال عثمان موقف المصلح الناصح الشفيق، وكثيراً ما كان الإمام يحول بينه وبين تصرفاته غير المرضية، وخاصة في تلك الأيام الأخيرة استطاع الإمام

بعد شق الأنفس أن يرفع سوء التفاهم بين عثمان والثوار المصريين والبصريين والكوفيين، ويلطف الجو، ووجد لهم حلاً صحيحاً يحسم نزاعهم ويعيد المياه إلي مجاريها.

ورجع الثوار إلي بلادهم راضين شاكرين لعلي (عليه السلام) موقفه الإصلاحي في قضيتهم ومشكلتهم، ولما وجدوا كتاب عثمان بيد غلامه رجعوا إلي المدينة فأرسل عثمان إلي علي يطلب منه التدخل في القضية فخرج علي والتقي بالثوار وسألهم عن سبب رجوعهم فأبروزا كتاب عثمان وفيه يأمر عثمان بقطع أيدي المصريين وأرجلهم وقتل جماعة آخرين! فجاء بهم علي وأدخلهم علي عثمان وأبرز له ذلك الكتاب، فلما نظر إليه عثمان قال: الخاتم خاتمي، والغلام غلامي، والخط خط كتابتي، ولا علم لي بالكتاب!! فقال له الإمام (عليه السلام): فمن تتهم؟ قال عثمان لعلي (عليه السلام) أتهمك وأتهم كاتبي!! فقام علي مغضباً وقال: بل هو فعلك.

واعتزل الإمام تلك الفتنة، ولما استسقاه عثمان أرسل علي (عليه السلام) سيدي شباب أهل الجنة ابني رسول الله الحسن والحسين يحملان الماء إلي دار عثمان ويحرسانه من تلك الفتنة.

وقد تقدم كل هذا، ومع هذا كله وغير هذا مما لم نذكره هنا كان أعداء علي يتهمونه بقتل عثمان ويطلبون منه الثأر، فأقاموا المجازر والمذابح التي أمطرت السماء فيها دما، وكاد العرب أن ينقرض، ولقد بلغ عدد القتلي والضحايا في هذه الحرب أكثر من مائة وستين ألف رجل ولا تسأل عن عوائل هؤلاء وأيتامهم وما هناك من ويلات ومصائب والتفصيل في الليلة القادمة إن شاء الله تعالي.

علي يوم الجمل

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله علي كل حال وصلي الله علي محمد وآله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

انتهي الكلام في الليلة الماضية حول وفاة عثمان، وكانت مدة خلافته إحدي عشرة سنة وأحد عشر شهرا وثمانية عشر يوما.

اجتمعت الصحابة بعد

مقتل عثمان في مسجد رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وتشاوروا في أمر الإمامة، فأشار بعضهم بعلي (عليه السلام) وهم: عمار بن ياسر وأبوأيوب الأنصاري، وأبوالهيثم بن التيهان وغيرهم، فذكروا سابقة علي (عليه السلام) وفضله جهاده، فأجابهم الناس إليه، فقام كل واحد منهم خطيباً يذكر فضل علي، فمنهم من فضله علي أهل عصره، ومنهم من فضله علي جميع المسلمين عامة، فأتي الناس عليا ليبايعوه، فقال (عليه السلام): دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه، وله ألوان لا تقوم له القلوب.

فقالوا: ننشدك الله: ألا تري ما نحن فيه؟ ألا تري الفتنة؟ ألا تخاف الله؟وقال الشعبي: أقبل الناس إلي علي (عليه السلام) ليبايعوه، ومالوا إليه، فمدوا يده فكفها، وبسطوها فقبضها حتي بايعوه.

قال (عليه السلام): لا حاجة لي في أمرتكم، فمن اخترتم رضيت به.

فقالوا: ما نختار غيرك.

وترددوا إليه مراراً، وقالوا: والله ما نحن بفاعلين حتي نبايعك.

فقال (عليه السلام): ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفية، ولا تكون إلا في المسجد وكان في بيته فخرج إلي المسجد، وعليه قميص وعمامة خز، ونعلاه في يده، متوكئاً علو قوسه، فبايعه الناس، وكان أول من بايعه من الناس: طلحة، ثم الزبير ثم بايعه المهاجرون والأنصار وسائر المسلمين.

ولما أراد طلحة والزبير أن يبايعا قال لهما أميرالمؤمنين: إن أحببتما أن تبايعاني وإن أحببتما بايعتكما؟ فقالا: بل نبايعك.

وجاءوا بسعد بن أبي وقاص فقال له علي: بايع.

قال: لا حتي يبايع الناس، والله ما عليك مني بأس.

فقال الإمام: خلوا سبيله.

وجاءوا بعبدالله بن عمر فقالوا: بايع.

فقال: لا، حتي يبايع الناس فقال (عليه السلام): ائتني بكفيل.

قال: لا أري كفيلا.

فقال الأشتر: دعني أضرب عنقه.

فقال الإمام: دعوه أنا كفيله!.

كان الازدحام علي الإمام علي بصورة مدهشة، وكاد الناس أن يقتل بعضهم بعضاً من شدة الازدحام.

فبويع له بالخلافة يوم الجمعة لثمانية

عشر من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة.

ومن ذلك اليوم نهض علي (عليه السلام) بأعباء الخلافة، وأول خطوة تقدم بها الإمام إلي العدالة هو تقسيم بيت مال المسلمين بالسوية وذلك في اليوم الثاني من بيعته، فصعد المنبر، فحمد الله وأثني عليه، وكان مما قال: أما بعد، لما قبض رسول الله (صلّي الله عليه وآله) استخلف الناس أبابكر، ثم استخلف أبوبكر عمر، فعمل بطريقه، ثم جعلها شوري بين ستة، فأفضي الأمر إلي عثمان، فعمل ما أنكرتم وعرفتم، ثم حصر، ثم قتل، ثم جئتموني فطلبتم إلي، وإنما أنا رجل منكم، لي ما لكم وعلي ما عليكم..

إلخ.

ثم التفت يمينا وشمالا فقال: ألا لا يقولن رجال منكم قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار وفجروا الأنهار وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً إذا منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلي حقوقهم التي يعملون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا!! ألا وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدق ملتنا، ودخل في ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، لا فضل لأحد علي أحد، وللمتقين غداً أحسن الجزاء وفضل الثواب.

وإذا كان غد إن شاء الله فاغدوا علينا، فإن عندنا مالاً نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم، عربي ولا عجمي، كان من أهل العطاء أو لم يكن، إذا كان مسلما حرا إلا حضر، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم.

وعن عمار وابن عباس قالا: إنه (عليه السلام) لما صعد المنبر قال لنا: قوموا فتخللوا الصفوف، ونادوا هل من كاره؟ فتصارخ الناس من كل جانب: اللهم قد رضينا وسلمنا وأطعنا رسولك وابن عمه، فقال (عليه السلام): قم يا عمار إلي بيت المال،

فأعط الناس، ثلاثة دنانير لكل إنسان وادفع لي ثلاثة دنانير!! فمضي عمار وأبوالهيثم وجماعة من المسلمين إلي بيت المال، ومضي أميرالمؤمنين إلي مسجد قباء يصلي فيه، فوجدوا ثلاثمائة ألف دينار، ووجدوا الناس مائة ألف فقال عمار: جاء والله الحق من ربكم، والله ما علم بالمال ولا بالناس وإن هذه الآية وجبت عليكم بها طاعة الرجل.

أول شي ء كرهه الناس من أميرالمؤمنين تقسيمه العطاء بالسوية فقد قال سهل بن حنيف: يا أميرالمؤمنين هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم فقال (عليه السلام): نعطيه كما نعطيك!! وأمر الإمام أن يبدأوا في العطاء بالمهاجرين ثم يثنون بالأنصار ثم من حضر من الناس كلهم الأحمر والأسود.

تخلف من هذه القسمة يومئذ طلحة والزبير وعبدالله بن عمر وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم ورجال من قريش، ومن هنا بدأت التفرقة ونشب الخلاف، وتولدت الفتنة.

وأقبل هؤلاء وجلسوا في ناحية من المسجد، ولم يجلسوا عند علي (عليه السلام) ثم قام الوليد بن عقبة فجاء إلي الإمام فقال: يا أباالحسن إنك قد وترتنا جميعاً، أما أنا: فقتلت أبي يوم بدر صبراً، وخذلت أخي يوم الدار بالأمس، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب وكان ثور قريش، وأما مروان فسخفت أباه عند عثمان إذ ضمه إليه، ونحن إخوانك ونظراؤك من بني عبدمناف، ونحن نبايعك اليوم علي أن تضع عنا ما أصبناه من المال في يوم عثمان وأن تقتل قتلة عثمان، وإنا إن خفناك تركناك والتحقنا بالشام.

فقال (عليه السلام): أما ما ذكرتم من وتري إياكم فالحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم، وأما قتلي عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس، ولكن لكم علي إن خفتموني أن أؤمنكم، وإن خفتكم

أن أُسيّركم.

فقام الوليد إلي أصحابه فحدثهم، فافترقوا علي إظهار العداوة وإشاعة الخلاف، لأن عماراً وعبدالله بن رافع وغيرهما لما قسموا المال بين الناس بالسوية أخذ علي (عليه السلام) مكتله ومسحاته ثم انطلق إلي بئر الملك فعمل فيها فأخذ الناس ذلك القسم حتي بلغوا الزبير وطلحة وعبدالله بن عمر فأمسكوا بأيديهم، وامتنعوا عن القبول وقالوا: هذا منكم أو من صاحبكم؟ فقالوا: هذا أمره، ولا نعمل إلا بأمره، قالوا استأذنوا لنا عليه.

قالوا: ما عليه إذن، هو ببئر الملك يعمل، فركبوا دوابهم حتي جاءوا إليه فوجدوه في الشمس ومعه أجير له، فقالوا: إن الشمس حارة، فارتفع معنا إلي الظل.

فارتفع معهم إلي الظل، فقالوا: لنا قرابة من نبي الله، وسابقة وجهاد، وإنك أعطيتنا بالسوية، ولم يكن عمر وعثمان يعطوننا بالسوية، كانوا يفضلوننا علي غيرنا.

فقال (عليه السلام): فهذا قسم أبي بكر، وإلا تدعوا أبابكر وغيره، وهذا كتاب الله فانظروا ما لكم من حق فخذوه.

قالوا: فسابقتنا.

قال: أنتما أسبق مني؟ قالا: لا، فقرابتنا من النبي.

قال: أقرب من قرابتي؟ قالا: لا، فجهادنا.

قال: أعظم من جهادي؟ قالا: لا، قال: فو الله ما أنا في هذا المال وأجيري إلا بمنزلة سواء.

وفي اليوم الثاني جاء طلحة والزبير وجلسا في ناحية المسجد.

وجاء مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبدالله الزبير وجلسوا عندهما، وكان هؤلاء قد امتنعوا عن أخذ قسمتهم من بيت المال وجعلوا يطعنون في أميرالمؤمنين (عليه السلام) والتفت عمار بن ياسر إلي أصحابه وهم جلوس عنده في ناحية أخري من المسجد قائلا: هلموا إلي هؤلاء النفر من إخوانكم فإنه قد بلغنا عنهم ورأينا ما نكره من الخلاف والطعن لإمامهم، وقد دخل أهل الجفاء بينهم وبين الزبير والأعسر العاق (طلحة).

قام عمار ومن معه حتي جلسوا عندهم فتكلم أبوالهيثم وقال: إن لكم

لقدماً في الإسلام، وسابقة وقرابة من أميرالمؤمنين، وقد بلغنا عنكم طعن وسخط لأمير المؤمنين، فإن يكن لكما خاصة، فعاتبا ابن عمتكما، وإمامكما؟ وإن تكن النصيحة للمسلمين فلا تؤخراه عنه ونحن عون لكما فقد علمنا أن بني أمية لن تنصحكما أبداً، وقد عرفتما..

فقال أحمد: قد عرفتما عداوتهم لكما، وقد شركتما في دم عثمان. وملأتما.

فسكت الزبير، وصاح طلحة بصوت عال: أفزعوا جميعاً مما تقولون، فإني قد عرفت إن في كل واحد منكم خطبة.

فتدخل عمار وأبدي النصيحة، وتقدم إبن الزبير وتكلم بكلام خشن فأمر عمار بإخراج ابن الزبير من المسجد، فقام الزبير منزعجاً من هذا العمل وخرج من المسجد، فقال عمار: لو لم يبق أحد إلا خالف علي بن أبي طالب لما خالفته، ولا زالت يدي مع يده، وذلك أن علياً لم يزل مع الحق منذ بعث الله محمد (صلّي الله عليه وآله) فإني أشهد أن لا ينبغي لأحد أن يفضل عليه أحداً.

فقام عمار وجماعة وجاءوا إلي أميرالمؤمنين، وأخبروه بانشقاق القوم وأنهم كرهوا الأسوة والقسمة بالسوية إلي آخر كلامهم.

فخرج الإمام ودخل المسجد وصعد المنبر وقال بعد الحمد والثناء علي الله: يا معشر المهاجرين والأنصار: أتمنون علي الله ورسوله بإسلامكم؟ بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين، أنا أبوالحسن وكان يقولها إذا غضب ألا إن هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنونها، وترغبون فيها، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ليست بداركم ولا منزلكم الذي خلقتم له، فلا تغرنكم، وأما هذا الفي ء (المال) فليس لأحد أثرة.

فقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون وهذا كتاب الله، به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبينا بين أظهرنا فمن لم يرض فليتول كيف شاء، فإن العامل بطاعة الله الحاكم بحكم الله لا وحشة

عليه! نزل الإمام عن المنبر وصلي ركعتين ثم بعث بعمار بن ياسر إلي طلحة والزبير وهما في ناحية المسجد، فدعاهما، فجاء طلحة والزبير، وجلسا عند أميرالمؤمنين (عليه السلام) فقال الإمام: نشدتكما الله؟ هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وأنا كاره لها؟ فقال الرجلان: نعم.

فقال الإمام: غير مجبورين ولا معسورين، فأسلمتما لي ببيعتكما أعطيتماني عهدكما؟؟ فقال الرجلان: نعم.

فقال الإمام: فما دعاكما إلي ما أري؟ فقال الرجلان: أعطيناك بيعتنا علي أن لا تقضي في الأمور، ولا تقطعها دوننا، وأن تستشيرنا في كل أمر، ولا تستبد بذلك علينا، ولنا من الفضل علي غيرنا ما قد علمت فأنت تقسم القسم وتقطع الأمور وتقضي الحكم بغير مشاورتنا ولا علمنا!! فقال الإمام غاضباً: لقد نقمتما يسيراً، وأرجأتما كثيراً، فاستغفرا الله يغفر لكما، ألا تخبراني! أدفعتمكا عن حق واجب لكما فظلمتكما إياه؟ فقال الرجلان: معاذ الله.

فقال الإمام: فهل استأثرت من هذا المال بشي ء؟ فقال الرجلان: معاذ الله، فقال الإمام: أفوقع حكم أوحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت فيه؟ فقال الرجلان: معاذ الله.

فقال الإمام: فما الذي كرهتما من أمري حتي رأيتما خلافي؟ فقال الرجلان: خلافك عمر بن الخطاب في القسم، إنك جعلت حقنا في القسم، كحق غيرنا، وسويت بيننا وبين من لا يماثلنا فيها ما أفاء الله تعالي بأسيافنا ورماحنا، وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا، وظهرت عليه دعوتنا، وأخذناه قسراً وقهراً ممن لا يري الإسلام إلا كرها.

فقال الإمام: أما ما ذكرتما من الاستشارة بكما فوالله ما كانت لي في الولاية رغبة ولكنكم دعوتموني إليها وجعلتموني عليها، فخفت أن أردكم فتختلف الأمة فلما أفضت إلي نظرت في كتاب الله وسنة رسوله فأمضيت ما دلاني عليه واتبعته، ولم أحتج إلي رأيكما فيه ولا رأي غيركما، ولو وقع

حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه واحتيج إلي المشورة لشاورتكما فيه.

وأما القسم والأسوة: فإن ذلك لم أحكم فيه بادئ بدء، قد وجدت أنا وأنتما رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يحكم بذلك، وكتاب الله ناطق به، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

وأما قولكما: (جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا فقديما سبق إلي الإسلام قوم، ونصروه بسيوفهم ورماحهم فلا فضلهم رسول الله بالقسم، ولا آثر بالسبق، والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة بأعمالهم وليس لكما والله عندي ولا لغيركما إلا هذا، أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلي الحق وألهمنا وإياكم الصبر، رحم الله امرئً رأي حقاً فأعان عليه، ورأي جوراً فردّه، وكان عونا للحق علي من خالفه).

قام طلحة والزبير وانصرفا من عند أميرالمؤمنين (عليه السلام) وهما مغضبان ساخطان، وقد عرفا ما كان غلب في ظنهما من رأيه وبعد يومين جاءا واستأذنا عليه فأذن لهما، فقالا: يا أميرالمؤمنين: قد عرفت حال هذه الأزمنة وما نحن فيه من الشدة، وقد جئناك لتدفع إلينا شيئا نصلح به أحوالنا ونقضي به حقوقاً علينا.

فقال أميرالمؤمنين: قد عرفتما مالي ب(ينبع) فإن شئتما كتبت لكما منه ما تيسر.

فقالا: لا حاجة لنا في مالك ب(ينبغ) فقال أميرالمؤمنين: ما أصنع؟ فقالا: اعطنا من بيت المال شيئاً لنا فيه كفاية.

فقال أميرالمؤمنين: سبحان الله وأي يد لي في بيت مال المسلمين؟ وأنا خازنهم أمين لهم، فإن شئتما رقيتما المنبر وسألتما ذلك من الناس ما شئتما فإن أذنوا فيه فعلت، وأني لي بذلك وهو لكافة المسلمين شاهدهم وغائبهم؟ ولكني أبدي لكما عذراً، فقالا: ما كنا بالذي نكلفك ذلك، ولو كلفناك لما أجابك المسلمون.

فقال

أميرالمؤمنين: فما أصنع؟ فقالا: سمعنا ما عندك.

ثم حرج الرجلان من دار أميرالمؤمنين، وقد يئسا من بيت المال، فجعلا يفكران في كيفية الخروج إلي مكة، والالتحاق بعائشة، إلي أن صار رأيهما علي هذا وجاءا إلي أميرالمؤمنين (عليه السلام) وقت خلوته وقالا: قد جئناك نستأذنك للخروج في العمرة، لأنا بعيدا العهد بها.

فأذن لنا فيها.

فنظر أميرالمؤمنين في وجهيهما، وقرأ الغدر من فلتات لسانهما ودوران عيونهما، وقد احمر وجهه ولاح الغضب فيه فقال: والله ما تريدان العمرة، ولكنكما تريدان الغدرة، وإنكما تريدان البصرة.

فقال الرجلان: اللهم غفراً، ما نريد إلا العمرة.

فقال أميرالمؤمنين: احلفا لي بالله العظيم أنكما لا تفسدان علي أمر المسلمين، ولا تنكثان لي بيعة ولا تسعيان في فتنة.

فحلفا بالأيمان المؤكدة فيما استحلفهما عليه من ذلك فخرج الرجلان من عنده، فلقيهما ابن عباس سائلاً: أذن لكما أميرالمؤمنين؟ فقالا: نعم.

ودخل ابن عباس علي الإمام فابتدأ الإمام (عليه السلام) قائلاً: يا ابن عباس: أعندك الخبر؟ فقال ابن عباس: قد رأيت طلحة والزبير.

فقال أميرالمؤمنين: إنهما استأذنا في العمرة، فأذنت لهما بعد أن أوثقت منهما بالأيمان أن لا يغدرا ولا ينكثا ولا يحدثا فساداً وبعد هنيئة قال: والله يا بن عباس: إني لأعلم أنهما ما قصدا إلا الفتنة، فكأني بهما وقد صارا إلي مكة ليسعيا إلي حربي، فإن يعلي بن منبه الخائن الفاجر قد حمل أموال العراق وفارس لينفق ذلك، وسيفسد هذان الرجلان علي أمري، ويسفكان دماء شيعتي وأنصاري، فقال ابن عباس: إذا كان ذلك عندك يا أميرالمؤمنين معلوماً، فلم أذنت لهما؟ هلا حبستهما، وأوثقتهما بالحديد، وكفيت المؤمنين شرهما؟ فقال أميرالمؤمنين متعجباً: يا ابن عباس أتأمرني بالظلم أبدا؟ وبالسيئة قبل الحسنة؟ وأعاقب علي الظنة والتهمة؟ وأؤاخذ بالفعل قبل كونه؟ كلا والله، لا عدلت عما أخذ الله علي من الحكم والعدل، ولا

ابتدأ بالفصل، يا ابن عباس: إنني أذنت لهما وأعرف ما يكون منهما، ولكني استظهرت بالله عليهما والله لأقتلنهما ولأخيبن ظنهما، ولا يلقيان من الأمر مناهما، وإن الله يأخذهما بظلمهما لي، ونكثهما بيعتي وبغيهما علي.

خرج الرجلان من المدينة متوجهين إلي مكة، فوجدا بني أمية قد أحاطوا بعائشة، ولحق بها جماعة من منافقي قريش، ولحق بها عبدالله بن عمر بن الخطاب وأخوه عبيدالله ومروان بن الحكم وأولاد عثمان وعبيده وخاصته من بني أمية، وجعلوا عائشة ملجأ لهم فيما دبروه من كيد أميرالمؤمنين (عليه السلام)، وصار كل من يبغض علياً أو يكرهه أو يحسده أو يخاف منه استيفاء الحقوق منه، يلتحق بهذه الجماعة، وعائشة تنعي عثمان وتبرأ من قاتله وتحرض الناس علي عداوة أميرالمؤمنين، وتظهر بأن عليا قتل عثمان ظلماً.

وكانت عائشة لما وصلت إلي مكة، وأدت مناسك الحج، ولما فرغت بلغها خبر قتل عثمان استبشرت وقالت للناعي: قتلته أعماله، إنه أحرق كتاب الله، وأمات سنة رسول الله فقتله الله، ومن بايع الناس؟ فقال الناعي: لم أبرح من المدينة حتي أخذ طلحة بن عبيدالله نعاجا لعثمان، وعمل مفاتيح لأبواب بيت المال ولا شك أن الناس بايعوه.

فقالت عائشة وهي فرحانة: بعداً لنعثل وسحقاً! إيه ذا الأصبع! إيه أباشبل! إيه ابن عم! لله أبوك يا طلحة، أما إنهم وجدوا طلحة لها كفواً، لكأني أنظر إلي إصبعه وهو يبايع أحنوها لا بل دغدغوها! وجدوك لها محسنا ولها كافيا، شدوا رحلي فقد قضيت عمرتي، لأتوجه إلي منزلي.

سارت عائشة حتي إذا وصلت إلي موضع يقال له: (شرفاء) لقيها رجل يقال له: عبيد بن أم كلاب، فسألته عائشة: ما الخبر؟ فقال الرجل: قتل عثمان.

فقالت عائشة قتل نعثل!!! أخبرني عن قصته وكيف كان أمره؟ فقال الرجل: لما أحاط الناس

بالدار، رأيت طلحة بن عبيدالله قد غلب علي الأمر، واتخذ مفاتيح علي بيوت الأموال والخزائن، وتهيأ ليبايع له، فلما قتل عثمان مال الناس إلي علي بن أبي طالب، ولم يعدلوا به طلحة ولا غيره، وخرجوا في طلب علي يقدمهم الأشتر ومحمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر حتي إذا أتوا علياً وهو في بيت سكن فيه فقالوا له: بايعنا علي الطاعة لك، وكان علي (عليه السلام) يتفكر ساعة.

فقال الأشتر: يا علي إن الناس لا يعدلون بك غيرك فبايع قبل أن تختلف الناس.

وكان في الجماعة طلحة والزبير، فظننت أن سيكون بين طلحة والزبير وعلي بن أبي طالب كلام قبل ذلك، فقام طلحة والزبير فبايعا، وأنا أري أيديهما علي يد علي يصفقانهما ببيعته.

ثم صعد علي بن أبي طالب المنبر، فتكلم بكلام لا أحفظ إلا أن الناس بايعوه يومئذ علي المنبر وبايعوه من الغد، فكلما كان اليوم الثالث خرجت ولا أعلم.

فقالت عائشة: لوددت أن السماء انطبقت علي الأرض إن تم هذا!! أنظر ماذا تقول؟ فقال الرجل: هو ما قلت لك يا أم المؤمنين.

فقالت عائشة: إنا لله، أكره والله الرجل، وغصب علي بن أبي طالب أمرهم، وقتل خليفة الله مظلوما! ردوا بغالي ردوا بغالي!! فقال الرجل: ما شأنك يا أم المؤمنين؟ والله ما أعرف بين لابتيها أحداً أولي بها من علي، ولا أحق، ولا أري له نظيراً فلماذا تكرهين؟.

عائشة لا ترد جواباً، وعزمت علي الرجوع إلي مكة، وفي طريقها رآها قيس بن حازم فقالت عائشة تخاطب نفسها: قتلوا ابن عفان مظلوما.

فقال قيس: يا أم المؤمنين ألم أسمعك آنفا تقولين: أبعده الله؟ وقد رأيتك قبل أشد الناس عليه، وأقبحهم فيه قولا.

فقالت عائشة: لقد كان ذلك، ولكن نظرت في أمره فرأيتهم استتابوه حتي إذا تركوه كالفضة البيضاء أتوه

صائماً محرماً في شهر حرام فقتلوه.

فقال عبيد بن أم كلاب:

فمنك البداءة ومنك الغير

ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإمام

وقلت لنا: إنه قد كفر

فهبنا أطعناك في قتله

وقاتله عندنا من أمر

ولم يسقط السقف من فوقنا

ولم ينكسف شمسنا والقمر

وقد بايع الناس ذا ارتداء

يزيل الشبا ويقيم الصعر

وتلبس للحرب أوزارها

وما من وفي مثل من قد غدر

وصلت عائشة إلي مكة، وجاءها رجل يقال له: يعلي بن منبه، وكان من بني أمية وشيعة عثمان وقال لها: قد قتل خليفتك الذي كنت تحرضين علي قتله.

فقالت عائشة: برأت إلي الله ممن قتله.

فقال الرجل: ألآن أظهري البراءة ثانيا من قاتله، فخرجت إلي المسجد، فجعلت تتبرأ ممن قتل عثمان، وهنا وصل خبر عائشة إلي طلحة والزبير وهما في المدينة، فكتبا إليها كتاباً مع ابن أختها عبدالله بن الزبير وكان مضمون الكتاب (خذ لي الناس عن بيعة علي، وأظهري الطلب بدم عثمان).

قرأت عائشة ذلك الكتاب وكشفت عما في ضميرها وجعلت تطلب بدم عثمان وجاءت ووقفت عند الحجر الأسود وقالت: أيها الناس: إن الغوغاء (السفلة) من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا علي هذا الرجل فقتلوه ظلماً بالأمس ونقموا عليه استعمال الأحداث، وقد استعمل أمثالهم من قبله، ومواضع الحمي حماها لهم، فتابعهم ونزل عنها، فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا بادروا بالعدوان، فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام، وأخذوا المال الحرام! والله، لإصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم! والله، لو أن الذي اعتدوا عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبئه، والثوب من درنه، إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء.

