أول حكومة إسلامية في المدينة المنورة

اشارة

اسم الكتاب: أول حكومة إسلامية في المدينة المنورة

المؤلف: حسيني شيرازي، محمد

تاريخ وفاة المؤلف: 1380 ش

اللغة: عربي

عدد المجلدات: 1

الناشر: موسسه المجتبي

مكان الطبع: بيروت

تاريخ الطبع: 1422 ق

الطبعة: اول

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

الرحمن الرحيم مالك يوم الدين

إياك نعبد وإياك نستعين

اهدنا الصراط المستقيم

صراط الذين أنعمت عليهم

غير المغضوب عليهم ولا الضالين

صدق الله العلي العظيم

كلمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم

لابد لكل شعب وأمة من حكومة وقيادة تقودها إلي الصلاح وتسهر علي أمنها وتحافظ علي تطبيق القانون الذي من خلاله يستطيع أن يمارس الشعب حرياته وحقوقه المشروعة.

وكثير من الحكومات والثورات تبدأ بشعارات وأفكار براقة من العدل والحرية والمساواة وما أشبه، ولكن سرعان ما تنجرف إلي هاوية الظلم والاستبداد فتصادر الحريات وتكبت شعوبها بالحديد والنار، وكل ذلك يرجع إلي أنها لا تنطلق من دافع الهي وسماوي، فلا رادع لها عن ممارسة الظلم إلا بالخوف من الله والعمل بالقوانين الحيوية الإلهية.

فجاء الدين الإسلامي لكي يمثل جميع الرسالات الربانية علي مر التاريخ البشري، فأصبحت الحكومة الإسلامية هي الوحيدة التي تضمن نشر العدل والمساواة والحريات والتعايش السلمي حتي مع الأقليات الدينية وغيرها.

وكانت أول حكومة إسلامية شكلها النبي الأكرم محمد صلي الله عليه و اله في المدينة المنورة، مثالاً للحكومة الإلهية حيث تجسدت فيها أسمي صور العدالة والمساواة والمؤاخاة بين المسلمين كافة، بل حتي أهل الملل والأديان التي كانت تعيش في ظل الإسلام، فأعطي الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله الصورة المتكاملة للدين الإسلامي الذي يهتم بأمور الدنيا وصلاحها كما يهتم بأمور الآخرة وفلاحها، فحكومته صلي الله عليه و اله هي الأنموذج الصحيح أمام البشرية جمعاء في مسألة الحكم والحكومة.

لذلك كان من الضروري علي المسلمين أن يتصفحوا التاريخ ويعيشوا في أجواء (أول حكومة إسلامية في

المدينة المنورة)، فجاء هذا الكتاب لكي يرسم لنا الخطوط العامة للحكومة الإسلامية، ولقد لخصته أنامل المرجع الديني الأعلي الإمام الشيرازي (دام ظله) التي لم تفتأ تجاهد بالقلم لتدافع عن الإسلام وتوضح معالمه السمحاء للناس أجمعين وذلك في اكثر من ألف كتاب ودراسة وكراس.

وكان هذا الكتاب تلخيصاً وتعريباً مع بعض التغييرات لما كتبه الدكتور

حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد الثقفي (دام مجده) باللغة الفارسية.

وقد قمنا بطبع هذا السفر القيم، إحساساً منا بأهمية الموضوع، سائلين من المولي التوفيق والقبول.

مؤسسة المجتبي للتحقيق والنشر

بيروت لبنان ص ب 6080 / 13

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين.

تبحث هذه الرسالة عن كيفية تشكيل الدولة الإسلامية العادلة، وكيف أن الرسول الأعظم محمد صلي الله عليه و اله قد شكل هذه الدولة في المدينة المنورة، وإن كان أساس هذه الحكومة منذ أيام الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة.

فقد قامت الدولة الإسلامية العادلة في المدينة ابتداءً علي قيام الروابط الحسنة مع جميع الأديان حتي مع اليهود، فقد كان الإسلام دائماً ديناً سمحاً يؤمن بحرية العقيدة ومبدأ التعايش السلمي بين معتنقي المبادئ المختلفة ويعتبر أهل الكتاب متساويين مع بنيه في الحقوق والواجبات بطريقة أو بأخري…

هذا وقد حاول اليهود مراراً أن يكيدوا مكائد شتي للدعوة الإسلامية ولأصحابها، وخاصة حينما رأوا زحفها الباهر وانتصاراتها الرائعة، فأخذوا ينشرون الأراجيف تارة، ويثيرون العصبيات القديمة بين العرب تارة أخري، أو يدبرون المؤامرات لاغتيال الرسول صلي الله عليه و اله، أو يناصرون أعداءه، إلا أن الرسول صلي الله عليه و اله مع ذلك عقد معهم المواثيق والمعاهدات حتّي يعيشوا إلي جوار المسلمين في أمان وسلام، فلاعدوان ولا خيانة ولا غدر.

هكذا فعل صلي الله عليه و اله

مع يهود "بني قريظة" و"بني النضير" و"بني القينقاع" وغيرهم()، لكنهم أبوا إلا إثارة الفتن والدسائس وناصروا المشركين المعتدين في عدوانهم علي الرسول صلي الله عليه و اله في غزوة الأحزاب وفي غزوات أخري.. ولم يردعهم عن ذلك عهود أو مواثيق، ولم يرجعوا عن غيهم وخيانتهم، مما اضطر الرسول صلي الله عليه و اله أن يقوم بإبعادهم عن المدينة المنورة من دون أن يقتلهم أو يسجنهم أو ما أشبه.. وذلك دفاعاً عن العهود المعتدي عليها، ودفاعاً عن حرمات المسلمين ومستقبلهم وحفاظاً علي الدعوة الخالصة التي أمره الله بنشرها بين أرجاء العالمين دون تفرقة بين لون ولون، وجنس وجنس، ودين ودين.

و هكذا كانت أخلاق رسول الله صلي الله عليه و اله حسنة طيبة مع النصاري ومع المجوس بل ومع المشركين أيضاً.

وكان النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي من أهم العناصر الأساسية في تشكيل الدولة الإسلامية، فقد تم استحداث النظام التعليمي لإعداد وتهيئة المعلمين وقرّاء القرآن ونشر الفقه والثقافة الإسلامية، فيما تم العمل علي إيجاد نظام قضائي يتم بموجبه تعيين الحكام والقضاة، كما اهتم بالنظام الحربي لحفظ الأمن والدفاع عن الوطن الإسلامي من هجمات الأعداء، وذلك بإعداد مجموعة تتولي الحراسة وتراقب تحركات الخصوم وتفتيش الطرق المؤدية للنفوذ، بالإضافة إلي تهيئة قوة عسكرية تستطيع أن تنفذ إلي مواقع العدو في حالة المساس بأمن الدولة الإسلامية، كما أنشأ حركة الخيالة لأجل الاطلاع علي التحركات، كما أمر صلي الله عليه و اله المسلمين بالتقدم التجاري والصناعي.

وهذه الشؤون المهمة التي تم تشكيلها في الدولة الإسلامية، هي جزء من اختصاص النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي في دولة المدينة، وكانت هذه المعايير سبباً في حفظ أبعاد النبوة والرسالة مع بساطتها، وكانت تتحاشي الآداب والرسوم الحكومية، فكان التمدن

الإسلامي الذي يشار إليه قد قامت دعائمه وشيدت أركانه في دولة المدينة المنورة.

وهذه نبذة عن (أول حكومة إسلامية في المدينة المنورة) وهي أسوة وقدوة لجميع الحكومات في عالم اليوم وخاصة الإسلامية منها، وقد أخذتها من كتاب السيد الثقفي() مع بعض التغيير.

نسأل الله أن ينفعنا بها ويوفقنا لما يحب ويرضي وهو المستعان.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

أثر الدين والمذهب في المجتمع

قبل أن نشرع في كيفية تأسيس حكومة إسلامية في المدينة لابد من الإشارة إلي مدي تأثير الدين في المجتمع، فإن هناك آثار كبيرة للدين علي مختلف مسائل المجتمع، نشير الي بعضها:

1: في الموقع الجغرافي: فإن طراز السكني وبناء الدور والمنازل في المدن والقري غالباً ما يشير إلي الآداب والعقائد المذهبية لأهالي تلك المنطقة، ففي الدول المسيحية عادة يكون مركز تجمع القروي حول الكنيسة، فطراز السكن وبناء الدور والمنازل تنسجم مع مقتضيات المذهب بشكل أو بآخر.

2: أما بالنسبة للتخطيط السكاني: فزيادة السكان وقلته من توالد وتناسل غير بعيد عن تأثير المذهب، وهذا ما يلاحظ عند مطالعة الحياة الاجتماعية للأقوام، وكيف أن الأديان تقوم بتنظيم الروابط العائلية من القديم، وتقديس الزواج وتشوق الآباء والأمهات علي إنجاب الأولاد.

فلو قايسنا التخطيط الديمقراطي الأوروبي بالتخطيط المذهبي نجد أن التوالد والتناسل يتفاوت بحسب الأديان التي يعتنقوها، فمثلاً: في بعض أقسام المذهب البروتستانتي تجد الزيادة في عدد المواليد علي عكس ما في بعض أقسام المذهب الكاثوليكي.

3: مسألة هجرة الأقوام: فانها بالإضافة إلي الأسباب والعلل الطبيعية كالفيضانات، والمسائل الاقتصادية الناشئة عن جدب الأرض، فإن لها علل مذهبية أيضاً، وكذلك سفر المسلمين لأداء فريضة الحج، وأيضاً هجرة أكثر أهالي التبّت بسبب المعتقدات المذهبية وما أشبه.

4: بالنسبة للتشكيلات والنظام الاجتماعي: تتدخل الأديان والمذاهب في الأنظمة والعلاقات الاجتماعية المختلفة وتؤثر فيها تأثيراً مباشراً،

وفي هذا الصدد ما نشاهده في التشكيلات الاجتماعية في الهند المعروفة ب(كاست)، كذلك طبقة النجباء في اليونان، ومستوي أحبار اليهود، وكهنة مصر القديمة، بالإضافة إلي ما نلمسه في نظرات مفكري الإسلام المتأثرة بالإسلام من حيث المساواة، نزولاً علي حكم الآية الشريفة: ?إن أكرمكم عند الله أتقاكم?().

5: وكذلك بالنسبة إلي الاقتصاد، حيث يجتمعون في أسواق خاصة وهكذا.

الأديان الثابتة

يمكننا تقسيم الأديان من وجهات النظر المتعددة إلي الدين الزردشتي، والدين اليهودي، والدين الكونفوشيوسي، والدين الإسلامي، وهذه الأديان يطلق عليها (الأديان الثابتة) لأنها تنظر إلي الحياة والأمور الدنيوية نظرة ثابتة وحتّي عند الظهور، فاستطاعت بنفوذها أن تؤثر تأثيراً مباشراً في مجالات: الاقتصاد، والتربية، والتعليم، والسياسة، وحتي إن البعض منها: كالزردشتي، أو اليهودي، أو الإسلامي، قام بتشكيل حكومة.

علي عكس سائر الأديان: كالهندوسي، والمسيحي اليوم، مع أنها تعتبر من جملة الأديان الحية ولها أتباع ومريدون كثيرون، وهي من أكبر الأديان العالمية، إلا أنها من الأديان التي ليس فيها برامج للأمور الدنيوية من قبيل: الاقتصاد، والسياسة، والتربية، والتعليم، ولم يكن فيها إلا بعض النصائح الأخلاقية، إلا ما كان من المذهب البروتستانتي المسيحي، فبعد أن أعاد النظر في تعاليم الكنيسة، كان أساساً لبناء المجتمع الغربي الجديد، ويحتمل أن يكون رأس المال أحد العناصر الأساسية والعلل الأصلية لظهوره.

تأسيس دولة المدينة

قام النبي الأكرم صلي الله عليه و اله في المدينة المنورة بتأسيس حكومة دنيوية ودينية في نفس الوقت مما اضطره لتخصيص قسم من وقته الشريف لأجل تنظيم الأمور الاجتماعية والأخلاقية والمناسبات السياسية القبلية والشؤون الحربية حتّي لا تنفصل الأعمال الدينية عن الأمور الدنيوية، كما كان سائداً في دين اليهود والنصاري من انفصال الدين عن السياسة، فإن رجال دينهم كانوا مشغولين بالكنسية أي المسائل الدينية فقط ولاعلاقة لهم بالحياة الدنيوية، وكانت مقولتهم: (دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر).

إن للدين المسيحي طبيعته ومبادئه الخاصة بأمور أخلاقية فحسب، ولرجال الكنيسة سلوكهم ومفاهيمهم التي لا تشتمل أمور الحياة، أما النبي محمد صلي الله عليه و اله فقد فهم الدين فهماً شاملاً متكاملاً، وكونه أصولاً وأحكاماً موحاة إليه، وكونه نسيجاً واحداً يضم الأخلاق الخاصة والعامة، ويتناول

حياة الفرد وحياة الأمة، وينسّق العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويرسي أسس السلوك الفردي والجماعي ويبين أحكام الحرب والسلم، ويدير شؤون الزواج والطلاق، والجريمة والعقاب، وحتي آداب السلوك الإنساني فيما يتعلق بالطعام والشراب، والنوم واليقظة، والصدق والكذب، وله نظريته الخاصة في المال العام وميزانية الدولة، والمال الخاص المملوك للأفراد، ومعاملة الزوجة والأبناء والخدم، وعلاقات الدولة الإسلامية بجيرانها من الدول علي مختلف نظمها وأشكالها ولغاتها وأجناسها.

ولذا قيل: كان محمد صلي الله عليه و اله قيصراً وكان مسيحاً عليه السلام في وقت وأحد إن صح هذا التعبير والمقصود منه أنه صلي الله عليه و اله كان يدير أمر الدنيا والآخرة معا.

وهناك شاهدان من التاريخ من أن الدين والمذهب ليس فقط يؤثر تأثيراً في المجتمع والحياة، بل نراه بشكل واقعي واضح للعيان يأتي بالقدرة ويشكل الحكومة العادلة ومثل هذه الحكومة هي عين الديانة، بل تعتبر أصل الحياة، تلك الحكومة التي يقل نظيرها في تاريخ البشرية، فكانت تدير المجتمع بقوانين السماء العادلة وبأصول ديمقراطية صحيحة.

فقد كتب المفكر (نهرو) رئيس وزراء الهند في كتابه (نظرة في تاريخ العالم) عن الحكومة العادلة لنبي الإسلام صلي الله عليه و اله في المدينة قائلاً:

"نادي الإسلام بالأخوة والمساواة لكل الذين أسلموا، فأوجد نظاماً ديمقراطياً للناس، وهذا الشعار الأخوي الإسلامي لو قايسناه بالمسيحية الفاسدة في ذلك الزمان، ليس فقط للعرب بل لأناس كثيرين من دول أخري يدخل عليهم المسلمون، نجده يشدهم إليه ويجذبهم إليه جذباً".

فقد سن نبي الإسلام صلي الله عليه و اله الآداب الاجتماعية والتعاليم الدينية والحقوقية والمساواة وتحكيم الروابط الأخوية والقوانين العادلة وحقوق الحاكم والمحكوم وروابط الدولة والأمة والسنن والأنظمة الحياتية والاقتصادية بإلهام من الوحي والقرآن، فكان صلي الله عليه و اله أول من

وضع أسس التمدن الحضاري التي لم يقتصر أثرها علي المسلمين الذي بلغوا مراتب التهذيب والكمال المعنوي فحسب، بل شملت أسس المجتمع الحر والديمقراطي إلي هذا اليوم.

وليس كما يتصور البعض بأن التمدن الإسلامي قد حصل أيام حكومة بني أمية وبني العباس، بل يرد هذا التصور الخاطئ بسببين، هما:

1: إن مؤسس التمدن الإسلامي هو نبي الإسلام صلي الله عليه و اله الواضع لأسسه والمشيد لأركانه.

2: إن بني أمية وبني العباس قد حرّفوا التمدن الإسلامي وأخرجوه عن محتواه وإطاره الذي كان في صدر الإسلام وفي أيام الرسول صلي الله عليه و اله.

3: ما ظهر من التقدم في زمانهم كان ببركة التعاليم الإسلامية وما سنه رسول الله صلي الله عليه و اله والفضل لا يعود إلا إلي الإسلام.

ولادة الأمة الواحدة

جاءت الحركة الإسلامية بشكل جديد، وجعلت من المجتمعات المتفكّكة مجتمعاً وأحداً منسجماً متعاونا، وأوجدت خطاً سياسياً منيراً، و كانت هذه الحركة تحت قيادة الرسول الأعظم النبي محمد صلي الله عليه و اله.

ومن أمعن النظر في تاريخ النبي صلي الله عليه و اله وجد أن هذه الحركة الاجتماعية كانت ضرورة أرادها الله تعالي، وذلك بأن يبعث نبياً صادقاً أميناً يوجد أمة واحدة ومجتمعاً كبيراً منسجماً بعد أن كان متفككاً.. ويحدث تحولاً عظيماً نحو الخير والسعادة.

هذه الأمة التي تحولت من عبادة الأوثان والأصنام إلي عبادة الواحد القهار، هي التي وصفها أمير المؤمنين علي عليه السلام في (نهج البلاغة) بقوله:

"فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل (عليهم السلام) فما أشد اعتدال الأحوال وأقرب اشتباه الأمثال تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم، ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم يجتازونهم عن ريف الآفاق وبحر العراق وخضرة الدنيا إلي منابت الشيح ومهافي الريح ونكد المعاش فتركوهم

عالة مساكين إخوان دَبَر ووَبَر، أذل الأمم داراً وأجدبهم قراراً، لا يأوون إلي جناح دعوة يعتصمون بها، ولا إلي ظل ألفة يعتمدون علي عزها، فالأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة، في بلاء أزل، وأطباق جهل، من بنات موؤودة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة"().

الأديان في الجاهلية

يقال: إن عدة من محلة النخلة القريبة من مكة جاءوا إلي نخلة كثيرة التمر، وكان تمرها يتساقط إلي الأرض، فقاموا بتنظيفها وجمع التمر المتساقط وذلك ليقيموا احتفالا إحياءً وتعظيماً للصنم "عزي" معبود العرب جميعاً الا من عصمه الله وخاصة قريش منها، وفي هذه الأثناء قال رجل فهم لأصحابه وإخوته: والله، إن قومكم ليسوا علي شيء، وأنهم ضلوا وأضلوا، إن هذا الحجر الذي نصنعه لا يضر ولا ينفع، ولايسمع ولا يري، العجب منهم أنهم يريقون الدماء من القرابين علي رأسه، أيها الناس! تفرقوا عن هذا الجمع، واتخذوا ديناً غير هذا الدين الذي أنتم عليه واعتقدوا به.

ثم تفرق ذلك الجمع، واتخذ كل وأحد منهم رباً له ومعبوداً:

فعدة منهم: تحولوا إلي المسيحية، كان منهم (ورقة بن نوفل) ومعه جماعة.

وأعرض فريق منهم عن الأصنام وعبادة الأوثان وتركوا الأهل والصحب والديار.

والقسم الآخر بقي منتظراً خروج يد من الغيب حتي يقرر مصيره، فلما سمعوا نداء الإسلام ودعوة النبي محمد صلي الله عليه و اله أسلموا ولبوا.

أما بنو هاشم، وزهرة، وتيم، فقد عاهدوا الله المنتقم الجبار أن يكونوا مع المظلوم، حتي يأخذوا حقه ممن ظلمه، وهذا العهد هو ما يسمي ب"حلف الفضول" الذي دخله النبي محمد صلي الله عليه و اله وهو في سن العشرين، وأقسم أن يدفع الظلم وينشر العدالة الاجتماعية، وقال صلي الله عليه و اله في ذلك:

(ما أحب أن يكون لي بحلف حضرته في دار

ابن جَدْعان حُمُر النعم).

وفي هذا الحلف أنشدت الأشعار..

ومنها: قول ابن الزبير:

إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا

ألا يقيم ببطن مكة ظالم

أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا

فالجار والمعسر فيهم سالم

تقبل العرب للإسلام

أحياناً يطرح هذا السؤال: لماذا ظهر الإسلام وهو أحد الأديان العالمية عند العرب؟

ولماذا اختير نبي الإسلام صلي الله عليه و اله من بين قوم بدو؟

إذا بحثنا تاريخ الأعراب قبل الإسلام بشكل عميق سنحصل علي الجواب.

قال ابن خلدون:

بنت الأعراب من العصبية القبلية قوة اجتماعية ووحدة متماسكة، وكانت فاقدة للقيادة والقانون فقط، فجاء الإسلام بهذين السلاحين: فالقيادة متمثلة بنفوذ وشخصية محمد صلي الله عليه و اله والقانون متمثل بوحي السماء وهو القرآن، فبلغوا بهما أي القيادة والقانون قمة التمدن والوحدة المنسجمة المنشودة.

وكان العرب أقواماً بعيدين عن الثقافة والتمدن، أسري الأهواء الجاهلية، وفاقدي النظام، أما قوتها فكانت من جراء مقاومة الطبيعة، نشأت علي الجوع والمشقة، وتحمل البرد والحر، وكانت علي الدوام لها حروب طاحنة مع القبائل الأخري، تدافع عن نفسها وشرفها، ولها حملات مستمرة، واستفادت من شجاعتها وتهورها، وكانت رابطة القرابة والعصبية فيما بينها قوية جداً، وكانوا بعيدين عن التجملات والانشغال بعبادة الملذات والشهوات، وكانوا أقرب إلي الفطرة، وأما بالنسبة للاعتبارات الأخلاقية: كالشجاعة، والحمية، والوفاء بالعهد والقسم، والدفاع عن المواثيق حتي مواثيقهم، والعصبية بكل محتواها وأبعادها فقد كانت هي المسيطرة والحاكمة.

لم تستبد بمدينة معتبرة، ولم تجامل أحداً ولو كان عابداً، أو شبعاناً، أو يرتدي الملابس الثمينة، وتغلب عليهم الصراحة في اللهجة يتصفون بالكرامة والشجاعة الصحراوية والبساطة.

هذه الأبعاد والخلقيات هي التي أهلتهم لقبول الرسالة العالمية لرجل مثل النبي صلي الله عليه و اله، وقانون مثل القرآن، نعم إن العرب أسرعوا إلي قيادة محمد صلي الله عليه و اله وانضموا تحت لوائه، فبرزوا إلي الوجود كأمة

كبيرة تحمل رسالة عالمية وذلك ببركة الإسلام.

أسباب التغيير الاجتماعي

قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: (فانظروا إلي مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولاً فعقد بملته طاعتهم، وجمع علي دعوته ألفتهم، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها، وأسالت لهم جداول نعيمها، والتفت الملة بهم في عوائد بركتها، فأصبحوا في نعمتها غرقين وعن خضرة عيشها فكهين، قد تربعت الأمور بهم في سلطان قاهر، وآوتهم الحال إلي كنف عز غالب، وتعطفت بهم الأمور عليهم في ذري ملك، ثابت فهم حكام علي العالمين، وملوك في أطراف الأرضين، يملكون الأمور علي من كان يملكها عليهم، ويمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم)()، الخبر.

ولا شك أن السبب الرئيسي والوحيد في التغيير الاجتماعي للمجتمع الجاهلي يومذاك هو العامل المعنوي والثقافي والأيديولوجي، فرسول الله محمد صلي الله عليه و اله نبي الإسلام بإعطاء هذه الإيديولوجية الإلهية جعل من السراق الصحراويين علي حد تعبير رستم القائد الإيراني، من برزوا إلي الوجود كمسلمين طاهرين، من أمثال أبي ذر الغفاري (رضوان الله تعالي عليه).

النواة الأولي

كانت البعثة وظهور نبي الإسلام صلي الله عليه و اله بداية هذا التحول، وكان صلي الله عليه و اله قبل أن يبلغ دعوته بمدة قد ترك الحياة الدنيا ولذاتها، وأدار بوجهه عنها، كما فعل من قبله الأنبياء الصادقون عليهم السلام: كنوح، وإبراهيم، وموسي، وعيسي عليهم السلام.

فان في المدرسة السماوية التوحيدية لابد للمصلحين الاجتماعيين ولأنبياء الله تعالي وقبل أن يقوموا بإبلاغ دعوتهم أن يقلعوا عن الماديات حتي يستلهموا من إشراق نورانية الوحي الإلهي، ويكون طعامهم المعنوي مشاهدة نور المعرفة، كما حصل لنوح عليه السلام من العناية الربانية في إنقاذ نفسه وشيعته، (أي أصحابه) ولإبراهيم عليه السلام مشاهدة ملكوت السماء، ولموسي من التجلي الإلهي، ولعيسي عليه السلام في الإصغاء للنداء السماوي وحتي

قيل (بوذا) استلهم الإشراق من شجرة بودهي وكذلك رسول الله محمد الأمين صلي الله عليه و اله في تأدية رسالته وصل إلي هذا المرحلة، وانتخب أولاً ترك الدنيا وملذاتها، وكان صلي الله عليه و اله يخلو مع نفسه في ذهابه ومجيئه مشغولاً بالعبادة، وتحمل صلي الله عليه و اله مسؤولية كبري بأمر الله تعالي حين خاطبه بقوله: ?اقرأ باسم ربك الذي خلق?() إلي آخر السورة.

نعم كانت البعثة نقطة الإشراق وبداية الرسالة والمسؤولية، وكان النبي محمد صلي الله عليه و اله قد قام بتشكيل أول مجتمع إسلامي يضم نفسه وزوجته خديجة بنت خويلد? وابن عمه علي بن أبي طالب عليه السلام وحين كان حدث السن.

فكان هذا المجتمع علي خلاف ما كان مألوفاً من سنة الكهنة في المجتمع الجاهلي عبدة "هبل" والأوثان الذين تعرضوا للسخرية والاستهزاء.

وهكذا شكل الرسول صلي الله عليه و اله مجموعة موحدة مؤلفة من ثلاثة أشخاص علي مرأي ومسمع من قريش.

وقد وصف الإمام علي عليه السلام ذلك اليوم بقوله:

(ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلي الله عليه و اله وخديجة، وأنا ثالثهما، أري نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة)()، الخبر.

الدعوة الموفقة ودور أبي طالب عليه السلام

ذكر المؤرخون أسماء عدة من الصحابة في الصدر الأول، الذين دخلوا الإسلام ولبوا دعوة النبي صلي الله عليه و اله، وقد عرفت هذه المجموعة المؤمنة والجماعة الموحدة في المجتمع المكي وكانت شاخصة للعيان.

ولما أمر الله سبحانه رسوله صلي الله عليه و اله أن يصدع بما أمر به() قام صلي الله عليه و اله بإظهار دين الله ودعا الناس إلي الإسلام علي رؤوس الأشهاد وذكر آلهة قريش وعابها، فأعظمت ذلك قريش وأنكروه وأجمعوا علي عداوته وخلافه وأرادوا به السوء، فقام أبو

طالب عليه السلام بنصرته ومنعه منهم وذب عنه من عاداه وحال بينه وبين كفار قريش بأحسن صورة.

ولمحاماة أبي طالب عنه صلي الله عليه و اله وقيامه دونه وامتناعه من أن يسلّمه وإيمانه به، مشي إليه رجال من أشراف قريش، منهم: عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، وأبو سفيان صخر بن حرب، وأبو البختري بن هشام، والأسود ابن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمثالهم من رؤساء قريش، فقالوا له: يا أبا طالب! إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آراءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه.

فقال لهم أبو طالب عليه السلام قولاً رقيقاً وردهم رداً جميلاً، ولم يرض بما أرادوا فانصرفوا عنه.

ومضي رسول الله صلي الله عليه و اله علي ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه، فوقع التضاغن في قلوبهم حتي أكثرت قريش ذكر رسول الله صلي الله عليه و اله بينها وتذامروا فيه وحض بعضهم بعضاً عليه، فمشوا إلي أبي طالب() مرة ثانية، فقالوا: يا أبا طالب! إن لك سناً وشرفاً ومنزلةً فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا والله لا نصبر علي شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، فإما أن تكفه عنا أو ننازله وإياك حتي يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا.

فعظم علي أبي طالب عليه السلام ذلك ولم تطب نفسه بخذلان ابن أخيه، وذلك لإيمانه العميق برسول الله صلي الله عليه و اله فبعث إليه فقال له: يابن أخي إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي: كذا وكذا.

فقال صلي الله عليه و اله: يا عم! والله، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في

شمالي علي أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتي يظهره الله أو أهلك فيه().

ثم استعبر صلي الله عليه و اله باكياً وقام وخرج، فلما خرج ناداه أبو طالب عليه السلام: أقبل يابن أخي.

فأقبل صلي الله عليه و اله راجعاً.

فقال له: اذهب يابن أخي! فقل ما أحببت، فوالله لا أسلّمك لشيء.. أبدا، وأنشد أبو طالب عليه السلام():

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتي أوسد في التراب دفينا

فانفذ لأمرك ما عليك مخافة

وأبشر وقر بذاك منك عيوناً

ودعوتني وزعمت أنك ناصحي

ولقد صدقت وكنت قبل أمينا

وعرضت ديناً قد علمت بأنه

من خير أديان البرية ديناً

وهناك أدلة وشواهد كثيرة علي إيمان أبي طالب عليه السلام، مذكورة في مظانها().

هجرة في طريق العقيدة

قد يطرح هذا السؤال وهو: لماذا اختار النبي محمد صلي الله عليه و اله هجرة أصحابه إلي الحبشة؟

وللإجابة علي هذا السؤال لابد من ذكر بعض النقاط الدينية والسياسية:

1: لم يؤيد رسول الله صلي الله عليه و اله) هجرة أصحابه إلي اليمن، لأنه كان علي علم من أن اليمن كانت تحت نفوذ وسيطرة الدولة الساسانية، إضافة إلي عدم الاستقرار والأمن السياسي فيها، وتأثيرات عبدة الأوثان والزردشتيين فيها من خلال نفوذ السلطة الساسانية.

2: وهذه الموارد في اليمن تصدق علي العراق أيضاً.

3: وأما بالنسبة إلي الشام فبالإضافة إلي الاضطراب السياسي فيها، كانت لها روابط تجارية مع قريش، ويمكن للحكام والمتنفذين وبأسرع وقت أن يثوروا علي المسلمين ويلقوا عليهم القبض ثم يعذبونهم أو يقتلونهم.

4: ومن الطبيعي أن يكون الانتخاب الصحيح هو الحبشة، لأن الحبشة في زمان رسول الله صلي الله عليه و اله كان الأمن فيها ثابتاً، والاستقرار السياسي موجوداً، وكان ملكها (النجاشي) ذا حكمة ومتانة وثبات رأي وشهرة، إضافة إلي قرب الحبشة من مكة المكرمة، ولم يفصلها عنها إلا

بعض البحار، ويستطيع المسلمون من الهجرة إليها أو الرجوع منها علي وجه السرعة..

بالإضافة إلي أن الحبشة كانت مسيحية والمسلمون يحترمون دين المسيح عليه السلام، وكان النبي صلي الله عليه و اله مطمئناً بأن أصحابه وأتباعه يمكنهم من المهاجرة إلي بلاد الحبشة بكل هدوء وراحة، بدون تعرض لمشقة أو أذي، ومنها كان الانتخاب الصحيح: الحبشة، فأمر صلي الله عليه و اله بهجرة أصحابه الي الحبشة..

