وَمَضات

اشارة

اسم الكتاب: ومضات تقرير لمجموعة من المحاضرات

المؤلف: حسيني شيرازي، محمد

تاريخ وفاة المؤلف: 1380 ش

اللغة: عربي

عدد المجلدات: 1

الناشر: بنيد القار

مكان الطبع: كويت

تاريخ الطبع: 1429 ه

الطبعة: دوم

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة الناشر

في ظل هذه الظروف العصيبة التي يمرّ بها العالم، والمشكلات التي تعاني منها الامة الإسلامية، والأزمات الروحية والأخلاقية التي يئنّ منها المجتمع، إضافة إلي ما نلمسه من التعطش الشديد إلي اعادة الروح الإسلامية الأصيلة وبث الوعي الإسلامي الصحيح المستمد من نهج أهل البيتعليهم السلام في صفوف المسلمين، وانطلاقاً من قوله تعالي: ?فَبَشِّرْ عِبَادِ? الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ? وشعوراً منّا بالحاجة الماسّة إلي نشر وبيان مفاهيم الاسلام الأصيلة ومبادئه الإنسانية السامية، عزمنا بعد التوكل علي الله تعالي، علي تقديم المحاضرات الفكرية والتربوية القيمة حول مختلف شؤون الحياة الفردية والاجتماعية، في مناسبات مختلفة.

ولقد عُرف عن المرجع الراحل آية الله العظمي السيد محمد الحسيني الشيرازي? من جملة ما عرف عنه من جوانب عظمته اهتمامه الفائق بترسيخ الأخلاق في المجتمع، سواء عبر الدروس العملية التي كانت تحكيها سيرته الفاضلة، أو من خلال المحاضرات الخاصة التي كان يلقيها علي الطلبة أسبوعياً، يربّيهم فيها علي مكارم الأخلاق ويوسّع أفق التفكير لديهم من خلال التواصل معهم ومدّهم بالمعلومات الواسعة وتحفيزهم بالعمل والجد والاجتهاد، والإخلاص والتقوي ومواكبة العصر والاهتمام بأمور المسلمين …

وعلي ذات السيرة جري نجله سماحة آية الله السيد محمّد رضا الشيرازي حفظه الله الذي خصص منذ سنين يوماً واحداً في كل أسبوع وهو يوم الأربعاء ليلقي محاضرة أخلاقية علي طلاب العلوم الدينية يتحفهم فيها بقبسات من روائع خلق أهل البيتعليهم السلام.

هذه المحاضرات هي الأخري لم تكن حصراً علي المفاهيم الأخلاقية وحدها بل تناولت الرؤي

والمفاهيم الإسلامية في مختلف جوانب الحياة العلمية والمنهجية من خلال سيرة أئمة أهل البيت عليهم السلام، كما امتازت بمعالجتها لمواضيع وقضايا معاصرة، فكانت مدرسة تربوية وتوعوية إسلامية شاملة بحقّ. وقد جمعناها في كتاب مستقلّ لكي تكون الفائدة أعمّ، علماً أن هذه المجموعة تحتوي علي أربعة وعشرين محاضرة، كما نشكر جهود إخواننا الذين ساهموا في إعداد هذا الكتاب ونخصّ بالذكر الأستاذ عبدالرضا افتخاري.

نرجو أن يكون هذا الجهد المتواضع من قسم التحقيقات في موقع الامام الشيرازي مساهمة في نشر الوعي الاسلامي الأصيل وسداً لبعض الفراغ العقائدي والأخلاقي لأبناء امّتنا، ونسأل الله العلي القدير أن يتقبله منا ويوفقنا للمزيد. إنه سميع مجيب.

قسم التحقيقات في موقع الامام الشيرازي

www.shirazi.ir

26 ربيع الأول 1426

محمّدعليه السلام نبيّ الرحمة

محمّدعليه السلام نبيّ الرحمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين. وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين

واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي قيام يوم الدين

مقدّمة

مفهوم «الرحمة» يشكّل أحد المحاور الأساسية في فكر الإنسان المعاصر، ورغم أن الرحمة من القيم المحورية في الإسلام ولكننا نلاحظ أن الجهات الأخري تبنّت اليوم هذه القيمة نظرياً وعملياً، ولا نريد الآن البحث في ما إذا كان هذا التبنّي تبنّياً واقعياً أم مزيّفاً، فلهذا مجال آخر، ولكن الشيء الواضح هو أن الجهات الأخري ترفع اليوم شعار الرحمة وتتبنّاه نظرياً وعملياً، فالمسيحيون مثلاً يحاولون أن يكتسحوا العالم من خلال رفعهم هذا الشعار، وإذاعاتهم تردّد «أن المسيح رحمة» و «أنه افتدانا من لعنة الناموس» و «أنه تحمّل جميع الآلام للتكفير عن خطايا البشر».

وحتي القوي العظمي ترفع اليوم شعار الرحمة والدفاع عن حقوق الإنسان، فالغرب يرفع شعار الدفاع عن حقوق الأطفال في العالم وحقوق المرأة وحقوق السجناء و …، أما نحن المسلمين فمن المؤسف أن تبنّينا لهذه القيمة اليوم ضعيف جداً سواء من الناحية النظرية أم من الناحية العملية.

فلو اعتقل أحد المؤمنين في إحدي البلاد الإسلامية، فربما يبقي أعواماً لا يُعرف عنه شيء، في حين أنه لو اعتقل فرد من دين آخر فإن لجان الدفاع عن حقوق الإنسان قد توجّه ضغوطاً كبيرة إلي الدولة التي تعتقله حتي تطلق سراحه.

لقد بقي الشيخ بهلول معتقلاً في السجون الأفغانية زهاء ثلاثين عاماً ولم يُفرج عنه حتي حدث خلاف بين الحكومة الأفغانية ودولة أخري قامت بفضح الحكومة الأفغانية في مجال اضطهاد حقوق الإنسان، وأشارت إلي اعتقال الشيخ بهلول، فاضطرت الحكومة الأفغانية إلي إطلاق سراحه وإلاّ لربما بقي سجيناً حتي نهاية عمره!

الرحمة في النصوص الإسلامية

إن النصوص الإسلامية مشحونة بمفهوم الرحمة، فأول ما تفتح كتاب الله تعالي يواجهك شعار الرحمة ?بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ?، كما أن هذا الشعار مطلع كلّ سورة في القرآن الكريم.

وقد تكررت كلمة

«الرحمة» ومشتقّاتها في القرآن الكريم مئات المرّات، ولكننا نكتفي هنا بذكر آيتين كريمتين؛ الأولي منهما ترتبط بالجانب التكويني، أما الثانية فترتبط بالجانب التشريعي.

أمّا الآية الأولي فهي قوله تعالي: ?إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ?.

إن اللغز الذي حيّر العقول منذ القدم هو: لماذا خلق الله الإنسان؟ من الواضح أن الله تعالي خلق كلّ الأشياء من أجل الإنسان، ولكن ما هي الغاية من خلق الإنسان؟ يقول الله تعالي في الجواب علي ذلك: (إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم) أي خلقهم كي يرحمهم فهذا هو الدافع وراء خلق الإنسان، وهذه هي العلّة الغائية لوجوده.

أما الآية الثانية فهي قوله تعالي مخاطباً نبيّه الكريمعليه السلام: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ?، و «إلاّ» تفيد الحصر، فيكون معني العبارة أن هدف البعثة متمحّض في الرحمة.

اتضح إذن أن الرحمة تمثّل قيمة محورية في نظام التشريع، كما تمثّل قيمة محورية في نظام التكوين.

كيف يكون نبيّناعليه السلام رحمة للعالمين؟

وهنا سؤالان قد يخطران في الأذهان عن قوله تعالي: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ?:

السؤال الأول: إذا كان النبيعليه السلام رحمة للعالمين، فلماذا لم ينتفع الكفّار بهذه الرحمة؟

وإذا كان العلماء يقولون: «ما يعلم أنه لا يترتّب علي شيء لا يعقل أن يكون غرضاً منه» فكيف يكون الغرض من بعثة الرسولعليه السلام هو الرحمة للجميع مع أنها لم تترتّب عليه؟

هناك إجابات عديدة علي هذا السؤال ولكنا نكتفي بالإشارة إلي إحداها وهي: أن الرحمة من الحقائق المشكّكة حسب الاصطلاح الفلسفي أي أن لها مراتب، وبعض مراتب هذه الرحمة شملت الجميع.

لقد كان السيد الوالدرحمة الله عليه ربما قبل زهاء شهرين من وفاته، يحثّ العلماء والكتّاب الذين يزورونه علي الكتابة عن فضل النبيعليه السلام علي الحضارة المعاصرة، وكان يقول:

«يمكن تأليف كتاب ضخم في هذا المجال ولكن

ليس لديّ الوقت الكافي للقيام بذلك، ولذلك أؤكّد عليكم أن تقوموا أنتم بذلك، فإنّ ما ينعم به إنسان اليوم من خير مدين به للنبيعليه السلام».

لقد كان الغرب في القرون الوسطي يغطّ في ظلام الجهل والتخلّف في كلّ المجالات كما يعترف مؤرّخوهم بذلك. ففي المجال الصحي كانت مستشفياتهم كاصطبلات الحيوانات، أما الوضع العلمي فيكفي أن نعرف أنهم كانوا يقتلون علماءهم ويحرقونهم، والمقصلة الموجودة في لندن والتي كانت تفصل رؤوس العلماء وغيرهم عن أجسادهم شاهدة علي ذلك.

وأما المرأة فكانت محتقرة أيّما احتقار، حتي بُعث نبيناعليه السلام وغمر العالم بأنواره، وما مبادئ حقوق الإنسان وحرية الرأي وما يعبّر عنه بالديمقراطية في عالم اليوم إلاّ حصيلة احتكاك الغرب بالحضارة الإسلامية. فإذا كان الإنسان المعاصر ينعم بقدر من الحرية والأمن والعلم والمعرفة فإنما ذلك ببركة النبي الأعظمعليه السلام. ولقد أشارت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء? إلي بعض الجوانب من هذه النقلة النوعية التي حقّقها رسول اللهعليه السلام في قولها?: «فأنقذكم الله برسولهعليه السلام».

اتضح إذن أن النبي الأعظمعليه السلام لم يكن رحمة للمؤمنين أو المسلمين فقط بل كانعليه السلام رحمة للعالمين جميعاً.

لا منافاة بين الرحمة والعقوبات الإسلامية

السؤال الثاني: إذا كان الإسلام دين الرحمة والرسولعليه السلام نبيّ الرحمة، فكيف نفسّر العقوبات الجزائية في الإسلام، أليست هذه العقوبات منافيةً للرحمة؟

نشير في الجواب علي نحو الإجمال أيضاً إلي نقطتين:

النقطة الأولي: إن نظام العقوبات يمثّل جزءاً محدوداً من الإسلام، وإن قيمته الكاملة تكمن في كونه يمثّل جزءاً من النظام الإسلامي كلّه، ولو فصلنا أي جزء من المجموعة التي ينتمي إليها وعرضناه علي أنه يمثّل الكلّ فإن الصورة التي يعكسها هذا الجزء قد لا تكون جميلة، بل ربما تكون قبيحة منفّرة.

والمشكلة أن بعض الناس يتصوّر أن الإسلام ليس سوي نظام عقوباته

الجزائية، فما ان يذكر اسم النظام الإسلامي حتي يتبادر إلي ذهنه أنه النظام الذي يطبّق تلك العقوبات، فإذا قيل له مثلاً «لنعمل من أجل أن يصل الإسلام إلي الحكم» قفزت إلي ذهنه صورة قطع يد السارق وإقامة الحدّ علي الزاني، مع أن الإسلام أوسع من ذلك بكثير، ولو راجعتم كتب الفقه فسترون أنّ الحيّز الذي يشغله النظام الجزائي ككتاب الحدود والقصاص والديات صغير قياساً إلي باقي الأجزاء مثل العبادات والمعاملات والعقود والإيقاعات وغيرها.

وكان السيد الوالد? يذهب علي تفصيل ذكره إلي أن نظام العقوبات لا يُطبق إلاّ إذا طبِّق الإسلام كمجموعة متكاملة، فكان يقول:

«ينبغي أن يكون النظام الاقتصادي إسلامياً وكذلك النظام الاجتماعي والسياسي ثم نقوم بعد ذلك بإجراء الحدود».

وقد روي أنه جيء برجل سارق عند المأمون ليقطع يده، فاعتذر الرجل باضطراره، فالتفت المأمون للإمام الرضاعليه السلام وسأله: ما تقول؟ فقال الإمامعليه السلام: فلله الحجة البالغة، أي لقد احتجّ عليك فردّه بالحجة، فغضب المأمون علي الإمامعليه السلام!

فكأنّ الإمامعليه السلام يقول في جواب المأمون: إذا كان النظام الاقتصادي فاسداً فقام فقير بالسرقة مضطرّاً، فلا معني لتطبيق العقوبة عليه.

ولذلك نلاحظ أنه عندما كان النظام الإسلامي مطبقاً إلي حدّ ما، لم يكن القضاة يعرفون بعض الحدود، لأنهم لم يكونوا بحاجة إلي تنفيذها، ولقد روي المؤرّخون: أن سارقاً سرق في عهد الإمام الجوادعليه السلام وجيء به إلي القضاء، ولكن القضاة لم يعرفوا مِن أين ينبغي أن تُقطع يده واختلفوا، حتي قاضي القضاة لم يعرف الجواب فلجأوا إلي الإمامعليه السلام فبيّن لهم الحكم!

أما النقطة الثانية: فهي أن كلّ قانون بحاجة إلي ضمانة تنفيذية، ومن دونها لا ينجح القانون، والعقوبات تشكّل إحدي الضمانات لتنفيذ القانون، وعلي هذا جرت سيرة العقلاء؛ ولذلك يقول علماء

الكلام: إن محركية القانون لا تتمّ إلاّ بالوعد والوعيد. ففي ظلّ نظام لا يعاقب المجرمين يفقد الناس الأمان ويطاردهم شبح العدوان علي أموالهم وأعراضهم وأرواحهم … ولا يهنأون بعيشهم؛ ولذلك قال الله تعالي: ?وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ?، فإن في موت القتلة حياة من سواهم من الأبرياء، وهذا يعني أن العقوبات الإسلامية رحمة للناس لأنها تحقّق لهم حياة آمنة.

وظيفتنا تجاه الإسلام

إذا عرفنا أن الإسلام دين الرحمة وأن نبيناعليه السلام هو نبي الرحمة كما روي عنه أنهعليه السلام قال عن نفسه الشريفة: «إنما أنا رحمة مهداة»، فما هي وظيفتنا تجاه هذا الدين الذي هو دين الرحمة؟

نقول في الجواب إن وظيفتنا الأولي تجاه الإسلام هو عرضه، ولا يكفي عرضه نظرياً، بل لابدّ من عرضه عملياً أيضاً.

إن كثيراً من الناس لا يعرفون حقيقة الإسلام، ولو عرف الناس الإسلام علي حقيقته لأقبلوا عليه، فإن في الإسلام دقائق تكشف عن عظمته. إن الإسلام ليس رحمة للإنسان فحسب بل هو رحمة للحيوان أيضاً. ولو راجعتم كتب الروايات للاحظتم روايات عجيبة في هذا المجال. فهناك حقوق يذكرها الإسلام للحيوان لم تصل إليها الحضارة المعاصرة رغم الشعارات التي ترفعها في الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق الحيوان.

من الروايات العجيبة في هذا المجال ما روي عن النبيعليه السلام أنه قال: «نظّفوا مرابض الغنم وامسحوا رغامهنّ».

فالإسلام يقول لأتباعه: حتي مرابض الغنم ينبغي أن تكون نظيفة، والأعجب من ذلك أنه يدعوهم لمسح رغامها أي ما يخرج من أنوفها، فهل تجدون نظيراً لذلك في عالم اليوم؟

وهناك رواية مرويّة عن الإمام الصادقعليه السلام يعدّد فيها ستة حقوق للدابّة علي صاحبها؛ يقولعليه السلام:

1. «لا يحمّلها فوق طاقتها».

2. «ولا يتّخذ ظهرها مجالس يتحدّث عليها» فإنه إذا كان معذوراً أن يركبها

حال السفر والتنقّل، فهذا لا يعني أن يُتعبها من دون ضرورة فلا ينبغي له أن يظلّ راكباً عليها يحدّث صديقاً له بل ينبغي له أن يترجّل عنها ثم يتحدّث!.

3. «ويبدأ بعلفها إذا نزل».

وهذا أيضاً من عجائب التشريع الإسلامي؛ فإن السفر يُتعب الإنسان عادة، وعندما يصل المسافر يكون عادة منهكاً يفكّر في راحته وغذائه أولاً وهذا ما نلمسه عندما نسافر اليوم، فكيف إذا كان السفر علي الدوابّ وعبر الطرق القديمة ولكن الإمامعليه السلام يقول: ينبغي أن تفكّر في علف الدابّة أولاً وليس في طعامك وشرابك.

ومن الحقوق:

4. «ولا يسمها» فإنهم كانوا يضعون علامات علي الدوابّ عن طريق كيّها في مواضع من بدنها، فنهاهم الإسلام عن ذلك.

ومن الحقوق أيضاً:

5. «ولا يضربها في وجهها فإنّها تسبّح».

6. «ويعرض عليها الماء إذا مرّ به».

وفي رواية أخري:

«وأن لا يضربها علي النفار»، أي عندما تنفر.

والروايات في هذا الباب كثيرة سواء عن النبيعليه السلام أو عن الإمام الصادقعليه السلام وهكذا عن سائر الأئمةعليهم السلام، وما أعظم قول الإمام أمير المؤمنينعليه السلام في هذا المجال: «واللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاكِهَا عَلَي أَنْ أَعْصِيَ الله فِي نَمْلَة أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَة مَا فَعَلْتُهُ».

ولصاحب كتاب «الحدائق» ? بحث حول حقوق الحيوان فيه بنود متعدّدة، يقول في البند (د): «قد صرّحوا أي الفقهاء بأنه حيث إن ديدان القزّ إنما تعيش بالتوت أي علي أوراق التوت فعلي مالكها القيام بكفايتها منه (أي هذه وظيفته الشرعية) وحفظها من التلف، فإن عزّ الورق (وشحّ في السوق مثلاً وغلا ثمنها) ولم يعتن بها (فإن المالك قد لا يعتني في مثل هذه الحالة لأنه يري أن ذلك يكلفه) باع الحاكم من ماله واشتري لها منه ما يكفيها».

وهكذا نلاحظ أن رحمة الإسلام

تشمل حتي ديدان القز، فكما إن للإنسان حقوقاً فكذلك للحيوان، بل إن رحمة الإسلام تشمل حتي النبات أيضاً كما يظهر بمراجعة «بحث النفقات» من كتاب «النكاح»، ولو عُرضت أحكام الإسلام وتعاليم النبي والأئمة المعصومينعليهم السلام ورواياتهم علي العالم عرضاً صحيحاً لأقبل نحوها أيما إقبال.

ولا بأس أن نستطرد لنذكر ما نقله أحد الإخوة المؤمنين وكان يعيش في الغرب حيث ذكر أنه أقيم احتفال لشخص يسمي «هارفي» باعتبار أنه مكتشف الدورة الدموية الصغري، فارتقي المنصّة وتحدّث عن اكتشافه، فصفّق له الحاضرون. يقول الأخ: وبعد أن انتهي تصفيقهم أخذت أصفّق وحدي، فأخذوا ينظرون إليّ وسألوني عن سبب هذا العمل، فقلت لهم: إنني لم أصفّق لهارفي بل صفّقت لرجل منّا نحن المسلمين كان يعيش قبل حوالي ألف وأربعمائة عام، هو الذي اكتشف الدورة الدموية الصغري، فقيل لي: من هو؟ قلت: إنه إمامنا جعفر بن محمد الصادقعليه السلام، فقد ذكر ذلك لتلميذه المفضّل بن عمر، كما ورد في كتاب (توحيد المفضّل) ويمكنكم مراجعة الكتاب والتأكّد مما أقول، فصفّق الحاضرون كلّهم هذه المرة معي ولكن للإمام الصادقعليه السلام.

إن تراثنا غني جداً ولكنا مع الأسف حصرناه في زوايا محدودة ولم ننشره للعالم.

بعد الحملة العالمية التي شُنّت علي الإسلام والتي رمته بالإرهاب والعنف، سألت أحد الإخوة المؤمنين الذين يعيشون في الغرب عن أثر هذه الحملات علي المجتمع الغربي، فقال: لقد ولّدت عندهم رغبة جامحة في التعرّف علي هذا الدين. فقلت له: أهي مجرد رغبة في المعرفة أم هناك اعتناق أيضاً، فأجابني: المعرفة طريق الاقتناع والاعتناق.

وقد نقل أن في الغرب اليوم إقبالاً علي تعلّم اللغة العربية لأنها لغة القرآن، كما نقل أن المصاحف الكريمة نفدت من الأسواق.

إن القرآن حقّ، ومن طبيعة الحقّ أنه يهزم

الباطل. إن الحقّ يخيف أهل الباطل، لأن الناس إذا عرفوه تركوا الباطل واتجهوا إليه، كالشمس عندما تشرق، حيث تُطفَأ المصابيح التي كانت مسرجة طوال الليل ويتمّ الاستغناء عنها، بل المصابيح الكهربائية نفسها عندما اخترعت قضت علي المصابيح النفطية والشموع القديمة.

إن القرآن الكريم يؤثّر في أعماق الإنسان، وإنه ليؤثّر فينا ويهزّنا نحن الذين عشنا في أجوائه منذ نعومة أظفارنا، فكيف بمن يسمعه لأول مرة؟!

ما ألذّ سماع القرآن وهو ينطلق من المآذن خاصة في الأسحار! وما أعظم أثره في النفوس! إن الطاقة التي يولّدها القرآن في النفوس لا تماثلها طاقة.

وهكذا الأمر في أحاديث النبيعليه السلام وأحاديث الإمام الصادق وأحاديث سائر الأئمة المعصومينعليهم السلام، كنهج البلاغة والصحيفة السجادية.

إن الشعوب إذا عرفت الإسلام أقبلت عليه، ولكن الحكومات المعادية للإسلام هي التي تتّهم الإسلام بالإرهاب وتسعي لتضليل شعوبها وتزييف وعيهم من خلال إلصاق التهم بالإسلام.

وقد نقل أحد الإخوة المؤمنين ممن يعيشون في الغرب أن البقال الذي كان يتبضّع منه، طلب منه بعد الأحداث المعروفة أن لا يأتي إلي محلّه بعد ذلك، وعندما سأله عن السبب قال:

«إني أشعر بالخوف عند مشاهدتك لأنك مسلم»

هكذا ملؤوا أدمغة الناس بالتهم والأباطيل؟!

كما نقل أخ آخر أنه التقي شخصاً من كبارهم فقال له:

«إني عندما أري هذه المشاهد يقشعرّ بدني وأقول أحقّاً هذا هو الإسلام؟

يقول الأخ المؤمن: فقلت في جوابه: لا تظلم الإسلام، فهؤلاء لا يمثّلون الإسلام إنما هم فئة منحرفة؛ لأن نبي الإسلام هو نبي العفو والرحمة والتسامح والصفح والأخلاق العظيمة، وإنه عفا حتي عمّن جيّش الجيوش ضدّه وقاد الجبهة التي قاومته وهو أبو سفيان، وعفا عن كلّ أهل مكّة، وعندما سألهم وقد ربح المعركة: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم.

فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء».

ثم قالعليه السلام: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن! وأبو سفيان بالنسبة للمسلمين كان كهتلر بالنسبة لكم، فهل كنتم ستعاملون هتلر لو ظفرتم به كما عامل النبيعليه السلام أبا سفيان وقد أظفره الله تعالي به ونصره عليه نصراً مبيناً؟!

إذن علينا أن نعرض الإسلام من خلال سيرة النبيعليه السلام والأئمة الأطهارعليهم السلام، وقد روي عن الإمام الرضاعليه السلام أنه قال: فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا.

نسأل الله سبحانه وتعالي أن يوفّقنا لذلك وأن يجعل يوم ميلاد النبي الأعظمعليه السلام الذي هو إمام الرحمة كما في دعاء التوسل، ويوم ميلاد حفيده مظهر الحقائق الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه السلام مباركاً لنا ولكم ولجميع المؤمنين.

وصلّي الله علي محمّد وآله الطاهرين

الزهراء? الفيصل والقدوة

الزهراء? الفيصل والقدوة

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي محمد وآله الطيبين الطاهرين،

واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين

هذان الشهران (جمادي الأولي وجمادي الثانية) يتعلّقان بسيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين الصديقة الكبري فاطمة الزهراء?.

وحديثنا بهذه المناسبة يدور حول ثلاثة محاور، هي:

1) الزهراء? فيصلاً

مقدمة في تقييم الأفكار

إن لتقييم الأفكار والنظريات والمبادئ والمذاهب طريقين هما:

الأول: الطريق المباشر، حيث يتم التوجّه إلي الفكرة مباشرة ويجري تقييمها من خلال ذاتها، ويُنظر هل هي تتناقض مع ذاتها، ومع الواقع الخارجي أم لا؟

الثاني: الطريق غير المباشر، وذلك من خلال ملاحظة آثار الفكرة ونتائجها في الواقع، فهذا الطريق يمثل فرداً من أفراد البرهان الإنّي مقابل اللمي المذكور في علم المنطق، وهو الذي يُنتقل فيه من المعلول إلي العلة وذلك مثل الانتقال من وجود الدخان إلي وجود النار، في هذا الطريق تُلاحظ نتائج الفكرة في الواقع الخارجي والحياة العملية، ثم يُحكم من خلالها علي الفكرة ذاتها وفيما إذا كانت حقاً أم باطلا!

ولسنا الآن بصدد الحكم علي الطريق الثاني وأنه صحيح مطلقاً أو في الجملة، فليس هذا مدار بحثنا، إنما الذي نريد الحديث عنه هو الواقع القائم وهو أن الناس عادة يقيّمون الأفكار من خلال نتائجها، ولايقيّمها من خلال ذاتها إلا المفكرون بل بعض المفكرين، أما الطابع العام في المجتمعات فهو تقييم الفكرة من خلال نتائجها.

فلو أخذنا الفكر الماركسي كمثال، فهناك من المفكرين من قيّمها عبر ذاتها وأثبت بطلانها من خلال ذلك، ولكن ليس كل الناس يعرفون نظرية فائض القيمة التي طرحها كارل ماركس في مؤلفاته، ولا كلهم يعرفون الأدوار التاريخية الخمسة التي زعمها ولكن مع هذا تري أغلب الناس يحكمون بخطأ الفكر الماركسي من خلال ملاحظة فشل الشيوعية في كل العالم، فلقد تحوّل الاتحاد

السوفياتي السابق إلي دولة من دول العالم المتخلفة بعد أن كان إحدي القوتين العظيمتين في العالم، وانهار الاقتصاد الشيوعي بل النظام الشيوعي في العالم كله.

مقدمة ثانية: في تقييم الحكومات التي حكمت باسم الإسلام

لو انتقلنا الآن إلي أدوار الحكم التي مرّت علي المسلمين بعد وفاة رسولعليه السلام، وحكمت باسم الإسلام وبعنوان الخلافة، نجد في صدرها ثلاثة أدوار تبعتها أدوار أخري.

الدور الأول تمثّل في حكومة الثلاثة الأوائل، أما الدور الثاني فتمثّل في الحكومة الأموية، فيما تمثّل الدور الثالث في حكم بني العباس.

إننا نعتقد أن هذه الأدوار الثلاثة أعطت انطباعاً سلبياً وعكست صورة بشعة عن الإسلام لدي كثير من الناس في العالم، ولا ننكر أن هناك مفكرين ومنصفين درسوا الإسلام من خلال ذاته، ولكن كما قلنا في المقدمة الأولي لا يقيّم كل الناس الأفكار من خلال ذاتها بل يحكمون عليها من خلال آثارها وتطبيقاتها، ومن ثم فإن هذه الحكومات الثلاث أعطتهم انطباعاً سيئاً عن الإسلام.

والواقع أننا نستطيع القول إن كثيراً من هؤلاء الحكام كان يشبه صداماً، أفهل هناك عاقل يستعدّ للرضوخ لحكم صدام، إلا أن يُفرض عليه بالحديد والنار؟!

إن الحكام الذين حكموا باسم الخلافة الأموية والعباسية وغيرهما عكسوا صورة كهذه، فلقد رأينا معاوية مثلاً يفرض ابنه علي المسلمين ثم يقوم خطيبه في المسجد فيقول: أمير المؤمنين هذا (ويشير إلي معاوية)، فإن مات فهذا (ويشير إلي يزيد)، ومن أبي فهذا (ويشير إلي سيفه)! فيقول له معاوية: اجلس فأنت أخطب الخطباء!

أليس هذا منطق صدام؟

وفي السقيفة نفسها حدث ما يشبه هذا! فماذا كان مصير زعيم الخزرج عندما لم يرض بترشيح الأول؟

قالوا: طؤوه وهذا ما يذكره القوم في كتبهم فوطؤوه بأقدامهم حتي كاد أن يموت، ثم قتلوه واتهموا الجن بقتله ووضعوا بيتين من الشعر ونسبوهما إلي الجن وهما:

نحن قتلنا

سيد الخزرج سعد بن عبادة

ورميناه بسهمين فلم تخطئ فؤاده

أليس هذا يشبه منهج صدام وأسلوبه في تصفية خصومه؟

أما يزيد فقد أخذ البيعة من الناس علي أنهم خدم له يباعون ويُشترَون!

إن صداماً لم يفعل هذا ظاهراً، بينما فعله يزيد وهو المسمي خليفة رسول اللهعليه السلام!!

دور الزهراء? في فضح الحكومات الجائرة

النقطة المحورية في هذا البحث أن أئمة أهل البيتعليهم السلام بأجمعهم قاموا عبر أقوالهم ومواقفهم ومظلوميتهم في الفصل بين الحكومات الجائرة والإسلام.

وكان لثلاثة من المعصومينعليهم السلام دور كبير في فضح هذه العهود الثلاثة.

فكان لسيد الشهداء الإمام الحسينعليه السلام الدور الأساسي في فضح الحكومة الأموية وإسقاطها.

أما الإمام الذي قام بفضح الحكومة العباسية من خلال مواقفه ومظلوميته فهو الإمام الكاظمعليه السلام الذي سُجن وجري عليه ماجري من ظلم ومحن في هذا الطريق.

وكان لأم الأئمة فاطمة الزهراء? دور محوري في هذا السبيل، إذ إنها التي قامت بفضح أخطر الحلقات والأدوار؛ وذلك لأن حكومة الأوائل هي التي مهّدت الطريق لجميع جرائم الأمويين والعباسين والعثمانيين ومن جاء بعدهم، فإن الانحراف بدأ منذ ذلك الحين، كما أن تمكين الأمويين بدأ من تلك المرحلة أيضاً.

ونجد في الأشعار التي يرددها خطباء المنبر وشعراء أهل البيتعليهم السلام بياناً لهذه الحقيقة، يقول الشاعر:

سهم أتي من جانب السقيفة

وقوسه علي يد الخليفة

أي أن السهم الذي أصاب نحر الطفل الرضيع في كربلاء كان قد انطلق من السقيفة.

ويقول الشاعر الآخر:

اليوم من إسقاط فاطم محسناً

سقط الحسين من الجواد صريعاً

أي أنه لو لم تكن تلك الجرأة علي بضعة قلب المصطفيعليه السلام وإسقاط جنينها يوم حرق الدار، لما بلغ الحال بالقوم لأن يصرعوا ريحانة الرسولعليه السلام علي رمضاء كربلاء ويطؤوه بحوافر خيولهم!

إذن كان هذا السقوط نتيجة ذاك السقوط.

ويقول شاعر ثالث:

كفٌّ بها أمك الزهراء قد ضربوا

هي التي أختك الحورا بها

سلبوا

فهذه الجناية نتيجة تلك!

وموقف الزهراء? كان يحظي بالأهمية المضاعفة لأنها هي التي بدأت بحلّ عقدة الخلط بين الدين وتصرفات الحكام الظلمة، فأنقذت الإسلام من خطر الزوال، لقد قالت الزهراء? بالموقف واللسان: «إن هؤلاء لا يمثلون الإسلام والدين والنبيعليه السلام، قالت ذلك في خطبتها الفدكية وقالته بإخفاء قبرها وذهابها إلي ربها وهي واجدة عليهم منكرة لأفعالهم».

إن الخطبة الفدكية للزهراء? مهمة جداً ولها تأثير كبير في النفوس والعقول، وقد قال أحد المستبصرين:

«لقد سمعت هذه الخطبة في شريط مسجّل، فهزّتني وكانت الدافع لبحث انتهي بإعلاني الانتماء إلي مذهب أهل البيتعليهم السلام».

وهكذا مجهولية قبرها?، إذ كيف يمكن أن يُتصور أن يكون لعائشة وكل زوجات النبيعليه السلام قبور معروفة ولا يُعرف لفلذة كبد النبي وحبيبته قبر؟! ومهما حاول الخصوم أن ينكروا من حقائق فإنهم لا يستطيعون إنكار هذه الحقيقة، فكان هذا الموقف من الزهراء? حيث أوصت بإخفاء قبرها وعدم السماح للقوم بحضور تشييعها من المواقف المهمة التي فصلت بين الممارسات الخاطئة للحكام وبين الفكرة النقية للإسلام، وكأنها ? قالت: «إن هؤلاء الأشخاص لا يمثّلون الدين، وإنما هم حكّام متخلفون حكموا المجتمعات الإسلامية بمنطق الحديد والنار».

ونحن إذ نحيي ذكري الصديقة الكبري فاطمة الزهراء? فإننا نحيي هذه الحقيقة أيضاً، فهي? أعطت المقياس والحدّ الفاصل بين الفكرة والتطبيق، وأنقذت الإسلام من خطر التشويه والزوال بسبب تصرفات الحكومات المنحرفة.

2) الزهراء قدوةً

خطر النموذج الغربي وخواؤه

ننتقل الآن إلي موضوع آخر وهو موضوع الرمز والقدوة، فنقول:

إن من الأمور التي يقوم بها الغرب اليوم صناعة الرموز في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية وهذه الرموز غير طبيعية وإنما يقومون بصناعتها بطريقة متكلفة وهذا بحث طويل لا نريد أن نخوض فيه الآن.

إن ما نتوخاه من هذا البحث ونريد قوله هنا هو أن الغرب

قد صنع رموزاً للمرأة في عالمنا المعاصر من جملة ما صنع من رموز وهذه قضية خطيرة جداً، وقد باتت خطورتها اليوم أكثر من أي وقت مضي، عندما نأخذ بنظر الاعتبار العولمة وأدواتها، فإن الناس كانوا فيما مضي في مأمن من التخريب الثقافي إلا إذا ذهبوا إلي الغرب، أما اليوم فإن الغرب دخل إلي بيوتنا، إنه اليوم موجود في كل بيت شئنا أم أبينا عبر شاشات التلفاز والقنوات الفضائية وشبكات الانترنيت و …

لقد صنعوا رموزاً جذابة للمرأة، فجعلوا منها نائبة في البرلمان، ورئيسة للوزراء بل رئيسة للجمهورية في بعض البلدان، وهذه الأمور مغرية للمرأة بلا شك.

ولكننا نعتقد أن الغرب فشل في تحقيق هدفه، وذلك لأنه وإن دفع المرأة نحو القمة من الناحية المادية لكن ينبغي أن نعرف أن الثمن الذي دفعته المرأة كان باهضاً، كما كان يقول السيد الوالد?.

مثلاً: لو أن شخصاً مصاباً بداء السكري جلس إلي مائدة فيها مختلف أنواع الأطعمة، فلم يلتزم بالحمية بل أكل كلّ ما يشتهي مما هو موجود أمامه، فإن الثمن الذي سيدفعه سيكون أغلي من اللذة العاجلة التي حصل عليها حين لم يملك نفسه وأطلق لها العنان.

وهكذا هو حال المرأة في الغرب، فإن الثمن الذي دفعته لقاء المكاسب المادية التي حصلت عليها هو تحطم شخصيتها، فالمرأة الغربية محطمة، والعائلة في الغرب محطمة، والعلاقات بين الزوجين مفككة، بل يتفق أحياناً أن تموت امرأة في بيتها وحيدة ولا يُعرف بخبرها الا بعد انبعاث الروائح الكريهة من المكان الذي تقيم فيه.

أما نحن فوضعنا أفضل بكثير، إن عندنا تلاحماً وتقارباً وتزاوراً، في حين إن هذه القضايا مفقودة في الغرب. ولذلك بدأنا نشهد الآن ردود فعل عندهم تجاه هذه الحالة، وقد تحدث أحد الخطباء الكبار

عن ظهور جمعية باسم «جمعية المرأة المستسلمة لزوجها» في الغرب، وهذه حالة مدهشة تحكي ردود الفعل علي الواقع الذي بلغه الغرب في هذا المجال.

والغريب أن عشرات الألوف من النساء الغربيات انتمين إلي هذه الجمعية، وقد ألّفت رئيسة الجمعية كتاباً يحمل الاسم نفسه (جمعية المرأة المستسلمة لزوجها) حيث طبع منه لحد الآن نصف مليون نسخة!

أما فكرة الجمعية بإجمال فنابعة من أن الحضارة المادية أجّجت الصراع في داخل العائلة بين الرجل والمرأة من خلال خطاباتها التحريضية لكل منهما، فجعلت كلاً منها ضد الآخر والمؤسف أن هذه الحالة بدأت تتسرّب إلي البلدان الإسلامية، كلّ حسب مستوي تأثره بالحضارة الغربية.

إن الحضارة الغربية تقول للمرأة: لكِ كيانكِ وشخصيتكِ المناظرة للرجل فتمرّدي عليه فليس له قيمومة عليك بل أنت مساوية له لا فرق بينك وبينه من أية جهة، وهذا يعني تنصيب قائدين في موقع واحد وتأجيج الخلاف بينهما، فهل سيبقي هذا الكيان قائماً أم سيتحطم كما نري في الغرب؟

تقول الإحصائيات إن أرقام الطلاق في الغرب رهيبة جداً، وكذلك حالات الانتحار الناتجة من الخلافات العائلية، أما الخيانات الزوجية فغدت أسهل من شرب الماء عندهم.

ملخص فكرة الجمعية هو العودة إلي الحالة التي كانت عليها المرأة قديماً خاضعة لزوجها، مستسلمة ومطيعة له، واعتباره القيّم علي شؤونها (الرجال قوّامون علي النساء)!

الزهراء? النموذج الصالح والقدوة الحسنة

إننا نعتقد أن أفضل رمز ونموذج يمكن أن نقدمه للمرأة في العالم كله، هي السيدة فاطمة الزهراء?، وسيُقبل العالم علي الاقتداء بهذا النموذج إن نحن نجحنا في تعريف العالم بشخصية الزهراء?.

لقد اطّلعت سيدة يابانية في قضية لا مجال لتفاصيلها الآن علي حياة فاطمة الزهراء? فتأثرت بها وقالت:

«هذا هو النموذج الذي كنت أبحث عنه»

ثم أعلنت إسلامها.

المرأة المعاصرة حتي المسلمة تحتاج اليوم إلي هذه القدوة المثالية،

بل نحتاج إليها جميعاً في بيوتنا وعوائلنا.

لقد كانت الزهراء? قمّة في حياتها الزوجية حتي قال عنها زوجها الإمام أمير المؤمنين عليعليه السلام: «فو الله ما أغضبتُها ولا أكرهتها علي أمر حتي قبضها الله عز وجل، ولا أغضبتْني ولا عصت لي أمراً، ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان».

أفلا نحتاج اليوم لمثل هذا النموذج؟ أوَ لا يحتاجه العالم كله أيضاً؟

ألا تشكل الزهراء? بديلاً أفضل من هذه النماذج المعروضة؟

وفي وصيتها هي? تقول للإمامعليه السلام: «يابن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني».

فقالعليه السلام لها: «معاذ الله أنت أعلم بالله وأبرّ وأتقي وأكرم وأشدّ خوفاً من الله من أن أوبخك بمخالفتي».

ألسنا اليوم بأمسّ الحاجة إلي هذا المثال؟! وكان أبوها النبيعليه السلام قد أوصاها أن لا تطلب شيئاً من زوجها.

وقد ذكر المؤرخون:

«أنه دخل الإمامعليه السلام الدار يوماً فقال لها: يا فاطمة هل عندك شيء؟ قالت: والذي عظم حقك ما كان عندنا منذ ثلاث إلا شيء آثرتك به؟ قال: أفلا أخبرتني؟ قالت: كان رسول اللهعليه السلام نهاني أن أسألك شيئاً».

أفتوجد اليوم امرأة لا تطلب من زوجها شيئاً وتصبر علي ذلك ثلاثة أيام؟

ألا يحتاج العالم لهذا النموذج الذي يأخذ بيده من هوّة الماديات السحيقة إلي قمة المعنويات والكمال والحياة السعيدة؟

لقد أنجبت السيدة الزهراء وربّت خيرة النساء؛ زينب وأم كلثوم، وخيرة الرجال؛ الحسن والحسينعليهم السلام.

فما أحوجنا اليوم إلي الاقتداء بها في حياتها العائلية؛ مع زوجها وأبنائها؟ وما أحوجنا إلي الاقتداء بجهادها وصبرها، فلقد كانت مجاهدة من الطراز الأول، وأنجبت أئمة معصومين جاهدوا ضد الطغاة والحكومات المستبدة فكانوا بحقّ قلاع الحرية الحقيقية، ونحن اليوم بحاجة إلي هذه النماذج، وينبغي لنا عرضهم رموزاً وقدوات في بلادنا وفي العالم كله.

الغرب بأمسّ الحاجة إلي الرموز المعنوية

هل

سمعتم بجسر الانتحار في لندن؟ يقول أحد الإخوة ممن كانوا هناك:

«لا حظت أنهم صنعوا لأحد الجسور حاجزاً من الجانبين، فسألت عن السبب، فقيل لي: إن هذا الجسر يقع علي شارع للسير السريع، فكان الذين يريدون الانتحار يلقون بأنفسهم منه للشارع الذي تحته فتدهسهم السيارات المسرعة، وقد بني علي جانبيه هذا الحاجز للحد من حالات الانتحار المتزايدة يومياً».

فأية حياة يعيشها الغربيون؟ هل هذه هي الحضارة التي يتبجحون بها؟ إنها ليست سوي مظاهر خاوية من الداخل، مثلها مثل من أشرف علي الموت لإصابته بمرض عضال كالسرطان ولكنه يحتفظ بمظهر طبيعي!!

ولذلك إذا عُرض علي الغربيين الإسلام بشكل صحيح أقبلوا عليه، لكن المشكلة في أن عرضنا ضعيف.