فتقدم عبدالله بن عامر الحضرمي وكان عامل عثمان علي مكة وقال: أنا أول طالب بدمه.

فكان أول مجيب.

فتبعه بنو أمية، وكانوا قد

هربوا من المدينة بعد قتل عثمان إلي مكة فرفعوا رؤوسهم، فكان أول ما تكلموا في الحجاز.

ولما وصل طلحة والزبير إلي مكة أرسلا عبدالله بن الزبير إلي عائشة يطلبان منها الخروج إلي البصرة للطلب بدم عثمان!! امتنعت عائشة من الإجابة لكنها ذهبت إلي أم سلمة تستشيرها في الخروج، ولما دخلت علي أم سلمة ونعت إليها عثمان وأنه قتل مظلوما، صرخت أم سلمة صرخة وهي متعجبة من كلام عائشة وقالت: يا عائشة بالأمس كنت تشهدين عليه بالكفر وهو اليوم أميرالمؤمنين قتل مظلوما؟؟ ثم إن عائشة ذكرت لأم سلمة عزمها علي الخروج إلي البصرة للطلب بدم عثمان وطلبت من أم سلمة أن ترافقها وتشاركها في تلك النهضة!! فجعلت أم سلمة تعاتب عائشة علي تحريضها الناس بقتل عثمان ثم الطلب بدمه مع العلم أن عثمان من بني عبدمناف وعائشة امرأة من تيم بن مرة، وليس بينهما قرابة، ثم ذكرت أم سلمة شيئا من فضائل علي وأنه لا ينبغي لأحد أن يحارب عليا، ووعظتها وذكرتها بما سمعت من رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في فضل علي (عليه السلام) وذكرتها بحديث النبي (صلّي الله عليه وآله) يوم قال: أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب فتذكرت عائشة كل ذلك وقنعت بكلام أم سلمة ولكن التأثير كان مؤقتا، ثم عزمت علي السفر إلي البصرة.

وأما يعلي بن منبه فقد اشتري أربعمائة بعير ونادي: أيها الناس من خرج لطلب دم عثمان فعلي جهازه.

ووصل الخبر إلي أم سلمة فقالت لعائشة: لقد وعظتك فلم تتعظي..

ثم حذرتها عن تلك الفكرة وذكرت لها بأنها تهتك حرمة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لأنها زوجته وعرضه إلي آخر كلامها.

وخرجت عائشة بالجيش نحو البصرة وفي أثناء الطريق وصلوا إلي ماء الحوأب فنبحت الكلاب وقال قائل: ما

أكثر كلاب الحوأب وما أشد نباحها فأمسكت عائشة زمام بعيرها وصرخت: إنا لله وإنا إليه راجعون إني لهيه!! سمعت رسول الله وعنده نساؤه يقول: ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تخرج فتنبحها كلاب الحوأب، يقتل عن يمينها ويسارها قتلي كثيرة، تنجو بعد ما كادت تقتل؟؟..

ردوني، ردوني.

فأقبل جماعة وشهدوا وحلفوا أن هذا ليس بماء الحوأب فسارت عائشة لوجهها نحو البصرة.

فوصل الخبر إلي أميرالمؤمنين (عليه السلام)، فأمر المنادي فنادي: الصلاة جامعة، اجتمع الناس في مسجد رسول الله في المدينة وصعد الإمام المنبر وخطب فيهم خطبة ذكر فيها الخلافة وأطوارها وأدوارها …

إلي أن قال: وبايعني هذان الرجلان طلحة والزبير في أول من بايع، وتعلمون ذلك، وقد نكثا غدرا، ونهضا إلي البصرة بعائشة ليفرقا جماعتكم ويلقيا بأسكم بينكم.

أللهم: فخذ بما عملا واحدة رابية، ولا تنعش لهما ضرعة، ولا تقلهما عثرة، ولا تمهلهما فواقا، فإنهما يطلبان حقا تركاه، ودما سفكاه، أللهم إني أقتضيك وعدك فإنك قلت وقولك الحق: (ثم بغي عليه لينصرنه الله … ) اللهم أنجز لي موعدي ولا تكلني إلي نفسي إنك علي كل شي ء قدير.

ثم استشار الإمام أصحابه، فقال عمار بن ياسر: الرأي عندي: أن تسير إلي الكوفة، فإن أهلها شيعة، وقد انطلق هؤلاء القوم إلي البصرة وأشار عليه عباس أن يأمر أم سلمة لتخرج معه تقوية لجانبه فقال الإمام: أما أم سلمة فإني لا أري إخراجها من بيتها كما أن الرجلان إخراج عائشة!! وأشار عليه جماعة أن يعتزل الفتنة ويذهب إلي ماله ب(ينبع) فلم يقبل منه وأخيرا نادي الإمام: تجهزوا للمسير، فإن طلحة والزبير نكثا البيعة ونقضا العهد، وأخرجا عائشة من بيتها يريدان البصرة لإثارة الفتنة، وسفك دماء أهل القبلة ورفع يديه للدعاء قائلا: اللهم: إن هذين الرجلين قد بغيا علي،

ونكثا عهدي، ونقضا عقدي، وشقياني بغير حق سومهما ذلك، اللهم حذهما بظلمهما وأظفرني بهما، وانصرني عليهما.

وجعل الإمام (عليه السلام) تمام بن العباس والياً علي المدينة وخرج بمن معه إلي الربذة، وإذا بطلحة والزبير قد ارتحلوا منها.

فأرسل الإمام محمد بن أبي بكر ومحمد بن الحنفية إلي الكوفة ليستنفرا أهل الكوفة، وكان والي الكوفة يومذاك أباموسي الأشعري وكان أبوموسي عثماني الهوي، منحرفا عن علي (عليه السلام).

وكانت عائشة قد كتبت كتابا إلي أبي موسي تأمره أن يخذل الناس عن نصرة الإمام، وقام أبوموسي بتلبية طلبها، فخطب فيهم وأمرهم أن يجتنبوا الفتنة ويبتعدوا عن سفك دماء المسلمين.

لم يستطع محمد بن الحنفية ومجمد بن أبي بكر مقاومة الأشعري فرجعا إلي الإمام، وكان الإمام قد كتب قبل ذلك كتابا إلي الأشعري يأمره أن يخرج لمؤازرة الإمام، ولكن الأشعري استمر علي رأيه وامتنع عن البيعة، وأظهر العداء الكامن في صدره، فأخبروا الإمام بذلك.

فكتب الإمام كتابا إلي الأشعري فيه خبر عزله عن الحكم والتهديد إن لم يعتزل، وكتاباً آخر إلي أهل الكوفة يذكر لهم فيه عما جري علي عثمان، ثم ذكر بيعة الناس له ومن جملتهم طلحة والزبير، ثم نكثهما البيعة وخروجهما ضد الإمام (عليه السلام).

وقبل وصول هذين الكتابين كان الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) وعمار بن ياسر وزيد بن صوحان وقيس بن سعد جاءوا إلي الكوفة وخطبوا في الناس الخطب المفصلة المطولة، يحثون الناس علي نصرة الإمام.

فكان الأشعري يقوم ويخطب وينقض كلامهم ويخذل الناس ويأمرهم باعتزال الفتنة وعدم الخوض في المعركة.

وانقضت أيام وأيام والأمر هكذا في الكوفة وأميرالمؤمنين ينتظر المدد وهو في أرض يقال لها: (ذو قار) واليوم يقال لها: (المقيرة) وهي قريب الناصرية في طريق البصرة.

وأخيرا خرج البطل الضرغام مالك الأشتر وأقبل إلي الكوفة ودخلها وهجم علي

دار الإمارة واستولي عليها، وأخرج غلمان أبي موسي منها.

كانت الحرب الباردة قائمة في المسجد بين الأشعري وبين أصحاب الإمام وإذا بغلمان الأشعري دخلوا المسجد، وهم ينادون يا أباموسي هذا الأشتر.

ودخل أصحاب الأشتر وصاحوا: أخرج من المسجد، يا ويلك أخرج الله روحك، إنك والله من المنافقين.

خرج أبوموسي معزولاً خائباً مخذولاً، وأراد الناس أن ينهبوا أمواله فمنعهم الأشتر.

وأقبل الأشتر فصعد المنبر وقال: وقد جاءكم الله بأعظم الناس مكانا، وأعظمهم في الإسلام سهما،ابن عم رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، وأفقه الناس في الدين، وأقرأهم كتاب الله، وأشجعهم عند اللقاء يوم البأس وقد استنفركم، فما تنتظرون؟ أسعيداً؟ أم الوليد؟ الذي شرب الخمر وصلي بكم علي سكر؟ واستباح ما حرمه الله فيكم.

أي هذين الرجلين تريدون؟ قبح الله من له هذا الرأي!! فانفروا مع الحسن ابن بنت نبيكم، ولا يختلف رجل له قوة، فو الله ما يدري رجل منكم ما يضره وما ينفعه، وإني لكم ناصح شفيق عليكم إن كنتم تعقلون، أو تبصرون.

أصبحوا إن شاء الله غدا غادين مستعدين، وهذا وجهي إلي ما هناك بالوفاء.

ثم قام ابن عباس وعزل الأشعري عن الولاية وخلعه عنها، وجعل قرضة بن كعب، فلم يبرحوا من الكوفة حتي سيروا سبعة آلاف رجل والتحقوا بأميرالمؤمنين في ذي قار.

والتحق به قبل ذلك ألفان من قبيلة طي، وخرج الإمام (عليه السلام) نحو البصرة.

وكانت عائشة وطلحة والزبير ومن معهم قد وصلوا إلي البصرة قبل ذلك، وتعجب الناس من قدومهم إلي البصرة للطلب بدم عثمان المقتول في المدينة.

وسمع عثمان بن حنيف (والي البصرة) بوصول القوم، فأرسل إليهم أباالأسود الدؤلي وعمران بن حصين للتحقيق، فدخلا علي عائشة وقالا لها: يا أم المؤمنين ما حملك علي المسير؟ ما الذي أقدمك هذا البلد؟ وأنت حبيبة رسول الله وقد

أمرك أن تقري في بيتك؟ فجري كلام وجدال طويل بين عائشة والرجلين، وكلما خوفاها من إراقة دماء المسلمين وإفساد الأمر قابلتهم بكل صلابة وحدة.

ودخلا علي طلحة فلم يسمعا منه إلا الكلام القبيح والطرد، ثم السب لأميرالمؤمنين (عليه السلام).

استعدت عائشة للحرب، وخرجت بمن معها إلي محلة في البصرة يقال لها (المربد) وخطبت في أهل البصرة خطبة فنعت عثمان وتأسفت علي قتله ثم ذكرت عليا وبيعته وأفرطت في كلامها ثم طلبت من أهل البصرة نقض خلافة الإمام فصدقها ناس وكذبها ناس، واضطرب الناس بأقوالهم، واشتغلوا بالسب والشتم واللعن، وتوجهت عائشة إلي دار الإمارة وطلبوا من عثمان بن حنيف أن يسلم إليهم دار الإمارة فأبي عليهم، واشتعلت نار الحرب حتي الظهر وقتل في تلك الواقعة خمسمائة شيخ من بني عبدالقيس من شيعة علي وأنصار عثمان بن حنيف سوي الجرحي، واستمرت الحرب في البصرة وكثر القتلي والجرحي، ودخل بعض الناس وقرروا الهدنة، فتم القرار علي: أن تكون دار الإمارة والمسجد وبيوت المال تحت اختيار عثمان بن حنيف، وتكون البصرة تحت حيازة طلحة والزبير وعائشة، وكتبوا علي هذه المصالحة كتابا وشهد الناس علي ذلك، ولما أمن الناس واطمئنوا وألقوا سلاحهم أقبل طلحة والزبير وأصحابهما حتي أتوا دار الإمارة علي حين غفلة وكان خمسون رجلا يحرسون بيوت الأموال وهم من شيعة علي أحاط الزبير بهؤلاء وقتل منهم أربعين رجلا صبرا ثم هجموا علي عثمان بن حنيف فأوثقوه رباطا، وعمدوا إلي لحيته فنتفوا لحيته حتي لم يبق منها شعرة واحدة ونتفوا حاجبيه وأشفار عينيه وأوثقوه بالحديد.

وأصبح الصباح فجاء طلحة والزبير إلي المسجد الأعظم لأداء صلاة الصبح جماعة فأراد طلحة أن يتقدم ويصلي بالناس فدفعه الزبير، وأراد الزبير أن يصلي فمنعه طلحة، استمر النزاع

والتدافع بين الإمامين!!! حتي كادت الشمس أن تطلع فصاح الناس: الله الله يا أصحاب رسول الله! في الصلاة نخاف فوتها!! فأمرت عائشة أن يصلي مروان بالناس وأخيرا تقدم ابن الزبير وصلي بالمسلمين.

انتشر خبر قتل الحرس وإلقاء القبض علي عثمان، فأقبل حكيم بن جبلة إلي عشيرته فحثهم علي النهوض وجاء طلحة والزبير وشبت النار مرة ثانية وقتل حكيم بن جبلة وأخوه وعدد من الناس، واستولي طلحة والزبير علي بيوت الأموال ونصبا الأقفال علي أبواب بيوت الأموال، فأمرت عائشة بختم بيت المال، وختم كل من طلحة والزبير وعائشة بختم علي بيوت الأموال.

انقضت أيام وعائشة وطلحة والزبير يخطبون في الناس ويهيجونهم ويحذرونهم من علي (عليه السلام) وقد كان ينتهي كلامهم إلي ذم الإمام وسبه وأرسلت عائشة كتبا ورسائل إلي البلاد والأمصار كتبت فيها ما أرادت.

ووصل الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) بجيشه الجرار إلي البصرة، ةبلغه الخبر عن المجزرة الرهيبة التي أقامها هؤلاء، فأرسل الإمام صعصعة بن صوحان للتفاهم أو لإتمام الحجة علي عائشة والرجلين والتقي بهم صعصعة فلم يسمع منهم إلا التهديد والخشونة في الكلام وأرسل الإمام (عليه السلام) عبدالله بن عباس وأمره أن يلتقي بطلحة والزبير، فلم تنجح مذكرات ابن عباس معهما.

كان وصول الجيش العلوي إلي البصرة علي أحسن هيئة وأجمل نظام وفيهم المشايخ من أهل بدر المهاجرين والأنصار، وقواد الجيش ومعهم الألوية والرايات، والمواكب يتري بعضها بعضا.

وفي الأخير: وصل موكب الإمام وهو موكب عظيم فيه خلق كثير عليهم السلاح والحديد، ومعهم الإمام وعليه الوقار والسكينة ينظر إلي الأرض أكثر من نظره إلي السماء، والجنود خلفه كأن علي رؤوسهم الطير، والإمام الحسن عن يمينه والإمام الحسين عن شماله، وابنه محمد بن الحنفية بين يديه ومعه الراية.

أمر الإمام (عليه السلام) ابن عباس أن يرجع ثانيا إلي عائشة

ويذكر لها خروجها من بيت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ويخوفها من الخلاف علي الله، والتبرج الذي نهاها الله عنه …

الخ.

دخل ابن عباس علي عائشة وأدي رسالته وذكر فضل علي وسابقته ولكنها لم ترتدع ولم تقتنع ورجع ابن عباس إلي الزبير ووجده وحده وجعل يلين له الكلام ويخوفه من عواقب أعماله، ويلومه علي إسراعه في الخلاف فجاء عبدالله بن الزبير، وكان شابا شرسا قليل الحياء متهورا، وقابل ابن عباس بكل صلافة وكانت المباحثات بلا جدوي ولا فائدة، واستعد الفريقان للحرب.

كان كعب بن سور سيد الأزد قد امتنع عن الخوض في المعركة فجاء طلحة والزبير إلي عائشة وطلبا منها أن تتوجه بنفسها إلي كعب وتطلب منه المؤازرة والتعاون معها، فأرسلت عائشة إليه تطلب منه الحضور فلم يجبها كعب، فركبت بغلا وأحاط بها نفر من أهل البصرة وسارت إلي كعب وسألته عن سبب امتناعه فقال: يا أماه لا حاجة لي في خوض هذه الفتنة.

فاستعبرت عائشة باكية وطلبت منه أن ينصرها، فرق لها كعب وأجابها وعلق المصحف في عنقه وخرج معها.

اشتركت العشائر والقبائل من المدينة إلي الكوفة إلي طي إلي أهل البصرة في نصرة الإمام.

وكان خطباء الفريقين يخطبون في قومهم ويحرضونهم علي الحرب.

ساحة القتال: كانت ساحة القتال في الخريبة، وهي اليوم بين الزبير والبصرة ويقال لها: (الخر) وهناك قبر طلحة.

اصطف الفريقان للقتال، وكتب كل منهما الكتائب وخرج علي (عليه السلام) وعليه عمامة سوداء وقميص ورداء وهو راكب علي بغلة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) الشهباء.

وجاءت عائشة وهي في هودج علي بعير وعن يمينها وشمالها طلحة والزبير وعبدالله بن الزبير وخلفها الذين رافقوها من مكة وانضموا إليها في البصرة.

كان النشاط في أصحاب علي أكثر، وكانوا يريدون الهجوم علي العدو، لكن الإمام كان يمنعهم

ويقول لهم: لا تعجلوا علي القوم حتي أعذر فيما بيني وبين الله وبينهم، فقام إليهم وقال: يا أهل البصرة هل تجدون علي جورا في حكم؟ قالوا: لا.

قال: فحيفا في قسم؟ قالوا: لا.

قال فرغبة في دنيا أصبتها لي ولأهل بيتي دونكم، فنقمتم علي فنكثتم بيعتي؟ قالوا: لا.

قال: فما بال بيعتي تنكث وبيعة غيري لا تنكث؟ إني ضربت الأمر أنفه وعينه ولم أجد إلا الكفر أو السيف، ثم التفت إلي أصحابه وقال: إن الله تعالي يقول في كتابه: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون). [138].

ثم قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة واصطفي محمدا بالنبوة إنهم لأصحاب هذه الآية وما قوتلوا منذ نزلت هذه الآية، تم التفت إلي ابن عباس وقال له: امض بهذا المصحف إلي طلحة والزبير وعائشة وادعهم إلي ما فيه.

جاء ابن عباس فبدأ بالزبير وقال له: إن أميرالمؤمنين يقول ألم تبايعني طائعا؟ فبم تستحل دمي؟ وهذا المصحف وما فيه بيني وبينك فإن شئت تحاكمنا إليه؟ فقال الزبير: ارجع إلي صاحبك، فإنا بايعنا كارهين وما لي حاجة في محاكمته.

انصرف ابن عباس إلي طلحة، فوجد فيه الاستعداد للشر والحرب، فقال له ابن عباس: والله ما أنصفتم رسول الله إذ حبستم نساءكم وأخرجتم حبيسة رسول الله؟! ونادي طلحة: ناجزوا القوم، فإنكم لا تقومون لحجاج ابن أبي طالب.

رجع ابن عباس وأخبره بالنتيجة السلبية وقال للإمام: ما تنتظر؟ والله لا يعطيك القوم إلا السيف، فأحمل عليهم قبل أن يحملوا عليك.

فقال أميرالمؤمنين: نستظهر بالله عليهم، وهناك خرج أميرالمؤمنين بين الصفين ونادي بأعلي صوته: أين الزبير؟ فليخرج ثم نادي ثانيا، وكان طلحة والزبير واقفين أمام صفيهما، فخرج الزبير، وخرج أميرالمؤمنين (عليه السلام) إليه، فصاح به أصحابه يا أميرالمؤمنين: أتخرج

إلي الزبير الناكث بيعته وأنت حاسر؟ وهو علي فرس شاكي السلاح، مدجج في الحديد وأنت بلا سلاح؟ فقال أميرالمؤمنين: ليس علي منه بأس، إن علي منه جنة واقية، لن يستطيع أحد فرارا من أجله، وإني لا أموت، ولا أقتل إلا بيد أشقاها، كما عقر ناقة الله أشقي ثمود.

فخرج إليه الزبير فقال (عليه السلام): أين طلحة؟ ليخرج.

فخرج طلحة.

وقربا منه (عليه السلام)، حتي اختلفت أعناق دابتهما، فقال أميرالمؤمنين للزبير: ما حملك علي ما صنعت؟ فقال الزبير: الطلب بدم عثمان.

فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام): أنت وأصحابك قتلتموه، فيجب عليك أن تقيد من نفسك.

ولكن أنشدك الله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل الفرقان علي نبيه محمد (صلّي الله عليه وآله): أما تذكر يوما قال لك رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يا زبير: أتحب عليا؟ فقلت: وما يمنعني عن حبه وهو ابن خالي؟ فقال لك رسول الله: أما أنت فستخرج عليه يوما وأنت له ظالم؟ فقال له الزبير: اللهم بلي قد كان ذلك.

فقال أميرالمؤمنين: فأنشدك الله الذي أنزل الفرقان علي نبيه محمد (صلّي الله عليه وآله) أما تذكر يوما جاء رسول الله (صلّي الله عليه وآله) من عند ابن عوف، وأنت معه، وهو آخذ بيدك، فاستقبلته أنا فسلمت عليه فضحك في وجهي، فضحكت أنا إليه، فقلت أنت: لايدع ابن أبي طالب زهوه أبدا.

فقال لك النبي (صلّي الله عليه وآله): مهلا يا زبير، فليس به زهو، ولتخرجن عليه يوما وأنت ظالم له؟! فقال الزبير: الهم بلي، ولكن نسيت، فأنا إذا ذكرتني ذلك فلأنصرفن عنك ولو ذكرت هذا لما خرجت عليك.

ثم التفت إليهما معا وقال: نشدتكما الله أتعلمان وأولوا العلم من أصحاب محمد وعائشة بنت أبي بكر: أن أصحاب الجمل، وأهل النهروان ملعونون علي لسان محمد (صلّي الله عليه وآله)

وقد خاب من افتري؟ فقال الزبير: كيف نكون ملعونين ونحن من أهل الجنة؟ فقال أميرالمؤمنين: لو علمت أنكم من أهل الجنة لما استحللت قتالكم.

فقال الزبير: أما سمعت رسول الله يقول يوم أحد: أوجب طلحة الجنة؟ ومن أراد أن ينظر إلي الشهيد يمشي علي الأرض حيا فلينظر إلي طلحة؟ أوما سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: عشرة من قريش في الجنة؟ فقال أميرالمؤمنين: فسمهم.

فجعل الزبير يعد تسعة منهم، وفيهم أبوعبيدة بن الجراح، وسعيد بن عمرو بن نفيل.

فقال أميرالمؤمنين: عددت تسعة منهم فمن العاشر؟ فقال الزبير: أنت.

فقال أميرالمؤمنين: أما أنت فقد أقررت أني من أهل الجنة، وأما ما ادعيت لنفسك وأصحابك فإني به لمن الجاحدين، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد عهد النبي الأمي إلي أن بعض من سميت في تابوت في جب في أسفل درك من جهنم، وفي نسخة: إن في جهنم جبا، فيه ستة من الأولين وستة من الآخرين، علي رأس ذلك الجب صخرة، إذا أراد الله تعالي أن يسعر جهنم علي أهلها أمر بتلك الصخرة فرفعت، وإن في ذلك الجب من سميت، وإلا أظفرك الله بي وسفك دمي بيدك، وإلا فأظفرني الله بك وبأصحابك.

فقال أميرالمؤمنين: دع هذا، أفلست بايعتني طائعا؟ فقال الزبير: بلي.

فقال أميرالمؤمنين: أفوجدت مني حدثا يوجب مفارقتي؟ فسكت الزبير ثم قال: لا جرم والله لأقاتلنك! ثم التفت (عليه السلام) إلي طلحة وقال:

يا طلحة: معكما نساؤكما؟ فقال طلحة: لا.

فقال أميرالمؤمنين: عمدتما إلي امرأة موضعها في كتاب الله القعود في بيتها، فأبرزتماها! وصنتما حلائلكما في الخيام والحجال؟ ما أنصفتما رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قد أمر الله أن لا يكلمن إلا من وراء حجاب.

أخبرني عن صلاة ابن الزبير بكما، أما يرضي أحدكما بصاحبه؟ أخبرني عن دعائكما

الأعراب إلي قتالي؟ ما يحملكما علي ذلك؟ فقال طلحة: يا هذا، كنا في الشوري ستة، مات منا واحد، وقتل آخر، فنحن اليوم أربعة، كلنا لك كاره.

فقال أميرالمؤمنين: ليس ذلك علي، قد كنا في الشوري والأمر في يد غيرنا، وهو اليوم في يدي أرأيت لو أردت بعد ما بايعت عثمان أن أرجُ هذا الأمر شوري أكان ذلك لي؟ فقال طلحة: لا.

فقال أميرالمؤمنين: ولم؟ فقال طلحة: لأنك بايعت عثمان طائعا.

فقال أميرالمؤمنين: وكيف ذلك؟ والأنصار معهم السيوف مخترطة، يقولون: لئن زغتم وبايعتم واحدا منكم، وإلا ضربنا أعناقكم أجمعين؟؟ فهل قال لك ولأصحابك أحد شيئا من هذا وقت ما بايعتماني؟ وحجتي في الاستكراه في البيعة أوضح من حجتك وقد بايعتني أنت وأصحابك طائعين غير مكرهين، وكنتما أول من فعل ذلك ولم يقل أحد: لتبايعان أو لنقتلكما؟ ثم انصرف الرجلان إلي صفهما، فأراد الزبير الخروج من الحرب، والانصراف إلي البصرة، فقال له طلحة: ما لك يا زبير؟ ما لك تنصرف عنا؟ سحرك ابن أبي طالب؟ فقال الزبير: لا، ولكن ذكرني ما كان أنسانيه الدهر، واحتج علي ببيعتي له.

فقال طلحة: لا، ولكن جبنت وانتفخ سحرك!! فقال الزبير: لم أجبن، ولكن أذكرت فذكرت.

فقالت عائشة: ما ورائك يا أباعبدالله؟ فقال الزبير: والله ورائي؟ إني ما وقفت موقفا في شرك ولا إسلام إلا ولي فيه بصيرة وأنا اليوم علي شك من أمري، وما أكاد أبصر موضع قدمي.

فقالت عائشة: لا والله، بل خفت سيوف ابن أبي طالب، أما إنها طوال حداد، تحملها سواعد أمجاد، ولئن خفتها فلقد خافها الرجال من قبلك.

فقال عبدالله بن الزبير: جبنا جبنا!! فقال الزبير: يا بني قد علم الناس إني لست بجبان، ولكن ذكرني علي شيئا سمعته من رسول الله، فحلفت أن لا أقاتله.