سفير الرسول صلي الله عليه و اله إلي النجاشي

المهاجرون إلي الحبشة بقيادة جعفر بن أبي طالب (عليهما السلام) تذاكروا مع النجاشي ملك الحبشة، وكان الملك شخصية مرموقة وحاكماً عادلاً.

فتكلم جعفر عليه السلام وقال له: أيها الملك! كنا أهل جاهلية لا نعرف الله ولا رسله، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، وكنا علي ذلك حتي بعث الله رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلي الله تعالي لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام وكل ما يعرف من الأخلاق الحسنة، ونهانا عن الزنا والفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وكل ما يعرف من السيئات. تلا شيئاً يتلي لا يشبهه شيء..

فصدقناه وآمنا به، وعرفنا أن ما جاء به هو الحق من عند الله، فعبدنا الله وحده لا شريك له، وحرمنا ما حرم الله علينا، وأحللنا ما أحل لنا، ففارقنا عند ذلك قومنا، فآذونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلي عبادة الأوثان وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا، وبلغنا ما نكره ولم نقدر علي الامتناع، أمرنا

نبينا صلي الله عليه و اله أن نخرج إلي بلادك اختيارا لك علي من سواك، ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.

فقال لهم النجاشي: هل معكم مما جاءكم به عن الله تعالي شيء؟

فقال له جعفر صلي الله عليه و اله: نعم.

قال: فاقرأ عليّ؟

فقرأ عليه صدراً من ?كهيعص?().

فبكي النجاشي حتي اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتي اخضلت لحاهم ومصاحفهم، ثم قال: والله، إن هذا الكلام هو الكلام الذي جاء به عيسي عليه السلام ليخرجان من مشكاة واحدة.

وهكذا باءت خطة قريش بالفشل، وبقي المهاجرون في الحبشة حيث الطمأنينة وحسن الجوار والسمعة الطيبة للإسلام العظيم، بسبب روح الالتزام الخلقي الذي أبداه المهاجرون في وطن الهجرة.

الأنبياء عليهم السلام وتحمل الصعاب

إن الأنبياء الإلهيين عليهم السلام كانوا صورة مجسدة للحب الإلهي، ولماذا لا يكونون كذلك؟ وهم قد بلغوا بنظرتهم العميقة الشاملة حداً سامياً من المعرفة الإلهية.. فعرفوه تعالي أكثر من غيرهم ورأوا أن عظمته وجلاله أسمي وأعظم من أي شيء آخر، وعلموا بأنه تعالي أهل المحبة والطاعة فلم يكن لهم في حياتهم إلا أن يحققوا رضاه، ولم تتعلق قلوبهم إلا به وكل شيء لديهم فداء له… فهم علي وعيٍ متكامل بعظمة معبودهم وجلاله.

ولهذا السبب فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا في المجال التبليغي يتقبلون التعرض لكل المشاكل والحوادث الصعبة، وتراهم في أغلب الأزمات الشديدة يتوجهون بوجه طلق ملؤه الخضوع والاطمئنان والاجلال إلي الله تعالي… وتغمر أرواحهم هالة من سرور، إذ يتصورن أن كل تلك المتاعب إنما هي في سبيل الحبيب الواقعي.. في سبيل الله.. في سبيل الحق والحقيقة.

وهذا السنة الاجتماعية هي عين السنة الإلهية التي لا تتغير فيحالفها التوفيق والنجاح بعد المشقة والعسر والحرج، قال تعالي: ?فإن مع العسر يسرا ? إن مع

العسر يسرا?().

ومع أن نبي الرحمة صلي الله عليه و اله كان يري الأذي والعذاب من قومه إلا أن خصلته النبوية ونفسيته العظيمة أبت إلا أن يطلب من الله تعالي لهم الرحمة والهداية، كما عبر صلي الله عليه و اله عن ذلك بقوله:

(اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)().

وقال تعالي: ?وانك لعلي خلق عظيم?().

بيعة العقبة

وفي السنة الحادية عشرة من البعثة النبوية الشريفة جاء جمع من أهل يثرب والذين سموا فيما بعد ب(الأنصار) إلي مكة المكرمة لأداء مراسم الحج، فالتقوا بالنبي صلي الله عليه و اله في عقبة مني فهداهم الله إلي الإسلام والتوحيد، فبايعوا النبي صلي الله عليه و اله من صميم قلوبهم وعاهدوه أن يكونوا تبعاً له ولا يخالفون له أمراً..

فأرسل النبي صلي الله عليه و اله إليهم (مصعب بن عمير) ليقرأ لهم القرآن ويعلمهم مبادئ الإسلام..

فأخبر مصعب النبي صلي الله عليه و اله من المدينة: بأن أرض يثرب مناسبة للعيش فيها ولنشر الدعوة الإسلامية منها، وكل يوم يزداد عدد الذين يدخلون في الإسلام طوعا، من دون ضغوط أو تعذيب يواجهونه من المخالفين.

فاستبشر النبي صلي الله عليه و اله سيما وأن اليثربيين قد واعدوه: لو أن الله تعالي وحدهم بسببه فسيكون عزيز الجانب.

معاهدة العقبة الثانية

وفي السنة التي بعدها، أي السنة الثانية عشرة من البعثة المباركة، وهي سنة (622م) زاد عدد الزوار اليثربيين، وكان من بينهم (75) من المسلمين: (73) من الرجال و(2) من النساء، ودعوا رسول الله ان يهاجر اليهم.

فوجد النبي صلي الله عليه و اله المدينة أرضاً صالحة لإبلاغ دعوته السماوية، فعقد معاهدة مع اليثربيين علي أن يكون المسلمون في أمان دون أن يلحقهم أذي المشركين واضطهادهم إن لجئوا إليهم.

فأخذ (البرآء بن معرور) يد النبي صلي الله عليه و اله وقال: والذي بعثك بالحق لندافعن عنك كما ندافع عن أنفسنا وأهلنا، يا رسول الله! فنحن رجال حرب مجربون، وهذا سلاحنا الذي بأيدينا قد ورثناه من آبائنا جيلاً بعد جيل.

ثم قال صلي الله عليه و اله: انتخبوا منكم اثني عشر رجلا لينظروا في مشاكلكم، ورأيهم يكون حجة لكم.

فحضر ممثلو

الأنصار وكان تسعة منهم من خزرج وثلاثة من الأوس عند رسول الله صلي الله عليه و اله، وأسماؤهم مسجلة في التاريخ.. فكانت بيعة العقبة الثانية.

لماذا أقدم النبي صلي الله عليه و اله

علي التشكيلة السياسية للدولة

وهنا من الممكن أن تطرح بعض الأسئلة الأساسية في تبيين الإسلام وتكوين دولة النبي صلي الله عليه و اله، منها:

1: لماذا أقدم النبي صلي الله عليه و اله علي السياسة؟

2: لماذا انتصر الإسلام في المدينة المنورة دون مكة المكرمة؟

3: ما هي موانع تقدم الإسلام في مكة المكرمة في ابتداء البعثة.

وقبل الإجابة علي هذه الأسئلة يتبادر إلي الذهن سؤال آخر ينبغي الابتداء به والإجابة عليه، وهو: انه هل كان في ذهن رسول الله صلي الله عليه و اله في بدء الدعوة هذا الطرح الحكومي النظري؟ أو أن الإسلام هو دين التبليغ للتوحيد والوعد بالآخرة فقط.

إن النبي صلي الله عليه و اله لم يبعث كبعض الأنبياء (عليهم السلام) يبلغون التوحيد الإلهي والبشارة بالآخرة فقط، بل بعثته كانت أشمل ودينه كان خاتما للأديان فلم تكن الحكومة بما هي هي، هي كل شيء في نظره صلي الله عليه و اله لكن كان دينه دنيا وآخرة وكان لازماً لرسالته أن يشكل مثل هذه الحكومة المباركة التي أسسها في المدينة المنورة وأن يطرح مثل هذا البرنامج المثالي للعالم بأجمعه، وهناك شواهد لإثبات هذا المطلب، منها:

1: قوله صلي الله عليه و اله: (يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا()، وتملكوا به العرب، وتذل لكم العجم، وإذا آمنتم كنتم ملوكاً في الجنة).

2: نقل ابن إسحاق، عن الزهري قال: فحينما أسلم بنو عامر علي يديه صلي الله عليه و اله قال له أحدهم: أرايت إن نحن بايعناك علي أمرك، ثم أظهرك الله علي من خالفك، أيكون لنا

الأمر من بعدك؟ فقال صلي الله عليه و اله: الأمر إلي الله يضعه حيث يشاء().

فالإسلام من بدء الأمر كان يهتم بمسألة الحكومة والتشكيلات الاجتماعية وكانت هذه موجودة في برنامج النبي صلي الله عليه و اله وذلك لأن الإسلام دين للدنيا والآخرة كما سبق قال تعالي: ?ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار?()، وقد وعد صلي الله عليه و اله ذلك بقوله: (لو أسلم العرب ملكوا الدنيا)().

ونبي الإسلام صلي الله عليه و اله كما كان مصلحاً اجتماعيا فقد كان نبياً، ومن أهدافه أن يبعد الحرج والمشقة والعسر عن المجتمع، فيعطيهم الحريات الإسلامية الكثيرة ويحل لهم الطيبات، وينهي عن المنكرات والخبائث، ويحقق العدل الاجتماعي، ويزيل التمايز العدواني، ويمحيه من الوجود.. قال تعالي في وصفه صلي الله عليه و اله: ?ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم?().

سبب تقدم الإسلام في المدينة

في المدينة المنورة كان الناس يدافعون عن النبي محمد صلي الله عليه و اله، وكانت لهم معرفة بالمفاهيم الأساسية للإسلام ويؤمنون به:

كاعتقادهم بأن الله سبحانه خالق الكون، وإله العالم، وهو الحاكم يوم القيامة، وأن محمداً صلي الله عليه و اله هو نبي الله وخاتم المرسلين ويحمل الرسالة الإلهية إلي العالم بأجمعه و …

وذلك لأن اقتباس وأخذ المعارف والثقافات لمجتمع من مجتمع آخر يستلزم دائماً وجود الشرائط الاجتماعية التي تعتبر هذا الأمر إيجابياً، فيمكن أن يتلاءم وينسجم من هذا الوجه، ومن الممكن في الثقافتين من وجهة نظر الموقع الجغرافي أن تؤثر إحداهما علي الأخري لتماسهما وقربهما من الأخري، فالمعارف العالية والثقافة الجيدة وخاصة التعاليم الإسلامية التي كانت مطابقة لفطرة الإنسان، لها تأثيراتها المباشرة في الثقافة المنحطة، وهكذا أثرت ثقافة الإسلام في ثقافة أهل المدينة.

كان (سويد بن صائب) من

كبار يثرب، وكان يسمي ب(الكامل) لذكائه وشرفه ونسبه، قيل: إنه قبل أن يلتقي بالنبي صلي الله عليه و اله جاء مع المدنيين إلي مكة لأداء الحج، وبعد أن فرغ من أعمال الحج، رآه النبي صلي الله عليه و اله) ودعاه إلي الله والإسلام.

فقال سويد: الشيء الذي عندك مثل الذي عندي.

فقال النبي محمد صلي الله عليه و اله: وما هو الشيء الذي عندك؟

فقال سويد: حكمة لقمان.

فقال رسول الله صلي الله عليه و اله: أرني إياها.

فعرض سويد علي النبي صلي الله عليه و اله ما يعرفه من حكم لقمان.

فقال صلي الله عليه و اله: هذا الكلام لطيف، ولكن أجمل منه ما هو عندي، إنه القرآن الذي أنزله الله علي، وفيه النور والهداية.

ثم قرأ صلي الله عليه و اله بعض الآيات من القرآن الكريم لسويد بن صائب، ودعاه إلي الإسلام.

وما أن سمع سويد ذلك حتي نفذ إلي قلبه وقال: هذا شيء حسن، وأخذ يفكر، ثم أسلم.

وهكذا أخذ الإسلام يغزو القلوب، بالحكمة والموعظة الحسنة، لا بالسيف والقهر.

بدء الإسلام في مكة المكرمة

وهنا يمكننا أن نقول: إن الوضع الروحي والثقافي بل والاقتصادي لأهل مكة كان هو السبب الرئيسي في عدم تقبلهم الإسلام في بدء الأمر، وسنشير إلي بعض العوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية المتعلقة بذلك:

1: أشار القرآن الكريم إلي عدم قبول دعوة الحق من قبل عرب الجاهلية، بدليل وجود عامل التعصب، والروح العصبية المتحكمة فيهم، فقال عز من قائل: ?إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية?().

وقال سبحانه في موضع آخر: ?وإذا قيل لهم تعالوا إلي ما أنزل الله وإلي الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا?().

وقد وصف الشاعر الجاهلي هذا التعصب بقوله:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات علي ما قال برهاناً

2: في

مجتمع الحجاز كان التبليغ والرواج لأي نوع من المذاهب والأديان عملا ً يواجه الرفض عادة فكانوا عبدة الأوثان، وكان هناك من الأعراب من يقول بمذهب الزنادقة والطبيعيين: ?وما يهلكنا إلا الدهر?().

حتي أن التاريخ قد روي عن قبيلة بني حنيفة أنها كانت تصنع لها رباً من التمر، وتبقي مدة تعبد هذا الرب التمري ولكن عندما كان يصيبها القحط وكانت تشرف علي الهلاك من الجوع تأكله، وفي هذا الصدد يقول الشاعر:

أكلت حنيفة ربها

زمن التقحم والمجاعة

ومن جانب آخر كان بين المشركين من بقايا دين إبراهيم عليه السلام: كالنكاح، والختان، ومناسك الحج، واحترام الأشهر الحرم، وبعض الآداب الدينية، وفي مقابل هذا جاءت مجموعة من الغلاظ الجفاة الجامدين فكانوا لا يخرجون من الحرم المكي، ولا يقفون مع الناس في عرفات، ويقولون: نحن أبناء الله! ولنا أن لا نخرج من حرمه.

3: والعامل الاجتماعي والاقتصادي: هو خسران الرياسة والتجارة، فالكعبة أو الأوثان المتعددة بالنسبة لقريش هي رمز لوحدة العرب ووسيلة لرياستها علي قبائل العرب الأخري.

بالإضافة إلي أن مكة المكرمة كانت مركزاً تجارياً مهماً للعالم في ذلك الوقت، فقريش التي تسافر للتجارة سفرتين إلي الشام واليمن رحلة الشتاء والصيف جعلت من مكة مركزاً تجارياً مهماً، كما أقامت سوقاً تجارياً لكل فصول السنة، خصوصاً أيام الحج.

ولذا كانوا يتصورون انهم إذا آمنوا بالرسول صلي الله عليه و اله تسقط مكانة مكة الاجتماعية والتجارية.

الهجرة المباركة

حينما هاجر النبي صلي الله عليه و اله من مكة المكرمة قاصداً المدينة المنورة، كان اليثربيون يترقبون لقاء رسول الله صلي الله عليه و اله بكل شوق ولهفة ويعدون اللحظات لذلك اللقاء.

فلما أبلغهم أحد اليهود والذي شاهد النبي صلي الله عليه و اله: بخبر قدوم النبي صلي الله عليه و اله، استبشروا بذلك

كثيرا وفرحوا شديدا واجتمعوا فرساناً ورجالة مبتهجين بقدوم النبي صلي الله عليه و اله وقاموا بإنشاد الأشعار، واحتفي به الفتيان والشبان معبرين عن فرحتهم بقدوم النبي صلي الله عليه و اله، واخذوا يهتفون:

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع

الأرضية الصالحة لتشكيل الدولة

يري المفكرون من رجال القانون والسياسة أنه من الضروري واللازم لتشكيل الدولة: وجود وتوفر بعض الشروط التي هي العناصر الأساسية لتشكيل الحكومات، فمنها:

1: الجمعية (الأمة).

2: التراب والماء والفضاء.

3: الكادر السياسي.

ثم إنه مهما يكون دخيلا في مبدأ ومنشأ الأمة والدولة: كالاحساسات والمنافع المشتركة، فالحياة المشتركة والتعاون بين الأفراد تأتي من تأثير عامل أو مجموعة عوامل، منها:

1: الولادة المشتركة من أب وأحد.

2: اللغة.

3: المذهب.

4: الآمال المشتركة.

5: الموقع الجغرافي والتجمع السكني الواحد.

6: المتطلبات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المشتركة.

وهذه كلها كانت متوفرة في (المدينة المنورة) بالنسبة إلي العرب القاطنين فيها وخصوصا بعدما اعتنقوا دين الإسلام، فكانت هناك أرضية صالحة أوجدها رسول الله صلي الله عليه و اله للحكم الإسلامي ولتشكيل الدولة الاسلامية.

سكان المدينة الأصليين

كانت تعيش في (يثرب) مجموعتان من الناس، هما: العرب وبعض اليهود، ولكل منهما روابط مختلفة حسب العصور المختلفة كأيام الحرب وأيام الصلح.. وكانت روابط هذه الطوائف مع بعضها وتحولاتهم الاجتماعية والسياسية بفعل انتصار النبي صلي الله عليه و اله أدت إلي انتقال المسلمين المؤمنين من مكة المكرمة إلي المدينة المنورة، وكانت خطوة مهمة جداً في تاريخ المدينة.

هجرة بعض اليهود إلي المدينة

لم يحدّث التاريخ علي وجه التحديد كيف هاجر بعض اليهود إلي المدينة وفي أي زمان؟

فقيل: إن هجرة بعض اليهود إلي المدينة كانت سنة (139م) وهي السنة التي اندحر فيها ملك الروم.

والظاهر إن كثيرا من اليهود كانوا يعرفون بأن خاتم الأنبياء سيأتي إلي المدينة ويقطن فيها، فجاؤوا وسكنوا في المدينة ليؤمنوا به، ولكنهم عندما عرفوه لم يؤمنوا به، نعم آمن منهم الكثير. وعلي أي حال فهؤلاء اليهود اتخذوا من المدينة مسكنا لهم، واشتغلوا بالزراعة وغرس الأشجار في القصبات، وكان عملهم الدائمي هو التجارة وأكل الربا.

تاريخ قبيلتي الأوس والخزرج

كما لم يعلم بالضبط متي وكيف دخلت قبيلتا (الأوس) و(الخزرج) وهما قبيلتان عربيتان من عرب اليمن القحطانية (يثرب).

لكن قيل: إن مجيئهم إلي المدينة كان بعد انهدام سد مأرب وخراب اليمن، فقطعوا مراحل من الجنوب حتي وصلوا الشمال ويثرب، وسكنوها لطيب هوائها وعذوبة مائها وكثرة الماء في نقاطها المختلفة، كما أن البعض الآخر من عرب القحطانية أوجدوا دولاً أخري كالغسانيين في الشام، وآل منذر في العراق، ودولة كندة في نجد.

كانت يثرب وتهامة تدفع ضرائبها إلي المرزبان الممثل السياسي للدولة الإيرانية، ولكن اليهود امتنعت من تسليم الضرائب للمرزبان، ولم تكتف بهذا فقط، بل أخذت تضغط علي العرب وذهبت إلي استلام الضرائب المالية من عرب يثرب، وقد وصف الحالة بعض شعراء الأنصار، بقوله:

لا دنيا خراجاً بعد كسري

إلي رهطي قريظة والنضير

واستمر الوضع علي هذه الحالة إلي أن تكررت الهجرة من الأعراب إلي يثرب فازداد عدد نفوسها، ونشئوا البساتين وأثبتوا واقعهم، ولكن اليهود كانت لهم طلبات زائدة وكانوا يضيقون علي جيرانهم.. ومع وجود المواثيق والعهود بين العرب واليهود لكن اليهود كانوا يبدؤون بالحرب ويشتعلون نار الفتنة دائما.

إلا أن الأعراب وبإشارة من قائدهم مالك بن عجلان الخزرجي

تمكنوا من إقامة روابط مع ملوك الغسانيين في الشام، وطلب المساعدة لمواجهة العدو، واستطاع مالك أن يجعل من قبيلتي الأوس والخزرج قوة عظيمة في مقابل اليهود، كي يمنعوهم من التعدي علي الآخرين.

هذا وعندما أسلم العرب وصاروا قوة عظيمة جدا وذلك ببركة الإسلام لم يبق لليهود قوة في المدينة.. فإن كثيرا منهم اسلموا وصاروا من ضمن المسلمين وبقي بعضهم علي دينهم وكانوا يحاربون رسول الله صلي الله عليه و اله ويعملون ضد المسلمين.. حتي انه كانت هناك جماعة في الأوس من المنافقين قد تحالفوا مع اليهود، وأخذوا يعملون ضد المسلمين، لذا وصفهم الله تعالي في كتابه الكريم، بقوله: ?ألم تر إلي الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم ?().

ومن الحوادث التي وقعت قبل الإسلام، الحروب الطاحنة في الجاهلية التي أدت إلي سفك الدماء، والخراب والدمار، وتعرف تلك الحروب، بأيام العرب كما جاء في تاريخ العصر الجاهلي.

فاستمرت الحرب بين الأوس والخزرج (120) عاماً، وأشار اليعقوبي وغيره من المؤرخين إلي أهم أيام الحرب بين القبيلتين حسب الترتيب:

1: يوم صفية.

2: يوم سرارة.

3: يوم بني خطمة.

4: يوم بعاث.

5: يوم فجار.

التحولات الأساسية في مجتمع المدينة

لم يكن النبي صلي الله عليه و اله نبياً مصلحاً فحسب، بل كان قائداً اجتماعياً وزعيماً سياسياً، فإلي جنب تبليغ رسالته، كان عليه حل المشكلات، وقد رأي النبي صلي الله عليه و اله ضرورة التحول الاجتماعي في المدينة المنورة فقام بحل المسائل التالية:

1: تعيين حقوق ووظائف شخص الرسول الأكرم صلي الله عليه و اله، وكذلك تعيين حقوق ووظائف الساكنين المحليين.

2: تنظيم السكن للمهاجرين المكيين.

3: التفاهم مع غير المسلمين الساكنين في المدينة، وبالأخص منهم اليهود.

4: تأمين الغرامات

نتيجة الخسائر في الأرواح والأموال للمهاجرين التي تسببها قريش مكة.

كما قام النبي صلي الله عليه و اله ببعض الأعمال الأساسية، منها:

1: تغيير اسم يثرب.

لقد صمم نبي الإسلام صلي الله عليه و اله بتغيير اسم يثرب، ويعتبر هذا الإقدام ضرورة عقلية اجتماعية، فاسم "يثرب" يعني محل المرض، أما الاسم الجديد الذي انتخب صلي الله عليه و اله لها فهو "طيبة" وتعني: الطهارة.

وبعد نزول الرسول صلي الله عليه و اله فيها سميت ب "مدينة الرسول".

وقد ألقي الاسم الجميل "طيبة" أثرا كبيرا في نفوس أتباعه وأصحابه صلي الله عليه و اله.

2: بناء مسجد المدينة.

ارتأي النبي صلي الله عليه و اله إن بناء مسجد في المدينة يؤدي إلي انسجام المسلمين ووحدتهم، فشرع في ذلك.

وقد اشترك في بناء هذا المسجد جميع المسلمين، حتي رسول الله بنفسه المباركة، وكان الناس ينقلون في بناء المسجد النبوي لبنة لبنة، وعمار بن ياسر (رضوان الله عليه) ينقل لبنتين لبنتين فغشي عليه، فأتاه رسول الله صلي الله عليه و اله فجعل يمسح التراب عن وجهه، ويقول: ويحك يابن سمية، الناس ينقلون لبنة لبنة وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبة في الآخرة.

وعن حبيب بن ثابت قال: لما بني المسجد جعل عمار (رضوان الله عليه) يحمل حجرين حجرين، فقال له رسول الله صلي الله عليه و اله: يا أبا اليقظان! إني احب أن اعمل في هذا المسجد، ثم مسح صلي الله عليه و اله ظهره، قال: قال صلي الله عليه و اله انك من أهل الجنة تقتلك الفئة الباغية، ما لهم ولعمار يدعوهم إلي الجنة ويدعونه إلي النار، وتلك دار الأشقياء والفجار.

3: إيجاد الأخوة الإسلامية.

أوجد رسول الله صلي الله عليه و اله هذا النظام الأخوي في المجتمع المدني

والمهاجر من مكة، بأمر من الله تعالي، وذلك لبناء أفضل مجتمع عرفه البشر ولإبعاد الغربة والوحشة عنهم سيما وانهم تركوا الأهل والوطن، وبإيجاد روح الأخوة الإسلامية نتج الإنس والألفة والتفاهم والتعاون فيما بينهم.

ذكر المؤرخون أنه: أوجد النبي صلي الله عليه و اله روح الأخوة الإسلامية مرتين، مرة بين المهاجرين، ومرة بين المهاجرين والأنصار.

هذا وفي كل مرة جعل علياً عليه السلام أخا لنفسه دون غيره().

يقول مؤلف: كتاب (محمد النبي يجب أن يعرف من جديد)():

الانقلاب الذي أحدثه محمد صلي الله عليه و اله في ذلك الوقت في الجزيرة العربية مع ملاحظة العادات والتقاليد العربية والنفوذ الكثير لرؤساء القبائل، يكون قد شكل وحدة اجتماعية متماسكة من كل قبيلة وهذا الانقلاب الذي جاء به محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) يفوق الانقلاب الفرنسي حيث أن الانقلاب الفرنسي لم يتمكن من إيجاد المساواة بين الفرنسيين، كما أوجدها محمد صلي الله عليه و اله بين المسلمين، فقد أزاح عن الوجود التمايز العائلي والطبقي والمادي.

وبهذه الطريقة استطاع النبي ص أن يحل أكبر مشكلة اجتماعية واقتصادية في مجتمعه.

أما فيما يتعلق ببعض المسلمين الفقراء جدا والذين يفتقرون لكل شيء فقد أسكنهم النبي صلي الله عليه و اله في (صفة) المسجد وطلب من المسلمين أن يطعموهم، وقيل انه كان من هؤلاء: أبوذر الغفاري.. وأبو هريرة.. وقد ذكر بعضهم أن عددهم و صل إلي أربعمائة شخص.

تكوين الأمة

كانت القبيلة أو القبائل التي تقوم بحماية الفرد أو الأسرة تطلق عليه اسم الحليف، وكان في مقابل ذلك يجب علي الفرد أو الأسرة الولاء المطلق لهذه القبيلة في كل شيء صحيح أو باطل.

فكانت بعض مبادئ الجاهلية القائمة علي التفوق السلالي والعصبيات القومية والقبلية تتناقض مع المبدأ الإسلامي الذي ألغي جميع

هذه الامتيازات وحاربها فيما حاربه من نُظُم وأفكار ومعتقدات لم تكن لخير الإنسانية، وقد جاءت الشرائع السماوية من أجل عزتها وكرامتها وسعادتها وحمايتها من جور الحاكمين وجشع المتسلطين.

وكان النبي صلي الله عليه و اله في أكثر مواقفه يؤكد علي إلغاء الفوارق والامتيازات التي تصنف الناس إلي فئات وطبقات وشريف ووضيع داعياً إلي وحدة إسلامية عروتها الوثقي الإيمان بالله،والعمل بما جاء به من عنده..

وكان آخر تلك المواقف التي كان يقفها من اجل تلك الوحدة لاجتثاث تلك النزعة الجاهلية من نفوس المسلمين: موقفه صلي الله عليه و اله في حجة الوداع بين عشرات الألوف من مختلف أنحاء شبه الجزيرة، حيث قال في خطبته: (أيها الناس! إن ربكم واحد وأباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله اتقاكم ليس لعربي علي عجمي فضل إلا بالتقوي)().

أدخل رسول الله صلي الله عليه و اله العناصر الأخلاقية في السياسة، فالسياسة في الإسلام أنزه سياسة عرفها البشر، فالله سبحانه منشأ القدرة، وبعده القانون وعرف نبيه صلي الله عليه و اله به، فالأحكام التي يبلغها للناس عليه أن يلتزم بها قبلهم ويكون مساويا لهم.

فواقع الهجرة والمجموعة المهاجرة لا تعني تغيير المكان البسيط من مكة إلي المدينة أو أي مكان آخر، بل إن المفهوم الدقيق للهجرة والمهاجرين هي قطع العلاقات والروابط القومية والقبلية، ونبذ نظام الشرك والانتماء إلي مجتمع التوحيد والإسلام المبني علي أساس التقوي والعدالة.

الآيات المتعلقة بالأمة

وقد وردت في القرآن الكريم آيات تشتمل علي هذه اللفظة (الأمة) نذكر بعضها، وهي تدل علي أهمية موضوع (الأمة) في الإسلام:

1: قال تعالي: ?وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس?().

2: وقال عزوجل: ?كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف…?().

3: وقال سبحانه: ?إن هذه أمتكم

أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون?().

4: وقال تعالي: ?وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون?().

5: وقال سبحانه: ?من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله?().

6: وقال عزوجل: ?ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله علي ما رزقهم?().

الأدوار في المجتمع الإسلامي للمدينة

قال عز من قائل: ?للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون، والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم? ().

وهذه الآية ذكرت ثلاث مجموعات هي: (المهاجرين) و(الأنصار) و(التابعين بإحسان) ولكل منهم دور في تشكيل المجتمع الإسلامي المعبر عنه ب(الأمة الإسلامية الواحدة).

الكادر السياسي والشوري الإدارية في المدينة

هناك ثلاثة عناصر ضرورية وأساسية يتم بموجبها تشكيل الدولة.

1: الجمعية (الملة).

2: التراب والماء والفضاء.

3: الشوري السياسة والقوة الإجرائية والقضائية.

وهذه العوامل الثلاثة هي التي شكلت الدولة الإسلامية في المدينة، وجعلتها وطنا لكل المسلمين من دون فرق في اللغات أو القوميات أو ما أشبه، فإن الوطن الإسلامي لا حدود ولا حواجز فيه، وما نراه الآن في الدول الإسلامية من سد حدودها بوجه المسلمين المهاجرين إليها فهو من نظم الاستعمار، ولا يجوز شرعاً، ولنعم ما قال الشاعر في هذا الصدد:

وكل ما ذكر اسم الله في بلد

عددت أرجاءه من لب أوطاني

نقباء المدينة

ذكر المؤرخون أسماء بعض نقباء المدينة الذين كانوا يتولون إدارة قبائلهم، فإن الدولة تحتاج إلي من يدير جميع شؤونها، والأسماء علي الوجه التالي:

اسم النقيب

قبيلته

أسيد بن حضير عبد

أبو الهيثم مالك بن التيهان عبد الأشهل

سعد بن خثيمة عمرو بن عوف

رفاعة بن عبد المنذر عمرو بن عوف

سعد بن الربيع بلحارث

عبد الله بن رواحة بلحارث

سعد بن عبادة ساعدة

المنذر بن عمرو ساعدة

البرآء بن معرور سلمة

عبد الله بن عمرو بن حرام سلمة

عبادة بن الصامت القوافل

رافع بن مالك زريق

أسعد بن زرارة النجار

وكان ثلاثة منهم من قبيلة الأوس، وتسعة من قبيلة الخزرج، فجعل النبي صلي الله عليه و اله هذه المجموعة بصفة (كادر سياسي) يتولي كل منهم إدارة قبيلته وكفالته.