نقل وكيل أحد التجار في طهران أن أحد المؤمنين كان قد أعطاه كتاباً للوالد? حول الإسلام، فأهداه في إحدي سفراته الأوربية إلي امرأة تعمل في شركة يتعامل معها، فلم يمض يوم علي قراءتها الكتاب حتي اعتنقت الإسلام!.

مسؤوليتنا تجاه الزهراء?؛ فراغات لابد من ملئها

هناك فراغات كثيرة فيما يتعلق بمسؤوليتنا تجاه الزهراءعليه السلام وبخاصة في شهري جمادي الاولي والثانية، ومنها:

1. لقد ألّف العامة في «فقه عائشة»، ولا أدري هل من فقهها خروجها علي إمام زمانها الذي قال فيه النبيعليه السلام: حربك حربي؟!

ولم يكتب أحد علي حدّ علمي في «فقه فاطمة?» بشكل مستقل إلا السيد الوالد?، ولكن المشروع بحاجة إلي المتابعة.

2. ثمة فراغ في مخاطبة العقل الجامعي، أجل إن الكتب الموجودة عندنا جيدة، ولكن لكل جيل عقلية معينة، فعلينا أن نؤلف كتباً عن السيدة الزهراء? تخاطب عقلية الجامعيين.

عندنا كتب عن الحجاب ولكن كم منها يتحدث بلغة الفتيات الجامعيات؟ هذا فراغ ينبغي ملؤه أيضاً.

3. وهناك فراغ في الكتب التي تخاطب العقل الغربي، فللغربي عقلية معينة تختلف عن عقلية الشرقي، وأسلوب الكلام الذي

تقوله للشرقي ربما لا يقبله الغربي، إذن نحن بحاجة إلي كتب تخاطب العقل الغربي، وقد شاهدت قبل أيام كتاباً كتب خصيصاً لمخاطبة العقل الغربي عن الزهراء?، ولكن ينبغي المزيد، ففي هذا المجال يوجد فراغ أيضاً.

4. وأخيراً لدينا فراغ في مجال المؤسسات الاجتماعية الصغيرة، وأعني بها التجمعات والمجالس البيتية، وهذه مهمة جداً.

لا شك أن للكيانات والمؤسسات الكبيرة كالحسينيات والمساجد دورها المهم والمؤثر، بيد أن للمجالس الصغيرة البيتية دورها الخاص الذي قد لا تنهض به المراكز الكبيرة، إذن فلنشجع علي هذه الظاهرة ظاهرة تشكيل المجالس البيتية وبخاصة في أيام جمادي الأولي والآخرة.

نقل لي أحد المؤمنين في الكويت أنه ذهب إلي البحرين لصفقة تجارية مع أحد التجار البحرينيين الذين يتعامل معهم، فأخبره أنه سيلتقيه اليوم التالي، ولكن الأخير اعتذر وقال إنه يعطل عمله يوم غد، يقول التاجر الكويتي:

«فتعجبت وقلت: وما المناسبة ولا توجد عطلة رسمية أو عيد ولا هو بيوم جمعه مثلاً؟ فقال: أنت شيعي ولا تعرف! غداً يوم وفاة فاطمة الزهراء? وعندنا عطلة.

يقول الكويتي:

«فأسفت علي غفلتي وأنا الشيعي، واهتمام هذا التاجر بالموضوع مع أنه من أبناء العامة، فعقدت العزم علي إقامة مجلس العزاء في بيتي كل عام بهذه المناسبة، وأنا مستمرّ علي ذلك منذ حوالي أربعين سنة، وقد لمست منه الخيرات والبركات الكثيرة».

فلنشجع أبناءنا علي إحياء هذه المناسبة وإقامة هذه المجالس التي قد تستمر بعدنا عشرات الأعوام، كما أن في طهران اليوم مجالس يعود تاريخها إلي أكثر من مئة عام.

ويوم كان الوالد? في الكويت شجّع هذه الظاهرة، وها نحن نلمس النتائج، فهي اليوم بالمئات، وإنني لا أذكر أن أحداً بدأ مجلساً ثم تركه بل هي مستمرة حتي يومنا هذا لما لمس أصحابها فيها من الخير والبركة، فلنحاول

جهدنا لملء هذا الفراغ أيضاً.

وستكون هذه الأعمال ذخراً لآخرتنا إن شاء الله تعالي، وقد نقل لي أحد الإخوة الذين حضروا دفن السيد محمد كاظم القزويني? أنهم وضعوا كتاب «فاطمة من المهد إلي اللحد» الذي هو أحد تأليفاته مقابل وجهه في قبره بناءً علي وصيته، ويوم القيامة يأتي السيد القزويني ومعه كتاب «فاطمة من المهد إلي اللحد»، ويأتي السيد كاظم الكفائي? ومعه كتابه المشهور «الزهراء في الأدب والتاريخ» ذلك الكتاب الذي حُكم عليه بسببه بالإعدام في عهد الحكم البائد في العراق، ولكن الله تعالي نجّاه، ويأتي العلامة الأميني? ومعه «الغدير» وهكذا صاحب العبقات، وقد نقل عن أحد علمائنا الماضين? أنه سأل عن أشدّ المناطق نصباً لأهل البيتعليهم السلام ثم شدّ الرحال إليها لكي ينشر بينهم الولاء لآل البيتعليهم السلام. وثمة شخص آخر استشاط المخالفون غضباً من جهوده في خط أهل البيتعليهم السلام فقرروا الانتقام منه ومن الذين اهتدوا علي يديه، فأحاطوا بالمسجد الذي كان فيه وأحرقوه بمن فيه، فاستشهد هو والمؤمنون الذين كانوا معه?، وسيأتي هذا الرجل ومعه هذه التضحية الكبري كوثيقة للشفاعة يوم القيامة، فبماذا سنأتي نحن؟

هل فكرنا في ذلك؟

إن امرأة مؤمنة باعت ذهبها وتبرعت بثمنه لطباعة كتاب عن أمير المؤمنينعليه السلام، كما باع الشيخ محمد جواد البلاغي? بيته في سبيل نشر الدين، أفلا نقدّم نحن أيضاً ما نقدر عليه في هذا الطريق، ليكون وثيقة من وثائق الشفاعة في يوم القيامة ?يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ? بإذن الله تعالي؟!

أسأل الله تعالي التوفيق لي ولكم لذلك.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين

فاطمة الزهراء المقامات الغيبية والوجه الحضاري

فاطمة الزهراء المقامات الغيبية والوجه الحضاري

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين

حديثنا في هذه

المحاضرة عن الصدّيقة الزهراء? في فصلين:

الفصل الأول: في المقامات الغيبية للصدّيقة الطاهرة? في إطارها الكلّي.

الفصل الثاني: في الوجه الحضاري للصدّيقة الطاهرة?.

الفصل الأول: المقامات الغيبية

الفصل الأول: المقامات الغيبية

هنالك اتجاه انتشر في العقود الأخيرة بين البعض يمكن أن نطلق عليه التفسير المادي للدين. نتناول بيان هذا الاتجاه ومناقشته في البحوث التالية:

البحث الأول: لماذا نشأ هذا الاتجاه؟

البحث الثاني: ما هو الموقف إزاء هذا الاتجاه؟

البحث الثالث: ما الفائدة من البحوث التي تتناول المقامات الغيبيّة؟

البحث الأول: سبب نشوء التفسير المادي للمسائل الدينية

لقد نشأ اتجاه التفسير المادي لدي البعض في تفسير المعتقدات والمسائل الدينية، علي أثر عوامل منها المد المادي الغربي الذي حصل كرد فعل علي التجربة المريرة التي خاضها المجتمع الأوربي مع الكنيسة التي كانت تفرض أفكارها الخرافية علي الناس باسم الدين.

ولا يخفي أن مثل هذه الأفكار الخرافية موجودة حتي الآن عند بعض مشايخ الوهابية، فهنالك مثلا كتاب لأحد شيوخهم يصرّ فيه علي أن الأرض ساكنة ويكفّر أو يضلّل كلّ الذين يخالفونه في ذلك. ومن أدلته علي رأيه أننا عندما ننهض كل صباح نري البقال والعطار والخباز كلاًّ في مكانه، ولو كانت الأرض متحركة كان البقال يوماً في الجانب الأيمن ويوماً في الجانب الأيسر مثلا.

يقول الشيخ في كتابه أيضاً:

«كثيرون نصحوني أن لا أكتب هذا الكتاب ولكن الحق أحق أن يقال»!

هكذا كان حال رجال الدين المسيحيين فكانوا يعتقدون بنظريات باطلة يرفضها العلم، وكانوا يصرون عليها ويكفّرون من يقول بخلافها، ويفتون بقتله، فكانوا يتهمون العلماء بالإلحاد ويحكمون عليهم بالإعدام بسبب نظرياتهم العلمية التي تناقض أفكار الكنيسة.

هذه الحالة خلقت ردّ فعل في الغرب وظهر اتجاه يرفض القضايا الغيبية برمّتها ويقول إن كلّ المعارف البشرية الصحيحة هي التي تبتني علي التجربة والمشاهدة، والتي يمكن إثباتها في المختبر أو عبر المعادلات الرياضية، أما الأشياء الغيبية فكلها لا اعتبار لها لأنها غير خاضعة للحس والمشاهدة والتجربة. وشيئاً فشيئاً طغت هذه النزعة علي الغرب عموماً.

وحيث إن حضارة الغرب هي

الحاكمة اليوم وهذا شيء لا ينكر، فلقد كنا في يوم من الأيام نحن أصحاب الحضارة الحاكمة وكان الغرب محكوماً، وعدنا اليوم محكومين والغرب حاكماً والحضارة الحاكمة تؤثر في الحضارات المحكومة، كانت النتيجة أن انتشر هذا الاتجاه (الذي يؤمن بالعلم التجريبي فقط) في أوساط مجتمعاتنا وتأثر به بعض المتدينين أيضاً، فأخذوا يحللون الأمور تحليلاً مادياً، أما القضايا التي ترتبط بالغيب فإنهم يحاولون إلغاءها أو تأويلها بنحو من الأنحاء.

البحث الثاني: الموقف من الاتجاه المادي

في بيان هذا الموقف نقول: الدين والغيب أمران متلازمان لا ينفكان، ولو جُرّد الدين من الغيب لم يعد ديناً بل أصبح قانوناً كسائر القوانين الوضعية السائدة. الدين لا ينفك عن الغيب بل يبتني عليه، فلو جرّدتَ الدين من الغيب فقد جردته من قاعدته التي يبتني عليها.

فالألوهية غيب، وهي القاعدة الأولي التي يبتني عليها الدين، ويعبَّر عن الله سبحانه ب «غيب الغيوب» و «الغيب المطلق». وفي الحديث الشريف: «وإن الملأ الأعلي يطلبونه كما تطلبونه أنتم»، أي كما أننا لا ندرك كنه الله سبحانه لأنه غيب فكذلك الملائكة لا يعرفون كنه الله تعالي!

بل صفات الله غيب أيضاً، فنحن نعلم أن الله عالم ولكن ما حقيقة علم الله؟ إنّه غيب، وكل المحاولات البشرية لاكتشاف كنه صفات الله محاولات فاشلة.

والنبوة غيب، لأنها تبتني علي الوحي وهو غيب. وهكذا المعاد.

يقول الإمام أمير المؤمنينعليه السلام: «سلكوا في بطون البرزخ سبيلاً».

فمحاولة إخضاع كل شيء في الدين للمعادلات المادية، معناه إلغاء القاعدة التي يبتني عليها الدين.

كما أن هنالك بعض التفاسير للقرآن الكريم اتّسمت بالتفسير المادي للمفردات الدينية فهي تحاول أن تؤوّل كل شيء غيبي في القرآن، ومن الأمثلة علي ذلك: محاولة تأويل قوله تعالي في سورة البقرة: ?ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ?، وقوله تعالي:

?فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا?.

وهناك بعض المفسّرين يؤولون قوله تعالي: ?وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ? تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ? بالقول: إن الطير والحجارة في الآية كناية عن ميكروب مرض قاتل انتشر بين صفوف الجيش!

ولكنا نسأل هؤلاء: ماذا تفعلون مع الجن والملائكة؟ وماذا تقولون في المسيح وإحيائه الموتي وإبرائه الأكمه والأبرص بإذن الله تعالي؟! وكيف ستؤولون قول الله تعالي: ?قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ? وعشرات الآيات الغيبية الأخري؟ بل إن القرآن مشحون بالقضايا الغيبية من أوله إلي آخره، فلا داعي للتأويل بل إما أن يقبل الإنسان بالغيب ككل أو يرفضه ككل؛ لا أن يلغي الأحاديث الشريفة ما أمكنه، ويقوم بتأويل الآيات الكريمة لأنه لا يمكن إنكارها!

المبحث الثالث: الفائدة من البحث في المقامات الغيبية

يقول بعض الناس: عرفنا أن للزهراء? مقامات غيبية، وأنها كانت تعلم الغيب مثلاً، أو أنه حصل كذا وكذا في الملأ الأعلي عند زواجها?، فما هي الفائدة أو الثمرة التي نجنيها من هذه المباحث وأمثالها؟

الجواب علي هذه الإثارة بجوابين: نقضي وحلّي.

• أما الجواب النقضي فيمكن طرحه في ثلاثة مستويات:

المستوي الأول: مباحث علم الكلام

فنقول: وما هي فائدة كثير من مباحث علم الكلام والحكمة الإلهية؟ فمثلاً: ما فائدة معرفة أن الممكن مركب من وجود وماهية؟ وما الثمرة التي نجنيها من معرفة أن الوجود مشترك أو غير مشترك وأنه مشترك لفظي أو معنوي؟ وأنه حقيقة واحدة أم حقائق متعددة؟ وأن الوجود أصيل أو الماهية؟ هل هذه البحوث يمكن أن تحلّ محل الماء والخبز؟ أم يقال في الجواب: ليس بالماء والخبز وحدهما يحيا الإنسان!

وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يوجَّه الإشكال علي بحث المقامات الغيبية للصديقة الزهراء وأهل البيتعليهم السلام، ولا يوجّه لمباحث علم الكلام؟

المستوي الثاني: العلوم الطبيعية

فنقول: وما فائدة كثير من المعارف في العلوم الطبيعية؟ مثل معرفة أن الشمس تبعد عنا كذا ميلا مثلاً؟ فهل بحوث كهذه تبني بيتاً يسكن فيه الإنسان؟

أم يقال في الجواب: ليس المطلوب من المعرفة دائماً أن تؤمّن بيتاً للإنسان؟

فإذا كان هذا الإشكال لا يرد هناك، فكذلك لا يرد هنا.

المستوي الثالث: العقائد الدينية

وقد يترقي بعض فيقول: وما الفائدة في كثير من البحوث العقائدية مثل أن الله تعالي واحد أم اثنان؟!

إذن، الإشكال عام ومشترك ولا يرد علي المقامات الغيبية وحدها، وهذا هو الجواب النقضي.

• أما الجواب الحلي فنقول:

أولاً: إن المعرفة مطلوبة لذاتها أي لها قيمة ذاتية، وهذه هي الفائدة العلمية.

ثانياً: إن للبشر ميلاً فطرياً لمعرفة الغيب، فإذا لم يملأ هذا الفراغ بالمعرفة الصحيحة ملأته الخرافة والأباطيل.

والدليل علي ذلك أنا نري النزعة الغيبية حتي بين الكفار، فالعرّافون لهم في الغرب موقع كبير وسوق رائجة، وهكذا المنجمون والسحرة.

ثالثاً: هناك فرق كبير بين أن نعرف أن الإمام بشر عادي مثلنا في كل شيء وبين أن نعرفه بمقامه الغيبي، ففرق مثلاً أن نعرف أن الإمام الرضاعليه السلام كان إماماً مفترض الطاعة وحسب، وبين أن نعرف أنه حي وناظر إلينا يسمع الكلام ويرد السلام، كما نقل عن أحد علمائنا أنه رأي الإمام يردّ سلام زائريه فرداً فرداً، فكما أن العالم خشيته من الله أكثر لأن معرفته بالله أكثر؛ قال تعالي: ?إِنَّمَا يَخْشَي اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء? فكذلك سيزداد تعظيمنا لأئمتناعليهم السلام إذا ما عرفنا مقاماتهم الغيبية.

إذن لابد من عرض المقامات الغيبية للأئمةعليهم السلام وللصديقة الزهراء? ولكن مقروناً بالتحليل والتعليل حتي لا تستثقله بعض الأذهان.

وبهذا ينتهي البحث عن المقامات الغيبية للصديقة الزهراء? في إطاره الكلّي وندَع البحوث التفصيلية لموقع آخر.

الفصل الثاني: الوجه الحضاري للصديقة الزهراء

الفصل الثاني: الوجه الحضاري للصديقة الزهراء

وهذا البحث يأتي مكملاً للبحث الأول (المقامات الغيبية) وهو بحث مهم جداً بل قد يكون واجباً بالوجوب المقدمي في عالم اليوم؛ فإن العلماء يقولون إن مقدمة الواجب واجبة إما بالوجوب العقلي أو بالوجوب العقلي والشرعي معاً، فهم وإن اختلفوا في نحو الوجوب إلا أن أصل الوجوب ليس محل خلاف.

وفي البدء أنقل لكم بعض القصص

الواقعية لبيان حاجة الإنسان المعاصر إلي القيم وتعطشه إلي الأخلاقيات.

• القصة الأولي تعود لشاب خليجي كان يعيش مع شخص مسيحي في بيت واحد، فكان يجلب له الطعام دائماً، فتأثر المسيحي بهذا السلوك وأعلن عن رغبته في اعتناق الإسلام.

• والقصة الثانية: إن رجلا كافراً كان يرقد في المستشفي فرأي أن جاره المسلم يزوره أصدقاؤه المسلمون أما هو فحتي ابنه لا يزوره، وعندما سأل جاره عن السبب قال:

«إن ذلك يعود لثواب عيادة المريض في الإسلام. فقال المسيحي: أما أنا فابني ينتظرني حتي أموت لكي يبيع جثتي للمشرحة ثم اعلن إسلامه»!

• أما القصة الثالثة فتعود لشاب من دول الخليج يدرس في إحدي الجامعات في الغرب، يقول:

«كنت ذاهباً إلي الجامعة وكان الحضور في ذلك اليوم مهماً جداً ربما لامتحان أو أمر مهم آخر إذ هطل المطر بغزارة، فاستظل الناس بسقف في انتظار أن يتوقف المطر، وكنت أحمل مظلة، فرأيت في الأثناء امرأة واقفة متحيرة لا تعلم ماذا تفعل، لأن المطر قد لا ينقطع بسرعة فيدركها الوقت ويفوتها الحضور في الجامعة.

فأخذتني الشفقة عليها لأنها فتاة فدنوت منها وسلّمتها المظلّة ثم ذهبت إلي الجامعة تحت الأمطار.

وبعد بضعة أيام رأتني الفتاة فقالت لي: لقد حققت عنك فعرفت أنك من البلد الفلاني وأنك تدين بالإسلام، وأن ما قمت به تجاهي ينبع من بند في دينكم يسمي الإيثار، وهذه القيمة مفقودة عندنا، ولقد أعجبني دينكم، فعلّمني كيف أدخل فيه!».

وما أكثر القيم التي توجد عندنا ولا مفهوم لها عند كثير من الغربيين، وإحدي هذه القيم قيمة الضيافة، وقد نقل أحد الإخوة أنه حتي الزوجين ربّما يدفع كل منهما ثمن طعامه بنفسه إذا دخلا المطعم.

وهذه الحالة المادية أثرت حتي علي بعض المسلمين الذين ذهبوا إلي الغرب،

ولذلك تري تفكيرهم مادياً صرفاً، ولا يعملون شيئاً إلا بعد معرفة مردوده المادي ويحسبون حتي للدقيقة التي يصرفونها مع أحد بما يجنونه من ربح مادي فقط.

وفي ظل سيطرة التفكير المادي شهد الغرب تفكك الأسرة وغياب القيم الإنسانية، فالأب يُخرج أبناءه من البيت ليتدبروا أمرهم ولا يعد نفسه مسؤولاً عنهم، والأولاد لا يكترثون بما يحلّ بآبائهم وأمهاتهم، وبعض الأبناء ينتظر موت أبيه ليبيع جثته، أما الاحترام والطاعة والتفقد للوالدين فلا وجود لها غالباً في المجتمع الغربي.

والأخلاق أصبحت أخلاقاً مادية، فالشخص لا يعود صديقه المريض إلا إذا رأي أن في ذلك نفعاً مادياً له.

وإذا كان موقف واحد من شاب مسلم أثّر في فتاة غربية وحوّلها إلي الإسلام فكيف إذا عرضنا حياة فاطمة الزهراء? علي العالم، وحياتها كلها مواقف وقيم؟!

من مواقف الزهراء

• لقد تصدقت الزهراء? حتي بالقميص الجديد الذي أعطاها أبوها رسول اللهعليه السلام بمناسبة زواجها.

• وتصدقت بطعامها هي وزوجها وأطفالها وهم صائمون لثلاث ليال متوالية علي المسكين واليتيم والأسير الكافر!

• وقد دعت من الليل إلي الصباح لجيرانها قائلة: الجار ثم الدار.

حقاً ماذا رأي جورج جرداق في حياة عليعليه السلام حتي أصبح مغرماً به هكذا؟ لا شك أنه رأي مواقفه النبيلة المعبرة عن القيم الإسلامية.

وذلك المسيحي (انطون بارا) ماذا رأي من الحسينعليه السلام حتي كتب كتاباً حوله؟

وهناك كتاب ألّفته مؤلفة مصرية عن سيدة النساء الزهراء? اطّلعتْ عليه امرأة يابانية فأسلمت وقالت:

«لقد أدركت أن فاطمة الزهراء? هي المثل الأعلي لي في حياتي وأسلمتُ علي أثر قراءتي هذا الكتاب».

والحقيقة إن في تاريخ قادتنا الألوف من هذه المواقف ولكنها تحتاج إلي عرض وبيان، وقد ذكر السيد الوالد? في مقدمة كتابه «فقه الزهراء?» بعض القضايا الحضارية في حياة الزهراء? والتي يمكن أن تعرض

علي عالم اليوم وتؤثر فيه.

الخلاصة

إن علينا أن نتحرك بمقدار وسعنا لنشر وتوضيح هذين البعدين: المقامات الغيبية والوجه الحضاري في حياة الصديقة الزهراء?، ولا نحتج بعدم قدرتنا علي ذلك، إذ القدرة متوفرة غالباً.

كان أحد العلماء يقول:

«إني حجة الله علي جميع الطلبة، فما من عذر يأتي به طالب إلا وقد وجد في حياتي دون أن يمنعني عن الاستمرار والمواصلة، فإذا احتج أحدهم بالفقر قلت له: لقد كنت أكثر فقراً منك. وإذا قال أحدهم: لقد بدأت متأخراً في طلب العلم، فإني قد بدأت بتعلم الأوليات وأنا في (حوالي) الثلاثين من العمر. وإذا قال أحدهم إن ذاكرته كانت ضعيفة، فأنا كنت أنسي حتي أسماء أولادي وأضلّ أحياناً الطريق إلي بيتي بسبب ضعف ذاكرتي».

المهم أن الإنسان القادر لا يعذر وعليه أن يؤدي الدور المطلوب منه علي مقدار طاقته ووسعه.

• لقد تبرعت امرأة في الكويت بميراثها من أبيها في بناء حسينية مازالت قائمة حتي الآن.

• واستطاع حارس ليلي في الكويت أن يبني حسينية، وهي حسينية جومدار المعروفة.

• وقد وفق شخص يبيع السماورات في مشهد واسمه عابدزاده لبناء أربع عشرة حسينية بأسماء الأربعة عشر معصوماًعليهم السلام.

• كما نُقل أن الشيخ عباس علي الإسلامي وفّق لبناء أربعمائة مشروع خيري وأول مشروع بدأه في بيته، فقد كان يجمع الأفراد في غرفته يعلمهم القرآن، فيما كانت تذهب زوجته إلي المطبخ وتبقي فيه خلال تلك المدة التي قد تستغرق بضع ساعات؛ لأنه لم تكن في البيت غرفة أخري.

أفلا يكون هؤلاء وأمثالهم حججاً علي كثير منا في يوم القيامة؟

إذن ينبغي علينا أن نؤدي دورنا في هذا المجال ولا نتذرع بعدم القدرة؛ فكلٌّ مطلوب منه علي قدر إمكانه، ولله علي الخلق الحجة البالغة.

نسأله سبحانه أن يوفقنا للخدمة

في سبيله.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين

بيت الزهراء: نموذجاً

بيت الزهراء: نموذجاً

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين

مقدّمة

نحن الآن علي أعتاب ميلاد سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، الصديقة الكبري، ومن علي معرفتها دارت القرون الأولي فاطمة الزهراء?، وحديثنا في هذه المحاضرة عن بيت الزهراء?.

وقبل أن ندخل في صلب الموضوع نقدّم مقدمة وهي: أن كل قيمة من القيم النبيلة إذا أريد لها أن تكون قائمة في داخل النفس البشرية، أو علي أرض الواقع الخارجي فلا بد أن يكون هنالك نموذج واقعي يمثّلها؛ وذلك لأن للمثل والنماذج الواقعية من الباعثية أضعاف ما للأفكار المجرّدة.

فإذا كان عندك طفل في البيت مثلاً وأردت أن تدفعه لحفظ القرآن الكريم، فهل يكون لبيان الفكرة له (كالقول بأن حفظ القرآن نور وبركة) من التأثير مثل ما لو أريته نموذجاً واقعياً وقلت له: انظر إلي هذا الطفل فهو في عمرك ولكنه يحفظ القرآن كله؟!

ومن لطف الله ورحمته بنا نحن البشر أنه تعالي جعل لنا أمثلة واقعية للقيم النبيلة، بل جعل سبحانه فوق ذلك ينابيع لتلك القيم.

فكما أن الله تعالي جعل لنا ينابيع في عالم الماديات، فجعل الشمس نبعاً للدفء في هذا العالم، وجعل العيون ينابيع للمياه العذبة، فكذلك جعل لنا ينابيع ثرية في عالم المعنويات في مختلف المجالات.

فالنبي يعقوبعليه السلام منبع الحنان الأسري علي مرّ التاريخ.

والنبي نوح شيخ الأنبياءعليه السلام منبع الاستقامة.

والنبي أيوبعليه السلام منبع الصبر،

والنبي آدمعليه السلام الذي بكي حتي صار علي خده كالأخدود، منبع التوبة. والنبي إبراهيم (عليه وعلي نبينا وآله السلام) الذي قال: ?إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَي رَبِّي? مثال التحدي والهجرة وينبوعهما.

والنبي عيسيعليه السلام منبع التبتل والإعراض عن الدنيا والانقطاع عنها.

أما المثال والينبوع الذي يمثل

جميع القيم الخيرة والنبيلة في الحياة في أعلي صورها ومراتبها فهو محمد وآل محمدعليهم السلام.

مثال البيت الصالح والسعيد

إذا كان الإنسان يحتاج في كل تلك القيم إلي مثل وينابيع، أفلا نحتاج في تشكيل البيت الصالح والسوي والسعيد إلي نموذج ومثال يَستلهم منه ما يؤمّن الدنيا والآخرة: الرجل والمرأة والأولاد؟!

نستطيع القول في الجواب: أجل، وأفضل نموذج لهذا البيت الصالح والسعيد هو بيت علي وفاطمة?.

عندما نزلت هذه الآية الكريمة ?فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ? قام رجل وهذه الرواية رواها العامة والخاصة فقال:

أي بيوت هذه؟ فقال النبيعليه السلام: بيوت الأنبياء. فقام رجل آخر وأشار إلي بيت علي وفاطمة? وقال: هذا البيت منها؟ فقال النبيعليه السلام: نعم من أفضلها.

ووجود «من» التبعيضية في عبارة الرسولعليه السلام إما أن يكون من باب إجابة الرجل السائل علي قدر عقله، أو أن الجواب محيّث أي أنه كذلك من بعض الحيثيات وإن كان هو الأفضل علي الإطلاق من حيثيات أخري، فهل هناك بيت يضم معصومَين غير بيت علي وفاطمة?؟ لا شك أن النبيعليه السلام أفضل من أمير المؤمنينعليه السلام، ومن فاطمة الزهراء? ولكن بيت النبي لم يضمّ معصومَين فإن خديجة? لم تكن معصومة بالمعني المعروف للعصمة.

ولئن كانت مريم? معصومة لكنها لم يكن لها بيت بالمعني المتداول للكلمة.

إذن يمكن القول إن بيت علي وفاطمة? هو أفضل البيوت علي الإطلاق من هذه الحيثية.

معالم البيت الفاطمي

امّا معالم هذا البيت الشريف فهي كثيرة ومنها أنّه:

1. بيت لا توقعات فيه.

2. بيت لا توتر فيه.

3. بيت لا تعقيد فيه.

4. هو بيت العمل.

5. هو بيت التعاون.

6. هو بيت المحبة.

7. هو بيت التربية.

ونقتصر في هذه العجالة علي شرح مختصر للمعالم الثلاثة الأولي.

1. بيت لا توقعات فيه

البيت الذي لا توقعات فيه بيت سعيد، والمجتمع الذي لا توقعات فيه مجتمع سعيد، فالتوقعات من المناشئ المهمة للمشاكل والخلافات العائلية وهي أيضاً من مناشئ النزاعات والحروب الدولية.

وحيث إن المنظومات الفكرية للأفراد تختلف، وحيث إن الطبيعة النفسية والبدنية للرجل تختلف عن الطبيعة النفسية والبدنية للمرأة، فمن الطبيعي ان لايفهم أحد الطرفين بعض توقعات الآخر أو لايقتنع بها، ومن هنا تنشأ المشاكل بين الطرفين، وهذا لا يصدق علي الحياة العائلية فقط بل ينسحب علي الحياة الاجتماعية أيضاً، فعدم فهم التوقعات أو عدم الاستجابة لها قد يؤديان بعلاقة عمرها ثلاثون عاماً!

وكم ستكون علاقاتنا لطيفة إذا حصلت عندنا القناعة وقللنا من توقعاتنا من الآخرين؟!

وبيت علي وفاطمة? كان بيتاً خالياً من التوقعات.

• فلقد روي «أن الإمام أمير المؤمنينعليه السلام طلب طعاماً من الزهراء? فقالت: منذ يومين ولا يوجد عندنا طعام! فقال لها: ولم لم تخبريني؟ قالت: إني لأستحيي من إلهي أن أكلفك ما لا تقدر عليه».

فأين هذا النموذج من واقع مجتمعاتنا، حيث يكلّف كلّ من الرجل والمرأة: الآخر ما لا يطيق في كثير من الأحيان؟

وفي رواية أخري: فقال لها (أمير المؤمنينعليه السلام) يوماً: يا فاطمة هل عندك شيء؟ قالت: والذي عظّم حقك ما كان عندنا منذ ثلاث إلا شيء آثرتك به. قال: أفلا أخبرتني؟ قالت: كان رسول اللهعليه السلام نهاني أن أسألك شيئاً فقال: لا تسألي ابن عمك شيئاً إن جاءك بشيء عفواً وإلا فلا تسأليه.

حقّاً لو

وُجدت هذه الحالة في العوائل، فكم ستشعر بالسعادة والهناء؟

2. بيت لا توتر فيه

إن التوتر أصبح معلماً من معالم العصر، فالعلاقات بين الدول يشوبها التوتر، والعلاقات الاجتماعية، يشوبها التوتر وعلاقة الرجل والمرأة في داخل البيت يشوبها التوتر، وحديثنا فعلا في البند الأخير، فالرجل ينتقد المرأة وهي تنتقده وكلّ منهما يهجر الآخر، ولا شك أن وضع الغرب أسوأ بكثير منا في هذا المجال، وكلما اقتربنا من الغرب وثقافته أكثر تفاقمت هذه المشكلة في بلادنا أكثر.

صحيح أن الغرب متقدم علينا من الناحية المادية ولكنه يعيش خواءً معنوياً في كل المجالات، والحديث عن الخواء المعنوي والروحي في الغرب حديث طويل لامجال له الآن، ولكن تكفي الإشارة إلي بعض مظاهر ذلك الخواء من قبيل التوتر والقلق والكآبة وحالة السبعية والعدوانية؛ حيث إن كلا يريد افتراس الآخر، إلي غير ذلك.

لقد صدر كتاب يؤرّخ لحياة عبقري من عباقرة الغرب العظام.

وقد ورد في هذا الكتاب أن هذا العبقري لم يستطع أن يعيش مع زوجته طويلاً فسرعان ما طلّقها. (لقد بلغ الحال ببعض الغربيين أنهم لايطيقون العيش مع زوجاتهم إلا فترة محدودة فيطلّق الزوج زوجته ولم يمضِ علي زواجهما أكثر من سنتين، وبعضهم يطلق زوجته قبل ذلك خلافاً للعوائل المتدينة التي يعيش فيها الزوجان عادةً معاً إلي آخر عمرهما وإن بلغا أكثر من ثمانين سنة! فهكذا كان يعيش آباؤنا وأمهاتنا).

ولم يكتف هذا العبقري بتطليق زوجته بل أخذ يؤذيها واستمر علي إيذائها حتي أُصيبت بخلل نفسي ظلت تعاني منه إلي أن ماتت.

هذا مع أن الله تعالي يقول لنا في القرآن الكريم: ?فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ? أي إن أردت أيها الرجل أن تحتفظ بزوجتك فاحتفظ بها ولكن ليكن تعاملك معها بمعروف، وإن شئت طلاقها فليكن طلاقك لها بإحسان،

ولا يحلّ لك أن تُلحق بها الأذي في حالة الزوجية أو تلاحقها بالإيذاء بعد الطلاق، بل فوق ذلك يقول الله تعالي: ?وَمَتِّعُوهُنَّ? أي اعطوهن ما يتمتعن به بعد الطلاق ويجبر خاطرهنّ الكسير، من دار أو خادم أو خاتم أو غيرها.

يقول الكاتب:

«ولقد ابتلي الابن الأصغر لهذا العبقري بالجنون؛ وحقّ له ذلك وهو يري عائلة مفككة وتوتراً دائماً في البيت مع أن المفترض أن يكون البيت واحة يستريح في ظلها الإنسان بعد عنائه في صحراء الحياة القاحلة».

حقاً إن الحياة كالصحراء القاحلة والإنسان بعد أن يطوي مسافة في هذه الصحراء ويذوق فيها الحر والبرد والغبار يحتاج إلي واحة يأوي إليها ويرتاح في ظلها، والبيت هو الواحة المفترضة في صحراء الحياة القاحلة.

فالرجل يتعب خارج البيت وينتظر أن يجد الراحة في البيت، حيث تملأ المرأة والأطفال البيت بهجة وسروراً.

والمرأة تتعب في إدارة شؤون البيت والأطفال وهي الأخري تنتظر قدوم الرجل لتشعر بالسعادة في ظله.

فإذا لم يكن البيت واحة وسكناً بل كان الزوجان يعيشان في نكد ونزاع وخصام فهذا ليس بيتاً ينعم فيه الزوجان بالسعادة بل هو جحيم وشقاء!

يقول أحد الإخوة:

«سألت صديقاً لي: كيف حالك؟ فقال: الحمد لله أعيش في الجنة. قلت: كيف؟ قال: لأن زوجتي سافرت فصار البيت جنة»

إذا كان الرجل يتعامل مع المرأة هكذا، والمرأة تتعامل مع الرجل هكذا، بحيث يشعر كل منهما أنه أصبح سعيداً بغياب الآخر وأمكنه أن يتنفس الصعداء بغيابه أفحياة هذه أم جحيم؟!

«وقد رأينا حال ذلك العبقري الذي طلّق زوجته وآذاها حتي مرضت وماتت، ثم أصيب ابنه الأصغر بالجنون وأودع المستشفي، ولم يقم هذا العبقري الكبير بزيارته حتي مرة واحدة إلي أن مات»

• وقد زارنا قبل فترة صديق عاش في الغرب مدة مديدة وهو رجل

متدين عمل أستاذاً في إحدي جامعات لندن، فحدثني عن التقدم التكنولوجي المدهش هناك، واستشهد علي ذلك بحقائق في مجال تخصصه، ثم قال:

«ولكن يوجد هناك فراغ روحي هائل. فخلال الفترة التي كنت في الغرب ظهر أشخاص كثيرون يدّعون النبوة، والعجيب أنهم كانوا يجدون لهم أنصاراً يلتفون حولهم فترة قد تستمر أربع سنوات أو خمس سنوات إلي أن يكتشفوا حقيقتهم ويعرفوا أنهم دجالون فينفضوا عنهم!».

وهذه الحالة تدلّ علي الفراغ الروحي والتعطش الموجود في الغرب للمعنويات.

• ونقل أحد الأشخاص أيضاً ممن كانوا قد ذهبوا إلي دولة يطلق عليها (الدولة العظمي) وقال:

«شاهدت علي التلفزيون مقابلة مع إحدي النساء الشهيرات والثريات جداً، كانت تجيب خلالها علي الأسئلة الموجهة إليها، ولكن بمجرد أن سئلت: هل أنت سعيدة في حياتك؟ أجهشت بالبكاء أمام ملايين المشاهدين!».

وهذه الوقائع تكشف عن غياب السعادة في المجتمع الغربي؛ والبيت الغربي.

ولقد كان من معالم البيت العلوي الفاطمي أنه بيت لا توتر فيه.

يقول الإمام أمير المؤمنينعليه السلام: «فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتُها علي أمر حتي قبضها الله عز وجل ولا أغضبتْني ولا عصت لي أمراً».

فلا علي يغضب فاطمة ولا فاطمة تُغضب علياً?.

وفي وصية الزهراء? قالت: «ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني. فقالعليه السلام: معاذ الله أنت أعلم بالله وأبرّ وأتقي وأكرم وأشدّ خوفاً من الله من أن أوبّخك بمخالفتي».

ولقد اقتدي بهما? الكثير من أسلافنا فعاشوا حياة هانئة طيبة ولم يكن أحد الزوجين يفترق عن الآخر حتي الموت.

3. بيت لا تعقيد فيه

لقد كان بيت علي وفاطمة? بسيطاً في كل شيء، بل لم يكونا يملكان في البداية بيتاً أصلاً، فلقد تزوج الإمام أمير المؤمنينعليه السلام من فاطمة?، ولم يكن عندهما بيت فقدم إليهما الحارثة بيتاً ثم بني الإمامعليه السلام بيتاً له

بعد الزواج.

أما مهر فاطمة? فهناك رواية تقول إنه كان أربعمئة درهم، وهناك رواية أخري تقول إنه كان أربعمئة وثمانين درهماً، ورواية ثالثة تقول إنه كان خمسمئة درهم، ولقد نقل السيد الوالد علي ما أظن رواية تقول إنه كان ثلاثين درهماً، وكان الوالد? يجمع بين هذه الروايات باختلاف الدراهم.

وقد قسّم المهر إلي ثلاثة أقسام، ثلث للأثاث وثلث للطيب وثلث للوليمة علي ما يستظهر من بعض الروايات فيكون المبلغ المصروف في الجهاز ثلث المجموع فقط!

وكان من الجهاز إهاب كبش ينامان عليه في الليل ويُعلف عليه الناضح في النهار!

أما قميص ليلة الزفاف فقد تصدقت به الزهراء?، علي السائل، ولم يكن عندها قميص جديد آخر فلبست? القميص العتيق!

ونحن إذا اقتدينا في بيوتنا ببيت الزهراء وعلي? أفنظل نعاني بعد ذلك من المشاكل التي نعاني منها اليوم؟!

هذه كانت بعض معالم بيت الزهراء? ونوكل الحديث عن المعالم الأخري إلي فرص أخري.

التعريف ببيت الزهراء

ننتقل إلي فصل آخر نتناوله باختصار وهو ضرورة طرح نموذج بيت الزهراء? في المجتمع الصغير أي العائلة وفي المجتمع الكبير أي المدينة وفي المجتمع الأكبر أي العالم.

وقد قال أحد الشخصيات:

«نحن إن لم تكن عندنا هذه النماذج كان يجب علينا أن نخترعها».

وهذا ما يفعله بعض الروائيين حيث يخترعون نماذج لبعض القيم النبيلة.

أما نحن فلا نحتاج لأن نخترع نماذج للقيم النبيلة فهي موجودة عندنا ولكن يجب علينا عرضها وتذكير أنفسنا وأبنائنا ومجتمعاتنا (الصغير والكبير والأكبر) بها. وحسناً كان يفعل بعض الآباء والأجداد، فلقد كانوا يذكرون لأولادهم كل يوم قبل المنام حكاية من حكايات النبي الأعظم والأئمة الطاهرينعليهم السلام فكانوا يربّونهم علي هذه المثل.

ونحن إذا لم نربِّ أبناءنا علي هذه النماذج ولم ننشرها في المجتمع الصغير والكبير والأكبر فإننا قد نخسر آخرتنا ودنيانا، لأن

الابن الذي ملأت ذهنه ثقافة الغرب سيقف يوماً في وجه أبيه وربما يقتله من أجل بعض النقود.

وهناك قصة واقعية حدثت في هذا المجال مجملها:

«إن ولداً قال لأبيه: أعطني المقدار الكذائي من المال وإلا قتلتك. فقال الأب: إنه ليس مالي. فما كان من الولد إلا أن أخرج سكينة أو نحوها وغرزها في رقبة أبيه وذبحه».

فإذا لم نعرض هذه النماذج المشرقة، فمن الذي يحفظ هؤلاء الأبناء والبنات، وما الذي يحول دون هروب الفتيات من البيوت؟ (فلقد شاعت في بعض البلدان الإسلامية ظاهرة الفتيات الهاربات) وما أكثر الفضائح التي تحدث في البلاد الإسلامية ولا تتمكن الحكومات من الوقوف في وجهها أو الحدّ من تزايدها!

ومن الطبيعي أن لا تفلح الدول والحكومات في القضاء علي هذه الظواهر المرَضية لأن العلاج والحلّ ليس في القوة بل في عرض النماذج المربية.

أنقل أدناه قصتين واقعيتين:

• القصة الأولي: هي قصة رجل سحب أمواله من المصرف في بلد عربي وفي داره فوجئ بشخصين ملثمين مسلّحين أو أكثر يهاجمانه ويطلبان منه المال، فقال لهم: لا بأس ولكن دعاني أذهب إلي تلك الغرفة لآتيكما بالمال، وخرج الرجل ليدخل من باب آخر ويوجّه إليهما نيران سلاحه فأرداهما معاً. وعندما كشف لثامهما اكتشف أن أحدهما كان ابنه والآخر ابن أخيه.

أرأيت كيف يتعامل الابن مع أبيه من أجل المال إذا كانت ثقافته مادية؟ ولماذا لا يفعل ذلك إذا كانت ثقافته كذلك؟ إنه إن لم يقتل أحداً من أجل المال وقد سنحت له الفرصة ربّما يعدّ سفيهاً من وجهة النظر المادية، ?قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء?. إن التربية المادية تقول: إن الترفع عن القتل وترك الفرصة في الحصول علي المال تذهب هدراً سفاهة، ولكن الفكر الديني يقول (والله لو اُعطيت الأقاليم

السبعة بما تحت أفلاكها علي أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت).