فقال

عبدالله بن الزبير: يا أبة أجئت بهذين العسكرين العظيمين حتي إذا اصطفا للحرب، قلت: أتركهما وأنصرف فما تقول قريش غدا بالمدينة؟ الله الله يا أبة: لا تشمت بنا الأعداء، ولا تشن نفسك بالهزيمة قبل القتال.

فقال الزبير: ما أصنع يا بني وقد حلفت أن لا أقاتله؟ فقال عبدالله بن الزبير:

كفر عن يمينك، ولا تفسد أمرنا!! فقال الزبير: عبدي مكحول حر لوجه الله، كفارة ليميني!! ثم عاد معهم للقتال.

فعند ذلك أخذ أميرالمؤمنين (عليه السلام) المصحف بيده، وطلب من يقرأ عليهم هذه الآية: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما علي الأخري فقاتلوا التي تبغي حتي تفي ء إلي أمر الله). [139].

فقام غلام حدث السن وأخذ المصحف ووقف أمام الصفوف وقال هذا كتاب الله، وأميرالمؤمنين يدعوكم إلي ما فيه، فأمرت عائشة بإعدامه فقطعوا يديه ثم أحاطوا به وطعنوه بالرماح من جانب وكانت أمه واقفة تنظر فصاحت وطرحت نفسها علي ولدها.

كان الإمام ينتظر وقت الظهر لنزول الملائكة وكان يقول: لا تقاتلوا القوم حتي يبدأوكم، فإنكم بحمد الله علي حجة، وكفكم عنهم حجة أخري فإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا علي جريح، فإذا هزمتموهم فلا تتبعوا مدبرا، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلي رحال القوم فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارا، ولا تأخذوا من أموالهم شيئا ولا تهيجوا امرأة بأذي، وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم فإنهن ضعفاء القوي والأنفس و العقول …

الخ.

كانت السهام تتري علي الإمام وأصحابه كالمطر!! فصاح الناس: حتي متي يا أميرالمؤمنين ندلي نحورنا للقوم يقتلون رجلا رجلا والله قد أعذرت أن كنت تريد الإعذار!!! هناك دعا الإمام ابنه محمد بن الحنفية فأعطاه الراية وهي راية سوداء كبيرة وهي راية رسول الله (صلّي الله عليه وآله)

فقال (عليه السلام) له: يا بني هذه الراية ما ردت قط ولا ترد قط!! ثم لبس الإمام درع رسول الله، وحزم بطنه بعصابة أسفل من سرته، ثم قال الإمام لولده محمد بن الحنفية: يا أباالقاسم قد حملت الراية وأنا أصغر منك فما استفزني عدوي! وذلك أني لم أبارز أحدا إلا حدثتني نفسي بقتله، فحدث نفسك بعون الله تعالي بظهورك عليهم! وأعطاه تعاليم حربية.

وزحف أصحاب الجمل نحو معسكر الإمام فصاح الإمام بابنه محمد: امض، فمضي.

وتبعه أصحابه واشتعل القتال.

وأقبل الإمام يهرول وبيده السيف يصعد وينزل فتطير الرؤوس وتطيح الأيدي ولا يتلطخ السيف بالدم لسرعة اليد وسبق السيف الدم!! وزحف الجيش خلفه.

وحمل عمار بن ياسر علي الميسرة، ومالك الأشتر علي الميمنة وحملوا حملة رجل واحد، ونادي الإمام: عليكم بالسيوف.

فجعلوا يضربون بالسيوف علي الرؤوس ثم نادي المنادي: عليكم بالأقدام.

كان للفريقين أراجيز كثيرة جداً مذكورة في محلها وقد ذكرنا شيئاً منها في الجزء الأول من شرح نهج البلاغة.

وقتل طلحة في ذلك اليوم ولم يعرف قاتله، قيل: إن مروان بن الحكم رماه بسهم فقتله يطلب بذلك ثأر عثمان وكان أهل البصرة كل من أراد منهم القتال أخذ بخطام الجمل وارتجز وقاتل حتي قتل.

فخرج كعب بن سور فأخذ بخطام الجمل وهو يرتجز ويقول:

يا معشر الأزد عليكم أمكم

فإنها صلاتكم وصومكم

والنعمة العظمي التي تعمكم

فأحضروها جدكم وحزمكم

لا يغلبن سم العدو سمكم

إن العدو إن علاكم رمكم

وخصكم بجوره وعمكم

لا تفضحوا اليوم فداكم قومكم

فقاتل حتي قتل.

فخرج رجل آخر فأخذ بخطام الجمل وقال: يا أم يا أم خلا مني الوطن لا أبتغي القبر ولا أبغي الكفن من هيهنا محشر عوف بن قطن إن فاتنا اليوم علي فالغبن أو فاتنا ابناه حسين وحسن إذن أمت بطول هم وحزن.

وغير ذلك من الأراجيز المذكورة في

كتب التاريخ، واشتعلت النار، واستعر القتال، فاقتتلوا قتالا شديدا فصاح علي (عليه السلام) ما أراه بقاتلكم غير هذا الهودج، إعقروا الجمل أو عرقبوه، فإنه شيطان، أو: اعقروه وإلا فنيت العرب لا يزال السيف قائما وراكعا حتي يهوي هذا البعير إلي الأرض.

فضرب عجز الجمل فوقع لجنبه، وضرب بجرانه الأرض وعج عجيجا لم يسمع بأشد منه فما هو إلا أن صرع حتي فرت الرجال كما يطير الجراد في الريح الشديدة الهبوب، وسقط الهودج، فصاح الإمام إقطعوا البطان.

فقطع محمد بن الحنفية البطان وأخرج الهودج فقالت عائشة من أنت؟ فقال محمد: أبغض أهلك إليك.

فقالت عائشة: ابن الخثعمية؟ فقال محمد: نعم، ولم تكن دون أمهاتك! فقالت عائشة: لعمري بل هي شريفة، دع عنك هذا، الحمد لله الذي سلمك.

فقال محمد: قد كان ذلك ما تكرهين.

فقالت عائشة: يا أخي لو كرهته ما قلت ما قلت فقال محمد: كنت تحبين الظفر وأني قتلت؟ فقالت عائشة: قد كنت أحب ذلك ولكنه لما صرنا إلي ما صرنا إليه أحببت سلامتك لقرابتي منك فاكفف، ولا تعقب الأمور، وخذ الظاهر ولا تكن لومة ولا عذلة، فإن أباك لم يكن لومة ولا عذلة.

وجاء علي فقرع الهودج برمحه وقال: يا شقيراء بهذا أوصاك رسول الله؟ فقلت عائشة: يا ابن أبي طالب ملكت فاصفح وظفرت فاسجح.

فقال أميرالمؤمنين والله ما أدري متي أشتفي غيظي؟ أحين أقدر علي الانتقام فيقال لي: لو عفوت أم حين أعجز من الانتقام فيقال لي: لو صبرت!! بلي أصبر فإن لكل شي ء زكاة، وزكاة القدرة والمكنة: العفو والصفح.

ثم التفت (عليه السلام) إلي محمد بن أبي بكر وقال: شأنك بأختك فلا يدنو منها أحد سواك.

فأمر (عليه السلام) فاحتملت عائشة بهودجها إلي دار عبدالله بن خلف في البصرة، وأمر بالجمل أن يحرق ثم يذري في الريح

وقال (عليه السلام) إشارة إلي الجمل: لعنه الله من دابة، فما أشبهه بعجل بني إسرائيل ثم تلي: (وانظر إلي إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا). [140].

ركبت عائشة وهي تقول: فخرتم وغلبتم، وكان أمر الله قدرا مقدورا، ونادي أميرالمؤمنين: يا محمد بن أبي بكر سلها هل وصل إليها شي ء من الرماح و السهام؟ فسألها فقالت: نعم وصل إلي سهم، خدش رأسي وسلمت من غيره، الله بيني وبينكم.

فقال محمد: والله ليحكمن عليك يوم القيامة ما كان بينك وبين أميرالمؤمنين حين تخرجين عليه؟ وتؤلبين الناس علي قتاله؟ وتنبذين كتاب الله وراء ظهرك؟ فقالت عائشة: دعنا يا محمد وقل لصاحبك يحرسني.

فأمر الإمام أن يحملها أخوها إلي دار ابن خلف في البصرة، فحملها وهي لا تفتر عن سب الإمام وسب أخيها محمد بن أبي بكر والترحم علي أصحاب الجمل.

ومر الإمام علي القتلي وجعل يخاطبهم ويعاتبهم، وخاطب كعبا وطلحة بعد قتلهما فقيل له: أتكلم هؤلاء بعد القتل؟ فقال: والله لقد سمعا كلامي كما سمع أهل القليب كلام رسول الله يوم بدر.

ثم نادي منادي الإمام: من أحب أن يواري قتيله فليواره.

وأمر أصحابه وقال لهم: قتلانا في ثيابهم التي قتلوا فيها فإنهم يحشرون علي الشهادة وإني لشاهد لهم بالوفاء.

فجاء ابن عباس يطلب الأمان لمروان بن الحكم فأمره الإمام بإحضار مروان فلما حضر قال له الإمام أتبايع؟ فقال مروان: نعم وفي النفس ما فيها!! فقال الإمام: الله أعلم بما في القلوب.

فلما بسط يده ليبايعه أخذ كفه من كف مروان وجذبها، وقال: لا حاجة لي فيها، إنها كف يهودية، لو بايعني بيده عشرين مرة لنكث بإسته، ثم قال: هيه يا بن الحكم: خفت علي رأسك أن تقع في هذه المعمعة؟ كلا والله حتي يخرج من صلبك

فلان وفلان يسومون هذه الأمة خسفا ويسقونهم كأسا مصبرة.

أما الزبير فإنه خرج من المعركة ووصل إلي منطقة في ضواحي البصرة يقال لها (وادي السباع) فقتله عمر بن جرموز وأخذ رأسه وسيفه وخاتمه وجاء بها إلي معسكر الإمام واستأذن ودخل وإذا به يري القائد الأعلي للمسلمين جالسا وبين يديه ترس عليه أقراص من الطعام الشعير، فسلم عليه، وهنأه بالفتح عن الأحنف، لأن الحرب كانت قد وضعت أوزارها حينئذ، وقال: أنا رسول الأحنف، وقد قتلت الزبير، وهذا رأسه وسيفه، فألقاهما بين يديه، فقال (عليه السلام) كيف قتلته؟ وما كان من أمره؟ فحدثنا كيف كان صنعك به؟ فقص عليه ما جري فقال: ناولني سيفه.

فناوله سيفه، فاستلّه وهزه.

وقال: سيف أعرفه، سيف طالما جلي الكرب عن وجه رسول الله (صلّي الله عليه وآله).

ثم التفت علي (عليه السلام) إلي ابن جرموز قائلاً: والله ما كان ابن صفية جبانا ولا لئيما، ولكن الحين ومصارع السوء.

ثم تفرس في وجه الزبير وقال: لقد كان لك برسول الله (صلّي الله عليه وآله) صحبة ومنه قرابة، ولكن دخل الشيطان منخرك فأوردك هذا المورد.

فقال ابن جرموز: الجائزة يا أميرالمؤمنين.

فقال (عليه السلام): أما إني سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: بشر قاتل ابن صفية بالنار.

وقبض أميرالمؤمنين (عليه السلام) ما وجد في عسكر الجمل من سلاح ودابة ومملوك ومتاع فقسمه بين أصحابه، فقال بعض أصحابه: أقسم بيننا أهل البصرة، فاجعلهم رقيقا.

فقال: لا.

فقالوا: كيف تحل لنا دماؤهم وتحرم علينا سبيهم؟ فقال: كيف يحل لكم ذرية ضعيفة في دار هجرة وإسلام؟ وأما ما جلب به القوم في معسكرهم عليكم فهو لكم مغنم، وأما ما وارت الدور وأغلقت عليه الأبواب فهو لأهله، ولا نصيب لكم في شي ء منه.

فلما أكثروا عليه قال: فأقرعوا علي عائشة لأدفعها إلي من تصيبه القرعة!! فقالوا: نستغفر

الله يا أميرالمؤمنين ثم انصرفوا.

فلما دخل (عليه السلام) بيت المال في نفر من المهاجرين والأنصار، ونظر إلي كثرة ما فيه قال: غري غيري: مرارا، ثم نظر إلي المال، وصعد وصوب بصره، وقال: أقسموه بين أصحابي خمسمائة خمسمائة، فقسم بينهم، فلا والذي بعث محمدا بالحق ما نقص درهما ولا زاد درهما، كأنه كان يعرف مبلغه ومقداره، وكان مقدار المال ستة ملايين، وعدد أصحابه اثني عشر ألف رجل.

وأخذ هو خمسمائة درهم كواحد منهم، فجاءه رجل لم يحضر الواقعة فقال: يا أميرالمؤمنين: كنت شاهدا بقلبي، وإن غاب عنك جسمي فأعطني من الفي ء شيئا، فدفع إليه الذي أخذه لنفسه، ولم يصب من الفي ء شيئا.

وفي رواية أخري: جاء رجل فقال: إن اسمي سقط من كتابك فقال (عليه السلام): ردوها عليه، ثم قال: الحمد لله الذي لم يصل إلي من هذا المال شي ء.

ولما فرغ من تقسيم بيت المال قام خطيبا في أصحابه، فحمد الله وأثني عليه وقال: أيها الناس إني أحمد الله علي نعمة، قتل طلحة والزبير وأيم الله لو كانت عائشة طلبت حقا، وهانت باطلا، لكان لها في بيتها مأوي، وما فرض الله عليها الجهاد، وأن أول خطأها في نفسها، وما كانت والله علي القوم أشأم من ناقة الصخرة، وما ازداد عدوكم إلا حقدا وما زادهم الشيطان إلا طغيانا ولقد جاءوا مبطلين وأدبروا ظالمين إن إخوانكم المؤمنين جاهدوا في سبيل الله وآمنوا يرجون مغفرة الله، وإننا لعلي الحق وإنهم لعلي الباطل ويجمعنا الله وإياهم يوم الفصل واستغفر الله لي ولكم.

أرسل أميرالمؤمنين (عليه السلام) ابن عباس إلي عائشة يأمرها بتعجيل الرحيل، وقلة العرجة الإقامة فجاءها ابن عباس وهي في قصر بني خلف في جانب البصرة، فطلب الإذن عليها فلم تأذن له، فجاء ابن عباس ودخل عليها بغير

إذنها فإذا بيت قفار لم يعد له فيه مجلس، فإذا هي من وراء سترين، نظر ابن عباس إلي ما في الحجرة، فوقع بصره علي طنفسة علي رحل، فمد الطنفسة وجلس عليها، فقالت عائشة من وراء الستر يا بن عباس أخطأت السنة: دخلت بيتنا بغير إذننا، وجلست علي متاعنا بغير إذننا.

فقال ابن عباس: نحن أولي بالسنة منك، ونحن علمناك السنة وإنما بيتك الذي خلفك فيه رسول الله فخرجت منه ظالمة لنفسك، غاشة لدينك، عاتية علي ربك، عاصية لرسول الله، فإذا رجعت إلي بيتك لم ندخله إلا بإذنك، ولم نجلس علي متاعك إلا بأمرك، إن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب بعث يأمرك بالرحيل إلي المدينة وقلة العرجة.

فقالت عائشة: رحم الله أميرالمؤمنين ذاك عمر بن الخطاب.

فقال ابن عباس: هذا والله أميرالمؤمنين، وإن تربدت فيه وجوه ورغمت فيه معاطس، أما والله لهو أميرالمؤمنين، وأمس برسول الله رحما، وأقرب قرابة، وأقدم سبقا وأكثر علما، وأعلي منارا، وأكثر آثارا من أبيك ومن عمر.

فقالت عائشة: أبيت ذلك.

فقال ابن عباس: أما والله إن كان إباؤك عدم قبولك فيه لقصير المدة، عظيم التبعة، ظاهر الشؤم، بين النكر، وما كان إباؤك فيه إلا حلب شاة حتي صرت ما تأمرين ولا تنهين ولا تعرفين ولا تضعين، وما كان مثلك إلا كمثل ابن الحضرمي ابن يحمان أخي بني أسد حيث يقول:

ما ذاك إهداء القصائد بيننا

شتم الصديق وكثرة الألقاب

حتي تركتهم كأن قلوبهم

في كل مجمعة طنين ذباب

سمعت عائشة فأراقت دمعتها، وبدا عويلها ثم قالت: أخرج والله عنكم، فما في الأرض بلد أبغض إلي من بلد تكونون فيه.

فقال ابن عباس: فلم؟ والله ماذا بلاؤنا عندك، ولا يضعنا إليك، إنا جعلناك للمؤمنين أماً، وأنت بنت أم رومان، وجعلنا أباك صديقا وهو ابن أبي قحافة: حامل قصاع الودك لابن جذعان إلي أضيافه.

فقالت عائشة: يا

بن عباس تمنّون علي برسول الله؟!

فقال ابن عباس: ولم لا نمن عليك بمن لو كان منك قلامة منه مننتنا به؟

ونحن لحمه ودمه ومنه، وما أنت إلا حشية من حشايا تسع، خلفهن بعده، لست بأبيضهن لونا ولا بأحسنهن وجها ولا بأرشحهن عرقا، ولا بأنضرهن ورقاً، ولا بأضهرهن أصلا، صرت تأمرين فتطاعين وتدعين فتجابين وما مثلك إلا كما قال أخو بني فهر:

مننت علي قومي فابدوا عداوة

فقلت لهم: كفوا العداوة والشكرا

ففيه رضا من مثلكم لصديقكم

وأحجي بكم أن تجمعوا البغي والكفرا

ثم نهض ابن عباس وأتي أميرالمؤمنين فأخبره بمقالتها، وما رد عليها فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام): أما لو كنت أعلم بك حيث بعثتك.

استمرت الحرب من الزوال إلي الغروب، وقيل استمرت ثلاثة أيام.

وعلي كل فقد بلغ عدد القتلي خمسة وعشرين ألف قتيل.

ستة آلاف من أصحاب الإمام والباقون من أصحاب الجمل، وأما الأيدي والأرجل التي قطعت فقد بلغ عددها أربعة عشر ألفا.

هكذا تروت الأرض بالدماء، وهكذا زهقت الأرواح ولا تسأل عن الجرحي ولا تسأل عن أرامل القتلي ويتاماهم.

هذا والكلام طويل وفي هذا المقدار كفاية.

علي في صفين

بسم الله الرحمن الرحيم

حديثنا الليلة حول الحرب الثانية التي وقعت في أيام أميرالمؤمنين (عليه السلام) وهي واقعة صفين، تلك المجزرة الرهيبة، التي تقشعر الجلود من استماع الحوادث، والفجائع التي وقعت في تلك المعركة، وضياع الحق وغلبة الباطل عن طريق الخدعة والغدر والمكر والتزوير، وتتجلي صحيفة أميرالمؤمنين نقية بيضاء متلألئة، وتتمثل فيها العدالة والتقوي والورع، نذكرها في صورة موجزة: لما انتهت غزوة الجمل في البصرة ووضعت الحرب أوزارها، ورجع الإمام (عليه السلام) إلي الكوفة مظفرا منصورا، بعث كتابا إلي معاوية يأمره بأخذ البيعة له (عليه السلام)، وبعث الكتاب بيد رجل إلي الشام، وجمع معاوية بعض مشاهير الشام وأمرهم بإشاعة هذا الخبر وإذاعته فيما بين الناس: (أن

عليا قتل عثمان، ومعاوية ولي دم عثمان، فيجب الطلب بثأر عثمان ودمه) 9 وأعانه علي هذه الفكرة عمرو بن العاص واشترط علي معاوية أنه إذا بايعه وأعانه علي حرب الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) وأخرجوا مصر من تحت سلطة أميرالمؤمنين (عليه السلام) يكون عمرو بن العاص والياً وأميراً علي مصر، فبايعه علي ذلك وبايع أهل الشام معاوية أيضا.

فنهض معاوية بجيشه الجرار وأقبل إلي (صفين)، وهو اسم أرض كبيرة واسعة، مستعداً للقتال ونهض الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) بعسكره إلي ذلك المكان وبعد أيام من وصوله استعرت نار الحرب فيما بين الفريقين وجرت أنهار من الدماء، وتكونت أتلال وجبال من الأجساد المضرجة من القتلي من الفريقين.

فقد وصل أبوالأعور السلمي وهو علي مقدمة جيش معاوية إلي منطقة صفين، الكائنة بالقرب من مدينة الرقة في سوريا، ونزلا منزلا اختاروه واسعا واستولوا علي شريعة الفرات.

فوصل مالك الأشتر ومعه أربعة آلاف رجل وهم مقدمة الجيش العلوي، فاصطدموا بأبي الأعور وأزالوهم عن الفرات، فوصل معاوية مع الجيش الجرار، فانسحب الأشتر عن الفرات، فاستولي معاوية وأصحابه علي شاطئ الفرات وصار الماء لديهم فوصل الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) ومعه مائة ألف إنسان ويزيدون، فأمر الإمام الجيش أن ينزلوا ويضعوا أثقالهم وأحمالهم، وتسرع بعضهم إلي ناحية معاوية واقتتلوا قتالا قليلا.

وتقدم طائفة من الناس إلي الفرات ليستقوا فمنعهم أهل الشام فأرسل الإمام (عليه السلام) صعصعة بن صوحان إلي معاوية رسولا يعاتبه علي تسرعه بالاستيلاء علي الماء وجري هنا كلام طويل.

كان عمرو بن العاص ينصح معاوية ويأمره أن يفسح المجال لأصحاب علي ليشربوا، ولكن غرور معاوية منعه عن قبول النصيحة، وخاصة بعد أن استولي أصحابه استيلاء تاما علي الفرات، حتي قال معاوية: يا أهل الشام هذا أول الظفر، لا سقاني الله ولا أباسفيان

إن شربوا منه حتي يقتلوا بأجمعهم.

وتباشر أهل الشام من هذه البشري السارة وهي التغلب علي العدو عن طريق حبس الماء، فقام رجل من أهل الشام همداني متعبد وقال: يا معاوية سبحان الله سبقتم القوم إلي الفرات وتمنعونهم الماء؟ أما الله لو سبقوكم إليه لسقوكم منه، أليس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعوهم الفرات؟ أما تعلمون أن فيهم العبد والأمة والأجير والضعيف ومن لا ذنب له؟؟ هذا والله أول الجور.

فأغلط له معاوية في الكلام وقال لعمرو: اكفني صديقك، فأتاه عمرو وقابله بالكلام الخشن، فسار الهمذاني في سواد الليل حتي لحق بعلي (عليه السلام).

ومكث أصحاب علي (عليه السلام) يوما وليلة بغير ماء، واغتم الإمام (عليه السلام) من عطش أصحابه، لأنهم باتوا في البر عطاشا، قد حيل بينهم وبين الورود إلي الماء، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: إن عليا لا يموت عطشا، هو وتسعون من أهل العراق وسيوفهم علي عواتقهم، ولكن دعهم يشربون وتشرب.

فقال معاوية: لا والله أو يموتون عطشا كما مات عثمان.

وخرج الإمام في تلك الليلة يدور في عسكره فسمع قائلا يقول:

أيمنعنا القوم ماء الفرات؟

وفينا علي وفينا الهدي

وفينا الصلاة وفينا الصيام

وفينا المناجون تحت الدجي

ثم مر بآخر فسمعه يقول:

أيمنعنا القوم ماء الفرات؟

وفينا الرماح وفينا الحجف

وفينا علي له صولة..

إذا خوفوه الردي لم يخف

ونحن غداة لقينا الزبير

وطلحة خضنا غمار التلف

فما بالنا أمس أسد العرين

وما بالنا اليوم شاء عجف

وألقي علي الأشعث رقعة فيها شعر، فلما قرأها هاجت فيه الحمية، ودخل علي الإمام.

فقال: يا أميرالمؤمنين أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا والسيوف في أيدينا؟ خل عنا وعن القوم، فوالله لا نرجع حتي نرده أو نموت.

فقال الإمام: ذلك إليكم.

فرجع الأشعث فنادي في الناس: من يريد الماء أو الموت فميعاده موضع كذا، فإني ناهض.

فخرج اثنا عشر

ألف رجل من قبيلة كندة وغيرهم، واضعي سيوفهم علي عواتقهم، وأقبل الأشتر بخيله فحملوا علي الفرات حملة رجل واحد وأخذت السيوف أهل الشام، فولوا مدبرين حتي غمست خيل أميرالمؤمنين سنابكها في الفرات واستولوا علي الماء، وأزالوا أباالأعور عن الشريعة وغرقوا منهم بشرا وخيلا، وارتحل معاوية عن ذلك الموضع، ولما صار الماء بأيدهم قالوا: لا والله لا نسقيهم، فأرسل إليهم أميرالمؤمنين: أن خذوا حاجتكم من الماء وارجعوا إلي معسكركم، وخلوا بينكم وبين الماء فإن الله قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم، وقالوا له: أمنعهم الماء كما منعوك، فقال: لا، خلوا بينهم وبينه، لا أفعل ما فعله الجاهلون، واستأذنه معاوية في وروده المشرعة فأباح الإمام له ذلك.

كان الإمام (عليه السلام) يحاول المحافظة علي السلم والسلام والأمان كما فعل يوم الجمل فلم يزل يرسل الأفراد إلي معاوية للتفاهم وحسم النزاع وكان معاوية مصرا علي الحرب والقتال.

وأخيرا اشتعلت نار الحرب واصطدم العسكران، فزحف بعضهم علي بعض، وتراموا بالنبال والحجارة حتي فنيت، ثم تطاعنوا بالرماح حتي تكسرت ومشي بعضهم إلي بعض السيوف وعمد الحديد، فلم يسمع السامعون إلا وقع الحديد بعضه علي بعض، وانكسفت الشمس وأمطرت السماء دما، وحملت الأفواج علي الأفواج.

وحيث أن الحرب كانت قد طالت علي الفريقين أراد كل جانب إنهاء الأمر وسئموا البقاء هناك، ولهذا تبادروا إلي القتال واستمرت الحرب ستة وثلاثين ساعة، واقترب الجيش العلوي من مقر قيادة الجيش الأموي وطلب معاوية فرسا لينهزم، وكان أهل الشام ينادون: يا معشر العرب: الله الله في الحرمات من النساء والبنات، الله الله في البقية، لقد فنيت العرب … الخ.

اقترب الجيش العلوي من الفتح، ولاح لهم الظفر والنصر وتوجه الخطر إلي معاوية ولم يستطع المقاومة إلا عن طريق الخدعة والمكر، فأمر

معاوية أصحابه في جوف الليل أن يربطوا المصاحف علي رؤوس الرماح، وأصبح الصباح وإذا بأهل العراق يشاهدون خمسمائة مصحف علي رؤوس الرماح وأهل الشام ينادون بما تقدم من كلامهم، ويستعطفون أهل العراق ويطلبون منهم ترك الحرب، وكان آخر كلامهم: هذا كتاب الله بيننا وبينكم.

فقال الإمام: اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون.

ومن هنا اختلف أصحاب علي، فطائفة قالت: القتال، وطائفة قالت: المحاكمة إلي الكتاب، ولا يحل لنا الحرب وقد دعينا إلي حكم الكتاب.