التقسيم الإداري للمدينة

كما قسمت المدينة إلي نواحي وقصبات، فكانت تعيش كل قبيلة لوحدها بعيدة عن القبائل الأخري، وفي كل ناحية أو قصبة يوجد رئيس (نقيب)، وبعض النواب للرئيس (عريف)، وكان لهم محل اجتماع يجتمعون فيه يسمي (السقيفة).. كما عين لكل النقباء رئيسا يسمي (نقيب النقباء).

وبعد أن دخل نبي الإسلام صلي الله عليه و اله المدينة وتمت سيطرته عليها بالكامل خصوصا بعد أن أمضي المعاهدة الدفاعية المشتركة بينه وبين اليهود للمحافظة علي أمنها، غير مجلس المشورة المؤلف من اثني عشر نقيبا، أو زاد علي أعضائه بعد مشورة المسلمين ومشاركتهم الرأي في إدارة الأمور.

والدليل علي ذلك إن نبي الإسلام صلي الله عليه و اله في ابتداء تشكيل دولة المدينة ولاستحكام السيطرة عليها، كان قد استفاد من رؤساء الأوس والخزرج بالإضافة إلي المهاجرين وعلي رأسهم علي أمير المؤمنين عليه السلام كما استفاد صلي الله عليه و اله من تعاون المسلمين مع بعضهم، وبعد موت (أسعد بن زرارة) تولي شخصيا نقابة بني النجار، وتعهد بكفالة أمورهم.

وكان اعتماد رسول الله

صلي الله عليه و اله في الجانبين السياسي والحربي علي المهاجرين والأنصار وعلي رؤساء القبائل كرئيسي القبيلتين الأوس والخزرج أسيد بن حضير، وأسعد بن زرارة، فطلب منهما التعاون والمساعدة، وهذه المسألة مشهودة لمن راجع تاريخ رسول الله صلي الله عليه و اله في المدينة المنورة في حروبه وغزواته.

الشوري وعدم الاستبداد

وكان الأساس في سياسة النبي صلي الله عليه و اله في إدارة الأمور هو الشوري، وفي مواضع عديدة كان يأخذ برأي الأكثرية، ولا يخفي ان هذا النوع من الحكومة في العصر الحاضر قد يسمي (بالحكم الديمقراطي) وان كان بينهما بعض الفرق، وهذا النوع من الحكومة القائمة علي الاستشارة في مختلف قضايا الدولة كان في المدينة المنورة وقد تحقق بقيادة نبي الإسلام (صلي الله عليه وآله وسلم)، قال تعالي مخاطبا نبيه: ?وشاورهم في الأمر?().

مع أن رسول الله صلي الله عليه و اله كان معصوما ومعينا من قبل الوحي ولا يحتاج إلي مشورة أي أحد، ولكن الله أمره بالمشورة في إدارة البلاد والعباد كي يتأسي به.

المعاهدات في الدولة الإسلامية

وكتب رسول الله صلي الله عليه و اله كتابا بين المهاجرين والأنصار ودعا فيه اليهود وعاهدهم، وأقرهم علي دينهم وأموالهم وشرط لهم، واشترط عليهم.

بسم الله الرحمن الرحيم

1: هذا كتاب من محمد النبي صلي الله عليه و اله بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.

2: إنهم أمة واحدة من دون الناس.

3: المهاجرون من قريش علي ربعتهم يتعاملون بينهم، وهم يفدون عاينهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

4: وبنو عوف علي ربعتهم يتعاملون معاملتهم الأولي، وكل طائفة تفدي عاينها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

5: وبنو ساعدة علي ربعتهم يتعاملون معاملتهم الأولي، وكل طائفة منهم تفدي عاينها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

6: وبنو الحارث علي ربعتهم يتعاملون معاملتهم الأولي، وكل طائفة تفدي عاينها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

7: وبنو جشم علي ربعتهم يتعاملون معاملتهم الأولي، وكل طائفة منهم تفدي عاينها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

8: وبنو نجار علي ربعتهم يتعاملون معاملتهم الأولي، وكل طائفة منهم تفدي عاينها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

9: وبنو عمرو بن عوف

علي ربعتهم يتعاملون معاملتهم الأولي، وكل طائفة تفدي عاينها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

10: وبنو البنيّت علي ربعتهم يتعاملون معاملتهم الأولي، وكل طائفة تفدي عاينها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

11: وبنو الأوس علي ربعتهم يتعاملون معاملتهم الأولي، وكل طائفة منهم تفدي عاينها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

12: وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.

13: وأن لا يخالف مؤمن مولي مؤمن دونه.

14: وأن المؤمنين المتقين علي من بغي منهم أو ابتغي دسيسة ظلم أو إثم أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم.

15: ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا علي مؤمن.

16: وأن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

17: وأنه من تبعنا من يهود فان له النصر والأسوة غير مظلومين ولامتناصرين عليهم.

18: وأن سلم المؤمنين واحدة، ولا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا علي سواء وعدل بينهم.

19: وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا.

20: وأن المؤمنين بين بعضهم علي بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.

21: وأن المؤمنين المتقين علي أحسن هدي وأقومه.

22: وأنه لا يجير مشرك ولا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه علي مؤمن.

23: وأنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فانه قود به إلا أن يرضي ولي المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.

24: وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه، فان عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

25: وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء،

فإن مرده إلي الله عزوجل وإلي محمد صلي الله عليه و اله.

26: وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.

27: وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وإثم فانه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.

28: وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.

29: وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.

30: وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.

31: وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.

32: وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.

33: وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وإثم، فانه لايوتغ إلا نفسه، وأهل بيته.

34: وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.

35: وأن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف وأن البر دون الإثم.

36: وأن موالي ثعلبة كأنفسهم.

37: وأن بطانة يهود كأنفسهم.

38: وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلي الله عليه و اله.

39: وأنه لا ينحجز علي ثار جرح، وأنه من فتك فنفسه فتك وأهل بيته إلا من ظلم، وأن الله علي أبر هذا.

40: وأن علي اليهود نفقتهم وعلي المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر علي من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.

41: وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم.

42: وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.

43: وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.

44: وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.

45: وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.

46: وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فان مرده إلي الله عز وجل، وإلي محمد رسول الله صلي الله عليه و اله وأن

الله علي أتقي ما في هذه الصحيفة وأبرّه.

47: وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها.

48: وأن بينهم النصر علي من دهم يثرب.

49: وإذا دعوا إلي صلح يصالحونه ويلبسونه فانهم يصالحونه ويلبسونه، وانهم إذا دعوا إلي مثل ذلك فانه لهم علي المؤمنين إلا من حارب في الدين.

50: وعلي كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.

51: وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم علي مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحضر من أهل هذه الصحيفة، وقيل: مع البر المحسن من أهل هذه الصحيفة.

52: وأن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا علي نفسه، وأن الله علي أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرّه.

53: وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو إثم، وأن الله جار لمن بر واتقي، ومحمد رسول الله صلي الله عليه و اله.

يقال: إن رسول الله صلي الله عليه و اله كتب هذا الكتاب قبل أن تفرض الجزية، وحين كان الإسلام غير قوي، وكان لليهود إذ ذاك نصيب في المغنم إذا قاتلوا مع المسلمين، كما شرط عليهم في هذا الكتاب النفقة معهم في الحروب.

وهذا العهد يشتمل علي شروط كثيرة بين المسلمين أنفسهم من المهاجرين والأنصار، وعلي معاهدة بين المسلمين ومشركي المدينة، وهم لقلة عددهم بل إشرافهم علي الفناء لم يذكر لهم شروطا كثيرة، ويتضمن أيضاً معاهدة بين المسلمين واليهود، ولا يخفي علي من تدبر الكتاب عظم هذا العمل، وان هذا من أكبر الأعمال المهمة التي فعلها رسول الله صلي الله عليه و اله، بل أكبر من بعض الأعمال الأخري وأعم نفعا وأكثر ثمرا منها، لأن به أمن غوائل اليهود ومكرهم في الأمور التالية:

1: في

تفريقهم بين المسلمين.

2: واتحادهم مع قريش وغيرهم من أعداء الإسلام.

3: وبه أمن المسلمون علي أموالهم وذراريهم ودورهم وزروعهم وكل جانب يخافونه.

4: وبه انفسح المجال لنشر الدين وقتال المشركين في الحروب التي كانت تقام من قبل المشركين ضد المسلمين.

ولولا هذه المعاهدة الحكيمة من قبل رسول الله صلي الله عليه و اله لم تتمكن الملة الإسلامية وعلي رأسها النبي الأعظم صلي الله عليه و اله من نشر الدين الإسلامي بالشكل المطلوب، ولم تقدر علي المقاومة في الحروب المتتالية في بدر وأحد ونظائرهما في قبال المشركين، ولولا هذه المعاهدة لكان المشركون شديدي القتال..

ولو تدبرنا الكتاب وشروطه لخرجنا بالنتيجة التالية:

مجمل شروط المعاهدة بين المسلمين أنفسهم

1: المسلمون أمة واحدة من دون الناس فلا علقة إسلامية بين مسلم وكافر ولو كان أبا وولدا، وإن كان الإسلام يأمر باحترامهم واكرامهم، ولا مجانبة بين مسلم ومسلم، فالمسلم لا يكون بالنسبة إلي المسلم أجنبيا.

2: كل طائفة من المسلمين يتفادون بينهم كما كانوا يتفادون قبل الإسلام.

3: المسلمون المتقون علي من بغي دسيسة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المسلمين.

4: لا يقتل مؤمن في كافر، ولا ينصر كافر علي مؤمن.

5: ذمة الله واحدة فلا اعتداد بأشخاص المسلمين فيجير عليه أدناهم.

6: لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، فلا يكون السلم في الحرب إلا برأي من مولاه.

7: كل طائفة غازية غزت يعقب بعضها بعضا، فلا تجبر طائفة علي الغزو مرتين متعاقبتين.

8: ومن قتل مؤمنا من دون جريرة ففيه القود إلا أن يرضي ولي المتقول.

9: إذا اختلف المسلمون فمردهم إلي الله ورسوله صلي الله عليه و اله.

10: المسلمون لا يتركون بينهم مديونا قد أثقله الدين إلا أعانوه في فداء أو عقل.

11: المؤمنون بعضهم مولي بعض فلا ولاء

للكافر علي المؤمن.

12: لا يجير أحد حرمة كافر إلا بمصلحة سائر الجيش.

مواد المعاهدة مع اليهود

1: إن لليهود المعاهدين النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، إذا دعا المسلمون اليهود إلي المصالحة فعليهم أن يصالحوا، وكذا إذا دعا اليهود المسلمين إليها.

2: إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، علي المسلمين نفقتهم، وعلي اليهود نفقتهم.

3: المسلمون واليهود المتعاهدان أمة واحدة، للمسلمين دينهم ولليهود دينهم، إلا من ظلم وإثم.

4: علي المسلمين واليهود التعاون بينهم علي من حارب أهل هذه الصحيفة.

5: لا يؤخذ امرؤ بإثم حليفه.

6: النصر للمظلوم فيما بينهم.

7: لا تجار حرمة كافر إلا بمصلحة من المسلمين واليهود.

8: الجار كالنفس لا يضار.

9: إن بينهم النصر علي من دهم يثرب.

10: إن بينهم النصح والنصيحة.

مواد العهد بين جميع أهل الصحيفة

1: لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم.

2: إن يثرب حرام علي أهل هذه الصحيفة بحسب المعاهدة، كما أن مكة حرام بتحريم الله تعالي.

3: لا تجار قريش ولا من نصرها.

مواد العهد مع المشركين

1: لا يجبر مشركو المدينة مالا لقريش ولا نفسا.

سند المعاهدة

ذكره العلامة المجلسي رحمة الله عليه في (بحار الأنوار)() عن طريق رواية علي ابن إبراهيم ابن هاشم، نقلاً عن الصدوق رحمة الله عليه في (كمال الدين).

ورواه ابن إسحاق كما ذكرته الكتب التاريخية، إلا أن ابن إسحاق لم يذكر أسماء رواة الحديث، وقد ذكر محدثو أهل السنة هذا المتن، أمثال: أحمد بن حنبل في (مسنده)()وتلقاه بالقبول، واستنسخه ابن سيد الناس في (عيون الأثر)() عن كتاب ابن خثيمة، ونقله عنه.

ونقله مؤرخو السنة أيضاً في كتبهم التاريخية، أمثال:

أبو عبيد قاسم بن سلام في كتاب (الأموال)().

وابن كثير (في البداية والنهاية)().

وكذلك البلاذري في (أنساب الأشراف)().

وأورد العلامة المجلسي (قدس سره) مضمون الرواية والتي تحتوي علي اتفاقية تاريخية بين أهل المدينة والرسول صلي الله عليه و اله، وقد وقع هذه الاتفاقية من جانب اليهود كل من: حي بن أخطب من بني النضير، وكعب بن أسد من بني قريظة، ومخيريق العالم اليهودي من بني قينقاع، ومما جاء في هذه الوثيقة:

1: في السطور الأولي من وثيقة المعاهدة لدولة المدينة نري الإشارة إلي تكوين الأمة الإسلامية (إنهم أمة واحدة من دون الناس) ولم ينحصر عددهم بمسلمي صدر الإسلام، بل يشمل بشكل عام كل من اعتنق الإسلام وآمن به.

2: ضمن النبي صلي الله عليه و اله لمراكز القبائل في ذلك اليوم والتي عرفت رسمياً: حق اللجوء والدية المشتركة وبعض الحقوق المالية.

3: تضمنت الوثيقة وحدة الأمة، وتشترك الأمة كلها في الصلح والحرب، فلايحق لأحد أن يتصالح عند الحرب، ولا يحارب عند الصلح، بل كلهم في أيام الحرب لهم مصالح مشتركة، (وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضه بعضاً)، فجميع المسلمين لهم مسؤولية تجاه بعضهم، وعليهم التعاضد أثناء الحرب

وتقديم المساعدة فيما بينهم، وعلي كل فرد صغيراً كان أم كبيراً أن يؤدي وظيفته المرسومة له، (إن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس).

وتتجلي في هذا المنشور روح الأخوة والمساواة الحاكمة في المجتمع الإسلامي.

ولا ينحصر الدفاع والحماية عن الوطن بالمسلمين، بل يجب علي اليهود أيضا الدفاع عن حرمة المدينة وأمنها، فهم شركاء للمسلمين في ذلك ومساهمون معهم (وإن بينهم النصر علي من دهم يثرب).

4: الالتزامات المالية الناشئة عن وقوع الحروب تقسم بشكل مشترك بين الموقعين علي الوثيقة: (إن اليهود، ينفقون مع المسلمين ما داموا محاربين).

5: تنص معاهدة المدينة لأصحاب الصحيفة أنها حرم: (وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة).

وعلي هذا فالأمن الداخلي للمدينة مضمون، ويحكم علي أي نوع من التنازع الداخلي.

6: وفي الوثيقة بنود، منها: تشخيص العدالة الاجتماعية، وتنظيم الأمور القضائية والادارية.

ولا يخفي أن تنظيم العدالة الاجتماعية والقضائية من الأهداف المهمة للوثيقة، وتصرح الوثيقة: بأن السلطة القضائية هي بيد النبي صلي الله عليه و اله وإنه المرجع القضائي الوحيد الذي تحال إليه القضايا المتنازع عليها وبدوره يقوم بحلها، سواء كانت هذه الاختلافات قد نشأت بين المسلمين أو بين اليهود: (وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلي الله وإلي محمد رسول الله).

وفي هذه المادة استحدثت قوة قضائية يرجع إليه عموم الناس.

7: وفي هذه المعاهدة تجري الأحكام علي أمور الحرب والصلح والشؤون القضائية، ويستثني من هذه الموارد الاستقلال في الدين، ولليهود إجراء أحكام الشرعية وفق دينهم، ولهم الحرية العقيدية في ذلك: (وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم).

8: يؤكد المنشور علي المسؤولية المشتركة بني المسلمين المهاجرين والأنصار بصدد

القتال والالتزامات المالية، دون استثناء أحد منهم، كما نصت عليه البنود (2،3، 4، 5، 6، 7، 8،10وخصوصاً البند 11).

9: تؤكد الوثيقة علي ارتباط المسلمين مع بعضهم، خصوصاً الانتصار للمظلوم، وإحياء الحق، ولا يجوز الدفاع عن المجرم سواء كان أباه أو أقاربه، كما نص عليه (البند: 13).

10: ونصت المعاهدة علي حق الجوار اللجوء بحق جميع القبائل العربية واليهودية وأنه حق محترم: (وأن الجار كالنفس غير مضار ولا إثم) كما ورد في (البند 25، 40، 46).

تحسن الوضع الاجتماعي للمجتمع الإسلامي

قد عملت الأديان السماوية دوماً علي إرجاع الناس من طرق الضلال والشرك إلي سبيل التوحيد، فمن نتائج التوحيد: الحرية الكاملة والكرامة.

إن الإنسان المؤمن بوحدانية الله وقدرته وعلمه بكل شيء وأن كل الموجودات مصنوعات ومخلوقات له تعالي، هذا الإنسان سوف لن يتملق إلي أي شخص ولن تستطيع أعتي القوي واكبر الثروات أن تجعله يخضع ويتوسل ويتصاغر أمامها، وإنما يخضع ويخشع فقط في رحاب الله الواحد ويسجد في محراب عظمته ويضع جبينه علي الأرض أمامه تعالي.

كما أن من نتائج التوحيد أيضاً: العدالة الواقعية العامة: ففي ظل التوحيد لا سبيل لكل أحد من المسلمين إلا أن يتبعوا القانون الإلهي القائم علي أساس الحكمة والعدل، ومن البديهي أن إتباع القانون الإلهي يوجب اتساع نطاق العدالة الأصيلة ومحو أي ظلم أو تعد علي الحقوق.

في حين أن المشركين علي العكس من ذلك لا يستطيعون أن يقيموا العدل الواقعي فيما بينهم، وذلك لأن كل مجموعة وقبيلة منهم اتخذت لها إلهاً متميزا عن آلهة الآخرين واعتمادا علي هذا الإله فإنها تسمح لنفسها بالتعدي علي حقوق الآخرين، وبهذا تزول العدالة الواقعية ويحل محلها التفرقة والتحكم الظالم وأشباههما.

والنتيجة: إن التوحيد بمعناه والواقعي يربي الإنسان الحر، الصحيح الفكر، المتوجه، المطمئن الخاطر، ولا

يدع يتخبط في الدروب المعقدة للضلال والظلم والاختلاف، ومن هنا يتضح سر نداء رسول الله صلي الله عليه و اله: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)().

فإن أنبياء الله عليهم السلام جميعاً جاءوا يدعون البشر إلي عبادة الله وترك عبادة الطاغوت (الأصنام والظلمة)، قال تعالي: ?أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت?().

وقال سبحانه: ?يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك علي أن لايشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتانٍ يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم?().

إضافة إلي أن دعوة النبي صلي الله عليه و اله كانت أخذ البيعة علي عبادة الله والعمل بالإسلام وترك الخرافات الجاهلية، وقد بينت الآية الكريمة() الموارد السيئة التي كانت من الأصول الاعتقادية والأخلاقية السائدة والتي ابتلي بها المجتمع يومذاك، ورسول الله صلي الله عليه و اله باعتباره مبعوث الله إلي الناس، دعاهم إلي ترك الشرك وعبادة الأوثان وإصلاح المجتمع، ومن المعلوم إن هذه الموضوعات كانت متعلقة بالجوانب الفكرية والمعنوية والأخلاقية في المجتمع، كما كانت ترتبط أيضا بالمشكلات الاقتصادية ونظائرها من بعض الوجوه.

بيان فتح مكة

وفي فتح مكة المكرمة أعلن نبي الإسلام صلي الله عليه و اله بيانا للنهضة الإسلامية الذي نص علي ترك جميع الروابط الاجتماعية والاقتصادية الباطلة التي لا يقر بها الإسلام.

كما أمر صلي الله عليه و اله بالعفو العام حتي عن أكبر المجرمين، وأمر بالحرية بكل أشكالها، والمساواة، والأخوة الإسلامية، فأرسي بذلك قواعد النظام التوحيدي الإسلامي في أرض الوحي().

تحسن الوضع الاجتماعي في صدر الإسلام

يقول علماء النفس: إن الشباب عادة يميلون للتجديد وكل ما هو عصري، ويعيرون اهتماماً خاصاً للأفكار الجديدة والتقدم بالمجتمع، ويحملونها علي مقتضيات الزمن.

علي عكس الكبار الذين عادة لهم علاقة شديدة بالمحافظة علي العمل والإبقاء علي الآداب والتقاليد الماضية..

وهذا التفاوت في الميل قد يكون ناشئا عن بعض اختلافات الشباب مع الكبار في الأبعاد الجسمية والروحية ومحيط الأسرة والمجتمع.

وبعد نزول الوحي علي قلب النبي الطاهر والمبارك صلي الله عليه و اله، كان كثير من أتباع الدين الجديد من الشباب المتفكرين والثوريين، وكانوا يتضايقون من الأوضاع السائدة في مكة المكرمة وحضارتهم الخرافية، منتظرين قدوم مصلح ينقذهم من غياهب الجهل والظلمات، خصوصاً إن أكثر المسلمين الأوائل كانت أعمارهم أقل من الأربعين سنة وحتي أقل من الثلاثين سنة، حسب ما هو مذكور في التاريخ

وكان الكثير من الذين دخلوا الدين الجديد بنظر قريش من مطرودي المجتمع وفاقدي الواقع الاجتماعي كبعض العبيد وما أشبه.. ولكن الإسلام ألغي جميع الفوارق الا التقوي.

وبعد نزول الوحي شهد المجتمع المكي مكافحة المستثمرين مع مخالفي الاستثمار لا كما يتصور من مكافحة الفقراء والمحرومين مع الأغنياء وأصحاب الثروات بل المكافحة في المبادئ.

فأتباع رسول الله صلي الله عليه و اله الأوائل كافحوا أنواع الانحرافات من: فكرية، واعتقادية، واقتصادية، واجتماعية، بقيادة طالب العدالة النبي محمد صلي الله عليه و اله، وحولوا قدراً من

مجتمع مكة إلي التوحيد وضعضعوا أركان الشرك، هذا في مكة المكرمة، اما في المدينة المنورة، فكان الأمر كالتالي:

إحكام الدولة الإسلامية وسياستها الداخلية

فانه بعد أن ساعدت أرضية العمل، تمكن رسول الله صلي الله عليه و اله بأسرع وقت، أن يجعل من المدينة قاعدة اجتماعية نظامية ومذهبية محكمة، وكان المقصود من ذلك استمرار نظام سياسي قوي قائم علي أساس الإسلام في شبه الجزيرة، ثم إلي العالم.

ومن هذا المنطلق كانت المدينة المنورة قوة معنوية وسياسية لجزيرة العرب سطع منها نفوذ الإسلام ليشع نوره إلي العالم الخارجي.

رجل السياسة والحرب

لم يكن الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله نبياً ومصلحاً اجتماعياً وداعياً الناس إلي الاعتقاد برسالته فحسب، بل كان في نفس الوقت رجلاً سياسياً وعسكرياً أيضاً، وبلغ رسول الله صلي الله عليه و اله القمة في التفكير السياسي والاجتماعي والإداري..

ودعوة النبي صلي الله عليه و اله كسائر دعوات التوحيد والمصلحين الاجتماعيين نفذت إلي القلوب، بل كانت اقوي من جميعها، ولم يكن صلي الله عليه و اله قد استقل قدرته وجرد سيفه ليستفيد به، بل كان همه الوحيد تحرير عقل الإنسان وكسر الأصنام والأوثان التي يتقرب إليها ويعتقد بها كإله، كما وصفه القرآن الحكيم: ?ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم?().

ولم يكن المسلمون في ابتداء الدعوة الإسلامية قد حاربوا وجردوا سيوفهم حتي في الدفاع عن الإسلام، بل كانوا يتحملون مختلف أساليب التعذيب والاعتداءات عليهم، وليس لهم إلا الصبر علي ذلك، فمنهم: من هاجر إلي الحبشة، ومنهم: من كان يتحمل عذاب قريش، ولما تجاوز المشركون حدودهم، أمر الله سبحانه المسلمين أن يجاهدوهم ?أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا?()، مع العلم أن حروب المسلمين كلها كانت دفاعية.

وكل الحروب الدفاعية سواء كانت مع قريش أو اليهود أو الروم كانت لأجل رد الاعتداء حتي أن في غزوة تبوك بعد أن تيقن النبي صلي الله عليه و اله من

رجوع الروم، أمر جنود المسلمين بالرجوع إلي المدينة علي الرغم من تحمل الأذي والمصارف الكثيرة.

وخاطب رسول الله صلي الله عليه و اله زعماء القبائل والملوك والأمراء وأصحاب النفوذ، وأرسل مبعوثيه إليهم يدعوهم إلي الدخول في الإسلام وقبول دعوته، فلم يستجب أحد منهم لندائه إلا ما كان من النجاشي، وقد ثبت بالتجربة ان الذين امتنعوا من قبول الدعوة الإسلامية هم المستبدين من أصحاب النفوذ والقدرة والسلطة، وليس أصحاب الفكر، فحرب القوة بالقوة هي غير حرب الفكر بالقوة، وهذان ليس بينهما ارتباط.

فالدولة التي قام مخالفوها ضدها بحمل السلاح أو ما أشبه كان عليها الدفاع، وهذا القانون هو حكم العقل و صرح به القرآن الشريف: ?وقاتلوهم حتي لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا علي الظالمين?() وهذا القانون هو نفس دستور القرآن في مكان آخر: ?وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما علي الأخري فقاتلوا التي تبغي حتي تفيء إلي أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين?().

وفي كلتا الحالتين، يكون حمل السلاح للدفاع طريقاً لا مفر منه إذا تعذرت المحاولات، وفشلت السبل، في إنهاء الظلم والتعدي.

فالاسلام دين سياسي أيضاً ويدعو كافة الامم الي ندائه الرباني، بخلاف اليهودية أو الدين الإسرائيلي كما يظهر من اسمه فانه ينحصر في التعصب القومي لبني إسرائيل لإقامة الدولة، وتغلب علي بني إسرائيل التنفر الشديد من دخول أبناء الأمم الأخري غير الإسرائيليين في المجتمع اليهودي.

وكذلك بالنسبة للمسيحية فهي دين أخلاقي فقط كما هو ثابت عند المسيحيين وأنها لا تتدخل في المسائل الاجتماعية والسياسية والمعاملات، فالمسيحية ظهرت علي أرض فلسطين، وبرزت إلي الوجود في وقت كان فيه الاستعمار الروماني مقتدراً، ولم تكن للمسيحية

من القوة لمقاومة الدولة الظالمة بالطرق العادية، ولذا قيل إن المسيح عليه السلام كان لا يتدخل في شؤون الحكومة الدنيوية، بل كان يؤكد علي أن ملكوت الله في السماء، واللازم علي المسيحية أن يطلبوها فقط، كما قالوا: (ما لله لله وما للقيصر لقيصر) هكذا يقول المسيحيون.

أما الإسلام فقد ظهر وبرز إلي الوجود في أرض استاء منه وغضب عليه حتي الدول المجاورة واعتبروه تصرفاً في حقهم، مع أن ظهور الإسلام وبعثة النبي ص كانت لإصلاح الحياة وإقامة الروابط الاقتصادية العادلة واستقرار الأمن والنظام، ولو لم يكن ذلك لما استطاع أن ينفذ إليهم ويحكم فيهم، خصوصاً مع وجود النظام الجاهلي للعرب، ومجاورة دولتين عظيمتين لشبه الجزيرة: كإيران والروم.

فلم تكن سلطة الإسلام في كل الدول سلطة جائرة (طاغوتية)، ولم يكن مانع لانتشاره بل كان دينا يطابق الفطرة.. ومثله كالنور في الظلام، فقد أضاء القلوب.

هكذا كانت سياسة الرسول صلي الله عليه و اله في صدر الإسلام، وكذلك في انتشاره في العالم، فكان نفوذ الإسلام في جنوب شرقي آسيا ودولة الهند بشكل طبيعي باعتراف جميع المؤرخين من مسلمين وغير مسلمين فلم ينفذ إلي تلك البقعة الواسعة بحد السيوف أو بسلاح آخر.

وقد كتب نهرو في كتاب "نظرة في تاريخ العالم" يقول:

كان للعرب المسلمين في الهند ذهاب وإياب، فقد بنوا المساجد، وأحياناً يبلّغون لمذهبهم عن طريق الوعظ، وحتي في بعض الأوقات يدخل غيرهم في معتقدهم ومذهبهم، كما لا يخفي، ولم تحصل أي مخالفة لهذا الدين الجديد قطعاً، ولم يكن ثمة تصادم ونزاع بين دين الهند والإسلام في ذلك الزمان، وهذه النقطة جديرة بالاهتمام والذكر، وبعدها حصل التنازع وعدم الارتياح بين المذهبين.

وقد ذكرنا في كتاب (كيف انتشر الإسلام): إن الإسلام دخل غالب البلاد

بالتبليغ لا بالسيف.

فكان نفوذ الإسلام في شرق آسيا سلمياً، وكان عن طريق التبليغ من قبل تجار المسلمين ومن أشبه، حيث أوجدوا المساجد، والمراكز التعليمية، والمدارس وما أشبه.

وقد جاء في تاريخ إندونيسيا:

أنه قدم تجار المسلمين إلي إندونيسيا في القرن الثالث عشر الميلادي من كجرات وفارس، وعقدوا روابط تجارية بين الهند وفارس وإندونيسيا، ومن طريق الروابط التجارية بدأ مذهب الإسلام ينفذ وينتشر بين المجتمع الإندونيسي خصوصاً في سواحل جاوة، مثل: دماك.

وفي المراحل التي بعدها توسع نفوذ المسلمين حتي رغب ملوك الهند وإندونيسيا وغيرها في قبول دين الإسلام، وأول من اعتنق الإسلام سلطان دماك، فدعا إلي الإسلام في شرق وغرب إندونيسيا وجزائر جاوة، ونفذ الإسلام في شرق إندونيسيا حتي الساحل الشمالي لجاوة، بل شمل حدود كري سيك، وتقدم الإسلام في غرب منطقة تامركز كايربن وبنتن، وبعدها اجتاح سائر الجزائر الإندونيسية حتي أصبحت إندونيسيا اليوم كبري الدول الإسلامية في تعداد نفوسها ().

الإدارة العسكرية والتكتيك الحربي لنبي الإسلام صلي الله عليه و اله

كان النبي صلي الله عليه و اله في إدارة الحرب يكره الاستبداد في الرأي، وكان يقوم باستشارة أصحابه، فالاستشارة والمشورة إحدي علامات القائد المناسب والمدير اللائق الذي يتبادل وجهات النظر مع أصحابه أهل الفكر والخبرة في شأن من شؤون مصالح الأمة مما يعود بالنفع عليها.

وهذا إن دل علي شيء فإنما يدل علي الشجاعة الذاتية، فمثل هذا القائد اللائق يستطيع أن يجعل وفي كل زمان من الطاقات الفكرية والجسمية والعاطفية حشوداً عسكرية..