• القصة الثانية: نقلها حديثاً أحد الإخوة المؤمنين الذين ذهبوا إلي الغرب.

قال: إن رجلاً مؤمناً مهاجراً إلي الغرب رأي ابنته في طريق الانحراف فقرر أن يهجر بلاد الغرب، فسافر مع ابنته وعائلته إلي بلد إسلامي وهناك مزّق جوازات سفر الدولة التي قدموا منها كي لاتستطيع ابنته العودة، ولكنها ذهبت إلي سفارة ذلك البلد الغربي واشتكت علي أبيها ثم حصلت علي ورقة عادت بها إلي بلاد الغرب تاركة عائلتها، فإذا كان وضعها هكذا وهي في ظل أبيها فكيف ستتصرف بعد ذلك وقد تخلصت منه نهائياً؟!

الخلاصة: أن دنيانا مهددة قبل آخرتنا إن لم نتدارك الأمر ولم نقم بعرض النماذج النيرة مثل بيت الزهراء وخديجة? علي مجتمعنا الصغير والكبير والأكبر بكلّ قوة؛ عسي أن نستنقذ دنيانا وآخرتنا بإذن الله سبحانه.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين

الشعائر الفاطمية

الشعائر الفاطمية

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي قيام يوم الدين

قال الله تعالي في كتابه الحكيم:

?وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَي الْقُلُوبِ?.

مقدّمة

قبل الحديث عن الشعائر الفاطمية ومسؤوليتنا إزاءها، نتحدث أولاً عن الشعائر الدينية عموماً، وعن الشعائر الإيمانية خصوصاً، فكلّ هذه الأنواع الثلاثة من الشعائر (الشعائر الدينية بشكل عام، والشعائر الإيمانية بشكل خاص، والشعائر الفاطمية بشكل أخصّ) تنضوي تحت جامع مشترك وهو عنوان «شعائر الله» لأن أي شعيرة لها نوع إضافة الي الله سبحانه فهي من شعائر الله سبحانه.

الشعائر الدينية: مفهومها وأدوارها

أ مفهوم الشعائر الدينية

الشعائر جمع شعيرة والشعيرة هي العلامة الحسية التي تقود الإنسان نحو صاحب الشعيرة، فالشعائر الدينية كما يبدو عبارة عن العلامات الحسية التي تقود الإنسان الي الله سبحانه وتعالي.

ووجود العلامات الحسية قضية مهمة جداً، وقد تنبع أهميتها من النزعة الحسية الموجودة لدي الإنسان؛ فإن الإنسان لا تحرّكه الأشياء التجريدية بقدر ما تحركه الأشياء المحسوسة، وربما لهذا السبب كان الأنبياء الإلهيون بشراً ولم يكونوا ملائكة؛ قال تعالي: ?وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً? أي في قالب حسّي بشري، ولعله من هذا المنطلق أيضاً كانت العبادات عادةً أموراً حسية مع أن جوهرها أمر معنوي وهو النية، فالصلاة مثلاً لها قالب حسي هو القيام والركوع والسجود، ولعله لهذا السبب أيضاً كانت الشعائر الدينية علامات حسية.

ب دور الشعائر الدينية

للشعائر أدوار كثيرة ومن أهمها: دورا الحماية والهداية، فالشعائر من أعظم الوسائل لهداية الآخرين، وبالشعائر يمكن أن نحفظ الفرد والأمّة ونصونهما من خطر الذوبان والانصهار في الثقافات الأخري، ومن هنا تلاحظون اليوم حملة شديدة في الغرب علي شعائرنا الدينية (ولعل من يقود ويخطّط لهذه الحملة هي اليهودية العالمية) وخير مثال علي ذلك ما نشهده اليوم من هجمة علي الحجاب؛ بهدف تذويب المرأة المسلمة في المجتمع الغربي، فالحجاب كشعيرة هو الذي يحفظ إيمان المرأة المسلمة ويصونها من الذوبان في الأفكار المضادّة، كما المسجد والحسينية والأذان وصلاة الجماعة والشعائر الحسينية.. فهذه كلّها من الشعائر الدينية التي تحفظ إيمان المسلم وتقيه من الانصهار أو التصدّع الإيماني.

ومن هنا أيضاً حارب حزب البعث في العراق المساجد والحسينيات والحوزات الدينية ورجال الدين، كما حارب البهلوي الأول في إيران الحجاب بشدّة وكان يصرّ علي أن لا تكون هناك (في إيران) محجبة واحدة، وقد نقل أنه حوّل المدرسة الفيضية (وهي واحدة من أكبر

المدارس الدينية في قم) إلي مخزن للبضائع بعد أن أخليت أو كادت من طلاّبها.

إذن ما دامت الشعائر الدينية موجودة فهذا معناه وجود الحماية للدين، وإذا ما استطاع نظام مّا أن يقضي عليها فهذا هو بداية الطريق للقضاء علي الدين. وقد أفتي الفقهاء بوجوب الهجرة من البلد الذي لا يمكن إقامة شعائر الدين فيه، مع أن الهجرة من أشقّ الأعمال علي الإنسان، حتي قيل إن الهجرة أخت الشهادة، لأن الشهادة تنهي الحياة المستقبلية (الدنيوية) للإنسان أما الهجرة فتضع حداً لحياة الإنسان الماضية والعلاقات التي أنشأها طيلة عقود ويكون عليه أن يبدأ حياته الجديدة من الصفر.

الشعائر الإيمانية والشعائر الفاطمية

الشعائر الإيمانية والشعائر الفاطمية

نفس الدور الذي تنهض به الشعائر الدينية لحفظ الدين في بعد الحماية والهداية تنهض به الشعائر الإيمانية لحفظ الإيمان.

هذا ولا يخفي أن الإيمان مركّب من سلب وإيجاب أي نفي وإثبات، ومن الشعائر الإيمانية ما يحتوي علي بعد الإثبات فقط ومنها ما يحتوي علي البعدين معاً.

والشعائر الفاطمية من الشعائر الإيمانية التي تعني بالبعدين (التبرّي والتولّي) بكل قوّة وبشكل واضح وصريح ومباشر.

إن قضية سيّدالشّهداء الإمام الحسينعليه السلام قضية مهمّة جداً، وهي تحتوي علي البعدين، وتدين الخلافة الأموية بشكل مباشر، كما تدين خلافة الأوائل بشكل غير مباشر (لأن الخلافة الأموية التي مثّلت انحرافاً واضحاً عن خط الاسلام، كانت نتيجة لخلافة الأوائل)، وهكذا قضية الغدير فإنها تثبت بُعد التوّلي بشكل مباشر، كما تثبت بعد التبرّي بشكل غير مباشر.

أما القضية الفاطمية فإنها تمثّل إدانة مباشرة لكل الحكومات المنحرفة ابتداءً من حكومة الأوائل وانتهاءً بحكومة العثمانيين؛ ومن ثم فإن إحياء القضية الفاطمية هو إحياء للإيمان كله.

إن قضية الزهراء? وإدانتها للأوائل واضحة جداً، لا غموض فيها ولا لبس.

يكفي أن تطرح هذا السؤال علي أي مسلم: لماذا كل زوجات

النبيعليه السلام قبورهن معلومة، ولكن بنت النبيعليه السلام العظيمة قبرها مجهول؟

وفي هذا الصدد ينقل أن «نظام العلماء» ? عندما ذهب إلي الحج، التقي شخصاً في المدينة المنورة، فسأله: لماذا لم يُشيّع جثمان فاطمة?؟ فقال: ولِمَ لَم يُشيّع، فقد شُيّعت? تشييعاً عظيماً. فقال له: هل تعرف كم اشترك في تشييع نافع وهو أحد القرّاء؟ قال: خلق كثير يزيد علي الخمسمائة شخص.

فقال نظام العلماء: لماذا إذن عُرف قبر نافع ولم يعرف لفاطمة قبر؟

فقال الشخص: لا أعلم.

وهنا قال له نظام العلماء: ولكني أعلم، لأن فاطمة? أوصت أن تدفن ليلاً وأن لا يحضر تشييعها إلاّ بضعة نفر.

ثم أخذ نظام العلماء يشرح لذلك الرجل مجريات الأحداث بعد وفاة النبيعليه السلام.

وكما أن قضية الإمام الحسينعليه السلام كانت السبب وراء تشيّع كثيرين، فكذلك هي قضية الزهراء?.

أحد المستبصرين وهو محام معروف ينقل في سبب تشيّعه لآل بيت النبيعليه السلام: أنه كان في سفرة إلي بيروت فوقع نظره علي كتاب حول «أبناء الرسول في كربلاء» (لأحد علماء العامة)، فلفت انتباهه، وبعد أن طالعه أذهله ما جري لأبناء الرسولعليه السلام في كربلاء! فبدأ التحقيق الذي انتهي به إلي التشيّع.

وهكذا غيّرتْ قضية كربلاء هذا المحامي وحوّلته إلي أحد المحامين عن مذهب أهل البيتعليهم السلام.

كذلك روي مؤلفٌ مشهور أن تحوّله لمذهب أهل البيتعليهم السلام كان بسبب استماعه إلي كاسيت صوتي سجّل عليه نصّ الخطبة الفدكية للسيدة الصديقة الزهراء? إذ صار سبباً لبحثه عن الحقيقة، وانتهي به إلي الانتماء إلي مذهب أهل البيتعليهم السلام.

مسؤوليتنا في شهري جمادي الاولي والاخرة

إن هذين الشهرين يتعلقان بسيدة النساء فاطمة الزهراء?، وتتمثل مسؤوليتنا ضمن ما تتمثّل في إحياء قضيتها?، وهذا الإحياء له مفردات كثيرة، ولكن هناك عنوانان عامّان يجمعان هذه المفردات (وإن كان بينها نوع من أنواع

التداخل).

العنوان الأول: الإحياء الشعائري

مثل لبس السواد في الأيام الفاطمية وتسيير مواكب العزاء والحضور في المجالس التي تقام بالمناسبة.

لقد جمع السيد الإمامي? وهو أحد علماء إصفهان مسؤولي وأعضاء المواكب والهيئات قبل حوالي أربعة عشر عاماً بمناسبة مرور ألف وأربعمئة عام علي شهادة الصديقة الكبري فاطمة الزهراء?، ودعاهم إلي إحياء الشعائر الفاطمية، وقال لهم:

«إن علينا أن نجعل للقضية الفاطمية حرارة كحرارة عاشوراء أو نجعلها في الدرجة التالية لها».

ولقد أصبحت القضية الفاطمية اليوم في اصفهان تتلو قضية عاشوراء، في

حيويتها وحرارتها.

ومما ينقل في أحوال المرحوم الإمامي أنه توفي في اليوم الأخير من العشرة الثانية الفاطمية في المكتبة التي أسسها باسم الزهراء?، وكان آخر صفحة كتبها تحت عنوان «إنما سميت فاطمة لأن الخلق فُطموا عن معرفتها».

وقد نقل لي أن بعض الإخوة المؤمنين في الكويت يتبنّون اليوم إحياء هذين الشهرين بشكل كامل بإقامة المجالس التي تبدأ مع بداية شهر جمادي الأولي وتستمرّ حتي آخر شهر جمادي الثانية.

العنوان الثاني: الإحياء الثقافي

وهذا الإحياء مهم جداً، ونعني بالإحياء الثقافي: المساهمة في الكتابة والتأليف (ونحو ذلك) حول الصديقة الكبري فاطمة الزهراء?، عسي أن تكون هذه المساهمة وسيلة من وسائل الشفاعة لنا يوم القيامة إن شاء الله تعالي.

إن ما كُتب حول الصديقة الزهراء? قليل جداً، وهذه حقيقة مؤلمة تكشف عن مظلومية الزهراء? في هذا الجانب أيضاً، فلقد أحصي أحد المؤلّفين في كتاب له كلّ ما ألّف عن الصديقة الزهراء? خلال ألف وأربعمئة عام فلم يزد المقدار الذي عثر عليه علي ألفين واثنين وعشرين كتاباً، في حين إنا نقرأ أن شاعراً توفي قبل أقل من قرن ألِّف عنه حوالي خمسة آلاف كتاب! أليس من المؤسف والمدهش أن لا يكتب حول الصديقة الزهراء? إلاّ هذا المقدار القليل وهي أفضل الخلق بعد أبيها وبعلهاعليهم

السلام.

وتتبيّن فداحة الخطب عندما نعلم أن هذا العدد موزع كالتالي:

1047 كتاباً باللغة الفارسية

614 كتاباً باللغة العربية

214 كتاباً باللغة الأوردية

157 كتاباً بأربعة وعشرين لغة عالمية أخري بما فيها الانجليزية والفرنسية والألمانية والروسية والإيطالية والإسبانية والكردية والهندية والصينية (أي معدل 6 كتب للغات ينطق ببعضها مئات الملايين، ويحكم الناطقون ببعضها بلادنا بشكل أو بآخر).

فهل يتناسب هذا مع هدف تعريف شخصية الزهراء? للعالم كله؟

لقد فكّر السيد الوالد? بإصدار مجلة باللغة الإنجليزية في كربلاء المقدسة قبل أربعين عاماً تقريباً، ولم يكن المال متوفراً ولا المتبرع موجوداً، ولكن المشروع تحقق بصعوبات جمّة، وكان لايتجاوز نسخ كل عدد منها المئات، يقول السيد العم حفظه الله:

«فكّرت أنه لو كانت هذه المجلة تصدر منذ ميلاد السيد المسيح (علي نبينا وآله وعليه السّلام) إلي اليوم أو لنَقُل من الآن إلي ما بعد 2000 عام لما بلغ مجموع نسخها ما يطبع من مجلة غربية في شهر واحد فقط! فبعض المجلات الغربية المعروفة يطبع منها في كل شهر ثلاثون مليون نسخة أي بمعدل مليون نسخة لليوم الواحد!»

إن الصين تشكل اليوم حوالي سدس العالم من حيث التعداد السكاني، ويتنبأ لها البعض أن تكون حضارة حاكمة في المستقبل، فهل فكّرنا في مخاطبة الشعب الصيني ثقافياً؟

إن الحرب القادمة هي حرب وجود لا حرب حدود، حرب أن نكون أو لا نكون، فهل نقنع بإصدار كتاب في ألف نسخة لنتصور أننا فتحنا الحصون؟!

أجل إن هذه القطرات مؤثرة، ولكن ينبغي لنا أن نعلم أنها ليست سوي قطرات، وهذه ليست دعوة لليأس بل دعوة للمسارعة والانطلاق، ولنعلم إن مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة، والمثل المعروف يقول: بدلاً من أن تلعن الظلام اشعل شمعة.

إن العالم غارق في الظلام، إلا أن ظلام العالم كله لا

يستطيع أن يهزم نور شمعة واحدة. فلو اهتمّ كل فرد منّا بتحريك وتحريض الآخرين فإن هذه القطرات ستتجمع وتكوّن سيلاً كبيراً إن لم نقل بحراً؛ قال تعالي: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ?.

ولا يقتصر العمل الثقافي علي تأليف الكتب، بل يشمل توزيعها وإسنادها مالياً، كما يشمل تكثير الكاسيتات (الأشرطة الصوتية) وغيرها من الأعمال الثقافية، ولا ينبغي التهاون في أي عمل ثقافي مهما بدا صغيراً، فعسي الله تعالي أن يجعل تأثيره كبيراً إذا تمّ بإخلاص.

يقول ابن المحدث الجليل الشيخ عباس القمي: سألت والدي: لماذا بلغ كتابك «مفاتيح الجنان» هذا المدي من الشهرة والانتشار؟ فقال:

«إنه ببركة الصديقة فاطمة الزهراء? حيث إنني أهديت ثواب كتابي لها».

نسأل الله تعالي أن يجعل البركة في ما نقوم به من أعمال في هذا الطريق وأن تكون هذه الأعمال وسيلة من وسائل الشفاعة لنا في يوم القيامة.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين.

الامام الحسين عليه السلام: استثناء في السنن الالهية

الامام الحسين عليه السلام: استثناء في السنن الالهية

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي قيام يوم الدين

مقدّمة

ثمّة سمة تطبع السنن الإلهية سواء ما كان يتعلّق منها بالتاريخ أو المجتمع أو الطبيعة، هذه السمة هي الثبات والاطراد، والقرآن الكريم يشير إلي ذلك بقوله: ?فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا?.

ولعلّ التبديل يعني ثبات الموقع مع تغيّر الصفة، بينما التحويل يعني العكس وهو تغيّر الموقع وثبات الصفة، والله سبحانه وتعالي في الآية الكريمة يؤكّد المفهومين معاً، مستخدماً كلمة (لن) التي تفيد تأبيد النفي، أي أنّ سننه تعالي لا تقبل التغيير لا تبديلاً ولا تحويلاً علي امتداد العصور والدهور. لكن مع ذلك هناك بعض الاستثناءات تتخلل هذه السنن لسبب أو لآخر، وإحدي هذه الاستثناءات الكبري من السنن الإلهية الثابتة قضية سيّدالشّهداء الإمام الحسينعليه السلام، ولعل ذلك نابع من أن التضحية التي قدّمها سيّد الشّهداءعليه السلام كانت استثنائية، فهذه التضحية ليس لها نظير في التاريخ، ولن يكون لها نظير أبداً، فكان عطاء الله تعالي لسيّد الشّهداءعليه السلام عطاءً استثنائيّاً أيضاً.

عظمة تضحية الإمام الحسينعليه السلام

لقد قام النبي إبراهيم (عليه وعلي نبينا وآله السلام) بتضحيات عظيمة وابتلاه الله تعالي بكلمات فأتمّهن فاستحقّ علي أثرها مقام الإمامة، ?وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا?، ولقد ابتلي في نفسه وفي ولده وفي أهله، وخرج منتصراً في جميع هذه الابتلاءات، لقد كان ابتلاء النبي إبراهيم (عليه وعلي نبينا وآله السلام) كبيراً حين ترك زوجته وولده، في صحراء لا زرع فيها ولا ماء، وحينما سألته زوجته (هاجر): إلي من تكلنا؟ أجابها: أكلكم إلي الله عزّ وجلّ.

كما كان امتحانه عظيماً حين أُمِر وهو شيخ كبير أن يذبح ولده.. إلي غير ذلك من الابتلاءات..، ولكن هذه التضحيات العظيمة لا ترقي إلي تضحيات الإمام الحسينعليه السلام والأهوال التي مرّت عليه

في كربلاء ومصابه في أهل بيته وإخوته وطفله الرضيع وأصحابه حتي استشهادهم جميعاً كما يظهر ذلك بشكل واضح لمن راجع التاريخ.

فشتان بين ما قدّمه النبي إبراهيم (عليه وعلي نبينا وآله السلام) من تضحيات علي عظمتها وبين التضحيات التي قدّمها الإمام الحسينعليه السلام.

لقد كان هناك حدّ لتضحيات النبي إبراهيم (عليه وعلي نبينا وآله السلام) بيد أن سيد الشهداءعليه السلام امتُحن بكلّ أنواع المحن والمصائب ولم يكن هناك حدّ لتضحياته، فكانت تضحياته استثنائية بكلّ معني الكلمة.

الثواب الاستثنائي علي التضحية الاستثنائية

لقد قرّر الله تعالي سنّة الجزاء في هذا الكون، وأجري هذه السنة علي الجميع، قال الله تعالي في كتابه الكريم: ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ? وقال سبحانه: ?أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَي?.

إذن فكلّ عمل صالح له عند الله ثواب، وتتحدد درجة الثواب حسب أهميّة العمل وبعض العوامل الأخري فالعمل الاستثنائي يقابله ثواب استثنائي من الله تعالي، ولمّا كانت التضحية التي قدّمها سيّدالشّهداء الإمام الحسينعليه السلام استثنائية في جميع الأبعاد، فقد أثابه الله بثواب استثنائي لا يماثله أيّ ثواب.

وهذا الاستثناء علي نحوين:

النحو الأول: الاستثناء في الجانب التشريعي

لقد خصّ الله تعالي الإمام الحسينعليه السلام وحده، بخصائص لم يشرك معه فيها أحداً حتي الرسول الأعظمعليه السلام، بالرغم من انه أفضل من الإمام الحسينعليه السلام دون أدني شك، وكذلك أمير المؤمنين عليعليه السلام والصديقة الطاهرة الزهراء? والإمام الحسنعليه السلام، فإنهم جميعاً وإن كانوا أفضل من الإمام الحسينعليه السلام، إلا ان العمل الاستثنائي الذي قام به الإمام الحسينعليه السلام والتضحية الاستثنائية التي قدّمها جعلت منه استثناءً واستحقّ عليها ثواباً استثنائياً.

ومثال ذلك في حقل التشريع: الجزع فإنه مكروه حسبما ورد في بعض الروايات، لكنّه (أي الجزع) استثني علي مصاب سيّدالشّهداءعليه السلام، وكذلك الهلع عليه.

والهلع كما يقول أهل اللغة هو أقصي حالات الجزع، وفي هذا الصدد يقول الإمام زين العابدينعليه السلام: «فكادت نفسي تخرج وتبيّنت ذلك منّي عمّتي زينب بنت علي الكبري، فقالت مالي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدي وأبي وإخوتي؟ فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع …».

فالجزع كلّه مكروه عدا الجزع علي الإمام الحسينعليه السلام، ولو كان قتل النفس مباحاً لربّما أقدم عليه مجموعة من المؤمنين في يوم عاشوراء، وذلك لهول مصيبة أبي عبد اللهعليه السلام وفداحة خطبه وإن

كان للشيخ خضر بن شلال، رأي آخر في هذا الموضوع من شاء فليراجعه في مظانّه.

إن هؤلاء الذين يضربون بالسيف علي رؤوسهم إنما يفعلون ذلك من شدّة تفاعلهم مع قضايا عاشوراء، ولو كان قتل النفس جائزاً لربّما أقدم مجموعة منهم علي ذلك جزعاً علي سيّدالشّهداءعليه السلام، وهلعاً عليه.

والخلاصة: إن الجزع بكلّ مظاهره مكروه إلا علي سيدالشهداءعليه السلام، وذلك استثناء تشريعي كرّم الله تعالي به الحسينعليه السلام وخصّه به لقاء تضحيته الاستثنائية الي غير ذلك من الاستثناءات التشريعية.

النحو الثاني: الاستثناء التكويني

أ التربة الحسينية مثالاً

أما النحو الثاني من الاستثناء الذي خصّ الله به سيّد الشّهداءعليه السلام فهو الاستثناءات التكوينية في السنن الإلهية، نشير إلي موردين منهما، المورد الأول يرتبط بعالم الطبيعة ونذكر له مثالين، هما: التربة والنار، والمورد الثاني يتعلّق بالمجتمع، أما المثال الأول علي المورد الأول فهو أكل التراب فإنه محرّم من الناحية الشرعية غالباً ومضرّ من الناحية التكوينية، كذلك لكنّ الأمر يختلف مع تربة سيّد الشّهداءعليه السلام، فهو ينطوي علي استثناءين تشريعي وتكويني، فهو حلال وشفاء لمن استعمله.

• وللسيد البروجردي? قصة معروفة مع تربة الإمام الحسينعليه السلام، حيث كان يعاني من ألم في إحدي عينيه، وقد عجز الأطباء عن معالجته، وذات مرّة وأثناء تأدية مراسيم عزاء سيّد الشّهداءعليه السلام دخل جمع من المعزّين إلي بيته وجباههم وأبدانهم ملطّخة بالطين كمظهر من مظاهر الحزن علي الإمام الحسينعليه السلام ففكّر السيد البروجردي أن يستشفي بهذا الطين فأخذ قليلاً مما كان عالقاً علي أبدانهم أو ثيابهم ووضعه علي عينه التي يئس من علاجها، فما لبثت أن استعادت عافيتها وقوّتها، واستمرّت هذه الحالة إلي أخريات أيام حياته، إذ بلغ حوالي التسعين من العمر لكن بصره كان قوياً ولم يكن يحتاج إلي وضع نظارات علي عينيه،

مع أنه كان كثير المطالعة.

• ونستطرد لنقول: ان السيّد الجدّ? كانت له قصّة مماثلة حيث كانت عينه تؤلمه فتوسّل بأبي الفضل العبّاسعليه السلام، فشوفي علي أثر ذلك، وقد نقل السيد العم حفظه الله أنّه (أي الجدّ?) كان ينظر إلي ساعة الصحن الشريف دون عناء بينما كان يتعذّر علي بعض الشباب فعل ذلك.

• وهنالك قضية أخري اتفقت للسيد الوالد? عندما كان? علي ظهر السفينة في مياه الخليج، فقد هبّت العواصف وأخذت الأمواج تقذف بالسفينة إلي الأعلي وتهبط بها إلي الأسفل، حتي خُشي عليها من الغرق، واستمرّ الحال علي ذلك حتي أخذ الوالد? مقداراً من تربة الإمام الحسينعليه السلام وألقاها في البحر فما كان من البحر إلا أن هدأت ثورته وسكنت أمواجه.

• لا بأس أن ننقل هنا باختصار قضية التاجر المشهدي الذي كان يحتضر، فجاءه الشيخ حسن علي الطهراني وأعطاه شيئاً من تربة الإمام الحسينعليه السلام، فتناولها، يقول التاجر: ما إن وضعتها في فمي حتي استرجعتُ عافيتي بشكل كامل.

• ولا بأس أن ننقل هنا استطراداً ما جاء في كتاب (بحار الأنوار) من أنّ مئة ألف امرأة عاقر جئن إلي قبر سيّد الشّهداءعليه السلام، ليستشفعن في طلب الذرية، فأعطين جميعاً سؤلهن.

وهنالك الكثير الكثير من الأمثلة لا مجال لذكرها هنا.

ب النار مثالاً آخر

لقد جعل الله تعالي النار محرقة، ولكنها لم تكن كذلك للنبي إبراهيم (عليه وعلي نبينا وآله السلام) ولسيّد الشّهداءعليه السلام، فنار إبراهيم (عليه وعلي نبينا وآله السلام) كانت برداً وسلاماً عليه، وكذلك نار سيّد الشهداءعليه السلام هي برد وسلام علي محبّيه، حيث يقوم محبّوه في نقاط مختلفة من العالم، في إيران، وفي العراق، وفي الهند وتايلند، وفي غيرها بإلقاء أنفسهم فيها دون أن يحترقوا، هذه النار التي تلفح الوجوه

من بعيد، تأبي أن تمسّ محبّي أبي عبد الله الحسينعليه السلام بسوء، اللهم إلا من شابت نيّته شائبة.

وفي هذا المجال ينقل أحد المراجع الكبار أنّ الناس من محبّي أبي عبد اللهعليه السلام كانوا يدخلون في النار، دون أن ينال منهم لهيبها، منهم علي سبيل المثال الخطيب الحسيني المرحوم الشيخ عبد الزهراء الكعبي الذي ورد النار ثم خرج منها سالماً كما وردها، ولكن فرداً واحداً من تلك الجموع، اكتوي بلهيبها بمجرّد دخوله فيها وقد نقل علي أثر ذلك إلي المستشفي متأثراً بحروق مؤلمة، وينقل ذلك المرجع أنّه ذهب لزيارته فسأله ما باله احترق هو بهذه النار، وهذه الجموع قبله قد دخلت ولم تمسّ بأي سوء؟ فأجاب ذلك الشخص (وهو طبيب) قائلاً: إنّي لما نظرت إلي النار قلت في نفسي: هذا غير معقول، إنّ النار محرقة بطبيعتها، فكيف يدخل فيها هؤلاء؟ لابد أن في القضية سراً ما! وقد نسي هذا الطبيب أو تناسي أن قوانين الله تعالي تحكم الخلق ولا تحكم الله سبحانه.

ويستطرد هذا الطبيب قائلاً: قبل دخول الأفراد إلي النار رأيت أحد العلماء أخرج شيئاً من جيبه وألقاه في النار، فقلت في نفسي «انكشف السرّ، لابدّ أنّها مادة تبطل مفعول النار»، ثم دخل الناس ولم تمسسهم النار بسوء، وجاء دوري فدخلت فإذا بي أكتوي بلظاها.

يقول ذلك المرجع فقلت له: لقد كانت تلك تربة الإمام الحسينعليه السلام ألقاها العالم في النار لتكون برداً وسلاماً علي محبيهعليه السلام!

وفي الكويت اليوم جالية لها حسينية، يعدّون فيها ناراً يوم العاشر من المحرم، وبعد أن يقرأوا الآية الكريمة: ?يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَي إِبْرَاهِيمَ? يدخلونها فلا تمسهم بأيّ أذي.

ج. الإمام الحسين عليه السلام محبوباً

أمّا المورد الثاني (الاجتماعي) من الاستثناء الثاني الذي كرّم الله تعالي

به الإمام الحسينعليه السلام فهو هذا الحب الكبير تجاه سيّد الشّهداءعليه السلام، وهو حبّ ظهر حتي قبل وقوع مأساة كربلاء بسنوات طويلة ربما تبلغ الألوف فلا نستطيع أن نقول إنّها مسألة عادية.

• وقد روي أنّ أحد الأنبياء قد انتحب حينما ذُكر اسم الحسينعليه السلام عنده، وهو لمّا يزل نوراً في عالم الغيب.

• ولو ذهبتم إلي القاهرة لرأيتم المسلمين يحتفلون احتفالاً عظيماً بذكري مولد الإمام الحسينعليه السلام.

والواقع أن الكثير يجهلون الإمام الحسينعليه السلام ولو عرفوه وعرفوا قضاياه وقضايا عاشوراء لكان لهم شأن آخر.

• وقد نقل بعض الإخوة: إنّه عرض في بلاد الغرب فلم عن السيد المسيحعليه السلام، وكان وقعه علي عواطف الناس وأحاسيسهم كبيراً للغاية، علي الرغم من أنّ قضية «صلب المسيحعليه السلام» مختلقة من الأساس، لكنّها أثّرت أثرها القويّ في النفوس، وقد نُقل أنّ حوالي 250 مليون شخصاً شاهدوا الفلم، وقد أثار الفيلم اعتراضات الصهيونية العالمية لأنّه يصوّر اليهود كأعداء للسيد المسيحعليه السلام ومتآمرين ضدّه.

ونقل أحد الإخوة: إنّ الكنائس المسيحية كانت توزّع بطاقات الفلم مجاناً، لأنّها وجدت فيه أفضل دعاية للمسيحية. كل هذا يحدث مع قصّة صلب المسيحعليه السلام التي هي قصة محرّفة ومختلقة، فكيف بقصّة سيّدالشهداءعليه السلام الحقيقية إذا ما وجدت طريقها إلي العالم، أيّ ردود فعل مدوّية ستحدثه!

• ونقل أحد الإخوة أيضاً: إنه في إحدي البلاد الإسلامية عرضت في هذا العام تمثيلية تصوّر مأساة سيّد الشّهداءعليه السلام في يوم عاشوراء، وقد شاهدها أكثر من 40 ألف شخص حسبما نقلت إحدي الصحف في ذلك البلد، وقد أحدثت التمثيلية ضجّة كبيرة بين الجماهير.

وقد نقل أحد العلماء الذين يعيشون في بلاد الغرب أنّه التقي بشخص بوذي هناك، فعرض عليه الدخول في الإسلام، لكنّه أبي، وكلما سرد

له الأدلّة علي حقانية الإسلام لم يقبل، وأخيراً قال له الشاب البوذي: سمعت عن شخصية دينية عندكم يقال له الحسين، فما هي قصّته؟ يقول العالم: فبدأت أروي له جوانب من فاجعة عاشوراء، وإذا بملامح وجه البوذي تتغيّر، وسيطرت عليه علامات الحزن، ثم تفجّر بكاءً ونحيباً، وكنت كلما زدت له، زاد من بكائه، فخنقتني العبرة ولم أعد قادراً علي مواصلة الكلام، فألحّ عليّ وتوسّل أن استمرّ في الحديث، فعندئذ واصلت الحديث لكن بصعوبة بالغة، وفي النهاية أخذ الشاب البوذي يكفكف دموعه ثم سألني ما هي شروط اعتناق الدين الإسلامي، فذكرت له ذلك فأعلن إسلامه واعتناقه لمذهب أهل البيتعليهم السلام، ثم أصبح أفضل من كثير من المؤمنين.

عاشوراء: نصر يتجدّد علي مدي التاريخ

• يقول أحد أقطاب العامّة البارزين في تفسير الآية الكريمة ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ?:

«والحسينرحمة الله عليه وهو يستشهد في تلك الثورة العظيمة من جانب والمفجعة من جانب أكانت هذه نصراً أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة بالمقياس الصغير كانت هزيمة، فأما في الحقيقة الخالصة والمقياس الكبير فقد كانت نصراً. فما من شهيد في الأرض تهتزّ له الجوانح بالحبّ والعطف وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسينرحمة الله عليه، يستوي في هذا المتشيّعون وغير المتشيّعين من المسلمين وكثير من غير المسلمين».

وهذا ما نسمّيه الاستثناء التكويني في الإطار الاجتماعي.

ماذا قدّمنا للحسينعليه السلام؟

تحدّثنا عن العطاء الربّاني الاستثنائي للإمام الحسينعليه السلام، فماذا عن مسؤوليتنا نحن تجاه الإمامعليه السلام وقضيّته؟

باختصار نقول: يجب أن نبذل ما في وسعنا تجاه الامامعليه السلام وتجاه قضيته، كلّ من موقعه وحسب إمكانه.

ينقل السيد العمّ? أنّه قد اجتمعت طائفة من وجهاء وأعيان كربلاء قبل أكثر من 50 عاماً وقرّروا توسيع الصحن الشريف وذلك بشراء الدور المحيطة وإلحاقها بالصحن، ولما علم أحد المالكين بالخبر، أخذ يقوم بإصلاح داره وتعميرها وصرف الأموال الطائلة في تزيين البيت، ومن المعلوم أنّ من يقوم بذلك يبتغي عادةً رفع سعر الدار والحصول علي ثمن أغلي، ولما وصل الوجهاء إلي تلك الدار ومعهم الخبير بتسعير الدور، عرضوا عليه بعض الأسعار فكانوا كلما عرضوا عليه سعراً، استقلّه، حتي يئسوا من شراء الدار، وهنا أطرق المالك برأسه إلي الأرض ثم رفع رأسه قائلاً: إنّي قد بعت الدار، قالوا: بكم بعتها؟ قال: لم أبعها لكم ولكن بعتها لسيّدي ومولاي أبي عبد اللهعليه السلام، فهو سيعطيني أفضل مما عرضتم عليّ، ثم قدّم إليهم مفاتيح الدار. فتساءل الوجهاء مستغربين: إن كنت عزمت علي تقديم

الدار مجاناً فلماذا قمت بإجراء الإصلاحات والتعميرات عليها؟ فأجاب:

«أردت أن أقدّم لسيّدالشّهداءعليه السلام هدية كاملة لا نقص فيها».

وقد أوصي الجدّ? بدفنه في تلك البقعة (التي كانت بيت هذا التاجر سابقاً والتي تقع علي يمين باب القبلة)، وقد تمّ له ما أوصي به، ودُفن هناك.

وعلي كل حال: علينا أن نفكّر ماذا نقدّم لسيّد الشّهداءعليه السلام قبل أن تنقضي أعمارنا، فنندم علي ما فرّطنا في حياتنا، ولات ساعة مندم.

وقد نقل أنه كانت هناك ثلّة من الشباب يجتمعون كلّ ليلة في بيت أحدهم، وكان والد أحد هؤلاء الشباب متديّناً و(حسينياً) فرفض أن يجتمع هؤلاء في بيته ما لم يأتوا معهم بخطيب يحيي اجتماعهم بذكر الحسينعليه السلام، فاستجاب الشباب لهذا الطلب وكانوا يدعون خطيباً حسينياً يذكر لهم في تلك الليلة مصائب أبي عبد الله الحسينعليه السلام، ومرّت السنون، وانتقل الرجل (والد ذلك الشاب) إلي جوار ربّه، فرآه أحدهم في المنام، فقال له: حدّثني عمّا جري عليك بعد موتك، فقال له: لا أستطيع أن أصف لك ذلك، لأنّك لن تستوعب قضايا البرزخ مهما شرحت لك، [فهو كمن يتحدّث إلي الجنين ويصف له الحياة خارج الرحم، أو يشرح للأعمي معني الألوان] وألحّ الشاب عليه بالسؤال كي يذكر له بعض مشاهد البرزخ، فقال له:

«فلتعلم شيئاً واحداً فقط وهو أنّنا لم نعرف مقام سيّد الشّهداءعليه السلام في الحياة الدنيا، حتي انتقلنا إلي العالم الآخر، وكذلك حالكم الآن، لن تدركوا عظمة منزلتهعليه السلام ما لم تنتقلوا إلي هذا العالم، وتروا بأنفسكم ما للحسينعليه السلام من مكانة سامية ومنزلة جليلة لا تضاهيها منزلة».

أجل، يتحتّم علينا أن نفكّر ماذا قدّمنا لسيّد الشّهداءعليه السلام قبل فوات الأوان، نسأل الله تعالي أن يوفّقنا في هذا الطريق.

وصلي الله علي

محمد وآله الطاهرين.

وظيفتنا تجاه سيد الشهداءعليه السلام

وظيفتنا تجاه سيد الشهداءعليه السلام

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين

إنّ الأعمال الصعبة والتضحيات الكبري نهض بها الآباء والأجداد، فقد قطعت أيديهم وأرجلهم في سبيل سيد الشهداءعليه السلام وتحمّلوا أنواع الاذي والتعذيب من أجله.

أما الأعمال المنوطة بنا نحن اليوم، فهي في الغالب هيّنة ولا مؤونة كبيرة فيها؛ ومنها:

1. إقامة مجالس العزاء في البيوت

الأمر الأول الذي ينبغي لنا أن نؤديه خاصة في شهر محرم الحرام، هو أن يقيم كل منا مجلس الحزن والعزاء علي أبي عبد الله الحسينعليه السلام في بيته، إن لم يكن هناك مانع يحول دون ذلك.

وهذا الأمر مهم جداً وأقدّم لبيان أهميته مقدمة قصيرة وهي: أن علماء الاجتماع يقولون: كلما كان عدد أفراد المجتمع أكثر، وتطوره أكثر، وعلاقاته مع المجتمعات الأخري أوسع، فإن مشكلاته واحتياجاته ستكون أكثر، ويضربون مثلاً لذلك في العائلة، فالأسرة المتكونة من زوج وزوجة توجد فيها علاقتان فقط هما: علاقة الزوج بزوجته، وعلاقة الزوجة بزوجها، ولكن ما ان يضاف للعائلة فرد ثالث بولادة مولود في الأسرة مثلاً حتي يرتفع عدد العلاقات إلي ستّ؛ هي بلغة الرموز: علاقتا (أ) مع كل من (ب) و(ج)، وعلاقتا (ب) مع كل من (أ) و(ج)، وعلاقتا (ج) مع كل من (أ) و(ب). وهكذا تتعقد علاقات المجتمع كلما أضيف إليها فرد جديد، وتزداد احتياجاته كلما زاد تطوره، والسؤال المطروح هنا: كيف تحل هذه المشكلات وتلبّي هذه الحاجات؟ وما هي الجهة التي يقع علي عاتقها حلّ مشكلات المجتمع ومتابعة قضاياه؟ يقول علماء الاجتماع أيضاً: إن للمؤسسات الاجتماعية دوراً كبيراً في هذا المجال، وكلما كانت المؤسسات الاجتماعية، أكثر وأقوي كان المجتمع أكثر قوة وتماسكاً، وكانت علاقات أفراده أسلم وأمتن.

فلو قارنا بين

مجتمعين من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الدينية، للاحظنا أن مجتمع المؤسسات هو الأقوي في كل تلك النواحي.

ومن مؤسساتنا الاجتماعية المهمة نحن الشيعة مؤسسات سيد الشهداء وأبي الأحرار الإمام الحسينعليه السلام. ولا تكمن أهمية هذه المؤسسات في بعدها الديني فقط، بل هي مهمة في الأبعاد الأخري أيضاً، كالبعد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي وغيرها، فلو أنك أقمت مجلس تعزية في بيتك وحضره أربعة أشخاص فقط، فإن ذلك بحد ذاته يعدّ مؤسسة اجتماعية تنهض بدور ثقافي، وديني، واجتماعي، واقتصادي وأدوار أخري أيضاً.

لكن الكثير منا غافلون مع الأسف عن أهمية هذه المجالس، لأنها أصبحت كالعادة بالنسبة لنا؛ فإن الذي يعيش إلي جنب النبع العذب قد لا يلتفت إلي دور الماء في حياته، لكن من يعيش في صحراء قاحلة يعرف أهميّة الماء بالنسبة للحياة.

وقد قال القس المسيحي الذي التقي المرجع الديني المعروف آية الله المرعشي النجفي? في قصة مفصلة:

«أنتم الشيعة لديكم ثلاثة أمور مهمة، لكنكم لا تدركون أهميتها؛ منها: مزارات الأئمة وأولادهم وذراريهم ومنها قضية [سيد الشهداء الإمام] الحسينعليه السلام».

هذا ما عندنا، فماذا عند المسيحيين؟

هم يقولون وسبحان الله عما يقولون: إنّه كان لله ولد اسمه المسيح عيسي (علي نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام)، صلبه اليهود وانتهي كل شيء.

فاستمع إلي الإذاعات وانظر إلي الشاشات وطالع الصحف والمجلات، لتري المسيحيين قد ملأوا الدنيا بقولهم إن «المسيح افتدانا».

أما نحن فعندنا أئمة آل البيتعليهم السلام، وعندنا الحسينعليه السلام وقضاياه المشجية التي لا يملك المسيحيون معشار معشارها، ولكننا مقصرون. فلنقم بما يمليه الواجب الشرعي والوجداني علينا تجاه سيد الشهداء الإمام الحسينعليه السلام، ولا نقصر في إقامة مراسم عزائه في بيوتنا؛ فلهذا الأمر أهمية بالغة، فكل برنامج يقام في أحد البيوت يعد مؤسسة

تربوية وثقافية واجتماعية واقتصادية …

إن إحدي العائلات الشهيرة في الكويت تقيم المجلس الحسيني في بيوت أفرادها علي مدار السنة بشكل دوري، أي أن المجلس يقام كل ليلة من ليالي الأسبوع في بيت أحدهم، باستثناء شهر محرم وصفر حيث تقام المجالس العامة، كل الذين أعرفهم من أفراد هذه العائلة هم أفراد مؤمنون، فمن الطبيعي أن يمتاز الشخص المتربي في أجواء المنبر الحسيني عن المتسكع في الشوارع أو المتربي في أجواء الفضائيات الهابطة.