فعند ذلك بطلت الحرب ووضعت أوزارها، وكان عدي بن حاتم يري أن الفتح والنصر قد اقترب، ويطلب من الإمام إدامة الحرب، وقام عمرو بن الحمق وطلب من الإمام أم يعمل بما يري، فقام الأشعث بن قيس وقابل هؤلاء بالكلام الخشن وطلب كف القتال.

فقال الأمام: إني أحق من أجاب إلي كتاب الله، ولكن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وابن أبي سرح وابن مسلمة ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإني أعرف بهم منكم، صحبتهم صغارا ورجالا فكانوا شر صغار وشر رجال!!

ويحكم! إنها كلمة حق يراد بها الباطل، إنهم ما رفعوها أنهم يعرفونها ويعملون بها، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه، ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا.

استمرت الحرب من يوم شروعها إلي صبيحة ليلة الهرير مائة وعشرة أيام وبلغ عدد القتلي من أهل الشام تسعين ألفا ومن أهل العراق عشرين ألفا والمجموع مائة وعشرة آلاف كما ذكره المسعودي.

فجاء الإمام من أصحابه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد حاملي سيوفهم علي عواتقهم، وقد اسودت جباههم من كثرة السجود، وهم الذين صاروا بعد ذلك خوارج، فنادوا الإمام باسمه لا بإمرة المؤمنين وقالوا: يا علي أجب القوم إلي كتاب الله إذا

دعيت إليه، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فو الله لنفعلها إن لم تجبهم.

فقال الإمام (عليه السلام): ويحكم!! أنا أول من دعا إلي كتاب الله، وأول من أجاب …

ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم، وأنهم ليس العمل بالقرآن يريدون.

كان مالك الأشتر في تلك الساعة يقاتل ويتقدم لحظة بعد لحظة، وجيش معاوية كان ينسحب وينقرض ساعة بعد ساعة ولو أمهلوا الأشتر ساعة واحدة لانتهت الحرب.

فصاح هؤلاء: يا أميرالمؤمنين ابعث إلي الأشتر ليأتيك.

فبعث الإمام رجلا إلي الأشتر: أن ائتني.

فقال الأشتر: ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي، إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني.

رجع الرسول فأخبر الإمام، وحمل الأشتر علي أهل الشام وظهرت علامات الفتح، ولكن القوم قالوا: يا أميرالمؤمنين ما نراك إلا أمرته بالقتال.

فقال الإمام: أرأيتموني شاورت رسولي إليه؟ أليس إنما كلمته علي رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون؟ فقالوا: ابعث إليه، وإلا فوالله اعتزلناك!! فذهب الرسول إلي الأشتر وأخبره عن اختلاف القوم، وما كان الأشتر يحب مغادرة جبهة القتال في تلك الساعة الحرجة فقال له الرسول: أتحب أنك ظفرت ههنا، وأن أميرالمؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه ويسلم إلي عدوه؟؟، فقال الأشتر: سبحان الله!! لا والله، لا أحب ذلك فقال الرسول: فإنهم قد حلفوا عليه لترسلن إلي الأشتر فليأتيك أو لنقتلنك بأسيافنا كما قتلنا عثمان أو لنسلمك إلي عدوك!! أقبل الأشتر مغضبا وصاح بالقوم: يا أهل الذل والوهن أحين علوتم القوم وظنوا أنكم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلي ما فيها …

فلا تجيبوهم، أمهلوني فإني قد أحسست بالفتح.

قالوا: لا نمهلك.

جري كلام طويل وعتاب بين الأشتر والقوم وآل الأمر إلي السب والشتم والصياح، فصاح بهم الإمام، فكفوا، فصاح القوم: أم أميرالمؤمنين قد رضي المحاكمة بحكم القرآن.

كان الإمام ساكتا

لا يتكلم، والقوم يتكلمون، ولما سكتوا قال الإمام: أيها الناس إن أمري لم يزل معكم علي ما أحب إلي أن أخذت منكم الحرب …

إلا: إني أمس أميرالمؤمنين فأصبحت اليوم مأمورا وكنت ناهيا فأصبحت منهيا، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم علي ما تكرهون.

اضطرب أقوال الرجال وقام الرؤساء وتكلموا بما تكلموا من الموافقة علي رأي الإمام ورفض المحاكمة، ولكن المهرجين نشروا هذه الكلمة: إن أميرالمؤمنين رضي التحكيم.

ودخل الأشعث بن قيس رأس الفساد واستأذن من الإمام ليكون رسولا إلي معاوية فأذن له الإمام، فجاء الأشعث ودخل علي معاوية وقال: لأي شي ء رفعتم هذه المصاحف؟ فقال معاوية: لنرجع إلي ما أمر الله به فيها، فابعثوا رجلا منكم ترضون به، ونبعث رجلا منا، ونأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله، ولا يعدوانه، ثم نتبع ما اتفقنا عليه.

فرجع الأشعث.

فأقبل جماعة من أصحاب الإمام وجماعة من أصحاب معاوية واجتمعوا بين الصفين وتذاكروا حول انتخاب (الحكم) فانتخب أهل الشام عمرو بن العاص، وانتخب الأشعث ونظراؤه أباموسي الأشعري فرفض الإمام أباموسي ولم يرض به، وقال الأشعث وجماعة: لا نرضي إلا به، فلم يوافق الإمام وانتخب ابن عباس ليكون (حكما) فلم يرض الأشعث بابن عباس لأنه من أقارب الإمام فاختار الأشتر فلم يرضوا به.

جادل الأشعث بكل وقاحة وصلافة، ورد علي الإمام جميع مقترحاته وبقي مصرا علي الأشعري، فقال الإمام: فاصنعوا ما شئتم! وكان يصفق بيديه ويقول: يا عجبا! أعصي ويطاع معاوية؟!

أرسلوا إلي أبي موسي وكان في الشام فجاء إلي معسكر الإمام، فجاء الأشتر ورشح نفسه ليكون هو الحكم، وجاء الأحنف بن قيس وحذر الإمام من الأشعري وعجزه وضعف نفسه ورشح نفسه للحكم فوافق الإمام علي ذلك، ولكن الناس رفضوا وقالوا: لا يكون إلا أباموسي.

وكتبوا

كتاب الموادعة وهذه صورته: هذا ما تقاضي عليه علي أميرالمؤمنين معاوية بن أبي سفيان …

فلما قرأ معاوية الكتاب قال: بئس الرجل أنا إن أقررت أنه أميرالمؤمنين ثم قاتلته!! أعيد الكتاب إلي الإمام وأخبروه فأمر الإمام بمحو كلمة (أميرالمؤمنين) فنهاه الأحنف عن ذلك، فقال الأشعث: أمح هذا الاسم … !! فقال الإمام: إن هذا اليوم كيوم الحديبية حين كتب الكتاب عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله): هذا ما صالح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو …

فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول الله لم أقاتلك ولم أخالفك، إني إذن لظالم لك …

ولكن أكتب: محمد بن عبدالله.

فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): يا علي إني لرسول الله وأنا محمد بن عبدالله، ولن يمحو عني الرسالة كتابي لهم.

إن ذلك الكتاب أنا كتبته بيننا وبين المشركين، واليوم أكتبه إلي أبنائهم كما كان رسول الله كتبه إلي آبائهم شبها ومثلا.

فقال عمرو بن العاص: سبحان الله! أتشبهنا بالكفار ونحن مسلمون؟ فقال الإمام: يا بن النابغة ومتي لم تكن للكافرين وليا وللمسلمين عدوا؟ ولما أرادوا تنظيم الكتاب سألوا الإمام: أتقر أنهم مسلمون مؤمنون؟ فقال الإمام: ما أقر لمعاوية ولا لأصحابه أنهم مؤمنون ولا مسلمون ولكن يكتب معاوية ما شاء ويقر بما شاء لنفسه ولأصحابه ويسمي نفسه بما شاء وأصحابه.

فكتبوا الكتاب، وكان في أعلي الكتاب خاتم أميرالمؤمنين وفي أسفله خاتم معاوية وشهد الشهود عليها وخرج الأشعث بالكتاب وقرأه علي أهل العراق فهاج الناس وظهرت الفتنة والانقسام والتفرقة وتكونت الخوارج وصاحوا: لا حكم إلا لله.

فأين قتلانا يا أشعث؟ وحمل بعضهم علي الأشعث ليقتله.

وأقبل الناس إلي الإمام مستنكرين للحكومة وطلبوا من الإمام نقض العهد والرجوع إلي الحرب فقال الإمام: ويحكم! أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع؟ أليس الله تعالي قد قال:

أوفوا بالعقود؟ وقال: (أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً). [141].

فبرأ الخوارج من الإمام وبرأ منهم، وأقبل الجيش يستأذنون الإمام بالهجوم علي معاوية فقال الإمام (عليه السلام): لو كان هذا قبل المعاهدة وسطر الصحيفة لأزلتهم عن عسكرهم.

توجه الأشعري للاجتماع بابن العاص للمحاكمة، فحذره الناس عن ابن العاص وغدره ومكيدته وسوء سوابقه حتي يتخذ التدابير اللازمة ويكون علي بصيرة من أمره، ولكن كان كل هذا بلا جدوي بلي كانت النتيجة معكوسة.

اجتمع الحكمان في المكان المعد لهما فقال عمرو: تكلم يا أباموسي فقال الأشعري: بل أنت تكلم.

فقال عمرو: ما كنت لأفعل وأقدم نفسي قبلك، ولك حقوق كلها واجبة …

فتكلم أبوموسي فقال عمرو: إن للكلام أولاً وآخراً ومتي تنازعنا الكلام لم نبلغ آخره حتي ننسي أوله، فاجعل ما كان من كلام بيننا في كتاب يصير إليه أمرنا؟ فقال أبوموسي: اكتب، دعي عمرو بصحيفة وكاتب.

وبعد سؤال وجواب وخداع وتزوير قال الأشعري: قد علمت أن أهل العراق لا يحبون معاوية أبدا، وأن أهل الشام لا يحبون عليا أبدا، فهلم نخلعهما ونستخلف عبدالله بن عمر بن الخطاب.

فقال عمرو: أيفعل ابن عمر؟ قال: نعم، إذا حمله الناس علي فعل ذلك فعل.

فقال عمرو: فهل لك في سعد بن أبي وقاص؟ قال: لا.

فذكر ابن العاص جماعة والأشعري لا يرضي بهم.

فقال عمرو: قم واخطب.

فقال الأشعري: قم أنت واخطب فامتنع ابن العاص وقام الأشعري وخرج من الخيمة وقد اجتمع أربعمائة رجل من أصحاب الإمام ومثلهم من أصحاب معاوية.

فقام الأشعري وخطب خطبة وقال: أيها الناس إنا نظرنا في أمرنا فرأينا أقرب ما يحضرنا من الأمن والصلاح ولم الشعث وحقن الدماء وجمع الألفة خلعنا عليا ومعاوية، وقد خلعت عليا كما خلعت عمامتي هذه، وخلع عمامته …

وقام

عمرو وقال: أيها الناس إن أباموسي عبدالله بن قيس قد خلع عليا وأخرجه من هذا الأمر الذي يطلب، وهو أعلم به، ألا وأني خلعت عليا وأثبت معاوية علي وعليكم …

فقال الأشعري كذب عمرو ولم نستخلف معاوية ولكنا خلعنا معاوية وعليا! فقال عمرو بل كذب عبدالله بن قيس قد خلع عليا ولم أخلع معاوية.

فقال الأشعري: ما لك؟ لا وفقك الله غدرت وفجرت، إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.

فقال عمرو: بل إياك يلعن الله، كذبت وغدرت إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا.

فضرب عمرو أباموسي فسقط وضرب شريح عمراً بالسوط، فركب الأشعري راحلته وتوجه إلي مكة وحلف أن لا ينظر في وجه علي.

علي والخوارج

بسم الله الرحمن الرحيم

لما تقرر التحكيم غادر الإمام (عليه السلام) صفين وقصد نحو الكوفة، وبقي في الكوفة، فوقع تحكيم الحكمين، وأنتج ذلك التحكيم خلع الإمام (عليه السلام) عن الإمامة وتثبيت معاوية، ومن هنا تكون مذهب الخوارج وكان الإمام (عليه السلام) ينتظر انقضاء السنة …

وهي مدة الهدنة التي بينه وبين معاوية ليرجع إلي المقاتلة والحرب، وإذا بأربعة آلاف فارس من أصحابه العباد والنساك قد تكتلوا كتلة واحدة ضد الإمام فخرجوا من الكوفة لإعلان المخالفة، وقالوا: لا حكم إلا لله، ولا طاعة لمن عصي الله!! وانضمت إليهم جماعة أخري وهم ثمانية آلاف ممن يري رأيهم فصاروا اثني عشر ألفا، من أهل الكوفة والبصرة وغيرها وساروا إلي أن نزلوا الحروراء، ونادي مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي، وأمير الصلاة عبدالله بن الكوا، والأمر شوري بعد الفتح، والبيعة لله علي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فدخل زرعة الطائي وحرقوص بن زهير ذو الثدية فقالا: لا حكم إلا لله.

فقال علي (عليه السلام): كلمة حق يراد بها الباطل.

قال ذو الثدية:

فتب من خطيئتك، وارجع عن قصتك، واخرج بنا إلي عدونا نقاتلهم حتي نلقي ربنا.

فقال (عليه السلام): قد أردتكم علي ذلك فعصيتموني، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا وشروطا، وأعطينا عليها عهودا ومواثيق، وقد قال الله تعالي: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم). [142].

قال ذو الثدية: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب عنه.

فقال (عليه السلام): ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي وضعف في العقل، وقد تقدمت فنهيتكم عنه.

فقال ابن الكوا: الآن صح عندنا أنك لست بإمام، ولو كنت إماما لما رجعت.

فقال (عليه السلام) ويلكم قد رجع رسول الله (صلّي الله عليه وآله) عام الحديبية عن قتال أهل مكة.

وقال زرعة: أما والله لئن لم تتب من تحكيمك الرجال لأقتلنك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه! فقال (عليه السلام): بؤساً لك! ما أشقاك! كأني بك قتيلا، تسفي عليه الرياح، قال زرعة: وددت أنه كان ذلك.

بعث الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) صعصعة بن صوحان مع زياد بن نضر وعبدالله بن العباس إلي القوم فلم يرتدعوا، فدعي الإمام صعصعة وقال له: بأي القوم رأيتم أشد طاعة؟ فقال صعصعة: بيزيد بن قيس الأرحبي، فركب (عليه السلام) إلي حروراء حتي وصل إلي خيمة يزيد بن قيس فصلي فيه ركعتين ثم خرج، فاتكأ علي قوسه، وأقبل علي الناس فقال: هذا مقام من فلج فيه فلج إلي يوم القيامة، ثم كلمهم وناشدهم فقال لهم: ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لكم: إن هذه مكيدة ووهن، ولو أنهم قصدوا إلي حكم المصاحف لأتوني وسألوني التحكيم؟ أفتعلمون أن أحدا أكره إلي التحكيم مني؟ قالوا: صدقت.

قال: فهل تعلمون أنكم استكرهتموني علي ذلكم حتي أجبتكم، فأشرطت أن حكمهما: نافذ ما حكما بحكم الله، فمتي خالفاه فأنا وأنتم من ذلك براء، وأنتم تعلمون أن حكم الله

لا يعدوني؟

فقال ابن الكواء: حكمت في دين الله برأينا، ونحن مقرون بأنا كفرنا ولكن تائبون فأقرر بمثل ما أقررنا به، وتب ننهض معك إلي الشام.

فقال (عليه السلام): أما تعلمون أن الله قد أمر بالتحكيم في شقاق بين الرجل وامرأته؟ فقال: (فابعثوا حكما من أهله وحكماً من أهلها)، [143] وفي صيد (كأرنب) يساوي نصف درهم فقال: (يحكم به ذوا عدل منكم).

فقالوا: فإن عمرو بن العاص لما أبي عليك أن تقول في كتابك هذا ما كتبه عبدالله علي أميرالمؤمنين محوت اسمك من الخلافة وكتبت علي بن أبي طالب، فقد خلعت نفسك.

فقال (عليه السلام): لي أسوة برسول الله (صلّي الله عليه وآله) حين أبي عليه سهيل بن عمرو أن يكتب: هذا ما كتبه محمد رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وسهيل بن عمرو وقال: لو أقررت بأنك رسول الله ما خالفتك، ولكني أقدمك لفضلك، فاكتب محمد بن عبدالله فقال لي: يا علي، امح رسول الله.

فقلت: يا رسول الله لا تشجعني نفسي علي محو اسمك من النبوة.

فقضي عليه فمحاه بيده ثم قال: اكتب محمد بن عبدالله.

ثم تبسم إلي وقال: إنك لتسام مثلها فتعطي.

فقالوا: إنا أذنبنا ذنبا عظيما، وقد تبنا، فتب إلي الله كما تبنا نعد لك.

فقال علي (عليه السلام): أستغفر الله من كل ذنب.

فرجعوا معه منهم ستة آلاف فلما استقروا بالكوفة أشاعوا: أن عليا رجع عن التحكيم ورآه ضلالا، وقالوا: إنما ينتظر أن يسمن الكراع ويجي ء المال ثم ينهض بنا إلي الشام.

فأتي الأشعث عليا (عليه السلام) فقال: يا أميرالمؤمنين إن الناس قد تحدثوا: أنك رأيت الحكومة تحكيم الحكمين ضلالاً والإقامة عليها كفراً.

فقام علي (عليه السلام) فخطب فقال: من زعم أني رجعت عن الحكمين فقد كذب، ومن رآها ضلالة فقد ضل.

فخرجت الخوارج من المسجد، ثم توجهت إلي النهروان.

ووقعت لهم في طريقهم إلي

النهروان طرائف عجيبة وقضايا مبكية ومضحكة، فمنها: أنهم وجدوا مسلما ونصرانيا في طريقهم، فقتلوا المسلم لأنه عندهم كافر إذ كان علي خلاف معتقدهم، واستوصوا بالنصراني وقالوا: احفظوا ذمة نبيكم.

ووثب رجل منهم علي رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فمه فصاحوا به، فلفظها تورعا.

ورأي أحدهم خنزيرا فضربه وقتله، فقالوا: هذا فساد في الأرض وأنكروا قتل الخنزير.

وساوموا رجلا نصرانيا بنخلة له فقالوا: ما كنا لنأخذها إلا بالثمن، فقال النصراني: واعجباه أتقتلون مثل عبدالله بن خباب ولا تقبلون منا نخلة إلا بالثمن؟! وأما عبدالله بن خباب الأزدي، فإنه كان راكبا علي حمار ومعه زوجته وهي حامل فقالوا له: حدثنا.

قال سمعت أبي يقول: قال رسول الله: ستكون بعدي فتنة، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا فكن عند الله المقتول ولا تكن القاتل.

قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثني خيرا.

قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم؟ وفي عثمان في السنين الست الأخيرة؟ فأثني خيرا.

قالوا: فما تقول في علي بعد التحكيم والحكومة؟ قال: إن عليا أعلم بالله وأشد توقياً علي دينه، وأنفذ بصيرة.

قالوا: إنك تتبع الهوي، إنما تتبع الرجال علي أسمائهم، ثم قربوه إلي شاطئ النهر فأضجعوه وذبحوه، ثم عمدوا إلي امرأته فشقوا بطنها وهي حامل! وصل القوم إلي النهروان وتوجه الإمام (عليه السلام) بجيشه إليهم، فقال (عليه السلام): يا ابن عباس امض إلي هؤلاء القوم، فانظر ما هم عليه، ولماذا اجتمعوا؟ فلما وصل إليهم، دار بينهم ما يلي: الخوارج.

ويحك يا ابن عباس: كفرت بربك كما كفر صاحبك علي بن أبي طالب! وخرج خطيبهم عتاب بن الأعور التغلبي فسأله ابن عباس:

ابن عباس: من بني الإسلام؟

عتاب: الله ورسوله.

ابن عباس: النبي أحكم أموره وبين حدوده أم لا؟

عتاب: بلي.

ابن عباس: فالنبي بقي في دار الإسلام أم ارتحل؟

عتاب: بل ارتحل.

ابن عباس:

فأمور الشرع ارتحلت معه أم بقيت؟

عتاب: بل بقيت بعده.

ابن عباس: فهل قام أحد بعده بعمارة ما بناه؟

عتاب: نعم الذرية والصحابة.

ابن عباس: فعمروها أو خربوها.

عتاب: بل عمروها.

ابن عباس: فالآن هي معمورة أم خراب؟

عتاب: بل خراب.

ابن عباس: خربها ذريته أم أمته؟

عتاب: بل أمته.

ابن عباس: أنت من الذرية أو من الأمة؟

عتاب: من الأمة.

ابن عباس: أنت من الأمة وخربت دار الإسلام فكيف ترجو الجنة؟

فقالوا: ليخرج إلينا علي بنفسه لنسمع كلامه عسي أن يزول ما بأنفسنا إذا سمعناه فرجع ابن عباس فأخبره، فركب (عليه السلام) في جماعة، ومضي إليهم فركب ابن الكوا في جماعة منهم، فلما التقوا قال الإمام (عليه السلام): يا بن الكوا إن الكلام كثير، فأبرز إلي من أصحابك لأكلمك.

فقال: وأنا آمن من سيفك؟ قال (عليه السلام): نعم.

فخرج إليه في عشرة من أصحابه فقال له علي (عليه السلام): ألم أقل لكم إن أهل الشام إنما يخدعونكم بها الحكومة ورفع المصاحف وغير ذلك فإن الحرب قد عضتهم فذروني أناجزهم فأبيتم؟ ألم أرد نصب ابن عمي ابن عباس وقلت: إنه لا ينخدع فأبيتم إلا أباموسي؟ وقلتم: رضينا به حكما.

فأجبتكم كارها؟ ولو وجدت في ذلك الوقت أعوانا غيركم لما أجبتكم، وشرطت علي الحكمين بحضوركم.

أن يحكما بما أنزل الله من فاتحته إلي خاتمته.

والسنة الجامعة، وإنهما إن لم يفعلا فلا طاعة لهما علي؟ كان ذلك أو لم يكن؟ قال ابن الكواء: صدقت، كان هذا كله، فلم لا نرجع الآن إلي حرب القوم؟ قال الإمام (عليه السلام): حتي تنقضي المدة التي بيننا وبينهم.

قال ابن الكوا: وأنت مجمع علي ذلك؟ قال (عليه السلام): نعم، لا يسعني غيره، فعاد ابن الكواء والعشرة الذين معه إلي أصحاب علي (عليه السلام) راجعين عن دين الخوارج وتفرق الباقون وهم يقولون: لا حكم إلا لله.

وأمروا عليهم عبدالله بن وهب الراسبي وذا الثدية، وعسكروا بالنهروان، وخرج الإمام (عليه السلام) حتي بقي

علي فرسخين منهم، وكاتبهم وراسلهم، فلم يرتدعوا، فأمر الإمام ابن عباس أن يركب إليهم، وقال: سلهم ما الذي نقموه؟ وأنا ردفك فلا تخف منهم.

فلما جاءهم ابن عباس قال: ما الذي نقمتم من أميرالمؤمنين؟ قالوا: نقمنا أشياء لو كان حاضراً لكفرناه بها!! والإمام يسمع كلامهم فقال ابن عباس: يا أميرالمؤمنين قد سمعت كلامهم وأنت أحق بالجواب.

فتقدم (عليه السلام) وقال: أيها الناس أنا علي بن أبي طالب، فتكلموا بما نقمتم علي.

قالوا: نقمنا عليك أولا: إنا قاتلنا بين يديك بالبصرة، فلما أظفرك الله بهم أبحتنا ما في عسكرهم ومنعتنا النساء والذرية، فكيف حل لنا ما في المعسكر ولم يحل لنا النساء؟ فقال (عليه السلام): يا هؤلاء، إن أهل البصرة قاتلونا بالقتال، فلما ظفرتم بهم قسمتم سلب من قاتلكم، ومنعتكم من النساء والذرية، فإن النساء لم يقاتلن، ولدوا علي الفطرة، ولم ينكثوا ولا ذنب لهم، ولقد رأيت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) من علي المشركين، فلا تعجبوا إن مننت علي المسلمين فلم أسب نساءهم ولا ذريتهم.

قالوا: نقمنا عليك يوم صفين كونك محوت اسمك من إمرة المؤمنين فإذن لم تكن أميرنا، ولست أميرا لنا!! قال (عليه السلام): يا هؤلاء إنما اقتديت برسول الله (صلّي الله عليه وآله) حين صالح سهيل بن عمرو وقد تقدمت عنهم في ذلك الوقت.

قالوا: نقمنا عليك.

أنك قلت للحكمين: انظروا كتاب الله، فإن كنت أفضل من معاوية فأثبتاني في الخلافة.

فإذا كنت شاكا في نفسك فنحن فيك أشد وأعظم شكا! قال (عليه السلام): إنما أردت بذلك النصفة الإنصاف فإني لو قلت: أحكما لي دون معاوية لم يرض ولم يقبل، ولو قال النبي (صلّي الله عليه وآله) لنصاري نجران لما قدموا عليه: تعالوا نبتهل فأجعل لعنة الله عليكم.

فلم يرضوا، ولكن أنصفهم من نفسه كما أمره الله فقال:

(فنجعل لعنة الله علي الكافرين) [144] فأنصفهم من نفسه، فكذلك فعلت أنا ولم أعلم بما أراد عمرو بن العاص من خدعة أبي موسي.

قالوا: فإنا نقمنا عليك أنك حكمت حكما في حق هو لك.

فقال (عليه السلام): إن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) حكم سعد بن معاذ في بني قريظة ولو شاء لم يفعل، وأنا اقتديت به، فهل بقي عندكم شي ء؟ فسكتوا وصاح جماعة منهم من كل جانب: التوبة التوبة يا أميرالمؤمنين فأعطي أميرالمؤمنين راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، فناداهم أبوأيوب من جاء إلي هذه الراية أو خرج من الجماعة فهو آمن.

فرجع منهم ثمانية آلاف، فأمر (عليه السلام) المستأمنين بالاعتزال وبقي أربعة آلاف منهم مستعدين للقتال، فخطبهم الإمام ووعظهم فلم يرتدعوا، وصاح مناديهم فيهم: دعوا مخاطبة علي وأصحابه، وبادروا إلي الجنة.