مع ان النبي صلي الله عليه و اله كان معصوماً ومربوطاً بالسماء وغير محتاج إلي المشورة لكنه كان يستشير ليعلّم المسلمين طريق النجاح في مختلف شؤونهم، ولكي يرسم أسلوب الحكومة الصحيحة الاسلامية.

ففي معركة الخندق عندما تحالفت قريش مع يهود بني قريظة، أمر صلي الله عليه و اله

بحفر خندق حول المدينة المنورة وذلك بإشارة من سلمان الفارسي (رضوان الله عليه) فانتصر المسلمون علي الكفار والمشركين بعدما قتل الإمام علي عليه السلام عمرو بن عبدود العامري حيث قال صلي الله عليه و اله: (ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين)().

ثم حاصروا اليهود الذين نقضوا عهدهم مع رسول الله صلي الله عليه و اله وغدروا به وبالمسلمين، وبعد ثلاثة أيام من محاصرة اليهود، اجتمعوا في بيت بإشارة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وبعد ذلك وبحكم سعد بن معاذ ممثل الأنصار، وانتخاب النبي صلي الله عليه و اله حكماً بشأن بني قريظة، قد تم العفو عن أكثرهم، وقيل: إنهم رضوا بحكم سعد بن معاذ فحكم بقتل بعضهم وكانوا قليلين جدا().

الرسول صلي الله عليه و اله وقوة الجند الإيمانية

كان النبي الأكرم صلي الله عليه و اله يعتمد اعتماداً كاملاً علي القوة الإيمانية في إدارته الحكيمة لجند الإسلام، وغالباً كانت نسبة القوة المعنوية للجند أكثر بكثير من القوة المادية والعسكرية، كما قال سبحانه: ?إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين?().

والمسلمون كانوا يربحون المعركة مع قلة عددهم وما كان ذلك إلا لدافع الإيمان المتأصل في القلوب، وقد أشار القرآن الكريم إلي هذه الحقيقة، بقوله تعالي: ?كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله?().

وفي معركة أحد، ولأجل وقف زحف العدو من الوراء، تطوع خمسون مسلماً بأمر رسول الله صلي الله عليه و اله لمراقبة الطريق، فقال لهم صلي الله عليه و اله: احموا ظهورنا، لأننا نخشي ان فاجئنا العدو من الخلف، ولا تتركوا مكانكم، حتي لو قتلونا.. لا نريد أن تدافعوا عنا، وكل ما نرجوه منكم هو ضرب خيول العدو بالسهام، لأن الخيل لو ضربت بالسهام لم تقم علي أقدامها()،

ولكن بعصيان بعض المسلمين هذا الأمر العسكري، هاجمهم العدو من الخلف وقتلوا كثيراً من المسلمين كما قُتل حمزة سيد الشهداء عم النبي صلي الله عليه و اله وان تدارك رسول الله صلي الله عليه و اله الأمر حتي انتهت الحرب بانتصار المسلمين وهزيمة الكفار..

وفي بعض الأحيان كان صلي الله عليه و اله يصدر أمراً للحرب بشكل سري، وكنموذج علي ذلك إرسل النبي صلي الله عليه و اله عبد الله ابن جحش مع خطاب ليرصد القوافل التجارية لقريش، وأمره صلي الله عليه و اله بقراءة الخطاب بعد يومين من التحرك، وكان مكتوباً في الرسالة:

(سر حتي تأتي بطن نخلة علي اسم الله وبركته، ولا تكرهن أحداً من أصحابك علي المسير معك، وامض فيمن تبعك حتي تأتي بطن نخلة فترصد بها قريش وتعلم لنا من أخبارهم).

ولا يخفي أن النبي صلي الله عليه و اله في هذه السرية قابل بالمثل فحيث ضرب قريش الحصار الاقتصادي حول المدينة أراد النبي صلي الله عليه و اله حرب الحصار الاقتصادي علي المشركين لصدهم عن أمثال ذلك.

من الخطط العسكرية

يوجد من بين الأهداف العسكرية في الحرب شيئان مهمان، لابد من الإشارة إليهما.

1: امتناع العدو والناس بإحقاق حقهم وإثباته، وهذا المطلب قد أكد عليه القرآن الكريم والسنة الشريفة في حقانية الحروب الإسلامية.

2: إضعاف العدو عن طريق الحرب النفسية، وإيجاد الاختلاف بينه.

وقد أقدم النبي صلي الله عليه و اله علي إعمال هذا الطريق، بإضعاف العدو بواسطة أحد المسلمين، فقد ورد في التاريخ: أن نعيم بن مسعود الغطفاني جاء إلي النبي صلي الله عليه و اله وقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، ولم يكن أحد من قومي مطلعاً بذلك، وأنا مستعد للقيام بأي عمل تأمرني به.

فقال له

النبي صلي الله عليه و اله: أنت رجل واحد، فلو قدرت أن تأتي العدو، وتقع بينهم، وتفرق شملهم، فإن الحرب خدعة.

فجاء نعيم إلي بني قريظة، وكان نديماً لهم أيام الجاهلية، ويستأنس بهم، فقال لهم: يا بني قريظة! تعرفون جيدا إني احبكم، وكيف إن الصداقة تتحكم بيننا.

فقال بنو قريظة: صحيح ما تقوله، نعرفك جيدا بصداقتك لنا وحسن نيتك.

فقال نعيم: إن قريش وغطفان الذين تحالفا مع بني قريظة في غزوة الأحزاب لم يكونا مثلكم، المدينة مدينتكم، وجميع أموالكم وأولادكم ونسائكم موجودون في المدينة وتحت سيطرة محمد صلي الله عليه و اله، ولم تستطيعوا أن تنتقلوا إلي مكان غيره، وهذه قريش وغطفان جاءتا لحرب محمد صلي الله عليه و اله، وانتم تصاحبونهم في هذه الحرب، ولكن أموالهم ونسائهم في مكان آخر أي في مكة، فهدف هؤلاء غير ما تصبون إليه، فلو انتصروا في هذه الحرب علي محمد صلي الله عليه و اله بلغوا ما يصبون إليه وتتطلع إليه آمالهم، وأما لو انهزموا واندحروا فيعودون إلي وطنهم، فعندها تبقون انتم ومحمد صلي الله عليه و اله، ولم تتمكنوا من قتاله وهو لم يترك قتالكم، فيلزم أن يكون تحت اختياركم بعض الأشخاص من قريش والمتحالفين معكم بصفة رهائن حتي لا يفروا في قتال محمد صلي الله عليه و اله حتي يلحقوا الهزيمة به.

فأجابه بنو قريظة: نِعم ما أشرت به علينا، وهو الأصلح لنا، فوقع اقتراح نعيم في بني قريظة موقع الرضا والتأثير.

ثم جاء نعيم إلي قريش وقال لأبي سفيان ورؤساء قريش: أنتم تعلمون جيدا بأنني أحبكم وقد افترقت عن محمد صلي الله عليه و اله، أنا علي علم واطلاع بخبر وأري أن أعرضه عليكم لما يقتضيه واجب الصداقة بيننا، وأريد

منكم أن تحتفظوا بهذا السر وألا تكشفونه لأحد.

فقالت قريش: سنفعل.

فقال نعيم: ألم تعلموا أن اليهود قد أصابهم الندم في تصميمهم لحرب محمد صلي الله عليه و اله فبعثوا إليه أحدا يبدون له ندمهم وليطلعه بذلك، وأوعدوه بأن يأخذوا بعضا من زعماء قريش ويسلمونهم لمحمد صلي الله عليه و اله ليقتلهم، ثم يتحالفون معه ضد قريش، وقد وافق محمد صلي الله عليه و اله علي هذا الاقتراح، فلو جاءكم اليهود وطلبوا رهائن فلا تسلمونهم ولا شخصا واحدا.

ثم جاء نعيم إلي غطفان وقال لهم: يا بني غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وقومي وأقربائي وأحب الناس إليّ، وأنا مطمئن من عدم اتهامي وتقدرون صداقتي.

فقال له بنو غطفان: صحيح ما تقوله وأنت رجل صادق.

فقال نعيم: اكتموا هذا الأمر.

فقال بنو غطفان: ماذا نفعل؟ ما الذي عندك؟

فقال نعيم الكلام الذي قاله لقريش بأن يحذروا من تسليم الرهائن لليهود، وأكده علي بني غطفان وحذرهم من التحويل.

وفي ليلة السبت الخامس من شوال أرسل أبو سفيان ورؤساء غطفان عكرمة بن أبي جهل مع عدة من أصحابهم إلي اليهود وقالوا لهم: إلي متي نصبر؟ وجميع الحيوانات هلكت، وغداً يصادف السبت فتهيؤوا حتي نجابه محمداً صلي الله عليه و اله ونصفي حسابنا معه، ونحل مشكلاتكم ومشكلاتنا.

فأرسلت بنو قريظة هيئةً إلي قريش وقالت لها: إن غداً يصادف السبت وهو يوم عطلة اليهود، ونحن في يوم السبت لا نعمل أي عمل كان، ولنا شرط معكم وهو أننا لن نحارب محمداً صلي الله عليه و اله حتي تضعوا عدة من رجالكم تحت تصرفنا بصفة رهائن، فنحن نخشي أنه لو أضرت بكم الحرب ان ترجعوا إلي دياركم وتتركونا لوحدنا مع محمد صلي الله عليه و اله ونحن لا نتمكن من مقاومته.

فلما

وصل خطاب بني قريظة إلي قريش وغطفان، قالوا: والله، لقد صدق نعيم بن مسعود بما قاله لنا..

ثم بعد ذلك أرسلوا خطاباً إلي بني قريظة جاء فيه: نحن غير مستعدين بأن ندفع لكم رجلاً واحداً كرهينة، وإذا صح ما تقولونه فاستعدوا غداً للحرب.

فلما وصل خطاب قريش إلي بني قريظة قالوا: إن كلام نعيم بن مسعود كان صحيحاً، وتريد قريش انتهاز الفرصة، وتتركنا لوحدنا، وتفر من الحرب وتعود إلي ديارها، وتتركنا مع محمد صلي الله عليه و اله لوحدنا ونحن لا نقدر علي مقاومة محمد صلي الله عليه و اله.

وبهذه الخدعة الحربية تفككت جهة أعداء المسلمين ووقع الخلاف بينهم، فكان سبباً في انتصار المسلمين وعاملاً لعدم إراقة كثير من الدماء.

ومن جهة أخري سلط الله الرياح والمطر في ليلة قارصة علي قريش وهذا كان من الإمداد الغيبي حتي تقطعت حبال الخيم، وسقطت القدور من علي النار، حتي صممت قريش علي الفرار والعودة إلي مكة بأسرع وقت.

وبهذه الطريقة استطاع رسول الله صلي الله عليه و اله أن يفرق قوة العدو، ليعود إلي المدينة بأقل الخسائر في الأرواح.

والأهم من هذا كله أن رسول الله صلي الله عليه و اله كان قائداً محنكا، وكان يشرف إشرافاً مباشراً علي كل الخطط الحربية وقادة الحرس والأشخاص، بالاضافة الي استشارته في الأمور، ففي معركة (مؤتة) وعلي إثر قتل السفير الإسلامي الحارث الغساني القائد العام للشامات، أراد النبي صلي الله عليه و اله أن تتقوي الدعوة الإسلامية في أرض الشام، فقام ابتداء بتعيين جعفر بن أبي طالب عليه السلام قائداً للحرس وفي حالة استشهاده يتولي الأمر زيد بن حارثة، وعند استشهاده يتولي القيادة عبد الله بن رواحة، وبعده أيّ أحد كان قد دخل الإسلام ورضي

به الجيش، وقد أوصي جنود الإسلام بهذه الوصية:

(بسم الله.. جاهدوا عدو الله وعدوكم الموجودين في أرض الشام، راعوا الآداب مع المسيحية الرهبان الذين يعيشون بمنأي عن الناس، ولا تتدخلوا في أمورهم، لا تقتلوا النساء والأطفال والشيوخ، لا تقطعوا النخل والأشجار، ولا تدخلوا البيوت)().

ثم تحرك الجنود وشرعوا في السفر إلي الشام للمقاومة والعمل بما جاء في الوصية وهكذا عملوا وأدخلوا الرعب في قلوب الروم.

تطهير المدينة من قوي التحالف اليهودي

لقد علم رسول الله صلي الله عليه و اله أن أهل مكة بعد غزوة بدر لا تصبر علي قتلاها، بل لابد من الانتقام ثأراً للدماء، فلهذا السبب لابد من مواجهة الخطر المترقب بتقوية البنية الدفاعية والسياسية.

ومن جانب آخر: اليهود في العداوة والتزوير والختل والمراوغة لم يشهد التاريخ مثله، فقد حشدت عناصرها في المدينة وتوابعها.

كما أن الخطة الخماسية لقريش لا تخفي عن الأنظار لابد من الإيفاء والقيام بالهجوم، وضرب الإسلام بخنجر في الظهر، فلابد من إيجاد حل مناسب لهذه المشكلة.

هذا وقد نقض يهود بني قينقاع عهودهم، والذي جرأهم علي ذلك هو سكوت النبي صلي الله عليه و اله علي مثل هذا الوضع، فظنوا أن هذا اعتراف رسمي بالهزيمة والفشل، فأصدر النبي صلي الله عليه و اله أمراً بمحاصرتهم، فبقوا خمسة عشر يوماً محبوسين في بيوتهم، مما أدي إلي توسط المنافق المعروف عبد الله بن أبيّ فأمر النبي صلي الله عليه و اله بالعفو عنهم علي أن يتركوا المدينة جميعهم، وكان هذا أخف من الانتقام والذي كان متعارفاً إلي ذلك الحين.

فقتل إنسانين إهانة صريحة بالمسلمين لم تغسلها إلا الدماء في نظر العرب المسلمين الذين اقتضت فطرتهم الصحراوية أن يكون الناموس شرفاً ومكانة لا تداني، فالأعراض مصونة وهي أعز عندهم من النفس، وربما تحصل المشاجرات

والحروب ولسنوات طويلة بين قبيلتين لهذا السبب، وهذا الموضوع لا يخفي علي كل من طالع تاريخ العرب، ولكن في هذا المجال قد صرف النظر.

والملاحظة الأخري التي تدخل في صلب هذا الموضوع هو أن اليهود أهانوا إهانة قبيحة امرأة مسلمة، وكان لها الأثر السيئ في نفوس العرب المسلمين().

مؤامرة يهود بني النضير

ثم إن اليهود بعد حرب أحد والفاجعتين المأساويتين: سرية رجيع()، وبئر معونة() التي راح ضحيتها الكثير من قرّاء القرآن أخذوا يستهزئون بالمسلمين ويقولون: النبي الحق المبعوث المرسل من الله، لا ينهزم أبداً..

وكان قد قتل رجلين من قبيلة (بني عامر) وكانا متحالفين مع المسلمين، وقد طلبوا ديتهم من النبي صلي الله عليه و اله وكان يهود بني النضير متحالفين مع (بني عامر) كالمسلمين، فطلب النبي صلي الله عليه و اله من يهود بني النضير تسليم دية الرجلين من حلفائهم بالاشتراك..

وفي بعض التواريخ أنه صلي الله عليه و اله استعرضهم ذلك وكان الاستعراض جاريا بينهم..

ولكنهم خلا بعضهم ببعض وخططوا لقتل رسول الله صلي الله عليه و اله..د

فجاء جبرائيل وأخبر رسول الله صلي الله عليه و اله بمؤامرة اليهود()، وهنا ظهرت النية الأصلية لهؤلاء اليهود..

فقد ذهب النبي صلي الله عليه و اله بمعية عشرة أشخاص من أصحابه إلي قلعة بني النضير للمطالبة بالدية، وكان صلي الله عليه و اله إلي جنب جدار من بيوتهم فأرادوا أن يلقوا عليه صخرة كبيرة ليقتلوه..

فلما علم صلي الله عليه و اله سوء نياتهم بالتعرض علي حياته وإرادتهم اغتياله رجع إلي المدينة.

وهذه المؤامرة التي كانوا ينوونها وسائر المؤامرات الأخري هي التي دفعت النبي صلي الله عليه و اله أن يبعث إليهم محمد بن مسلمة ليقول لهم: اخرجوا من بلادنا ولا تساكنونا لأنا لانأمن خيانتكم لنا.

هذا وقد

كان بإمكان رسول الله صلي الله عليه و اله أن يقتلهم ولكنه لم يفعل ذلك.

إفشال خطة يهود بني قريظة

في معركة الأحزاب الخندق تعاهد بنو وائل، وقريش، وبنو غطفان، وحلفاؤهم، وشكلوا جيشاً قوامه عشرة آلاف رجل ليدخلوا به إلي المدينة المنورة ويقضوا علي الإسلام والمسلمين.

وكان هذا من تخطيط زعماء اليهود، حي بن أخطب، وابن أبي الحقيق، حتي يواجه الإسلام عدواً مشتركاً من عبدة الأوثان واليهود، يعمل لاستئصال جذوره.

وأثناء محاصرة المدينة وقف يهود بني قريظة وكانوا حلفاء المسلمين علي خلاف ما تعاهدوه وتعاقدوه موقفاً محايدا (عدم الانحياز) إلا أن حي بن أخطب (زعيم بني النظير) استطاع أن يؤثر في كعب بن أسد القريظي صاحب عهد بني قريظة تأثيراً مباشراً ويجره إلي صفوفهم للعمل ضد النبي صلي الله عليه و اله وذلك بأن يهجموا علي رسول الله صلي الله عليه و اله والمسلمين من الخلف في معركة الخندق.

فلما علم النبي صلي الله عليه و اله من خيانة بني قريظة، واطلع المسلمون عليها، بعث صلي الله عليه و اله سعد بن معاذ إلي يهود بني قريظة لإقناعهم بأن يلتزموا الوفاء بالعهد والحفاظ علي أمن الوطن، إلا أنهم أبوا هذا الطلب وأصروا علي غيهم واستكبروا استكبارا، فردوا علي النبي صلي الله عليه و اله بلهجة قاسية وتعرضوا لشخصه وللإسلام بالسب والشتم وبأقبح الصفات التي لا تليق إلا بهم، فنقضوا العهد وخالفوا الوعد في أحرج ساعة علي المسلمين.

وبعد أن انتهت غزوة الأحزاب (الخندق) بانتصار نبي الإسلام صلي الله عليه و اله، وبعدما استطاع صلي الله عليه و اله أن يتخذ تدبيراً حكيماً ينفذه (نعيم بن مسعود) وكان من أبدع أنواع العمل السري() حيث غيّر المعادلة لصالحه صلي الله عليه و اله كما أدي إلي

تغيير مجري الحرب فرجحت قريش الفرار منها، لتعود إلي مكة حاملة وراءها الخيبة والذل والانتكاسة الروحية ولم يكن من الصحيح ان النبي صلي الله عليه و اله يتغافل ويصفح عن عظيم خيانة اليهود في هذه الساعة الحرجة، فاتخذ قرارا قطعيا باستئصال جذور العدو بتقوية الدولة الإسلامية الفتية.

فقد أصدر صلي الله عليه و اله أمره إلي المسلمين بمحاصرة قلاع اليهود علي وجه السرعة، وكان علي عليه السلام أول مجاهد إسلامي يحاصر قلعة اليهود، واستمرت هذه المحاصرة خمسة وعشرين يوماً، مما اضطر يهود بني قريظة أن يبعثوا (أبا لبابة) إلي النبي صلي الله عليه و اله ليحددوا موقعهم منه، وتصور بنو قريظة أن النتيجة ستؤدي بهم إلي التبعيد إلي ديار الشام كما حصل ذلك لبني النضير من قبل.

فقال لهم النبي صلي الله عليه و اله: هل ترضون أن تجعلوا حكماً بيني وبينكم؟

فرضي اليهود بحكومة سعد بن معاذ، وقد حكم سعد بن معاذ بغير ما كان ينتظره اليهود، مما جاء في حكمه: يقتل المحاربون من اليهود.

فرضي النبي صلي الله عليه و اله بهذا الحكم، فأمر بقتل المحاربين منهم خاصة وعفي عن الباقين.

إن مسؤولية هذه الدماء وإن لم تكن كثيرة بل كانت قليلة جدا تقع علي عاتق حي بن أخطب (رئيس قبيلة النضير) فهو الذي حرك قريش وحرضهم علي القتال، كما دعا بني قريظة أن ينقضوا عهدهم ويتخلفوا عن تحالفهم ومواثيقهم.

ولا يخفي أن الرجال الذين قتلوا في تصوري الذي استفدته من التواريخ أمثال (أسد الغابة) وغيره أنهم لم يكونوا فوق العشرين، أما المبالغة في عددهم فكأنها من مبالغات اليهود وذكرها بعض المسلمين بدون تحقيق، وإلا فقد ذكر التاريخ أنهم حبسوا في دار، وهل دور المدينة في ذلك اليوم وهي

قرية عادية تسع لأكثر من عشرين.

بالإضافة إلي أنه أين قبورهم ومن قتلهم وهل مثل ذلك العمل يشبه أعمال الرسول صلي الله عليه و اله مع أشد أعدائه حينما كان يقول: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)()، إلي غيرها من القرائن…؟

ويحتمل أن سعد بن معاذ حكم بهم بحكم التوراة وطبق عليهم قوانينها الجزائية التي تنص صراحة:

عندما يريد العدو أن يحاربك في أرضك، فادعوه إلي الصلح أولاً، ولو أراد قتالك فحاصر مواقعه، ولو تسلطت عليهم فاقتل المحاربين منهم، وأما النساء والأطفال والحيوانات وكل ما هو موجود في المدينة فخذها غنائم لك.

ما قاله المستشرقون حول اليهود

يقول أحد المستشرقين() في خاتمة بحثه بصدد روابط النبي صلي الله عليه و اله مع اليهود:

"ليس من اللائق لليهود أن يقابلوا صداقة محمد صلي الله عليه و اله ووفائه لهم، بهذا الشكل من الجفاء، بعد أن أقام معهم روابط حسنة، ومن المناسب جداً أن نشير في هذا الصدد إلي أنه: لو أن اليهود بدل عداوتهم وخصومتهم لمحمد صلي الله عليه و اله كانوا قد أقاموا معه روابط حسنة، واتصلوا به، لكان فيه صلاحهم وحصل لهم التوفيق، وكان هذا ممكناً لهم في هذا الموقع المناسب، ويستطيعون بالتالي جني ثماره من خلال:

1: المحافظة علي استقلالهم الديني.

2: أن يكونوا جزءاً من الإمبراطورية الإسلامية.

فلو فعلوا ذلك لكان العالم غير ما عليه اليوم، ولكن الذي يؤسف له أن اليهود منذ الأيام الأولي لإقامة محمد صلي الله عليه و اله في المدينة، زرعوا بذور الفاجعة المؤلمة، وضيعوا الفرص الجميلة في استقرارهم واستقلاليتهم.

والجدير بالذكر إن الإسلام بتعاليمه الدينية كان متساهلاً مع اليهود أكثر منه مع المسيحيين، مع أن الدين اليهودي والدين المسيحي يشتركان في التشريع والقانون، وكلاهما من الأديان الموحدة، إلا أن الغالب علي دين المسيحية

هو التوحيد الثلاثي، وهذا غير موجود عند اليهودية.

ومع وجود هذا التأكيد في رسالة رسول الله صلي الله عليه و اله، فإن عقيدة الغلو عند اليهود المبنية علي أساس التفوق السلالي والعنصري، أبت إلا أن تعارض ذلك.

فيهود المدينة حسب معتقدهم رفضوا نبوة محمد صلي الله عليه و اله، ولو كان عندهم بعض المفكرين والمصلحين لاستطاعوا أن يغمضوا عيونهم عن هذه المسألة، وانتهزوا الفرصة الغالية بشكل يحفظ لهم كيانهم واستقلالهم، فليس من الضرورة أن يسخر اليهود من دين محمد صلي الله عليه و اله، ومما يدعو للأسف الشديد أنهم سلكوا هذا النهج، وطبيعي أن هذه الانتقادات الشديدة من جانب اليهود لمحمد صلي الله عليه و اله ودينه خطر كبير بالنسبة لتجربته السياسية والاجتماعية، ومع هذا العمل السلبي وقف محمد صلي الله عليه و اله قبالهم".

الرسول صلي الله عليه و اله يقوم بمهمة التبليغ

لم تكن وظيفة التبليغ للإسلام وإبلاغ الرسالة مسؤولية صغيرة علي مدي التاريخ، وأول من أدي هذه الوظيفة المهمة هو النبي صلي الله عليه و اله وأصحابه المخلصون، وقد أشار إلي هذه الوظيفة القرآن الكريم في آياته:

1: قال تعالي: ?أدع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن?().

2: وقال سبحانه: ?وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد?().

نعم، إن تربية الناس وإصلاحهم جزء من الأهداف المهمة لأنبياء الله عليهم السلام، ولهذا بعثوا ولأجل تحقيقه عملوا، كما ورد في الحديث: (إن الله قد خص الأنبياء بمكارم الأخلاق)().

إضافة إلي أن التعليم والتأديب هو جزء من حقوق الناس، وعلي الدولة الإسلامية أن تبذل قصاري جهودها في هذا الجانب، وفي هذا يقول الإمام علي عليه السلام. (أما حقكم عليّ فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم

كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا)().

محمد صلي الله عليه و اله المعلم الأول

من بين السمات والصفات للنبي صلي الله عليه و اله التي وصفه بها القرآن الكريم إضافة إلي (الرسول) و(الشاهد) و(المبشر): صفة المربي ?يزكي? والمعلم ?يعلّم?..

وأكثر القرآن علي النبي صلي الله عليه و اله في التأكيد علي تربية المجتمع والنهوض به، كما تشير إليه الآية الكريمة: ?ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة?().

القرآن والسنة مصدرا التعليم

وبعد تشكيل دولة المدينة الإسلامية واستقرار رسول الله صلي الله عليه و اله سنحت له الفرصة في تبليغ رسالته العالمية، فجاهد صلي الله عليه و اله ثقافة الجاهلية المشركة والملوثة والمعدية، وجذب الناس لدين الحق وعبادة الله الواحد، واتخذ من دار أبي أيوب الأنصاري (رضوان الله عليه) أول منزل له صلي الله عليه و اله مركزاً للتبليغ، وانتخب المبلغين المعلمين.

وأول مجموعة لمبشري الرحمة كان قد أوفدها صلي الله عليه و اله إلي أطراف جزيرة العرب، وكان من وصيته صلي الله عليه و اله لمعاذ بن جبل لما بعثه إلي اليمن:

(يا معاذ، علّمهم كتاب الله، وأحسن أدبهم علي الأخلاق الصالحة، وأنزل الناس منازلهم، خيرهم وشرهم، وأنفذ فيهم أمر الله، ولا تحاش في أمره ولا ماله أحداً، فإنها ليست بولايتك ولا مالك، وأدِّ إليهم الأمانة في كل قليل وكثير، وعليك بالرفق والعفو في غير ترك للحق يقول الجاهل قد تركت من حق الله، واعتذر إلي أهل علمك من كل أمر خشيت أن يقع إليك منه عيب حتي يعذروك، وأمت أمر الجاهلية إلا ما سنه الإسلام، وأظهر أمر الإسلام كله صغيره وكبيره، وليكن أكثر همك الصلاة، فإنها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين، وذكّر الناس بالله واليوم الآخر، واتبع الموعظة، فإنه أقوي لهم علي العمل بما يحب الله، ثم بث فيهم المعلمين، واعبد الله الذي إليه ترجع ولا تخف في

الله لومة لائم)().

مكانة العلم في الإسلام

يمكننا أن نعبر عن الدين الإسلامي بأنه هو الدين الوحيد من بين الأديان الذي يؤكد أكبر التأكيد علي التفقه في المذهب وفهمه، ويصر علي الفكر، والتعليم، ويرفض تقليد الآباء والأجداد في المعتقدات من دون دليل، ويجعل طلب العلم فريضة علي كل مسلم ومسلمة، كما ورد في الحديث الشريف().

يقول الإمام علي عليه السلام: (لا خير في دين لا تفقه فيه)().

وجميل جداً أن يشبه الإمام عليه السلام المعقول بالمحسوس، فمحل العلم في المخ والقوي الدماغية كما شبهه عليه السلام في الحديث الآتي ليوجه الفكر الإنساني، وشريان الحياة الإنسانية.

فيقول عليه السلام: (إن العلم ذو فضائل كثيرة، فرأسه التواضع، وعينه البراءة من الحسد، وأذنه الفهم، ولسانه الصدق، وحفظه الفحص، وقلبه حسن النية، وعقله معرفة أسباب الأمور)().

وورد في الأحاديث: (مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء)().

وذكر المؤرخون: عندما أخذ أمير المؤمنين علي عليه السلام بزمام الخلافة، ولي الأشعث بن قيس الكندي علي آذربايجان، فلما دخل الأشعث (أردبيل) ورأي أن أكثر أهالي آذربايجان قد اعتنقوا الإسلام، أخذ يعلم القرآن ويقرأه، فبني مسجداً في أردبيل وعمر البلد..().

وروي أبو البختري قال: سألنا علي بن أبي طالب عليه السلام عن علم أصحاب النبي صلي الله عليه و اله؟

فقال عليه السلام: من تريدون؟

قلنا: عبد الله بن مسعود.

قال عليه السلام: هذا عالم بالقرآن والسنة، وقد بلغ من العلم درجة، وهذا المقدار من العلم يكون كافياً.

فسألناه عن أبي موسي الأشعري ماذا يقول فيه؟

فقال عليه السلام: صبغ في صبغة ثم خرج منه.

ثم سألناه عن حذيفة بني اليمان؟

فقال عليه السلام: أعلم أصحاب النبي صلي الله عليه و اله بأحوال المنافقين.

فسألناه عن أبي ذر الغفاري (رضوان الله تعالي عليه)؟

فقال عليه السلام: وعلي علماً.

ثم سألناه عن سلمان الفارسي (رضوان

الله تعالي عليه)؟

فقال عليه السلام: ما أقول في رجل خلق من طينتنا، وروحه مقرونة بروحنا، خصه الله من العلوم بأولها وآخرها، وظاهرها وباطنها، وسرها وعلانيتها، وذلك منا أهل البيت().

فقلنا له: حدثنا عن نفسك يا أمير المؤمنين؟

قال عليه السلام: كنت إذا سألت محمداً صلي الله عليه و اله أجابني، وإذا سكت ابتدرني.

يعني أنه عليه السلام قضي عمره الشريف بخدمة النبي صلي الله عليه و اله يستفيد من علمه،

وقد قال عليه السلام: (إن رسول الله صلي الله عليه و اله علمني ألف باب من العلم، يفتح كل باب ألف باب)().

تأسيس المركز الثقافي ودار المعلمين

قام النبي صلي الله عليه و اله بالتبليغ للإسلام وتعليم القرآن في المدينة المنورة، واتخذ من منزل مخرمة بني نوفل "دار القراء" ومركزاً لتدريب المعلمين، ومن هذا المركز كان يتم إيفاد معلمي القرآن إلي خارج المدينة والمدن الأخري.

ذكر المؤرخون: أن عبد الله بن أم مكتوم بصحبة مصعب بن عمير وردا إلي المدينة بعد معركة بدر، واتخذا من "دار القراء" سكناً لهما.