بناءً علي هذا، فإن إقامة المجالس الحسينية هي إحدي الواجبات الكفائية (بالقدر الذي يتوقف أداء الواجب عليها) بل ربما تكون من الواجبات العينية في بعض الأحيان.

أقيموا المجالس الحسينية في بيوتكم، وسوف تلمسون بأنفسكم بركاتها وآثارها، ولن تتخلوا عنها إن شاء الله بعد ذلك. إنني أعرف أشخاصاً شرعوا بهذا الأمر ومازالوا مستمرين عليه دون أن يندم أي منهم، لأنهم رأوا بأعينهم البركات الدنيوية والأخروية تتري عليهم علي أثر ذلك.

2. مشاركة الإمام الحسينعليه السلام بالأموال

لنشارك الإمام الحسينعليه السلام بأموالنا مهما كانت وبالمقدار الذي نستطيع، لننال البركات والخير الوفير والأجر الجزيل في الدنيا والآخرة.

3. ليكن في كل بيت خادم للحسينعليه السلام

إذا كان للمرء أولاد فليجعل أحدهم خادماً لسيد الشهداءعليه السلام، فكما يكون هذا طبيباً والآخر مهندساً، والثالث تاجراً أو غير ذلك، فليكن أحدهم من خدمة الحسينعليه السلام ومنبره وقضاياه. وهذا منوط إلي درجة كبيرة بترغيب الوالدين وحثهما.

كانت إحدي الأمهات في العراق والقصة تعود إلي ما قبل حوالي خمسين سنة تنكّس هاوناً كبيراً (يسميه العراقيون الجاون) وتدعو ولدها الصغير الذي ربّما كان في حوالي الثالثة من عمره ليجلس عليه ويقرأ لها تعزية الحسينعليه السلام. وكان الطفل يستجيب لأمه ويردد ما يعرفه.

كما كانت هذه الأم تشجع ولدها أيام شهر رمضان المبارك علي الصعود إلي سطح الدار وارتقاء التنور لكي يرفع أذان المغرب، وكان الابن يمتثل أيضاً. وقد أصبح ذلك الولد الصغير اليوم من أشهر خطباء الشيعة في العالم، وكل ذلك تعود بداياته للجاون والتنور أي لترغيب الأم وحثّها.

فلنعلّم أولادنا علي ذكر أبي عبد اللهعليه السلام منذ الصغر، وليختص أحدهم بخدمة الحسينعليه السلام كما يختص سائر الأولاد باختصاصات شتي.

4. ولا نقصر في خدمة نستطيع تقديمها للحسينعليه السلام

ليقدم كل منا ما بوسعه من خدمة للإمام الحسينعليه السلام، مهما كانت تلك الخدمة، فمن استطاع تقديم الشاي مثلاً في مجلس أبي عبد اللهعليه السلام فليفعل، فإن ذلك شرف وفخر، ومن استطاع أن يشترك في المواكب الحسينية فليشترك، ومن أمكنه أن يكون خطيباً لسيد الشهداءعليه السلام فليكن، ومن استطاع أن يكتب كتاباً أو يقوم بطبعه ونشره أو يشتري كمية من الكتب أو الأشرطة أو الأقراص الكمبيوترية وما أشبه، مما يعني بقضية الإمام الحسينعليه السلام ومظلوميته، ثم يقوم بتوزيعها مجاناً، ومن استطاع أن يبني حسينية أو يساهم في بنائها … إلي غير ذلك من الخدمات فليفعل؛ فكل ذلك فخر وشرف وذخيرة للآخرة. وفي الحديث: «المرء تحت ظل صدقته يوم القيامة».

فكما أن البيت الذي يبنيه الإنسان في الدنيا يقيه من الحر والبرد، فكذلك الحسينية التي يبنيها سوف تكون ظلاً له يوم القيامة.

ينقل أنه عزم جماعة من المؤمنين علي بناء حسينية فجاءوا إلي تاجر وفاتحوه بالمشروع فقال لهم: كم تحتاجون من المال؟ وحيث إن المبلغ كان كبيراً جداً تهيبوا أن يذكروه لفظاً فكتبوه علي ورقة وقدموها للتاجر، لكن التاجر قال:

«إنني لم أضع في حياتي نظارة علي عيني في قضية سيد الشهداءعليه السلام»،

ولعله كان يعني بعبارته أنه لا يدقق في عطائه في هذا المجال كما يدقق في سائر المجالات، وطالبهم بأن يذكروا له المبلغ الذي كتبوه شفاهاً، ثم كتب لهم صكاً مصرفياً بالمبلغ الذي طلبوه أو بأكثر منه.

وبعد أن توفي هذا التاجر رآه بعض المؤمنين في عالم الرؤيا فسأله عن حاله في العالم الآخر، فأجاب:

«كما أنني لم أستعمل النظارات في قضايا أبي عبد الله الحسينعليه السلام هنا أيضاً عاملوني بنفس الكيفية، فلم يدققوا معي في الحساب».

لو أراد الله أن يدقق معنا في الحساب فسيكون حال الكثير منا كما قال ذلك الرجل: «وجدنا سوق الأعمال كساداً»؛ قال تعالي: ?وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ?، أما من أعطي بغير حساب فربما يقال له: ادخل الجنة بغير حساب.

وهنا أنقل لكم القضية التالية:

كانت والدة المرحوم الجد الميرزا مهدي الشيرازي? امرأة مؤمنة متعبدة، وكانت إذا استيقظت لصلاة الليل أيقظت الجد وهو صغير ثم تعطيه بعض الحلوي أو نحوه وتقول له:

«يا مهدي كل هذه واحدة واحدة وانظر إليّ».

تري كيف سيكون الطفل الذي ينهض في قلب الليل وينظر إلي أمه تصلي لربها؟ وما هو الأثر الذي سيتركه هذا الأمر عليه في المستقبل؟ ولذلك ينقل عن الجدرحمة الله عليه أنه لم يكن يستطيع النوم قبيل أذان الفجر وإن

كان قد نام قبل ساعة واحدة فقط، وهذا من آثار التعويد الذي عودته والدته عليه منذ الصغر.

وكان للجد? أخوان، فكانت والدتهم تطلب منهم أن يقرأوا لها تعزية الحسينعليه السلام كل يوم قبل مغادرتهم البيت علي نحو التناوب، ولم يكن أي منهم خطيباً، فكان من يأتي دوره يأخذ بيده كتاباً ويقرأ منه لها.

وحلّ الوباء (الطاعون) بكربلاء وبعد أن زال تبيّن أن حوالي ثلث أهل المدينة قد ماتوا بسببه، حتي مات الغسالون والدفانون ورجل الدين الذي كان يصلي علي الأموات، فكان إذا مات شخص بعد ذلك رموه في مكان وولوا هاربين.

وكان البيت الذي يسكنه الجد يقع في زقاق يقال له (المائية)، وقد قيل إنه لم يبق بيت في ذلك الزقاق لم يطرق الموت بابه، بل مات أفراد عائلة من تلك العوائل بأكملهم مع أنه لم يكن يفصلهم عن بيت الجد إلا بيت واحد. وكانت الدار الوحيدة التي لم يمت منها أحد، ويشير إليها الأهالي بالبنان بقولهم: (هذا البيت ما طلعت منه جنازة) هي دار والدة الجد. وقد رأت في عالم الرؤيا عجوزاً دميمة تشير إلي بيوت كربلاء وتقول بغضب:

«لقد دخلت كل هذه البيوت إلا هذا البيت فهم مشغولون بقراءة التعزية يومياً».

وهذا أثر من الآثار الدنيوية لمجالس عزاء الحسينعليه السلام، ولهذه المجالس آثار أخروية عظيمة أيضاً.

كان هنالك شخص يعرف في كربلاء المقدسة باسم (مرتضي)، ولعل كثيراً من أهالي كربلاء سمع به أو رآه، لأنه كان في عاشوراء من كل عام يقوم بتمثيل دور شمر بن ذي الجوشن ويحرق خيام الحسينعليه السلام، جاء هذا الشخص إلي ايران ثم توفي فيما بعد في مدينة إصفهان، ينقل أنه رُؤي في عالم المنام وسئل عما صُنع به فقال: عندما وضعوني في القبر

جاءني منكر ونكير وسألاني من ربك؟ من نبيك؟ من إمامك؟ وإذا بسيد الشهداءعليه السلام قد أقبل وأشار لمنكر ونكير أن يدعاني ثم أمرني أن أؤدي ما كنت أقوم به في يوم عاشوراء في حياتي، قلت: سيدي إن هذا يتطلب فرساً وخياماً وساحة وسيعة، فأمر الإمامعليه السلام الملائكة ليهيئوا ذلك كله لي، فركبت الجواد وقمت بالهجوم علي الخيام وتحريقها، وهنا رأيت بطرف عيني الدموع تجري من عين أبي عبد الله الحسينعليه السلام، عند ذلك قال الإمام الحسينعليه السلام: هذا يكفي.

ثم منحوني القصر والنعيم الذي أرفل فيه الآن، ببركة سيّد الشّهداء الإمام الحسينعليه السلام.

إننا لو عرفنا أهمية هذه الشعائر حقاً لم نتخلّ عنها أبداً. كان هناك شخص كبير السن في الكويت وناقل القصة لي ابنه يقيم مجالس سيد الشهداءعليه السلام في بيته، فرأي علي أثر ذلك بركات كثيرة، مما دفعه إلي أن يوصي بوقف داره للإمام الحسينعليه السلام، علي أن تكون تحت تصرفه وتصرف زوجته ما داما علي قيد الحياة.

وكان جديّ الأمي الحاج صالح? من جملة من لمس هذه البركات في قضية يطول الحديث عنها وملخصها أنه وقع في مشكلة مالية كبيرة فخاطب الإمام الحسينعليه السلام قائلاً: لئن نجوت من هذه المشكلة فسوف أشرككم في أموالي، ونجا من المشكلة بطريقة غير متوقعة.

فلنقم مجالس العزاء علي أبي عبد الله الحسينعليه السلام في بيوتنا، ولنشركه في أموالنا، ولندَع أحد أولادنا يتفرغ لخدمة الإمام الحسينعليه السلام، وأخيراً: لنقدم ما في وسعنا من خدمة في هذا المجال، فهذه كلها ذخيرة لنا يوم لاينفع مال ولا بنون.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين

قبس من النهضة الحسينية

قبس من النهضة الحسينية

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين إلي

قيام يوم الدين

يقول الإمام الصادقعليه السلام في زيارة جده الإمام الحسينعليه السلام في يوم الأربعين: «وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة».

هذا النص الشريف يحتوي علي مفاهيم ومباحث ذات مضامين عالية، نتناول مبحثين منها باختصار؛ يتعلق الأوّل منهما بكلمة «فيك» ويتعلّق الثاني بكلمة «ليستنقذ» الواردتين في النص:

المبحث الأوّل: تضحية الإمام الحسينعليه السلام من أجل الله تعالي

المبحث الأوّل: تضحية الإمام الحسينعليه السلام من أجل الله تعالي

يدور هذا المبحث حول كلمة «فيك» الواردة في النص، وهي هنا تعني «لأجلك»، والمخاطَب هو الله تعالي، لأنّ «في» في اللغة العربية قد تأتي بمعني لام التعليل، كما يقوله ابن مالك في الألفية، والمقصود بذلك الباعث والدافع الذي يحرك الإنسان نحو القيام بعمل ما، وهذا بحث تناوله العلماء في علم الحكمة الإلهية وعلم الأخلاق وعلم الفقه، وتناوله العلماء الجدد في علم النفس، فإنّ كل عمل إرادي يصدر منا نحن البشر يتوقف علي دافع ومحرك ومنطلق، وهذا الدافع يرجع بالتحليل إلي أحد أمور ثلاثة، هي:

الدافع الأوّل: أن يكون العمل للدنيا.

الدافع الثاني: أن يكون العمل للآخرة.

الدافع الثالث: أن يكون العمل لله تعالي.

أمثلة علي الدافع الأوّل

فتارة يكون الهدف من وراء العمل دنيوياً، وهذا مع الأسف هو حال أكثر أعمالنا، فهي في الغالب للدنيا، كالتاجر مثلاً يذهب إلي متجره كل يوم، ودافعه الحصول علي المال، أي إنّ عمله للدنيا، ولذلك فهو لا يستحق علي الله تعالي شيئاً، ولا يمكنه أن يطلب من الله سبحانه أجراً علي عمله، في يوم القيامة، لأنّه عمل للمال، وقد نال ما عمل من أجله، أو لم ينل، فماذا يطلب من الله عز وجلّ؟

مثال آخر: الطالب الذي يدخل المدرسة ويطلب العلم وهدفه أن ينال الشهادة، فهو الآخر لا يستطيع أن يطلب من الله تعالي شيئاً لقاء طلبه العلم، لأنّه لم يطلبه لله، بل للشهادة.

مثال آخر: الكريم الذي يبتغي الشهرة والذكر الحسن من وراء كرمه، لقد كان حاتم الطائي يجود حتي بلقمته للآخرين، ويروي أن زوجته واسمها ماوية لم تكن راضية علي هذا المستوي من البذل، فقال لها:

أماويّ إنّ المال غاد ورائح

ويبقي من المال الأحاديث والذكر

يريد بذلك: أنّ المال يزول ولكن الذكر الذي أحصل عليه بسبب البذل يبقي.

فإذا

فرضنا أن ذلك كان هو منطلق حاتم في كرمه، فإنّه لا يستحق علي الله تعالي في يوم القيامة شيئاً، لأنّه كان يطلب الذكر الحسن والسمعة الطيبة والشهرة وقد نالها.

إن المهم عند الله تعالي هو الدافع، إذن، قبل أن نشرع بأيّ عمل، علينا أن نفكر أوّلاً ما هو دافعنا للقيام بذلك العمل؟

الفرق بين الدافعين الأخيرين، وتوضيحهما بالأمثلة

الدافع الثاني كما ذكرنا آنفاً هو أن يعمل الإنسان للآخرة، أي طمعاً في الجنة أو خوفاً من النار، وخوف العقوبة أشد تأثيراً غالباً من الرغبة في الثواب، ولعله لذلك كان الإنذار مقدماً علي التبشير في القرآن الكريم، ولذلك أيضاً نري كثيراً من الناس لا يعملون المستحبات حتي الأكيدة رغم ما فيها من عظيم الثواب، وذلك بخلاف الواجبات، مثلاً: يستيقظ المتدينون عادة لصلاة الصبح لأنهم يعلمون أن في تركها العقوبة بخلاف صلاة الليل فإن الأكثرية ربما يتركونها رغم ما فيها من الثواب الجزيل، إذ لا عقوبة في تركها.

وعلي كل حال فالباعث والمحرك في هذا القسم هو أخروي ويتمثل بالخوف من النار أو الطمع في الجنة. وقد يبدو هذا الباعث لأوّل وهلة أرفع البواعث، ولا شكّ أنّه باعث رفيع خلافاً للأوّل، ولكن قبل أن نبيّن رأينا في الموضوع لنستمع إلي سيدنا ومولانا الإمام أمير المؤمنينعليه السلام في تقييمه لهذا الباعث؛ يقولعليه السلام «إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار».

لا شكّ أنّه يجب أن نخاف من النار وأن نطمع في الجنة، ولكن العبادة لأجل الخوف والطمع هي عبادة التجار والعبيد لا عبادة الأحرار كما قال أمير المؤمنينعليه السلام فالعبد يخوّفه المولي بالعصا أو يطمعه في الأجر فيطيع ويعمل.

ولا بأس أن

نذكر الشاهد التالي: إن من الأمور المجربة: أنّ مَن كان في بدنه ألم فليسجد سجدتين شكراً لله تعالي بعد الانتهاء من الفريضة ثم ليمسح يده بعد ذلك علي موضع سجوده ثم يمسح بها موضع الألم، فإنّه يبرأ بإذن الله تعالي.

يقول أحد الإخوة وهذه التفاتة لطيفة منه: إني عندما أسجد هاتين السجدتين أشعر بالخجل من الله تعالي، فإنّني أحس أنّ هذا نوع من المقايضة والمعاملة التجارية، لأنّي أتيت بالسجدتين مقابل رفع الألم؛ ولذلك فإنّي أسجد سجدة ثالثة لتكون لله تعالي وليس لرفع الألم وما أشبه.

شاهد ثان: قد يذهب بعض المؤمنين إلي حرم السيدة فاطمة المعصومة? لمشكلة يريد الخلاص منها مستشفعاً بهذه السيدة العظيمة، وهذا شيء جيد ولا بأس به، ولكنه يمثّل مرتبة دنيا، وعلينا دائماً أن نسعي لأن نكون في حالة ارتفاع وارتقاء لنصل إلي المراتب العليا، فلنذهب بعض الأيام إلي حرم السيدة المعصومة? ليس لقضاء حوائجنا الدنيوية وإنما لأنّها جديرة باحترامنا.

إذا ابتُلي أحدنا بمشكلة أو مصيبة فليتضرع إلي الله ويدعوه، فهذا أمر حسن والله تعالي يقول: ?فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ?، ولكن ثمة مرتبة أعلي وهي أن ندعو الله تعالي ونبكي ونتضرع إليه ونناجيه بأنواع الدعوات كدعاء كميل مثلاً ليس لأنّ ضغط الحاجة يدفعنا، بل لأنّ الله تعالي أهل للعبادة.

دافع الإمام الحسينعليه السلام للتضحية

هذه الفقرة التي قرأناها في زيارة الأربعين وهي «بذل» الحسينعليه السلام «مهجته» في الله تعالي، تعني أنّ تضحية الإمام الحسينعليه السلام العظيمة لم تكن من أجل الجنة بل كانت من أجل الله تعالي، أجل إنّ الإمام الحسينعليه السلام يحب الجنة وكلنا نحب الجنة، ولكن تضحيات الإمام الحسينعليه السلام كانت «لله» تعالي، وكما قال أمير المؤمنينعليه السلام مخاطباً ربه: «ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك».

فشتان مثلاً بين

ولد يذهب لزيارة والده ويقبّل يده طمعاً في ما قد يحصل عليه من النقود، وولد يقوم بذلك العمل لأنّه يري أنّ مقام الأب يقتضي ذلك، وشتان بين أن تعود شخصاً وتزوره لطمع في أمواله مثلاً، وأن تزوره بسبب ما يستحقه من احترام وتقدير.

لقد بكي النبي شعيب (علي نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام) حتي ابيضت عيناه، وعندما سأله الله سبحانه عن سبب بكائه قال: أبكي حباً لك، فشتان بين بكاء شعيبعليه السلام وبكائنا نحن!

يقول الشاعر مخاطباً الإمام الحسينعليه السلام:

تبكيك عيني لا لأجل مثوبة

لكنّما عيني لأجلك باكية

فلنصلّ أحياناً بعض الركعات المستحبة لله تعالي، لكونه أهلاً للعبادة، كما نصلّي للحاجة، فإنّ للصلاة إعظاماً لله ومن دون وجود حاجة تدفعنا إلي ذلك قيمة كبيرة عند الله تعالي.

المبحث الثاني: نهضة الحسين عليه السلام من أفضل سبل الإنقاذ

المبحث الثاني: نهضة الحسين عليه السلام من أفضل سبل الإنقاذ

لقد ورد في النص أيضاً:

«ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة».

وهذا الاستنقاذ له مجالان:

المجال الأوّل: الاستنقاذ في الإطار الخاص

وأعني به إنقاذ أبنائنا وبناتنا من الأخطار التي تداهمهم في هذا العصر، ومن أفضل الوسائل لهذا الإنقاذ مجالس سيد الشهداءعليه السلام والشعائر الحسينية، فإنْ نحن وضعنا أنفسنا وأولادنا وعوائلنا في أجواء هذه المجالس والشعائر الحسينية فإنّها ستكون من أفضل الضمانات لإنقاذهم ونجاتهم، أما إذا لم نهتم بهذا الأمر فإنّ الابن قد يشكّل خطراً علي أبيه وعلي العائلة والمجتمع، ولنا عبرة في هذه القصة التي حدثت في إحدي البلاد العربية، ولعل مضمونها التقريبي:

إنّ رجلاً سحب أمواله من المصرف وعاد إلي البيت، ولما جن عليه الليل وإذا بشخصين ملثمين مسلّحين (أو أكثر) دخلا عليه وأمراه أن يسلّمهما المال وإلاّ قتلاه.

تحير الرجل وفكر في طريقة للتخلص منهما وعدم التفريط بالمال، فقال لهما: إنّ المال في الغرفة المجاورة اسمحا لي لآتيكما به. وخرج الرجل ثم عاد إليهما من باب آخر وهو يحمل سلاحه الناري ويده علي الزناد، فأطلق عليهما النار وأرداهما في الحال قتيلين، وعندما أماط لثامهما اكتشف أنّ أحدهما ابنه والآخر ابن أخيه.

تصوّروا خطورة الموقف وما آلت إليه مجتمعاتنا! لقد صار الابن يهدد أباه ويحاول نهبه!! يا له من خطر كبير! فإذا لم يهتم الآباء والأمهات بهذا الجانب فسيصبح الجيل الجديد في خطر.

أما الذين عاشوا مع سيد الشهداءعليه السلام ونشأوا في مجالسه يحزنون لمصابه ويلطمون صدورهم عليه ويشتركون في مواكب عزائه، فقد حصلوا علي ضمانة لنجاتهم بإذن الله تعالي، وإذا كانت في حياتهم بعض اللمم، فإنّ سيد الشهداء سيهديهم إلي الله تعالي في نهاية الأمر إن شاء الله تعالي، وما أكثر الموالين الذين استقاموا في حياتهم ببركة سيد الشهداءعليه السلام.

المجال الثاني: الإنقاذ في الإطار العام

لو كنا نعرف قيمة سيد الشهداءعليه السلام حقاً لاستطعنا أن ننقذ العالَم كله بإذن الله تعالي، فإنّ القدرة

الموجودة في نهضة سيد الشهداءعليه السلام بإمكانها أن تنقذ جميع العباد والبلاد؛ لما فيها من جاذبية عجيبة، ولما انفردت به من البطولات.

يقول أحد الغربيين: لقد قرأت تاريخ الحروب المدوّنة كلها فلم أجد فيها من بدايتها إلي نهايتها موقفاً لقائد يشبه موقف الحر الرياحي، راجعوا التاريخ كله، هل تجدون قائداً ينتقل من الطرف الأقوي إلي الطرف الأضعف من الناحية العسكرية مضحياً بمنصبه وهو يعلم أنّ مصيره القتل حتماً؟!!

إنّ قضية كربلاء مشحونة بالبطولات العظيمة وقد اشترك فيها الرجال والنساء والأطفال والشيوخ والشباب والأحرار والعبيد … ولذلك فهي مؤثرة في كل شرائح المجتمع.

إنّ انتشار التشيّع في العراق رهين لنهضة سيد الشهداءعليه السلام، لقد فكّر أحد علماء العراق في استقطاب الشعب العراقي إلي خط أهل البيتعليهم السلام، فوجد أنّ أفضل طريقة هي نهضة الإمام الحسينعليه السلام، فكان هذا العالِم يذهب إلي المدن والقري ويذكر لأهاليها قصص وبطولات كربلاء وما تحفل به من البطولات والمآسي حتي استطاع أن يهدي حوالي مئة ألف إنسان إلي التشيّع.

في بلد آخر كان عدد الموالين لأهل البيتعليهم السلام لا يزيد علي عشرة ملايين نسمة، ولكن ببركة المجالس الحسينية اهتدي إلي خط أهل البيتعليهم السلام الكثير من السكان حتي بلغ عدد الموالين ثلاثين مليون نسمة كما نقل بعض العلماء من سكنة ذلك البلد وهذا الأمر أرّق أعداء آل البيت فاجتمعوا وفكّروا في الوقوف في وجه هذه الظاهرة وهذا الموج الحسيني الهادر الذي لو قدّر له أن يسري لاهتدي كل أهل البلد أو معظمهم بفضل قضية سيد الشهداءعليه السلام وما تحظي به من جاذبية.

مجالس الإمام الحسينعليه السلام من الباقيات الصالحات

إذن ينبغي علينا أن نساهم بمقدار إمكاناتنا في هذا المجال، فهي من أعظم الباقيات الصالحات، يقال إنه كان هناك رجل من الأعيان في

إيران يقال له فرهاد ميرزا، اجتمع الأعيان مرة وبدأ كل منهم يعدد ما يملك من عقارات وأراض وأرصدة وأموال في المصارف والبنوك، ولكن فرهاد ميرزا لم يقل شيئاً، فقالوا له: وأنت يا فرهاد لم تخبرنا عما تملك؟

«فقال: دعوني من ذلك. ولما ألحّوا عليه قال: إنّ لي رصيدين في بنكين: الأول: كتاب «القمقام» في (بنك سيد الشهداءعليه السلام) والثاني: بناء الصحن في (بنك الإمامين الكاظمين?)».

لقد ذهبت أرصدة أولئك الأعيان كلها وبقي رصيدا فرهاد ميرزا، فقد ادّخرهما في حساب مصرفي مسجل لدي الإمام الحسين والإمامين الكاظمين?.

وبعد أيام قلائل لا يبقي أيّ منا علي قيد الحياة وتذهب كل أموالنا، ولا تبقي منا إلاّ الأعمال الصالحة، فلنبادر إلي الإكثار منها، ومنها المشاركة في مجالس وشعائر أبي عبد الله الحسينعليه السلام.

لا ينفع في الآخرة عمل مثل ما تنفع الشعائر الحسينية

وقد نقل لي أحد الأخوة المؤمنين أنّه رأي السيد الوالدرحمة الله عليه في عالم الرؤيا فقال له:

«قل لأولادي وأحبائي إنّه لا ينفع هنا في عالَم القبر إلاّ الحسينعليه السلام، ثم ذهب وعاد وكرر عليه القول مرة ثانية.

ثم ذهب وعاد وقال مرة ثالثة: قل لأولادي وأحبائي لا ينفعكم هنا إلاّ الحسينعليه السلام».

وهناك رؤية مشابهة للعلاّمة الحليرحمة الله عليه، فقد رؤي في عالَم المنام

يقول لولده:

«لولا كتاب الألفين (وهو كتاب في الدفاع عن الإمام أمير المؤمنينعليه السلام) وزيارة الحسينعليه السلام، لكان (كذا)».

أيها الأخوة، ستزول المظاهر التي نراها بعد أيام ويتحول هذا الوجود الحي المتحرك النابض إلي اسم علي شاهد قبر، ولنعلم أنّ «اليوم عمل ولا حساب وإن غداً حساب ولا عمل».

وإنّ هذه الأعمال، وهذه الدموع، وهذه المجالس، وهذه الشعائر هي التي ستبقي لنا، فلو أنّ أحدنا استطاع أن يساهم ببناء حسينية أو إقامة مجلس أو نحو ذلك، فلا يقصر فهي من الباقيات

الصالحات له.

نسأل الله تعالي أن لا يحرمنا من هذا التوفيق العظيم، توفيق إقامة مجالس وشعائر أبي عبد الله الحسينعليه السلام.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين

الامام السجّاد عليه السلام … عصره و دوره

الامام السجّاد عليه السلام … عصره و دوره

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي قيام يوم الدين

مقدّمة

نتناول في حديثنا هذا طبيعة العصر الذي عاش فيه الإمام السجّادعليه السلام أوّلاً، ودورهعليه السلام في هداية الأمّة وتوجيهها ثانياً.

أما بالنسبة إلي الموضوع الأول فلقد شهد عصر الإمام السجادعليه السلام مجموعة من الأزمات الحادّة في مختلف المجالات، ولكننا سنتعرض في حديثنا هذا بإذن الله تعالي إلي نوعين منها وهما: الأزمة الفكرية والأزمة الأخلاقية.

أ الأزمة الفكرية وأسبابها

أ الأزمة الفكرية وأسبابها

أما الأزمة الفكرية أو الثقافية فمنشؤها عاملان:

العامل الأول: الانفتاح علي ثقافات الأمم الأخري

وهذه الأزمة تهدّد كلّ عملية انفتاح، إن لم يكن مخططاً لها من قبل. ولو نظرتم إلي أكثر بلادنا الإسلامية اليوم لرأيتم آثار الانفتاح علي الثقافات الأخري كالثقافة الغربية، ومن الواضح أنّ الحضارات الأخري تمتلك منظومة فكرية مختلفة عن منظومتنا الفكرية، مثلاً: حجاب المرأة لا معني له في حضارة الغرب، بل ربّما لا تمثّل العفة أساساً قيمة حضارية عند الكثير منهم.

وعندما تلتقي حضارتان وتنفتح إحداهما علي الأخري، فإن المنظومة الفكرية والثقافية للحضارة الأقوي تؤثّر علي المنظومة الفكرية والثقافية للحضارة الأضعف.

ونحن نعتقد أن المنظومة الفكرية للإسلام هي أقوي المنظومات الفكرية، وبالتالي فإن الفرد الذي يستوعبها لا يخافُ عليه من التأثّر أو الذوبان، وإن عاش في قلب الثقافات الأخري، لأن ثقافته هي الأعلي.

بيد أن الثقافة الإسلامية وإن كانت أقوي الثقافات ولعلّ هذه القوة من مصاديق قوله تعالي: (وأنتم الأعلون) لم يُتح المجال لها كي تُبَيّن بالشكل الكافي وتنتشر. ولو راجعنا التاريخ الإسلامي لرأينا أن النبيعليه السلام كان في مكة يعيش الضغوط الكبيرة، وكان في المدينة يخوض الحروب الدفاعية، والإمام أمير المؤمنينعليه السلام كان يعيش حالة الإقصاء قبل الخلافة الظاهرية، حتي إذا آل إليه الأمر أثاروا في وجهه الفتن والحروب والمشاكل الداخلية، حتي قال أحد الغربيين:

«يجب أن نصنع لمعاوية تمثالاً من ذهب لأنه وقف في وجه تقدّم الإسلام علي يد عليّ بن أبي طالب!»

وهكذا الحال مع الإمام الحسن والإمام الحسين وكثير من الأئمة الآخرينعليهم السلام.

وهذا معناه أن الأمة لم تحصل علي المناعة الفكرية الكافية، ولذلك عاشت خطراً فكرياً وثقافياً هائلاً عندما انفتحت علي الثقافات الأخري، فوفدت إليها الأفكار الجبرية والقدرية وأفكار الفلسفة اليونانية فأثّرت فيها تأثيراً سلبياً.

هل لاحظتم المصاب بمرض فقدان المناعة؟

إنه يُسقطه أضعف ميكروب، وقد يصيبه زكام خفيف فيقتله؛ ولذلك يُحَجر عليه لئلا تنتقل العدوي من الآخرين إليه، فهكذا هي حال الأمة التي تلتقي بثقافات أخري وهي فاقدة للمناعة. أما إذا كانت محصّنة فلا يكون ثمّة خطر عليها حينئذ.

العامل الثاني: عملية التضليل أو غسيل الدماغ

وهذا ما قامت به السلطات الحاكمة، فمعاوية ومن سبقه ومن تلاه كوّنوا جهازاً لصنع الثقافة المضللة للأمة.

وقد روي في التأريخ أن أهل الشام ما كانوا يعرفون للنبيعليه السلام قرابة وأهل بيت غير بني أمية! ولذلك أوصي معاوية ولده يزيد بثلاث وصايا؛ إحداها تتعلق بأهل الشام قال له فيها:

«أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن نابك شيء من عدوّك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلي بلادهم فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم».

ولغسيل الدماغ طرق كثيرة منها عزل الفرد، والحيلولة دون وصول المعلومات الصحيحة إليه، وهذا ما قام به معاوية بن أبي سفيان وأمثاله.

ومن هنا كان بعض أهل الشام يعتقدون أنّ الإمام أمير المؤمنين (علي بن أبي طالبعليه السلام) كافر، والعياذ بالله! وكان معاوية ينشر بين أهل الشام أنّ عليّاً لا يصلّي!.

مثال علي التضليل الفكري في واقعنا الراهن

واليوم نري بعض الأفراد يقومون بعمليات انتحارية وهم يستهدفون قتل المسلمين والناس الأبرياء بما فيهم الأطفال والنساء، ويظنّون أنهم يتقرّبون بذلك إلي الله سبحانه! إنه مثال واضح علي استخدام أساليب غسيل المخ عبر عزل الأفراد وتزريقهم بأفكار متطرّفة، ومنعهم من الاحتكاك بالآخرين؛ وإلا كيف يمكن لإنسان أن يقوم بعملية انتحارية يقتل فيها نفسه والناس الأبرياء العزّل ظلماً وعدواناً فيخسر آخرته ودنياه إن لم يكن مضللاً تضليلاً مركّزاً.

وما أشبه الليلة بالبارحة! فآباء القوم كانوا يتقرّبون أمس إلي الله بقتل سبط الرسولعليه السلام وسبي أهل بيته ونسائه، ويأسف الأحفاد اليوم علي أنهم فاتهم ذلك، فيسرعون إلي توجيه نيران حقدهم إلي مضجعه الشريف ومحبّيه وزواره!!

ب الأزمة الروحية أو الأخلاقية

ب الأزمة الروحية أو الأخلاقية

المشكلة الثانية التي شهدها عهد الإمام زين العابدينعليه السلام هي المشكلة الأخلاقية. وواضح منشأ هذه المشكلة، فإنه إذا كان يتربع علي قمّة الحكم الإسلامي شخص مثل يزيد بن معاوية ومروان بن الحكم، فماذا ستتوقّع من القاعدة وما بالك بالمجتمع؟ وإذا كان ربّ البيت بالدف ناقراً، فماذا ستكون شيمة أهل ذلك البيت؟

لنلاحظ الانحطاط الخلقي عند هذا الحاكم الذي يجلس في مكان رسول اللهعليه السلام، والذي يُفترض فيه أن يكون قمّة في الأخلاق والدين لندرك عمق الفاجعة ونعرف طبيعة الأزمة الأخلاقية في عهد الإمام زين العابدينعليه السلام؛ ولنفهم معني قول الإمام الحسينعليه السلام لمعاوية: «دَعه أي يزيد وما رضي لنفسه» من اللعب بالقرود والفهود ومعاقرة الخمور ودَعِ الأمة وشأنها!

وكان يزيد فيما أجمع عليه المؤرّخون ولِعاً بالقرود، فكان له قرد يجعله بين يديه ويكنّيه بأبي قيس، ويسقيه فضل كأسه، ويقول: هذا شيخ من بني إسرائيل أصابته خطيئة فمُسخ، وكان يحمله علي أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلبة السباق، فحمله يوماً فسبق الخيل فسرّ بذلك وجعل

يقول:

تمسّك أبا قيس بفضل زمامها

فليس عليها إن سقطت ضمان

وأرسله مرّة في حلبة السباق فطرحته الريح فمات، فحزن عليه حزناً شديداً وأمر بتكفينه ودفنه، كما أمر أهل الشام أن يعزّوه بمصابه الأليم!

وكذلك عملوا، فكانوا يأتون زرافات لتعزيته فيه!!

فإذا كان هذا وضع الحاكم الذي يمثّل الأب والقائد في المجتمع، فكيف سيكون حال غيره؟

إذا كان الأب في البيت مثلاً يشاهد الأفلام الخليعة أمام أولاده، فماذا تتوقع من الأولاد؟ إنّ هذا الواقع الفاسد في القمة خلق انهياراً أخلاقياً مريعاً في القاعدة.. وكان من نتائج ذلك قتل ابن بنت رسول اللهعليه السلام وحبيبه.

راجعوا كتاب (الأغاني) وانظروا كيف كان يعيش المجتمع آنذاك؟ إن عنوان الكتاب ويقع في مجلّدات هو خير تعبير عن تلك الفترة، فالأغاني جمع غناء وتعني اللهو والعبث والمجون!

ويذكر بعض المؤرّخين أنه ظهرت في تلك الفترة عصابات اختطاف الفتيات، حتي في وضح النهار، وكانوا يتحدّون المجتمع ويقولون للمرأة اصرخي ثلاثاً فإن جاء شخص لنجدتك تركناك وإلا فلا. ولم يكن يجرؤ أحد للوقوف في وجههم وإغاثة المرأة إلا أن تكون وراء المرأة عشيرة قوية مرهوبة الجانب! هكذا كان وضع البصرة في عهد زياد أو ابن زياد.

وكانت هذه لمحة موجزة عن الأزمة الثقافية والأخلاقية التي شهدها عهد الإمامعليه السلام، وننتقل إلي الموضوع الثاني وهو:

أدوار الإمام السجّادعليه السلام

في ظلّ الواقع والأزمات التي أشرنا إلي نموذجين منها، كان الإمام أمام عملية تغيير جذرية؛ ذلك أن الفرد قد يتّجه في عملية التغيير إلي البني الفوقية لتغييرها، إلا أنّها عملية غير ممكنة، ولو فرضنا أنها ممكنة فإنها لا تدوم.

هب أنك جئت إلي مجتمع وأحدثت فيه انقلاباً وغيّرت كل بناه الفوقية، ألا تحتاج إلي أيد وإلي موظفين ووزارات؟! فإذا كانت كل هذه التركيبة فاسدة فكيف ستتمكن أن تعمل

في مجتمع كهذا؟

لقد ارتقي معاوية الثاني (وهو معاوية بن يزيد) المنبر وتبرّأ من أبيه وجدّه وقال:

«إنهما كانا غاصبَين للخلافة وإن الأحقّ بها اليوم عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالبعليهم السلام!)».

فلنفرض أنّ الإمام السجّادعليه السلام أصبح هو الحاكم، فما الذي يمكن حسب المقاييس الظاهرية فعله وجميع أفراد الجهاز الحاكم فاسدون والمجتمع منهار؟ انّ مجتمعاً يقتل الإمام الحسينعليه السلام لهو مجتمع منهار وفاسد فكرياً وأخلاقياً ودينياً وعقائدياً، فكيف تقوده من فوق بل لابد من العمل معه من الأساس.

لقد قام العباسيون بثورة أطاحوا فيها حكم الأمويين، فما الذي تغيّر إلا الأشخاص؟! لقد حلّ فرد عباسيّ محلّ فرد أمويّ في الحكم، فماذا كانت النتيجة؟ لقد فعل العباسيون مثل ما فعل أسلافهم، بل قال الشاعر:

تالله ما فعلت أمية فيهم

معشار ما فعلت بنو العباس

ولقد كتب أبو سلمة الخلال للإمام الصادقعليه السلام وعرض عليه الحكم فرفض ولعل ذلك لأنّهعليه السلام لم يشأ تبديل أشخاص مكان أشخاص بل كان يريد تغيير المجتمع.

ومن هنا لجأ الإمام السجادعليه السلام إلي البني التحتية في المجتمع، ليس مجتمعه الذي كان يعاصره فحسب بل كلّ المجتمعات التي تلته إلي يومنا هذا! إن الإمام السجادعليه السلام لم يغيّر ذلك المجتمع فحسب بل غيّر المجتمعات المتعاقبة إلي هذا اليوم، فماذا فعل الإمام السجّادعليه السلام؟

1 بناء الامة فكرياً

وفي هذا المجال يذكر المؤرخون أنه كانت للإمام السجادعليه السلام حلقة درس في مسجد النبيعليه السلام يلقي فيها كل يوم معارف أهل البيتعليهم السلام في الفقه والتفسير والحديث، وكان الجمهور الأعظم من القرّاء (أي حملة القرآن والحديث) تلاميذ الإمام زين العابدينعليه السلام. ولا يخفي ما كان للقرّاء من أهمّية في ذلك المجتمع، فكان العمل معهم يعني العمل مع قطاعات واسعة من المجتمع.

يقول سعيد بن

المسيب:

«لم يكن القرّاء يخرجون من مكة ما دام الامام السجادعليه السلام فيها وقال: بقينا مع الإمام السجّادعليه السلام لم نخرج حتي خرج، وكنّا ألف رجل».

والرواية التالية تبيّن مظهراً آخر من مظاهر البناء الفكري للأمّة:

جاء شيخ شاميّ ودنا من نساء الحسينعليه السلام وعياله وهم في الأسر فقال: الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وأراح البلاد عن رجالكم، وأمكن أمير المؤمنين منكم. فقال له علي بن الحسينعليه السلام: يا شيخ هل قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل عرفت هذه الآية: ?لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي?؟ قال الشيخ: نعم، قد قرأت ذلك. فقال عليعليه السلام له: فنحن القربي يا شيخ، فهل قرأت ?وَآتِ ذَا الْقُرْبَي حَقَّهُ? فقال الشيخ: قد قرأت، فقال عليّ بن الحسين: فنحن القربي يا شيخ، فهل قرأت هذه الآية: ?وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي?؟ قال: نعم، فقال له عليّعليه السلام: فنحن القربي يا شيخ، فهل قرأت هذه الآية: ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا? قال الشيخ: قد قرأت ذلك، فقال عليّ عليه السلام: فنحن أهل البيت الذي خصّنا الله بآية الطهارة يا شيخ.

قال الراوي: فبقي الشيخ ساكتاً نادماً علي ما تكلّم به وقال: بالله إنكم هم؟ فقال: عليّ بن الحسين?: تالله إنّا لنحن هم من غير شكّ وحقّ جدّنا رسول اللهعليه السلام. فبكي الشيخ ورمي عمامته ثم رفع رأسه إلي السماء وقال: اللهم إنا نبرأ إليك من عدوّ آل محمدعليه السلام من جنّ وإنس. ثم قال: هل لي توبة؟ فقال له: نعم إن تبت تاب الله عليك وأنت معنا، فقال: أنا تائب. فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ فأمر به فقُتل.

2 البناء الأخلاقي للأمة

وفي هذا

المجال أيضاً لم يقتصر دور الإمامعليه السلام علي عصره، بل ما زال دوره فاعلاً إلي الآن بما خلّفه من الآثار الروحية والخلقية مثل دعاء مكارم الأخلاق الذي يمثّل مدرسة أخلاقية للأجيال المتعاقبة.

إن هذا الدعاء العظيم ما زال في حالة بناء أخلاقي للأمة منذ أكثر من ألف عام وسيستمرّ علي ذلك إلي انقضاء الدنيا باذن الله تعالي.

وهكذا الحال مع الأدعية التربوية الأخري مثل دعاء أبي حمزة الثمالي وغيره من الأدعية.

وهذه الآثار ثروة نملكها نحن ولا يملك مثلها الآخرون، وإني أتصوّر أنها لو عُرضت علي العالم فإن مجرّد سماعها سيدفع الكثير من الأفراد نحو الاتجاه إلي مذهب أهل البيتعليهم السلام ومن تلك الآثار أدعية الصحيفة السجادية الأولي، وأدعية الصحيفة السجادية الجامعة التي طُبعت حديثاً في أكثر من ثمانمئة صفحة وتضمّ مئتين وسبعين دعاءً من أدعية الإمام السجادعليه السلام، ورسالة الحقوق التي تعدّ هي الأخري مفخرة لنا نحن الشيعة.