وصاحوا: الرواح إلي الجنة!! وتقدم حرقوص ذو الثدية وعبدالله بن وهب وقالا: ما نريد بقتالنا إياك إلا وجه الله والدار الآخرة، فقال (عليه السلام): (هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) [145] فكان أول من خرج أخنس بن العزيز الطائي، فقتله الإمام (عليه السلام) وخرج عبدالله بن وهب ومالك بن الوضاح، وخرج أميرالمؤمنين (عليه السلام) وقتل الوضاح وضرب ضربة علي رأس الحرقوص وقتله، وأمر أصحابه بالهجوم علي العدو.عند ذلك استعرت الحرب والتهبت نيرانها، وأما عبدالله بن وهب الراسبي فصاح: يا ابن أبي طالب: والله لا نبرح من هذه المعركة حتي تأتي علي أنفسنا ونأتي علي نفسك، فأبرز إلي وأبرز إليك، وذر الناس جانبا، فلما سمع الإمام كلامه تبسم وقال: قاتله الله من رجل ما أقل حياءه، أما أنه ليعلم إني حليف السيف وخدين الرمح، ولكنه قد يئس من الحياة، وإنه ليطمع طمعا كاذبا، ثم حمل عليه

الإمام فضربه وقتله وألحقه بأصحابه في النار، واختلط الجيشان فلم تكن إلا ساعة حتي قتلوا بأجمعهم وكانوا أربعة آلاف، ولم ينج منهم إلا تسعة أنفس: رجلان هربا إلي خراسان إلي أرض سجستان وبها نسلهما، ورجلان صارا إلي اليمن وفيهما نسلهما (وهم الإباضية)، ورجلان صارا إلي بلاد الجزيرة إلي موضع يعرف بالسن والبواريخ نواحي تكريت في شمال العراق والباقون تفرقوا في البلاد.

وقتل من أصحاب علي (عليه السلام) بعدد من سلم من الخوارج.

الغارات الثلاث علي بلاد الإمام

بسم الله الرحمن الرحيم

لما وقع التحكيم في صفين وحصل الانشقاق والافتراق في أصحاب الإمام وتكونت الخوارج انتهز معاوية الفرصة فكان يرسل الجيوش إلي بلاد الإمام (عليه السلام) ويفتك بالناس ويهاجمهم غدرا وصبرا.

وقد تكررت منه هذه الجريمة والجناية، ونقتطف ثلاث غارات شنها معاوية علي المسلمين وأقام المجازر والمذابح وبلغ أقصي مراتب القساوة والوحشية والهمجية، نذكر لكم كل غارة بشي ء من التفصيل: الغارة الأولي روي ابن أبي الحديد عن ابن الكنوز قال: حدثني سفيان بن عوف الغامدي قال: دعاني معاوية فقال: إني باعثك في جيش ذي أداة وجلادة، فالزم لي جانب الفرات حتي تمر ب(هيت) فتقطعها، فإن وجدت بها جندا فأغِر عليهم، وإلا فامض حتي تغير علي الأنبار، فإن لم تجد بها جندا فامض حتي توغل المدائن ثم أقبل إلي: واتق أن تقرب الكوفة واعلم: أنك إن أغرت علي الأنبار وأهل المدائن فكأنك أغرت علي الكوفة إن هذه الغارات يا سفيان: علي أهل العرق ترعب قلوبهم وتفرح كل من له فينا هوي منهم، وتدعو إلينا كل من خاف الدوائر، فاقتل من لقيته ممن ليس هو علي مثل رأيك، واخرب كل ما مررت به من القري، وصرب الأموال شبيه بالقتل، وهو أوجع للقلب.

هذه وصايا معاوية، هكذا يأمر عميله بالقتل والحرق والهدم

والسلب والنهب بقوم مسلمين مؤمنين، ومع ذلك هو أميرالمؤمنين!! قال سفيان: فخرجت من عنده فعسكرت، وقام معاوية في الناس فخطبهم فقال: أيها الناس، انتدبوا مع سفيان بن عوف فإنه وجه عظيم فيه أجر، سريعة فيه أوبتكم إن شاء الله.

ثم نزل.

فو الله الذي لا إله غيره ما مرت ثالثة حتي خرجت في ستة آلاف، ثم لزمت شاطئ الفرات، فأغذذت (أسرعت) السير حتي أمر بهيت فبلغهم أني قد غشيتهم فقطعوا الفرات فمررت بها وما بها غريب، كأنها لم تحلل قط، فوطأتها حتي أمر بصدوراء ففروا، فلم ألق بها أحدا، فأمضي حتي أفتتح الأنبار، وقد أنذروا بي، فخرج صاحب المسلحة إلي، فوقف فلم أقدم عليه حتي أخذت غلمانا من أهل القرية فقلت لهم: أخبروني كم بالأنبار من أصحاب علي؟ قالوا: عدة رجال المسلحة خمسمائة، ولكنهم تبددوا ورجعوا إلي الكوفة، ولا ندري الذي يكون فيها، قد يكون مائتي رجل.

فنزلت فكتبت أصحابي كتائب، ثم أخذت أبعثهم إليه كتيبة بعد كتيبة، فيقاتلهم والله ويصبر لهم ويطاردهم، ويطاردونه في الأزقة، فلما رأيت ذلك أنزلت إليهم نحوا من مأتين، وأتبعتهم الخيل، فلما حملت الخيل وأمامها الرجال تمشي لم يكن شي ء حتي تفرقوا، وقتل صاحبهم في نحو ثلاثين رجلا، وحملنا ما كان من الأنبار من الأموال، ثم انصرفت، فوالله ما غزوت غزاة كانت أسلم ولا أقر للعيون، ولا أسر للنفوس منها وبلغني أنها رعبت الناس، فلما عدت إلي معاوية حدثته الحديث علي وجهه فقال: كنت عند ظني بك.

ولا تنزل في بلد من بلداني إلا قضيت فيه مثل ما يقضي فيه أميره، وإن أحببت تولية وليتك، وليس لأحد من خلق الله عليك أمر دوني …

الخ.

وصلت هذه الأخبار إلي الإمام (عليه السلام) فصعد المنبر فخطب الناس وقال:

إن أخاكم البكري عامل الأنبار قد أصيب، وهو اختار ما عند الله علي الدنيا فانتدبوا إليهم حتي تلاقوهم فإن أصبتم منهم طرفاً أنكتموهم عن العراق أبدا ما بقوا.

ثم سكت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتكلم منهم متكلم، فلم ينبس أحد منهم بكلمة، فلما رأي صمتهم نزل وخرج يمشي حتي أتي النخيلة والناس خلفه حتي أحاط به القوم من أشرافهم، فقالوا: ارجع يا أميرالمؤمنين: نحن نكفيك فقال: ما تكفونني، ولا تكفون أنفسكم!! فلم يزالوا به حتي صرفوه إلي منزله، فرجع وهو واجم ساكت كئيب، ودعي سعيد بت قيس الهمداني.

فبعثه من النخيلة في ثمانية آلاف وذلك أنه أخبر أن القوم جاءوا في جمع كثيف فخرج سعيد بن قيس علي شاطئ الفرات في طلب سفيان بن عوف حتي إذا بلغ عانات سرح أمامه هاني بن الخطاب الهمداني فاتبع آثارهم حتي أدني قنسرين، فقد فاتوه فانصرف.

ولبث الإمام (عليه السلام) تري فيه الكآبة والحزن حتي قدم سعيد بن قيس، وكان (عليه السلام) تلك الأيام عليلا، فلم يقو علي القيام في الناس بما يريده من القول، فجلس بباب السدة التي تصل إلي المسجد، ومعه ابناه الحسن والحسين (عليهماالسلام) وعبدالله بن جعفر، ودعا سعدا مولاه فدفع إليه الكتاب وأمره أن يقرأ علي الناس، فقام سعد بحيث يستمع أميرالمؤمنين صوته، ثم قرأ الخطبة: أما بعد: فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه وهو لباس التقوي، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشملة البلاء، وديث بالصغار والقمار، وضرب علي قلبه بالأسداد وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف.

ألا:

وإني قد دعوتكم إلي قتال القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلت لكم: أغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله

ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا.

فتواكلتم وتخاذلتم حتي شنت عليكم الغارات وملكت عليكم الأوطان، وهذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار وقد قتل حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها.

ولقد بلغني: أن الرجل منهم كان يدخل علي المرأة المسلمة والأخري المعاهدة، فينتزع منها حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلا منهم كلم ولا أريق لهم دم، فلو أن امرءً مسلما مات بعد هذا أسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا.

فيا عجباً، عجباً والله يميت القلب، ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم علي باطلهم وتفرقكم عن حقكم، فقبحا لكم وترحا! حين صرتم غرضا يرمي! يغار عليكم ولا تغيرون وتغزون ولا تغزون، ويعصي الله وترضون فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: هذه حمارة القيظ أمهلنا يسبخ عنا الحر.

وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القر أمهلنا ينسلخ عنا البرد.

كل هذا فرارا من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر.

يا أشباه الرجال ولا رجال! حلوم الأطفال! وعقول ربات الحجال! لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة والله جرت ندما وأعقبت سدماً! قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتموني نغب التهمام علي أنفاسا، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتي قالت قريش: إن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب!! لله أبوهم! وهل أحد منهم أشد مراساً وأقدم فيها مقاماً مني؟ ولقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذا قد ذرفت علي الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع!!. الغارة الثانية وهذه جناية أخري قام بها أحد عملاء معاوية وهو بسر

بن أرطأة أو ابن أبي أرطأة.

روي ابن أبي الحديد: أن قوماً بصنعاء اليمن كانوا من أتباع عثمان يعظمون قتله، لم يكن لهم نظام ولا رأس، فبايعوا لعلي (عليه السلام) علي ما في أنفسهم، وعامل أميرالمؤمنين علي صنعاء يومئذ عبيدالله بن العباس وعامله علي الجند سعيد بن نمران، فلما اختلف الناس علي علي (عليه السلام) بالعراق وقتل محمد بن أبي بكر بمصر، وكثرت غارات أهل الشام، تكلموا ودعوا إلي الطلب بدم عثمان، فبلغ ذلك عبيدالله بن العباس فأرسل إلي الناس من وجوههم، ما هذا الذي بلغني عنكم؟ قالوا: إنا نفكر في قتل عثمان، ونري مجاهدة من سعي عليه.

فحبسهم، فكتبوا إلي من في الجند من أصحابهم فساروا بسعيد بن نمران وأخرجوه من الجند، وأظهروا أمرهم، وخرج إليهم من كان بصنعاء وانضم إليهم كل من كان علي رأيهم، ولحق بهم قوم لم يكونوا علي رأيهم، إرادة أن يمنعوا الصدقة، فالتقي عبيدالله بن العباس يسعيد بن نمران ومعهما شيعة علي (عليه السلام)، فقال ابن العباس لابن نمران: والله لقد اجتمع هؤلاء، وإنهم لنا لمقاربون وإن قاتلناهم لا نعلم علي من تكون الدائرة؟ فهلم لنكتب إلي أميرالمؤمنين (عليه السلام) بخبرهم.

فكتب إلي أميرالمؤمنين (عليه السلام): أما بعد.

فإنا نخبر أميرالمؤمنين أن أتباع عثمان وثبوا بنا، وأظهروا أن معاوية قد شيد أمره، واتسق له أكثر الناس وإنا سرنا بشيعة أميرالمؤمنين، ومن كان علي طاعته، إلخ.

فلما وصل كتابهما ساء عليا (عليه السلام) وأغضبه، وكتب إليهما: من علي أميرالمؤمنين إلي عبيدالله بن العباس وسعيد بن نمران.

سلام الله عليكما، فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد.

فإنه لما أتاني كتابكما تذكران فيه خروج هذه الخارجة وتعظمان من شأنها صغيرا، وتكثران من عددها قليلا، وقد علمت أن نخب جبن أفئدتكما وصغر أنفسكما، وشتات رأيكما

وسوء تدبيركما هو الذي أفسد عليكما من كان عن لقائكما جبانا، فإذا قام رسولي عليكما فامضيا إلي القوم حتي تقرئا عليهم كتابي إليهم، وتدعواهم إلي حظهم، وتقوي ربهم، فإن أجابوا حمدنا الله وقبلناهم، وإن حاربوا استعنا بالله عليهم ونابذناهم علي سواء إن الله لا يحب كيد الخائنين.

فكتب (عليه السلام): من عبدالله علي أميرالمؤمنين إلي من شاق وغدر من أهل الجند وصنعاء.

أما بعد: فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا يعقب له حكم ولا يرد له قضاء، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين، وقد بلغني تجرؤكم وشقاؤكم وإعراضكم عن ديتكم بعد الطاعة، وإعطاء البيعة، فسألت أهل الدين الخالص والورع الصادق واللب الراجح عن بدء مخرجكم وما نويتم به وما أحمشكم له فحدثت عن ذلك بما لم أر لكم في شي ء عذرا منه مبينا، ولا مقالا جميلا ولا حجة ظاهرة، فإذا أتاكم رسولي فتفرقوا، وانصرفوا إلي رحابكم، أعف عنكم، وأصفح عن جاهلكم وأحفظ قاصيكم، وأعمل فيكم بحكم الكتاب، فإن لم تفعلوا فاستعدوا لقدوم جيش جم الفرسان، عظيم الأركان يقصد لمن طغي وعصي، فتظحنوا كطحن الرحي، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد.

وأرسل الكتاب مع رجل من همدان، فقدم عليهم بالكتاب، فلم يجيبوه إلي خير، فقال لهم: إني تركت أميرالمؤمنين يريد أن يوجه إليكم يزيد بن قيس الأرحبي في جيش كثيف، فلم يمنعه إلا انتظار جوابكم.

فقالوا: نحن سامعون إن عزل عنا هذين الرجلين عبيدالله وسعيدا.

فرجع الهمداني إلي علي (عليه السلام) فأخبره خبر القوم، وكتبت تلك العصابة حينئذ إلي معاوية يخبرونه، فلما قدم كتابهم دعا معاوية بسر بن أرطأة، وكان قاسي القلب، فظا سفاكا للدماء، لا رأفة عنده ولا رحمة فأمره أن يأخذ طريق الحجاز

ومكة حتي ينتهي إلي اليمن، وقال له: لا تنزل علي بلد علي طاعة علي إلا بسطت عليهم لسانك حتي يروا أنهم لا نجاة لهم، وأنك محيط بهم ثم اكفف عنهم، وادعهم إلي البيعة لي! فمن أبي فاقتله، واقتل شيعة علي حيث كانوا!! سار بسر بن أرطأة في ثلاثة آلاف، وكان إذا وردوا ماء أخذوا إبل أهل ذلك الماء فركبوها، وقادوا خيولهم حتي يردوا الماء الآخر فيردون تلك الإبل، وبركبون إبل هؤلاء لئلا يصل الخبر إلي البلاد التي يقصدونها فلم يزل يصنع ذلك حتي قرب المدينة فاستقبلتهم قضاعة ينحرون لهم الجزر حتي دخلوا المدينة، وعامل علي (عليه السلام) علي المدينة يومئذ: أبوأيوب الأنصاري صاحب منزل رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، فخرج عنها هاربا، ودخل بسر المدينة فخطب الناس وشتمهم وتهددهم يومئذ وتوعدهم، وقال: شاهت الوجوه، إن الله تعالي ضرب مثلا: (قرية كانت آمنة مطمئنة، يأتيها رزقها رغدا فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف). [146].

وقد أوقع الله تعالي ذلك المثل بكم وجعلكم أهله، كان بلدكم مهاجر النبي ومنزله، وفيه قبره ومنازل الخلفاء من بعده، فلم تشكروا نعمة ربكم ولم ترعوا حق نبيكم، وقتل خليفة الله بين أظهركم، فكنتم بين قاتل وخاذل، ومتربص وشامت، إن كان للمؤمنين قلتم: ألم نكن معكم؟! وإن كان للكافرين نصيب قلتم: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين؟!.

ثم شتم الأنصار فقال: يا معشر اليهود! وأبناء بني زريق! وبني النجار، وبني سالم وبني عبد الأشهل! والله لأوقعكن بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين، وآل عثمان، أما والله لأدعنكم أحاديث كالأمم السالفة!!.

فتهددهم حتي خاف الناس أن يوقع بهم، ففزعوا إلي حويطب بن عبد العزي، ويقال إنه زوج أمه.

فصعد إليه المنبر وناشده، وقال: عترتك وأنصار رسول الله،

وليست بقتلة عثمان.

فلم يزل به حتي سكن ودعا الناس إلي بيعة معاوية فبايعوه ونزل، فأحرق دورا كثيرة.

منها دار زرارة بن حرون، ودار أبي أيوب الأنصاري، وفقد جابر بن عبدالله الأنصاري فقال: ما لي لا أري جابرا؟ يا بني سلمة.

لا أمان لكم عندي أو أن تأتوني بجابر.

فعاذ جابر بأم سلمة زوجة النبي، فأرسلت إلي بسر بن أرطأة فقال: لا آمنه حتي يبايع.

فقالت أم سلمة اذهب فبايع.

وقالت لابنها عمر: اذهب فبايع، فذهبا فبايعاه.

ثم خرج إلي مكة، فلما قرب منها هرب قثم بن العباس، وكان عامل علي (عليه السلام) ودخلها بسر، فشتم أهل مكة وأنبهم، ثم خرج عنهم واستعمل عليهم شيبة بن عثمان، وفي طريقه من المدينة قتل رجالا وأخذ أموالا، ثم دخل الطائف وشتم وقتل، ثم دخل نجران وشتم وقتل، حتي دخل صنعاء، وقد خرج عنها عبيدالله بن العباس وسعيد بن نمران، وقد استخلف عبيدالله عليها عمرو بن أراكة، فمنع بسرا عن دخولها، وقاتله فقتله بسر ودخل صنعاء فقتل منها قوما، وأتاه وفد مأرب فقتلهم فلم ينج منهم إلا رجل واحد.

ثم خرج بسر من صنعاء، فأتي أهل جلسان وهم شيعة علي (عليه السلام) فقاتلهم وقاتلوه فهزمهم، وقتلهم قتلا ذريعا، ثم رجع إلي صنعاء فقتل بها مائة شيخ من أبناء فارس، لأن ابني عبيدالله بن العباس كانا مستترين في بيت إمرأة من أبنائهم وذبح بسر ابني عبيدالله بمدية كانت معه، (وكانا طفلين صغيرين وهما: عبدالرحمن وقثم) فلما أراد ذبحهما قيل: وكانا عند رجل من بني كنانة، فقال له الكناني: ولم تقتل هذين ولا ذنب لهما؟ فإن كنت قاتلهما فاقتلني معهما.

قال: أفعل.

فقتله، ثم ذبحهما (!!)، فخرجت نسوة من بني كنانة، فقالت إمرأة: يا هذا قتلت الرجال فعلام تقتل هذين؟ والله ما كانوا يقتلون

في الجاهلية والإسلام!!

والله يا بن أرطأة إن سلطانا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير، والشيخ الكبير، ونزع الرحمة، وعقوق الأرحام لسطان سوء!! فلما سمعت أم الطفلين خبر ذبح ولديها أصابها وله علي ابنيها، فكانت لا تعقل ولا تصغي إلا قول من أعلمها أنهما قد قتلا، ولا تزال تطوف في الموسم تنشد الناس ابنيها بهذه الأبيات:

ها من أحس بابني اللذين هما

كالدرتين تشظي عنهما الصدف

يا من أحس بابني اللذين هما

سمعي وقلبي اليوم مردهف

يا من أحس بابني اللذين هما

مخ العظام فمخي اليوم مختطف

نبئت بسرا وما صدقت ما زعموا

من قولهم، ومن الإفك الذي اقترفوا

أنحي علي ودجي ابني مرهفة

مشحوذة، وكذاك الإفك يقترف

حتي لقيت رجالاً من أرومته

شم الأنوف في قومهم شرف

فالآن ألعن بسراً حق لعنته

هذا لعمر أبي بسر هو السرف

من دل والهة حري مولهة

علي حبيبين ضلا إذ غدي السلف

ولما بلغت هذه الأخبار إلي أميرالمؤمنين (عليه السلام) جزع جزعا شديدا، ودعا علي بسر لعنه الله وقال: اللهم أسلبه دينه، ولا تخرجه من الدنيا حتي تسلبه عقله.

فأصابه ذلك وفقد عقله، وكان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتي بسيف من خشب ويجعل بين يديه زق منفوخ، فلا يزال يضربه حتي يسأم أو يغشي عليه إلي أن مات عليه لعنة الله.

وبلغ عدد القتلي الذين قتلهم بسر في الحجاز واليمن ثلاثين ألفا، سوي الذين أحرقهم بالنار، وعدا الدور التي هدمها.

والخطب الأفظع الذي ارتكبه عميل معاوية بسر بن أرطأة هم أنه لما أغار علي قبيلة همدان، وهم شيعة علي أميرالمؤمنين (عليه السلام): قتل رجالهم وسبي نساءهم، فكن أول مسلمات سبين في الإسلام، ولقد أشار سيدنا أبوذر الغفاري إلي هذه الجناية التي تقشعر منها الجلود جلود أهل الغيرة والحمية والإيمان بقوله: وأما يوم العورة: فإن نساء من المسلمات يسبين، فيكشف عن سوقهن جمع

ساق فأيتهن كانت أعظم ساقا اشتريت علي عظم ساقها، فدعوت الله أن لا يدركني هذا الزمان.

فصدرت هذه الجناية من بسر بن أرطأة.

أنه بعد أن سبي نساء الشيعة من همدان وذهب بهم إلي الشام فأقامهن في السوق، وعرضهن للبيع كما ذكرنا.

ووصلت هذه الأخبار الفجيعة إلي أميرالمؤمنين وهو في الكوفة وكان (عليه السلام) يجلس كل يوم في موضع من المسجد الأعظم يسبح به بعد الغداة إلي طلوع الشمس، فلما طلعت نهض إلي المنبر فضرب بإصبعيه علي راحته وهو يقول: ما هي إلا الكوفة، ما هي إلا الكوفة، أقبضها وأبسطها، إن لم تكوني إلا أنت، تهب أعاصيرك، فقبحك الله، ثم تمثل بقول الشاعر:

لعمر أبيك الخير يا عمرو: إنني

علي وضر من ذا الإناء قليل

ثم قال:

أنبئت بسرا قد اطلع علي اليمن، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم علي باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل وبأدائهم الأمانة إلي صاحبهم وخيانتكم صاحبكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم علي قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته: اللهم: إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم شرا مني، اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء.

أما والله لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم:

هنالك لو دعوت أتاك منهم

فوارس مثل أرمية الحميم

ثم نزل (عليه السلام) من المنبر. الغارة الثالثة ذكر ابن أبي الحديد أنه أرسل معاوية النعمان بن بشير وآباهريرة إلي أميرالمؤمنين عليه الصلاة والسلام يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلي معاوية ليقتص منهم، لعل الحرب أن تطفأ ويصطلح الناس، وإنما أراد معاوية أن يرجع مثل النعمان وأبي هريرة من عند علي (عليه السلام) وهم لمعاوية عاذرون ولعلي لائمون، لأن معاوية كان يعلم أن

عليا لا يدفع قتلة عثمان إليه، فأراد أن يكون هذان يشهدان له عند أهل الشام بذلك، وأن يظهر عذره.

فقال لهما معاوية: ائتيا عليا فانشداه الله وسلاه (اسألاه) بالله لما دفع إلينا قتلة عثمان، فإنه قد آواهم أو منعهم، ثم لا حرب بيننا وبينه، فإن أبي فكونوا شهداء لي عليه وأقبلا علي الناس وأعلماهم ذلك.

فأتيا عليا (عليه السلام) فدخلا عليه فقال أبوهريرة: يا أباالحسن، إن الله قد جعل لك في الإسلام فضلا وشرفا: أنت ابن عم محمد رسول الله وقد بعثنا إليك ابن عمك معاوية يسألك أمرا تسكن به هذه الحرب، ويصلح الله تعالي به ذات البين.

أن تدفع إليه قتلة عثمان ابن عمه فيقتلهم به، ويجمع الله تعالي أمرك وأمره، ويصلح بينكم وتسلم هذه الأمة من الفتنة والفرقة.

ثم تكلم النعمان بنحو من هذا، فقال (عليه السلام): دعا الكلام في هذا، حدثني يا نعمان: أنت أهدي قومك سبيلا؟ (يعني الأنصار) فقال: لا.

قال فكل قومك تبعني إلا شذاذ منهم ثلاثة أو أربعة أفتكون أنت من الشذاذ؟ فقال النعمان: أصلحك الله إنما جئت لأكون معك وألزمك، وقد كان معاوية سألني أن أؤدي هذا الكلام، ورجوت أن يكون لي موقف أجتمع فيه معك، وطمعت أن يجري الله بينكما صلحا، فإذا كان غير هذا رأيك فأنا ملازم وكائن معك.

فأما أبوهريرة فلحق بالشام، وأقام النعمان عند علي (عليه السلام)، فأخبر أبوهريرة معاوية بالخبر فأمره أن يعلم الناس ففعل، وأقام النعمان بعده، ثم خرج فارا من علي (عليه السلام) حتي إذا مر بعين التمر، أخذه مالك بن كعب الأرحبي وكان عامل علي عليها، فأراد حبسه وقال له: ما مر بك هيهنا؟ قال: إنما أنا رسول، بلغت رسالة صاحبي ثم انصرفت.

فحبسه مالك وقال: كما أنت حتي أكتب إلي علي

فيك.

فناشده، وعظم عليه أن يكتب إلي علي فيه، فأرسل النعمان إلي قرطة بن كعب الأنصاري وهو كاتب عين التمر يجبي خراجها لعلي (عليه السلام)، فجاءه مسرعا فقال لمالك: خل سبيل ابن عمي يرحمك الله.

فقال يا قرطة اتق الله ولا تتكلم في هذا فإنه إن كان من عباد الأنصار ونساكهم كيف يهرب من أميرالمؤمنين إلي أمير المنافقين؟.

فلم يزل يقسم عليه حتي خلي سبيله وقال له: يا هذا الأمان اليوم والليلة وغدا، والله لئن أدركتك بعدها لأضربن عنقك.

فخرج مسرعا لا يلوي علي شي ء، وذهبت به راحلته فلم يدر أين تتئكع من الأرض ثلاثة أيام لا يعلم أين هو، ثم قدم إلي معاوية فخبره بما لقي، ولم يزل معه مصاحبا له، يجاهد عليا ويتبع قتلة عثمان حتي غزي الضحاك بن قيس أرض العراق ثم انصرف إلي معاوية، فقال معاوية: أما من رجل أبعث معه بجريدة خيل حتي يغير علي شاطئ الفرات فإن الله يرعب بها أهل العراق؟ فقال له النعمان: فابعثني فإن لي في قتالهم نية وهوي وكان النعمان عثمانيا قال: فانتدب علي اسم الله.

فانتدب وندب معه ألفي رجل وأوصاه أن يتجنب المدن والجماعات، وأن لا يغير إلا علي مسلحة، وأن يعجل الرجوع.

فأقبل النعمان حتي دني من عين التمر، وبها مالك بن كعب الأرحبي الذي جري له ما ذكرناه ومع مالك ألف رجل، وقد أذن لهم، فقد رجعوا إلي الكوفة، فلم يبق معه إلا مائة أو نحوها، فكتب مالك إلي علي (عليه السلام): أما بعد: فإن النعمان بن بشير قد نزل بي في جمع كثيف، فمر رأيك سددك الله تعالي وثبتك والسلام.