وذكر صاحب كتاب (نظام الحكومة النبوية)() التراتيب الإدارية وأسماء

المبلغين والمعلمين الذين أرسلهم النبي صلي الله عليه و اله إلي خارج المدينة لتعليم القرآن، وكتب يقول:

كان النبي صلي الله عليه و اله يحث المسلمين ويشوقهم علي تعليم القرآن والفقه من الجيران، وأمر عبادة بني الصامت أن يعلّم القرآن لأهل الصفة في مسجد النبي صلي الله عليه و اله وقد ذكر بعض المؤرخين إن أهل الصفة كانوا أربعمائة شخص.

إيفاد المعلمين

كما ذكر في التاريخ أسماء بعض المعلمين والقراء الذين كان يبعثهم النبي صلي الله عليه و اله إلي مختلف المناطق، منهم:

1: مصعب بن عمير:

بعث النبي صلي الله عليه و اله مصعب بن عمير، وذلك بعد معاهدة العقبة الأولي، بمعية النقباء الاثني عشر إلي المدينة المنورة لتعليم أهل يثرب القرآن والفقه، فورد منزل أسعد ابن زرارة واتخذه مركزاً للتعليم، وكان يأتي العشرات من أهل المدينة إلي منزل أسعد ليأخذوا من مصعب القرآن والفقه وأحكام الإسلام، وقد أسلم الكثير بتأثير مصعب، ومن ضمنهم زعمائهم، أمثال سعد بن معاذ، وأسعد بن خضير من رؤساء الأوس.

2: معاذ بن جبل:

بعد فتح مكة المكرمة عيّن النبي صلي الله عليه و اله عتاب بن أسيد ممثلاً له، وأمره بأن يؤم الناس بالصلاة، كما أمر معاذ بن جبل أيضاً أن يقوم بتعليم الناس القرآن والفقه.

وكان معاذ

قاضياً للنبي صلي الله عليه و اله في اليمن، فاشتغل بالقضاء وتعليم الأحكام والقرآن، وقد مرت وصيته صلي الله عليه و اله لمعاذ().

3: عمرو بن حزم الخزرجي:

نقل بعض المؤرخين(): إن النبي صلي الله عليه و اله اتخذ عمرو بن حزم الخزرجي ممثلاً له في نجران حتي يعلم الناس القرآن والفرائض، ويجمع خراجهم وصدقاتهم.

4: رافع بن مالك الأنصاري:

كان رافع في الجاهلية من الكاملين، وكان من جملة النقباء الاثني عشر الذين التقوا بالنبي صلي الله عليه و اله وهو أول من جاء بسورة يوسف عليه السلام إلي المدينة المنورة وكان يقرؤها علي الناس.

النشاطات التعليمية في زمن النبي صلي الله عليه و اله

أمر النبي صلي الله عليه و اله زيد بن ثابت أن يتعلم اللغتين العبرية والسريانية ليكون واسطة بينه صلي الله عليه و اله وبين اليهود، يقول زيد: استطعت أن أتعلم اللغة العبرية بمدة سبعة عشر يوماً وصرت أكتب فيها.

كما عين النبي صلي الله عليه و اله عدة من المسلمين حتي يعلّموا صبيان الأنصار الكتابة، وكان منهم: عبد الله بن سعيد، وعبادة بن الصامت، وكانا معلمين ماهرين وكاتبين باهرين في المدينة وأخذا يعلّمان أهل المدينة القراءة والكتابة، حتي تعلّم العديد من الناس القراءة.

ونقل صاحب كتاب (أدب الدنيا والدين)(): ان تعليم الخط والكتابة عند العرب كان من الأشياء المعتبرة والنافعة، فالخط والكتابة لا يقاس بهما شيء آخر، ومن هذا المنطلق فإنه بعد معركة بدر طلب النبي صلي الله عليه و اله من الأسري أن يرفعوا أربعة آلاف دينار كفدية مقابل إطلاق سراحهم، ولما لم يكن بمقدورهم دفع مبلغ الدية، أمرهم صلي الله عليه و اله أن يعلموا مائة صبي من صبيان المدينة الكتابة.

وكان زيد بن ثابت مع عدة من فتيان الأنصار من جملة من تعلّم الخط

من معلمي الكفار، وبعدها صار زيد من كتّاب الوحي ومن كتّاب القرآن.

وبالإضافة إلي الرجال فقد كان النبي صلي الله عليه و اله يستعين بالنساء المسلمات المتعلمات اللاتي يجدن القراءة وفن الكتابة، وكان يأمرهن بتعليم النساء، كما أمر النبي صلي الله عليه و اله شعثاء أم سليمان بن أبي قمة بأن تعلم زوجات النبي صلي الله عليه و اله الكتابة.

وكذلك كانت بيت فاطمة (عليها السلام) مركزاً لتعليم النساء وبيان الأحكام لهن.

ومن أثر هذه النهضة التعليمية المباركة أنه لم يمض وقت طويل علي ذلك حتي ازداد عدد المتعلّمين في المدينة، حتي من بين النساء وربات البيوت والبنات..

فكانت حفصة زوجة النبي صلي الله عليه و اله قد تعلمت الكتابة، وكذلك أم كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط تعلمت الكتابة، وقالت عائشة بنت سعد: علمني أبي الكتابة في البيت، وكانت كريمة بنت المقداد أيضاً تكتب، أما أم سلمة زوجة النبي صلي الله عليه و اله فكانت تقرأ ولاتكتب، وكانت عائشة مثل أم سلمة تقرأ ولا تكتب.

وكانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) تكتب وتقرأ، ولنا كتاب باسم (مصحف فاطمة)(). والمصحف في اللغة بمعني الكتاب، أي كتاب فاطمة (عليها أفضل الصلاة والسلام).

الإسلام وخدمة الناس

إذا كانت خدمة الناس، وقيام المساواة بينهم، والعمل علي رفاههم، وإحياء الحقوق الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، معيار الحكومة الصالحة واللائقة، فإن

الدولة الإسلامية بقيادة النبي الأكرم صلي الله عليه و اله تعتبر النموذج الأمثل للحكومة الصالحة والراشدة التي تأسست في المدينة المنورة، وأقيمت علي الأصول والأهداف الإنسانية العالية.

فكل حكومة استطاعت أن تقيم العدالة والمساواة في المجتمع وتجري القوانين الإنسانية كما في حكومات الأنبياء، يمكننا أن نعتبرها حكومة إسلامية إذا توفرت فيها سائر الشروط()، فشكل الحكومة تكون علي حسب مقتضيات الزمن، لكن الأسس

لاتتغير، كما تكون فيها جميع الحريات الإسلامية مع وجود الانتخابات الحرة بالاضافة إلي ما ذكرنا تفصيله في الفقه.

إذن لو أردنا تشكيل الحكومة الإسلامية يجب أن تكون علي غرار حكومة النبي صلي الله عليه و اله المبعوث من قبل الله تعالي، فيجب أن تكون الشوري والانتخاب الحر، كما كان النبي صلي الله عليه و اله يكثر من استشارة أصحابه في الأمور الاجتماعية، ولم يكن صلي الله عليه و اله يأبي مشورة الناس، وكان دائماً في إجراء الأمور والإشراف علي الأعمال يطلب من الناس التدخل في مثل هذه الشؤون، حتي أنه في كثير من الأوقات كان يقدم رأي الأكثرية علي رأيه، والتاريخ حافل بهذه الشواهد().

وكذلك كان حكومة أمير المؤمنين عليه السلام فإنها كانت نموذجا صحيحا للحكومة الإسلامية.

وفي أول خطبة للإمام علي عليه السلام بعد تولي الحكم الإسلامي يقول: (أيها الناس! إنما أنا رجل منكم، لي مالكم وعلي ما عليكم).

الديمقراطية الإسلامية

تقوم الديمقراطية الإسلامية، وبالأحري الاستشارية الإسلامية علي أسس عديدة، منها:

1: الحريات الإسلامية في جميع مجالات الحياة، قال تعالي: ?ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم? ().

فالناس جميعاً أحرار في كافة الدول الإسلامية: في السفر والإقامة والزراعة والبناء والعمل والتجارة ونشر الكتب والمجلات والجرائد و الاستفادة من الإذاعة والتلفزيون وفي تأسيس الأحزاب والتكتلات وفي التأليف والخطابة والزواج وجميع النشاطات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها، إلا في المحرمات الشرعية وهي قليلة جداً.

2: أن لا يتحمل الإنسان أخطاء الآخرين، حتي وإن كان مرتكب الخطأ والجرم آباء وأجداد ذلك الشخص، قال تعالي: ?ولا تزر وازرة وزر أخري?().

3: أن يكون الإنسان مسؤولا عن أعماله الخاصة، قال سبحانه: ?تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون?().

وقال عزوجل:

?وأن ليس للإنسان إلا ما سعي?().

وقال تعالي: ?كل نفس بما كسبت رهينة?().

وقد ورد هذا الحديث النبوي المعروف والذي يؤكد علي مسؤولية الإنسان واحساساته التي يضطلع بها: قال صلي الله عليه و اله:

(كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو المسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راعٍ وهو مسؤول عن رعيته والرجل راعٍ في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)().

4: أن تراعي الحقوق العامة والمساواة بين الناس، قال تعالي: ?يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم?().

فلا أثر للنسب والروابط القبلية دنيا وآخرة في عالم الإسلام، بل تتكافأ جهود الناس، يشير الحديث النبوي إلي هذه الناحية بقوله صلي الله عليه و اله: (يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب! لا اغني عنك من الله شيئاً لي عملي ولكم عملكم)().

ولا يخفي أن هذا الحديث لا ينافي مسألة الشفاعة فإنها صحيحة قد دلت عليها الآيات والروايات المتواترة.

وقد سمع النبي صلي الله عليه و اله أحد الصحابة يقول لصحابي آخر: يا بن السوداء!، فتألم النبي صلي الله عليه و اله من قوله هذا وقال: (ليس لابن البيضاء علي ابن السوداء فضل إلا بالتقوي أو بعمل صالح)().

فالإسلام ليس كاليهودية التي جاءت لمجموعة خاصة، بل إن دعوة الإسلام دعوة عالمية عامة لكل الناس: ?وما أرسلناك إلا كافة للناس?()، فالإسلام يرفض التعصب الأعمي والعصبية القبلية وينكرها أشد الإنكار، وكل

من يدعو لعصبية فهو مطرود من رحمة الإسلام، يقول الرسول الأكرم صلي الله عليه و اله: (ليس منا من دعا إلي عصبية، وليس منا من قال بالعصبية، وليس منا من مات علي عصبية).

وسئل عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام عن العصبية فقال: (العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يري الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين)().

عن أبي عبد الله عليه السلام: (من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه)().

وعنه عليه السلام: (من تعصب عصبه الله بعصابة من نار)().

5: مشاورة الناس، يقول أحد الكتّاب الإسلاميين: (إن الحكومة العادلة ليست فقط تعطي حق الانتخاب للناس في تعيين الحاكم، وبعد أن يأخذ ذلك الحاكم المنتخب بزمام الأمور يكون قد نساهم واستبد بالأمور دونهم فلا رأي لهم ولا حل ولا عقد، فالحكومة العميقة تقضي معظم وقتها في التعاون والمراقبة المستمرة والمشاورة مع الناس بما يخدم المصلحة العامة وينتج التقدم والرقي والرفاه والسعادة للوطن). وسنشير إلي بعض الآيات والأحاديث التي تحث علي المشاورة وأهميتها في الحكومة الإسلامية وقد ذكرنا جملة منها في كتاب (الشوري في الإسلام)().

قال تعالي: ?والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شوري بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون?().

وقال سبحانه: ?فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل علي الله?().

وكان النبي صلي الله عليه و اله كثيراً ما يؤكد ويقول: (أشيروا عليّ أصحابي، أشيروا عليّ أيها الناس)().

حتي أن بعض الروايات قد أشارت: في حالة عدم وجود آية أو حديث لحل مشكلة اجتماعية، يمكن حل هذه المشكلة الاجتماعية، عن طريق المشاورة مع الناس.

روي سعيد بن المسيب، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قلت: يا رسول الله! ينزل بنا الأمر

ولم ينزل فيه قرآن ولم تمض فيه سنتك، قال رسول الله صلي الله عليه و اله: (واجمعوا له العالمين من المؤمنين فاجعلوه شوري بينكم ولا تقضوا فيها برأي واحد).

وقال صلي الله عليه و اله: (إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأمركم شوري بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها)().

وقال الإمام علي عليه السلام: (من استشار ذوي النهي والألباب فاز بالحزم والسداد)().

وقال عليه السلام: (من شاور ذوي العقول استضاء بأنوار العقول)().

وقال عليه السلام: (من لزم المشاورة لم يعدم عند الصواب مادحا وعند الخطأ عاذرا)().

وقال الإمام الصادق عليه السلام: (شاور في أمورك) ().

وقال عليه السلام: (وفي المشاورة اكتساب العلم، والعاقل من يستفيد منها علما جديدا، ويستدل به علي المحصول من المراد، ومثل المشورة مع أهلها مثل التفكر في خلق السماوات والأرض وفنائهما)().

التضامن الاجتماعي والمسؤولية العامة

للإسلام طريقة ناجحة في توثيق أواصر المجتمع، ودمج أفراده بعضهم ببعض، وتوحيد صفوفهم، وتعاضدهم وتكاتفهم.. وإيجاد الحب والوداد والأخوة بينهم، ونبذ الحزازات والفوارق وراء ظهورهم، فإن الإسلام يأمر الناس بما يقرب الناس من بعضهم، ويشيع فيهم الحب والإخاء والرحمة.. وينهي الناس عن أعمال تسبب التفرقة وتوجد البغضاء والشحناء والمهاترات بين أفراد المجتمع الواحد.

وفي نفس الوقت يصب الإسلام الأوامر والنواهي في قالب ينسجم مع العقل ويحرك العاطفة البشرية، وبذلك يتم تطبيق الأوامر والنواهي بكل بساطة وسهولة.

لقد أوجب الله تعالي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)() باعتبار أن المسؤولية العامة والتضامن الاجتماعي من الأصول الأساسية للمجتمع الديمقراطي الإسلامي، يقول القرآن الكريم مشيراً إلي هذه الحقيقة: ?ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر?()..

وفي آية أخري يقول سبحانه: ?كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر?().

فالآثار الاجتماعية المترتبة علي هذه المسؤولية العامة والتضامن الاجتماعي

هي كثيرة وتكون لخير الإنسانية ولصالح المجتمع الإسلامي: فالناس بخير ما تذاكروا وتشاورا وتواصوا وتعاونوا، فإذا فرطوا في شيء من ذلك فقد تولاهم شرارهم فلاتستجاب فيهم دعوة الأبرار.

برنامج الحكومة

لأجل إثبات الأصالة الشعبية والديمقراطية أو الاستشارية في حكومة النبي صلي الله عليه و اله سنشير إلي بعض الفقرات من خطابه صلي الله عليه و اله في حجة الوداع وأشار إلي بعض أهداف دولته المباركة، وفيما يلي نص خطابه:

(أيها الناس! إن دماءكم وأعراضكم عليكم حرام إلي أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم… إن ربا الجاهلية موضوع… أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقاً، ولكم عليهن حق… أيها الناس! إنما المؤمنون اخوة ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفس منه… أيها الناس! إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم وليس لعربي ولا لعجمي فضل إلا بالتقوي)().

التشكيلات الإدارية والممثلون السياسيون

أول ما استعمله النبي صلي الله عليه و اله في إدارة الحكومة الإسلامية هو الاستفادة من التشكيلات الإدارية بالمعني الصحيح لا بما هو متعارف في هذا اليوم من كثرة الإدارات وأعمال الروتين.

يقول المؤرخون(): إن ديوان الإنشاء الرسائل أول تشكيل وجد في الإسلام، واستطاع نبي الإسلام صلي الله عليه و اله بهذه الوسيلة وبواسطة بعض أصحابه أن يكاتب رؤساء القبائل والسلاطين والملوك ويدعوهم إلي الإسلام، ويكتب معهم المعاهدات والمواثيق وكان صلي الله عليه و اله يقوم بنفسه بإنشاء هذه الرسائل، وجميع هذه المكاتيب تتعلق بديوان الإنشاء ويختلف هذا الديوان عن الديوان النظامي.

وذكر المؤرخون أيضاً: كان كتّاب الوحي والرسائل للنبي صلي الله عليه و اله هم: علي بن أبي طالب عليه السلام وزيد بن ثابت، وعثمان بن عفان، وأبي بن كعب. وفي حال غيابهم كان يقوم معاوية، وجابر بن سعيد، وأبان بن سعيد، والعلاء الحضرمي، وحنظلة بن الربيع بكتابة الرسائل والمكاتيب.

وقد أوصل بعضهم عدد من كان يكتب للنبي صلي الله

عليه و اله إلي (42) صحابياً.

المديرية السياسية للمدينة

منذ اليوم الأول الذي شكل فيه النبي صلي الله عليه و اله دولته الإسلامية في المدينة المنورة، لم تكن إدارة المدينة بعيدة عن إشرافه، حتي في الظروف الحساسة التي يستعد فيها للحرب ويكون خارج المدينة، وعندما يكون في المدينة سيكون له حضور دائم بالإشراف عليها بنفسه، وعندما يغادر المدينة لسبب من الأسباب يعهد لممثليه السياسيين بالقيام بإدارتها.

وكان من يخلفه في غيبته صلي الله عليه و اله هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وكان عليه السلام يشرف علي كل المواقع باستمرار بأمره صلي الله عليه و اله حتي في الأوقات التي كان فيها النبي صلي الله عليه و اله حاضراً في المدينة أو أطرافها، وهذا الموضوع يدل دلالة واضحة بأن المدينة المنورة كانت مركز قوة سياسية، ولا يمكن أن تخلو من الإشراف المباشر للقائد السياسي وهو النبي صلي الله عليه و اله، أو من كان يخلفه خاصة وهو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

والملاحظة الأخري التي تثير الانتباه أن انتخاب عدد من الأفراد لإدارة شؤون المدينة يشير إلي عناية النبي صلي الله عليه و اله بالقبائل والعشائر التي تسكن المدينة، وكان لا يرغب أن تكون المدينة تحت سيطرة مجموعة أو قبيلة خاصة.

الوظيفة السياسية لخليفة النبي صلي الله عليه و اله

ربما يمكن تلخيص الأعمال العامة لخليفة النبي صلي الله عليه و اله في المدينة المنورة بما يلي:

1: إقامة صلاة الجماعة وحفظ الشريعة الإسلامية وأحكامها بشكل عام.

2: حفظ الأموال العامة.

3: الحفاظ علي النظام العام من عمليات البناء، بيع المواد في الأسواق، أو الأمور المتعلقة بها مع رعاية جميع الحريات الإسلامية في البناء والعمران والتجارة وما أشبه.

4: الحفاظ علي أمن المدينة: كمراقبة تصرفات الأعداء الذين يدخلون فيها أو الذين يخرجون منها، ورصد نشاطات

العناصر المشبوهة، وأحياناً حل الاختلافات القضائية لساكني المدينة.

5: السعي لتقدم المسلمين في المدينة وغيرها تقدما دينيا ودنيويا وفي جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية و…

وفي بعض الأمور المهمة كان خليفة النبي صلي الله عليه و اله يصبر حتي يعود القائد السياسي وهو النبي صلي الله عليه و اله ليقوم بنفسه في حل الأمور المستعصية.

وأشار التاريخ الإسلامي إلي الأعمال والوظائف التي يقوم بها خليفة النبي صلي الله عليه و اله كما أشارت إليها وصية النبي صلي الله عليه و اله لعلي عليه السلام عند استخلافه إياه في غزوة تبوك:

(يا علي! اخلفني في أهلي، وأضرب وخذ وأعط)().. ثم دعا صلي الله عليه و اله نساءه فقال: (اسمعن لعليً وأطعن)().

إدارة الولايات الأخري

بعد فتح مكة المكرمة، انتشر نفوذ الإسلام في أكثر مناطق جزيرة العرب أو كلها تقريباً، لذا كان من الطبيعي أن يقوم النبي صلي الله عليه و اله بإيفاد ممثليه السياسيين إلي تلك الولايات لإدارة أمورها السياسية وشؤونها الاقتصادية وذلك بتعليم القرآن والتبليغ للإسلام وبيان أحكامه للناس.

وقد ذكرت مصادر الحديث، وكتب السيرة والتاريخ أسماء بعض الممثلين السياسيين الذين أوفدهم النبي صلي الله عليه و اله لتلك المدن والولايات للقيام بإدارة شؤونها، وقد أشارت إليهم تلك المصادر بالتفصيل، وفي بعض الولايات ذكر أسماء بعضهم بالإضافة إلي كيفية إدارتهم لها.

وكان من بين هؤلاء من هو حديث العهد بالإسلام، أمثال: عتاب بن اسيد ممثل مكة المكرمة، ويعلي بن أمية، وأبو سفيان، الذين أسلموا بعد فتح مكة المكرمة.

وظائف الممثلين السياسيين

كانت هناك عدة وظائف لممثلي النبي صلي الله عليه و اله في مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية يمكن الإشارة إلي بعضها في الأمور التالية:

1: تعليم القرآن والمعارف الإسلامية.

2: جمع الصدقات وزكاة الأموال.

3: حفظ حدود الولايات (الأمن الداخلي).

4: تشكيل قوة شعبية إسلامية للجهاد.

5: إجراء الأحكام والحدود الإسلامية.

6: حل المنازعات والاختلافات القضائية.

7: السعي لتقديم البلاد والعباد في جميع مجالات الحياة.

وفي موارد أخري كانت القبائل وعشائر العرب يعيشون حياة قبلية، دون أن يتدخل بشؤونهم ممثلو النبي صلي الله عليه و اله.

المحافظة علي الأمن

يظهر لمن طالع التاريخ السياسي وتتبع المصادر أن النبي صلي الله عليه و اله كان له اهتمام خاص بمراقبة النشاطات وأعمال الممثلين السياسيين وأمراء الجيوش..

وكان صلي الله عليه و اله يرسل بعض رجال الأمن للإطلاع علي تلك الأوضاع والنشاطات التي يمارسونها، فإنه كما ذكرنا في الفقه: لا يجوز التجسس في الإسلام إلا علي الطبقة الحاكمة حتي لا يخلوا بوظائفهم، وإلا علي الأعداء()..

وقد جاءت الرواية: كان رسول الله صلي الله عليه و اله إذا بعث جيشاً فعين لهم أميراً بعث معه من ثقاته من يراقبه.

وكنموذج حي لذلك، تفقّد النبي صلي الله عليه و اله عامله علي البحرين: العلاء الحضرمي، بعد أن شكاه أهل تلك الديار عبد القيس وعين أبان بن سعيد خلفاً له، وأوصاه بقوله صلي الله عليه و اله: استوح بعبد القيس خيراً، أكرم سراتهم.

وكان يستوفي الحساب علي العمال محاسبتهم علي المستخرج والمصروفة.

وفي عهد أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام إلي مالك الأشتر (رضوان الله تعالي عليه) كما هو مذكور في "نهج البلاغة":

(ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حَدوة لهم علي استعمال الأمانة،والرفق بالرعية، وتحفظ من الأعوان، فإن أحد

منهم بسط يده إلي خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقوبة في بدنه)().

وكتب الإمام علي عليه السلام إلي عامله (كعب بن مالك) يقول: (أما بعد، فاستخلف علي عملك، وأخرج طائفة من أصحابك حتي تمر بأرض السواد كورة علي كورة فتسألهم عن عمالهم، وتنظر في سيرتهم).

جمع الزكاة و الوجوه الشرعية

من إحدي وظائف المسلمين هي إيتاء الزكاة وسائر الوجوه الشرعية، ومن جملة وظائف ولي أمر المسلمين الذي هو رسول الله صلي الله عليه و اله والأئمة المعصومين من بعده (عليهم السلام) جمع هذه الوجوه الشرعية وإيداعها في بيت مال المسلمين.

وكان النبي صلي الله عليه و اله يعير اهتماماً كاملاً ودقيقاً لهذا الجانب، وكان يراقب بدقة كاملة جميع عماله الذين اختارهم لهذه المهمة حتي لا يرتكبوا خطأ ويستغلوا موقعهم الذي هم فيه.

فقد ورد أن النبي صلي الله عليه و اله كان قد عين رجلاً من قبيلة الأزد لجمع الزكوات والصدقات الواجبة، فلم يتصرف بالشكل المطلوب، فأغضب النبي صلي الله عليه و اله وقال: (في أي وضع هذا الرجل… كل من نوليه أمراً، فهو يتولانا ويعيننا، فهذه مسؤولية يوم القيامة يحاسب عليها، حتي ولو كانت حيوانات، ثم رفع بيديه إلي السماء وقال: اللهم قد بلغت).

وهكذا كان وصيه أمير المؤمنين عليه السلام، ففي كتاب المقنعة عن بريد العجلي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

(بعث أمير المؤمنين عليه السلام مصدقا من الكوفة الي باديتها فقال: يا عبد الله انطلق وعليك بتقوي الله ولا تؤثر دنياك علي آخرتك، وكن حافظاً لما ايتمنتك عليه، راعياً لحق الله عزوجل، حتي تأتي نادي بني فلان، فاذا قدمت فانزل بمائهم من غير ان تخالط بيوتهم، ثم امض بسكينة ووقار حتي تقوم

بينهم، فتسلم عليهم، ثم قل: يا عباد الله أرسلني إليكم ولي الله لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلي وليه، فإذا قال لك قائل: لا، فلا تراجعه، وان أنعم لك منهم منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو تعده إلا خيرا، فإذا أتيت ماله فلا تدخله الا بإذنه، فان أكثره له، وقل: يا عبد الله أتأذن لي في دخول مالك؟ فإذا إذن لك فلا تدخله دخول متسلط عليه ولا عنف به، فاصدع المال صدعين) الحديث().

أسماء بعض الممثلين السياسيين للنبي صلي الله عليه و اله

وقد ذكر مؤرخو الإسلام أسماء بعض الممثلين السياسيين للنبي صلي الله عليه و اله في المدن والولايات، كما يلي:

ألف: الموفدون إلي جنوب جزيرة العرب

1: علي بن أبي طالب عليه السلام (قريش هاشم) إلي نجران، ليقوم بجمع الصدقات والجزية.

2: المهاجر بن أبي أمية (قريش مخزوم) إلي صنعاء.

3: زياد بن لبيد (الأنصار بياضة) إلي صنعاء.

4: معاذ بن جبل (الأنصار سلمة) إلي حمير واليمن لتعليم القرآن، وهو من المسلمين الأوائل وكانت له سابقة في الإسلام.

5: عبد الله بن زيد (الأنصار بلحارث) إلي حمير، من أنصار المدينة، وكانت له سابقة حسنة.

6: مالك بن عبادة (حمدان) إلي حمير.

7: عقبة بن نمير (حمدان) إلي حمير.

8: مالك بن مرة الرهاوي (مذحج) إلي حمير، وكان من المسلمين المؤمنين، وكان يعتمد عليه النبي صلي الله عليه و اله.

9: شهر بن باذام (فارسي) عين حاكماً لصنعاء، وكان من أشراف الإيرانيين وقد أسلم.

10: عامر بن شهر الهمداني إلي همدان.

11: أبو موسي الأشعري عبد الله بن قيس إلي مأرب، من المسلمين قبل فتح مكة المكرمة.

12: خالد بن سعيد بن العاصي (قريش عبد شمس) إلي منطقة بني نجران والرقة وزبيد وصنعاء، وكان من مسلمي صدر

الإسلام في مكة المكرمة.

13: طاهر بن أبي هلة (تميم مولي عبد الدار قريش) إلي عك وأشعر.

14: يعلي بن أمية (تميم مولي نوفل قريش) إلي جند، وكان من مسلمي صدر الإسلام.

15: عمرو بن حزم (الأنصار نجار) إلي نجران واليمن، وكان من أصحاب العقبة الثانية ومن شهداء الصحابة.

16: أبو سفيان صخر بن حرب (قريش عبد شمس) إلي اليمن ونجران، وكان من أشراف قريش، تظاهر بالإسلام في فتح مكة المكرمة.

ب: الموفدون إلي شرق جزيرة العرب

17: العلاء بن الحضرمي (مولي قريش عبد شمس) إلي البحرين، أسلم قبل فتح مكة المكرمة.

18: الأقرع بن حابس (تميم) إلي هجر (البحرين) من أشراف قريش، ومن المؤلفة قلوبهم، تسلم من النبي صلي الله عليه و اله مائة بعير.

ج: الموفدون إلي أطراف المدينة المنورة

19: الوليد بن عقبة بن أبي معيد (قريش عبد شمس) إلي بني المصطلق،

ولم يقبل ذلك، وكان من مشركي قريش، أسلم بعد فتح مكة، ولم تكن سيرته مرضية.

20: عدي بن حاتم (طي) إلي قبيلتي (طي وأسد)، أسلم في السنة التاسعة للهجرة، وكان ذا إيمان صلب، وقد حضر حرب صفين وكان من أنصار الإمام علي عليه السلام.

21: مالك بن نويرة() (تميم) بعثه النبي صلي الله عليه و اله إلي بني حنظلة من قبائل بني تميم لجمع الصدقات.

22: الزبرقان بن بدر (تميم) أوفد إلي بعض بني سعد (تميم)، كان من وفد بني همدان في السنة التاسعة للهجرة، ومن المؤلفة قلوبهم.

23: قيس بن عاصم (تميم المنتصر) إلي بعض بني سعد.

24: كعب بن مالك (الأنصار سلمة) من مسلمي الأنصار ومن أصحاب العقبة الثانية ومن شهداء معركة بدر، وكانت له سابقة طيبة.

25: عباد بن بشر (الأنصار عبد الأشهل) إلي سليم ومزينة لجمع صدقات القبائل، وكان من مسلمي الأنصار،

ومبعوث النبي صلي الله عليه و اله، وذا ذوق سليم، ومن شهداء بدر.

26: عمرو بن العاص (قريش) إلي قبيلة فزارة لجمع صدقاتها، من مسلمي مكة، ومن المهاجرين إلي الحبشة، وكان من أصحاب معاوية في صفين.

27: بسر بن سفيان (كعب) لجمع صدقات قبيلة كعب.

28: نعيم بن عبد الله النحام (قريش عدي) لجمع صدقات قبيلة كعب، وكان من مسلمي صدر الإسلام ومن أشراف قريش، وهاجر إلي المدينة المنورة في السنة السادسة للهجرة.

29: عينية بن حص (فزارة) لجمع صدقات بني تميم، شارك في معركة هوازن.

30: قضاعة بن عمرو (عذره) إلي قبيلة أسد.

وقد ذكر المؤرخون: أن النبي صلي الله عليه و اله بعد فتح مكة ولي عتاب ابن أسيد علي مكة، وأبان بن سعيد بن العاص علي البحرين، وخالد بن سعيد علي صنعاء، وكانوا قد أسلموا حديثاً في فتح مكة وتشرفوا بالإسلام.

التخصص أو التعهد في إدارة مركز الدولة

كان النبي صلي الله عليه و اله يعهد في الأمور الاجتماعية والإجرائية حتي إلي الذين قد أسلموا حديثاً حتي يستفاد من تجاربهم وخبراتهم ولكي يعرفوا الإسلام ويقدروه من صميم أنفسهم، وكان صلي الله عليه و اله يألف قلوبهم ويدعمهم، حيث كان بينهم الكثير من المؤلفة قلوبهم، أمثال: الأقرع بن حابس.