لقد طرح الإمامعليه السلام هذه الوثيقة التي تعدد الحقوق الفردية والاجتماعية، من قبيل: حقّ السلطان علي الرعية، وحقّ الرعية علي السلطان، وحقّ المولي علي العبد، وحقّ العبد علي المولي، وحقّ الأولاد والآباء والتلاميذ والأساتذة والمربّين و …، كلّ ذلك في عصر لم يكن فيه معني لكثير من هذه الحقوق؟!

إن العالم اليوم يتحدّث صباح مساء باسم حقوق الإنسان، وحضارات الغرب بنت إعلامها علي التظاهر بالدفاع عن حقوق الإنسان، إلا أنهم لم يبلغوا معشار ما ذكره الإمام السجادعليه السلام الذي طرح هذه الرسالة في عصر كان الحكّام يتعاملون فيه مع الناس علي أنهم عبيد لهم يباعون ويشترون!

وعلي كل حال: فإنّ البناء الفكري والثقافي وكذلك الروحي والأخلاقي للإمام السجّاد ولسائر الأئمة المعصومينعليهم السلام لم يكن محصوراً بزمن معيّن أو بقعة جغرافية محددة. وهذا

هو إحدي الأجوبة علي من يستشكل علي أمير المؤمنينعليه السلام بأنه لِم لم يقم بالعمل الكذائي، أو يستشكل علي الإمام السجادعليه السلام بأنه لِم لم يقبل الحكم!

لو كان أمير المؤمنينعليه السلام يشتري الضمائر بالأموال ويفعل كما فعل معاوية لما عاد عليّ علياًعليه السلامولما كنّا نملك اليوم هذا النموذج التاريخي المشرق والبنّاء في صناعة الأمة ثقافياً وفكرياً وروحياً ونفسياً.

كان أحد العلماء يقول:

«إذا ذهبتَ إلي قرية ولاحظت أن أهلها متديّنون متخلّقون بأخلاق الأنبياءعليهم السلام فاعلم أنه كان يقيم بين ظهرانيهم في برهة من الزمن رجل دين متديّن حتماً، لأن رجل الدين المتديّن له إشعاع ولو لم ينطق حتي بكلمة واحدة!

ويضيف العالم: وإذا ذهبتَ إلي قرية وشاهدت أن أفرادها عادّيون فهذا معناه أنهم حُرموا من مثل هذا الرجل المتدين المتخلّق بأخلاق الأنبياءعليهم السلام!»

إننا لو شاهدنا عالماً يحمل مسحة من تلك الأنوار القدسية فإنّنا نتأثّر به، فكيف بمن شاهدوا الإمام السجادعليه السلام؟

إن قضية المربّي مهمة جداً، ويجب أن نبحث عن المربّي في كلّ ميدان، لأنّ الفرد الذي له مربّ في الفقه مثلاً ليس كمن لا مربّي له، وهكذا الحال في الخطابة وغيرها؛ فكيف بالأخلاق؟!

نموذج من أخلاق الإمام السجادعليه السلام

قال رجل من ولد عمار بن ياسر: كان عند عليّ بن الحسينعليه السلام قوم، فاستعجل خادماً له، فأخرج شواء من التنور، وأقبل الخادم عجلاً وبيده السفود وبين يدي عليّعليه السلام ولد له صغير، فسقط السفود علي الصغير، فنشّ ومات، فبهت الخادم، فنظر إليه عليّعليه السلام وقال: أنت لم تتعمد هذا، أنت حرّ لوجه الله تعالي. ثم أمر بمواراة الولد.

إن التشيع الذي انتشر في شرق الدنيا وغربها انتشر عبر هؤلاء الأفراد الذين قام الإمام السجادعليه السلام ببنائهم وأمثالهم ليس في الظرف الزماني والمكاني المحددين (في المدينة

وفي عصرهعليه السلام) بل علي امتداد العهود والدهور والبقاع، ونحن اليوم ينبغي لنا ونحن نعيش هذه التحدّيات الكبري أن نفكّر في البناء الثقافي والروحي والنفسي للأمّة كما نفكّر في سائر الأبعاد، فإنه عمل باق علي امتداد العصور بإذن الله تعالي.

3 دور الإمام في إبقاء النهضة الحسينية

وكان للإمام السجادعليه السلام دور فاعل ومهمّ جداً في إبقاء نهضة سيّدالشّهداء الإمام الحسينعليه السلام، وهذا من أكبر أدوار الإمام السجادعليه السلام.

لقد حاولت الحكومة الأموية أن تتملّص من مسؤولية قتل الإمام الحسينعليه السلام بالقول إنه خطأ فرديّ ألصقته بأحد أعوانها لتنتهي القضية عند هذا الحدّ.

وهنالك مسألة أخري عجيبة ذكرها التاريخ وهي أن فئة وُجدت تعتقد أن الإمام الحسينعليه السلام لم يُقتل وإنما رُفع إلي السماء كالمسيح ابن مريم?.

ربما كان هذا التفسير منشؤه عظم الفادحة، وربما كانت القضية متعمّدة ويراد منها محو قضية الإمامعليه السلام من الأذهان.

إحدي الأمور المهمّة التي قام بها الإمام السجادعليه السلام، أنه أبقي هذه النهضة، ولقد ساهم جميع أئمة أهل البيت عليهم السلام بعد الإمام السجّادعليه السلام في إبقاء النهضة الحسينية بكلّ صورة.

وحتي خاتم الإمام السجادعليه السلام نفسه كان في صراط إبقاء قضية الإمام الحسينعليه السلام، فقد كُتب عليه: خزي وشقي قاتل الحسين بن علي.

وهذا الإبقاء للنهضة الحسينية قام به الإمامعليه السلام أيضاً عندما قرأ المصيبة لجابر فقال: ياجابر ههنا والله قُتل رجالنا.

وهناك أمثلة كثيرة علي هذا الموضوع مثل قضية الجزار الذي سأله الإمامعليه السلام إن كان قد سقي الجزور ماءً، ورواية أنه لم يوضع أمام الإمامعليه السلامطعام أو شراب إلا ومزجه بدموع عينيه، فهذه كلّها من مفردات قضية «الإبقاء».

وفي الجانب المعاكس نجد أعداء أهل البيت الذين حاولوا ولازالوا يحاولون محو هذه القضية عبر أساليب شتي ومنها التخويف والإرهاب، وربما كانت هذه

الانفجارات الأخيرة في المناطق المقدسة تصبّ في هذا الهدف، فهم ينوون تخويف الزوار حتي لا يأتوا للزيارة، ناسين أن شيعة أهل البيتعليهم السلام أثبتوا أنهم لا يتركون خطّهم لمحاولات التخويف والإرهاب.

وقد كان هذا هو ديدن الحكام الظالمين، فإنّهم عندما يصلون إلي الحكم يتعرّضون قبل كلّ شيء لقضية الإمام الحسينعليه السلام. فالبهلوي الذي كان عميلاً استعمارياً من اوائل ما عمله ضدّ الإسلام أنه بدأ بمحاربة الإمام الحسينعليه السلاموشعائره، فمنع التطبير أوّلاً بحجة أنه عمل وحشيّ لا ينسجم مع قيم التمدّن والحضارة، وفي خطوة لاحقة منع مواكب التمثيل (التشبيه)، إلي أن آل به الأمر إلي منع مجالس العزاء حتي في يوم عاشوراء، بل كان يشجّع علي إقامة احتفالات الفرح فيه. بعد ذلك انتقل إلي التعرّض لفروع الدين فمنع الحجاب للنساء والعمامة للرجال، وأمر بلبس القبعات الافرنجية، وبدّل قوانين الأحوال الشخصية … ولكن البداية كانت قضية الإمام الحسينعليه السلام.

الانطلاق من قضية الإمام الحسينعليه السلام

ونحن بدورنا إذا أردنا أن نعمل للدين فعلينا أن نبدأ بقضية الإمام الحسينعليه السلام. إن البداية هي قضية الإمام الحسينعليه السلام سلباً أو إيجاباً، لأن إحياء قضية الإمام الحسينعليه السلام إحياء للقيم كلها وإماتتها إماتة للقيم كلها.

علينا أن نحاول بكلّ وسيلة أن نحيي قضية الإمام الحسينعليه السلام، فمن يمكنه الذهاب لزيارة الإمام في مناسبة الأربعين فليذهب، ومن لا يتمكن ليحثّ القادرين علي الذهاب بلسانه وماله. وهكذا بالنسبة إلي سائر الأعمال فإن المطلوب منّا جميعاً أن نبذل ما بوسعنا، وأذكر لكم النموذج التالي لنعرف أن كلّ فرد يستطيع أن يقدّم خدمة ما في هذا الطريق.

في منطقة تقع شمال إحدي البلاد الغربية حلّ رجل هندي قبل 45 عاماً تقريباً وجاءتْ أيام عاشوراء ففكّر فيما يمكن عمله وهو في مثل هذه الأجواء

البعيدة عن الدين تماماً، فقرّر أن يقيم في بيته مأتماً للإمام الحسينعليه السلام، ولكن من أين يأتي بالمستمعين؟ لم يجد بدّاً من دعوة الهنود السيك الذين كانوا في تلك المنطقة إلي مجلسه وصار يقرأ عليهم بنفسه مصيبة الإمام الحسينعليه السلام (مع أنه لم يكن خطيباً).

بعد مرور عامين جاء رجل هندي آخر إلي نفس المنطقة، واقتربت أيام عاشوراء فقرّر أن يقيم مجلساً لأبي عبد الله الحسينعليه السلام وأخذ يقلّب دفتر أرقام الهواتف في تلك المنطقة لعلّه يجد من يعرفه فيدعوه، فوقعتْ عيناه علي اسم فيه شبه بالأسماء الشيعية، فاتّصل به ليدعوه، فقال له: يوجد في بيتي مأتم فتعال واشترك معنا. يقول الهندي الثاني: ذهبت إلي بيته أي الهندي الأول فرأيته جالساً يقرأ في كتاب وحوله مجموعة من الكفار السيك يلطمون!

قبل خمس سنوات من الآن أي بعد مرور أربعين سنة تقريباً علي ذلك المأتم قال لي ناقل القصة:

«الآن يوجد في المنطقة نفسها خمس عشرة حسينية يقيم فيها المسلمون العزاء علي الإمام الحسينعليه السلام».

إذن يتمكّن المرء أن يعمل في كلّ الظروف وفي أيّ محيط وسيثمر عمله يوماً ما بإذن الله تعالي، وينبغي أن نعلم أننا مهما قدّمنا للإمام الحسين فهو قليل، فعلينا أن نحاول إحياء قضية سيّد الشّهداءعليه السلام بكلّ صورة لأن في إحيائها إحياء الدين كلّه والقيم جميعها.

نسأل الله أن يوفّقنا لذلك.

وصلّي الله علي محمد وآله الطاهرين.

الامام المهدي عليه السلام امام الرحمة

الامام المهدي عليه السلام امام الرحمة

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي قيام يوم الدين

تحدّثنا في محاضرة سابقة عن خاتم الأنبياء محمد المصطفيعليه السلام وقلنا إنه نبي الرحمة، وفي هذه المحاضرة سنتحدث بإذن الله تعالي عن خاتم الأوصياء المهديّ المنتظرعليه السلام بصفته إمام

الرحمة، ونتناول البحث في فصلين:

الفصل الأول:

الإمام المنتظرعليه السلام مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية، ونعرض هذا الفصل في مقامين:

المقام الأول: الإمام المنتظرعليه السلام مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية العامّة.

المقام الثاني: الإمام المنتظرعليه السلام مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية الخاصّة.

الفصل الثاني: بعض مظاهر الرحمة الإلهية الخاصة التي تجري علي يد الإمام المنتظرعليه السلام.

الفصل الأول الإمام المهدي عليه السلام مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية

الفصل الأول الإمام المهدي عليه السلام مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية

المقام الأوّل: الإمام المهدي عليه السلام مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية العامة

المقام الأوّل: الإمام المهدي عليه السلام مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية العامة

وهذا ما سنوضحه من خلال النقاط التالية:

النقطة الأولي

إن لله سبحانه وتعالي رحمة عامّة تسع جميع الموجودات بلا استثناء، وهي الرحمة التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله: ?وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ?، والشيئية تساوق الوجود كما يقول العلماء ويتفرّع علي هذه المساوقة أربع قواعد كالتالي:

القاعدة الأولي: كلّ موجود فهو شيء.

القاعدة الثانية: كلّ شيء فهو موجود.

القاعدة الثالثة: كلّ ما ليس بموجود فليس بشيء.

القاعدة الرابعة: كلّ ما ليس بشيء فليس بموجود.

فلو وضعت إصبعك علي أيّ موجود من موجودات عالم الإمكان سواء كان هذا الموجود ذهنياً أو خارجياً وسواء كان جوهراً أم عرضاً، وسواء كان موجوداً حقيقياً أم موجوداً انتزاعياً، وفي أية نشأة من نشآته كان، فهو شيء، ومن ثم لا يوجد عندنا مفهوم في العالم أوسع من مفهوم الشيء، فعندما يقول الله تعالي: ?وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ? فهذا يعني أنه لا يشذّ عن هذه الرحمة أيّ موجود من الموجودات، فما من موجود إلا وهو مشمول للرحمة الإلهية العامة.

النقطة الثانية

لقد جرت عادة الله علي أن تجري الأشياء بأسبابها، فهذه الرحمة الإلهية العامة لا تجري عادة إلا عبر أسباب، فلو أردت الدفء مثلاً فإن الله لا يمنحك الدفء عادة مباشرة بل انه تعالي جعل منابع للدفء في هذا العالم كالشمس، فيجب عليك أن تأخذه منها، وهكذا لو أردت الارتواء من العطش فإن الله لم تجر عادته علي إرواء الإنسان مباشرة، بل يجب عليك اللجوء إلي الماء فهو الذي يزيل العطش بإذن الله ومشيّته.

النقطة الثالثة

إن جميع روافد الرحمة الإلهية العامة تنتهي إلي منبع واحد هو وجود خاتم الأوصياء الإمام المهدي المنتظرعليه السلام وكلّ رافد يمثّل جانباً من جوانب الرحمة الإلهية العامة، فالشمس تمثّل جانباً والماء جانباً والهواء الذي نستنشقه يمثّل جانباً من جوانب الرحمة الإلهية العامة، ولكن هناك منبع واحد يمثّل الرحمة الإلهية العامّة الشاملة بتمام أبعادها ومظاهرها، ذلكم هو الإمام المهدي المنتظرعليه السلام، وقد روي أنهعليه السلام قال عن نفسه: «إن رحمة ربكم وسعت كل شيء وأنا تلك الرحمة».

وفي زيارة آل ياسين نخاطب الإمام المهديعليه السلام: «السلام عليك أيها الرحمة الواسعة». وفي الدعاء: «وأكمِل ذلك بابنه القائم رحمة للعالمين».

وكلمة «العالمين»: جمع «عالم» فهي تشمل عالم الإنس، والجن، والملائكة، وعالم الأجنة والنبات والحيوان …، لأن كلّ مجال يضمّ صنفاً من المخلوقات فهو عالَم.

استناداً إلي ما تقدم وإلي بعض الروايات المعتبرة الأخري، يمثّل الإمام المهديعليه السلام الرحمة التي تشمل كلّ العوالم، فما من شيء إلا وهو مشمول بها، وهوعليه السلام يمثّل المنبع الذي يمدّ جميع الروافد الخاصّة للرحمة الإلهية، ولذلك لا تجد موجوداً في هذا العالم إنساناً كان أم نباتاً أم جماداً أو ملكاً إلا وهو مشمول لهذه الرحمة التي تسع المؤمن والكافر والمنافق وجميع الكائنات، فكلّ

الكائنات إنما يجلسون علي مائدة الإمام المهديعليه السلام ويكتسبون الفيض منه بإذن الله تعالي ومشيئته.

المقام الثاني: الإمام المهدي عليه السلام مظهر الرحمة الإلهية الخاصة

المقام الثاني: الإمام المهدي عليه السلام مظهر الرحمة الإلهية الخاصة

وهذا البحث نعرض له أيضاً ضمن نقاط هي:

النقطة الأولي

إن القرآن الكريم يثبت أن وراء الرحمة الإلهية العامّة رحمة إلهية خاصّة، والرحمة الإلهية العامّة غير مقيّدة بشرط، أما الرحمة الإلهية الخاصّة فهي مقيدة ومشروطة، يقول الله تعالي في كتابه الكريم: ?فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ? ولا شك أن هذا نمط آخر من الرحمة لأن الله تعالي كتبها لطائفة خاصة، خلافاً للرحمة الإلهية العامّة التي ليست مقيّدة بشيء فشملت كلّ شيء. ويقول سبحانه: ?وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًي? فهذه الزيادة مشروطة، وهي هداية خاصة، تختلف عن الهداية العامة التي يقول الله تعالي عنها: ?رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَي كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَي?.

النقطة الثانية

كما أن للرحمة الإلهية العامة روافد، فكذلك الرحمة الإلهية الخاصة لها روافد، تبعاً للقانون الإلهي العام «إن الله تعالي أجري عادته بأن يخلق الأشياء بأسبابها».

ومن روافد الرحمة الإلهية الخاصّة المتّقون الأخيار، ومن روافدها العلماء الأبرار، ومن روافدها الملائكة المقرّبون.

[من المعضلات الفكرية التي كانت تواجه العلماء هو من أين تأتي للإنسان التصورات التي كان يفقدها مع أن «فاقد الشيء لا يعطيه»؟ وقد تكفّلت الأحاديث الشريفة المرويّة عن المعصومينعليهم السلام حلّ هذه المعضلة إذ قالت: إن الملائكة هي التي تقوم بهذا الدور حيث تلقي الأفكار والتصورات الطيبة في روع الإنسان، وكثيراً ما يتّفق أن يكون الشخص جالساً خالي البال وإذا به يلقي في روعه أن يقوم بعبادة ما أو عمل صالح لم يكن قد نبّهه إليه أحد].

النقطة الثالثة

إن المنبع الذي تنتهي إليه وتستمدّ منه جميع الروافد هو الوجود المبارك للإمام المهديعليه السلام.

وهكذا يكون الإمام المهديعليه السلام هو المنبع الذي تنتهي إليه روافد الرحمة الإلهية العامة والخاصة، فكل ما عندنا من رحمة خاصة وعامة فإنما هو ببركة وجوده الشريف.

الفصل الثاني: بعض مظاهر الرحمة الإلهية الخاصة الجارية علي يد الإمام المهدي عليه السلام

الفصل الثاني: بعض مظاهر الرحمة الإلهية الخاصة الجارية علي يد الإمام المهدي عليه السلام

ويتجلّي ذلك في مظاهر، منها:

المظهر الأول: حلّ المعضلات العلمية

لقد كان العلماء في عصر الأئمةعليهم السلام إذا واجهتهم معضلة علمية أو فكرية يلجأون إلي الأئمةعليهم السلام لحل تلك المعضلة، أما نحن الذين نعيش في عصر الغيبة فينبغي أن نوثّق علاقتنا بالإمام المهديعليه السلام ليعيننا في حلّ ما يواجهنا من معضلات، ولا فرق من هذه الجهة بين عصر الغيبة وعصر الحضور، لأن الإمامعليه السلام لم يغب عنا بل نحن الذين غبنا عنه، والإمام موجود يحضر عند الناس فهم يعرفونه بشخصه ولكنهم لايعرفون شخصيته، ولذلك تراهم إذا رأوه في عصر الظهور قالوا: لقد رأيناه من قبل دون أن نعرف أنه الإمامعليه السلام.

فلماذا لا نفكر في اللجوء إليه لحلّ معضلاتنا الفكرية ولماذا لا نستغيث به كلّما وقفنا علي مفترق الطرق حائرين؟!

وهناك قصص كثيرة عن لجوء المؤمنين إلي الإمامعليه السلام وحلّه لمشكلاتهم الفكرية، ومنها:

• ينقل عن السيد الفشاركي? وهو أحد العلماء المحققين أنه طلب يوماً من أستاذه «المجدد الشيرازي الكبير?» موعداً خاصّاً، وفي اللقاء طلب السيد الفشاركي من أستاذه أن يسمح له بأن يتكلّم معه في هذا اللقاء بعيداً عن الضوابط التي تحكم عادة علاقة التلميذ والأستاذ، واستجاب الأستاذ. فقال السيد الفشاركي: سيدنا لماذا أنت ساكت علي هؤلاء الكفار المحتلّين الذين دخلوا إيران؟ وماذا تنتظر؟ هل تخاف علي حياتك؟ وهل دمك أغلي من دم الإمام الحسينعليه السلام وقد ضحّي بنفسه الشريفة وأهل بيته وأصحابه من أجل دين جدّه؟ فأجابه المجدد الشيرازي?:

«إني لم أكن خائفاً علي نفسي من الموت ولكني كنت حائراً لا أدري ما أفعل، حتي ذهبت اليوم إلي سرداب الغيبة واستمددت من وليّ الأمرعليه السلام، فأذن لي»

ثم أصدر فتواه الشهيرة التي تقول: استعمال التبغ في هذا اليوم بمثابة محاربة الإمام المنتظر عجّل

الله تعالي فرجه الشريف.

• يوم كان العالم المشهور الميرزا مهدي الإصفهاني? طالباً يدرس في النجف الأشرف تجاذبته بعض التيارات الفكرية وبقي في حيرة من أمره لا يدري ما هو الطريق؟ وظلّ مدة قلقاً متحيّراً ولم يبق أمامه إلاّ الملاذ الأخير بل الملاذ الأول وهو الإمام المهديعليه السلام. ولقد أبدلنا كلمة «الملاذ الأخير» إلي «الملاذ الأول» لأنه الملاذ الأول حقاً ولكننا نغفل عن ذلك عادة، وبعد أن نطرق كل الأبواب ونعجز لا يبقي أمامنا إلا بابه فنلجأ إليه ليحلّ معضلاتنا. إننا عندما نعبّر عن الإمامعليه السلام أنه الملاذ الأخير فنعني أنه الأمل الأخير لكلّ الذين وصلوا إلي طريق مسدود وأعيتهم الحيل إذ أخطأوا الطريق ولم يلجأوا إليه أولاً.

يقول الميرزا الإصفهاني: فذهبت إلي وادي السلام وجعلت أتوسل وأبكي لكي يهديني الله إلي الطريق الصحيح، وبينا أنا كذلك وإذا بنور ولي الله الأعظم يشرق عليّ ورأيت عبارة كتبت بنور أخضر وهي:

«طلب المعارف من غير طريقنا أهل البيت مساوق لإنكارنا وأنا الحجة بن الحسن».

وهذه العبارة هي التي أنقذته من الضياع الفكري ورسمت له الخط الذي يجب أن يسلكه.

وعاد الشيخ الإصفهاني من النجف الأشرف إلي مشهد المقدسة ورفع الراية المهدوية وكثير من الذين يرفعون راية المهدوية في إيران والعالم اليوم هم من تلاميذ الشيخ الإصفهاني ومدرسته. ولولا هذا الالتجاء والتوسل بالإمام لربما بقي الشيخ علي ضياعه حتي نهاية عمره.

• كان السيد بحر العلوم? في طريقه من النجف الأشرف إلي سامراء المقدسة يمشي وحده وكانت تراود ذهنه شبهة، إذ حضر الإمامعليه السلام وحلّها له.

وهكذا كان العلامة الحلّي في طريقه إلي كربلاء المقدسة في ليلة من ليالي الجمع إذ أتاه الإمام الحجةعليه السلام وحلّ له مشكلة فكرية كان يعاني منها.

المظهر الثاني: حلّ المشكلات العملية علي يديه عليه السلام

وهوعليه السلام

في هذا يسير علي خطي جدّه رسول الله وآبائه الطاهرينعليهم السلام، فمما يروي عن النبيعليه السلام وأهل بيتهعليهم السلام في مجال حلّ المشكلات العملية للناس:

• إن شاباً في إحدي المعارك سالت عينه علي خدّه، وكان جديد عهد بالزواج، فأتي النبيعليه السلام وشكا له حالته، فأخذ النبيعليه السلام عينه التي سالت علي خدّه وأعادها في مكانها فعادت كما كانت.

• عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كنا جلوساً عند رسول اللهعليه السلام إذ ورد علينا أعرابي أشعث الحال عليه أثواب رثّة والفقر بين عينيه، فلما دخل وسلم قال شعراً:

أتيتك والعذراء تبكي برنة

وأخت وبنتان وأم كبيرة

وقد مسّني فقر وذلّ وفاقة

وما المنتهي إلا إليك مفرّنا

وقد ذهلت أم الصبي عن الطفل

وقد كدت من فقري أخالط في عقلي

وليس لنا شيء يمرّ ولا يحلي

وأين مفرّ الخلق إلا إلي الرسل

فلما سمع النبيعليه السلام ذلك بكي بكاءً شديداً ثم قال لأصحابه: معاشر المسلمين إن الله تعالي سبق إليكم جزاء والجزاء من الله غرف في الجنة تضاهي غرف إبراهيم الخليلعليه السلام فمن كان منكم يواسي هذا الفقير؟ فلم يجبه أحد، وكان في ناحية المسجد علي بن أبي طالب يصلّي ركعات التطوع كانت له دائماً، فأومأ إلي الأعرابي بيده، فدنا منه، فرفع إليه الخاتم من يده وهو في صلاته، فأخذه الأعرابي وانصرف.

ثم إن النبي أتاه جبرئيل ونادي: السلام عليك يا رسول الله، ربّك يقرئك السلام ويقول لك: اقرأ: ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ? وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ?. فعند ذلك قام النبيعليه السلام قائماً علي قدميه وقال: معاشر المسلمين أيّكم اليوم عمل خيراً حتي جعله الله وليّ كل من آمن؟ قالوا:

يا رسول الله ما فينا من عمل خيراً سوي ابن عمك علي بن أبي طالبعليه السلام فإنه تصدّق علي الأعرابي بخاتمه وهو يصلّي. قال النبي: وجبتعليه السلام الغرف لابن عمي علي بن أبي طالب. وقرأ عليهم الآية.

• إن امرأة جاءت إلي الإمام الصادقعليه السلام وطلبت منه أن يسأل الله تعالي أن يشفي ولدها، فقد كان علي وشك الموت، فعلّمها الإمامعليه السلام دعاءً تقرأه في مكان مرتفع، وهو الدعاء الذي فيه: «اللهم إنك وهبتنيه …» وعاد الولد سالماً إلي أمه.

وإذا لم يكن النبيعليه السلام موجوداً بيننا، وكذا الأئمة من آلهعليهم السلام، فإن حفيده الإمام الحجة المنتظر موجود وهو حي يرزق في هذه الحياة، فلماذا لا نفكر في اللجوء إليه لحلّ مشكلاتنا العملية؟

ولكن: كيف نلجأ إليه وهو غائب عن أنظارنا؟

والجواب: إنهعليه السلام قال كما في حكاية إحدي التشرّفات: لو بحثتم عني كما كنتم تبحثون عن ضالّتكم لوجدتموني.

حقاً هل نحن نبحث عن الإمامعليه السلام كبحثنا عن ضالّتنا؟ وهل نفكّر فيه كما نفكّر في شؤوننا الشخصية؟ لو اتّفق لإنسان أنه كان مع الموت وجهاً لوجه كما لو كان في سفينة تحطّمت به وهي في عرض البحر؟ أليس في مثل هذه الحالة ينقطع الإنسان عادة إلي الله تعالي ويتوسّل به حقيقة؟ هكذا أيضاً ينبغي أن يكون تفكيرنا في الإمام المهديعليه السلام ودعاؤنا لفرجه الشريف.

أما حالات قيام الإمامعليه السلام بحلّ المشكلات العملية للناس فكثيرة جداً ومنها قضية نقلها المدرس الأفغاني? في هذا المجال ومجملها أن شاباً ينتمي إلي إحدي الفرق الأخري أضاع الطريق إلي مكة فتوسّل بالإمامعليه السلام فحضر الإمامعليه السلام ودلّه علي الطريق ثم غاب عنه، وكان ذلك سبباً لتشيّعه.

المظهر الثالث: التوجيه والعناية

إن الإنسان بحاجة إلي موجّه في أي مجال أراد أن

يتقدّم فيه، فطالب الفقه إن لم يكن له موجّه كفوء واكتفي بالمطالعة فإنه لا يتوقع أن يصبح فقيهاً ناجحاً، وهكذا الأصولي بل هكذا الأمر في كل مجالات الحياة، فإذا كان الأمر كذلك فهل هناك موجّه وراع خير من الإمام المهديعليه السلام؟! لاشك أنه خير من يرعانا ويوجّهنا لانتخاب الطريق الصحيح، ولكن الأمر بحاجة إلي مقدّمات ومقوّمات.

• من الذين حظوا برعاية الإمام المهديعليه السلام هو الشيخ الصدوق?، الذي وُلد بدعاء الإمام المهديعليه السلام فإن والد الشيخ الصدوق (المدفون في مدينة قم المقدسة) طلب من الإمامعليه السلام عبر الحسين بن روحرحمة الله عليه أن يدعو له لكي يرزقه الله ولداً، فكتب إليه الإمامعليه السلام: قد دعونا لك وسترزق ولدين ذكرين خيّرين، وكان أحدهما الشيخ الصدوق?.

وقد رأي الشيخ الصدوق الإمام المهديعليه السلام في عالم الرؤيا فأمره بتأليف كتاب في الغيبة. يقول الشيخ نفسه: «فبينا أنا ذات ليلة أفكر..، إذ غلبني النوم فرأيت كأني بمكة أطوف حول بيت الله الحرام وأنا في الشوط السابع عند الحجر الأسود أستلمه وأقبّله وأقول: أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة، فأري مولانا القائم صاحب الزمانعليه السلام واقفاً بباب الكعبة فأدنو منه علي شغل قلب وتقسّم فكر، فعلمعليه السلام ما في نفسي بتفرّسه في وجهي، فسلّمت عليه، فردّ علي السلام ثم قال لي:

«لم لا تصنّف كتاباً في الغيبة حتي تكفي ما قد همّك؟ فقلت له: يا ابن رسول الله قد صنّفت في الغيبة أشياء. فقالعليه السلام: ليس علي ذلك السبيل آمرك أن تصنّف ولكن صنّف الآن كتاباً في الغيبة واذكر فيه غيبات الأنبياءعليهم السلام،»

ثم مضيعليه السلام، فانتبهت فزعاً إلي الدعاء والبكاء والبثّ والشكوي إلي وقت طلوع الفجر، فلما أصبحت ابتدأت في تأليف هذا

الكتاب ممتثلاً لأمر وليّ الله وحجّته مستعيناً بالله ومتوكّلاً عليه ومستغفراً من التقصير، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

وأسمي كتابه: كمال الدين وتمام النعمة.

• السيد محمد تقي الإصفهاني رأي في عالم الرؤيا الإمام المهديعليه السلام يقول له:

«اكتب عني كتاباً باللغة العربية وسمّه «مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم».

• نقل أحد العلماء الكبار عن السيد الوالدرحمة الله عليه أنه تشرّف بلقاء الإمام الحجةعليه السلام في (مسجد السهلة) فقال له «اكتب» وعندما عاد الوالد تفرّغ للتأليف وترك كلّ البحوث التي كان يلقيها علي طلاّبه، رغم الضغوط الشديدة عليه للعودة إلي التدريس.

هذه أمثلة علي التوجيه والرعاية الأبوية من لدن الإمامعليه السلام تجاه شيعته. فحريّ بنا أن نعمل ما من شأنه أن يجعلنا مشمولين بها وبالرحمة الإلهية الخاصة الجارية علي يديه وأن ندعو الله تعالي قائلين: ( … وهب لنا رأفته ورحمته ودعاءه وخيره)، نسأل الله سبحانه أن لا يحرمنا ذلك.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين

دور الامام المهدي عليه السلام في حياتنا

دور الامام المهدي عليه السلام في حياتنا

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين

مقدّمة

إحدي البحوث المهمة التي وقعت محلاً للتساؤل منذ العهود الماضية إلي يومنا هذا، هي مسألة دور الإمام المهدي المنتظرعليه السلام في عصر الغيبة، وهذه المسألة بالإضافة إلي طابعها العقائدي تحمل طابعاً عملياً وترتبط بسلوكنا اليومي منذ أن نفتح أعيننا في الصباح وإلي أن نغمضها عند النوم. نتناول فيما يلي بعض أبعاد هذا الموضوع ضمن فصلين:

الفصل الأول: دور الإمام المهديعليه السلام في عهد الغيبة، وهذا بحث نظري.

الفصل الثاني: كيف نستفيد من وجود الإمام المنتظر المهديعليه السلام في زمان غيبته؟ وهذا بحث عملي.

الفصل الأول: دور الإمام المهدي عليه السلام

الفصل الأول: دور الإمام المهدي عليه السلام

إن دور الإمام المهديعليه السلام في عهد الغيبة هو أنه يمثل ضمن ما يمثّل الحلقة الأخيرة المهيمنة والفاعلة والمؤثرة في عالم الإمكان.

لبيان هذا الدور نقدّم ثلاث مقدمات:

المقدمة الأولي

إن القرآن الكريم يثبت أدواراً في إطار عالم الطبيعة للأشياء، كما يثبت أدواراً ضمن إطار هذا العالم للأشخاص.

هنالك أشياء في هذا العام لها دور، وهناك أشخاص في هذا العالم لهم دور؛ نمثل لذلك بمثالين:

المثال الأول: من هو الشافي؟

ويأتينا الجواب من القرآن الكريم أن الله تعالي هو الشافي؛ ?وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ? و.

ولكننا نلاحظ أن القرآن الكريم يثبت من جهة أخري دور الشفاء لأشياء في هذا العالم، يقول الله تعالي عن العسل: ?فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ? هذا مع أن العسل ما هو إلا جماد يخرج من بطن حيوان، ولكن الله تعالي شاء أن يجعل فيه شفاءً للناس.

المثال الثاني: من هو المتوفي؟

ويأتينا الجواب من القرآن الكريم أن الله تعالي هو المتوفي؛ يقول تعالي: ?اللَّهُ يَتَوَفَّي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا?.

ولكننا نلاحظ من جهة أخري أن القرآن الكريم يثبت التوفي لغير الله تعالي حيث يقول: ?قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ?، فهو تعالي ينسبه لملك الموت أيضاً.

المقدمة الثانية

إن وجود الدور للأشياء والأشخاص في هذا العالم لا ينافي ما هو المعروف من القول بالتوحيد الأفعالي (وأن الله وحده هو الفاعل الحقيقي في هذا الكون).

وذلك لأن فاعلية غير الله تعالي فاعلية مكتسبة وغيرية، بينما فاعلية الله تعالي فاعلية ذاتية، ولا منافاة بين فاعليتين إحداهما ذاتية والأخري غيرية.

المقدمة الثالثة

لا تنافي في عالم الطبيعة بين الفواعل الطولية.

فكما أنه لا تنافي بين فاعلية الله تعالي وفاعلية الفواعل الطبيعية (الغيرية) فكذلك لا منافاة بين فاعلية طبيعية وفاعلية أخري إذا كانتا طوليتين أي تقعان في طول بعضهما، أجل إذا كانت الفاعليتان عرضيتين ومستقلتين فهنا توجد منافاة لأن ذلك يعني اجتماع علتين مستقلتين عرضيتين علي معلول واحد، وهذا محال.

أما إذا فرضنا أن هاتين الفاعليتين أو الفاعليات كانت طولية أي أن بعضها يقع في طول بعضها الآخر، فلا منافاة بينها.

ويمكن توضيح ذلك بمثال معروف عند أهل العلم: تقول: كتب قلمي وكتبت أناملي وكتبت يدي، قال تعالي: ?فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ?، وتقول: كتبت، فهل تري منافاة بين هذه الجمل؟ كلا بالطبع؛ وذلك لأن الروح الحقيقية التي كتبت هي روحك أنت، أما الفواعل الدنيا فإنما هي مؤثرة في طول فاعلية الروح التي تمثل الفاعلية الحقيقية والأخيرة في سلسلة الفواعل الطولية التي تندرج تحتها، ومن ثم فالفاعلية الأخيرة هي المؤثرة الحقيقية والمهيمنة علي ما سواها من الفواعل الطبيعية والظاهرية.

دور الإمام المهدي عليه السلام

وإذا اتضحت هذه المقدمات الثلاث، نقول: إن الإمام المهديعليه السلام هو آخر فاعل في سلسلة الفواعل الطولية المؤثرة في عالم الإمكان، أو بتعبير آخر: إنهعليه السلام يمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة الفاعليات الطولية في إطار عالم الإمكان. توضيحه: أن هناك فاعلية في عالم الإمكان جعلها الله في طول فاعليته تعالي وأمرنا أن نلجأ إليها.

من الممكن أن تأتي بعده علل وفاعليات أخري في طوله تكون مؤثرة بإذن الله تعالي، ولكن الفاعلية العليا بعد الله تعالي في عالم الإمكان هي إرادة المهدي المنتظرعليه السلام.

ماذا نقرأ في الزيارة التي رواها المحمدون الثلاثة وهم محمد بن يعقوب الكليني (في الكافي) ومحمد بن الحسن الطوسي (في التهذيب)

والشيخ الصدوق (في من لا يحضره الفقيه)؟

نقرأ في هذه الزيارة: «إرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم».

وهذا هو جزء من دور الإمام المهديعليه السلام في زمن حضوره وغيبته.

الفصل الثاني: كيف نستفيد من وجود الإمام المهديعليه السلام؟

الفصل الثاني: كيف نستفيد من وجود الإمام المهديعليه السلام؟

بعد أن عرفنا دور الإمام المهديعليه السلام في الفصل الأول يتبين الآن أهمية هذا الفصل؛ أي الاستفادة من وجود الإمام المهديعليه السلام لأنه هو الرجل الذي أعطاه الله تعالي مقاليد الكون.

ولكي يمكننا الاستفادة من وجود الإمام المهديعليه السلام أكثر فأكثر، لابد من توفر أربع مقدمات نذكرها تباعاً.

المقدمة الأولي: الالتفات إلي النقص والفاقة والحاجة عندنا

ونوضح هذه المقدمة وهي مهمة جداً بمثال: لو تصورنا أن شخصاً ما يعاني من داء عضال في بدنه ولكنه غير ملتفت إلي ذلك، فهل سيبحث عن العلاج؟ وهل سيتجه إلي الطبيب؟ كلا وذلك لأن الداء وإن كان له (وجود واقعي) في بدنه، ولكنه ليس له (وجود شعوري) في ذهنه لكي يدفعه نحو التحرك للتخلص منه بأي سبيل!

يقول علماء الأخلاق: إن من أعدي أعداء الفرد الشعور بالاكتفاء، لأن الذي يشعر أنه مكتف من الناحية العلمية أو الأخلاقية لا يري مبرّراً للتحرك نحو التكامل الخلقي أو العلمي.

وهكذا الشخص الذي يعتقد أنه لا يعاني شيئاً، ولا توجد عنده مشكلة ولا فاقة، لا يمكنه الاستفادة الكاملة من الوجود المبارك للإمام المهديعليه السلام، لأنه لا يتحرك حينئذ بل يبقي ساكناً في مكانه، لعدم شعوره بالحاجة إلي الإمامعليه السلام لحل مشكلاته، لأنه يعتقد أنه لا مشكلة عنده في الأساس!

أما نحن فيرادونا الشعور بالحاجة في بعض الأحيان كما لو تهنا في صحراء أو انكسرت بنا السفينة في البحر أو ابتلينا أو أحد أعزائنا بمشكلة أو بمرض مستعصي العلاج لا سمح الله أما أولياء الله سبحانه وتعالي فإنهم يشعرون دائماً بأنهم في حالة اضطرار وأنهم في حالة حاجة وفاقة.

ولذلك ترانا ننام طوال الليل لأنه لا يوجد شيء يؤرقنا، أما هم ف?قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ?.

أرأيت من عنده مشكلة أو يهدده خطر، كيف لا يستطيع أن يخلد

إلي النوم، فكذلك حال أولياء الله تعالي، لأنهم يشعرون بالخطر.

إننا نفهم أن الاضطرار في قول الله تعالي ?أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ? عبارة عن أن يكون الشخص مريضاً أو عنده مريض مثلاً أما أولياء الله تعالي فيشعرون دائماً أنهم في حالة اضطرار، وهذا الشعور كامن في أعماقهم ولذلك يصفهم القرآن الكريم بقوله تعالي ?تَتَجَافَي جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ? لأن حالة الاضطرار الباطنية لا تدعهم يستقرون.

روي أحد العلماء أن شخصين تصاحبا، وعندما حلّ الليل نام الأول ولم ينم الثاني، وبعد مدة استيقظ الأول فرأي صاحبه لم ينم بعد، فعاد للنوم مرة أخري وعندما استيقظ أيضاً رأي صاحبه لم ينم بعد، وعندما سأله: لماذا لا تنام؟ قال في جوابه:

«كيف أنام ومن حولي كلهم يقظون يسبّحون الله تعالي»

ثم كشف له الغطاء فرأي جميع الأشياء تسبح بحمد الله!

وعلي أساس ما تقدم، ينبغي لنا أن نحاول أن نُشعر أنفسنا بنقصها وحاجتها وفاقتها واضطرارها، وهذه هي المقدمة الأولي للاستفادة الكاملة من وجود الإمام المهديعليه السلام.

المقدمة الثانية: التوجه إلي مصدر القوة والغني والقدرة وهو الإمام المهديعليه السلام

فليس الإمامعليه السلام بالفرد العادي بل هو الذي يمكن لنظرة واحدة منه أن تغيّر حالنا، فكما قلنا إن الله تعالي جعله وآباءه الطاهرينعليهم السلام مظاهر مشيئته.

المقدمة الثالثة: محاولة إيجاد القابلية

فإن القلب الملوث ليس له قابلية، وهكذا العين الملوّثة والأذن الملوّثة واليد الملوّثة و … وأولي المراحل في هذا الطريق وهي صعبة جداً ولكنها ممكنة أن نتجنب ارتكاب الذنوب؛ ذنوب القلب والعين والأذن واللسان واليد و … فكما أن جهاز الراديو إذا حصل فيه أي عطب أو خلل أو قطع في أي سلك من أسلاكه يفقد القابلية علي تلقي الأمواج الموجودة في الفضاء، فكذلك القلب إذا حصل فيه خلل فقدَ القابلية علي تلقي الفيض الإلهي، فلابد أولاً من إصلاحه لإيجاد القابلية فيه.

وعندما يراجع المرء تاريخ العلماء الماضين السائرين علي نهج أهل البيتعليهم السلام يجد دقة عجيبة في أحوالهم وورعاً واحتياطاً كبيرين.