فوصل الكتاب إلي علي (عليه السلام)، فصعد المنبر، فحمد الله وأثني عليه ثم قال: أخرجوا هداكم الله إلي مالك بن

كعب أخيكم، فإن النعمان بن بشير قد نزل في جمع من أهل الشام ليس بالكثير فانهضوا إلي إخوانكم لعل الله يقطع بكم من الكافرين طرفا.

ثم نزل، فلم يخرجوا، فأرسل إلي وجوههم وكبرائهم فأمر أن ينهضوا ويحثوا الناس علي المسير فلم يصنعوا شيئا.

واجتمع منهم نفر يسير نحو ثلاثمائة فارس أو دونها فقام (عليه السلام) فقال: (منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، لا أباً لكم ما تنتظرون بنصركم ربكم؟ أما دين يجمعكم؟ ولا حمية تحمشكم؟ أقوم فيكم مستصرخا، وأناديكم متغوثا فلا تسمعون لي قولا، ولا تطيعون لي أمرا، حتي تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يدرك بكم ثأر، ولا يبلغ بكم مرام، دعوتكم إلي نصرة إخوانكم، فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم تثاقل الأدبر، ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب ضعيف كأنما يساقون إلي الموت وهم ينظرون).

علي بقلمه ولسانه

اشاره

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما يحب أن يحمد، وصلي الله علي سيدنا محمد وآله خير البرية.

قال الله تعالي: (بل الإنسان علي نفسه بصيرة). [147].

أيها الإخوان: لقد ذكرنا في الليالي الماضية شيئا من كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) حول نفسه ومواهبه ومزاياه ومواقفه، الليلة: نستمع إلي شي ء من خطبه (عليه السلام) المشتملة علي فضائله وفواضله، وخصائصه، ومكارم أخلاقه، وبعبارة أخري نستمع إلي تاريخ حياته من لسانه، ونقرأ كتابا خاصا كتبه (عليه السلام) إلي عثمان بن حنيف والي البصرة وهو من جلائل كتبه ورسائله ومشاهيرها، وقد رأيت ترجمته بلغات عديدة، ويمتاز هذا الكتاب عن غيره لأنه بقلم رئيس حكومة كان يحكم علي نصف الكرة الأرضية، وحياة الناس ومماتهم بين شفتيه، وكنوز الذهب والفضة تحت يده، ومع ذلك كله ومع تلك الإمكانيات اختار لنفسه أبسط معيشة وأزهد حياة لا يستطيع أي فرد من أفراد

البشر أن يسلك طريقته ويكون مثله، ضع يدك علي من شئت وقارن بين حياته وحياة أميرالمؤمنين فيظهر لك صدق هذا الكلام، وتعرف أن الإمام هو الرجل الوحيد في مواهبه ومزاياه.

نستمع إلي كلامه ونقرأ كتابه بقلمه، فإنه أعرف بنفسه من غيره، ومهما ظهرت نفسيات الإنسان وصفاته واطلع عليها الناس ومع ذلك فإن في حياة الإنسان الداخلية والخارجية أسرارا وسرائرا وخفايا ونوايا لا يطلع عليها أحد إلا الله تعالي والإنسان نفسه، فالإنسان أبصر بنفسه من غيره وإلي هذا أشار القرآن الكريم بقوله تعالي: (بل الإنسان علي نفسه بصيرة). [148].

لم يقصد الإمام (عليه السلام) من بيان هذه الأمور تزكية نفسه بل بيان حقائق عن شخصيته لا يستطيع أحد أن يناقشه فيها أو يكابر.

وهنا نقتطف من خطبه الشي ء اليسير ومن رسائله رسالة واحدة وفيها الكفاية.

الخطبة الشقشقية

أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحي، ينحدر عني السيل ولا يرقي إلي الطير فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر علي طخية عمياء، يهرم منها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها المؤمن حتي يلقي ربه فرأيت أن الصبر علي هاتا أحجي، فصبرت وفي العين قذي، وفي الحلق شجا، أري تراثي نهبا، حتي مضي الأول لسبيله فأدلي بها إلي ابن الخطاب بعده (ثم تمثل بقول الأعشي):

شتان ما يومي علي كورها

ويوم حيان أخي جابر

فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها، فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها [149] ويخشن مسها.

ويكثر العثار فيها.

والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم.

وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلون واعتراض، فصبرت علي

طول المدة وشدة المحنة، حتي إذا مضي لسبيله، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم فيا لله وللشوري! متي اعترض الريب في مع الأول منهم حتي صرت أقرن إلي هذه النظائر لكني أسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا.

فصغي رجل منهم لضغنه ومال الآخر لصهره، مع هنٍ وهنٍ، إلي أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة [150] الإبل نبتة الربيع، إلي أن انتكث فتله.

وأجهز عليه عمله وكبت به بطنته، فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي ينثالون علي من كل جانب.

حتي لقد وطئ الحسنان.

وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخري، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). [151].

بلي والله لقد سمعوها ووعوها.

ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها.

أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر.

وما أخذ الله علي العلماء أن لا يقارّوا علي كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها علي غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها.

ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز …

(قالوا) وقام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلي هذا الموضع من خطبته فناوله كتابا فأقبل ينظر فيه قال له ابن عباس رضي الله عنه: يا أميرالمؤمنين لو أطردت خطبتك من حيث أفضيت.

فقال: هيهات يا ابن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرت!!

قال ابن عباس: فوالله ما أسفت علي كلام قط كأسفي علي هذا الكلام أن لا يكون أميرالمؤمنين (عليه السلام) بلغ منه حيث أراد.

قوله: (كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم)، يريد أنه إذا شدد عليها في

جذب الزمام وهي تنازعه رأسها خرم أنفها وإن أرخي عليها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها، يقال: أشنق الناقة إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه وشنقها أيضا، ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح المنطق.

خطب أخري له

ومن كلام (عليه السلام)

ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد (صلّي الله عليه وآله) أني لم أردّ علي الله ولا علي رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام، نجدة أكرمني الله بها.

ولقد قبض رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وإن رأسه علي صدري، ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها علي وجهي.

ولقد ولّيت غسله (صلّي الله عليه وآله) والملائكة أعواني، فضجت الدار، والأفنية ملأٌ يهبط وملأٌ يعرج، وما فارقت سمعي هينمة منهم (الهينمة: الصوت الخفي) يصلون عليه حتي واريناه في ضريحه.

فما أحق به مني حياً وميتاً؟ فأنفذوا بصائركم، ولتصدق نياتكم في جهاد عدوكم.

فوالذي لا إله إلا هو إني لعلي جادة الحق وإنهم لعلي مزلة الباطل أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

ومن كلام له (عليه السلام)

والله لأن أبيت علي حسك السعدان مسهّداً، وأُجرّ في الأغلال مصفداً، أحب إلي من أن ألقي الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشي ءٍ من الحطام.

وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلي البلي قفولها، ويطول في الثري حلولها، والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق حتي استماحني من بُرّكم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكداً وكرر علي القول مردّداً، فأصغيت إليه سمعي، فظن أني أبيعه ديني، وأتبع قياده مفارقاً طريقي فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها فضج ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها.

فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل أتئن

من حديدة أحماها إنسانها للعبه؟ وتجرني إلي نار سجرها جبارها لغضبه؟ أتئن من الأذي؟ ولا أئن من لظي؟ وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها، ومعجونة شنئتها، كأنما عُجنت بريق حية أو قيئها، فقلت: أصلة أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت.

فقال: لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية.

فقلت: هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبط أنت؟ أم ذو جنة أم تهجر؟ والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت افلاكها علي أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها! ما لعلي ولنعيم يفني ولذة لا تبقي؟ نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين.

ومن خطبة له (عليه السلام)

أما بعد أيها الناس.

فأنا فقأت عين الفتنة، ولم تكن ليجرأ عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها، وأشتد كلبها، فاسألوني قبل أن تفقدوني فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شي ء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً، ويموت منهم موتاً، ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الأمور وحوازب الخطوب لأطرق كثير من السائلين وفشل كثيراً من المسؤولين. ومن خطبه له (عليه السلام) أيها الناس إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم.

وأدّيت إليكم ما أدت الأوصياء إلي من بعدهم.

وأدبتكم بسوطي فلم تستقيموا.

وحدوتكم بالزواجر فلم تستوثقوا.

لله أنتم! أتتوقعون إماماً غيري يطأ بكم في الطريق، ويرشدكم السبيل؟

ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلاً، وأقبل منها ما كان مدبراً وأزمع الترحال عباد الله الأخيار، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقي، بكثير من الآخرة لا يفني.

ما

ضر إخواننا الذين سفكت دماؤهم بصفين أن لا يكونوا اليوم أحياء؟ يسيغون الغصص ويشربون الرنق.

قد والله لقوا الله فوفاهم أجورهم، وأحلهم دار الأمن، بعد خوفهم؟ أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا علي الحق؟ أين عمار؟ وأين أبن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا علي المنية، وأبرد برؤوسهم إلي الفجرة؟ (قال ثم ضرب بيده علي لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء).

ثم قال (عليه السلام): أوه علي إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبروا الفرض فأقاموه أحيوا السنة وأماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فأتبعوه (ثم نادي بأعلي صوته:) الجهاد …

الجهاد عباد الله.

ألا وإني معسكر في يومي هذا فمن أراد الرواح إلي الله فليخرج.

ومن كلام له (عليه السلام)

لم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحداً، إني أريدكم لله وأنتم تريدوني لأنفسكم، أيها الناس، أعينوني علي أنفسكم، وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم بخزامته، حتي أورده منهل الحق وإن كان كارهاً. ومن كتاب له (عليه السلام) إلي عثمان بن حنيف الأنصاري وهو عامله علي البصرة وقد بلغه أنه دعي إلي وليمة قوم من أهلها فمضي إليها: أما بعد يا بن حنيف فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلي مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلي طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو، فانظر إلي ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.

ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضي ء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفي من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه ألا: وإنكم لا تقدرون علي ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد.

فوالله ما كنزت من دنياكم

تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبيّ طمراَ.

بلي كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين.

ونعم الحكم الله وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غد جدث تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر، وسدّ فدجها التراب المتراكم؟، وإنما هي نفسي أروضها بالتقوي لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت علي جوانب المزلق.

ولو شئت لاهتديت الطريق إلي مصفي هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلي تخير الأطعمة.

ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع.

أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثي وأكباد حري؟ أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنة

وحولك أكباد تحن إلي القد

أأقنع من نفسي بان يقال أميرالمؤمنين؟ ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش.

فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همُّها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها، تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها.

أو أترك سدي أو أهمل عابثاً، أو أجر حبل الضلالة، أو أعتسف طريق المتاهة.

وكأني بقائلكم يقول: إذا كان (هذا) قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان.

ألا: وإن الشجرة البرية أصلب عوداً، والروائع الخضرة أرق جلوداً والنباتات البدوية أقوي وقوداً وأبطأ خموداً، وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو والذراع من العضد.

والله لو تظاهرت العرب علي قتالي لما وليت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها، وسأجهد في أن اطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس حتي تخرج المدرة من بين حب الحصيد.

إليك

عني يا دنيا فحبلك علي غاربك، قد انسللت من مخالبك، وأفلت من حبائلك، واجتنيت الذهاب في مداحضك.

أين القرون الذين غررتهم بمداعبك؟ أين الأمم الذين فتنتهم بزخارفك؟ها هم رهائن القبور ومضامين اللحود.

والله لو كنت شخصاً مرئياً وقالباً حسياً لأقمت عليك حدود الله في عباد غررتهم بالأماني وأمم ألقيتهم في المهاوي، وملوك أسلمتهم إلي التلف وأوردتهم موارد البلاء إذ لا ورد ولا صدر.

هيهات من وطئ دحضك زلق، ومن ركب لججك غرق، ومن ازورّ حبائلك وُفّق.

والسالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه والدنيا عنده كيوم حان انسلاخه عني.

فو الله لا أذل لك فتستذلني، ولا أسلس لك فتقوديني.

وأيم الله يميناً أستثني فيها بمشيئة الله لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلي القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها مستفرغة دموعها.

أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض ويأكل علي من زاده فيهجع؟ قرت إذاً عينه! إذا اقتدي بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسائمة المرعية.

طوبي لنفس أدت إلي ربها فرضها! وعركت بجنبها بؤسها.

وهجرت في الليل غمضها حتي إذا غلب الكري عليها افترشت أرضها وتوسدت كفها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم.

وهمهمت بذكر ربهم شفاههم وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) [152] فاتق الله يا ابن حنيف ولتكفك أقراصك ليكون من النار خلاصك.

في كتاب الأنوار النعمانيه عن كتاب المناقب مسنداً إلي صعصعة بن صوحان: أنه دخل علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) لما ضرب فقال: يا أميرالمؤمنين أنت أفضل أم آدم أبوالبشر؟ قال علي (عليه السلام) تزكية المرء نفسه قبيح.

لكن قال الله تعالي لآدم: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا

تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)، [153] وأنا أكثر الأشياء أباحها لي وتركتها وما قاربتها.

ثم قال: أنت أفضل يا أميرالمؤمنين أم نوح؟ قال علي: إن نوحاً دعا علي قومه، وأنا ما دعوت علي ظالمي حقي، وابن نوح كان كافراً، وابناي سيد شباب أهل الجنة.

وقال: أنت أفضل أم موسي؟ قال (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالي أرسل موسي إلي فرعون فقال: (إني أخاف أن يقتلون) حتي قال الله تعالي: (لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون) [154] قال: (رب إني قتلت منهم نفساً وأخاف أن يقتلون) [155] وأنا ما خفت حين أرسلني رسول الله بتبليغ سورة البراءة أن أقرأها علي قريش في الموسم مع إني كنت قتلت كثيراً من صناديدهم، فذهبت بها وقرأتها عليهم وما خفتهم.

ثم قال: أنت أفضل أم عيسي بن مريم؟ قال علي: عيسي كانت أمه في بيت المقدس فلما جاء وقت ولادتها سمعت قائلاً يقول: أخرجي، هذا بيت العبادة لا بيت الولادة، وأنا أمي فاطمة بنت أسد لما قرب وضع حملها كانت في الحرم فانشق حائط الكعبة وسمعت قائلاً يقول: أدخلي فدخلت في وسط البيت، وأنا ولدت فيه، وليس لأحد هذه الفضيلة، لا قبلي ولا بعدي.

علي ينعي نفسه

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمد الشاكرين علي المصيبة وصلي الله علي محمد وآله المظلومين.

قال الله تعالي: (من المؤمنين رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا). [156].

نبدأ حديثنا من هذه الليلة حول شهادة الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام)، فلقد سبق أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أخبر علياً بأنه يفوز بالشهادة في سبيل الله، ففي يوم أحد تأسف الإمام أميرالمؤمنين علي حرمانه الشهادة في ذلك اليوم فقال له النبي: إنها من ورائك.

ويوم الخندق

لما ضربه عمرو بن عبدود علي رأسه كانت الدماء تسيل علي وجهه الشريف فقام رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يشد جرحه ويقول له: أين أنا يوم ضربك أشقي الآخرين علي رأسك ويخضب لحيتك من دم رأسك؟؟

وخطب رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في آخر جمعة من شهر شعبان وذكر ما يتعلق بشهر رمضان، فقام علي (عليه السلام) وقال: ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أباالحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عز وجل، ثم بكي النبي فقال (عليه السلام): ما يبكيك؟ فقال: يا علي أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر! كأني بك وأنت تصلي لربك وقد انبعث أشقي الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة علي قرنك فخضب منها لحيتك، قال الإمام: وذلك في سلامة من ديني؟ فقال: في سلامة من دينك … الخ.

وكان الإمام (عليه السلام) كثيراً ما يخبر الناس بشهادته واختضاب لحيته الكريمة بدم رأسه، وحينما أتاه عبدالرحمن بن ملجم ليبايعه نظر علي في وجه طويلاً، ثم قال: أرأيتك إن سألتك عن شي ء وعندك منه علم هل أنت مخبر عنه؟ قال: نعم، وحلفه عليه فقال: أكنت تواضع الغلمان وتقوم عليهم وكنت إذا جئت فرأوك من بعيد قالوا: قد جاءنا ابن راعية الكلاب؟؟ فقال: اللهم نعم.

فقال له: مررت برجل وقد أيفعت (صرت يافعاً) فنظر إليك نظراً حاداً فقال: أشقي من عاقر ناقة ثمود؟ قال: نعم قال: قد أخبرتك أمك أنها حملت بك في بعض حيضها؟ فتعتع هنيئة ثم قال: نعم.

فقال الإمام: قم فقام، قال (عليه السلام): سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: (قاتلك شبه اليهودي بل هو اليهودي).

وقد تكرر منه (عليه السلام) أن رأي ابن ملجم فقال: أريد حياته ويريد قتلي، وفي تلك السنة

الأخيرة من حياته والشهر الأخير من حياته كان يخبر الناس بشهادته فيقول: ألا وإنكم حاجوا العام صفاً واحداً، وآية (علامة) ذلك أني لست فيكم.

فعلم الناس أنه ينعي نفسه، ولم يكتفِ (عليه السلام) بذلك بل كان يدعو علي نفسه ويسأل من الله تعالي تعجيل الوفاة، وتارة كان يكشف عن رأسه وينشر المصحف علي رأسه ويرفع يديه للدعاء قائلاً: اللهم إني قد سئمتهم وسئموني ومللتهم وملوني، أما أن تخضب هذه من هذا ويشير إلي هامته ولحيته.

وقبل الواقعة أخبر (عليه السلام) أبنته أم كلثوم بأنه رأي رسول الله (صلي الله عليه وآله) وهو يمسح الغبار عن وجهه ويقول: يا علي لا عليك، قضيت ما عليك.

وكان الإمام قد بلغ من العمر ثلاثاً وستين سنة، وفي شهر رمضان من تلك السنة كان الإمام يفطر ليلة عند ولده الحسن وليلة عند ولده الحسين وليلة عند ابنته زينب الكبري زوجة عبدالله بن جعفر وليلة عند أبنته زينب الصغري المكناة بأم كلثوم.

وفي الليلة التاسعة عشر كان الإمام (عليه السلام) في دار ابنته أم كلثوم فقدمت له فطوره في طبق فيه: قرصان من خبز الشعير، وقصعة فيها لبن حامض، فأمر الإمام ابنته أن ترفع اللبن، وأفطر بالخبز والملح، ولم يشرب من اللبن شيئاً لأن في الملح كفاية، وأكل قرصاً واحداً، ثم حمد الله وأثني عليه، و قام إلي الصلاة، ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرعاً إلي الله تعالي، وكان يكثر الدخول والخروج وينظر إلي السماء ويقول: هي، هي والله الليلة التي وعدنيها حبيبي رسول الله.

ثم رقد هنيئة وانتبه مرعوباً وجعل يمسح وجهه بثوبه، ونهض قائماً علي قدميه وهو يقول: اللهم بارك لنا في لقائك.

ويكثر من قول (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ثم صلي حتي ذهب بعض الليل، ثم جلس

للتعقيب، ثم نامت عيناه وهو جالس، ثم انتبه من نومته مرعوباً، وقالت أم كلثوم: قال لأولاده: إني رأيت في هذه الليلة رؤيا هالتني وأريد أن أقصها عليكم قالوا: وما هي؟ قال: إني رأيت الساعة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في منامي وهو يقول لي: يا أباالحسن إنك قادم إلينا عن قريب، يجي ء إليك أشقاها فيخضب شيبتك من دم رأسك، وأنا والله مشتاق إليك، وإنك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان، فهلم إلينا فما عندنا خير لك وأبقي.

قال: فلما سمعوا كلامه ضجوا بالبكاء والنحيب وأبدوا العويل، فأقسم عليهم بالسكوت فسكتوا، ثم أقبل عليهم يوصيهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر قالت أم كلثوم: لم يزل أبي تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً ثم يخرج ساعة بعد ساعة يقلب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول: والله ما كذبت ولا كذبت، وإنها الليلة التي وعدت بها، ثم يعود إلي مصلاه ويقول: اللهم بارك لي في الموت.

ويكثر من قول: (أنا لله وأنا إليه راجعون) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ويصلي علي النبي (صلّي الله عليه وآله) ويستغفر الله كثيراً قالت أم كلثوم فلما رأيته في تلك الليلة قلقاً متململاً كثير الذكر والاستغفار أرقت معه ليلتي وقلت: يا أبتاه ما لي أراك هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد؟ قال: يا بنية إن أباك قتل الأبطال وخاض الأهوال وما دخل الخوف له جوفاً، وما دخل في قلبي رعب أكثر مما دخل في هذه الليلة ثم قال: (أنا لله وأنا إليه راجعون).

فقلت يا أبا ما لك تنعي نفسك منذ الليلة؟ قال: بنية قد قرب الأجل وانقطع الأمل قالت أم كلثوم: فبكيت فقال لي يا بنية لا تبكي فإني لم أقل ذلك

إلا بما عهد إلي النبي (صلّي الله عليه وآله) ثم إنه نعس وطوي ساعة ثم استيقظ من نومه، وقال: يا بنية إذا قرب الأذان فأعلميني.

ثم رجع إلي ما كان عليه أول الليل من الصلاة والدعاء والتضرع إلي الله سبحانه وتعالي قالت أم كلثوم: فجعلت أرقب الأذان فلما لاح الوقت أتيته ومعي إناء فيه ماء، ثم أيقظته فأسبغ الوضوء، وقام ولبس ثيابه وفتح بابه ثم نزل إلي الدار وكان في الدار إوز قد أهدي إلي أخي الحسين (عليه السلام) فلما نزل خرجن وراءه ورفرفن، وصحن في وجهه.

وكان قبل تلك الليلة لم يصحن فقال (عليه السلام): لا إله إلا الله، صوائح تتبعها نوائح، وفي غداة غد يظهر القضاء.

فقلت: يا أبتاه هكذا تتطير؟ فقال: بنية ما منا أهل البيت من يتطير ولا يتطير به.

ولكن قول جري علي لساني ثم قال: يا بنية بحقي عليك إلا ما أطلقتيه، وقد حبست ما ليس له لسان، ولا يقدر علي الكلام إذا جاع أو عطش فأطعميه واسقيه وإلا خلي سبيله يأكل من حشائش الأرض.

فلما وصل إلي الباب فعالجه ليفتحه فتعلق الباب بمئزره فانحل مئزره حتي سقط فأخذه وشده وهو يقول:

أشدد حيازيمك للموت

فإن الموت لاقيكا

ولا تجزع من الموت

إذا حل بناديكا

كما أضحك الدهر

كذاك الدهر يبكيكا

ثم قال: اللهم بارك لنا في الموت اللهم بارك لنا في لقائك قالت أم كلثوم: وكنت أمشي خلفه فلما سمعته يقول ذلك قلت: واغوثاه يا أبتاه أراك تنعي نفسك منذ الليلة قال: يا بنية ما هو بنعاء ولكنها دلالات وعلامات للموت يتبع بعضها بعضاً، فامسكي عن الجواب، ثم فتح الباب وخرج قالت أم كلثوم: فجئت إلي أخي الحسن (عليه السلام) فقلت: يا أخي قد كان من أمر أبيك الليلة كذا وكذا وهو قد خرج في هذا

الليل الغلس فالحقه فقام الحسن بن علي (عليه السلام) وتبعه فلحق به قبل أن يدخل الجامع فأمره الإمام بالرجوع فرجع.

وأما عدو الله: عبدالرحمن بن ملجم فكان علي رأي الخوارج وكانت بينه وبين قطام حب وغرام، وقطام قد قتل أبوها وأخوها وزوجها في النهروان، وقد امتلأ قلبها غيظاً وعداءً لأميرالمؤمنين وأراد ابن ملجم أن يتزوجها فاشترطت عليه أن يقتل أميرالمؤمنين (عليه السلام) فاستعظم هذا الأمر وطلبت منه ثلاثة آلاف دينار وعبداً وقينة (جارية) وينسب إليه هذه الأبيات:

فلم أر مهراً ساقه ذو سماحة

كمهر قطام من فصيح وأعجم

ثلاثة آلاف وعبد وقينة

وضرب علي بالحسام المصمم

وقيل إنه تعاهد هو ورجلين علي قتل معاوية وعمرو بن العاص واختار الثالث قتل معاوية، فقصد البرك بن عبدالله التميمي مصر ليقتل ابن العاص، ولم يخرج ابن العاص تلك الصبيحة فأرسل رجلاً يقال له: خارجة بن تميم، فلما وقف في المحراب صربه البرك ظناً منه أنه ابن العاص فمات خارجة من تلك الضربة.

وأما الآخر ويقال له: العنبري فإنه قصد الشام يقصد قتل معاوية وتعرف بمعاوية وجعل يدخل عليه ويلاطف له في الكلام وينشده الأشعار حتي صارت صبيحة يوم التاسع عشر من شهر رمضان وجاء معاوية للصلاة وثار إليه العنبري ورفع السيف ليضرب عنقه فأخطأ الضربة فوقع السيف علي إلية معاوية، ولم يقتل من ضربته بل جرح جرحاً برء بالمعالجة.

وأما عبدالرحمن بن ملجم فقد جاء تلك الليلة وبات في المسجد ينتظر طلوع الفجر ومجي ء الإمام للصلاة وهو يفكر حول الجريمة العظمي التي قصد ارتكابها ومعه رجلان: شبيب بن بحرة ووردان بن مجالد يساعدانه علي قتل الإمام.

وسار الإمام إلي المسجد فصلي في المسجد، ثم صعد المأذنة ووضع سبابته في أذنيه وتنحنح، ثم أذن، فلم يبق في الكوفة بيت إلا اخترقه صوته، ثم نزل

عن المأذنة وهو يسبح الله ويقدسه ويكبره، ويكثر من الصلاة علي النبي (صلّي الله عليه وآله)، وكان يتفقد النائمين في المسجد ويقول للنائم: الصلاة، يرحمك الله، قم إلي الصلاة المكتوبة ثم يتلو: (إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر).

لم يزل الإمام يفعل ذلك حتي وصل إلي ابن ملجم وهو نائم علي وجهه وقد أخفي سيفه تحت إزاره فقال له الإمام: يا هذا قم من نومك هذا فإنها نومة يمقتها الله، وهي نومة الشيطان، ونومة أهل النار بل نم علي يمينك فإنها نومة العلماء، أو علي يسارك فإنها نومة الحكماء، أو نم علي ظهرك فإنها نومة الأنبياء.