وكان من بين المسلمين المؤمنين أفراد لائقون ومناسبون، تتوفر فيهم التجربة والإدارة، وإن كان أحيانا عددهم غير كافٍ لإدارة الأعمال الإدارية والاجتماعية في الدولة المركزية وأطرافها، خصوصاً لو قارنا الزمن الماضي وانتصارات المسلمين في كل يوم مع زيادة المساحة الجغرافية في الدولة الإسلامية والطاقة البشرية، إضافة إلي أن النبي صلي الله عليه و اله امتدت سلطته وتوسع نفوذه إلي الكويت وإلي أكيدر قرب الأردن وذلك في أواخر السنة العاشرة للهجرة، حتي أنه صلي الله عليه و اله كان

يحكم بحسب خريطة اليوم ما يقارب تسع دول..

فعلي هذا ربما كان لم يتوفر العدد الكافي من بين المسلمين المؤمنين لإدارة مثل هذا المجتمع الكبير الذي يأخذ بالتوسع ويدخل المسلمون فيه زرافات ووحداناً، ولما كان النبي صلي الله عليه و اله يوفد مثل هؤلاء المسلمين المؤمنين إلي خارج المدينة للتبليغ وتعليم القرآن وجمع الصدقات والوجوه الشرعية الأخري، فبطبيعة الحال أن المدينة في ظل الدولة المركزية وعند غياب هؤلاء المؤمنين كانت بأمس الحاجة إلي كادر مخلص ووفي، وقد ينجم عن عدم سد الفراغ بغيرهم إلي حدوث مشكلات عديدة في إدارتها فمن هذا المنطلق استفاد رسول الله صلي الله عليه و اله من جميع الكوادر في إدارة الحكومة الإسلامية وحتي من الذين كانوا قد أسلموا حديثا وكان هذا من أسرار نجاح الإسلام فالكل كان يشعر بمكانته الاجتماعية وبشخصيته في ظل حكومة رسول الله صلي الله عليه و اله حتي المنافقين من أمثال أبي سفيان.

لذلك عندما نقرأ كتب التاريخ والسيرة نجد أن النبي صلي الله عليه و اله عهد لمن أسلم حديثاً بعد فتح مكة المكرمة بالولايات وإدارة المراكز الجديدة في خارج المدينة، وذلك بأن يقوموا بالشؤون الإدارية والإجرائية وجمع الصدقات والزكاة.. حتي ينتفع بتجاربهم وإدارتهم الاجتماعية، سيما وإن لهؤلاء الذين أسلموا حديثاً روابط مع القبائل والعشائر قبل فتح مكة، ولا شك ان لتنظيم هذه الأمور وإدارة المراكز الإسلامية بهذا الأسلوب تأثيراً كبيراً ومباشراً، اضافة الي أن النبي صلي الله عليه و اله مع المؤمنين الأوفياء كأمير المؤمنين علي عليه السلام كان لهم الإشراف والمراقبة علي أعمال هؤلاء.

فعلي سبيل المثال لا الحصر، تقدم: أن العلاء بن الحضرمي في تفتيش الحساب وبشكوي عبد القيس منه قد عزل عن البحرين، واحتل

مكانه إبان ابن سعيد، وقد أوصاه صلي الله عليه و اله بخدمة أهل البحرين والتودد لهم.

الخبروية في الفقه الإسلامي

وكما أن الإيمان شرط في القضايا الإسلامية كذلك الخبروية والتخصص حتي أن البعض أجاز الاعتماد علي الخبير الأمين وإن لم يكن عادلا.

يقول الفقيه الهمداني (قدس سره) في بحث خاص له عن عامل الزكاة في عصر الغيبة:

لو وجد الفقيه طفلا أو فاسقا ذا بصيرة في جريان الأمور ومطلعا علي المسائل السياسية في إدارة الدولة ويقطع أن هذا الشخص أمين يريد الخير فلا مانع أن يقوم هذا الشخص بجمع الصدقات والزكاة وضبطها وكتابتها ويصح استخدامه لهذا الغرض إذا كان مثل هذا الموضوع يحرز فيه مصلحة المجتمع الإسلامي.

وهذا الكلام يدل علي أهمية الخبروية والاختصاص في مختلف المجالات.

وأما أبناء العامة فقالوا: كان النبي صلي الله عليه و اله يؤمر علي القوم وفيهم من هو خير منه لأنه أيقض عينا وأبصر بالحرب().

سياسة التمركز في الحكومة الإسلامية

عندما وفد قيس بن عاصم ممثلاً قومه علي النبي صلي الله عليه و اله، طرح النبي صلي الله عليه و اله عباءته وافترشها له ليجلس عليها احتراماً وتكريماً له، وقال صلي الله عليه و اله: هذا سيد الوبر..

ولما ارتحل قيس بن عاصم عن هذه الدنيا، قال الشاعر في وصفه:

عليك سلام الله قيس بن عاصم

ورحمته ما شاء أن يترحما

تحية من ألبسته منك نعمة

إذا زار عن شحط بلادك سلما

وما كان قيس هلكة هلك واحد

ولكنه بنيان قومٍ تهدما

وعلي ضوء ذلك يمكننا القول: بأن كل منطقة كان لها نوع من الاستقلالية في إدارة موقعها وفي نفس الوقت كانت تحت سلطة ونفوذ وتصرف الدولة المركزية فلم تكن هناك الحدود الجغرافية، ما نراه اليوم من تقسيم البلاد الإسلامية وفصلها بالحدود الجغرافية المصطنعة فهو من الاستعمار ولم يعترف به الإسلام.

ففي السنة التاسعة للهجرة كانت القبائل العربية تأتي وتفد علي النبي صلي الله عليه و اله

جماعات جماعات، لتعلن عن إسلامها، حتي سمي ذلك العام ب(عام الوفود).

فبعد إعلان إسلامهم عين لهم النبي صلي الله عليه و اله شيخ القبيلة ليكون حاكماً عليهم بشرط العمل بالإسلام وإعطاء الصدقات وغيرها من الوجوه الشرعية، فقد أقر النبي صلي الله عليه و اله باذان ملك اليمن علي عمله بعد إسلامه.

وفي ذيل رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي سلطان البحرين المتضمنة علي إبقائه في وظيفته جاء فيها:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد صلي الله عليه و اله رسول الله إلي المنذر بن مساوي: سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد، فإني أذكرك الله عزوجل فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وأنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد آتوا عليك خيراً، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عملك، ومن أقام علي يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية).

وأيضاً جاء في وصية النبي صلي الله عليه و اله لمعاذ بن جبل بأن يعين ما يريد من المسلمين ويبعثهم إلي أطراف اليمن لتعليم القرآن والمعارف الإسلامية، وهكذا..

ممثلو النبي صلي الله عليه و اله واستمرارية أعمالهم الإدارية

ومن المناسب أن نشير إلي أسماء من كان يمثل النبي صلي الله عليه و اله في الأعمال الإدارية والذين بقوا في مناصبهم حتي بعد رحيل النبي صلي الله عليه و اله.

1: عتاب بن أسيد: كان والياً وأميراً لحجاج مكة المكرمة، وقد شغل هذا المنصب أيضاً في عهد أبي بكر.

2: باذان ملك اليمن كان قبل إسلامه والياً من قبل خسرو برويز ملك ايران،

وبعد أن أشهر إسلامه أبقاه النبي صلي الله عليه و اله في منصبه الحكومي، وكان حاكماً لصنعاء، وكانت قد عاجلته المنية بعد حجة الوداع فخلفه ابنه (شهر بن باذان) بأمر النبي صلي الله عليه و اله.

3: عبد الله بن عمر بن الربيع: كان ممثلاً للنبي صلي الله عليه و اله في قبيلتي تغلب وعبس، وبقي علي وظيفته حتي زمان عمر بن الخطاب.

4: الحارث بن نوفل: من بني هاشم، تولي بعض مناطق مكة المكرمة، واستمر في عمله حتي زمان عثمان بن عفان.

5: صيفي بن عامر: من قبيلة بني ثعلبة كان والياً للنبي صلي الله عليه و اله في قبيلته، وأمره أبوبكر علي عمله.

6: عمرو بن حزم الأنصاري: كان يمثل النبي صلي الله عليه و اله في بجران، وظل يمارس أعماله في عصر أبي بكر.

7: عمرو بن سعيد العاص: كان عاملاً للنبي صلي الله عليه و اله في وادي القري، واستمر علي عمله حتي أيام عمر بن الخطاب.

8: عبد الله بن سوار: كان ممثلاً للنبي صلي الله عليه و اله في البحرين.

9: مروة بن نغاثة: جاء مع قبيلته إلي النبي صلي الله عليه و اله فأعلن إسلامه، فطلب منه النبي صلي الله عليه و اله أن يكون والياً له في قبيلته.

10: قيس بن مالك: ما أن أشهر إسلامه حتي اتخذه النبي صلي الله عليه و اله والياً له في قومه آل حمدان مع توابعها من العرب والموالي والحلفاء، وطلب من آل حمدان أن يطيعوا أمره ويلتزموا بأوامره، بعد أن أخذ صلي الله عليه و اله منهم العهود والمواثيق.

11: عمر بن أبي ربيعة: الشاعر المعروف، عينه النبي صلي الله عليه و اله حاكماً علي بعض مناطق عدن، واستمر

في عمله حتي زمان قتل عمر بن الخطاب كما أن عثمان بن عفان قد رغب أن يبقي علي عمله السابق.

وقد أورد بعض الشعراء () أسماء الممثلين والعمال للنبي (صلي الله عليه وآله وسلم) الذين تولوا بعض الأمور القضائية، وجمع الزكاة، وأمارة الحج.

تنظيم الأمور المالية في دولة المدينة

شرعت الجزية بعد خمس الغنائم، فالجزية علي أهل الكتاب، والزكاة وخمس الغنائم وأرباح المكاسب علي المسلمين.

وما جاء في السيرة والتاريخ يدل علي أن تشكيلات الجباية (أخذ الزكاة) كانت في أواخر عهد النبي صلي الله عليه و اله وبعد نزول الآية الكريمة: ?خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم?().

وقد توسعت هذه التشكيلات بعد تشريع الزكاة.

ويفهم من الروايات: أنه كان في زمن رسول الله صلي الله عليه و اله وبعده مركز اقتصادي اسمه (بيت المال) يجمع فيه الوجوه الشرعية من الزكوات وغيرها ويصرف في مصالح المسلمين.

الجزية أو الضريبة المالية الخاصة بأهل الكتاب

الجزية في الإسلام هي الضريبة المالية التي تأخذها الدولة الإسلامية من أهل الكتاب حتي يكون لهم التأمين علي الحياة والمال، وحرية المذهب والعقيدة، فالجزية كأموال الخمس والزكاة التي تستوفي من المسلمين، فالجزية كانت في صالح أهل الكتاب وكان مقدارها قليلاً جدا.

ومن فوائد ذلك: إن أهل الكتاب عبر اتصالهم بالمسلمين يكونوا قد تعرفوا علي الأحكام والمعارف الإسلامية وبالتدريج يتجهون إلي الإسلام دون إراقة دماء.. والدولة في المقابل تحافظ علي الدماء والأعراض والأموال لأهل الكتاب.

جزية سائر الكفار

وإني أتصور وإن لم يكن مشهوراً ان غير أهل الكتاب من سائر الكفار، يجوز أن تؤخذ منهم الجزية أيضاً.

فقد كان تحت لواء الرسول صلي الله عليه و اله المشركون كما كانوا في زمان النبي صلي الله عليه و اله وأمير المؤمنين علي عليه السلام كما في نهج البلاغة.

فهل أنه لا يؤخذ شيء منهم إطلاقا مع أنه يؤخذ من أهل الكتاب أو يؤخذ لحفظ أموالهم وأعراضهم ودمائهم؟

إدارة الغنائم الحربية

روي أن النبي صلي الله عليه و اله قد عين معقب بن أبي فاطمة وأناط به مسؤولية ضبط الغنائم والمحافظة عليها.

إضافة إلي ذلك فإن النبي صلي الله عليه و اله كان قد عين مسؤولين معينين لخمس الغنائم يتولون ضبط الغنائم وكتابتها والحفاظ عليها بدقة كاملة.

وأيضاً فإن النبي صلي الله عليه و اله كان يصرف الغنائم علي الاحتياجات، ومنها: ما كان يصرفها علي عمال ضبط الغنائم، أمثال: عبد الله ابن كعب، ومحمد بن جزر.

وكان النبي صلي الله عليه و اله قد عين سواد بن غزية الأنصاري لضبط أموال خيبر وخراجها، وكان يطلب منه تقريراً عن كيفية العمل.

الزكاة أو الضريبة الإسلامية

إن تشريع الزكاة في النظام المالي للدولة الإسلامية قد أحدث تحولاً كبيراً، فجمع الزكاة كان بحاجة إلي تشكيل مؤسسة تقوم بوظيفتها بشكل دقيق ومنظم وإلي العمال لإحصائها، وكانت هذه المؤسسة متشكلة من: عمال الزكاة (الجباة)، والمحاسبين (الخارصون)، و(الكتّاب)، ومن هذه الجهة فإن التشكيلات المالية المتعلقة بالزكاة كانت بحاجة إلي ثلاثة أقسام من الموظفين إن صح التعبير.

تشكيل الإدارة المركزية للزكاة (المستوفي)

قام النبي صلي الله عليه و اله بتشكيل الإدارة المركزية للزكاة في أيام الحكومة الإسلامية في المدينة المنورة، والتي عرفت بعد ذلك في التمدن الإسلامي ب(المستوفي)، وكانت وظيفة العامل المستوفي هي جمع الأموال الزكوية من العمال والإشراف عليها، ومن ثم تحويلها للنبي صلي الله عليه و اله.

فقد كتب المؤرخون: أن النبي صلي الله عليه و اله استخدم بعض الموظفين لتخمين الفواكه، مثل: عبد الله بن رواحة، وجبار بن صخر، وسهل ابن أبي حثمة، والصلت بن معدي كرب، وذكروا: أن حذيفة بن اليمان كان محاسباً لزكاة التمر، وعتاب بن اسيد كان محاسباً لزكاة العنب، وعروة بن عمرو، وعامر بن ساعدة كانا محاسبين لزكاة التمر في المدينة أيضاً.

وذكرت المصادر التاريخية أنه قد عهد إلي الزبير بن العوام، و جهيم بن الصلت كتابة مسائل الزكاة.

وأمر النبي صلي الله عليه و اله بريدة الأسلمي وأوصاه بقوله: (أيما عامل استعملنا وفرضنا له رزقاً مما أصاب بعد رزقه فهو غلول).

وفي رواية أخري: (من كان لنا عاملاً فليكتب زوجه، فإن لم يكن له خادم فليكتب خادماً، فإن لم يكن له مسكن فليكتب مسكناً).

هذه الموارد تدل دلالة صريحة علي دقة النظام الإداري في دولة الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله مع الحفاظ علي بساطة الدولة وعدم الروتين الإداري.

مكان حفظ الأموال الزكوية

يستفاد من المصادر التاريخية أن الأموال الزكوية (الجمال، البقر، الشياه، الغلات، الحبوب، وأموال اخري من قبيل الغنائم والجزية) كانت تحفظ في أماكن ومحلات خاصة..

فوجود مثل هذه الأماكن في الدولة الإسلامية لغرض حفظ أموال الدولة ضرورة حتمية، فليس من الصحيح أن تحفظ أموال الدولة في المنازل الشخصية وبدون أي إشراف ومراقبة.

الأوقاف والصدقات العامة

روي الواقدي وابن سعد وابن شبة في (تاريخ المدينة المنورة)():

إن رجلاً من يهود المدينة يسمي (مخيريق) أو (سلام بن مشكم) أسلم وجاء مع جيش الإسلام إلي معركة أحد وأوصي بأمواله للنبي صلي الله عليه و اله إذا قتل فيها.. حتي توضع بساتينه تحت تصرف رسول الله صلي الله عليه و اله، ليعمل بها بأمر ربه، فقتل هذا الرجل في المعركة المذكورة ودفن إلي جنب مقبرة المسلمين.

فهذه البساتين السبعة كانت من جملة الأموال المخصوصة للنبي صلي الله عليه و اله والتي وهبها إلي ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام) بأمر من الله سبحانه وتعالي.

وقد روي الحر العاملي (رحمه الله) عن الإمام الباقر عليه السلام: (ان النبي صلي الله عليه و اله قد أوصي فاطمة الزهراء ? بأن تحتفظ بأموال الإرث وتسلمها إلي علي عليه السلام، ثم سلمها علي عليه السلام إلي الإمامين الحسن والحسين ?، ثم انتقلت إلي الولد الأكبر من ولد الحسين عليه السلام).

والظاهر إن المراد به: الأئمة (عليهم السلام).

النظام القضائي في دولة المدينة

قال سبحانه: ?فلا وربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً?().

ومعني (يحكموك): أي التحكيم بينهم، ولغة (قضيت) أي القضاء بينهم.

وهذه الآية الكريمة تشير إلي أن رسول الله صلي الله عليه و اله كان قد أخذ بعهدته مقام التحكيم بين المسلمين، كما استقل بمقام القضاء وإدارته، فكان القضاء في دولته المباركة افضل قضاء عرفه البشر، كما كان قضاء أمير المؤمنين علي عليه السلام كذلك.

الأنبياء عليهم السلام أصحاب قوانين

نص القرآن الكريم والتوراة التي لها اعتبار ديني عند المستشرقين: علي أن الله تعالي لم يبعث الأنبياء وقادة الدين إلا ليكونوا حكاماً في مجتمعاتهم، ولا يمكن

في أي شكل من الأشكال انفصال الخلافة والإمامة الإلهية عن القضاء والحكومة، فقد ورد في القرآن الكريم: ?يا داود إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق?().

وسنشير إلي آيات من القرآن التي تثبت رسالة النبي محمد صلي الله عليه و اله في هذه الناحية:

قال تعالي: ?فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم?().

وقال سبحانه: ?وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين?().

وقال عز من قائل: ?فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم?().

وأحياناً كان النبي صلي الله عليه و اله يفوض القضاء إلي أصحابه وفي الحديث الشريف عنه صلي الله عليه و اله: (أقضاكم علي عليه السلام)().

حكام النبي صلي الله عليه و اله وقضاته

ذكر بعض المؤرخين() أسماء بعض علماء المسلمين الذين ألفوا تأليفات مستوعبة في قضاء النبي صلي الله عليه و اله، نترك تفصيلها مراعاة للاختصار.

روت أم سلمة زوجة النبي صلي الله عليه و اله حديثاً، قالت فيه: جاء رجلان إلي النبي صلي الله عليه و اله في قضية، وما أن سمعا كلام النبي صلي الله عليه و اله حتي استغرقا في البكاء، وكل واحد منهما يقول: وهبت حقي لأخي، فقال النبي صلي الله عليه و اله: اتركا هذا الأمر واذهبا لتطلبا الحق واقرعا بينكما، وبعد ذلك يتنازل كل منكما عن حقه لصاحبه.

فكان النبي صلي الله عليه و اله يقضي في المسائل المختلفة بموجب الحكم الشرعي وملاحظة الدليل بعد طرح الآراء عليه، فإذا كان الدليل يساعد علي إقامة الدعوي ويثبت به إدعاء المدعي، فحينئذٍ يحكم بين المتنازعين، وكان صلي الله عليه و اله يقول: (أمرت

أن أحكم في القضايا الظاهرية والعلنية، والله يتولي الأمور المخفية والباطنية).

وفي حديث آخر انه صلي الله عليه و اله قال: (إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان) ().

وفي كتاب أمير المؤمنين علي عليه السلام إلي رفاعة قاضية في الأهواز: (إنما عليك الظاهر).

وفي أحد الأيام جاء إلي النبي صلي الله عليه و اله رجلان يتنازعان في ملكية أرض، وطلبا منه أن يقضي بينهما، ولم يكن لهما من الأدلة الكافية التي تثبت مدعي كل منهما، فأمر النبي صلي الله عليه و اله بإحلافهما حتي يجري القرعة بينهما.

وفي الشفعة أيضاً أعطي النبي صلي الله عليه و اله رأيه، وعين سهم الشريك، وقضي في مسألة الدين وكان أحد المحكومين عليه معاذ الذي اضطر لبيع حصته إلي المرتبطين به من الشركاء.

وفي الحديث: (سوَّ بين الخصمين لحظك ولفظك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضي حتي تسمع كلام الآخر كما سمعت كلام الأول فإنه أخري أن يبين لك وجه القضاء) ().

ومن جملة القواعد الحقوقية التي أسسها نبي الإسلام صلي الله عليه و اله هي:

قاعدة (التسلط)().

وأصل (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)() وهي من أسس الحقوق الإسلامية، وتاريخ الحقوق يؤيد ذلك.

الحكام في زمان النبي صلي الله عليه و اله

لم يكن منصب القضاء منفصلاً عن بقية المناصب الاجتماعية في دولة المدينة المنورة.. وإذا كان النبي صلي الله عليه و اله قد بعث والياً (محافظاً) إلي مكان فلا حاجة لإرسال قاض إلي جنبه، لأن الإسلام لا يؤيد كثرة الموظفين كما ذكرنا تفصيله في محله().

إضافة إلي أن المجتمع في ذلك اليوم كان مجتمعاً بسيطاً، فالتحقيق في الأمور الاجتماعية لا يستوجب أكثر من ذلك، وهكذا كان في حكومة أمير المؤمنين علي عليه السلام.. نعم قيل: إنه قد تم تأسيس بعض المقامات المختلفة أيام عمر بن

الخطاب أوبعده.

وما ذكرناه لا ينافي إسناد مقام القضاء والحاكمية إلي الآخرين بدليل تزاحم الأعمال وكثرتها كما هو واضح.

جاء في التاريخ انه كان لأخوين شركة في دار، وقد شيداً جداراً يفصل بينهما، ثم مات الأخوان، فتنازع ورثتهما في ملكية هذا الحائط، وجاءوا إلي النبي صلي الله عليه و اله ليقضي بينهم..

فما كان من النبي صلي الله عليه و اله إلا أن يوفد حذيفة بن اليمان لمشاهدة المحل وفحصه والتحقيق في هذا الصدد، فذهب حذيفة إلي المكان المتنازع عليه وتأمل فيه وصوب نظره علي دقائق الأمور، وانتهي بعد المشاهدة والفحص إلي أن الحائط المشيد كان بفعل الورثة، فعاد حذيفة إلي النبي صلي الله عليه و اله واطلعه علي التحقيق في القضية والنتيجة التي توصل إليها، فقال النبي صلي الله عليه و اله: أبديت رأياً صحيحاً، وعملت عملاً حسناً وفي محله.

فالولاية ومنصب القضاء في زمان النبي صلي الله عليه و اله لم يكن منفصلاً عن بقية الوظائف والولايات الأخري بأي نحو كان، والنبي صلي الله عليه و اله لم يسند مسؤولية القضاء لشخص بشكل كلي وعام، نعم في بعض الموارد كان يأمر بالرجوع إلي علي عليه السلام حيث قال صلي الله عليه و اله (أقضاكم علي) () كما مر سابقاً، وذلك لأن القضاء جزء من الولاية والمسؤولية الملقاة علي الحاكم أو الوالي، وكانت أكثر القضايا والاختلافات تحل بسهولة ويفصل بها لمجرد السؤال عن نوع المسألة وطرح الموضوع أمام النبي صلي الله عليه و اله، ومن ثم يرفع الاختلاف الناشئ عنها.

وقد رأيت أنا ما تبقي من سهولة القضاء الإسلامي قبل نصف قرن في كربلاء المقدسة() فمرجع التقليد كان هو القاضي وأحياناً يفوض الأمر إلي أحد العلماء وكانت القضايا تحل

بكل بساطة، ومن دون تعقيد.

الحبس والسجن

لم يكن في زمن النبي صلي الله عليه و اله مكان معين يسمي ب (السجن) أو (المحبس).

بل إن النبي صلي الله عليه و اله غالباً ما كان يأخذ المتهمين إلي المسجد أو غرفة معينة ليكونوا تحت النظر..

وقيل انه استأجر عمر بن الخطاب داراً للسجن.

أما أمير المؤمنين علي عليه السلام في أيام خلافته فاستفاد من مكان في الكوفة لهذا الغرض، وسماه (نافع) ثم سماه (مخيس)، وكان السجن عادياً جداً ولايسجن احد الا في الموارد النادرة النادرة.

أما ما نراه اليوم من كثرة السجون فهذا مما يخالف الشرع الإسلامي، هذا بالاضافة الي ان للسجين حقوقاً كثيرة في الاسلام، ذكرناها في بعض كتبنا().

وأشار مؤلف كتاب "أقضية رسول الله صلي الله عليه و اله" إلي بعض الإجراءات القضائية في عصر الرسول صلي الله عليه و اله، وذكر نماذج منها:

فكان النبي صلي الله عليه و اله في المدينة المنورة يحبس المتهم بالقتل لمدة ستة أيام ثم يخلي سبيله.

وروي: أن النبي صلي الله عليه و اله حبس رجلاً لارتكابه ديناً، وحكم أن في مقابل إطلاق سراحه عليه أن يحرر عبده، فامتنع الرجل من تحرير عبده، فأمره النبي صلي الله عليه و اله أن تستوفي منه الخسائر لعبده.

فالمديون المتمكن الذي يمتنع من إيفاء الدين للحاكم أن يحبسه.

قال الراوي: أخذت مديناً لي وأتيت به إلي النبي صلي الله عليه و اله فقال لي: ألزمه فعل أمر من باب الإلزام ثم قال: يا أهل تميم! أتريدون أن تفعلوا بأسيركم..

وقيل: إنه كان النبي صلي الله عليه و اله قبل الهجرة إلي المدينة قد عين للأنصار نقيباً ليتحدث عنهم، كما عين صلي الله عليه و اله لكل اثني عشر قبيلة رئيساً، كما

جعل العريف وهو الممثل لمجموعة قوامها عشرة أفراداً تحت إشراف وتصرف النقيب، وكان النقيب ممثلاً لكل القبيلة وكانت بعهدته مسؤولية الحرب والصلح ونحوها، فإذا لم يستطع النقيب علي حل اختلاف مجموعته، أو أن طرفي الدعوي مرتبط بقبيلة أخري، يكون التصميم النهائي لهذا الموضوع هو الرجوع إلي شخص النبي صلي الله عليه و اله.

أول قانون قضائي للنبي صلي الله عليه و اله

بعث النبي صلي الله عليه و اله علي بن أبي طالب عليه السلام إلي اليمن، وأول ما سنه في هذا المجال هو البحث في المسائل القضائية وإصدار الحكم فيها، وهو ما اسنده إلي علي عليه السلام.

فقال علي عليه السلام للنبي صلي الله عليه و اله: يا رسول الله! تبعثني لقضاء اليمن وأنا شاب لا خبرة لي في هذا العمل؟

فأجابه النبي صلي الله عليه و اله بقوله: إن الله سيهدي قلبك، ويحكم لسانك، فلو جلس إليك طرفا الدعوي للتقاضي، فلا تقضي بينهما حتي تسمع أقوالهما، لأن إسماعك إلي أقوالهما يظهر لك الحكم دون أن يحجبه شيء.

ثم ضرب النبي صلي الله عليه و اله بيده علي صدر علي عليه السلام وأخذ يدعو له، فقال علي عليه السلام:

ما شككت في قضاء بعد ذلك().

ومن جانب آخر: لما بعث النبي صلي الله عليه و اله معاذ بن جبل قاضياً إلي اليمن أوصاه أن يلين للناس ويرأف بهم، ويحذر المحاباة لبعض والشدة علي آخرين، ومما جاء في وصيته صلي الله عليه و اله له قوله:

(يسر ولا تعسر، وصل عليهم صلاة أضعفهم، وإنك ستقدم علي قومٍ من أهل الكتاب يسألونك: ما مفتاح الجنة؟ فقل: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له).

وفي حديث قال النبي صلي الله عليه و اله: (أقضاكم علي بن أبي طالب)()، وهذه الرواية متواترة

قد رواها مختلف صحابة النبي صلي الله عليه و اله واعترفوا بها.

والخلاصة: أن النظام القضائي كان برئاسة صلي الله عليه و اله في المدينة المنورة وتوابع الدولة الإسلامية بأحسن ما يكون.

وفي زمان تأسيس وتكوين دولة المدينة المنورة وظهورها إلي الوجود، توسعت الرقعة الجغرافية للدولة الإسلامية، وازدادت مناطق المسلمين، واشتدت الحاجة إلي قضاة العدل أكثر من غيرها، فكان النبي صلي الله عليه و اله يستعين بصحابته ويستفيد منهم لمثل هذه الأمور، ولكن الموقع الحكومي أو ما يصطلح عليه بالولاية القضائية لمثل هؤلاء الصحابة كان عاديا جدا حسب بساطة الإسلام.

أما بالنسبة إلي المسائل المهمة من قبيل: الدم والقصاص فكان يرجع بها إلي شخص النبي صلي الله عليه و اله باعتباره المرجع القانوني لحل الخصومات المتنازع عليها.

هذا إذا كان الأمر وقع في المدينة المنورة وإلا كان المرجع ولاة المسلمين المنصوبين من قبله صلي الله عليه و اله في تلك المناطق.

وبشكل عام: فإن مهمة القضاء في الحكومة الإسلامية كانت بسيطة جدا وبأحسن ما يمكن، ولم يكن فيها ما نراه اليوم من كثرة التعقيدات والروتين والرشوة والحكم بغير ما أنزل الله وما أشبه…

وأفضل دليل علي ذلك حكومة الرسول صلي الله عليه و اله والإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام كما هو مذكور في التاريخ.

ديوان المظالم في زمن النبي صلي الله عليه و اله

يري بعض المؤرخين وبعض المعاصرين: أن ديوان المظالم كان له وجود في زمن النبي صلي الله عليه و اله، وربما يشهد لهذا الرأي قضية سقي الماء الواقعة بين الزبير بن العوام ورجل من الأنصار، فأمر النبي صلي الله عليه و اله الزبير بقوله: اسق أنت يا زبير ثم الأنصاري. فقال الأنصاري: إن كان ابن عمتك يا رسول الله. فغضب رسول الله صلي الله عليه و اله

من قوله.

واعتقد ابن خلدون أن علي بن أبي طالب عليه السلام كان يدقق في المظالم.

وإن صح هذا الكلام وكان ديوان المظالم في زمان الرسول صلي الله عليه و اله فلم يكن لديوان المظالم في ذلك الوقت مثل ديوان المظالم بعد ذلك.

ديوان المظالم في زمن أمير المؤمنين عليه السلام

أما الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام فقد قام بتأسيس ديوان المظالم ليقف بوجه تجاوزات وغارات عمال الخليفة الثالث، وليسترجع منهم ما أخذوه من حقوق الناس.