فمما ينقل عن المرجع الكبير الحاج آقا حسين القمي? أنه كان يحتاط حتي في تهديد طفله إذا صدر منه ما يستحق التهديد، فلم يكن يقول للطفل سأضربك أو سأؤدبك مثلاً إذا صدر منك العمل الفلاني، بل كان يستخدم عبارات من قبيل «من المحتمل أن أضربك» أو «هب أنني سأضربك» ولعله كان يخاف أن تكون هنالك شبهة الكذب إن لم يصدر منه ما أوعده عليه، مع أنه يُقال إن الوفاء بالوعيد ليس واجباً، فكان يحتاط للأمر ويتجنب حتي الشبهة فيقول لطفله: «احتمل أنني سأضربك أو سأؤدبك» وما أشبه. وهكذا كانوا يحتاطون لئلا تصدر منهم غيبة ولا نميمة ولا نظرة محرمة.

المقدمة الرابعة: الإلحاح والتوسل

ينبغي لنا أن نتوسل ونلحّ حتي تشملنا العناية الإلهية، ونستفيد من وجود الإمام المهديعليه السلام بشكل أتمّ.

ينبغي لنا أن نلجأ إلي الإمامعليه السلام في حل كل قضايانا الدنيوية والأخروية والفردية والاجتماعية فهو الملاذ لنا في كل الشؤون والقضايا، وكما أن الله تعالي جعل الشمس مصدر الدفء والنور للإنسان في حياته المادية، ومن ابتعد عنها حرم من

الدفء والنور، فكذلك هو الإمامعليه السلام جعله الله لنا مصدراً للدفء والنور في حياتنا المعنوية، وأوكل سبحانه إليه كل أمورنا وقضايانا، فمن لم يتوجه إليه فسوف يكون نصيبه الخسارة والحرمان.

فلنستحضر هذه المقدمات الأربع ولنحاول ونلحّ حتي نستفيد من وجود الإمام المهديعليه السلام أكثر فأكثر.

نموذجان للاستفادة من وجود الحجةعليه السلام

1. قضية السيد محمد باقر الدامغاني

ابتلي السيد محمد باقر الدامغاني وهو من العلماء في مدينة مشهد المقدسة بداء السل، واستمر يعاني منه أعواماً، ولم تؤدّ مراجعته للأطباء إلي نتيجة، بل استمرت حالته تزداد سوءاً، وبدأ يضعف ويذوي حتي فقد الأمل بالشفاء.

وفي يوم من الأيام قذف دماً كثيراً من صدره، فجاء عند أستاذه الميرزا الإصفهاني وشكا له حالته وضعفه.

يقول: فجثا الميرزا علي ركبتيه وقال له معاتباً:

«ألست سيداً (هاشمياً)، فلماذا لا تلجأ إلي أجدادك الطاهرين؟ ألست من شيعة الإمام المنتظر، فلماذا لا تستنجد ببقية الله في الأرض حتي ينجيك مما أنت فيه؟ ألا تعلم أن أئمة أهل البيت هم أسماء الله الحسني؟ ألم تقرأ في دعاء كميل: يا من اسمه دواء وذكره شفاء؟ قم واذهب إلي بقية الله (الإمام المهديعليه السلام) واطلب منه حل مشكلتك».

يقول: فأخذتني العبرة وقمت متجهاً إلي حرم الإمام علي بن موسي الرضاعليه السلام.

وبعد أن دخلت الصحن العتيق رأيت فجأة أني أعيش في وضع آخر، فليس الوضع هو الوضع المعتاد، وبدا لي أني أعيش في عالم المكاشفة، إذ لم يكن الناس الذين يعتاد تواجدهم في الصحن الشريف موجودين وكانت هناك جماعة قليلة العدد يمشون ويتقدمهم رجل ألقي في روعي أنه هو الإمام المهديعليه السلام. وخفت أنهم قد يغادرون قبل أن التقي الإمام وأنال بغيتي، ففكرت أن أنادي الإمامعليه السلام.

وبينما أنا كذلك في هذا الخاطر وإذا بذلك الرجل يلتفت إليّ وينظر

إليّ نظرة واحدة بطرف عينه فقط ومن دون أن يكلمني، وبدأ العرق يتصبب من بدني، وإذا بالصحن يعود بعد ذلك إلي حالته الطبيعية فلم أر الرجل ولا الجماعة التي كانت خلفه، ورأيت جموع الناس المعتادة، فرجعت إلي نفسي فإذا بي صحيح البدن معافي.

وعاش الدامغاني بعد ذلك أعواماً في صحة كاملة.

2. وهناك قضية أخري حدثت للحاج آقا حسين القمي? الذي ذكرنا جانباً من ورعه ودقته واحتياطه آنفاً.

وكان من شدة احتياطه أيضاً أنه إذا سئل عن الوقت يقول في الجواب: افرض أنها كذا (التاسعة مثلاً) خشية أن لا يكون قوله مطابقاً للواقع!

نُقل في أحواله أنه كان يعتقد أن أقوي دعامة له في حياته هو وجود الإمام المهديعليه السلام وعنايته وكان راسخ الاعتقاد أن هذه الدعامة هي التي تسنده وتنقذه وتنجيه.

وهذا هو الاعتقاد الذي يجب أن يكون ثابتاً عندنا كما كان عند السيد القمي?، لا أن يكون موجوداً حيناً ومفقوداً في أحيان أخري كما هو حال أغلب الناس.

أما قضية هذا العالم ورعاية الحجةعليه السلام له فهي كالتالي:

كان (الحاج آقا حسين القمي) قد جاء إلي طهران في قضية جهاده مع العلماء ضد البهلوي الأول، فحوصر فيها فلم يستطع الرجوع وانقطع به الطريق، ولم يكن لديه مال، فبعث له البهلوي بشيك أبيض يكتب هو فيه ما يعجبه، ولكنه? رفض استلام الشيك من الرسول لأنها أموال الدولة وهو لا يريد أن يتصرف لنفسه من أموالها، رغم احتياجه الشديد والمبرم للمال. فقيل له: فكيف ستعيش؟

فقال: «أنا أعتقد أن الإمام الحجةعليه السلام لا ينسي رعيته».

(انظروا إلي التعبير، فهو لم يقل إن الإمامعليه السلام لا ينسي جنوده أو وكلاءه، مع أنه كان مرجعاً للتقليد، ولكنه قال: إن الإمامعليه السلام لا ينسي رعيته)!

فضحك بعض ضعاف

الإيمان ممن كانوا حوله عند سماعهم هذه العبارة، ولكن تلك الإرادة التي تقف وراء كل شيء وتهيئ الأسباب الظاهرية، هيأت له الأسباب ولم تتخلّ عنه! إذ إن رئيس شرطة مدينة شهر ري تأثر بالسيد القمي وانشدّ إليه، فقام بمفاتحة بعض التجار في طهران رغم ما يحمل ذلك من خطر عليه ليكون وسيطاً لإيصال المال منهم إليه، ونجح في المهمة ووقاه الله من خطر عظيم، لأن السلطة لو اكتشفت أمره لربما كانت تصدر الأمر بإعدامه، ولكنه استطاع أن يدخل علي السيد القمي وكان يخفي المال في جورابه، وقال السيد القمي عندما قدم له الرجل المال:

«كنت أعلم أن الإمامعليه السلام لا ينسي رعاياه».

وأخيراً

ينبغي أن نذكر الإمامعليه السلام ولا ننساه، كي يشملنا لطفه ورأفته بشكل أكبر، كما قال الله تعالي: ?فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ?.

كم مرة في اليوم نذكر الإمام المهديعليه السلام؟ هل نذكره في قنوت صلواتنا؟ هل نقرأ كل يوم: (اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن …)؟ وهل نبدأ باسمه عندما نبدأ ببحوثنا العلمية ونقول يا حجة الله أدركني؟

هنالك بعض الطلبة يبدأون بحوثهم العلمية بقولهم: ياحجة بن الحسن أدركني، وهذه حالة مهمة جداً ينبغي أن ننميها في أنفسنا.

وهناك كتاب لطيف في مجلدين أدعو الإخوة المؤمنين لمطالعته وهو «مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم».

فحري بنا أن لا نغفل عن الإمامعليه السلام، وأن ندعو له.

نسأل الله سبحانه أن يشملنا بألطافه وعناياته وأن لا يحرمنا لطفه وفضله ورحمته.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين

الاهتمام بالقضية المهدوية

الاهتمام بالقضية المهدوية

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين. وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي قيام يوم الدين

يدور حديثنا عن القضية المهدوية في محورين:

المحور الأول: عوامل الإهتمام بالقضية المهدوية.

المحور الثاني: كيفية الإهتمام بالقضية المهدوية.

أما المحور الأول

أما المحور الأول

فإن هناك مجموعة من العوامل تفرض الاهتمام بالقضية المهدوية، نذكر منها في المقام ثلاثة:

العامل الأول: الاهتمام بالقضية المهدوية ضرورة إيمانية

إن قضية الإمام المهديعليه السلام تمثّل الحلقة الأخيرة من سلسلة حلقات الإيمان، والحلقة الأخيرة في أية سلسلة؛ تارة تكون في (واجب غير ارتباطي) وفي هذه الحالة تكون قيمة الحلقة الأخيرة مساوية لقيم سائر الحلقات ولا يكون ثمة فرق بين الحلقة الأولي والوسطي والأخيرة، وتارة تكون في واجب ارتباطي؛ وهنا تتوقف الحلقات كلها علي الحلقة الأخيرة، وقضية الإيمان بالإمام المهديعليه السلام هي من النوع الأخير، أي إنها كالجزء الأخير في الواجب الارتباطي.

ولكي يتبيّن الفرق بين الواجب الارتباطي والواجب غير الارتباطي نضرب لكل منهما مثلاً، فمثال الواجب غير الارتباطي هو الدَّين، فانك لو كنت مديناً لشخص بعشرة دنانير مثلاً، فوجوب أداء الدين ينحلّ في واقع الأمر إلي عشرة وجوبات ويمكن تصورها أكثر وكل وجوب من هذه الوجوبات له طاعة مستقلة بأدائه أو عصيان مستقلّ بالامتناع عن الأداء فإذا أديّت تسعة دنانير تكون قد امتثلت تسعة وجوبات ويبقي عليك الدينار الأخير ولنقل الواجب الأخير، ولايؤثر امتناعك عن أدائه في الامتثالات المتقدمة.

أما في الواجب الارتباطي فإن الامتثال يبقي غير محرز ما لم تؤد الجزء الأخير، فتكون الأجزاء كلها متوقّفة عليه، ومن أمثلة ذلك الصلاة، فلو افترضنا أن الصلاة مركّبة من عشرين جزءاً فإنه تتوقف صحة جميع الأجزاء علي الجزء الأخير من الصلاة وهو التسليم، فإن كان صحيحاً صحّت سائر أجزاء الصلاة وإلاّ فلا؛ وذلك لأن الصلاة واجب ارتباطي، فإن صحة جميع الأجزاء المتقدمة لكل واجب ارتباطي تتوقف علي صحة الجزء الأخير من المركّب.

وهكذا هي قضية الإيمان بالإمام المهديعليه السلام بالنسبة لقضية الإيمان كلها.

ولا عجب في ذلك فإن الإنسان إذا آمن مثلاً بجميع الأنبياء والمرسلينعليهم السلام

ولم يؤمن بخاتمهمعليه السلام فإن إيمانه لا ينفعه، وهذه المعادلة كما تصحّ في النبي الخاتمعليه السلام تصحّ في الوصي الخاتمعليه السلام، فمن آمن بسائر الأنبياء ولم يؤمن بالنبي الأكرمعليه السلام لا يجديه إيمانه شيئاً، كما أن من آمن بالأنبياء والأئمةعليهم السلام واستثني خاتمهم الإمام المهديعليه السلام فكأنه لم يؤمن أبداً.

إذن فالإيمان بخاتم الأوصياء يساوي الإيمان بجميع الأنبياء والأئمة والأوصياء عليهم الصلاة السلام، ورفض الإيمان بهعليه السلام يساوي رفض الإيمان بهم جميعاً.

وهكذا يتّضح العامل الأول للاهتمام بقضية الإمام المهديعليه السلام، كونه يمثّل الحلقة الأخيرة في سلسلة حلقات الإيمان علي نحو الجزء الأخير في الواجب الارتباطي.

العامل الثاني: الإيمان بالإمام المهدي عليه السلام مصداق من مصاديق شكر المنعم

إن الاهتمام بالقضية المهدوية يمثّل شكلاً من أشكال شكر المنعم، وقد ذكر في علم العقائد أن شكر المنعم إحدي المستقلاّت العقلية، والمنعم اثنان: الأول: ما منه الوجود، وهو الله تعالي، والثاني: ما به الوجود، وهو النبي الأعظم وأهل بيته الطاهرون عليهم السلام وخاتمهم الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه الشريف.

[وقد ذكرنا فيما مضي أن القرآن الكريم يؤكد أن هنالك فاعلين: ما منه الوجود وما به الوجود؛ قال الله تعالي: ?فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ?.]

ألسنا نخاطب الأئمةعليهم السلام في زيارة الجامعة بالقول: «… وأولياء النعم؟» فأهل البيتعليهم السلام أولياء نعمتنا.

أو ليس وردت في كتاب (الكافي) رواية شريفة تقول: «ولولانا ما عُبد الله»؟

ألا يوجد في كتاب (الاحتجاج) في التوقيع الشريف عن صاحب الزمانعليه السلام: «نحن صنائع ربنا والخلق بعد صنائعنا»؟

إننا نجلس في كل لحظة من لحظات حياتنا علي مائدة الإمام المهديعليه السلام، فبهم أهل البيتعليهم السلام أنبتت الأشجار، وبهم أينعت الثمار، وبهم جرت الأنهار، فقد أفاض الله تعالي بنعمه الظاهرة والباطنة علينا عبرهم.

فالاهتمام بقضية الإمام المهدي المنتظرعليه السلام مظهر من مظاهر «شكر المنعم».

وقد نقل

أن مجموعة من العلماء اجتمعوا لبحثِ ما يُفترَض أن يتخذوه من موقف إزاء المخاطر التي كان يتعرض لها الإسلام والمسلمون، وذلك قبل حوالي أربعين عاماً في العراق، فقال أحدهم إن واجبنا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف بوجه القوانين الباطلة، ولكن أحد الحاضرين اعترض عليه بقوله إن ذلك قد يعرّضنا للخطر، وإن من الممكن أن تقوم الحكومة باعتقالنا وإيذائنا.

فردّ العالم الأول بما مضمونه: إن الحكومات تتكفّل أمور جنودها فترة طويلة وذلك ليدافعوا عنها في ساعات الخطر، وليس من الصحيح أن يفرّ فرد من أفراد الجيش آنئذ، فإن فراره هذا يعدّ خيانة، ونحن قد جلسنا دهراً علي مائدة الإمام المهديعليه السلام؛ مائدة جوده النابعة من وجوده الكريم المبارك، فكيف لا ندافع عنه وعن دين جدّه رسول اللهعليه السلام؟ ألا يعتبر التقصير في ذلك خيانة، والحال أننا قد أُعددنا لمثل هذا اليوم؟!

إذن العامل الثاني الذي يدفعنا للاهتمام بقضية الإمام المهديعليه السلام كون هذا الاهتمام يمثل مظهراً من مظاهر شكر المنعم.

العامل الثالث: الاهتمام بالقضية المهدوية يوجب البركة والتوفيق

إن الاهتمام بالقضية المهدوية يوجب التوفيق والبركة في الحياة، وينبغي أن نعلم بأن التوفيق قضية مهمة في حياة الإنسان، فهناك من الأفراد من يوفّق في حياته، وهنالك من الأفراد من يُحرم من التوفيق، فالله تبارك اسمه يضع البركة في بعض الأعمال والوجودات دون بعضها الآخر، فياتري كيف يتسّني للفرد أن ينال التوفيق والبركة؟

إننا نعتقد وبشكل عام، أن للعوامل الغيبية أثراً كبيراً في الحصول علي التوفيق والبركة، وإننا نجد شواهد لذلك في حياة كثير من علمائنا الأعلام، فإنهم لم يكونوا ليبلغوا ما بلغوا لولا وجود عامل غيبي في حياتهم، فمثلاً السيد أبوالحسن الأصفهاني? توسل في قصة مفصلة بالإمام أمير المؤمنينعليه السلام فرآه في عالم الرؤيا يسلّمه مفاتيح

النجف الأشرف.

والشيخ عبد الكريم الحائري? مؤسس الحوزة العلمية في قم المقدسة، توسل بالإمام الحسينعليه السلام، وربما كان هذا هو السبب في بلوغه ما بلغ في المجالات العلمية والعملية.

والشيخ الصدوق? الذي قدم خدمات كبيرة للدين يذكر في أحواله أنه ولد بدعاء الإمام الحجةعليه السلام له.

أما العلامة المجلسي? الذي له باع طويل في ترويج الدين وإحياء شريعة سيد المرسلين فقد ذكر أحد العلماء قضية تتعلق بولادته حيث يقول:

«كنت قادماً من كربلاء المقدسة إلي اصفهان فرأيت في عالم الرؤيا والد العلامة المجلسي وبيده طفل فقدّمه إلي النبيعليه السلام وطلب منه أن يدعو له بأن يكون مروّجاً للدين، فأخذه النبيعليه السلام ودعا له، ثم أعطي الطفل إلي الإمام أمير المؤمنينعليه السلام فدعا له أيضاً، وهكذا سائر الأئمة حتي الإمام الحجةعليه السلام، ثم إن الإمام الحجةعليه السلام أعطي الطفل لي وقال: أنت ادع له أيضاً، فأخذته ودعوت له، وعندما وصلت إلي اصفهان ذهبت إلي بيت والد العلامة المجلسي فجاءني وبيده طفل وقال لي لقد ولد هذا الطفل لنا في هذا اليوم فخذه وادع له بأن يكون مروّجاً للدين، فتذكرت تلك الرؤيا وأخبرت بها الشيخ ففرح بها».

المحور الثاني: كيفية الاهتمام بالقضية المهدوية

المحور الثاني: كيفية الاهتمام بالقضية المهدوية

ونتطرق في هذا المجال إلي نقطتين:

1 الاهتمام بالثقافة المهدوية

وفي هذه النقطة مفردات فمن جملة مفردات هذه النقطة الاهتمام بالمطالعة حول شخصية الإمامعليه السلام، انطلاقاً من النص الشرعي القائل: «من مات لا يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهلية» إذ المعرفة لها قيمة كبيرة عند الله تعالي، حتي لقد فسّر قوله عز اسمه: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ? بمعني أن الله تعالي خلق الخلق لكي يعرف.

كما أن علي المرء أن يدفع أفراد أسرته لكي يكثّفوا من مطالعتهم حول الإمام المهديعليه السلام، بالإضافة إلي نقل القصص التي تتعلّق بالإمامعليه السلام.

ومن مفردات هذه النقطة تأسيس مكتبات تخصصية حول الإمام المهديعليه السلام.

يقال أنه سُئل السيد محمد كاظم القزويني? مرّة: ما فائدة الموسوعة التي تؤلّفها عن الإمام الصادقعليه السلام؟ فقال:

«يكفيني أن توضع في المكتبة ليُعرف أن هناك موسوعة عن الإمام الصادقعليه السلام في ستين مجلداً (مثلاً)».

إن الشاب عندما يدخل المكتبة ويري ألفاً وخمسمائة كتاب مثلاً عن الإمام المهديعليه السلام فإن هذا وحده كاف للتأثير فيه.

فلنجعل في كل مكتبة بل في كل بيت غرفة أو زاوية للكتب والأشرطة التي تتعلق بالإمام المهديعليه السلام.

2 إحياء الشعائر المهدوية

وفي هذه النقطة مفردات، فمن مفردات هذه النقطة الاهتمام بقراءة الأدعية المرتبطة بالإمامعليه السلام مثل دعاء الندبة، وليبدأ الإنسان في ذلك ببيته، وليرغّب الآخرين في مثل ذلك، فإن هذه القطرات ستتجمع وتتحول إلي ظاهرة اجتماعية منتشرة بإذن الله تعالي.

ومن جملة مفردات هذه النقطة، إحياء كل ما يرتبط بالإمام المهديعليه السلام، كتسمية الأبناء بإسم الإمام، لأن في إحياء اسم الإمام الحجة إحياءً لأسماء جميع الأئمةعليهم السلام، وكذلك تسمية البنات بإسم والدة الإمام (نرجس) أو عمّته (حكيمة)، وكإحياء مدينة سامراء المشرفة كما فعل ذلك المجدد الشيرازي الكبير? حيث قرر الهجرة إلي سامراء والإقامة فيها وإحياء هذه المدينة المقدسة

بعد طول خمود.

وقد ذكر أحد علماء الدين أنه قد انهالت علي مؤسسته التي أعلنت جمع التبرعات لإحياء مدينة سامراء ومراقد الأئمةعليهم السلام فيها بعد سقوط حكم البعث الظالم، انهالت عليه فوق ما كان يتوقع، فإن الموالين لأهل البيتعليهم السلاممستعدّون لتقديم أرواحهم لهم فضلاً عن أموالهم.

ومن المشاريع الطيّبة ما قام به بعض الشباب المؤمنين الذين يحملون الروح المهدوية، حيث حرّض أصحاب المحلاّت علي أن يبيعوا البضائع بنصف القيمة باسم الإمام الحجة المنتظرعليه السلام، وتكفل لهم بدفع التفاوت، فتقاطر الناس للشراء من هذا السوق وهم يذكرون الامام المهديعليه السلامويصلون علي النبي وآلهعليهم السلام يقول هذا الشاب إن هذا السوق الخيري أقيم إحدي أيام الجمعات، ولكنه شاهد في الجمعة الثانية أحد أصحاب المحلات وقد استمرّ في بيع البضائع بنصف القيمة باسم الإمام المهديعليه السلام.

خاتمة: في بركات الاهتمام بالقضية المهدوية

إن القضية المهدوية بالإضافة إلي موضوعيتها الذاتية، توجب التوفيق والبركة في حياة الإنسان المتبنّي لها كما سبقت الإشارة إلي ذلك.

وفي هذا المجال ينقل أن المحقق القمي والسيد بحرالعلوم? كانا صديقين حميمين، وكانا يتتلمذان عند الوحيد البهبهاني?، وكان السيد بحرالعلوم يطلب من المحقق القمي أن يقرر له درس الوحيد البهبهاني في كل مرة لأنه لم يكن يستوعبه بشكل كامل، ثم إنهما افترقا، إذ هاجر المحقق القمي إلي إيران وبقي بحرالعلوم في العراق، وبعد فترة سمع المحقق القمي عن السيد بحرالعلوم ما أثار تعجبه، حيث بلغه أن صديقه القديم قد ارتقي مقاماً شامخاً من العلم، وحينما عاد إلي العراق والتقي بالسيد بحرالعلوم عرض عليه إحدي المسائل، فخاض فيها الأخير خوضاً أبهر المحقق القمي، حتي قال له: أنت بحرالعلوم حقاً، وطلب المحقق القمي من بحرالعلوم أن يكشف له عن سرّ بلوغه هذه الدرجة من العلم، فلم يشأ

السيد بحرالعلوم في بادئ الأمر أن يذكر له السرّ، ولكن إلحاح المحقق القمي اضطرّه إلي القول:

«كيف لا أكون كذلك وقد ضمنّي الإمام المهديعليه السلام إلي صدره الشريف».

والشيخ الأنصاري? الذي له هذا الموقع المتميز في الحوزات العلمية ينقل في أحواله أنه دخل مع تلميذه الآشتياني? حرم الإمام أمير المؤمنينعليه السلام فصادفهما رجل يعرف بعض العلوم الغريبة فقال الرجل للشيخ الأنصاري:

«إنك قد رأيت الإمام المهديعليه السلام مرتين»،

ولكن الشيخ الأنصاري انصرف بسرعة كي لا يتبين المزيد من أسرار هذا الارتباط الغيبي.

إن مثل هذا النوع من الارتباط والاهتمام بقضايا الأئمة المعصومينعليهم السلام، لا سيما الإمام المهديعليه السلام، وهو إمام زماننا يوجب التوفيق والبركة للإنسان وذريته وعمله في الدنيا والآخرة.

نسأل الله تعالي أن يوفّقنا لذلك.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين.

وسائط الفيض الالهي

وسائط الفيض الالهي

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين

قال الله تعالي في كتابه الحكيم: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ?.

مقدّمة

نتناول في هذا البحث موضوع وسائط الفيض الإلهي، وهذا البحث يمكن تناوله من زاويا متعددة، إلا أن ما نعني به فعلاً هو ما يتعلّق بنظام السنن.

ذلك أنّ لله تعالي سنناً في هذا الكون وهذه السنن ثابتة لا تتبدّل ولا تتحوّل؛ قال الله تعالي: ?فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا?، والتبديل في الشيء يعني أن ينقلب وصفه إلي ما يضادّه أو يناقضه، أما التحويل فهو انتقال وصف معيّن من موقعه المعيّن له إلي موقع آخر؛ فيكون معني الآية الكريمة علي ما ذكره بعضهم أنّ السنن الإلهية في هذا الكون لا تقبل تبدّل الحالات ولا تبدّل المواقع، والمثال الأوّل أنّ النار لا يمكن أن يُسلب منها في يوم من الأيام وصف الحرارة، والمثال الثاني أنّه لا يمكن أن تنتقل في يوم من الأيام صفة الإحراق الموجودة في النار إلي الماء مثلاً؛ وذلك لأنّ السنن الإلهية لا تقبل التبديل ولا التحويل، وذلك كله في إطار المعادلات الطبيعية، أما المعجزة فلها بحث آخر.

من السنن نظام الوسائط

إذا اتّضحت المقدّمة نقول: إنّ من السنن الإلهية القائمة في هذا الكون أنّ الله سبحانه وتعالي لاينزل فيضه عادة إلاّ عبر وسائط.

ونوضّح المسألة بمثال من الوسائط الطبيعية وهو: أنّ الإنسان إذا مرض يراجع الطبيب ويتناول العقاقير ليحصل علي الشفاء، مع أنّ الشافي حقيقة هو الله تعالي.

روي العلامة المجلسيرحمة الله عليه في البحار: «قال موسي بن عمران: يا ربّ ممّن الداء؟ قال منّي. قال: فممّن الدواء؟ قال: منّي. قال: فما يصنع الناس بالمعالج (يعني الطبيب)؟ قال: يطيّب بذلك أنفسهم فسمّي الطبيب لذلك».

لقد خلق الله الأعشاب ليلجأ إليها الإنسان إذا مرض، صحيح أنّ الشفاء من الله تعالي ولكنّه يمرّ عبر واسطة طبيعية وهي العقاقير؛

مع أنّ الشافي الحقيقي هو الله تعالي كما قال تعالي: ?وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ?.

وقد كان الأطباء القدامي يكتبون علي الوصفة الطبية عبارة (هو الشافي) أي أنّ الله تعالي هو الذي يمنح الشفاء أما الطبيب فليس سوي واسطة في إيصال هذا الفيض الإلهي.

الوسائط الغيبية

وفي عرض هذه الوسائط الطبيعية توجد وسائط غيبية، فكما أنّ الله تعالي يمنح الإنسان الشفاء عبر الأدوية والعقاقير المتّخذة من الأعشاب أو المواد الكيمياوية، وكما جعل في العسل شفاءً فقال عزّ من قائل: ?فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ?، فكذلك أودع الله تعالي الشفاء في أسباب غيبية، فمثلاً جعل الشفاء في تربة الحسينعليه السلام.

لو قمنا بتحليل تربة كربلاء في المختبر فلربما لا نري فيه فرقاً من الناحية المادية بينها وبين سائر التراب، ولكن أليس الله تعالي بقادر علي أن يجعل الشفاء في تربة الحسينعليه السلام إكراماً له كما جعله في العسل أو الأدوية والعقاقير؟!

الاعتقاد بالوسائط الغيبية لا يختصّ بنا نحن الشيعة

الملاحظة الأخري هي أنّ هذه العقيدة (وهي أنّ هناك أسباباً غير طبيعية جعلها الله تعالي وسائط لفيضه كما جعل الوسائط الطبيعية وسائل لذلك) لا تختصّ بالشيعة وحدهم، بل تعمّ طوائف المسلمين.

إنّ التوسّل إلي الله تعالي عبر أوليائه كالتوسل بالنبيعليه السلام عقيدة يؤمن بها كلّ المسلمين إلاّ زمرة شاذّة تعتقد أنّ المسلمين ومنذ أكثر من ألف عام وإلي يومنا هذا، كلّهم علي ضلال وانحراف وأنّها هي وحدها التي عرفت معني التوحيد! فكل المسلمين والصحابة والتابعين وتابعي التابعين برأي هذه الفئة مشركون لأنّهم يأتون إلي قبر رسول اللهعليه السلام ويتوسلون به ويطلبون حوائجهم من الله تعالي بواسطته.

أجل هذه كانت سيرة المسلمين كافة إلاّ هذه الزمرة، وهذا ما تجدونه في المصادر المعتمدة لدي غير الشيعة من المسلمين.

انظروا مثلاً صحيح البخاري، وهو من أصح الكتب عندهم، أو أصحها علي الإطلاق، فقد ورد في هذا الكتاب أنّ المسلمين الأوائل كانوا إذا أصابهم الجدب وقلّ المطر خرجوا إلي الصحراء يتضرّعون إلي الله ويصلّون صلاة الاستسقاء وكان عمر يستسقي بالعباس عم النبيعليه السلام، يقول البخاري في صحيحه: «إن عمر بن الخطاب

كان إذا قحطوا استسقي بالعباس بن عبدالمطلب فقال: اللّهم إنا كنّا نتوسل إليك بنبيناعليه السلام فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيُسقَون».

وهنا لابدّ من التنبيه علي أمر وهو أنّ الأولي أن يتم التوسل بعد وفاة رسول اللهعليه السلام بنفس الرسول، وهو الإمام عليعليه السلام كما عبّرت بذلك عنه آية المباهلة: ?فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَي الْكَاذِبِينَ? بدلاً من التوسل بعمّ النبيعليه السلام.

وعلي كل حال فالمسلمون كانوا يتوسّلون إلي الله بالنبيعليه السلام، كما كان عمر يتوسل بعد وفاتهعليه السلام بعمه العباس.

هذا ما ورد في صحيح البخاري وليس الكافي أو نحوه ليقال إنّه من مصادر الشيعة.

وقد روي أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه:

«أن رجلا ضرير البصر أتي النبيعليه السلام فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: إن شئت دعوتُ لك وإن شئت أخّرت ذاك فهو خير. فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ فيُحسن وضوءه فيصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: «اللّهم إني أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمد نبيّ الرحمة يا محمد إني توجّهت بك إلي ربي في حاجتي هذه فتقضي لي. اللّهم شفّعه فيَّ … ففعل الرجل فبرئ».

انظر هذا النص تراه يشبه النص الموجود في دعاء التوسل الوارد في كتاب مفاتيح الجنان، وهو: «اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبي الرحمة …» ولكنّهم مع ذلك يقولون عن دعاء التوسّل الوارد عندنا بأنّه شرك وكفر!

والطريف في الأمر أنّ ابن تيمية وهو رمز هذه الفئة التي تعيب علي المسلمين توسّلهم واستشفاعهم بالنبي وآلهعليهم السلام، يعترف في كتابه بأنّ هذا الحديث صحيح.

وهناك أحاديث كثيرة أخري في كتب الفريقين تفيد أنّ النبيعليه

السلام والأئمة المعصومينعليهم السلام هم وسائط للفيض الإلهي.

الواقع خير دليل

وهنالك قضايا كثيرة تسند هذه الحقيقة، وهذه القضايا ليست مجرد قضايا تاريخية عابرة بل إنها تتجدد في كلّ عصر ومنها عصرنا، ولا شكّ أنّ للكثير منّا تجربته الشخصية في هذا المجال، بيد أنّ أكثر الناس مبتلون بالنسيان، فما أكثر المشاكل التي تواجه الإنسان في الحياة، وما أكثر الحالات التي يظلّ عاجزاً عن حلّها إلاّ عن طريق التوسل بالله تعالي والاستشفاع بأوليائه، وما أكثر المشاكل التي حُلَّت ببركتهم!

القصص في هذا المجال كثيرة إلا أنني أذكر لكم واحدة منها علي سبيل المثال؛ وهي قصة شاب كويتي مازال هو وأشخاص قصته علي قيد الحياة وكلهم معروفون في الكويت.

ابتُلي هذا الشاب بآلام في بطنه بدأت تشتدّ وتشتدّ حتي أصبحت لا تُطاق، فراجع طبيباً مشهوراً وأُجريت له عملية جراحية اكتشف الطبيب من خلالها أنّه مصاب بالسرطان! وأنّ حالته ميؤوس منها، وقال الطبيب: هناك احتمال ضعيف جداً (بنسبة 5%) لشفائه في الخارج، ولكن الاحتمال الأكبر هو الموت.

وتقرّر أن يُنقل إلي الخارج. واتّفق أنّ أحد الخطباء الحسينيين الكبار قام بعيادة المريض قبل نقله إلي الدولة التي كان مقرّراً إجراء العملية فيها، وناوله حبّة قند (سكّر مكعبات) قُرئ عليها حديث الكساء، وشيئاً من تربة الحسينعليه السلام وقال لأهله: صلّوا صلاة فاطمة الزهراء فإنّه يُشفي بإذن الله تعالي.

نُقل المريض مع بعض أهله إلي ذلك البلد الأجنبي، وفي ليلة إجراء العملية وفيما كان الشعور بالغربة والبعد عن الأهل والأطفال يسيطر علي المريض، انقطع انقطاعاً حقيقياً إلي الله تعالي وصلّي صلاة الزهراء?، ولم تكن صلاته مجرد ألفاظ بل كانت عباراته تخرج من القلب ودموعه تجري، واستمرّ يدعو الله تعالي حتي أخذته إغفاءة، فرأي الصدّيقة الزهراء? تدخل غرفته وهي

محجّبة ومعها شابّان، فدنوا نحوه، ومسح أحد الشابّين بيده علي موضع الداء، فنهض الشخص من إغفاءته وتلمّس موضع المسح وإذا بالألم قد زال ولم يبق أيّ أثر للمرض!

حضر الأطباء لإجراء العملية فقال لهم: لا أشعر بالألم وأحسّ أنّي شُفيت. استغربوا قوله وعندما أصرّ أُجريت له الفحوصات، فذُهلوا لما رأوا وقالوا:

«لا شكّ أنّ معجزة حصلت وأنّ القضية ليست طبيعية أبداً بل لابدّ من تدخّل غيبي في الأمر!».

وهكذا شُفي هذا الشاب ببركة أهل البيتعليهم السلام، وما أكثر الحالات المشابهة، ولا شكّ أنّ كلاًّ منّا لو راجع ذاكرته لوجد المزيد.

صلاة فاطمة? وقضاء الحوائج

وبمناسبة ذكر صلاة فاطمة الزهراء? في القضية المذكورة آنفاً، لا بأس بالإشارة إلي أنّ هذه الصلاة مذكورة في أوائل كتاب مفاتيح الجنان، وأنّ كلّ واحد من الإخوة المؤمنين يمكنه أن يصلّي هذه الصلاة، ليس من أجل حاجاته الدنيوية أو الشخصية فحسب، فثمة حاجات نوعية أيضاً، فهناك مثلاً الآلاف بل الملايين من المساكين والفقراء الذين يتهددهم الجوع في العالَم! أليست هذه مشكلة حقيقية؟ أم يكون منطقنا: إذا مِتّ ظمآناً فلا نزل القطر؟! كلا، فليس هذا منطق الإنسان المؤمن.

روي عن الإمام الحسنعليه السلام أنه قال: «رأيت أمّي فاطمة? قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتي اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم، وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أمّاه، لِم لا تدعون لنفسكِ كما تدعون لغيرك؟ فقالت: يا بني، الجار ثم الدار».

فهذا هو منطق أهل البيتعليهم السلام، فهل نكون كذلك أم نقول: الدار ثم الدار؟!

كتب لي شخص قبل عدة أيام يقول: إني رجل متزوج وعندي ثلاثة أولاد، ولكنا نعيش في ضائقة اقتصادية خانقة، لدرجة أنّ زوجتي لم تعد تحتمل الوضع، فطلبتْ منّي

الطلاق، فماذا تري؟!

فكم مثل هذا الشخص موجودون اليوم بين ظهرانينا ولا نعلم بهم؟

وِرد آخر للزهراء?

وبمناسبة ذكر صلاة الزهراء? في القصة، لا بأس بالإشارة إلي أنّ هناك ورداً آخر مجرّباً وذلك بأن تتوضّأ وتجلس في مكان مستقبل القبلة ولا تكلّم أحداً وتقول خمسمئة وثلاثين مرة «اللّهم صلّ علي فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها بعدد ما أحاط به علمك».

الأيام الفاطمية

ملاحظة أخيرة تتعلّق بالأيام الفاطمية أودّ التذكير بها وهي أنّ المؤمنين في قم المقدسة يتّخذون مناسبتين للفاطمية، الفاطمية الأولي في جمادي الأولي، والفاطمية الثانية في جمادي الثانية. الجدير بالمؤمنين أعزّهم الله تعالي أن يحيوا الفاطمية الثانية كما يحيون الفاطمية الأولي وجزاهم الله خير الجزاء.

نسأله سبحانه أن يوفّقنا للاقتداء بأهل البيتعليهم السلام في الدنيا، وأن يرزقنا شفاعتهم في الآخرة.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين.

التبري من اعداء الله تعالي

التبري من اعداء الله تعالي

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين. وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي قيام يوم الدين

الموقف من أعداء الله تعالي

الموقف من أعداء الله تعالي

يمكن تقسيم المواقف المتخذة من أعداء الله تعالي إلي ثلاثة مواقف:

الموقف الأول

هو الموقف الذي يحاول تمييع الحدود بين الحق والباطل، أصحاب هذا الموقف يرفضون فكرة أنه لا يوجد إلاّ صراط مستقيم واحد، بل يعتقدون أن هناك صرطاً مستقيمة كلّها توصل سالكيها إلي الله سبحانه بنحو من أنحاء الإيصال، ومن ثم لا يوجد فرق عندهم بين النبي موسي (علي نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام) وبين من عبد العجل، لأن لكل منهما صراطه المستقيم، ويقولون إن موسيعليه السلام عندما أخذ بلحية أخيه يجرّه إليه إنما عاتبه علي نهيه قومه عن عبادة العجل! لأن الله بزعمهم يحبّ أن يعبد في أيّة صورة كان المعبود.

وهذه العقيدة ليست فلسفة تعود للماضي، ولا نظرية جديدة تستوطن أقاصي بلاد الشرق والغرب، بل هي موجودة في قلب البلاد الإسلامية أيضاً.

في هذه النظرية لا معني للتبري، لأنه يتساوي فيها نبي الله موسيعليه السلام وفرعون الطاغية؛ يقول شيخهم الأكبر في كتابه حول فرعون: «فقبضه الله طاهراً مطهّراً لم يشبْهُ دنس» ويقول: «إن قوم نوح إنما أغرقوا في بحار رحمة الله». ويقول شاعرهم:

لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة

فمرعي لغزلان ودير لرهبان

إلي أن يقول:

أدين بدين الحب أني توجهتْ

ركائبه فالحب ديني وإيماني

فالدين في هذا المنطق هو الحبّ بشكل مطلق؛ حب القاتل والمقتول، حب الجلاّد والضحية، حب قابيل وهابيل، حب فرعون وموسي، حب نمرود وإبراهيم، حب أبي سفيان وخاتم الأنبياءعليه السلام، ومن ثم لا معني للتبري، لأنه لا يوجد شخص ينبغي أن يُتبرّأ منه ما دام الكلّ في طريق الله سبحانه وتعالي.

وقد روي أن رجلاً قدم علي أمير المؤمنينعليه السلام فقال له: يا أمير المؤمنين إني أحبّك وأحبّ فلاناً فقالعليه السلام: «أمّا الآن فأنت أعور، فإما أن تعمي وإما

أن تبصر».

الموقف الثاني

هو الموقف الذي يتبنّي التولي لأولياء الله تعالي ولكنه لا يتبنّي التبري من أعدائه.

هذا الموقف يري فضائل ومناقب من يتوّلاه فيتوّلاه، ولكنه لا يري مثالب عدوّه لأن له عيناً واحدة فقط.

وهذا الموقف يختلف عن الموقف الأول، لأن صاحب الموقف الأول يبرّئ الجميع، أما صاحب الموقف الثاني فيقول إني أتولي فلاناً ولا شأن لي بغيره.

الموقف الثالث

هو الموقف الذي يرتكز علي قاعدة التولّي والتبرّي معاً، وكلامنا في هذا البحث هو حول هذا الموقف، ونسعي أولاً لتقصّيه في القرآن الكريم.

التبري من أعداء الله تعالي في القرآن الكريم

يتناول القرآن الكريم قضية التبرّي بصيغتين؛ الأولي: ما يحتوي علي عنوان التبري بنفسه، والثانية: ما يتناول بعض مظاهر التبري.

أما الصيغة الأولي فلعلّ أبرز موقف يمثّلها هو موقف نبيّ الله إبراهيم (عليه وعلي نبينا وآله السلام) في قوله تعالي: ?فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ?.

توضيح ذلك: إن من المحرمات التي ذكرها الفقهاء في كتبهم: الاستغفار للمشرك حتي لو كان أباً أو قريباً؛ قال الله تعالي: ?مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَي مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ?؛ وهذه الشدة في الموقف تعني أنه حتي هذا المقدار من الرابطة العاطفية مع أعداء الله تعالي غير مسموح به شرعاً.

لا شك أن التعامل الإنساني لا إشكال فيه؛ يقول تعالي: ?لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ?.

ولقد سقي الإمام الحسينعليه السلام أعداءه الماء، كما سقي النبي الأكرمعليه السلام أعداءه، فالقضية الإنسانية لا تعرف التأطير العقائدي (علي التفصيل المقرّر في الفقه)، أمّا إنشاء الرابطة العاطفية مع أعداء الله تعالي فغير مسموح حتي علي مستوي الاستغفار لهم.

(عن أبي إسحاق الهمذاني عن رجل قال: صلّي رجل إلي جنبي فاستغفر لأبويه وكانا ماتا في الجاهلية. فقلت: تستغفر لأبويك وقد ماتا في الجاهلية؟ فقال: قد استغفر إبراهيم لأبيه. فلم أدر ما أردّ عليه، فذكرت ذلك للنبيعليه السلام فأنزل الله: ?وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ?. ولم

يكن آزر أباه الحقيقي بل كان عمه، وفي اللغة العربية يطلق علي العم لفظة الأب وعلي الخالة لفظة الأم.

وعلي أيّ حال، يظهر من الآية الكريمة أن آزر وعد إبراهيم (عليه وعلي نبينا وآله السلام) أن يؤمن، ولذلك استغفر له إبراهيمعليه السلام استغفاراً فعلياً أو تعليقياً، ولكنه عندما تبيّن له أنه عدو لله، تبرّأ منه؛ لأن الدين لا يقيم قاعدته علي أساس العلاقات العائلية بل يقيمها علي أساس العلاقات العقائدية، فالعقيدة هي الملاك وليس الروابط.