نعم، الشمس تشرق علي البر والفاجر والكلب والخنزير وكل رجس وقذر، والإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) يفيض من علومه علي الأخيار والأشرار وينصح السعداء والأشقياء ولا يبخل عن الخير حتي لأشقي الأشقياء، ويرشد كل أحد حتي قاتله!! ثم قال له الإمام: لقد هممت بشي ء تكاد السماوات أن يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك ثم تركه، واتجه إلي المحراب، وقام قائماً يصلي، وكان (عليه السلام) يطيل الركوع والسجود في صلاته، فقام المجرم الشقي لإنجاز أكبر جريمة في تاريخ الكون!! وأقبل مسرعاً يمشي حتي وقف بازاء الاسطوانة التي كان الإمام يصلي عليها، فأمهله حتي صلي الركعة الأولي وسجد السجدة الأولي ورفع رأسه منها فتقدم اللعين وأخذ السيف وهزه ثم ضربه علي رأسه الشريف فوقعت الضربة علي مكان الضربة التي ضربه عمر بن عبدود العامري.

فوقع الإمام علي وجهه قائلاً: بسم الله وعلي ملة رسول الله ثم صاح الإمام: قتلني ابن ملجم قتلني ابن اليهودية، أيها الناس لا يفوتكم ابن ملجم.

أخبر الإمام عن قاتله كيلا يشتبه الناس بغيره فيقتلون البري ء، كما قتل في حادثة قتل عمر

بن الخطاب جماعة من الأبرياء المساكين الذين هجم عليهم عبيدالله بن عمر وقتلهم.

حتي في تلك اللحظة يحافظ الإمام علي النظام وعلي حياة الناس، نبع الدم العبيط من هامة الإمام وسال علي وجهه المنير، وخضب لحيته الكريمة وصدق كلام الرسول ووقع ما أخبر به، لم يفقد الإمام وعيه وما انهارت أعصابه بالرغم من وصول الضربة إلي جبهته وبين حاجبيه، فجعل يشد الضربة بمئزره ويضع عليها التراب، ولم يمهله الدم فقد سال علي صدره وأزياقه، وعوضاً من التأوه والتألم والتوجع كان يقول (صلوات الله عليه): فزت ورب الكعبة! هذا ما وعد الله ورسوله! وصدق الله ورسوله! استولت الدهشة والذهول علي الناس، وخاصة علي المصلين في المسجد، وفي تلك اللحظة هتف جبرائيل بذلك الهتاف السماوي.

لم نسمع في تاريخ الأنبياء أن جبرائيل هتف يوم وفاة نبي من الأنبياء أو وصي من الأوصياء، ولكنه هتف ذلك الهتاف لما وصل السيف إلي هامة الإمام وهو بعد حي، هتف بشهادته كما هتف يوم أحد بفتوته وشهامته يوم قال: لا فتي إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار.

فاصطفت أبواب الجامع وضجت الملائكة في السماء بالدعاء وهبت ريح عاصف سوداء مظلمة ونادي جبرائيل بين السماء والأرض بصوت يسمعه كل مستيقظ: تهدمت والله أركان الهدي وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقي وانفصمت والله العروة الوثقي قتل ابن عم محمد المصطفي (صلّي الله عليه وآله) قتل الوصي المجتبي قتل علي المرتضي، قتل والله سيد الأوصياء، قتله أشقي الأشقياء.

فلما سمعت أم كلثوم نعي جبرائيل لطمت علي وجهها، وخدها وشقت جيبها وصاحت: واأبتاه واعلياه وامحمداه واسيداه.

وخرج الحسن والحسين فإذا الناس ينوحون وينادون: واإماماه واأمير المؤمنيناه، قتل والله إمام عابد مجاهد لم يسجد لصنم قط وكان أشبه الناس برسول الله.

فلما سمع

الحسن والحسين (عليهماالسلام) صرخات الناس ناديا: واأبتاه واعلياه ليت الموت أعدمنا الحياة، فلما وصلا إلي الجامع ودخلا وجدا أباجعدة بن هبيرة ومعه جماعة من الناس وهم يجتهدون أن يقيموا الإمام في المحراب ليصلي بالناس.

فلم يطق علي النهوض، وتأخر عن الصف وتقدم الحسن (عليه السلام) فصلي بالناس، وأميرالمؤمنين (عليه السلام) صلي إيماء من جلوس وهو يمسح الدم عن وجهه وكريمته يميل تارة ويسكن أخري والحسن (عليه السلام) ينادي: واانقطاع ظهراه! يعز والله علي أن أراك هكذا ففتح الإمام (عليه السلام) عينه.

وقال: يا بني لا جزع علي أبيك بعد اليوم! هذا جدك محمد المصطفي وجدتك خديجة الكبري وأمك فاطمة الزهراء والحور العين محدقون فينتظرون قدوم أبيك، فطب نفساً وقر عيناً وكف عن البكاء، فإن الملائكة قد ارتفعت أصواتهم إلي السماء.

ثم إن الخبر شاع في جوانب الكوفة وانحشر الناس حتي المخدرات خرجن من خدرهن إلي الجامع ينظرون إلي الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فدخل الناس الجامع فوجدوا الحسن (عليه السلام) ورأس أبيه في حجره وقد غسل الدم عنه، وشد الضربة وهي بعدها تشخب دماً ووجهه قد زاد بياضاً بصفرة وهو يرمق السماء بطرفه، ولسانه يسبح الله ويوحده، وهو يقول أسألك يا رب الرفيع الأعلي.

فأخذ الحسن (عليه السلام) رأسه في حجره فوجده مغشياً عليه فعندها بكي بكاء شديداً وجعل يقبل وجه أبيه وما بين عينيه وموضع سجوده فسقط من دموعه قطرات علي وجه أميرالمؤمنين (عليه السلام) ففتح عينيه فرآه باكياً.

فقال له الإمام (عليه السلام): يا بني يا حسن ما هذا البكاء؟ يا بني لا روع علي أبيك بعد اليوم! يا بني أتجزع علي أبيك وغداً تقتل بعدي مسموماً مظلوماً؟ ويقتل أخوك بالسيف هكذا؟ وتلحقان بجدكما وأبيكما وأمكما؟ فقال له الحسن (عليه السلام): يا أبتاه ما تعرفنا من قتلك؟

ومن فعل بك هذا؟ قال (عليه السلام): قتلني ابن اليهودية: عبدالرحمن بن ملجم المرادي فقال: يا أباه من أي طريق مضي؟ قا لا يمضي أحد في طلبه فإنه سيطلع عليكم من هذا الباب.

وأشار بيده الشريفة إلي باب كنده.

ولم يزل السم يسري في رأسه وبدنه ثم أغمي عليه ساعة والناس ينتظرون قدوم الملعون من باب كنده، فاشتغل الناس بالنظر إلي الباب ويرتقبون قدوم الملعون وقد غص المسجد بالعالم ما بين باكٍ ومحزون فما كان إلا ساعة وإذا بالصيحة قد ارتفعت، من الناس وقد جاءوا بعدو الله ابن ملجم مكتوفاً هذا يلعنه وهذا يضربه.

فوقع الناس بعضهم علي بعض ينظرون إليه فأقبلوا باللعين مكتوفاً وهم ينهشون لحمه بأسنانهم، ويقولون له: يا عدو الله ما فعلت؟ أهلكت أمة محمد (صلّي الله عليه وآله) وقتلت خير الناس.

وإنه لصامت وبين يديه رجل يقال له حذيفة النخعي بيده سيف مشهور وهو يرد الناس عن قتله وهو يقول هذا قاتل الإمام علي (عليه السلام) حتي أدخلوه إلي المسجد.

وكانت عيناه قد طارتا في أم رأسه كأنهما قطعتا علق وقد وقعت في وحهه ضربة قد هشمت وجهه وأنفه والدم يسيل علي لحيته وعلي صدره، وهو ينظر يميناً وشمالاً وعيناه قد طارتا في أم رأسه وهو أسمر اللون وكان علي رأسه شعر أسود منشوراً علي وجهه كأنه الشيطان الرجيم.

فلما جاءوا به أوقفوه بين يدي أميرالمؤمنين (عليه السلام) فلما نظر إليه الحسن (عليه السلام): قال له: يا ويلك يا لعين! يا عدو الله! أنت قاتل أميرالمؤمنين ومثكلنا بإمام المسلمين؟ هذا جزاؤه منك حيث آواك وقربك وأدناك وآثرك علي غيرك؟ وهل كان بئس الإمام لك حتي جازيته هذا الجزاء يا شقي؟؟ فلم يتكلم بل دمعت عيناه.

فقال له الملعون: يا أبامحمد أفأنت تنقذ من في

النار؟ فعند ذاك ضج الناس بالبكاء والنحيب.

فأمر الحسن (عليه السلام) بالسكوت ثم التفت الحسن (عليه السلام) إلي الذي جاء به حذيفة فقال له: كيف ظفرت بعدو الله وأين لقيته؟ فقال: يا مولاي كنت نائماً في داري إذ سمعت زوجتي الزعقة، وناعياً ينعي أميرالمؤمنين (عليه السلام) وهو يقول: تهدمت والله أركان الهدي وانطمست والله أعلام التقي قتل ابن عم محمد المصطفي قتل علي المرتضي قتله أشقي الأشقياء.

فأيقظتني وقالت لي: أنت نائم؟ وقد قتل إمامك علي بن أبي طالب.

فانتبهت من كلامها فزعاً مرعوباً وقلت لها: يا ويلك ما هذا الكلام؟ رض الله فاك! لعل الشيطان قد ألقي في سمعك هذا أن أميرالمؤمنين ليس لأحد من خلق الله تعالي قبله تبعه ولا ظلامة، فمن ذا الذي يقدر علي قتل أميرالمؤمنين؟ وهو الأسد الضرغام والبطل الهمام والفارس القمقام فأكثرت علي وقالت: إني سمعت ما لم تسمع وعلمت ما لم تعلم، فقلت لها: وما سمعت فأخبرتي بالصوت.

ثم قالت: ما أظن أن بيتاً في الكوفة إلا وقد دخله هذا الصوت.

قال: وبينما أنا وهي في مراجعة الكلام وإذا بصيحة عظيمة وجلبة وقائل يقول: قتل أميرالمؤمنين (عليه السلام) فحس قلبي بالشر فمددت يدي إلي سيفي وسللته من غمده، وأخذته ونزلت مسرعاً، وفتحت باب داري وخرجت، فلما صرت في وسط الجادة نظرت يميناً وشمالاً فإذا بعدو الله يجول فيها، يطلب مهرباً فلم يجد، وإذا قد انسدت الطرقات في وجهه، فلما نظرت إليه وهو كذلك رابني أمره فناديته: من أنت وما تريد؟ لا أم لك! في وسط هذا الدرب؟ فتسمي بغير اسمه، وانتمي إلي غير كنيته فقلت له: من أين أقبلت؟ قال: من منزلي قلت: وإلي أين تريد لأن تمضي في هذا الوقت؟ قال إلي الحيرة، فقلت: ولم لا تقعد

حتي تصلي مع أميرالمؤمنين (عليه السلام) صلاة الغدة وتمضي في حاجتك؟ فقال: أخشي أن أقعد للصلاة فتفوتني حاجتي.

فقلت: يا ويلك إني سمعت صيحة وقائلاً يقول قتل أميرالمؤمنين (عليه السلام) فهل عندك من ذلك خبر؟ قال: لا علم لي بذلك.

فقلت له: ولم لا تمضي معي حتي تحقق الخبر وتمضي في حاجتك؟ فقال: أنا ماض في حاجتي وهي أهم من ذلك.

فلما قال لي مثل ذلك القول قلت: يا لكع الرجال حاجتك أحب إليك من الجسس لأمير المؤمنين وإمام المسلمين؟ وإذا والله يا لكع ما لك عند الله من خلاق.

وحملت عليه بسيفي وهممت أن أعلو به، فراغ عني فبينما أنا أخاطبه وهو يخاطبني إذ هبت ريح فكشفت إزاره وإذا بسيفه يلمع تحت الإزار وكأنه مرآة مصقولة.

فلما رأيت بريقه تحت ثيابه قلت: يا ويلك ما هذا السيف المشهور تحت ثيابك؟ لعلك أنت قاتل أميرالمؤمنين فأراد أن يقول: لا.

فأنطق الله لسانه بالحق فقال: نعم، فرفعت سيفي وضربته فرفع هو سيفه وهم أن يعلوني به فانحرفت عنه فضربته علي ساقيه فأوقعته ووقع لجينه ووقعت عليه وصرخت صرخة شديدة وأردت أخذ سيفه فمانعني عنه، فخرج أهل الحيرة فأعانوني عليه حتي أوثقته وجئتك به، فهو بين يديك جعلني الله فداك فاصنع به ما شئت.

فقال الحسن (عليه السلام): الحمد لله الذي نصر وليه وخذل عدوه ثم انكب الحسن (عليه السلام) علي أبيه يقبله وقال: يا أباه هذا عدو الله وعدوك قد أمكن الله منه.

ففتح عينيه (عليه السلام) وهو يقول: أرفقوا بي يا ملائكة ربي.

فقال له الحسن (عليه السلام): هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك.

ففتح أميرالمؤمنين (عليه السلام) عينيه ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه.

فقال له بضعف وانكسار صوت ورأفة ورحمة: يا هذا

لقد جئت عظيماً، وارتكبت أمراً عظيماً، وخطباً جسيماً، أبئس الإمام كنت لك حتي جازيتني بهذا الجزاء؟ ألم أكن شفيقاً عليك وآثرتك علي غيرك وأحسنت إليك وزدت في عطائك؟ ألم أكن يقال لي فيك كذا وكذا، فخليت لك السبيل ومنحتك عطائي؟ وقد كنت أعلم أنك قاتلي لا محالة ولكن رجوت بذلك الاستظهار من الله تعالي عليك يا لكع فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء؟ فدمعت عينا ابن ملجم وقال يا أميرالمؤمنين: أفأنت تنقذ من في النار.

قال له: صدقت ثم التفت (عليه السلام) إلي ولده الحسن (عليه السلام) وقال له: إرفق يا ولدي بأسيرك.

وارحمه وأحسن إليه واشفق عليه، ألا تري إلي عينيه قد طارتا في أم رأسه وقلبه يرجف خوفاً وفزعاً؟؟ فقال له الحسن (عليه السلام) يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به؟ فقال: نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد علي الذنب إلينا إلا كرماً وعفواً! والرحمة والشفقة من شيمتنا! بحقي عليك فاطعمه يا بني مما تأكله! واسقه مما تشرب! ولا تقيد له قدماً ولا تغل له يداً! فإن أنتا مت فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة ولا تحرقه بالنار ولا تمثل بالرجل فإني سمعت جدك رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور، وإن أنا عشت فأنا أولي به بالعفو عنه وأنا أعلم بما أفعل به.

ولقد أحسن وأجاد المرحوم السيد جعفر الحلي (ره):

لبس الإسلام أبراد السواد

يوم أردي المرتضي سيف المرادي

ليلة ما أصبحت إلا وقد

غلب الغي علي أمر الرشاد

والصلاح انخفضت أعلامه

وغدت ترفع أعلام الفساد

ما رعي الغادر شهر الله في

حجة الله علي كل العباد

وببيت الله قد جدّ له

ساجداً ينشج من خوف المعاد

يا ليال أنزل الله بها

سور الذكر علي أكرم

هادي

مُحيت فيك علي رغم العلي

آية في فضلها الذكر ينادي

قتلوه وهو في محرابه

طاوي الأحشاء عن ماء وزاد

سل بعينيه الدجي هل جفتا

عن بكا أو ذاقتا طعم الرقاد؟

وسل الأنجم هل أبصرنه

ليلة مضطجعاً فوق الوساد؟

وسل الصبح هل صادفه

ملّ من نوح مذيب للجماد؟

عاقر الناقة مع شقوته

ليس بالأشقي من الرجس المرادي

فلقد عمم بالسيف فتي

عمّ خلق الله طراً بالأيادي

فبكته الأنس والجن معاً

وطيور الجومع وحش البوادي

وبكاه الملأ الأعلي دماً

وغدي جبريل بالويل ينادي

هدمت والله أركان الهدي

حيث لا من منذر فينا وهادي

علي طريح الفراش

بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الأخوان: في مثل صبيحة هذا اليوم وقعت الحادثة الكبري التي ذكرنا عنها اليسير ليلة أمس، لا يملك القلم واللسان بياناً لشرح الواقعة والدهشة التي استولت علي الناس إثر استماع الصيحة السماوية وانتشار الخبر في الكوفة بأسرع ما يكون، وأقبلت الجماهير تتراكض إلي المسجد (محل الحادثة) حتي المخدرات خرجن من خدورهن، وغص المسجد الجامع بالناس، فلا تري إلا صفق الأيدي علي الرؤوس ولا تسمع إلا أصوات النياحة وصرخات الناس، وقد أزدحم الناس حول الإمام ينظرون إلي ذلك البطل الذي كان يخوض غمار الموت، وكانت الأسود تخاف من باسه واسمه، ينظرون إليه وقد أبيض وجهه من نزف الدم، وصلي الإمام صلاة الصبح من جلوس، ثم قال احملوني إلي منزلي.

فحملوه والناس حوله يبكون وينتحبون، وكان الحسن والحسين أشد الناس بكاء وحزناً، فكان الحسين (عليه السلام) يبكي ويقول: يا أبتاه من لنا بعدك؟ لا يوم كيومك إلا يوم رسول الله، من أجلك تعلمت البكاء، يعز والله علي أن أراك هكذا.

فعزاه الإمام وسلاه، ومسح دموع ولده ووضع يده علي قلب ولده وقال: يا بني ربط الله علي قلبك وأجزل لك ولأخوتك عظيم الأجر.

أقبلت بنات رسول الله وسائر بنات الإمام وجلسن حول فراشه ينظرن إلي أسد الله وهو

بتلك الحالة، فصاحت زينب الكبري وأختها: أبتاه من للصغير حتي يكبر؟ ومن للكبير بين الملأ؟ يا أبتاه حزننا عليك طويل، وعبرتنا لا ترقا! فضج الناس من وراء الحجرة بالبكاء والنحيب، وشاركهم الإمام وفاضت عيناه بالدموع.

اجتمع الأطباء والجراحون فوصفوا للإمام اللبن، لأن سيف ابن ملجم كان مسموماً، فكان اللبن طعامه وشرابه، ودعي الإمام بولديه وجعل يقبلهما ويحصنهما لأنه علم أنه سيفارقهما وكان يغمي عليه ساعة بعد ساعة، فناوله الحسن قدحاً من اللبن فشرب منه قليلاً، ثم نحاه عن فمه وقال: احملوه إلي أسيركم! ثم قال للحسن: يا بني بحقي عليك إلا ما طيبتم مطعمه ومشربه وارفقوا به إلي حين موتي! وتطعمه مما تأكل، وتسقيه مما تشرب حتي تكون أكرم منه!! وكان اللعين ابن ملجم محبوساً في بيت، فحملوا إليه اللبن وأخبروه بعطف الإمام وحنانه علي قاتله، فشرب اللعين اللبن.

قال محمد بن الحنيفة: بتنا ليلة عشرين من شهر رمضان مع أبي وقد نزل السم إلي قدميه، وكان يصلي تلك الليلة من جلوس ولم يزل يوصينا بوصاياه ويعزينا عن نفسه، ويخبرنا بأمره إلي طلوع الفجر، فلما أصبح استأذن الناس عليه، فأذن لهم بالدخول، فدخلوا عليه واقبلوا يسلمون عليه وهو يرد (عليهم السلام) ثم يقول: أيها الناس اسألوني قبل أن تفقدوني، وخففوا سؤالكم لمصيبة إمامكم!! فبكي الناس بكاء شديداً، وأشفقوا أن يسألوه تخفيفاً عنه فقام إليه حجر بن عدي الطائي وقال:

فيا أسفي علي المولي النقي

أبي الأطهار حيدرة الزكي

قتله كافر حنث زنيم

لعين فاسق نغل شقي

إلي آخر أبياته، فلما بصر الإمام وسمع شعره قال له: كيف بك إذا دعيت إلي البراءة مني؟ فما عساك أن تقول؟ فقال: والله يا أميرالمؤمنين لو قطعت بالسيف إرباً إرباً، وأضرم لي النار وألقيت فيها لآثرت ذلك علي البراءة

منك!! فقال (عليه السلام): وفقت لكل خير يا حجر، جزاك الله عن أهل بيت نبيك.

ثم قال هل من شربة لبن؟ فأتوه بلبن فشربه كله، فذكر (عليه السلام) ابن ملجم وأنه لم يترك له من اللبن شيئاً فقال: وكان أمر الله قدراً مقدوراً، أعلموني أني شربت الجميع، ولم أبق لأسيركم شيئاً من هذا! ألا: وإنه آخر رزقي من الدنيا! فبالله عليك يا بني إلا ما سقيته مثل ما شربت، فحمل إليه اللبن فشرب.

كان الناس متجمهرين علي باب الإمام ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام في حق ابن ملجم، فخرج إليهم الإمام الحسن وأمرهم عن قول أبيه بالانصراف، فانصرف الناس، وكان الأصبغ بن نباته جالساً فلم ينصرف، فخرج الإمام الحسن مرة ثانية وقال: يا أصبغ أما سمعت قولي عن أميرالمؤمنين؟ قال: بلي، ولكني رأيت حاله، فأحببت أن أنظر إليه فاسمع من حديثاً، فاستأذن لي رحمك الله.

فدخل الحسن ولم يلبث أن خرج فقال له: أدخل.

قال الأصبغ فدخلت فإذا أميرالمؤمنين معصب بعصابة، وقد علت صفرة وجهه علي تلك العصابة، وإذا هو يرفع فخذاً ويضع أخري من شدة الضربة وكثرة السم.

فقال لي: يا أصبغ أما سمعت قول الحسن عن قولي؟ قلت: بلي يا أميرالمؤمنين، ولكني رأيتك في حالة فأحببت النظر إليك، وأن أسمع منك حديثاً.

فقال لي: أقعد، فما أراك تسمع مني حديثاً بعد يومك هذا!! إعلم يا أصبغ: أني أتيت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) عائداً كما جئت الساعة فقال: يا أباالحسن أخرج فناد في الناس: الصلاة جامعة، واصعد المنبر وقم دون مقامي بمرقاة، وقل للناس: ألا: من عق والديه فلعنة الله عليه، ألا:

من أبق مواليه فلعنة الله عليه، ألا: من ظلم أجيراً أجرته فلعنة الله عليه! يا أصبغ: ففعلت ما أمرني به حبيبي رسول الله، فقام

من أقصي المسجد رجل فقال: يا أباالحسن تكلمت بثلاث كلمات أوجزتهن (اختصرتهن) فلم أرد جواباً حتي أتيت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقلت ما كان من الرجل.

قال الأصبغ: ثم أخذ بيدي وقال: يا أصبغ أبسط يدك، فبسطت يدي، فتناول أصبع من أصابع يدي وقال: يا أصبغ كذا تناول رسول الله الحسن ألا: وإني وأنت أبوا هذه الأمة، فمن عقنا فلعنة الله عليه، ألا وإني وأنت موليا هذه الأمة فعلي من أبق عنا لعنة الله، ألا: وإني وأنت أجيرا هذه الأمة، فمن ظلمنا أجرنا فلعنة الله عليه، ثم قال: آمين.

فقلت آمين.

قال الأصبغ: ثم أغمي عليه ثم أفاق فقال لي: أقاعد أنت يا أصبغ؟ قلت: نعم يا مولاي قال: أزيدك حديثاً آخر؟ قلت نعم زادك الله من مزيدات الخير، قال: يا أصبغ: لقيني رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في بعض طرقات المدينة وأنا مغموم، قد تبين الغم في وجهي، فقال لي: يا أباالحسن أراك مغموماً؟ ألا أحدثك بحديث لا تغتم بعده أبداً؟؟ قلت: نعم.

قال: إذا كان يوم القيامة نصب الله منبراً يعلو منبر النبيين والشهداء ثم يأمرني الله أن أصعد فوقه ثم يأمرك الله أن تصعد دوني بمرقاة ثم يأمر الله ملكين فيجلسان دونك بمرقاة، فإذا استقللنا علي المنبر لا يبق أحد من الأولين والآخرين إلا حضر، فينادي الملك الذي دونك بمرقاة: معاشر الناس ألا: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي: أنا أدفع مفاتيح الجنة إلي محمد، وإن محمداً أمرني أن أدفعها إلي علي بن أبي طالب، فاشهدوا لي عليه.

ثم يقوم ذلك الذي تحت ذلك الملك بمرقاة منادياً يسمع أهل الموقف: معاشر الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي: أنا مالك

(خازن) النيران، ألا: إن الله بمنه وكرمه وفضله وجلاله قد أمرني أن أدفع مفاتيح النار إلي محمد وإن محمداً قد أمرني أن أدفعها إلي علي بن أبي طالب فاشهدوا لي عليه.

فآخذ مفاتيح الجنان والنيران، يا علي فتأخذ بحجزتي، [157] وأهل بيتك يأخذون بحجزتك، وشيعتك يأخذون بحجزة أهل بيتك.

قال الإمام: فصفقت بكلتا يدي وقلت: وإلي الجنة يا رسول الله؟ قال: إي ورب الكعبة..

علي يفارق الحياة

اشاره

بسم الله الرحمن الرحيم

عظم الله أجوركم بمصيبة سيدنا وإمامنا أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ففي هذه الليلة قضي نحبه وفارق الحياة، وقد انطوت صفحات تلك الحياة المشرقة، واستراح الإمام من أيدي الناس وأفواههم وانتهت أيام مسؤوليته.

فقد جمعوا له أطباء الكوفة ومن جملتهم: أثير بن عمرو بن هاني السكوني فلما نظر إلي جرح رأس الإمام طلب رئة شاة حارة فاستخرج منها عرقاً ثم نفخه ثم استخرجه، وإذا عليه بياض الدماغ كأنه قطن مندوف فقال: يا أميرالمؤمنين اعهد عهدك وأوص وصيتك فإن عدو الله قد وصلت ضربته إلي أم رأسك.

قال محمد بن الحنيفة: لما كانت ليلة إحدي وعشرين جمع أبي أولاده وأهل بيته وودعهم ثم قال لهم: الله خليفتي عليكم، وهو حسبي ونعم الوكيل، وأوصاهم بلزوم الإيمان..

وتزايد ولوج السم في جسده حتي نظرنا إلي قدميه وقد احمرتا جميعاً، فكبر ذلك علينا وأيسنا منه.

ثم عرضنا عليه المأكول والمشروب فأبي أن يشرب، فنظرنا إلي شفتيه يختلجان بذكر الله، ثم نادي أولاده كلهم بأسمائهم واحداً بعد واحد وجعل يودعهم وهم يبكون فقال الحسن: ما دعاك إلي هذا؟ فقال: يا بني إني رأيت جدك رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في منامي قبل هذه الكائنة بليلة فشكوت إليه ما أنا فيه من التذلل والأذي من هذه الأمة فقال لي: أدع عليهم فقلت: اللهم

أبدلهم بي شراً مني وأبدلني بهم خيراً منهم.

فقال لي رسول الله: قد استجاب الله دعاك، سينقلك إلينا بعد ثلاث.