وفي التعاليم والقوانين الإدارية في حكومة أمير المؤمنين عليه السلام نصوص يمكن أن نعتبرها الأسس الفقهية والإدارية للنظام القضائي والمظالم، ومن جملتها هذا النص الذي كتبه الإمام علي عليه السلام أيام خلافته لعماله:

(فإني قد سيرت جنوداً هي مارة بكم إن شاء الله، وقد أوصيتهم بما يحب الله عليهم من كف الأذي، وصرف الشذي، وأنا أبرأ إليكم وإلي ذمتكم من معرة الجيش، إلا من جوعة المضطر لا يجد عنها مذهباً إلي شبعه، فنكلوا من تناول منهم شيئاً ظلما عن ظلمهم… وأنا من بين أظهر الجيش، فارفعوا إلي مظالمكم وما عراكم مما يغلبكم من أمرهم، ولا تطيقون دفعه إلا بالله ربي، فأنا أغيره بمعونة الله، إن شاء الله)().

وفي مكان آخر يقول عليه السلام: (واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك، ولا تجلس لهم مجلساً عاماً، فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتي يكلمك متكلميهم غير متتعتع)().

وكذلك جاء في عهده عليه السلام: (ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحدٍ من حاشيتك وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل

مشترك)().

نظام الحسبة والمحتسب

إن وظيفة المحتسب مهمة للغاية فلا يجوز إهمالها والإخلال بها، ويستحق الأجرة علي عمله من بيت المال، فلو قام النظام القضائي بتأدية وظيفته من استيفاء الحقوق الضائعة والمهدورة، وتم تشكيل ديوان المظالم من قبل أصحاب النفوذ ورجال الدولة، وتم التحقيق والتدقيق فيه، فحينئذٍ يسمي مثل هذا النظام (نظام الحسبة والمحتسب).

وقوانين هذا النظام الصحيح تشبه القوانين القضائية، إلا أنها تختلف عنها فيما يعود إلي المخالفات الاجتماعية وعدم رعاية نظام المجتمع.

والحسبة تشبه النظام القضائي من وجهين هما:

1: ان نظام الحسبة يشبه النظام القضائي في كونه يقف بوجه التعدي والتجاوز علي حقوق الناس، كالغلاء والغش والتدليس في الأجناس وقيمتها، وهذه المخالفات هي نوع من المنكر وأمر غير صحيح، فعلي المجتمع الإسلامي القائم علي العدل والفضائل ومكارم الأخلاق أن يراعي هذه الظاهرة.

2: يمكن للقاضي والمحتسب إجبار المدعي عليه بتأدية الحق المستقر بذمته، لأن التأخير في تأدية الحق يكون عملاً عائقاً للأمور ونوعاً منكراً، فيلزم التصدي له والوقوف ضده.

ومما جاء في إحدي الروايات: أن النبي صلي الله عليه و اله وقف يوماً في سوق المدينة إلي جنب مكان قد جمع فيه القمح (الحنطة) فأعجبه هذا المنظر وأدخل يده فيه، وأخرج شيئاً وقال لمالك القمح: ما هذا؟

فأجابه المالك: إن هذا قد وقع من السماء أي من تساقط المطر.

فسأله النبي صلي الله عليه و اله: وأنت تعرض للناس بشيء جيد. ثم قال: أيها الناس! لايجوز الغش بين المسلمين، فمن غشنا فليس منا().

وكان النبي صلي الله عليه و اله يبعث أحداً من صحابته لمراقبة سوق المدينة، وبعد فتح مكة المكرمة أمر النبي صلي الله عليه و اله سعيد بن العاص بن أمية، أن يقوم بمراقبة السوق.

الشرطة والحرس

في المفهوم الإسلامي يقال لكل من يضبط

المخالفين والأوباش: (الشرطي) أو (العس).

وكلمة (عسّ) في لغة العرب من أصل (عسس)، أي الذي يجوب الليل ليحرس الناس من السراق والمعتدين.

جاء في بعض الروايات: كان النبي صلي الله عليه و اله يقظاً في الليلة التي سبقت مجيئه إلي المدينة، لأنه كان يتوقع أن يلحق به الضرر من قريش، فقال صلي الله عليه و اله: يا ليت لنا من حارس يحرسنا في الليل.

فسمع عند ذلك خشخشة السلاح، فقال النبي صلي الله عليه و اله: من أنت؟

فأجابه سعد بن أبي وقاص: أنا يا رسول الله!

فسأله النبي صلي الله عليه و اله: ما الذي دعاك إلي المجيء في هذا الوقت من الليل؟

فأجاب سعد: قد وقع في قلبي أن قريش ستفجع النبي صلي الله عليه و اله، لهذا جئت لأحرسك.

وكتب المقريزي في (الخطط): أول من تولي الحراسة في الليل هو عبد الله بن مسعود، فقد أمره أبوبكر أن يجوب شوارع المدينة في الليل.

وورد في كتاب "مشكل الصحيحين": أنه في زمان أبي بكر وعندما ادعي طليحة ابن خويلد الأسدي النبوة الكاذبة، وأصبحت أوضاع المدينة في هرج ومرج، وكان يتوقع أن يهجم أتباعه علي المسلمين، طلب أبو بكر من علي عليه السلام والزبير وطلحة أن يحرس كل منهم طريقاً جبلياً ينتهي إلي المدينة، كما أمر أيضاً عبد الله بن مسعود أن يجوب المدينة ليلاً للحراسة والمراقبة.

وقد استحدث نظام الحراسة (الشرطة) في عصر الإمام علي عليه السلام، وفي وصيته عليه السلام لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) تتجلي هذه الحقيقة حين يأمره بأن يجعل لحراسه وشرطته مجلساً لتزول عنهم الوحشة والخوف.

وروي الطبري: أن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قد أناط قيادة شرطة الخميس في إحدي الحروب بقيس بن سعد، وكان مؤلفاً

من أربعين ألف رجل حربي.

الأيديولوجية الفكرية والعملية

كان رسول الله صلي الله عليه و اله من أعظم أنبياء أولي العزم وكانت رسالته عالمية، جاءت للناس كافة لإنقاذهم من الشرك والكفر، والظلم والعدوان وتبشيرهم بالآخرة وإنذارهم إن خالفوا الحق والعدل، قال تعالي: ?وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين?() وتكفلت رسالته العدالة الاجتماعية واستقامة الإنسان علي مكارم الأخلاق، وتحقيق السعادة في حياة الفرد والمجتمع.

ولقد بشّر الأنبياء السابقون عليهم السلام أتباعهم بظهور الإسلام حتي أنه جاءت بعض أوصاف نبي الإسلام صلي الله عليه و اله في كتبهم السماوية.

ومن هنا رأينا اليهود والنصاري وأتباع باقي الأديان في فترة ما قبل البعثة يعيشون فترة انتظار وشوق شديد لظهور الإسلام بعد أن دب إليهم الضعف والوهن والتمزق والتحريف، فعادت سفينتهم محطمة الشراع منهمكة القوي، فليس إلا الأمل وانتظار الوصول إلي ساحل النجاة، وحتي أن عدة من اليهود قد عينت كتبهم مكاناً بخصوصه يقع بين جبل (عير) في شمال المدينة وجبل (أحد) في جنوبها، كمركز للحكومة الإسلامية، ولذا فقد بحثوا عنه بجدٍ وارتحلوا إليه، وظلوا يعيشون علي أمل ظهور الحق والإسلام.

والقرآن الكريم أصدق شاهد علي أن التوراة والإنجيل قد أخبرا بظهور نبي الإسلام، إذ يقول تعالي: ?الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون?().

فرسالة رسول الله صلي الله عليه و اله هي لنجاة الإنسان، وهدفها رسم أفق أوسع وأعلي، لإنقاذ البشرية من أوحال المادة والشهوة لكي تتعرف الإنسانية علي حقول اللذة المعنوية الواقعية وترجع عن السير في دروب المادية البحتة،

فتخطو بخطوات ثابتة علي طريق السعادة.

ورسالة النبي صلي الله عليه و اله حرية بأن تحيي النفوس الميتة والطاقات الهامدة بتعاليمها الرائعة فتنمو بعد الإحياء وتصل إلي رشدها وتكاملها، فتبدو للإنسان حياة سامية في ظل الإسلام وقوانينه وتستهدف أروع الأهداف، والآن فلنلاحظ بعض أبعاد تلك الحياة التي يريدها الإسلام للبشرية، وهي (الأمة والواحدة) و (الأخوة الإسلامية) و (الحرية فيما عدا المحرمات)، والرقابة الاجتماعية، والدفع نحو العلم، والعمل والسعي، والتشكيل العائلي النظيف، وجعل الخلافة الصحيحة لتسير البشرية بعد الرسول صلي الله عليه و اله سيراً صحيحاً.

وهذه الحقيقة صرحت بها الآيات القرآنية باعتبارها النموذج الأمثل.

قال تعالي: ?قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون?().

وقال سبحانه: ?وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً?().

وقال عز من قائل: ?يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس?().

وقال تعالي: ?إن هذه أمتكم أمة واحدة?().

وقال سبحانه: ?ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم?().

وقال عز وجل: ?إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون?().

إلي غيرها من الآيات، بالإضافة إلي متواتر الروايات.

النبي صلي الله عليه و اله ودفع الظلم

إن من إحدي الوظائف المهمة للأنبياء عليهم السلام بشكل عام: هو إقامة العدل والقسط، وإزالة أي نوع من الظلم والاضطهاد، وقد أشار الله سبحانه إلي هذه الحقيقة، بقوله جل وعلا: ?لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط?().

وقال تعالي: ?يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله?().

وهكذا كانت حكومة رسول الله صلي الله عليه و اله والإمام أمير المؤمنين علي

بن أبي طالب عليه السلام.

قال عليه السلام: (والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها واسترق لي قطانها مذعنة بأملاكها علي أن أعصي الله في نملة أسلبها شعيرة ما فعلته وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها)().

تنظيم السياسة الخارجية للدولة

ترتبط السياسة الداخلية بإدارة شؤون المدن وتنظيم القواعد الحكومية بالنسبة إلي الولايات والمحافظات مع ملاحظة الاعتبارات لأهالي المنطقة من: دين وفكر، وثقافة، وآداب ورسوم، التي تساعد علي رفاهية الناس، وتعيين الشخصيات الكفوءة المتخصصة والمناسبة لإدارة الدولة، وإحلال الأمن، وتأمين رفاه الناس وسعادتهم، وكذلك العمل علي وحدة الوطن والقوميات التي تعيش فيه، مع إيجاد الإحساس والشعور بالمسؤولية في الدفاع عن الحياة المعنوية والاقتصادية والسياسية.. حتي يشعر الكل بأنهم أعضاء أمة واحدة، ويساهمون في بناء وطن حر مستقل إسلامي.

أما السياسة الخارجية والروابط العالمية: فترتبط بالدول الأخري من خلال إقامة علاقات مشتركة يعود نفعها علي الجميع سواء كانت تلك الدول صديقة أم عدوة، والهدف من ذلك اتحاد البشرية وإزالة المشكلات الناجمة من تباين الأهداف، وتبادل المنافع المشتركة. وقد ذكرنا في كتاب (إذا قام الإسلام في العراق) بعض ما يرتبط بهذا الأمر().

وقد نقل صاحب كتاب "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي"() الوثائق السياسية والمعاهدات ورسائل الدعوة والتبليغ من قبل النبي صلي الله عليه و اله إلي رؤساء الدول والملوك والقبائل والهيئات المذهبية..

نماذج من رسائل النبي صلي الله عليه و اله إلي رؤساء الدول والقبائل

نماذج من رسائل النبي صلي الله عليه و اله إلي رؤساء الدول والقبائل

وهنا لابد أن نشير إلي نماذج من رسائل النبي صلي الله عليه و اله التي تعتبر جزءاً مهماً في سياسته الخارجية.

فبعد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة، كتب النبي صلي الله عليه و اله في يوم واحد رسائل إلي زعماء الدول ورؤساء القبائل، فكتب صلي الله عليه و اله إلي: (إمبراطور الروم، إمبراطور إيران، وملك الحبشة، وأقباط مصر، وإمبراطور الشام، وإمبراطور اليمامة) ودعاهم فيها إلي الإسلام.

ومضمون هذه الرسائل واحد وإن اختلفت ألفاظها، وكلها تحكي عن الدعوة إلي الإسلام، والصلح، ومستقبل الحق والأمن والسلام في الدنيا والآخرة.

رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي هرقل

1: رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي هرقل عظيم الروم:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، عبده ورسوله إلي هرقل عظيم الروم: سلام علي من اتبع الهدي، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسين() ?قل يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولايتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون?().

والأريسين: جمع أريس، أي المزارع، وفي بعض الروايات هكذا وردت عبارته صلي الله عليه و اله: (فإن إثم الأكارين عليك) بدل (الأريسين) ومعناها الفلاّح.

رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي كسري

2: رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي كسري ملك إيران:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلي كسري عظيم فارس: سلام علي من اتبع الهدي وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أدعوك بداعية الله عزوجل، فإني أنا رسول الله إلي الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول علي الكافرين، أسلم تسلم فإن أبيت فعليك إثم المجوس)().

رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي النجاشي

3: رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي ملك الحبشة:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلي النجاشي الأضخم ملك الحبشة: بسلمٍ أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسي بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلي مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسي، حمله من روحه ونفخ كما خلق آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلي الله وحده لا شريك له، والموالاة علي طاعته، وإن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله وقد بعثت إليك ابن عمي جعفر ونفراً من المسلمين، فإذا جاءك فأقرهم ودع التجبر، وإني أدعوك وجنودك إلي الله عزوجل، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصحي، والسلام عليكم وعلي من اتبع الهدي)().

رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي النجاشي الثاني

4: رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي النجاشي الثاني:

(بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من النبي صلي الله عليه و اله إلي النجاشي عظيم الحبشة: سلام علي من اتبع الهدي وآمن بالله ورسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني رسوله، فأسلم تسلم ?قل يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون?() فإن أبيت فعليك إثم النصاري)().

ولا يخفي أن لقب ملك الحبشة كان (الأضخم).

رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي المقوقس

5: رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي المقوقس كبير القبط():

بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلي المقوقس عظيم القبط: سلام علي من اتبع الهدي، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط، و ?قل يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون?().

رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي ملك مصر

6: رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي ملك مصر:

روي أن النبي صلي الله عليه و اله كتب رسالة ثانية إلي المقوقس ملك مصر، وفيما يلي نصها:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلي صاحب مصر، أما بعد، فإن الله أرسلني رسولاً، وأنزل علي قرآناً، وألزمني بالاعذار والإنذار ومقاتلة الكفار، حتي يدينوا ديني، ويدخل الناس في ملتي، وقد دعوتك إلي الإقرار لوحدانيته، فإن فعلت سعدت، وإن أبيت شقيت، والسلام).

رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي صاحب دمشق

7: رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلي الحارث بن أبي شمر: سلام علي من اتبع الهدي، وآمن بالله وصدق، وإني أدعوك أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقي لك ملكك)().

رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي ملك البحرين

8: رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي المنذر بن ساوي ملك البحرين:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلي المنذر بن ساوي: سلم أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن من صلي صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم له ذمة الله وذمة رسوله ممن أحب ذلك من المجوس فإنه آمن، ومن أبي فعليه الجزية)().

رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي ملك اليمامة

9: رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي هوذة بن علي ملك اليمامة:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلي هوذة بن علي: سلام علي من اتبع الهدي، واعلم أن ديني سيظهر إلي منتهي الخف والحافر، فاسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك)().

رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي ملوك عمان

10: رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي جعفر و عبد النبي ملكي عمان:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلي جعفر وعبد النبي الجلندي: سلام علي من اتبع الهدي، أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله إلي الناس كافةً لأنذر من كان حياً ويحق القول علي الكافرين، وانكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام، فإنه زائل عنكما وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي علي ملككما)().

تاريخ رسائل النبي صلي الله عليه و اله

ذكر المؤرخون(): عندما رجع النبي صلي الله عليه و اله من صلح الحديبية وذلك في ذي الحجة من السنة السادسة للهجرة، بعث إلي الملوك ورؤساء الدول والقبائل يدعوهم إلي الإسلام.

وفي يوم واحد أرسل ستة من مبعوثيه ممن يعرفون لغات القوم، وكان النبي صلي الله عليه و اله يختم الرسائل بختمه المبارك وكان ختمه من الفضة منقوشاً عليه ثلاثة أسطر، وكان الملوك لا يقرؤون الرسائل غير المختومة.

وذكر بعض المفسرين في ذيل الآية: ?وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ?()، إنه لما نزلت هذه الآية كتب النبي صلي الله عليه و اله رسائل إلي الملوك المعاصرين، أمثال: كسري، قيصر، النجاشي، وبقية جبابرة الزمان، يدعوهم إلي الدخول في الإسلام والاعتقاد بالتوحيد.

المبعوثون السياسيون

تشكلت البعثة السياسية التي أوفدها النبي صلي الله عليه و اله إلي الملوك والرؤساء من:

1: عمرو بن أمية الضمري: أوفده إلي ملك الحبشة.

2: دحية بن خليفة الكلبي: أوفد ه إلي قيصر ملك الروم.

3: عبد الله بن حذافة المهمي: أوفده إلي خسرو برويز ملك إيران.

4: حاطب بن أبي بلتعة: أوفده إلي المصر، الإسكندرية إلي المقوقس ملك مصر.

5: شجاع بن وهب الأسدي: أوفده إلي الحارث بن أبي شكر الغساني ملك دمشق.

6: سليط بن عمرو العامري: أوفده إلي هوذة بن علي ملك اليمامة.

التشريفات الدبلوماسية

بالإضافة إلي العبارات الأدبية والكلامية في رسائل النبي صلي الله عليه و اله باعتباره نبياً ورئيساً لأكبر دولة إسلامية، كذلك كان (صلي الله عليه وآله وسلم) يلاحظ فيها الأبعاد التبليغية، والأهداف السياسية والدبلوماسية، فكان يراعي أيضاً الأمور التالية:

1: الشجاعة والاعتماد الكامل بالنفس، فالشخص الدبلوماسي والرجل السياسي لابد أن يكون مطمئناً ومعتمداً اعتمادا كاملاً علي شخصيته في إبلاغ ندائه وثقافته ورسالته لمخاطبيه.

2: كان صلي الله عليه و اله يراعي الألقاب الرسمية في الرسائل الرسمية، مثل: إلي هرقل عظيم الروم، إلي كسري عظيم فارس، عظيم القبط، وغير ذلك.

3: الترغيب والتهديد المعقول والمناسب في ضمن رسالة واحدة، مثل: (أسلم تسلم).

4: الاستناد إلي الاستدلال والمنطق، عندما يكون مخاطبوه من أهل الكتاب، ومن له ثقافة عالية، مثل: الرسالة التي بعثها إلي النجاشي ملك الحبشة.

5: إبلاغ النداء النهائي للإسلام، وتحرير الإنسان، ونفي الاستثمار، وتشاهد هذه النقطة في خاتمة رسالته بآية: ?يا أهل الكتاب?().

6: بقاء واستمرارية أعمال الحاكمية والقدرة ونفوذ السلطة في حالة الاستجابة لنداء الإسلام وقبول حاكمية الدولة الإسلامية، كما يظهر من رسالته إلي هوذة بن علي ملك اليمامة، والحارث بن أبي شمر الغساني ملك دمشق، والتأكيد عليهما في الرسالتين.

7: الاطمئنان

من بسط نفوذه صلي الله عليه و اله وانتصار النداء، كما يظهر جلياً في ذيل رسالته إلي هوذة بن علي مشيراً إليه بقوله صلي الله عليه و اله: "واعلم أن ديني سيظهر إلي منتهي الخف والحافر".

ردود الفعل علي رسائله صلي الله عليه و اله

إن ردود الفعل من قبل رؤساء الدول علي نداء النبي صلي الله عليه و اله التبليغي كان متفاوتاً، فبعضهم استجاب للواقع بذكاء سياسي، مثل: النجاشي الذي استجاب لدعوة التوحيد وتشرف بالدين الجديد، وأرسل هدية أيضاً إلي النبي صلي الله عليه و اله.

ولكن البعض الآخر أصر علي تكبره وتجبره من قبول دعوة التوحيد، والاستخفاف بنداء النبي صلي الله عليه و اله، مثل خسرو برويز ملك إيران حتي بعث اليه صلي الله عليه و اله برسالة تهديد.

والبعض الآخر كان متردداً في هذا الأمر، بين قبوله أو رفضه، مثل قيصر والمقوقس، اللذين كانا يخشيان ملتهما، وكونها من العوام، فامتنعا من قبول دعوة التوحيد وإبلاغ النبي صلي الله عليه و اله بالكامل.

كما بعث صلي الله عليه و اله برسائل أخري إلي رؤساء القبائل والشيوخ، وأدت النتيجة إلي انتصاره صلي الله عليه و اله وبسط دولته العادلة ونفوذه الحكيمة علي جميع أراضي الجزيرة العربية، وكانت قبائل العرب تأتي إليه صلي الله عليه و اله جماعات جماعات وأفواج أفواج معلنين عن استقبالهم لدين الإسلام والانضمام تحت راية التوحيد، كما قال تعالي:

?بسم الله الرحمن الرحيم، إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان تواباً?().

الدعوة العالمية للإسلام

يمكن تلخيص روح الرسالة الإسلامية في شعار "لا إله إلا الله" وهو سر علو الإسلام وعطائه السخي..

إذ لو أننا شبهنا الإسلام بالشجرة، كانت الأفكار والعقيدة بمنزلة الجذور الراسخة وأنه لمن الواضح أن سلامة الشجرة وأغصانها متوقفة تماماً علي سلامة الجذور الأساسية..

ولا ريب في أن أساس الأيدلوجية الإسلامية المتمركزة في ذلك الشعار الخالد يمتلك أروع وأقوي إمكانية علي المدي المتواصل.

1: قال تعالي: ?إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه

بعد حين?().

2: وقال سبحانه: ?إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حياً ويحق القول علي الكافرين?().

3: وقال عز وجل: ?تبارك الذي نزل الفرقان علي عبده ليكون للعالمين نذيراً?().

4: وقال سبحانه: ?وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون?().

5: وقال عز من قائل: ?ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهديً ورحمةً وبشري للمسلمين?().

6: وقال تعالي: ?ما فرطنا في الكتاب من شيء?().

7: وقال سبحانه: ?قل ما كنت بدعاً من الرسل?().

8: قال عز من قائل: ?ثم أوحينا إليك أن أتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين?().

إلي غيرها من الآيات والروايات.

الاستقلال السياسي

يعتبر أصل الاستقلال السياسي وحاكمية الدولة في مقابل القوي الخارجية من الأصول المسلمة، فيلزم علي كل دولة أن تتعهد بمراعاة ذلك.

وهكذا كانت الدولة الإسلامية في المدينة المنورة مستقلة بتمام معني الكلمة وذلك ببركة سياسة رسول الله صلي الله عليه و اله الحكيمة.

يقول القرآن الكريم بصدد هذا الأصل: ?ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خيرٍ من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم?().

وقال عزوجل: ?إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط?().

عدم نفوذ الغزو الفكري

كما أن المسلمين كانوا في معتقداتهم راسخين جدا، وقد أعطاهم رسول الله صلي الله عليه و اله حصانة فكرية كاملة وذلك عن دليل وبرهان.

ومثل هذا الشيء تجده في بعض إشارات الآيات القرآنية، كقوله تعالي: ?يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم علي أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بل الله مولاكم وهو خير الناصرين?().

وقوله سبحانه: ?ولن ترضي عنك اليهود ولا النصاري حتي تتبع ملتهم قل إن هدي الله هو الهدي ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير?().

هذا بالإضافة إلي أن الإسلام وتعاليمه مطابقة للفطرة السليمة كما أشار الحديث النبوي الشريف إلي هذه النقطة بقوله صلي الله عليه و اله: (كل مولود يولد علي الفطرة ثم أبواه يهودانه ويمجسانه وينصرانه)().

نفي سلطة الأجنبي

هذا القانون في الاصطلاح الحقوقي يبين في الأصل بنفي سبيل الأجنبي، وقد أشار القرآن الكريم الي هذا الأصل في قوله تعالي: ?ولن يجعل الله للكافرين علي المؤمنين سبيلاً?()، وقال رسول الله صلي الله عليه و اله: (الإسلام ويعلو ولا يعلي عليه)().

معاهدة التعاون وعدم التعرض للأجانب

يمكن للحكومة الإسلامية استناداً للمصالح العامة والمنافع المشتركة أن تعقد معاهدات للتعاون بينها وبين الدول الخارجية إذا لم تؤدِّ هذه الروابط المتبادلة إلي تسلط النفوذ الأجنبي وأن يحيك المؤامرات الداخلية ويوسع شقة الخلاف في المجتمع الواحد، بل يعيش المسلمون وغيرهم في أمان وسلام دون ظلم وتحيز وتعسف واضطهاد.

ويمكن استفادة هذا الأصل من عدد من الآيات القرآنية الكريمة:

1: قال تعالي: ?لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا علي إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون?().

2: وقال سبحانه: ?وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل علي الله إنه هو السميع العليم?().

3: وقال تعالي: ?إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً

ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلي مدتهم إن الله يحب المتقين?().

كما يمكن استفادة ذلك من المعاهدة المشتركة التي عقدها رسول الله صلي الله عليه و اله بين المسلمين واليهود وإن كان اليهود خالفوا هذه المعاهدة ونقضوا بنودها، فكان فيها:

1: وإنه من يتضامن اليهود فإن له النصر غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.

2: وإن اليهود متفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.

3: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.

4: وإن علي اليهود نفقتهم وإن بينهم النصر علي من حارب أهل هذه الصحيفة.

5: وإن بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم.

6: وإن بينهم النصر علي من

دهم يثرب.

معاهدة صلح الحديبية

كما يمكن استفادة ذلك من معاهدة صلح الحديبية، وهذه المعاهدة عقدها النبي الأكرم صلي الله عليه و اله في مكان يدعي "الحديبية" مع مشركي مكة، وسنشير إلي بعض ما ورد فيها:

1: يتعهد المسلمون وقريش لمدة أربع سنوات أو عشر سنوات أن يتركوا النزاع والخصومات فيما بينهم ولا يتعرض كل منهم إلي الآخر.

2: أن لا يرتكبوا الخيانة والسرقة، وتكون أموالهم محترمة.

3: يكون المسلم في أمان عندما يدخل مكة المكرمة بقصد الحج أو العمرة أو السفر إلي اليمن أو الطائف، وكذلك يكون المشركون في أمان عندما يقصدون الشام أو المشرق ويدخلون المدينة المنورة.

4: يحق للمسلمين وقريش أن يتحالفوا مع أي قبيلة، ويكون الحليف محترماً.

5: يتعهد المسلمون وقريش أن لا يخونوا أحدهم الآخر، وأن لا يتعادوا أو يخدعوا، وأن يزيلوا الحقد من قلوبهم.

6: محمد صلي الله عليه و اله وأصحابه يدخلون مكة المكرمة العام القادم بقصد أداء مراسم الحج، وأن يتخلوا عن حمل السلاح، ولم يتوقفوا في مكة أكثر من ثلاثة أيام.

المعاهدة مع يوض

كما يمكن استفادة ذلك أيضا من معاهدة يوض وهذه معاهدة أمان كتبها النبي صلي الله عليه و اله إلي يوض حاكم ايله، وهذا نصها:

(بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمان من الله ورسوله إلي يوض بن روزبه وأهالي ايله علي أنفسهم وبواخرهم ووسائل بحرهم وبرهم، وكذلك أهل الشام واليمن والبحرين الذين يمرون من تلك الأرض في ذمة الله وذمة رسوله، كما يتعهد أهل أيله أنهم إذا ارتكبوا قتلاً فتدفع دية المقتول لأوليائه، كما يتعهدون أنهم عندما يردون بحراً أن لا يحرموا غيرهم من الاستفادة منه، وأن لا يسدوا الطرق البحرية والبرية بوجه الآخرين).

المعاهدة مع نصاري نجران

كما يمكن استفادة ذلك أيضا من المعاهدة التي عقدها رسول الله صلي الله عليه و اله مع نصاري نجران وكان فيها:

1: يتعهد أهل نجران أن يدفعوا ألفي حلة كل عام بصورة جزية.

2: أن يضيفوا مبعوثي محمد صلي الله عليه و اله لمدة شهر، وأن لايتوقف المبعوثون أكثر من شهر واحد في هذا المكان.

3: لو حدثت الحرب من جهة اليمن، فعلي أهل نجران أن يتعاونوا مع الحكومة الإسلامية، وأن يجعلوا تحت تصرف الجنود ثلاثين سلاحاً وثلاثين حصاناً بصورة عارية مضمونة في الذمة.

4: يكون أهالي نجران وأطرافها في ذمة الله وذمة رسوله علي أنفسهم وأموالهم ومعابدهم، ويبقي الأساقفة والرهبان وخدمة المعابد علي أعمالهم دون ممانعة.

5: لا يحق لأحد أن يقوم بإبعادهم من أرضهم، أو يأخذ منهم العشر أو يهجم عليهم.

6: كل من يطالب بحقه يجب أن يعامل بإنصاف وعدالة.

7: لا يؤخذ أحد بجرم غيره.

8: يتعهد أهل نجران بعدم تعاطي الربا.

وفي غير هذه الحالة يكون محمد صلي الله عليه و اله غير ملزم تجاههم.

التعايش السلمي في ظل الدولة الإسلامية

ذكر القرآن الكريم الأديان الموحدة في موارد منها:

1: قال تعالي: ?إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصاري والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون?().

2: وقال سبحانه: ?إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصاري والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله علي كل شيء شهيد?().

التعامل مع المسيحيين

فجاء خطاب القرآن ورسائل النبي الأكرم صلي الله عليه و اله إلي المسيحيين بلغة العطف والملائمة، سواء كان ذلك مع مسيحيي الحبشة الذين هاجر إليهم المسلمون، أو مع مسيحيي نجران الذين أبوا أن يباهلوا النبي صلي الله عليه و اله.

وقد أشار القرآن الكريم إلي المسيحيين بأنهم أهل عاطفة وتودد، وربما أثني عليهم، وهذا إن دل علي شيء فإنما يدل علي عظمة تعاليم السيد المسيح عليه السلام التي بشرت برسالة رسول الإسلام صلي الله عليه و اله ودعت أتباعه إلي المحبة والرأفة والتي كان لها التأثير البالغ في نفوس الأتباع، لذا فإن الرهبان وأتباع السيد المسيح عليه السلام الواقعيين تراهم عادة أصحاب عاطفة وقلوب نقية، ومحبة صادقة، وطبيعي أن للمحبة تأثير بالغ في شخصية الإنسان ولطافة الروح، وهذا عامل مهم يحسب له حسابه.

ويشير القرآن الكريم إلي المسيحيين بقوله تعالي: ?ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لايستكبرون?().

ولما هاجر المسلمون الأوائل إلي الحبشة: ذكر النبي صلي الله عليه و اله النجاشي بأجمل الصفات حيث قال: (ولو خرجتم إلي أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق، حتي يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه)().

وفي رسالة النبي صلي الله عليه و اله إلي رؤساء المسيحيين، ومن ضمنهم النجاشي،

أخذ صلي الله عليه و اله يمجد السيد المسيح وأمه مريم (عليهما السلام)، وفي خاتمة رسالته صلي الله عليه و اله يؤكد للنجاشي أنه يريد له الخير والعزة والرفعة: (وإني أدعوك إلي الله عز وجل وقد بلغت ونصحت فاقبل نصحي، والسلام علي من اتبع الهدي)().