وفي الآية نكتة جديرة بالالتفات تكمن في كلمة «تبرأ منه» فهي تعني التبري من الفاعل وليس التبري من الفعل فقط، فهناك منطق يقول: نتبرأ من الفعل لا من الفاعل، ولكن منطق القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة هو التبرؤ من الفاعل، كما أن هناك آيات فيها تبرّؤ من الفعل مثل قوله تعالي: ?وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ? وقوله سبحانه: ?وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ?.

ومن الموارد التي وردت فيها البراءة بعنوانها سورة كاملة تحمل اسم البراءة وتبدأ به دون البسملة (شعار الرحمة).

أما الصيغة الأخري من التبري في القرآن الكريم فهي الآيات التي تتناول مظاهر التبري، ومن هذه المظاهر الاستعاذة؛ قال الله تعالي: ?فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ?.

ومنها الآيات التي وردت فيها كلمة اللعن.

كثيراً ما يقال: لماذا تلعنون الظالمين؟

والجواب: إن الله تعالي هو الذي شرع لنا اللعن، والآيات القرآنية التي فيها اللعن أكثر من ثلاثين آية، ونحن نلعن من لعنه الله تعالي.

نظرة إلي مقولة التوفيق العقائدي

مع كل ما تقدّم، نسمع اليوم من يذهب إلي فكرة التوفيق العقائدي (أو العقدي). نحن لا نتحدث عن التوفيق العملي الذي قد تفرضه بعض الظروف، بل في التوافق العقائدي والقول إن علي كل طرف أن يتنازل عن بعض ثوابته من أجل

الوحدة مع الآخر، إن هذا النوع من التوافق غير صحيح وغير ممكن.

قال أحد الأشخاص لصاحبه: يجب أن نلغي المذاهب فلا سنّة ولا شيعة، فقال صاحبه: إذا أذّن المؤذن كيف نصلّي؟ هل نسبل اليدين أم نتكتف؟ هل نسجد علي التراب أم السجّاد …؟ ويقول أحد العلماء ما مضمونه: جمعني مع رجل من المذاهب الأخري لقاء فحلّ موعد الصلاة فقال: أيّنا يؤمّ الآخر؟ فقلت: في مذهبنا هنالك شروط لإمام الجماعة، وأنا لا أصلّي خلف من يفتقد هذه الشروط ولو كان شيعياً، أما أنتم في مذهبكم فتجوّزون الصلاة خلف كل برّ وفاجر، فلأكن أنا الإمام.

لماذا التبري؟

لماذا التبري؟

هناك شبهة يثيرها البعض فيقولون: ولماذا التبري من أشخاص وأقوام ماتوا ولم يعودوا بين ظهرانينا؟ ويقولون: أولئك قوم عصمنا الله تعالي من دمائهم فلنعصم أنفسنا من أعراضهم، فنحن لم نشترك في قتلهم، فلنجنّب أنفسنا الخوض في كرامتهم.

إن الإجابة عن هذه التساؤلات بحاجة إلي بحث مستقلّ، لكننا نكتفي هنا بالإشارة إلي نقطتين علي نحو الإجمال والاختصار؛ وهما:

النقطة الأولي

إن التبري يعني صنع الحاجز النفسي والاجتماعي مع من تتبرّأ منه، وقضية الحاجز النفسي والاجتماعي قضية مهمة، فمن الناحية الفقهية يحرم علي الإنسان أن يجلس علي مائدة يُشرب فيها الخمر، إننا الآن نتنفر من الخمرة ويكون تصوّر شربها مقزّزاً لنا، لكن إذا جلس الإنسان علي مائدة يُشرب فيها الخمر فإن هذا الحاجز النفسي يقلّ تدريجياً.

وهؤلاء الأفراد الذين نتبرّأ منهم لا يمثلون أفراداً فقط بل يمثّلون مناهج أيضاً، فالحجاج يمثّل منهجاً وهذا المنهج قابل للتكرار في كل مكان وزمان، ألم يتكرر نموذج الحجاج في العراق؟

إذن ينبغي وضع حاجز نفسي واجتماعي تجاه النماذج السيئة لئلا تتكرر، فلو اتخذ أحد أبنائنا شخصاً منحرفاً صديقاً له، ألا نسعي لخلق حاجز في نفسه للابتعاد عنه؟

ولعل هذا يفسّر كثرة النماذج المشابهة للحجّاج في الخطوط الأخري؛ ولِم لا يفرز أصحاب المنهج المخالف أشخاصاً كالحجاج ماداموا معجبين به غير متبرّين منه؟!

إن التبري هو الذي يصنع الحاجز النفسي للابتعاد عن النموذج المتبرّي منه.

النقطة الثانية

وهي نقطة مهمة جداً وإن كان يغفل أو يتغافل عنها الداعون للوحدة العقائدية والفكرية والفقهية؛ وهي: إن موقفنا إزاء هذه النماذج المنحرفة دائر بين أمرين، فإما أن ندين أفراداً أو ندين الإسلام، فنحن مضطرون لأحد هذين الأمرين، إن من العوامل المهمة التي تحول دون إسلام كثير من الغربيين هي هذه النماذج السيّئة، وهي نماذج ثابتة تاريخياً ولا يمكن إنكارها أو التستر عليها! هل يستعدّ فرد عاقل اليوم لأن يخضع لحكم البعثيين مع هذا النموذج الذي قدّموه؟! هكذا حال هذه النماذج التاريخية، فهؤلاء الأفراد يشكّلون دعاية سلبية للإسلام، فإذا كان الإسلام هو الدين الذي يفرز أمثال الحجاج وهارون فإنه ليس ديناً جديراً بالقبول.

إن أمرنا دائر بين أن ندين هؤلاء الأفراد ونطهّر ساحة

الإسلام منهم فنقول: إن هؤلاء لا يمثّلون الدين وإننا نعلن براءتنا منهم، وإما أن نسكت عن هؤلاء وجرائمهم، وهذا معناه إدانة الإسلام.

فأيهما أفضل: إدانة الإسلام أم القول إن هؤلاء يمثّلون شذوذاً عنه وعن تعاليمه؟

إننا لو فكّرنا في قضية التبرّي من الناحية العقلية لرأينا أن التبري من هذه النماذج ضرورة إسلامية يحكم بها العقل قبل الشرع.

أليس التبرّي من تجربة طالبان في أفغانستان ضرورة؟! ولو قلنا للعالم: إن الطالبان يمثّلون الإسلام حقيقة فهل يفكر عاقل في اعتناقه حينئذ؟!

وإذا كنا نتبرّأ اليوم من طالبان وأمثالهم، فمن الاولي أن نتبرأ من أولئك الذين جلس الطالبان علي موائدهم أعني من تقدمهم وخطّ لهم هذا الخطّ، ومن أسس أساس الظلم والجور فأولئك أولي بالإدانة والتبرّي، ولذلك نحن نتبرأ منهم.

الصديقة الزهراء? أعظم رمز للتبري من أعداء الله تعالي

يبدو أن التخطيط الإلهي كان يقتضي أن تكون الزهراء? أعظم رمز للتبري من أعداء الله تعالي، إنها الرمز الذي لا يمكن إنكاره، والمخالفون متحيّرون ماذا يفعلون وماذا يقولون تجاه هذا الرمز.

فمثلاً نري البخاري الذي يأنف عن ذكر حتي رواية واحدة عن الإمام الصادقعليه السلام [مع أن المذاهب الأربعة كلّها عيال علي المدرسة الفقهية للإمام الصادقعليه السلام]، ويروي عن الخوارج وعن عمران بن حطّان الذي يقول في ابن ملجم:

يا ضربة من تقيّ ما أراد بها

إني لأذكره حيناً فأحسبه

إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

أوفي البرية عند الله ميزانا

ولا يروي عن الإمام الصادقعليه السلام! أجل حتي البخاري هذا لم يستطع الهروب من هذه القضية، ونقل ما يكشف أن خطّ فاطمة الزهراء? هو خطّ التبرّي، فهو يروي في كتابه الذي يعدّه قومه أصحّ الكتب بعد كتاب الله تعالي: أن رسول اللهعليه السلام قال: «فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني» ثم يذكر في مكان آخر من كتابه

عن فلان: «فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتي ماتت».

راجعوا كتاب «الإمام الصادق والمذاهب الأربعة» لتعرفوا منهج هذا الرجل في تدوين الحديث، ولكنه ذكر هذه الرواية، وهذا جزء من الهداية الإلهية التشريعية للبشر، لكي تكون معالم الحق واضحة جليّة لا تخفي علي أحد.

وقد روي أنّ أحد علماء العامة أراد اللقاء بالعلامة الحلّي ليبحث معه في أمر الإمامة، فأوفد العلاّمة ولده فخر المحققين لاستقباله خارج البلدة، وبينما هما في الطريق التفت فخر المحققين وسأل ذلك العالم:

«هل حديث: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» صحيح عندكم؟ فقال: نعم، قال فخر المحققين: فهل كان لفاطمة بعد وفاة أبيهاعليه السلام إمام أو لا؟ فحار العالم ماذا يجيب، فإن قال: لا، فهل يعقل أن تكون الزهراء قد ماتت والعياذ بالله ميتة جاهلية، وهي التي يرضي الله لرضاها ويغضب لغضبها؟! وإن قال: نعم، فمن كان إمام زمانها؟ لا شك أنه لم يكن أبا بكر لأنها كانت مقاطعة له واجدة عليه رافضة لحكمه مُدينة له، وما رضيت حتي أن يشترك في تشييعها، وإن قال إن إمامها كان علي بن أبي طالب، فقد خصم، وهكذا حار العالم وعاد من حيث أتي دون أن يلتقي بالعلامة الحلي».

فعند الزهراء? ينتهي كل احتجاج، وهي الرمز الذي لا يقبل التأويل وتنقطع عنده كلّ حجة.

ومما ينقل في هذا الصدد أيضاً أنه أتت عائشة وحفصة إلي عثمان تطلبان ميراثهما من ضياع أموال رسول اللهعليه السلام التي في يديه، فقال: ولا كرامة، لكن أجيز شهادتكما علي أنفسكما، فإنّكما شهدتما عند أبويكما أنّكما سمعتما من رسول اللهعليه السلام يقول: إنّ النبيّ لا يورث، ما ترك فهو صدقة، ثم لقّنتما أعرابيّا جلفاً … فشهد معكما، لا من أصحاب رسول اللهعليه السلام

ولا من الأنصار أحد شهد بذلك غير أعرابيّ، أما والله ما أشكّ في أنّه قد كذب علي رسول اللهعليه السلام، وكذبتما عليه معه، فانصرفتا من عنده تبكيان وتشتمانه، فقال ارجعا، ثم قال: أشهِدتما بذلك عند أبي بكر؟ قالتا: نعم. قال: فإن شهدتما بحقّ فلا حقّ لكما، وإن كنتما شهدتما بباطل فعليكما وعلي من أجاز شهادتكما علي أهل هذا البيت لَعْنَةُ الله والمَلائكَة وَالنَّاسِ أَجْمَعين.

وقال صاحب «كشف الغمّة»: «لما ولي عثمان قالت له عائشة: أعطني ما كان يعطيني أبي وعمر. فقال: لا أجد له موضعاً في الكتاب ولا في السنة ولكن كان أبوك وعمر يعطيانك عن طيبة أنفسهما وأنا لا أفعل. قالت: فأعطني ميراثي من رسول الله. فقال: أليس جئتِ فشهدتِ أنتِ ومالك بن أوس النضري أن رسول اللهعليه السلام قال: لا نورث، فأبطلتِ حقّ فاطمة، وجئتِ تطلبينه، لا أفعل. فكان إذا خرج إلي الصلاة نادت وترفع القميص وتقول: إنه قد خالف صاحب هذا القميص، فلما آذته صعد المنبر فقال: إن هذه الزعراء عدوة الله ضرب الله مثلها ومثل صاحبتها حفصة في الكتاب ?اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا? إلي قوله ?وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ?. فقالت له: يا نعثل يا عدو الله إنما سمّاك رسول اللهعليه السلام باسم نعثل اليهودي الذي باليمن، فلاعنته ولاعنها وحلفت أن لا تساكنه بمصر أبداً وخرجت إلي مكة».

واجبنا تجاه قضية الزهراء

أما بعض واجبنا تجاه الزهراء? فهو تركيز قضيتها في النفس والبيت والمجتمع والعالم.

فمن طرق التركيز في البيت والعائلة مثلاً تخصيص جائزة لكلّ من يحفظ الخطبة الفدكية للسيدة الزهراء?، كما يمكن للمشرفين علي الدورات الصيفية القيام بذلك أيضاً.

ومن طرق التركيز في المجتمع والعالم تأليف الكتب والموسوعات عن الصديقة

الزهراء? وقضيتها ومظلوميتها.

ومن كان يستطيع إقامة مجالس العزاء في بيته فليفعل، ولنواصل ولا نتوقف، لأن كثيرين وُفّقوا في البداية ولكن التوفيق لم يحالفهم حتي النهاية، فلنطلب من الله تعالي أن لا يسلبنا هذا التوفيق.

لك سدارتك وأعطني عمامتي

كان نظام الحكم في العراق قبل حوالي أربعين عاماً يحاول استقطاب رجال الدين ثم تذويبهم ومن هنا أعلنت الدولة عن توظيف رجال الدين كمعلمين براتب جيد، بعد إجراء امتحان لهم.

وقد نقل عن أحد رجال الدين آنذاك أنه قال: كانت أوضاعي المادية ضاغطة ففكرت أن أوفّق بين الأمرين فأذهب صباحاً للوظيفة الرسمية، ثم أعود عصراً إلي مهمّتي كرجل دين، دون أن أخبر أحداً بذلك.

قال: وبينما كنت ذاهباً لأداء الامتحان لقيني شخص من عامّة الناس في الطريق وطلب مني أن أفسّر له رؤيا رآها البارحة، وقال: لقد رأيت الإمام أمير المؤمنينعليه السلام يخاطبك بالقول: «لك سدارتك وأعطني عمامتي» وكان المعلّمون آنذاك يلبسون سدارة فما تفسير ذلك؟

يقول: فقلت له: هذه رسالة لي من أمير المؤمنينعليه السلام وقد وصلت الرسالة، ثم رجعتُ إلي بيتي ولم أنخرط في سلك الدولة، وتركتُ الحلول التوفيقية، وواصلت سيري في طلب العلوم الدينية والخطابة.

نسأل الله سبحانه وتعالي أن يجعلنا من الموفَّقين لخدمة دينه وأوليائه وأن لا يسلبنا هذا التوفيق، إنه سميع مجيب.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين.

تاثير الذكر

تاثير الذكر

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين

قال الله تعالي في كتابه الحكيم: ?إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ? الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَيَ جُنُوبِهِمْ?.

مقدّمة

لكل حقيقة من الحقائق أربعة وجودات عادة؛ الأول: الوجود العيني وهو عبارة عن تحقق الشيء في الخارج. الثاني: الوجود الذهني وهو عبارة عن انطباع صورة الشيء الموجود خارجاً في الذهن. الثالث: الوجود اللفظي، والرابع: الوجود الكتبي.

ما يهمنا فعلا في هذه الوجودات الأربعة بحثان:

البحث الأول: أن هذه الوجودات الأربعة متفاعلة؛ تؤثر حالات بعضها في حالات بعض.

البحث الثاني: أن هذه الوجودات الأربعة مترابطة.

البحث الأول: التفاعل بين أنحاء الوجود

لو فرضنا أن للوجود الخارجي لشيء ما صفة معينة، فهذه الصفة لاتمثل صفة خارجية لموجود خارجي فحسب بل تؤثر في الوجود الذهني واللفظي والكتبي له أيضاً ولو في الجملة أوصي الإخوة المؤمنين بقراءة أحكام الأولاد في كتاب النكاح، فهذا الباب مشحون بالقيم الدينية التي يحتاج إليها كل واحد منا نحن المسلمين، وفيه يذكر الفقهاء أن الأب ينبغي ان لا يسمي ابنه أو بنته باسم عدو من أعداء الله تعالي؛ لأن لذلك تأثيرات سلبية في روحية الطفل.

في كتاب الكافي للكليني?: يَعْقُوب السَّرَّاج قالَ: «دَخَلْتُ عَلي أَبي عَبْد اللَّهعليه السلام وهُوَ وَاقفٌ عَلي رَأس أَبي الْحَسَن مُوسَي وهُوَ في الْمَهْد فَجَعَلَ يُسَارُّهُ طَوِيلاً. فَجَلَسْتُ حَتَّي فَرَغَ، فَقُمْتُ إليه فَقَالَ لي: ادْنُ منْ مَوْلاكَ فَسَلِّمْ. فَدَنَوْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ بلسَان فَصِيح ثُمَّ قَالَ لي: اذْهَبْ فَغَيِّرِ اسْمَ ابْنَتكَ الَّتي سَمَّيْتَهَا أَمْس فَإنَّهُ اسْمٌ يُبْغِضُهُ اللَّهُ. وكَانَ وُلِدَتْ لِي ابْنَةٌ سَمَّيْتُهَا بِالْحُمَيْرَاء. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهعليه السلام: انْتَهِ إلي أَمْره تُرْشَدْ. فَغَيَّرْتُ اسْمَهَا».

بل ذكر بعض الفقهاء أنه ينبغي تغيير حتي الأسماء المحايدة إلي الأسماء النورية أي محمد وفاطمة وعلي والحسن والحسينعليهم السلام وامثالها كما كان رسول اللهعليه السلام يصنع ذلك مع بعض الصحابة.

البحث الثاني: الترابط بين أنحاء الوجود

ومعناه أن وجود بعضها يستتبع وجود بعضها الآخر ولو في الجملة. مثلا: الوجود اللفظي (وهو وجود في عالم اللفظ والعبارة) يستتبع الوجود الذهني، فالكلمات والعبارات التي تطلقها ليست أمواجاً تتحرك في الفضاء فقط بل تؤثر في ذهنك أيضاً، وقد تستتبع وجوداً عملياً لأن الصورة التي تنطبع في الذهن قد تنتهي إلي الوجود العملي.

تأثير ذكر الله علي حياة الإنسان

بعد هذه المقدمة نعود إلي الآية الكريمة: ?الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَيَ جُنُوبِهِمْ?.

فما قيمة قولنا: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)، وما دور ذلك؟

يتصور بعض الناس أن هذه الألفاظ لا قيمة لها، مع أن لها قيمة كبري، لأنها تعني حضور الله سبحانه وتعالي في لفظك، وهذا الحضور اللفظي يؤثر في ذهنك بالتبع إن لم يكن في المرة الأولي ففي المرات اللاحقة، وبمرور الأيام وبالمداومة علي الذكر تخلق هذه الألفاظ حالة ذهنية معيّنة عند الذاكر حيث تنطبع المفاهيم التي تحملها الألفاظ في الذهن، وهذه الحالة الذهنية ستؤثر في العمل أيضاً؛ أي يتحقق في البداية الوجود اللفظي، ثم تتحقق الصورة الذهنية والوجود الذهني، ويأتي التطبيق العملي أخيراً وفق تلك الصورة الذهنية (أي الوجود الذهني) والصورة اللفظية (أي الوجود اللفظي).

قصة فيها عبرة

نقل أحد العلماء القدامي في إيران أنه كان مسافراً إلي زيارة الإمام الحسينعليه السلام في العراق فوقع هو والقافلة في كمين لبعض قطاع الطرق في مدينة كرمانشاه الإيرانية، فاستولوا علي كل أموال القافلة ولم يجدِ معهم النصح والكلام. يقول العالم:

«ولكن ما لفت انتباهي أنه عندما حان موعد الصلاة انعزل أحدهم جانباً ويبدو أنه كان رئيسهم وتوضأ ثم صلي الفريضة. وعندما أتمّ صلاته توجّهتُ إليه وسألته: هل أنت رئيس هذه العصابة؟ قال: نعم. قلت: وماذا تنفعك هذه الصلاة وأنت لا تراعي لله حرمة حيث تسرق أموال الناس؟!

فقال: صحيح أنني مذنب وعاص، ولكن يجب علي الفرد أن لا يقطع جميع الخيوط التي تربطه بالله تعالي.

يقول العالم: بعد بضع سنين، كنت جالساً في إحدي العتبات المقدسة، عندما أقبل عليّ شخص ظاهر الصلاح فسلّم عليّ وقال: هل تعرفني؟

وعندما أجبته بالنفي قال: أنا صاحبك الذي قطعت عليك الطريق

في سنة كذا وسألتني آنذاك عن الفائدة التي أجنيها من صلاتي.. أرأيت كيف أفادتني تلك الصلاة وقادتني إلي ما تري، حيث إني تبت إلي الله توبة نصوحاً، وتخلصت من التبعات وأرجعت كل الأموال إلي أصحابها، ومن لم أعرفه تصدقت بأمواله نيابة عنه».

• وقد روي أن فتي من الأنصار كان يصلّي مع رسول اللهعليه السلام إلا أنه كان يرتكب الفواحش فوُصف ذلك لرسول اللهعليه السلام فقال: «إنّ صلاته تنهاه يوماً ما». فلم يلبث أن تاب.

وهذا ما يفسر جانباً من جوانب كثرة الأدعية وتنوعها، فانكم إذا راجعتم كتب الأدعية لاحظتم أنه يوجد دعاء أو ذكر لكثير من الحالات، فهناك ذكر لمن يريد السفر؛ يقول: ?سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ? وذكر عند إرادة البدء بالطعام: ?بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ? وذكر عند الانتهاء من الطعام: ?الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين?، وذكر قبل النوم: (تسبيحة الزهراء?) كما وردت (تسبيحة الزهراء) عقيب كل صلاة، وهناك ذكر مشحون بالمعارف الإلهية عند كل فعل من أفعال الوضوء، فتقول عند غسل الوجه: «اللهم بيّض وجهي يوم تسودّ فيه الوجوه» وهكذا …

إن الذكر يؤثر في حياة الإنسان ويقوّم سلوكه إن لم يكن اليوم فغداً أو بعد غد؛ ولقد تغيّرت حالة الجيل الجديد مع الأسف وابتعد كثير من الشباب عن الذكر، خلافاً لمن سبقنا من الأبرار فقد كانوا يلهجون بذكر الله في كل وقت، فكانت المرأة مثلاً تسبّح الله وتذكره وهي مشتغلة بأعمال المطبخ وهكذا الرجل وهو في طريقه إلي البيت، أو وهو مشتغل بعمله.

إن من يعرف قيمة الذكر لا يدَعْ وقته يذهب سديً دون أن يستثمره بالذكر. ولقد جاء في صحيفة سليمان بن داوود: لتسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما أعطي ابن

داوود، إن ما أعطي ابن داوود يذهب وإن التسبيحة تبقي. أي إن تسبيحه واحدة مثل قول «سبحان الله» أعظم عند الله وأبقي أثراً من كل ذلك الملك العريض الذي أُعطي سليمانعليه السلام.

فإذا كان هذا قيمة الذكر أفليس من الخسارة أن يقضي المرء أوقاته عبثاً دون أن يذكر الله؟!

عَنْ أَبي بَصير قَالَ: قَالَ الصَّادقُعليه السلام: مَنْ صَلَّي عَلَي النَّبيِّ وآله مئَةَ مَرَّة فِي كُلِّ يَوْم ابْتَدَرَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَك أَيُّهُمْ يُبْلغُهَا إلي رَسُولِ اللَّهعليه السلام قَبْلَ صَاحبه.

وعن الْقُطْبُ الرَّاوَنْديُّ في لُبِّ اللُّبَاب عَنْ النَّبيِّعليه السلام قَال: مَنْ صَلَّي عَلَيَّ وعَلَي آلي صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلائكَةُ، ومَنْ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلائكَةُ صَلَّي اللَّهُ عَلَيْه، ومَنْ صَلَّي اللَّهُ عَلَيْه لَمْ يَبْقَ في السَّمَاوَات والأرض مَلَكٌ إلا ويُصلُّونَ عَلَيه …

حقاً ما أعظم قيمة الذكر! فقول «اللهم صل علي محمد وآل محمد» قد لا يستغرق خمس ثوان من الإنسان ولكنه يساوي صلاة الله ودعوة الملائكة بالرحمة لقائله!

ألا يأسي الإنسان علي الأوقات التي لم يذكر الله سبحانه وتعالي فيها؟! أوَلا يجدر بنا خلق الحالة التي كان عليها آباؤنا الأخيار من دوام الذكر في كل حال؟

الذكر العملي والقلبي

كان الحديث فيما مضي عن الذكر اللفظي، ونتحدث الآن عن الذكر العملي والقلبي وهو أن نستحضر الله تعالي ونذكره في أذهاننا وقلوبنا قبل أن ننطق بأية كلمة وقبل أن نتخذ أي موقف، فمثلاً عندما يدخل الزوج البيت وهو مرهق ومتعب وتستفزه الزوجة وتثير أعصابه سواء كانت محقة أو غير محقة، عليه أن يذكر الله تعالي قبل القيام بأي ردّ فعل، وهكذا علي الزوجة أن تذكر الله قبل اتخاذها أي موقف تجاه زوجها.

فهذه الحالة من الرقابة الدائمة علي النفس والحذر من أن يصدر عنها ما يسخط الرب، هي الذكر

العملي والقلبي.

وقد روي أن الإمام السجادعليه السلام الْتَاثَتْ عَلَيْهِ نَاقَتُهُ فَرَفَعَ الْقَضِيبَ وأَشَارَ إِلَيْهَا وقَال: لولا خَوْفُ الْقصَاصِ لَفَعَلْتُ. وفي رِواية: آهِ مِنَ الْقصَاصِ. ورَدَّ يَدَهُ عَنْها.

نماذج من الذكر العملي

• النموذج الأول: حكاه السيد الجد? وأنقلها لكم عبر واسطة واحدة يقول:

«كان احد التجّار جالساً مع جماعة من زملائه إذ حضر شخص وقال: لقد توفي التاجر الفلاني. قيل له: كيف، ولم يكن به شيء؟ قال: نام ولم يستيقظ!

وما كان من صاحبنا (التاجر الحاضر في الجلسة) بعد أن سمع النبأ إلا أن أطرق برأسه قليلاً ثم توجّه إلي الحاضرين من زملائه وقال: أيها التجار اشهدوا أني مدين لهذا التاجر بمبلغ كذا.

وعندما سأله زملاؤه: وما أعجلك علي إعلان هذا الأمر؟ قال: لم يكن يعلم بهذا الدَّين إلا الله وهو وأنا، وخفت إن فات الوقت ولم أعلن عنه أن يغرّني الشيطان بأكل المال، فأردت أن أقطع عليه الطريق».

• النموذج الثاني: يُنقل في أحوال أحد المراجع أن تاجراً قال له:

«سيدنا أنا مدين بديون كثيرة ولكن الشيطان لا يدعني أن أؤديها وإني في صراع مع الشيطان ولا أستطيع التغلب عليه».

وكلما نصحه العالم لم تُجد النصيحة معه وقال:

«أنا لا أتمكن ونفسي لا تطاوعني، ولكن هناك حل واحد وهو أن تقول لهؤلاء الخدم الموجودين في بيتك لكي يقيدوني ويُخرجوا المفتاح من جيبي ثم يتوجهوا إلي قاصتي وهي في محل كذا، ويخرجوا المال كي يصرف في موارده.

وأضاف: مهما قلت لكم أثناء تقييدي فلا تعتنوا بكلامي.

وقام الخدم بالمهمة وكلما صرخ التاجر بهم لم يعتنوا بكلامه وأسرعوا إلي قاصته وأخرجوا المال الذي كان قد حدده لهم ثم عادوا وفكّوا التاجر ليذهب إلي سبيله.

وكان هذا التاجر كلما التقي المرجع بعد ذلك قال له: جزاك الله عني خير الجزاء، فلقد

أرحتني من همّ ثقيل».

إذن المقصود من الذكر العملي أن يتذكر الإنسان الله تعالي في كل خطوة يريد أن يخطوها، كمن يمشي في أرض ذات شوك فانه يلاحظ بدقّة كلّ خطوة من خطواته، فإذا فعل الإنسان ذلك فسوف يكون من المفلحين بإذن الله تعالي.

نسأله سبحانه أن يجعلنا من الذين يذكرون الله بلسانهم وقلوبهم وأعمالهم وأن نكون من الذاكرين الله كثيراً.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين.

صلاة اليل.. فلسفتها و معطياتها

صلاة اليل.. فلسفتها و معطياتها

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي قيام يوم الدين

قال الله تعالي في كتابه الحكيم: ?تَتَجَافَي جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ? فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ? صدق الله العلي العظيم.

حديثنا عن صلاة الليل يدور حول محورين:

المحور الأول: الفلسفة الرئيسية لصلاة الليل.

المحور الثاني: معطيات صلاة الليل.

فلسفة صلاة الليل

أما بالنسبة للمحور الأول؛ فربما يبدو لنا والله أعلم بحقائق الأمور أن الفلسفة الرئيسية لصلاة الليل ترتبط بنوع من الارتباط بالفلسفة الرئيسية لخلقة الإنسان.

فياتري لماذا خلقنا الله سبحانه وتعالي؟ ثمة آية قرآنية كريمة تجيب علي هذا السؤال بوضوح، وهي قوله تعالي: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?.

إن هذه الجملة القرآنية؛ ووفقاً للاصطلاح الأدبي يقال لها: جملة حصر، وجملة الحصر في اللغة تنحلّ إلي عقدين: عقد إيجابي، وعقد سلبي، فالعقد الإيجابي لهذه الجملة أن الله خلق الجن والإنس للعبادة، أما العقد السلبي فهو أن خلق الجن والإنس لم يكن لأي هدف آخر غير العبادة.

وبناء علي ذلك؛ فإن أي تصرّف يصدر عنا نحن البشر خارج إطار العبادة، فهو خارج عن إطار الهدف من خلقتنا، تماماً كذاك الطالب الذي يدخل قاعة الامتحان ليمتحن، فما يصدر عنه من التصرفات لايمكن عدّها جزءاً من فلسفة وجوده في القاعة، إلاّ أن تكون متعلّقة بشكل من الأشكال بالهدف من دخوله القاعة، وهو الامتحان.

فتناولنا الطعام نحن البشر لا يصحّ عدّه هدفاً لوجودنا في الحياة، إلا إذا ربطناه بحقيقة الهدف من خلقتنا، وهي العبادة، وإن لم نجعله كذلك فهو لا يعدو كونه تضييعاً للحكمة من وجودنا، تماماً كمن يهاجر إلي بلاد الغربة للدراسة فيضيع

وقته في الاكل والشرب والنوم واللعب، وحينما يعود إلي وطنه يعتريه الندم علي ما فرّط في تلك البلاد … وهكذا بالنسبة الي سائر الأمور

إذن؛ فالهدف من الخلقة هو العبادة، وليس الهدف أي شي آخر.

وهنالك من يقول إن العبادة ممارسة تختصّ بالشيوخ والعجائز، ولكن: اذا كان الأمر كذلك فلماذا وقف رسول اللهعليه السلام علي أطراف أصابعه يعبد ربه حتي تورّمت قدماه؟

ولماذا اقتدت الصديقة فاطمة الزهراء? بأبيها في ذلك؟

ولماذا حجّ الإمام الحسن المجتبيعليه السلام ماشياً خمساً وعشرين مرة؟

وما هو السر وراء قول الإمام الحسينعليه السلام لأخيه أبي الفضل العباسعليه السلام في ليلة عاشوراء: اذهب إلي هؤلاء القوم الجيش الأموي واستمهلهم؛ لعلنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه والدعاء والاستغفار، وقد بات أصحاب الإمام الحسينعليه السلام في ليلة عاشوراء ولهم دويّ كدويّ النحل ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد؟

أما الإمام موسي الكاظمعليه السلام فقد كان يقول في سجن هارون العباسي: «اللهم إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك اللهم وقد فعلتَ، فلك الحمد» وكانت لهعليه السلام سجدة من بعد طلوع الشمس حتي الظهر، الي غير ذلك مما نقلته النصوص التاريخية عن عبادة الأنبياء والأئمة والصالحينعليهم السلام.

نعم! هناك عبادة بالمعني الأعم، فكل شيء ينتهي إلي الله تعالي، فهو عبادة، ولكن ما سردناه من عبادة الأئمةعليهم السلام وجدّهم رسول اللهعليه السلام يدلّ علي أن هناك أيضاً عبادة بالمعني الأخص، وقد كان لها موقع مهمّ في حياتهمعليهم السلام.

فلا يصحّ؛ والحال هذه أن يفكّر أحدٌ منا أن العبادة بالمعني الأعمّ تغني عن العبادة بالمعني الأخصّ، فإن ذلك يتناقض وسيرة أهل البيتعليهم السلام، كما تقدم.

صلاة الليل عبادة متميّزة

لا شك أن صلاة الليل تمثّل مظهراً متميزاً من مظاهر

العبادة بالمعني الأخص وهذا فيما يبدو هو الفلسفة الرئيسية لصلاة الليل؛ ولذلك نجد الإمام أمير المؤمنينعليه السلام عندما يُسأل عن العبودية يقول: العبودية خمسة أشياء؛ وعدّ منها قيام الليل.

معطيات صلاة الليل

قبل أن نبيّن بعض معطيات صلاة الليل نشير إلي قضية الارتباط والعلاقة بين الأشياء، إذ قد ذكرت في الروايات الشريفة، ارتباطات بين الاشياء ربما تبدو غير مفهومة للكثيرين فكيف نوجّه هذه الارتباطات؟

يمكن ذكر توجيهين في هذا الصدد:

التوجيه الأول: أن هذه الروايات تعبّر عن وجود علاقات حقيقية تكوينية عقلية بين الأشياء، ولكنها علاقات خفيّة لم يكشف الغطاء عنها حتي الآن، ولعل العلم سيتوصّل إليها بعد حين، لاسيما وأننا نعرف بأن آفاق العلم في توسّع مستمر، وقد ورد في الأثر أن عهد الإمام الحجةعليه السلام سيشهد تكاملاً علمياً هو الأسمي علي مرّ التاريخ.

التوجيه الثاني: أننا كبشر مقيّدون بنظام الارتباطات، فإذا أردنا تدفئة الغرفة مثلاً، لزمنا إشعال الموقد، تبعاً لنظام العلية والمعلولية، غير أن خالق هذا النظام ليس مقيّداً أو محكوماً به؛ فهو فوق هذا النظام، وإرادته هي الحاكمة عليه، ويشهد لما ذكرناه ما يصدر من بعض الأشخاص من الخوارق كما عرف عن الشيخ النخودكي في مدينة مشهد في قضايا كثيرة ومضمون أحدها: أن أحدهم قصده ليسأله علاجاً لزوجته المريضة في طهران، فأعطاه شيئاً من الطعام وأمره بتناوله، مما أثار تعجبه لكونه زوج المريضة وليس هو المريض، فأمره الشيخ بتناوله، وحينما عاد إلي زوجته وجدها قد شفيت.

من هذه القضية وأمثالها قد نفهم عدم لزوم وجود ارتباط تكويني بين الأشياء، اذ من الممكن أن يخلق الله تعالي النتائج بعد حصول بعض المقدمات وإن لم يكن بينها علاقة تكوينية أصلاً، وهذا بحث طويل نتركه الي محلّه.

وعلي كل حال فليس من الصحيح

إنكار الارتباطات المذكورة في الروايات الشريفة بين بعض الأمور وبعضها الآخر لمجرد الجهل بحقيقة الارتباط القائم فيما بينها.

أما معطيات صلاة الليل؛ فهي:

أولاً: إن صلاة الليل تثبت النور في قلب العبد، وقد ورد عن النبي الأكرمعليه السلام أنه قال: «إن العبد إذا تخلّي بسيّده في جوف الليل المظلم وناجاه، أثبت الله النور في قلبه».

ثانياً: إن صلاة الليل تورث الشرف. ففي الحديث عن الإمام الصادقعليه السلام: «شرف المؤمن صلاته بالليل».

ثالثاً: إن صلاة الليل تستوجب رضوان الله سبحانه وتعالي، وهو أكبر ما يمكن أن يناله المؤمن، وقد قرن الإمام الرضاعليه السلام بين صلاة الليل ورضا الله تعالي، فقال: «قيام الليل رضا الرب».

رابعاً: إن صلاة الليل تورث صحة البدن، ففي الحديث عن أمير المؤمنينعليه السلام، أنه قال: «قيام الليل مصحّة للبدن».

خامساً: حسن الوجه، فقد ورد عن النبيعليه السلام أنه قال: «من كثرت صلاته في الليل، حسُن وجهه بالنهار».

وقالعليه السلام: «ألا ترون أن المصلّين بالليل هم أحسن الناس وجوهاً؟ لأنهم خَلَوا بالليل لله فكساهم الله من نوره».

سادساً: إن من يصلي صلاة الليل يُكتب من الذاكرين، فقد قال رسول اللهعليه السلام: «إذا أيقظ الرجل أهله من الليل وتوضآ وصلّيا، كُتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات».

سابعاً: غفران الذنوب، حيث جاء في الحديث النبوي الشريف: «يقول الله لملائكته: انظروا إلي عبدي قد تخلّي بي في جوف الليل المظلم والباطلون لاهون والغافلون نيام، اشهدوا أني غفرت له».

ثامناً: مباهاة الله، وبهذا الصدد قال رسول اللهعليه السلام: «إذا قام العبد من لذيذ مضجعه والنعاس في عينيه ليرضي ربّه جلّ وعزّ بصلاة ليله، باهي الله تعالي به ملائكته فقال: أما ترون عبدي هذا قد قام من لذيذ مضجعه إلي صلاة لم أفرضها عليه، اشهدوا أني قد غفرت

له».

تاسعاً: أنها تورث بياض الوجه، فقد ورد عن الإمام جعفر الصادقعليه السلام: «صلاة الليل تبيّض الوجه».

عاشراً: إن صلاة الليل تطيّب الريح، فقد قال أبو عبد الله الصادقعليه السلام: «صلاة الليل تطيب الريح»، والظاهر أن المقصود الرائحة المادية، أما العلاقة فيما بين الأمرين فقد يكشفها التطوّر العلمي بعد حين.

الحادي عشر: أنها تجلب الرزق، فقد روي عن الإمام الرضاعليه السلام قوله: «إن الرجل ليكذب الكذب فيحرم بها رزقه، قيل: وكيف يحرم رزقه؟ قال: يحرم بها صلاة الليل فإذا حرم صلاة الليل حرم الرزق».

وعنهعليه السلام أيضاً أنه قال في ضمن حديث: «… ووُسّع عليه في معيشته».

كما روي عن النبي الأكرمعليه السلام أنه قال إنها «بركة في الرزق».

الثاني عشر: حسن الخلق، وهذا ما ذكره الإمام الصادقعليه السلام، فقال: «صلاة الليل تحسن الوجه وتحسن الخلق …».

ولعل من أسباب ذلك أن صلاة الليل تدفع المصلي إلي الخروج من العالم الضيق الذي نعيش فيه لينطلق ويعيش معادلات أخري واسعة، فيكون كذاك الشاب الذي نقل عنه أنه خطب إبنة الملك، فاشترطت عليه أن يصلّي صلاة الليل أربعين ليلة، وبعد تمام الأربعين بعثت إليه تسأله عن السرّ وراء عدم تقدّمه لخطبتها، فأجاب أنه عشق ابنة الملك حينما كان قلبه فارغاً، ولكنه الآن بعد صلاة الليل قد امتلأ قلبه بحبّ آخر.

فحينما يحلّق الإنسان في تلك العوالم، فإن نمط تفكيره وأسلوب كلامه وطريقة عيشه وتعامله مع الآخرين تتغير دون شك.

إن من يفكّر في رضوان الله تعالي وفي الآخرة وفي الجنة والنار سوف لا يظلم أحداً ولا يتكبّر علي أحد، بل قد يتحوّل إلي وليّ من أولياء الله الذين هم أكثر الناس تواضعاً، وسوف يترفع علي المعادلات المادية الحقيرة.

الثالث عشر: قضاء الدين، فعن الإمام الصادقعليه السلام أنه

قال عن صلاة الليل بأنها تقضي الدين.

الرابع عشر: إزالة الهم، فعن الصادقعليه السلام: «وتذهب بالهم».

فإذا تعالي المرء عن تفاهات الدنيا وعاش ضمن معادلات الآخرة، زالت همومه الدنيوية.

الخامس عشر: جلاء البصر، كما ذكر ذلك الإمام الصادقعليه السلام حيث قال: «تجلو البصر».

السادس عشر: إن صلاة الليل تجعل البيت بيتاً نورانياً، فقد روي عن الصادقعليه السلام: «أن البيوت التي يصلَّي فيها بالليل بتلاوة القرآن ولعل الباء (في قولهعليه السلام بتلاوة القرآن) هي باء المعية تضيء لأهل السماء كما تضيء نجوم السماء لأهل الأرض».

السابع عشر: أنها سبب حبّ الملائكة، كما قال رسول اللهعليه السلام: «صلاة الليل مرضاة الرب وحب الملائكة».

الثامن عشر: أنها سبب «نور المعرفة».

التاسع عشر: أنها سبب «راحة الأبدان».

العشرون: انها عبادة يكرهها الشيطان ففي الحديث الشريف «.. وكراهية الشيطان».

الحادي والعشرون: أنها «سلاح علي الأعداء».

الثاني والعشرون: أنها سبب «إجابة الدعاء».

الثالث والعشرون: أنها سبب «قبول الأعمال».

الرابع والعشرون: انها سبب إطالة العمر، إذ قال الإمام الرضاعليه السلام في حديث ذي تفاصيل: «ومدّ له في عمره».

الخامس والعشرون: أنها تعطي الهيبة لمن يؤدّيها، قال أمير المؤمنينعليه السلام: «وضع الله تعالي خمسة أشياء في خمسة مواضع … والهيبة في قيام الليل».

وهناك حوالي خمس وعشرين فائدة أخري لصلاة الليل مذكورة في الكتب المفصلة.

(كلمة أخيرة)

تارة يضع الانسان خارطة مادية متقنة للوصول الي أهدافه، إلا أن الذي ينبغي أن نعلمه أن هناك أشياء أخري وراء الخرائط المادية، وهي ما يمكن تسميته بالتوفيق الالهي، ولعل صلاة الليل من أقوي العوامل التي تمهّد للوصول إلي ذلك التوفيق.

لقد شهد التاريخ نماذج من الشخصيات ارتقوا مقاماً سامياً بسبب التوفيق الالهي، منهم المقدس الأردبيلي?، كما شهد نماذج مقابلة كأحد أصدقائه الذي كان ينشغل حتي الصباح بالكتابة والمطالعة دون أن يهتمّ بما كان

يقوم به المقدّس الأردبيلي من الصلاة والعبادة، إلاّ أنه لم يبلغ ما بلغه المقدس الأردبيلي من المقام والفهم والمنزلة الرفيعة.