وقد مضت الثلاث، يا أبامحمد أوصيك ويا أباعبدالله خيراً، فأنتما مني وأنا منكما، ثم ألتفت إلي أولاده الذين من غير فاطمة (عليهاالسلام) وأوصاهم أن لا يخالفوا أولاد فاطمة يعني الحسن والحسين، ثم قال: أحسن الله لكم العزاء، ألا وإني منصرف عنكم وراحل في ليلتي هذه ولاحق بحبيبي محمد (صلّي الله عليه وآله) كما وعدني، فإذا أنا مت يا أبامحمد فغسلني وكفني وحنطني ببقية حنوط جدك رسول الله، فإنه من كافور الجنة جاء به جبرائيل إليه، ثم ضعني علي سريري، ولا يتقدم أحد منكم مقدم السرير، واحملوا مؤخره، واتبعوا مقدمه، فأي موضع وضع المقدم فضعوا المؤخر، فحيث قام سريري فهو موضع قبري، ثم تقدم يا أبامحمد وصل علي يا بني يا حسن وكبر علي سبعاً، واعلم أنه لا يحل ذلك علي أحد غيري إلا علي رجل يخرج في آخر الزمان اسمه: القائم المهدي من ولد أخيك الحسين يقيم اعوجاج الحق.

فإذا أنت صليت علي يا حسن فنح السرير عن موضعه ثم اكشف التراب عنه، فتري قبراً محفوراً، ولحداً مثقوباً وساجة منقوبة، فأضجعني فيها، فإذا أردت الخروج من قبري فتفقدني فإنك لا تجدني وإني لاحق بجدك رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وأعلم يا بني: ما من نبي يموت وإن كان مدفوناً بالمشرق ويموت وصيه بالمغرب إلا ويجمع الله عزوجل بين روحيهما وجسديهما، ثم يفترقان فيرجع كل واحد منهما إلي موضع قبره وإلي موضعه الذي حط فيه.

ثم أشرج اللحد باللبن (جمع لبنة) وأهِل التراب عليُّ ثم غيِّب قبري.

وللإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) وصية أخري هي من جلائل وصاياه أوصي بها أولاده في مثل هذه الليلة،

روي الصدوق في الفقيه عن سليم بن قيس الهلالي قال: شهدت وصية علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين أوصي إلي أبنه الحسن (عليه السلام) وأشهد علي وصيته الحسين (عليه السلام) ومحمد وجميع ولده ورؤساء أهل بيته وشيعته ثم دفع إليه الكتاب والسلاح ثم قال: يا بني أمرني رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أن أوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي، كما أوصي إلي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ودفع إلي كتبه وسلاحه وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعه إلي أخيك الحسين (عليه السلام) ثم أقبل علي أبنه الحسين فقال: وأمرك رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أن تدفعه إلي ابنك علي بن الحسين ثم أقبل إلي إبنه علي بن الحسين (عليه السلام) فقال له: وأمرك رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أن تدفع وصيتك إلي ابنك محمد بن علي فأقرأه من رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ومني السلام، ثم أقبل علي أبنه الحسن فقال: يا بني أنت ولي الأمر بعدي وولي الدم فإن عفوت فلك، وإن قتلت فضربة مكان ضربة ولا تأثم، ثم قال أكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصي به أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب: أوصي أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدي ودين الحق ليظهره علي الدين كله ولو كره المشركون، ثم إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين.

أوصيكما بتقوي الله وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا علي شي ء منها زوي عنكما، وقولا بالحق واعملا للأجر (للآخرة) وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً.

أوصيكما وجميع ولدي وأهل بيتي (وأهلي) ومن بلغهم كتابي هذا من المؤمنين بتقوي الله ربكم،

ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم (بتقوي الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم) فإني سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام، وإن البغضة حالقة الدين وفساد ذات البين (وإن المبيرة الحالقة للدين فساد ذات البين) ولا قوة إلا بالله، انظروا ذوي أرحامكم فصلوهم يُهوّن الله عليكم الحساب، والله الله في الأيتام لا تغبوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم فإني سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: من عال يتيماً حتي يستغني أوجب الله له الجنة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار، والله الله في القرآن فلا يسبقكم إلي العمل به غيركم، والله الله في جيرانكم فإن الله ورسوله أوصيا بهم (فإنه وصية نبيكم) ما زال يوصي بهم حتي ظننا أنه سيورثهم، والله الله في بيت ربكم فلا يخلون منكم ما بقيتم فإنه إن ترك لم تناظروا، الله الله في الصلاة! فإنها خير العمل وإنها عمود دينكم، الله الله في الزكاة فإنها تطفئ غضب ربكم، الله الله في صيام شهر رمضان فإن صيامه جنة من النار، الله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم فإنما يجاهد في سبيل الله رجلان: إمام هدي ومطيع له مقتد بهداه والله الله في ذرية نبيكم فلا يظلمن بين أظهركم، والله الله في أصحاب نبيكم الذين لم يحدثوا حدثاً ولم يؤوا محدثاً فإن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أوصي بهم، ولعن المحدث منهم ومن غيرهم، والمؤوي للمحدث، والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم، والله الله في النساء وما ملكت أيمانكم فإن آخر ما تكلم به

رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أن قال: أوصيكم بالضعيفين: نسائكم وما ملكت أيمانكم، ثم قال: الصلاة، الصلاة، الصلاة، ولا تخافن في الله لومة لائم، يكفكم من أرادكم وبغي عليكم، قولوا للناس حسناً كما أمركم الله عزوجل، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولي عليكم أشراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم.

وعليكم بالتواصل والتباذل والتبار وإياكم والتقاطع والتدابر والتفرق، وتعاونوا علي البر والتقوي ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب، حفظكم الله من أهل بيت وحفظ فيكم نبيكم، وأستودعكم الله خير مستودع، وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

يا بني عبدالمطلب: لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون: قتل أميرالمؤمنين.ألا: لا تقتلن بي إلا قاتلي انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ولا يمثل بالرجل فإني سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور.

هكذا ينهي الإمام (عليه السلام) أولاده عن إقامة المجازر والمذابح لأجل الطلب بدمه كما كان الأمر في قضايا عثمان، يقول: لا تقتلوا إلا قاتلي.

ينهاهم عن التحقيق عن أصل الفتنة ورجال المؤامرة وأسباب الفساد ويأمرهم بالاكتفاء بالقصاص من القاتل، ثم ينهي عن قطع أعضائه.

ثم عرق جبين الإمام فجعل يمسح العرق بيده فقالت أبنته زينب: يا أبه أراك تمسح جبينك؟ قال: يا بنية سمعت جدك رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: إن المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبينه وصار كاللؤلؤ الرطب، وسكن أنينه.

فقامت زينب وألقت بنفسها علي صدر أبيها وقالت: يا أبه حدثتني أم أيمن بحديث كربلاء وقد أحببت أن أسمعه منك، فقال: يا بنية، الحديث كما حدثتك، أم أيمن، وكأني بك وبنساء أهلك لسبايا بهذا البلد، خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس، فصبراً صبراً..

ثم

التفت الإمام إلي ولديه الحسن والحسين وقال: يا أبامحمد ويا أباعبدالله كأني بكما وقدج خرجت عليكما من بعدي الفتن من ههنا وههنا فاصبرا حتي يحكم الله وهو خير الحاكمين يا أباعبدالله أنت شهيد هذه الأمة، فعليك بتقوي الله والصبر علي بلائه.

ثم أغمي عليه وأفاق وقال: هذا رسول الله، وعمي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول الله، وكلهم يقولون: عجل قدومك علينا فإنا إليك مشتاقون، ثم أدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال: أستودعكم الله جميعاً، سددكم الله جميعاً، خليفتي عليكم الله، وكفي بالله خليفة، ثم قال: وعليكم السلام يا رسل ربي، ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون، (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون). [158].

وما زال يذكر الله، ويستشهد الشهادتين، ثم استقبل القبلة، وغمض عينيه ومدد رجليه ويديه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم قضي نحبه!! فعند ذلك صرخت زينب بنت علي وأم كلثوم وجميع نسائه وقد شققن الجيوب ولطمن الخدود، وارتفعت الصيحة في القصر، فعلم أهل الكوفة أن أميرالمؤمنين قد فارق الحياة، فأقبل النساء والرجال يهرعون أفواجاً، وصاحوا صيحة عظيمة فارتجت الكوفة بأهلها، وكثر البكاء والنحيب والضجيج بالكوفة وقبائلها وجميع أقصارها، فكان ذلك اليوم كاليوم الذي مات فيه رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وتغير أفق السماء، وسمع الناس أصواتاً وتسبيحاً في الهواء، واشتغلوا بالنياحة علي الإمام.

ثم قام أولاده لتجهيزه ليلاً، ولما جردوه عن ثيابه، وجدوا علي جسده الشريف آثار ألف جراحة من قرنه إلي قدميه وهي الجراحات التي أصابته في سبيل الله في الحروب، وكان الحسن يغسله والحسين يصب عليه الماء، وكان (عليه السلام) لا يحتاج إلي من يقلبه، بل كان يتقلّب كما يريد الغاسل يميناً وشمالاً، لأن

الملائكة كانت تقلّبه وكانت رائحته أطيب من رائحة المسك.

ثم نادي الحسن بأخته زينب وأم كلثوم وقال: يا أختاه هلمي بحنوط جدي رسول الله، فبادرت زينب مسرعة حتي أتته به، فلما فتحته فاحت الدار وجميع الكوفة، ولما حنطوه لفوه بخمسة أثواب ثم وضعوه علي السرير وتقدم الحسن والحسين إلي السرير من مؤخره وإذا مقدمه قد ارتفع، ولا يري حامله، وكان حاملاه جبرائيل وميكائيل، فما مر بشي ء علي وجه الأرض إلا انحني له.

وضجت الكوفة بالبكاء والنحيب، وخرجت النساء خلف الجنازة لاطمات فمنعهن الحسن وردهن إلي أماكنهم، والحسين يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أنا لله وأنا إليه راجعون، يا أبتاه واإنقطاع ظهراه، من أجلك تعلمت البكاء، إلي الله المشتكي.

أمر الإمام الحسن الناس بالإنصراف، ولم يبق إلا أولاد أميرالمؤمنين وعدد قليل من أخص أصحابه المعتمد عليهم، فابتعدوا عن الكوفة في جوف الليل قاصدين النجف، وإذا بمقدم السرير قد وضع، فوضع الحسن والحسين مؤخر السرير، وقام الحسن وصلي مع جماعة علي أبيه فكبر سبعاً كما أمر أبوه، ثم زحزح السرير، وكشف التراب وإذا بقبر مقبور ولحد مشقوق وساجة منقورة مكتوب عليها: هذا ادخره نوح النبي للعبد الصالح الطاهر بن المطهر.

ولما أرادوا إنزاله إلي القبر سمعوا هاتفاً يقول: أنزلوه إلي التربة الطاهرة فقد اشتاق الحبيب إلي الحبيب، فدهش الناس من سماع الهاتف، وانتهي الدفن قبل الفجر، وأخفوا قبره كما أوصي به، لأنه (عليه السلام) كان يعلم من عداوة الخوارج والأعداء له، فقد روي في منتخب التواريخ أن الحجاج بن يوسف نبش في النجف آلاف القبور يفتش عن جثمان علي (عليه السلام) ولكنه لم يعثر عليه، ولم يزل القبر مخفياً عن الناس لا يعرف به إلا أولاد الإمام وأخصاء الشيعة إلي

أيام هارون الرشيد.

قال عبدالله بن حازم: خرجنا يوماً مع الرشيد من الكوفة نتصيد فصرنا إلي ناحية الغري، فرأينا ظبيات، فأرسلنا إليها الصقور والكلاب، فحاولتها ساعة، ثم لجأت الظباء إلي الأكمة فسقطت عليها، فسقطت الصقور والكلاب، فتعجب الرشيد من ذلك ثم أن الظباء هبطت من الأكمة فسقطت الصقور والكلاب فرجعت الظباء إلي الأكمة، فتراجعت عنها الكلاب والصقور ففعلت ذلك ثلاثة، فقال هارون: أركضوا فمن لقيتموه آتوني به؟ فأتيناه بشيخ من بني أسد، فقال هارون ما هذه الأكمة؟ قال: إن جعلت لي الأمان أخبرتك! قال: لك عهد الله وميثاقه أن لا أهيجك ولا أؤذيك.

قال الشيخ حدثني أبي عن أبيه أنهم كانوا يقولون: هذه الأكمة قبر علي بن أبي طالب (عليه السلام) جعله الله حرماً لا يأوي إليه أحد إلا أمن.

فنزل هارون ودعي بماء فتوضأ وصلي عند الأكمة وتمرغ عليها وجعل يبكي، وأمر ببناء القبة علي القبر، ومن ذلك اليوم لم يزل البناء في تطور وهو الآن صرح بديع متلألئ، وبناء مشيد من قبة ذهبية ومنارتين ذهبيتين، ومشهد عظيم وضريح فخم في داخله صندوق لا يثمن، والبقعة مزينة بهدايا الملوك والسلاطين علي مر القرون، وقد بني المشهد علي أحسن هندسة وأبدع فن معماري وأجمل نقوش يتوصل إليها الفكر البشري.

والمعلقات الموجودة والذخائر المكنونة والهدايا الثمينة لا يمكن تقديرها وتثمينها، ويقصد القبر الشريف ملايين من الناس من شرق الأرض وغربها، وكذلك الوفود والسواح من المسلمين.

تابين علي

ولما فرغوا من دفن الإمام (عليه السلام) قام صعصعة بن صوحان يؤبن الإمام بهذه الكلمات، فوقف علي القبر ووضع إحدي يديه علي فؤاده والأخري قد أخذ بها التراب وضرب به رأسه ثم قال: بأبي لأنت وأمي يا أميرالمؤمنين هنيئاً لك يا أباالحسن، فلقد طاب مولدك، وقوي صبرك، وعظم

جهادك وظفرت برأيك، وربحت تجارتك، وقدمت علي خالقك فتلقاك ببشارته، وحفتك ملائكته، واستقررت في جوار المصطفي فأكرمك الله بجواره، ولحقت بدرجة أخيك المصطفي وشربت بكأسه الأوفي، فأسأل الله أن يمن علينا باقتفائنا أثرك، والعمل بسيرتك، والموالاة لأوليائك، والمعاداة لأعدائك، وأن يحشرنا في زمرة أوليائك، فقد نلت ما لم ينله أحد، وأدركت ما لم يدركه أحد، وجاهدت في سبيل ربك بين يدي أخيك المصطفي حق جهاده، وقمت بدين الله حق القيام حتي أقمت السنن، وأبرت الفتن، واستقام الإسلام وأنتظم الإيمان، فعليك مني أفضل الصلاة والسلام، بك أعتدل ظهر المؤمنين واتضحت أعلام السبل، وأقيمت السنن، وما جمع لأحد مناقبك وخصالك، سبقت إلي إجابة النبي (صلّي الله عليه وآله) مقدماً مؤثراً، وسارعت إلي نصرته، ووقيته بنفسك ورميت سيفك ذا الفقار في مواطن الخوف والحذر، قصم الله بك كل جبار عنيد، وذل بك كل ذي بأس شديد، وهدم بك حصون أهل الشرك والكفر والعدوان والردي، وقتل بك أهل الضلال من العدي، فهنيئاً لك يا أميرالمؤمنين كنت أقرب الناس من رسول الله قربي وأولهم سلماً وأكثرهم علماً وفهماً.

فهنيئاً لك يا أباالحسن، لقد شرف الله مقامك، وكنت أقرب الناس إلي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) نسباً، وأولهم إسلاماً وأوفاهم يقيناً، وأشدهم قلباً، وأبذلهم لنفسه مجاهداً، وأعظمهم في الخير نصيباً، فلا حرمنا الله أجرك، ولا ذلنا بعدك، فوالله لقد كانت حياتك مفاتيح للخير ومغالق للشر، وإن يومك هذا مفتاح كل شر ومغلاق كل خير، ولو أن الناس قبلوا منك لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم آثروا الدنيا علي الآخرة.

ذكر ابن أبي الحديد أن صعصعة بن صوحان العبدي رثا أميرالمؤمنين علياً بهذه الأبيات:

ألا، من لي بأنسك يا أخيا

ومن لي أن أبثك ما لديا؟

طوتك خطوب

دهر قد تولي

لذاك خطوبه نشراً وطيا

فلو نشرت قواك لي المنايا

شكوت إليك ما صنعت إليا

بكيتك يا علي بدرّ عيني

فلم يغن البكاء عليك شيا

كفي حزناً بدفنك ثم إني

نفضت تراب قبرك من يديا

وكانت في حياتك لي عظاة

وأنت اليوم أوعظ منك حيا

فيا أسفي عليك وطول شوقي

ألا لو أن ذلك رد شيا

ثم بكي بكاءً شديداً وأبكي كل من كان معه، وعدلوا إلي الحسن والحسين ومحمد وجعفر والعباس ويحيي وعون وعبدالله، فعزوهم في أبيهم وانصرف الناس ورجع أولاد أميرالمؤمنين إلي الكوفة ولم يشعر بهم أحد:

قم ناشد الإسلام عن مصابه

أصيب بالنبي أم كتابه

بلي قضي نفس النبي المصطفي

وأدرج الليلة في أثوابه

فاصفر وجه الدين لاصفراره

وخضب الإيمان لختضابه

قتلتم الصلاة في محرابها

يا قاتليه وهو في محرابه

ثم عمدوا إلي عبدالرحمن بن ملجم فقتلوه، وهجم الناس علي قطام وقطعوها بالسيوف ونهبوا دارها وأحرقوا جثتها وجثة أبن ملجم.

في ناسخ التواريخ لما توفي أميرالمؤمنين (عليه السلام) وقتل أبن ملجم، خرج أبن عباس إلي الناس فقال: إن أميرالمؤمنين توفي، وقد ترك لكم خلفاً، فإن أحببتم خرج إليكم، وإن كرهتم فلا أحد علي أحد، فبكي الناس وقالوا: بل يخرج إلينا.

فخرج الإمام الحسن وعليه ثوب أسود، واعتلي المنبر، فحمد الله وأثني عليه ثم قال: لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل، ولم يدركه الآخرون بعمل، لقد كان يجاهد مع رسول الله فيقيه بنفسه، وكان رسول الله يوجهه برايته، فيكفيه جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن شماله ولا يرجع حتي يفتح الله علي يديه.

ولقد توفي في الليلة التي نزل فيها القرآن، وعرج فيها بعيسي بن مريم، والتي قبض فيها يوشع بن نون وصي موسي، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطيته أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله ثم خنقته العبرة فبكي وبكي الناس..

ختام واعتذار

أيها

الإخوان لقد قضينا معكم هذه الليالي الثمينة بالتحدث عن شخصية الإمام أميرالمؤمنين، وقد كان حديثنا يدور حول ترجمة حياته المتلألئة وذكرنا ما تيسر، وأود أن أحيطكم علماً وأحلف لك يميناً لا حنث فيه بأني لم أذكر عشراً من معشار فضائل الإمام ومناقبه، فلقد فاتنا التكلم عن قضاء أميرالمؤمنين ومعجزاته وكثير من خططه الحربية وسياسته الحكيمة وترجمة زوجاته وأولاده وبناته وكلماته القصار وآثاره الطيبة الخالدة، ومن الله نسأل أن يحقق الآمال ونتدارك ما قد فات.

وسلام الله علي أميرالمؤمنين يوم ولد في الكعبة ويوم مات شهيداً في سبيل الله ويوم يبعث حياً للشفاعة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم.

پاورقي

[1] سورة الأنبياء، الآية: 69.

[2] البحار ج 9.

[3] نفس المصدر.

[4] سورة المؤمنون، الآيتان: 1 و 2.

[5] سورة المؤمنون، الآيتان: 10 و 11.

[6] البحار ج 9.

[7] سورة القدر، الآية: 1.

[8] نهج البلاغة، خطبة رقم 187.

[9] البحار: ج 9.

[10] سورة الشعراء، الآية: 214.

[11] البحار ج 9.

[12] سورة الواقعة، الآية: 10.

[13] سورة ص، الآية: 86.

[14] سورة الأنعام، الآية: 163.

[15] سورة البقرة، الآية: 131.

[16] سورة الأعراف، الآية: 143.

[17] سورة البقرة، الآية: 285.

[18] سورة الأنعام، الآية: 14.

[19] سورة غافر، الآية: 66.

[20] وقد ضمن حسان بن ثابت هذا البيت في مديح النبي (صلّي الله عليه وآله).

[21] سورة البقرة، الآية: 207.

[22] سورة هود، الآية: 112.

[23] سورة البقرة، الآية: 207.

[24] سورة البقرة، الآية: 27.

[25] سورة النساء، الآية: 100.

[26] سورة العنكبوت، الآية: 26.

[27] سورة آل عمران، الآية: 191.

[28] سورة آل عمران، الآية: 195.

[29] سورة النور، الآية: 32.

[30] سورة التكوير، الآيتان: 8 و 9.

[31] سورة النحل، الآيتان: 58 و 59.

[32] سورة الأعراف، الآية: 157.

[33] الخرق: سيئ التصرف والجاهل. والنزق: الخفيف في كل أمر، العجول في الجهل والحمق.

[34]

اقتطفنا أحاديث هذا البحث من المجلد العاشر من كتاب بحارالأنوار لشيخنا المجلسي (ره).

[35] سورة التوبة، الآية: 111.

[36] البحار ج 6.

[37] البحار ج 9.

[38] سورة التوبة، الآيتان: 25 و 26.

[39] سورة البينة الآية: 7.

[40] سورة الأحزاب، الآية: 33.

[41] سورة الأحزاب، الآيات: 34-32.

[42] سورة آل عمران، الآية: 59.

[43] سورة آل عمران، الآية: 61.

[44] سورة آل عمران، الآية: 59.

[45] سورة آل عمران، الآية: 61.

[46] سورة آل عمران، الآية: 61.

[47] سورة آل عمران، الآية: 61.

[48] سورة المائدة، الآية: 55.

[49] سورة المائدة، الآية: 56.

[50] سورة المائدة، الآيتان: 55 و 56.

[51] سورة طه، الآيات: 25 و 32.

[52] سورة القصص، الآية: 35.

[53] سورة الإنسان، الآية: 7.

[54] سورة الإنسان، الآية: 1.

[55] سورة الإنسان، الآية: 22.

[56] سورة الإنسان، الآيتان: 5 و 6.

[57] سورة الإنسان، الآية: 7.

[58] سورة الإنسان، الآية: 8.

[59] سورة الإنسان، الآية: 9.

[60] سورة الإنسان، الآية: 11.

[61] سورة الإنسان، الآية: 12.

[62] سورة الإنسان، الآية: 13.

[63] سورة الحشر، الآية: 9.

[64] سورة التوبة، الآية: 19.

[65] سورة المجادلة، الآية: 12.

[66] سورة المجادلة، الآية: 13.

[67] سورة البقرة، الآية: 207.

[68] سورة الزمر، الآية: 9.

[69] سورة طه، الآية: 114.

[70] سورة الكهف، الآية: 65.

[71] سورة البقرة، الآية: 247.

[72] سورة الأنبياء، الآية: 79.

[73] سورة الأنبياء، الآية: 74.

[74] سورة النمل، الآية: 15.

[75] سورة القصص، الآية: 14.

[76] سورة الأعراف، الآية: 144.

[77] سورة المائدة، الآية: 110.

[78] سورة البقرة، الآية: 31.

[79] سورة مريم، الآية: 43.

[80] سورة الأنبياء، الآية: 79.

[81] سورة يوسف، الآية: 37.

[82] سورة النساء، الآية: 113.

[83] سورة البقرة، الآية: 251.

[84] سورة يوسف، الآية: 68.

[85] سورة النساء، الآية: 105.

[86] سورة الأعلي، الآية: 1.

[87] سورة الأعلي، الآيتان: 18 و 19.

[88] سورة الحاقة، الآية: 12.

[89] سورة الإسراء، الآية: 84.

[90] سورة الإسراء، الآية: 84.

[91] سورة الكهف، الآية: 29.

[92]

سورة يونس، الآية: 35.

[93] سورة المؤمنون، الآية: 96.

[94] سورة البقرة، الآية: 269.

[95] سورة الزمر، الآية: 65.

[96] سورة الروم، الآية: 60.

[97] سورة الإسراء، الآية: 71.

[98] سورة الحشر، الآية: 9.

[99] سورة الحشر، الآية: 9.

[100] سورة البقرة، الآية: 265.

[101] سورة الإنسان، الآيتان: 8 و 9.

[102] سورة البقرة، الآية: 274.

[103] سورة النساء، الآية: 54.

[104] سورة النساء، الآية: 54.

[105] سورة الأعلي، الآية: 1.

[106] سورة طه، الآيات: 32-25.

[107] سورة طه، الآية: 36.

[108] سورة الأعراف، الآية: 142.

[109] سورة الحجرات، الآية: 10.

[110] سورة الحجرات، الآية: 10.

[111] الحوباء: روح القلب أو النفس.

[112] سورة التوبة، الآية: 3.

[113] سورة التوبة، الآيات: 31.

[114] سورة التوبة، الآية: 5.

[115] سورة البقرة، الآية: 125.

[116] سورة الحج، الآية: 27.

[117] سورة التوبة، الآية: 3.

[118] سورة الإسراء، الآية: 81.

[119] سورة الحجر، الآية: 75.

[120] سورة يونس، الآية: 87.

[121] سورة المائدة، الآية: 67.

[122] سورة الأحزاب، الآية: 36.

[123] سورة المائدة، الآية: 67.

[124] سورة المائدة، الآية: 3.

[125] سورة المعارج، الآيات: 31.

[126] سورة المائدة، الآية: 67.

[127] سورة التكوير، الآيات: 19 و 22.

[128] سورة ق، الآية: 37.

[129] سورة الحاقة، الآيات: 43-40.

[130] سورة المائدة، الآية: 3.

[131] سورة آل عمران، الآية: 144.

[132] سورة آل عمران، الآية: 144.

[133] سورة البقرة، الآية: 180.

[134] سورة الأحزاب، الآية: 36.

[135] سورة البينة، الآية: 7.

[136] سورة البينة، الآية: 6.

[137] سورة آل عمران، الآية: 144.

[138] سورة التوبة، الآية: 12.

[139] سورة الحجرات، الآية: 9.

[140] سورة طه، الآية: 97.

[141] سورة النحل، الآية: 91.

[142] سورة النحل، الآية: 91.

[143] سورة النساء، الآية: 35.

[144] سورة آل عمران، الآية: 61.

[145] سورة الكهف، الآيتان: 103 و 104.

[146] سورة النحل، الآية: 112.

[147] سورة القيامة، الآية: 14.

[148] سورة القيامة، الآية: 14.

[149] وفي نسخة أخري: كلمها.

[150] وفي نسخة أخري: خضم.

[151] سورة القصص، الآية: 83.

[152] سورة المجادلة، الآية: 22.

[153]

سورة البقرة، الآية: 35.

[154] سورة القصص، الآية: 33.

[155] سورة النمل، الآية: 10.

[156] سورة الأحزاب، الآية: 23.

[157] الحجزة بضم الحاء: الإزار أو معقد الإزار.

[158] سورة النحل، الآية: 128.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.