وبعد أن يأس المسيحيون في نجران من مباهلة النبي صلي الله عليه و اله وأهل بيته (عليهم السلام) لما وجدوا في الرسول صلي الله عليه و اله من عظم شأن ومقام عند الله، وقالوا إن محمداً وعلياً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) شخصيات رفيعة ومقربة عند الله ولا يمكن مباهلتهم، عقدوا معه صلي الله عليه و اله صلحاً يدفعوا الخراج والضريبة، وكان مسيحيو نجران يطبقون قوانينهم ومعتقداتهم بكل حرية ودون أي تعسف واضطهاد من قبل المسلمين.

يقول الكاتب المسيحي جرجي زيدان في كتابه "تاريخ التمدن الإسلامي" بعد بحث مفصل عن أسباب انتصار المسلمين.. فيصل إلي النتيجة التالية:

بأنه لم يتسلط أو يستول المسلمون علي الآخرين من أتباع الأديان الأخري بالسيف، وحتي أن الناس في المناطق التي فتحها المسلمون كانوا يفضلون الحاكم المسلم علي حاكمهم ويرجحونه عليه، والجزية التي كانت تدفع للمسلمين لا تساوي شيئاً إذا قيست بمجموع الضرائب التي كان يستوفيها منهم حكام الروم وفارس، ويشهد لذلك الرسالة التي بعثها المسيحيون الذين يسكنون باب الدروازة في الأردن عند فتح المسلمين لها:

(أيها المسلمون! نحن نرحب بكم ونرجحكم علي من هم من جنسنا، فأنتم تركتمونا لوحدنا، وأبديتم لنا المحبة والرحمة لنباشر طقوسنا بكل حرية وانطلاق، ولم يبد منكم ظلم وأذي لنا، فحكومتكم لنا أفضل بمراتب من حكومة الآخرين الذين أغاروا علي أموالنا، واستولوا علي دورنا).

التعامل مع اليهود

أما اليهود فقد كانوا علي عكس ذلك، فإن الأيادي البيضاء

التي لله علي اليهود، ونطقت بفضلها كتب السماء… أورثهم الأرض… فضلهم علي العالمين … نجاهم من الجبابرة… خصهم بالأنبياء والحكماء والمصلحين …

لكن اليهود أساءوا تماماً فهم الحكمة الإلهية الكامنة في هذا الكرم الإلهي العظيم… فقتلوا أنبياءه وخانوا أماناتهم، ولم يزدهم حلمه إلا جحوداً واستكباراً… هكذا كانوا مع الله.. فهل ينتظر منهم أن يكونوا خيراً من ذلك مع خلق الله؟

لقد حلل القرآن الكريم الخلق اليهودي ووصف ما انطوي عليه ذلك الخلق من الانحطاط، وليس المقصود إحصاء كل الذي نزل في اليهود، وإنما نكتفي بذكر جانب من الآيات الكريمة التي نزلت منذ أربعة عشر قرناً لتظل شاهدة أبد الدهر علي ان اليهود لا يغيرون ما بأنفسهم من الصفات القبيحة والعادات الذميمة..

نعم كان منهم أناس علي الفطرة وآمنوا برسول الله وهكذا آمن جماعات منهم طول التاريخ الإسلامي وصاروا من المسلمين المؤمنين ولكن الكلام في الطابع العام.

1: قال تعالي: ?لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قري محصنة أو من وراء جدر?().

2: وقال سبحانه: ?قالوا يا موسي إنا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون? ().

3: وقال تعالي: ?لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً كلما جاءهم رسول بما لا تهوي أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون? ().

4: وقال سبحانه: ?الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون?().

5: وقال تعالي: ?قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين?().

6: وقال سبحانه: ?إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين?().

هذا وقد كان تعامل الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله مع اليهود بأحسن ما يمكن، وفي قمة

الأخلاق، فقد أكرمهم وعفي عنهم وضمن لهم الحرية في مختلف جوانب حياتهم واقامة شعائرهم و..فكان ذلك سبباً في اسلام كثير منهم، وقد فصلنا ذلك في بعض كتبنا().

لقد وقي الله النزعة القومية المتعصبة، ووقاه شر إكراه الناس علي اعتناق مبادئه أو التنكيل بالمخالفين له في الرأي، فقد كان الإسلام دائماً ديناً سمحاً يؤمن بالحرية العقيدية ومبدأ التعايش السلمي بين معتنقي المبادئ المختلفة، ويعتبر أهل الكتاب متساوين مع بنيه في الحقوق والواجبات بطريقة أو بأخري.. حتي قال فيهم صلي الله عليه و اله: (من آذي ذميا فقد آذاني)().

التعامل مع الزردشتيين

يعد الزردشتيين كاليهود والمسيحيين من أهل الكتاب، والقرآن جعلهم بمستوي أهل الكتاب، كما وردت بعض الأخبار والروايات الإسلامية في عد المجوس من أهل الكتاب()، منها: ما ورد عن النبي الأكرم صلي الله عليه و اله قوله: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)().

فعلي هذا يكونون مشمولين أيضاً بمعاهدة الذمة وفي الاعتبارات الحقوقية والاجتماعية لا يختلفون عن أهل الكتاب.

فإن لم يكن النبي صلي الله عليه و اله قد عقد مع المجوس عهداً مباشرة، فقد أمر مبعوثه

العلاء بن الحضرمي أن يعقد معهم عهداً في البحرين، وكان يأخذ منهم الجزية، كما سبق.

إضافة إلي روايات أخري وردت عن النبي صلي الله عليه و اله في جواب أهل مكة الذين طلبوا منه صلي الله عليه و اله أن يقبل منهم الجزية مقابل بقائهم علي عبادة الأوثان والأصنام، فقال لهم صلي الله عليه و اله: "لم أقبل الجزية إلا من أهل الكتاب"، ثم خاطب أهل مكة الذين اعترضوا علي قبول الجزية من المجوس ولم يقبل منهم، بقوله صلي الله عليه و اله: كان للمجوس نبي وقد قتلوه، وأيضاً كان لهم كتاب سماوي قد نزل عليهم وقاموا بإحراقه،

وقد عرض عليهم نبيهم كتابه السماوي في اثني عشر جلد من جلود البقر.

وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام بشأن المجوس: (أنا أعلم الناس بأحوال المجوس، كان لهم كتاب يقرؤونه، وكانوا يستفيدون من علم النبوة، ثم نظف من قلوبهم).

ومن هذه الروايات فقد صرح المشهور من الفقهاء بعدم قبول الجزية وعهد الذمة من أي فريق عدا اليهود والنصاري والمجوس، حتي أن العلامة الحلي رحمة الله عليه جوز النكاح الموقت من نساء المجوس، ورآه جائزاً.

احترام المعاهدات والمواثيق

من قبل الدولة الإسلامية

والأصل الآخر من أصول السياسة الخارجية للدولة الإسلامية التي سنها رسول الله صلي الله عليه و اله في أول حكومة إسلامية أسسها في المدينة المنورة: هو احترام المعاهدات والمواثيق مطلقاً.

فالمعاهدات العالمية والدولية التي التزمت بها الحكومة الإسلامية محترمة ولا يجوز نقضها.

فلو أن الدولة الإسلامية رأت أن من صلاحها وبدون إجبار وإكراه أن تعقد اتفاقاً مع دولة أخري أو مع أشخاص أو مع شركات مرتبطة بدول خارجية، فعليها أن تلتزم بعهدها وميثاقها، وتبقي وفية علي العهد، وقد أشار القرآن الكريم وأحاديث الأئمة المعصومين (عليهم السلام) إلي هذا الأصل السياسي والأخلاقي، يقول القرآن الكريم: ?يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود?().

وقال عز وجل: ?والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون?().

وقال سبحانه: ?وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون?().

وقال تعالي: ?إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلي مدتهم إن الله يحب المتقين?().

وكان أئمة المسلمين أيضاً يحترمون العهود والمواثيق ويوفون بعهدهم، وكثيراً ما كانوا يؤكدون ويوصون بذلك، ففي عهد الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام تتجلي هذه الحقيقة وهو عهد كتبه لمالك الأشتر:

(وإن عقدت بينك وبين عدوك

عقدة أو ألبسته منك ذمة، فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود)().

وقال النبي صلي الله عليه و اله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليف إذا وعد)().

وقال صلي الله عليه و اله: (يجب علي المؤمن الوفاء بالمواعيد والصدق فيها)().

وهذه الأحاديث تشمل بعمومها أو اطلاقها جميع العهود: الفردية والدولية، مع المسلمين أو غيرهم، كما هو واضح.

الوفاء بالمعاهدات

عقد النبي صلي الله عليه و اله معاهدة مع المشركين في صلح الحديبية تنص علي أنه لو فر أحد من قريش من مكة إلي المدينة فليسلّم إليهم..

وبعد انتهاء العقد فر (أبو بصير بن أسيد بن حارثة) من مكة ودخل المدينة، وكان قد أسلم حديثاً.

فأرسلت قريش أحد أفرادها إلي النبي صلي الله عليه و اله وطلبت منه العمل بموجب المعاهدة وأن يسلمهم أبا بصير.

فقال النبي صلي الله عليه و اله لأبي بصير: إني قد عقدت مع أهل قريش معاهدة أقوم بموجبها في تسليم الفارين منهم، وليس في ديننا غدر، ولايجوز أن نخلف الوعد، فاذهب أنت معهم، وكن مطمئناً بأن الله سيجعل لك سبيل النجاة بأسرع ما يكون.

فقال أبو بصير: يا رسول الله! أتسلمني إلي المشركين ليأخذوا ديني؟

فقال صلي الله عليه و اله: يا أبا بصير! ينبغي عليّ الوفاء بالعهد، فاذهب أنت معهم، وكن علي يقين بأن الله سيجعل لك فرجاً ومخرجاً ().

وهكذا أكد رسول الله صلي الله عليه و اله علي لزوم احترام العهود والمواثيق، حتي مع الكفار.

وكذلك فإن النبي صلي الله عليه و اله في أحد القوانين السياسية والحكومية لعمرو بن حزم الذي أرسله إلي اليمن

ليطلع الناس علي تعاليم الإسلام، كتب له:

طبق علي كل أهالي اليمن حتي اليهود والنصاري منهم قوانين الإسلام، أي ما في الإسلام من الرأفة والرحمة وما يجب علي الدولة الإسلامية من الحفاظ علي أموال وأمن وأعراض رعيته.

وجاء في الفقرة (21) من هذا العهد:

(وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاماً خالصاً من نفسه، ودان بدين الإسلام، فإنه من المؤمنين، له مثل مالهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن كان علي نصرانية أو يهودية فإنه لا يرد عنها).

وفي معركة صفين اضطر أمير المؤمنين علي عليه السلام أن يعقد صلحاً مع معاوية لوقف الحرب فاقترح عليه الخوارج أن ينقض العهد، فقال لهم: ويحكم أبعد الرضا والعهد نرجع؟ أو ليس الله يقول: ?أوفوا بالعقود?()، وقال: ?وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون?().

نعم، إن النبي صلي الله عليه و اله وأئمة الهدي عليهم السلام كانوا يوفون بالمعاهدات الشخصية والاجتماعية وهذا من علامات الإيمان والإسلام.

ولم ينقض العهد إلا في حالة نقض الطرف الآخر للمعاهدة، كما جاء في الآيات القرآنية: ?وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنه لا أيمان لهم لعلهم ينتهون?().

وهذا القانون قد جاء بيانه في نصوص الروايات وألسنة الفقهاء، كما فصلناه في الفقه.

قانون الإلزام في التعامل مع غير المسلمين

وهناك قانون آخر يدل علي عظمة الإسلام ورحمته الواسعة يسمي بقانون الإلزام، حيث انه يكون التعامل مع غير المسلمين والأجانب من أتباع الأديان الأخري علي طبق قوانينهم وإلزامهم بمقرراتهم.. وهذا القانون بنفسه يجري في أتباع المذاهب الأخري فقد أشارت رواياتنا إلي هذه الناحية قائلاً: (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم)().

وفي رواية أخري عن محمد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه

السلام قال: (يجوز علي أهل كل دينٍ ما يستحلون)().

فالأقليات وغيرهم من سائر الأديان والمذاهب أحرار في نطاقهم أن يعملوا بما هو جائز عندهم وما ألزموا به أنفسهم، فمثلا: لا يمنع أهل الكتاب حتي من يعيش منهم في الدولة الإسلامية من شرب الخمر في بيوتهم وهكذا..

وقد أفتي الفقهاء بالضمان إذا غصب المسلم خمر الكافر الذمي أو خنزيره أو ما أشبه، قال المحقق (قدس سره) في الشرائع:

(ولا تضمن الخمر اذا غُصبت من مسلم ولو غصبها الكافر، وتضمن اذا غُصبت من ذمي مستتراً ولو غصبها المسلم، وكذا الخنزير) ().

وعلي أساس هذه القاعدة الفقهية التي هي من الأصول المسلمة في العهود والمواثيق الدولية، يكون التعامل والعمل مطابقاً مع الأعراف الدولية، حسب ما قرره المسلمون معهم وقد ذكرنا تفصيلاً (حول قاعدة الإلزام) في كتاب الفقه (القواعد الفقهية)().

الخاتمة

وكان هذا موجزاً عن حكومة رسول الله صلي الله عليه و اله وهي أول حكومة إسلامية عقدت في المدينة المنورة، وكانت نموذجا صالحا لجميع الحكومات في طول التاريخ، الإسلامية وغيرها.

قال تعالي: ?لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة?()، فيجب علي جميع الحكومات الإسلامية الاقتداء بهذه الحكومة المباركة، التي أسسها رسول الله صلي الله عليه و اله واستخلف صلي الله عليه و اله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يوم غدير خم بأمر من الله تعالي ليكون خليفته ووصيه والإمام من بعده.. فكان عليه السلام في حكومته كما كان عليه رسول الله صلي الله عليه و اله، وقد شهد بذلك التاريخ وتفصيل الكلام في المفصلات، والله الموفق المستعان.

اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلي طاعتك والقادة إلي سبيلك،

وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة().

قم المقدسة 10 / صفر / 1419ه محمد الشيرازي

پي نوشتها

() للتفصيل راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) ج1-2 للإمام المؤلف (دام ظله).

() أصل الكتاب باللغة الفارسية، وقد ألفه العلامة السيد محمد الثقفي.

() سورة الحجرات: 13.

() نهج البلاغة: الخطبة 192/ المقطع 93-97.

() بحار الأنوار: ج14 ص471 باب31 ح37.

() سورة العلق: 1.

() بحار الأنوار: ج18 ص223 باب1 ح61.

() قال تعالي: ?فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين?، سورة الحجر: 94.

() راجع بحار الأنوار: ج35 ص86 باب3 ح31.

() راجع تفسير القمي: ج2 ص288 تفسير سورة ص، وفيه: (فقال لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما أردته ولكن يعطوني كلمة يملكون بها العرب وتدين لهم بها العجم ويكونون ملوكا في الجنة).

() راجع سعد السعود: ص133، وفيه:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتي أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وابشر بذاك وقر منه عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصح

ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

وعرضت ديناً لا محالة أنه

من خير أديان البرية ديناً

() راجع العمدة: ص415 فصل ما جاء في أبي طالب عليه السلام. وبحار الأنوار ج35 ص146 ب3

() سورة مريم: 1.

() سورة الشرح: 5و6.

() بحار الأنوار: ج35 ص177 باب3 ح85.

() سورة القلم: 4.

() المناقب: ج1 ص56.

() راجع الطرائف: ص395، وفيه: (فقال ليس ذلك إليَّ إنما إلي الله عز وجل يجعله حيث يشاء).

() سورة البقرة: 201.

() راجع تفسير القمي: ج2 ص288 تفسير سورة ص، وفيه: (فقال لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما أردته ولكن يعطوني كلمة يملكون بها العرب وتدين لهم بها العجم ويكونون ملوكا في الجنة).

() سورة الأعراف: 157.

() سورة الفتح: 26.

() سورة المائدة: 104.

() سورة الجاثية: 24.

() سورة الحشر: 11.

() الأمالي للشيخ الصدوق: ص61

المجلس14 ح11.

() وهو: كونستان كوركيو.

() تحف العقول: ص34، خطبته عليه السلام في حجة الوداع.

() سورة البقرة: 143.

() سورة آل عمران: 110.

() سورة الأنبياء: 92.

() سورة المؤمنون: 52.

() سورة آل عمران: 113.

() سورة الحج: 34.

() سورة الحشر: 8-10.

() سورة آل عمران: 159.

() بحار الأنوار: ج1 ص 110و 111.

() مسند أحمد بن حنبل: ج21 ص 10 ط دار المعارف القاهرة 1968م.

() عيون الأثر: ج1 ص 198 ط بيروت 1970م.

() الأموال: ط مصر، فصل 517.

() البداية والنهاية: ج3 ص 224 226.

() أنساب الأشراف: ج1 ص 286 308 (ط مصر).

() المناقب: ج1 ص56 فصل فيما لاقي عليه السلام من الكفار في رسالته.

() سورة النحل: 36.

() سورة الممتحنة: 12.

() سورة الممتحنة: 12.

() راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) ج2 للإمام المؤلف (دام ظله).

() سورة الأعراف: 157.

() سورة الحج: 39.

() سورة البقرة: الآية 193.

() سورة الحجرات: الآية 9.

() فان سكانها اكثر من 200 مليون نسمة، ونسبة المسلمين فيها 90% وهي أكبر دولة اسلامية بالعالم من حيث النفوس، ومساحتها 1919270كم2 وتقع في جنوب شرق آسيا، كما تتألف من 13500 جزيرة، عاصمتها (جاكرتا).

() راجع بحار الأنوار: ج39 ص2 باب70 ح1.

() راجع للتفصيل كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) للإمام المؤلف (دام ظله).

() سورة الأنفال: 65.

() سورة البقرة: الآية 249.

() راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج1 ص238و239.

() حول هذه القصة راجع بحار الأنوار: ج21 ص85 باب24 ح11.

() وهذا قد يشبه حادثة قتل ولي عهد النمسا (سراجيو) في سنة (1914م) الذي أدي إلي نشوب الحرب العالمية الأولي والتي اشتركت فيها الدول الأوروبية جميعاً.

() راجع (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج1 ص269 للإمام الشيرازي (دام ظله).

() راجع (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج1

ص269.

() راجع (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج1 ص271 – 273.

() قد سبق تفصيل القصة، راجع الصفحة 85 من هذا الكتاب.

() قاله رسول الله عليه السلام في فتح مكة المكرمة حيث عفا عن الجميع حتي عن كبار المجرمين، راجع (ولأول مرة في تاريخ العالم) ج3 ص61-92.

() وهو المستشرق المعروف: (مونتكمري وات).

() سورة النحل: 125.

() سورة آل عمران: 20.

() الكافي: ج2 ص56 ح3.

()نهج البلاغة: الخطبة 34، المقطع 9و10.

() سورة الجمعة: 2.

() تحف العقول: ص25.

() بحار الأنوار ج1 ص177 ب1 ح54. والبحار ج2 ص31 ب9 ح20.

() المحاسن: ص59 ح9.

() منية المريد: ص148 فصل في مكايد الشيطان وأهمية الإخلاص.

() راجع من لا يحضره الفقيه: ج4 ص398 باب2 ح5853، وفيه: (إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد ووضعت الموازين فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء فيرجح مداد العلماء علي دماء الشهداء).

() راجع فتوح البلدان للبلاذري.

() راجع الاختصاص: ص221.

() الخصال: ص572 أبواب السبعين، الحديث1.

() هو عبد الحي الكتاني.

() راجع الصفحة 100 من هذا الكتاب.

() راجع كتاب (الاستيعاب في معرفة الأصحاب) لابن عبد البر.

() هو الماوردي نقله عن ابن قتيبة.

() يعتبر هذا الكتاب من (ودائع الإمامة) وهو موجود عند الإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف).

() حول الحكومة الإسلامية وكيفيتها راجع للإمام المؤلف دام ظله: (الفقه: الحكم في الإسلام) و(هكذا حكم الإسلام) و (الفقه: طريق النجاة) و (إذا قام الإسلام في العراق) و(الي حكم الاسلام) و(الفقه: السياسة) و…

() راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) ج1و2 للإمام المؤلف (دام ظله).

() سورة الأعراف: 157.

() سورة الأنعام: 164.

() سورة البقرة: 141.

() سورة النجم: 39.

() سورة المدثر: 38.

() غوالي اللئالي: ج1 ص129 ح3.

() سورة الحجرات: الآية 13.

() راجع شرح نهج

البلاغة لابن أبي الحديد: ج18 ص134، وفيه: (قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم…يا عباس بن عبد المطلب إني لا أغني عنك من الله شيئا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

() راجع بحار الأنوار: ج72 ص146 باب 56ح19.

() سورة سبأ: 28.

() الكافي: ج2 ص308 ح7.

() الكافي: ج2 ص307 ح1.

() الكافي: ج2 ص308 ح4.

() يقع هذا الكتاب في 104 صفحة من الحجم المتوسط وطبع مكررا. الطبعة الأولي 1409ه دار الفردوس، بيروت لبنان. يبحث الكتاب عن جوانب من الشوري، المشير والمستشير، المشورة، الأحزاب الديمقراطية والدكتاتورية، جملة من روايات المشورة.

() سورة الشوري: 38-39.

() سورة آل عمران: 159.

() راجع تفسير القمي: ج1 ص258 سورة الأنفال.

() بحار الأنوار ج74 ص141 باب7 ح1.

() غرر الحكم ودرر الكلم: ص442 الحديث10083.

() غرر الحكم ودرر الكلم: ص442 الحديث10082.

() غرر الحكم ودرر الكلم: ص442 الحديث10065.

() مصباح الشريعة: ص152 باب72 في المشاورة.

() مصباح الشريعة: ص152 باب72 في المشاورة.

() راجع موسوعة الفقه: ج48 ص155 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

() سورة آل عمران: 104.

() سورة آل عمران: 110.

() تحف العقول: ص34 خطبته عليه السلام في حجة الوداع.

() راجع كتاب صبح الأعشي للنقشبندي.

() راجع بحار الأنوار: ج21 ص232 باب 29، وفيه: (اخلفني في أهلي).

() راجع بحار الأنوار: ج28 ص107 باب3 ح3 وفيه: (فقال: لهن اسمعن ما أقول لكن وأشار بيده إلي علي بن أبي طالب ? فقال لهن هذا أخي ووصيِّ ووارثي والقائم فيكن وفي الأمة من بعدي فأطعنه فيما يأمركن به ولا تعصينه)، الحديث.

() راجع كتاب (إذا قام الإسلام في العراق) ص67-69، للإمام المؤلف دام ظله.

() نهج البلاغة: الكتاب 53 المقطع 75-77.

() المقنعة ص255 باب الزيادات في الزكاة، الحديث 28.

() كان من شيعة علي عليه السلام.

() راجع (تاريخ

الخلفاء) لجلال الدين السيوطي.

() هو ابن كبر في ألفيته، فراجع.

() سورة التوبة: 103.

() راجع (مقتطفات من تاريخ المدينة المنورة) ص 40 للإمام الشيرازي دام ظله.

() سورة النساء: 65.

() سورة ص: 26.

() سورة المائدة: 42.

() سورة المائدة: 42.

() سورة المائدة: 48.

() كشف الغمة: ج1 ص263.

() راجع (كشف الظنون) للحاجي خليفة وكذلك كتاب (أقضية رسول الله عليه السلام تأليف العالم الأندلسي محمد بن فرخ بن طلاع المتوفي سنة (497ه) وهو من أوائل الكتب المؤلفة في أقضية الرسول عليه السلام، وهو كتاب خطي موجود في مكتبات تونس، والمكتبة الرضوية، وأضاف العالم المغربي كتاني كتباً اخري في كتابه (نظام الحكومة النبوية)[ج1 ص 253-256]، وقد أشار إليها بالتفصيل، فقد فهرس أبواب الحقوق التي أصدر بها نبي الإسلام (صلي الله عليه وآله وسلم) فتاواه، وقام بنشرها.

() دعائم الاسلام: ج2 ص518.

() راجع مستدرك الوسائل: ج17 ص350 باب3 ح21546، وفيه: (اعلم أنه يجب عليك أن تساوي بين الخصمين حتي النظر إليهما حتي لا يكون نظرك إلي أحدهما أكثر من نظرك إلي الثاني).

() وهي قاعدة (الناس مسلطون علي أموالهم وأنفسهم) راجع للتفصيل كتاب (القواعد الفقهية) للإمام الشيرازي (دام ظله).

() مستدرك الوسائل: ج13 ص308 باب13 ح15443.

() راجع كتاب (اذا قام الاسلام في العراق) ص 99 للإمام المؤلف، تحت عنوان (الموظفون والاصلاح الاداري).

() كشف الغمة ج1 ص263.

() راجع كتاب (حياتنا قبل نصف قرن) و(بقايا حضارة الاسلام كما رأيت) للإمام المؤلف (دام ظله).

() راجع موسوعة الفقه ج100 كتاب الحقوق، وكتاب (كيف ينظر الإسلام الي السجين) للإمام المؤلف (دام ظله).

() راجع العمدة: ص257 ح400، وكشف اليقين ص48.

() كشف الغمة: ج1 ص263.

() نهج البلاغة: الكتاب60 المقطع 1-5.

() نهج البلاغة: الكتاب53 المقطع 109و110.

() نهج البلاغة: الكتاب 53 المقطع 127و128.

() وهج

الفصاحة: باب ما أوله "ميم".

() سورة الأنبياء: 107.

() سورة الأعراف: 157.

() سورة الأعراف: 158.

() سورة سبأ: 28.

() سورة المائدة: 67.

() سورة الأنبياء: 92.

() سورة الأعراف: 157.

() سورة المائدة: 55.

() سورة الحديد: 25.

() سورة النساء: 135.

() نهج البلاغة: الخطبة224 المقطع10و11.

() راجع كتاب (إذا قام الإسلام في العراق) ص77 و81 تحت عنوان (العلاقات الدولية) و(حسن الجوار).

() ص 246.

() بحار الأنوار: ج20 ص386 باب20 ح8.

()سورة آل عمران: 64.

() بحار الأنوار: ج20 ص389 باب20 ح8.

() راجع بحار الأنوار: ج20 ص392 باب20 ح8.

() سورة آل عمران: 64.

() راجع بحار الأنوار: ج21 ص23 باب22 ح17، وقد أشار العلامة المجلسي (قدس سره) إلي أصل الرسالة من دون ذكر نصها.

() راجع بحار الأنوار: ج20 ص382 باب21 ح8 وقد أشار العلامة المجلسي (رحمه الله) إلي أصل الرسالة من دون ذكر نصها.

() سورة آل عمران: 64.

() راجع بحار الأنوار: ج21 ص58 باب24 ح11، وقد أشار العلامة المجلسي? إلي أصل الرسالة من دون ذكر نصها.

() راجع بحار الأنوار: ج21 ص 49باب32 ح3، وقد أشار العلامة المجلسي إلي أصل الرسالة من دون ذكر نصها.

() راجع بحار الأنوار: ج20 ص394 باب20 ح8، وقد أشار العلامة المجلسي إلي أصل الرسالة من دون ذكر نصها.

() راجع بحار الأنوار: ج18 ص138 باب11 ح39، وقد أشار العلامة المجلسي (قدس سره) إلي أصل الرسالة من دون ذكر نصها.

() راجع (الطبقات) لابن سعد.

() سورة الأنعام: 19.

() سورة آل عمران: 64.

() سورة النصر: 1- 3.

() سورة ص: 87 و88.

() سورة يس: 69 و70.

() سورة الفرقان: 1.

() سورة سبأ: 28.

() سورة النحل: 89.

() سورة الأنعام: 38.

() سورة الأحقاف: 9.

() سورة النحل: 123.

() سورة البقرة: 105.

() سورة آل عمران: 120.

() سورة آل عمران: 149و150.

() سورة البقرة: 120.

()

راجع علل الشرائع: ص376 باب103 ح2، وفيه: (ما من مولود ولد إلا علي الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه)، الحديث.

() سورة النساء: 141.

() مستدرك الوسائل: ج17 ص142 باب1 ح20985.

() سور الممتحنة: 8 و 9.

() سورة الأنفال: 61.

() سورة التوبة: 4.

() سورة البقرة: 62.

() سورة الحج: 17.

() سورة المائدة: 82.

() راجع بحار الأنوار: ج18 ص412 باب4، وفيه: (إن بها ملكا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد، فاخرجوا إليه حتي يجعل الله عز وجل للمسلمين فرجا).

() راجع بحار الأنوار: ج18 ص419 باب4 ح5، وفيه: (فإني أدعوك وجيرتك إلي الله تعالي وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي والسلام علي من اتبع الهدي).

() سورة الحشر: 14.

()سورة المائدة: 24.

()سورة المائدة: 70.

()سورة الأنفال: 56.

()سورة الجمعة: 6.

()سورة الأعراف: 152.

() راجع كتاب (لأول مرة في تاريخ العالم) ج1 و2، و(مقتطفات من تاريخ المدينة المنورة) و..

() الصراط المستقيم ج3 ص13 باب12.

() راجع بحار الأنوار ج10 ص119 باب8 ح1، وفيه: (قال الأشعث بن قيس يا أمير المؤمنين كيف تؤخذ من المجوس الجزية ولم ينزل عليهم كتاب ولم يبعث إليهم نبي قال: بلي يا أشعث قد أنزل الله تعالي عليهم كتابا وبعث لهم نبيا) وراجع موسوعة الفقه ج47-48 كتاب الجهاد.

() راجع غوالي اللئالي ج2 ص99 ح273، وفيه: (في أخبار أهل البيت?: إن المجوس كان لهم نبي فقتلوه وكتاب فحرفوه لهذا قال النبي عليه السلام: سنوا بهم سنة أهل الكتاب)

() سورة المائدة: 1.

() سورة المؤمنون: 8.

() سورة النحل: 91.

() سورة التوبة: 4.

() نهج البلاغة: الكتاب53 المقطع 133-135.

() الكافي: ج2 ص64 ح2.

() راجع بحار الأنوار: ج72 ص96 باب 47 ح18.

() راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج2 ص19 تحت عنوان (من بركات صلح الحديبية).

() سورة المائدة: 1.

() سورة النحل:

91.

() سورة التوبة: 12.

() راجع التهذيب: ج9 ص322 باب4 ح12 وفيه: (ألزموهم بما ألزموا أنفسهم).

() راجع الاستبصار ج4 ص148 باب91 ح10 وفيه: (يجوز علي كل ذي دين ما يستحلون).

() شرائع الاسلام، القسم الرابع، كتاب الغصب. وراجع أيضاً (موسوعة الفقه) للإمام الشيرازي (دام ظله) ج78 كتاب الغصب ص 78 – 89 المسألة 7 و8 تحت عنوان (ضمان الخمر المحترمة) و(اتلاف الخمر المحترمة).

() القواعد الفقهية: ص69-80.

() سورة الأحزاب: 21.

() دعاء الافتتاح، راجع (مفاتيح الجنان) و(الدعاء والزيارة) في أعمال ليالي شهر رمضان المبارك.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.