وكذلك الأمر بالنسبة لصاحب (حاشية المنطق) الملا عبد الله الذي ذكروا عنه كرامات وقد احتلّ كتابه هذا الموقع المتميز في الحوزات العلمية بينما هناك شخص آخر كتب كتاباً في المنطق وكانت الحسابات المادية قد استولت علي فكره، وقد نقل أنه كان يغمض عينيه لدي الأذان ويذكر الله تعالي ويقول:

«ان الله تعالي يقول: ?وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي? وقد ذكرت الله،»

ثم كان يعود إلي التأليف دون أن يؤدي الصلاة المفروضة، ولكن لم يبق أثر لكتابه، بينما حاشية الملا عبد الله جُعلت فيها البركة ونال صاحبها التوفيق.

وقد نقل أحد رجال الدين أنه قرّر ختم القرآن الكريم وإهداء ثواب ذلك للإمام الرضاعليه السلام، في شهر رمضان المبارك، ولكنه ما ان قرأ خمسة عشر جزءاً في النصف الأول من الشهر حتي توالت عليه المشاغل، فأعاقته عن إتمام القراءة، وحينما أنجز مشاغله وجد نفسه في أخريات شهر رمضان المبارك، فعزم علي الذهاب إلي مرقد الإمام الرضاعليه السلام ليقدّم اعتذاره عن إتمام الختمة.

ولكنه في طريقه إلي الحرم الطاهر مرّ علي أحد العلماء، فقصّ عليه قصة مجيء العلامة الأميني إلي مدينة مشهد ليبقي عند مرقد الإمام الرضاعليه السلام وليصلّي كل ليلة من ليالي شهر رمضان ألف ركعة، وبتمام شهر رمضان كان قد أتمّ ثلاثين ألف ركعة أهداها للإمام الرضاعليه السلام، فخرج رجل الدين وقد اعتراه الخجل لموقفه فأكمل ما فاته من ختم القرآن الكريم في الليالي الأربع الأخيرة من شهر رمضان.

وعلي كل حال: فلعلّ هذا التوجه والانقطاع كانا من اسباب توفيق العلامة الاميني? لكتابة موسوعة «الغدير».

والخلاصة: أنه ينبغي لنا أن نعلم بأن وراء المعادلات المادية

معادلات معنوية، وأن صلاة الليل إحدي العوامل المهمة في صناعة المعادلات المعنوية.

وقد كان بعض العلماء يحرّض الإخوة المؤمنين أن يصلّوا علي الأقلّ الركعات الثلاث الأخيرة أو الركعة الاخيرة منها (الوتر) من صلاة الليل، ومن المعلوم أن ذلك لا يكلّف سوي دقائق معدودة.

نسأل الله سبحانه وتعالي أن لايحرمنا من التوفيق لقيام الليل ونيل البركات التي تحصل من أداء هذه العبادة العظيمة.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين.

المراتب المعنوية

المراتب المعنوية

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين

ينقسم بحثنا الذي سنتعرض له بعون الله تعالي إلي قسمين، يدور الأوّل منهما حول المعنوية والتوجّه المعنوي، بينما نتناول في القسم الثاني من البحث قضية تحويل القوة المعنوية إلي قوة مادية.

المراتب المعنوية

أمّا البحث الأوّل، فالمعنوية حقيقة مشككة حسب اصطلاح العلماء أي ذات مراتب، وينبغي علينا السعي لبلوغ هذه المراتب بقدر الإمكان.

المرتبة الأولي من المراتب المعنوية هي فعل الواجبات وترك المحرمات، وهي مرتبة مهمة جداً، وإن كان بلوغها أمراً صعباً.

لقد توجّه الإمام أمير المؤمنينعليه السلام بالسؤال إلي رسول اللهعليه السلام عن أفضل الأعمال في شهر رمضان، فأجابعليه السلام: «الورع عن محارم الله».

وتنبع صعوبة الورع من أنّ كثيراً من المحرمات متشابكة مع حياة الإنسان، كالغيبة مثلاً، فإنّ احتمال سماعها يواجه المرء أينما ذهب.

فعدم الاغتياب وعدم الاستماع إلي الغيبة طيلة عمر بأكمله ليس بالأمر الهيّن بل يتطلّب عزيمة قوية، وهكذا الحال مع كثير من المحرّمات.

وعلي كلّ فترك المحرمات ومثله الإتيان بالواجبات أمر عظيم، وهو يمثّل المرتبة الأولي من المراتب المعنوية.

أمّا المرتبة الثانية فهي فعل المستحبات والفضائل، وترك المكروهات والرذائل إضافة إلي فعل الواجبات وترك المحرمات.

يُنقل أنّ المحدّث القمي? مؤلف كتاب «مفاتيح الجنان» قد عمل بكل ما ورد في كتابه.

كما يُنقل أن السيد عبد الهادي الشيرازيرحمة الله عليه سئل عن الميرزا مهدي الشيرازيرحمة الله عليه فقال: «عشت معه خمساً وعشرين سنة أو نحو ذلك فلم أرَ منه مكروهاً قط».

وعندما سُئل الميرزا مهدي عن السيد عبد الهادي أجاب بمثل ذلك.

وهذا يدلّ علي الروح المعنوية العالية التي كان هذان المرجعان الكبيران يتمتعان بها.

إن أحدنا قد يرتكب في اليوم الواحد عشرين

ذنباً أو أكثر، فالغيبة ذنب، والاستماع إليها ذنب، والتهمة ذنب، والنظر إلي الأجنبية ذنب، وسوء الخُلق ببعض مراتبه ذنب، والتعامل مع الزوجة بغير المعروف ذنب، قال الله تعالي: ?وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ?.

فلو أن أحداً استطاع أن يتجنب المحرمات ويأتي بالواجبات، وأن يتجنب مع ذلك ما أمكنه من المكروهات ويأتي بما وسعه من المستحبات، فقد بلغ مرتبة رفيعة وفاز فوزاً عظيماً.

لقد سخّر الله تعالي الجن والإنس والطير لسليمان (علي نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام) واستجاب دعاءه إذ قال: ?رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي? فقال بعض رعيّته: «هل رأيتم ملكاً أعظم من هذا؟ فنادي ملك من السماء: لثواب تسبيحة واحدة أعظم مما رأيتم».

ولا عجب في ذلك فإن ملك سليمانعليه السلام زال ولم يبق منه شيء، أما قول: «سبحان الله» فباق علي مرّ الدهور والأيام.

وإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك فإن تسبيحة واحدة أعظم من ملك سليمان حقاً. فلنستفد من أعمارنا الغالية إذاً، ولا نبيعها بالتافه، ولنستثمر كل فرصة من أجل كسب المزيد.

عندما كان السيد الوالدرحمة الله عليه يدخل المطبخ ويري أشخاصاً مشغولين بالطبخ أو إعداد الطعام يبادرهم بالقول:

«لماذا تتركون أوقاتكم تذهب هدراً؟ استفيدوا من أوقاتكم واذكروا الله تعالي وصلوا علي محمد وآل محمد، وأنتم مشغولون بعملكم؟»

وهذه هي المرتبة الثانية من المراتب المعنوية.

أما المرتبة الثالثة فصعبة جداً وبعيدة المنال، ولكن لا بأس بالتعرّف عليها لنعرف جانباً من مراتب أولياء الله تعالي.

تتمثّل المرتبة الثالثة من المراتب المعنوية في ترك المباحات؛ فكيف يُتصور ذلك؟ وهل يمكن للمرء أن يترك المباح كالنوم والأكل والشرب والمشي مثلاً؟

نعم، هكذا كان أولياء الله تعالي الكبار، فإنهم كانوا يفعلون كل شيء من أجل الله سبحانه، وكما قال النبي الأكرمعليه السلام لأبي

ذررحمة الله عليه: «يا أبا ذر ليكن لك في كل شيء نية حتي في النوم والأكل».

فلو نويت أن تفعل مباحاً من المباحات لئلاّ تقع في الحرام، فإن عملك هذا يعدّ عبادة وتؤجر عليه، وإذا أردت أن تنام ليلاً وكانت نيّتك أنك تنام لكي تتقوي علي العبادة، فإن نومك هذا سيحسب لك عبادة تثاب عليها.

يقول الله تعالي مخاطباً أنبياءهعليهم السلام: ?يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا?، وكأنه تعالي جعل أكل الطيبات مقدّمة للقيام بالأعمال الصالحة.

ونقرأ في دعاء كميل: «حتي تكون أعمالي وأورادي كلها ورداً واحداً وحالي في خدمتك سرمداً».

اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل

إن لدينا اليوم الطاقة والعمر، ولكنهما سينفدان يوماً ما، ولا نستطيع حينئذ أن نضيف حتي حسنة واحدة؛ «فإن اليوم عمل ولا حساب وإن غداً حساب ولا عمل»، فلنستثمر أعمارنا إذاً بكسب المزيد ولنحاول بلوغ المراتب المعنوية العالية بفعل المستحبات والمندوبات والتوجه إلي الله تعالي.

وهذه الحالة المعنوية كانت فيما مضي أقوي وأوسع نطاقاً، لكنها ضعفت اليوم، ولم نعُد نسمع تلك التضرّعات والأدعية المنطلقة في جوف الليل بذلك المقدار!

لم يكن آباؤنا الأبرار يتركون صلاة الليل حتي في الليالي الباردة، وقد كان بعض أهالي كربلاء المقدسة مثلاً يخرجون قبل أذان الفجر لأداء صلاة الليل في جوار سيد الشهداءعليه السلام وعند باب صحنه المبارك قبل أن تُفتح الأبواب، لا تثنيهم حرارة ولا برودة ولا فراش وثير.

آثار الحالة المعنوية

وكان لتلك الحالات الروحية والمعنوية آثار كبيرة، فللمعنويات آثار دنيوية وأخروية وروحية ونفسية وبدنية ومادية، ومن تلك الآثار أنّ الله تعالي قد يجعل مقاليد الكون بيد المتحلي بها، ففي الرواية: «يابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون».

ينقل آية الله الكوكبي وهو من كبار علماء الحوزة العلمية بقم المقدسة بعض الحالات المعنوية التي امتاز بها والده?، وكذلك بعض الآثارلاحظها نتيجة لذلك؛ يقول:

«لم يكن والدي يأكل من أيّ طعام فيه شبهة، ولو دُعي لضيافة ولم تحصل له الطمأنينة بحلية الطعام المقدم يأخذ معه قليلاً من الخبز يلفّه في قطعة قماش نظيفة يكتفي به أو مع قليل من الإدام، ولا يتذوق من ذلك الطعام المشبوه».

أما عن آثار ذلك فيقول السيد الكوكبي أيضاً:

«كنت أيام طفولتي أفكر في أمر والدي ولِم لا يتناول من كل طعام يُقدم له حتي كنت معه في سفر، وعندما حان وقت الأذان طلب والدي من

سائق السيارة أن يتوقف لأداء الصلاة المفروضة لكن السائق لم يعتنِ وواصل سيره، ثم بلغنا موضع ماء آخر، وكرر والدي الطلب ولم يلتفت السائق أيضاً، حتي بلغنا موضعاً لم يكن بعده ماء إذا تجاوزناه، وهنا أصرّ والدي علي السائق، ولم ينفع الكلام معه أيضاً، واستمر في سيره ولكن لاحظنا فجأة أن السيارة توقفت عن المسير، فنزل والدي ونزلنا وصلّينا ولم تتحرك السيارة إلا بعد أن أتم والدي صلاته وعاد وركبها».

وهكذا كان أولياء الله تعالي الكبار حيث إنه سبحانه كان يُسخِّر لهم الكون.

ونقل السيد الكوكبي قضية أخري عن والده تبيّن آثار الحالة المعنوية التي كان عليها?؛ يقول:

«بعد بضع سنوات من وفاة والدي قمنا بنقل جثمانه إلي العراق ليُدفن عند العتبات الطاهرات، وعندما كُشف عن الجنازة علي الحدود كان المرحوم وكأنه نائم وليس ميتاً إذ لم يظهر عليه أيّ تغيير، فقد كان جسده غضاً طرياً، وتعجب مأمور الجمارك وقال لنا: إن جوازه يقول إنه متوفي منذ أربع سنين ولكن يبدو أنه قد مات منذ قليل».

فهذا جانب من الحالات المعنوية وآثارها في الحياة الدنيا.

تحويل الحالة المعنوية إلي قوة مادية

أما الموضوع الثاني أي تحويل القوة المعنوية الموجودة في مجتمعنا إلي قوة مادية؛ فلنقدم له بمثال يذكره علماء الاقتصاد فإنهم يقولون: إن البناء الذي نراه اليوم قائماً علي قواعده كان في يوم من الأيام قوة معنوية في عضلات العمّال الذين قاموا بتحويلها إلي هذا البناء المشيد.

فهذا البناء هو نفسه تلك الطاقة، لكنها أصبحت اليوم متجسدة، ولو أن العمال لم يعملوا لبقيت الطاقة في حالة القوة ولم تصل إلي مرحلة الفعلية.

وكذلك الحال مع المجتمع، ففي مجتمعنا الإسلامي طاقات معنوية هائلة مع اختلاف في المراتب طبعاً.

هل سمعت قصة عمرو بن الجموح الصحابي الأعرج الذي كان عازماً

علي الجهاد رغم أنه مرفوع عنه كما هو واضح في الكتب الفقهية ومع ذلك روي أنه:

«لما كان يوم أحد وكان له بنون أربعة يشهدون مع النبيعليه السلام المشاهد أمثال الأسد أراد قومه أن يحبسوه وقالوا أنت رجل أعرج ولا حرج عليك وقد ذهب بنوك مع النبيعليه السلام. قال: «بخ يذهبون إلي الجنة وأجلس أنا عندكم؟ فقالت هند بنت عمرو بن حرام امرأته: كأني أنظر إليه مولّياً قد أخذ درقته وهو يقول: اللهم لا تردني إلي أهلي، فخرج ولحقه بعض قومه يكلّمونه في القعود فأبي، وجاء إلي رسول اللهعليه السلام فقال: يا رسول الله إن قومي يريدون أن يحبسوني هذا الوجه والخروج معك، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة، فقال له: أما أنت فقد عذرك الله ولا جهاد عليك فأبي، فقال النبيعليه السلام لقومه وبنيه: لا عليكم أن لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة فخلَّوا عنه فقُتل يومئذ شهيداً».

فأية طاقة معنوية هذه التي تدفع بصاحبها إلي الشهادة؟! إن هذه الطاقة موجودة فينا ولكن بدرجات متفاوتة، ولو استطعنا أن نحوّل هذه القوة المعنوية إلي قوة مادية لاستطعنا أن نحقق الكثير.

نقل السيد العم حفظه الله تعالي أن رجلاً لا يملك شيئاً من متاع الدنيا يُعتدّ به، وفّق لبناء ثمانين مسجداً؛ كيف؟

كان هذا الرجل أينما يذهب يلاحظ هل تحتاج المنطقة إلي مسجد أو لا، فإذا تبيّن له الاحتياج يبدأ بذكر ذلك لكل مَن يقابله سواء كان يعرفه أم لا،وسواء كان في السيارة أو الطائرة، أو العرس أو المأتم، أو ضيافة يُدعي إليها، أو مجلس عام أو خاص، لا فرق …

كان يقول لجليسه إن المنطقة الفلانية ليس فيها مسجد، فهلاّ شاركت في بنائه؟ فكان يتّفق أن يكون من

بين مَن يذكر لهم ذلك مَن لديه القدرة المادية والدافع الديني فكان يصغي إليه ويستجيب له، وربما أصغي له واحد من بين العشرات وربما المئات الذين يفاتحهم بالأمر، ولبي طلبه، فتبرع ببناء المسجد في المنطقة التي أخبر بافتقارها له، أو شارك في ذلك.

ولقد نجح هذا الشخص في بناء ثمانين مسجداً بهذه الطريقة، وكثير من المساجد التي تقع في طريق طهران مشهد، وطهران خوزستان بُنيت بجهود هذا الرجل!

أفلا يكون هذا الرجل حجة علينا يوم القيامة؟

بماذا نعتذر إلي الله تعالي؟ هل نقول إننا لم نملك المال الكافي لكي نبني مسجداً؟ ألا يقال في جوابنا إن هذا الرجل بني ثمانين مسجداً مع أنه كان رجلاً عادياً ولم يكن شخصية اجتماعية بارزة ولم يكن يملك أية قوة، سوي همّه وهمّته في هذا الطريق؟ أفتبقي لنا حجة بعد ذلك؟

إذن كل منا يستطيع بإذن الله تعالي أن يقدم خدمةً حتي الشاب ذي الخمسة عشر ربيعاً لكن الأمر بحاجة إلي همة وعزيمة وتوكل علي الله سبحانه، والناس مستعدون، لأن مَن هم علي استعداد لتقديم دمائهم في سبيل الله تعالي أيبخلون ويقصّرون في دعمك لبناء مسجد مثلاً؟!

إن استطعت أن تبني مسجدا فافعل، وإن استطعت أن تنشر كتاباً فبادر أيضاً فهو عمل عظيم وهو من الباقيات الصالحات، وكم له من الأثر.

ينقل أحد الإخوة المؤمنين أن رجلاً سورياً كانت له امرأة فلسطينية تكره الشيعة وترفض أن يحدثها زوجها عنهم وتأبي أن تقرأ كتبهم أو الكتب التي تتحدث عنهم، حتي كانت إحدي الليالي حين أتي الزوج بكتيّب ليصفّ حروفه علي الكومبيوتر ولكنه لم يستطع لعارض ألمّ به، فطلب من زوجته أن تصفّه بدلاً عنه إن استطاعت ثم أخلد إلي النوم.

وكان الكتيّب يدور حول عاشوراء وما جري

فيها، وقد شرعت المرأة بإنجاز العمل باعتباره شغلاً يتقاضون عليه أجراً.

وفي الصباح فوجئ الزوج عندما رأي عيني زوجته محمرتين، وعندما سألها عن ذلك تبين له أن زوجته كانت منذ أول الليل حتي الصباح تطالع قضايا عاشوراء وهي تطبعها وتبكي.

حقاً إن قضايا عاشوراء مشجية جداً، إنها مشجية لنا نحن الذين سمعناها منذ الصغر فكيف بالنسبة للآخرين؟! قالت الزوجة:

«لم أكن أعلم بكلّ هذا الظلم الذي لَحِق بأهل البيتعليهم السلام، وإنني قد تشيعت علي أثر قراءتي لهذا الكتيّب».

هكذا يفعل كتيب صغير إذا وجد الأرضية المناسبة.

فلنشمّر عن سواعد الجد ولنسعَ في تأليف الكتب وطبعها ونشرها، ولنسعَ في سائر الأعمال الخيرية فإنها ذخيرة لآخرتنا ووسيلتنا التي نرجو بها شفاعة نبينا وأئمتنا وسيدتنا الصديقة الكبري سلام الله عليهم أجمعين.

ولنصمم علي تحويل القوة المعنوية العظمي التي تتوفر في أمّتنا إلي قوة مادية في طريق خدمة الإسلام والتشيع وأهل البيتعليهم السلام.

وصلّي الله علي محمد وآله الطاهرين

الآخرة خير و ابقي

الآخرة خير و ابقي

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين

قال الله تعالي في كتابه الحكيم: ?وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَي?.

مقدمة

ثراء النص القرآني

هناك ظاهرة في كتاب الله التدويني (القرآن الكريم) جديرة بالبحث والتأمّل، كما هي كذلك في كتابه التكويني جلّ وعلا، ألا وهي ظاهرة اختزال معان كثيرة في كلمات قليلة.

هل اتفق لك أن بلغت ينبوع ماء صغير في صحراء واسعة، تراه صغيراً في ظاهره، ولكن عندما تبحث وتنقّب قد تجد تحته بحراً عظيماً من الماء؟!

هكذا هي كلمات الله في القرآن الكريم، تنطوي علي بحور من المعارف والحقائق.

وهذه الآية الكريمة التي تصدرت البحث لا تزيد علي بضع كلمات ولكنها تبيّن طبيعة هذه الدنيا كلها وطبيعة النشأة الآخرة، وتُجري مقارنة دقيقة بينهما.

1. الآخرة أبقي من الدنيا

من الفروق الرئيسية التي ذكرتها الآية الكريمة بين الدنيا والآخرة أن الآخرة أبقي من الدنيا، وهنا لابد من بيان أن الحقائق علي ثلاثة أنواع:

النوع الأول: الحقائق المحدودة: ككل الأمور المادية، فالدار محدودة بجدرانها، والبلدان محدودة بجيرانها، وهكذا.

النوع الثاني: الحقائق اللامتناهية بقول مطلق، ومثالها معلومات الله تعالي.

لقد خمّن العلماء أن معلوماتنا نحن البشر لو جُمعت من بداية حياتنا إلي نهايتها فإنها تبلغ تسعين مليون مجلداً لكل فرد منا، أما الله تعالي فليس لعلمه حد؛ لأنه تعالي غير محدود، وعلمه عين ذاته، فعلمه غير محدود أيضاً.

النوع الثالث: الحقائق اللامتناهية علي نحو اللاتناهي اللايقفي، ومثالها الدار الآخرة.

الفرق بين النوعين الأخيرين أن النوع الثالث محدود بالفعل ولكنه غير محدود بالقوة كالأعداد؛ فإنها وإن كانت بالفعل محدودة بالمعدودات الموجودة، ولكنها لا تقف عند حد معيّن في التصوّر أما النوع الثاني فهو لامتناه بالفعل.

والآخرة من النوع الثالث، فهي باقية ما شاء الله سبحانه.

لقد روي عن النبيعليه السلام أنه قال: «وإنا خلقنا وإياكم للبقاء لا للفناء».

إن عدد السنين التي سنبقي فيها في الآخرة غير متناه كما أن العدد نفسه غير متناه أيضاً، فإذا استطعت

أن تقف بالعدد عند حد، فقف عند ذلك علي سني الآخرة، إذن نحن باقون في الآخرة بإبقاء الله سبحانه لنا، أما الله سبحانه فهو باق بذاته.

مهما ذهب بك الخيال ومهما استطعت أن تضع أصفاراً في يمين عدد ما، فإن الأمر لا يتوقف عند حد، بل يمكن أن تضيف أيضاً، وكذلك حال البقاء في الآخرة. أما الدنيا فمحدودة ولابد من يوم نرحل منها جميعاً، بل ما أسرع أن يرحل أحدنا منها!

كان السيد الوالد? إذا شاهد إعلاناً بوفاة أحد، يقول: «سيأتي يوم يري الآخرون صورنا في إعلان كهذا».

وهكذا ينتهي كل شيء، لتبدأ مسيرة الآخرة.

2. الآخرة خير من الدنيا

الميزة الأخري للآخرة أنها خير من الدنيا. ولكي تتضح الفكرة نأتي بمثال:

إن من الشهوات القوية عند الإنسان في هذه الحياة شهوة الملك والحكم، حتي لقد عُدّت إحدي العوامل المهمة في حركة التاريخ البشري؛ فهي التي كانت وراء كثير من الحروب التي ربما غيّرت وجه التاريخ. هاهنا نسأل: ما هو أقصي ما يمكن لشخص أن يحققه في هذا المجال؟ إنه بلا شك لا يتعدي حكم الكرة الأرضية، وهل هي بالقياس إلي هذا الكون المترامي إلا كذرة أو دونها؟!

هذا عن مساحة الحكم، فما هي أقصي المدة الزمنية التي يمكن لإنسان أن يحكم فيها إن استطاع؟ لا شك أن ذلك أيضاً لا يتجاوز بضعة عقود، لا تشكل شيئاً من عمر الدنيا فكيف بالآخرة! ناهيك عما سيتخلل هذا الحكم من منغصات ومكدرات ومحن وهزائم وقلق دائم خوف الزوال والانتقال إلي الغير! ولذلك ورد في المأثور أن الرئاسة أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها عذاب يوم القيامة.

هذا حال ملك الدنيا، فتعال الآن لنسمع عن ملك الآخرة، يقول الله تعالي: ?وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا?.

ولكي يتضح لنا الفرق

أكثر يكفي أن نعرف أن الله تعالي عبّر عن الدنيا ونعيمها بقوله سبحانه: ?قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ?.

ولقد روي ما مضمونه أن جبرئيلعليه السلام طلب من الله تعالي أن يريه أبعاد الجنة، فقال الله له: طر، فطار جبرئيل فوق الجنة واستمر يطير ثلاثين ألف عام، فضعف عن الطيران، وطلب من الله المدد، وأتاه المدد الإلهي فطار ثلاثين ألف أخري، وتعب فطلب المدد وأتاه، وهكذا حتي ثلاثين ألف مرة، في كل منها يطير ثلاثين ألف عام (أي ما مجموعه تسعمئة مليون عام)، وبعد كل هذه المدة الطويلة إذا بحورية تخاطبه: إنك منذ بدأت بالطيران وحتي الآن لازلت تطير فوق جنتي! فعجب جبرئيل منها وسألها: ومن تكونين؟ فأجابت: حورية أعدّني الله تعالي لمؤمن واحد من المؤمنين!

فهل يعد ملك الدنيا بعد هذا شيئاً إذا ما قيس إلي هذا الملك وما فيه من الخدم والحشم والحوريات التي لو أشرفت إحداهن علي أهل الدنيا لماتوا بأجمعهم من رؤية جمالها! فكيف إذن بالمؤمنات ومقامهن أعلي من الحور العين؟! وهن المقصودات من قوله تعالي: ?فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ?.

كما أنه ليس في ملك الجنة كدر ولا قلق ولا خوف من زوال النعمة.

أفلا تكون نعم الدنيا بالنسبة إلي نعم الآخرة بعد هذا كقطرة بالنسبة إلي بحر أو أقلّ؟!

وإذا كان الأمر كذلك، أفليس الخاسر الحقيقي من يخسر الآخرة؟

قال الله تعالي في كتابه الكريم: ?إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ?.

أرأيتم ماذا فعل صدام من أجل حوالي ثلاثة عقود من الحكم والرئاسة؟ وكم سيأخذ معه من أهليه ومن تبعه إلي نار جهنم؟!

أجل هذه هي الخسارة التي ما بعدها خسارة.

وأعظم من كل النعم في الآخرة شعور المؤمن برضا الله تعالي عنه، تري كم

سيسرّ أحدنا إذا علم أن أباه راض عنه، فكيف سيكون الإحساس برضا الله تعالي؟!

وفي قضية معروفة لا مجال لذكرها الآن، قال الإمام الحجةعليه السلام لأحد علمائنا وهو طه نجف?: أنت مرضيّ عندنا.

ففي يوم القيامة يشعر المؤمنون بلذة رضوان الله وهي لذة تفوق كل لذة وكل ما سواها من نعم الجنة؛ يقول الله تعالي: ?وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

وقد روي عن الإمام علي بن الحسينعليه السلام قال: «إذا صار أهل الجنة في الجنة ودخل وليّ الله إلي جنانه ومساكنه واتكأ كل مؤمن منهم علي أريكته وحفّته خدامه وتهدّلت عليه الثمار وتفجّرت حوله العيون وجرت من تحته الأنهار وبسطت له الزرابي وصففت له النمارق وأتته الخدام بما شاءت شهوته من قبل أن يسألهم ذلك.. وخرج عليهم الحور العين من الجنان فيمكثون بذلك ما شاء الله … ثم إن الجبار يشرف عليهم فيقول لهم: أوليائي وأهل طاعتي وسكان جنتي في جواري! ألا هل أنبئكم بخير مما أنتم فيه؟ فيقولون: ربنا وأي شيء خير مما نحن فيه؟ نحن فيما اشتهت أنفسنا ولذت أعيننا من النعم في جوار الكريم. قال: فيعود عليهم بالقول. فيقولون: ربنا نعم فأتنا بخير مما نحن فيه. فيقول لهم تبارك وتعالي: رضاي عنكم ومحبتي لكم خير وأعظم مما أنتم فيه، قال: فيقولون: نعم يا ربنا رضاك عنا ومحبتك لنا خير لنا وأطيب لأنفسنا».

وقد نقل السيد الوالد عن السيد الميلاني أنه نقل عن أستاذه الشيخ مرتضي الطالقاني أنه فتح عينيه وهو في حالة الاحتضار (وهذه من نعم الله حيث يعود المحتضر إلي وعيه قبل أن يفارق الحياة، لعله يوصي بوصية أو يستغفر الله تعالي في اللحظات الأخيرة من عمره) وقال لمن حوله:

«لو علم المؤمن

ما أعدّه الله تعالي له في الآخرة لما عوّض نصف ساعة من الآخرة بكل الدنيا».

ثم أغمض عينيه وتوفي?.

تركيز القرآن علي موضوع الآخرة والعيش في أجوائها

من الأمور المثيرة للعجب أنّا عندما نطالع التوراة المتداولة اليوم نري غلبة الطابع المادي عليها ولا نري ذكراً للآخرة علي ما نقل إلا في آية واحدة تشير إلي الموت والحياة وأن الرب يحيي ويميت!

وفي الإنجيل المتداول فعلياً هنالك ذكر للآخرة إلا أنه قليل.

أما القرآن الكريم فإن الطابع العام فيه هو تذكير المؤمنين بالآخرة، ونقلهم للعيش في أجوائها، حتي نقل عن بعض الأعلام أن ثلثي آيات القرآن تدور حول الآخرة، أي أكثر من ألفي آية.

أما كيف نعيش أجواء الآخرة، فإن ذلك يتحقق من خلال أمور، منها:

المواظبة علي قراءة القرآن الكريم ولو بمعدل صفحة في اليوم الواحد.

وكذلك مطالعة نهج البلاغة وأحاديث أهل البيتعليهم السلام، فهي الأخري تنقل الفرد إلي عوالم الآخرة، قال ابن أبي الحديد المعتزلي عن إحدي خطب الإمام في نهج البلاغة حول الآخرة:

«وأقسم بمن تقسم الأمم كلها به لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلي الآن أكثر من ألف مرة ما قرأتها قط إلا وأحدثت عندي روعة وخوفاً وعظة وأثّرت في قلبي وجيباً وفي أعضائي رعدة ولا تأمّلتها إلا وذكرت الموتي من أهلي وأقاربي وأرباب ودي وخيلت في نفسي أني أنا ذلك الشخص الذي وصفعليه السلام حاله».

ومن الأمور الأخري التي تزيد من ارتباط الإنسان بالآخرة وتقلل من اهتمامه وتعلقه بالدنيا، تشييع الجنائز وزيارة القبور؛ فإن الإنسان عندما يذهب إلي المقابر ينتقل من عالم الجلبة والضوضاء إلي عالم السكون والهدوء ويبدأ يفكّر في حال من سبقوه وكان فيهم من هو أعقل منه وأكبر وأعظم وأكثر دهاءً وحيلة، ومع ذلك لم تنفعه إمكاناته وصار رهين القبر!

ومما ينقل عن

أحوال الجد? أنه كان يذهب إلي المقابر ويدخل قبراً مفتوحاً ثم يضطجع ويتصور نفسه ميتاً، فيبدأ الطلب من الله ويقول: ?رَبِّ ارْجِعُونِ? لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ?، ثم يجيب نفسه بالقول: كلا لقد أعطيناك الفرص فضيعتها! ويظل يلحّ حتي يأتيه الخطاب: قد أرجعناك يا مهدي، قم واستأنف العمل.

ومن الأمور الأخري النافعة في مجال تذكّر الآخرة النظر إلي الدنيا علي حقيقتها وأنها جسر وقنطرة للآخرة فقط، فإذا كنت تنوي الوصول إلي مكان ما وكان في طريقك قنطرة لابد من عبورها، فهل ستفكّر في لون القنطرة مثلاً، أم لا تفكر سوي في اجتيازها بلوغاً للهدف المنشود؟ هكذا هو حال الدنيا بالنسبة للآخرة.

ومما يذكّر الإنسان بالآخرة مطالعة أحوال الصالحين والتائبين وكيف أعرضوا عن هذه الدنيا الفانية واتجهوا نحو الآخرة الباقية.

فإبراهيم بن أدهم مثلاً ترك الملك دفعة وهام بوجهه في الصحراء، ولم يكن ذلك باستطاعته لولا أنه حقّر الدنيا وملكها في نظره!

ويروي في أحوال السيد المسيح (علي نبينا وآله وعليه السلام) أنه التقي حطاباً فقيراً، فحوّله في قصة طويلة ملكاً، فقال الحطّاب: لم لا تصنع لنفسك مثل هذا؟ فأجابه السيد المسيحعليه السلام: شُغلنا عن ذلك بما هو أغلي!

عندما أثار موقف الحر بن يزيد الرياحي الشجاع والفريد من نوعه، عجب من شاهده، قال في جوابه: إني أخيّر نفسي بين الجنة والنار، ووالله ما كنت لأختار علي الجنة شيئاً!

تخلي أحد ولاة بني أمية عن الولاية وزهد في الدنيا وتاب إلي الله تعالي، حتي أنه تخلي عن ثيابه، ليتطهّر من المال الحرام، وعندما دخل عليه أحد أصحابه حدّثه من وراء الباب، ولم يلبث قليلاً حتي مات!

عندما يعيش الإنسان أجواء الآخرة يتحوّل تحوّلاً عجيباً، ويترفّع عن سفاسف الدنيا ويسمو نحو آفاق الآخرة الرحيبة.

مسؤوليتنا ثقيلة في هذا المجال

كان السيد الوالد? يؤكّد علي الخطباء الكرام أن لا ينسوا هذا الموضوع المهم أبداً، وأن يكون التذكير بالآخرة أحد خمس خطب يخطبونها، لأن التذكير بالآخرة هو الطريق الوحيد لتحريك الإنسان وتخليصه من الانشداد إلي الأرض.

إن الموعظة والتذكير بالآخرة كانا جزءاً ثابتاً من مادة المنبر في السابق، وينبغي لهذه الحالة أن تعود، ليس من علي المنابر المتعارفة وحدها، بل من خلال كل منبر إعلامي ممكن، وهذه الحاجة غدت اليوم أكثر ضرورة، إذا أخذنا بنظر الاعتبار حالة الشباب المسلم المتأثر بالغرب لاسيما الذين يعيشون منهم في بلاد الغرب، فكيف سيقاومون كل تلك الإغراءات؟ لا شك أنهم لا يستطيعون المقاومة إلا إذا كان عندهم إيمان حقيقي بالآخرة.

وعلي كل حال يجب أن نستثمر هذه الأعوام القليلة المتبقية من أعمارنا في هذه الدنيا، والتي لا تشكل إلا جزءاً صغيراً ضئيلاً من أعمارنا الحقيقية، فما أقصر الفترة القصيرة التي نقضيها في هذه الحياة، إذا ما قارناها بما لا نتذكره من الأعوام السابقة (في عالم الذر)، وبالسنوات التي لا نهاية لها في عالم الآخرة!

وما أقلّ ما نعمله من أجل حياتنا الحقيقية والخالدة!

لو أن شخصاً بني ألف مسجد وحسينية مثلاً فسيكتشف يوم القيامة أن عمله كان قليلاً؛ لما سيري من عظمة الدار الآخرة وأن الزاد المطلوب لها كثير كثير.

ومن هنا يقول الإمام أمير المؤمنينعليه السلام: «آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق».

إذن علينا أن لا نقنع بالقليل من أعمالنا، بل لابد من الاستزادة قبل أن يدركنا الأجل.

نقل أن الشيخ الكعبي? جاء إلي المرحوم الجد وقال له:

«أحمل إليك رسالة وأعتذر إليك من نقلها. فقال له الجد: قل ما هي؟ قال: رأيت الإمام موسي بن جعفرعليه السلام في عالم الرؤيا فقال لي: قل

لمهدي فليستعد لسفر الآخرة».

فأخذ الجد يبكي ويقلب كفيه وهو يقول: كيف أقدم علي الله ويداي خاليتان؟

لا مجاملة في هذا الكلام، بل هو واقع يدركه أولياء الله تعالي. ألم يكتب الإمام امير المؤمنينعليه السلام علي كفن سلمان? - فيما روي عنه -: «وفدتُ علي الكريم بغير زاد؟».

إننا مهما نفعل فهو قليل، وهناك سنفهم حقيقة هذا الأمر ونندم حيث لا ينفع الندم.

نسأل الله سبحانه وتعالي أن ينبهنا من نومة الغافلين.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين

التوبة، القرار الشجاع

التوبة، القرار الشجاع

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي قيام يوم الدين

مقدّمة

الحديث عن التوبة حديث ذو موقع متميز في علوم عديدة، فعلي الصعيد الفقهي، يذكر صاحب (العروة الوثقي)? هذا الموضوع في باب أحكام الأموات باعتبار أن التوبة من الواجبات الفورية، أما في علم الكلام؛ فيشار إلي التوبة نظراً لارتباطها بنحو من الارتباط بالمعاد، كما تُبحث التوبة في علم الأخلاق باعتباره علماً يتناول تعديل القوي؛ القوة الغضبية والقوة الشهوية والقوة العقلية، ولا شك أن مبحث التوبة يرتبط عادةً بقوتين من هذه القوي، هما القوة الغضبية والقوة الشهوية، كما أن لمبحث التوبة موقعاً في علم النفس؛ إذ يبحث علماء النفس عن التأثيرات العظيمة للتوبة في باطن النفس الإنسانية.

نعم! إن لمبحث التوبة موقعاً مميزاً في علوم عديدة، كما إن فيه مباحث كثيرة، غير أننا نغض الطرف عن كل ذلك، ونكتفي بالتعرض إلي مبحثين مهمين:

المبحث الأول: مفهوم التوبة.

المبحث الثاني: تحمل متاعب التوبة ومصاعبها.

المبحث الأول: مفهوم التوبة

أما بالنسبة إلي المبحث الأول، وهو مفهوم التوبة؛ فيمكن القول بأن التوبة تعني العودة إلي الله تعالي بعد الابتعاد عنه سبحانه.

وهذا الابتعاد له أنواع وصور وأشكال.. منها: الابتعاد بمخالفة أوامر الوجوب، ومنها: الابتعاد بمخالفة نواهي التحريم، ومنها الابتعاد عن الله تعالي بفعل المكروهات وترك المستحبات، وغير ذلك من أنواع الابتعاد والانحراف.

ومنذ بدء خلقة الإنسان، كان هنالك موقفان بعد الابتعاد عن الله تبارك وتعالي.

الموقف الأول: اتخذه الشيطان الأكبر إبليس الرجيم، وهو موقف الإصرار علي ممارسة الذنب.. إذ الله عزّ اسمه أمره بالسجود لآدمعليه السلام، فلم يسجد ولم يمتثل الأمر الرباني، ولازال إلي هذه اللحظة مصرّاً علي معصيته وسيظل كذلك حتي يوم القيامة.

وقد نقل أن إبليس رجا أحد الأنبياء ذات مرّة أن يتوسط له عند الله ليتوب عليه فنقل النبي رجاء ابليس لله تعالي، فأوحي الله اليه بأن لا

مانع لديه من قبول توبة إبليس بشرط أن يؤدي السجدة التي أمر بها من قبل، ولكن هذه المرّة علي قبر آدمعليه السلام، لتكون السجدة تصديقاً لتوبته، ولكن الشيطان المصرّ علي ارتكاب المعصية قال لهذا النبي:

«إنني لم أسجد لآدم حينما كان علي قيد الحياة، فكيف أسجد له ميتاً؟! كلا، لن أسجد له».

أما الموقف الثاني؛ فهو موقف العودة إلي الله تعالي.

وهذا الموقف مثّله القطب الثاني في القصة، وهو أبونا آدم علي نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام، فهو كان قد عصي الله تعالي وغوي: ?وَعَصَي آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَي?.

أما نوع هذه المعصية، وهل أنها كانت معصية مطلقة، كما يقول بعض علماء العامة ومفسّريهم، أو كانت تركاً للاولي كما يقول آخرون، أو كانت مخالفةً لأمر إرشادي تترتب عليها آثار وضعية كما يقول فريق آخر، أو لم تكن اياً من هذه الانواع بل كانت امراً رابعاً كما ذهب اليه السيد الوالد? في كتاب العقائد وكتاب البيع وفي بعض الكتب الأخري فذلك موكول الي محلّه.

وعلي أية حال؛ فإن أبانا آدمعليه السلام عاد إلي الله سبحانه وتعالي: ?فَتَلَقَّي آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ?.

فهذان موقفان كانا منذ بداية خلقة الإنسان، موقف إبليس وهو موقف الإصرار والعناد واللجاج، وموقف أبينا آدمعليه السلام وهو موقف العودة والإنابةوالاعتراف.

المبحث الثاني: تحمل متاعب التوبة ومصاعبها

ان التوبة تتضمن قدراً من التضحية، ولا ريب أن التضحية أمر صعب، لاسيما إذا كانت تمسّ مصالح الإنسان الرئيسية، فالتجار لهم مصالح رئيسية، وكذلك العلماء والحكام ولعلّ أشقّ الأعمال علي الإنسان هو التضحية بهذه المصالح الرئيسية.

ولكن المؤمن الحقيقي هو الذي يتحمّل المشقّة ويقبل بالخسارة العاجلة، ليتفادي التورّط في الخسارة الآجلة الدائمة؛ فالتوبة في هذه الحالة تعني اتخاذ قرار شجاع يتضمن التضحية بمصالح الانسان.

ونمثل في

هذه العجالة لكيفية افتقار عملية التوبة للقرار الشجاع؛ قرار التضحية بالمصالح الرئيسية، ببعض الامثلة، ونبدأ بالتضحية بالمال التي هي عملية صعبة جداً بالنسبة الي الأثرياء والتجار، بل بالنسبة الي غالب البشر، ونذكر نموذجين متقابلين.

النموذج الأول: قال أحد الأصدقاء: قلت لتاجر أعرفه: لماذا لا تؤدي الحقوق الشرعية المتعلقة في ذمّتك؟

فقال التاجر: إنك لا تفهم ماتقول!

قلت: بلي، أفهم وأعي ما أقول، إذ ان الله تعالي تفضل عليك وأنعم، وعليك أن تشكره علي تفضله، فتدفع عشرين بالمائة منه لمستحقّيه!

قال: ألم أقل بأنك لاتفهم ما تقول! إنني إذا أردت دفع الحقوق الشرعية، وجب عليّ أن أدفع ملياراً كاملاً دفعة واحدة، وهذه الاموال خلاصة جهود عمري وثمرة ما قمت به طيلة سنوات وسنوات!!

قلت: وأي ضرر في ذلك؟ تدفع ملياراً، وتبقي لديك أربعة مليارات.

فعاد قائلاً: الم اقل لك انك لا تفهم ما تقول؟ انك لا تملك ما أملك ولذا لا تفهم معني ان يدفع الانسان ملياراً من امواله دفعةً واحدة!!

النموذج الثاني: ينقل أن أحدهم كان له من الأراضي الكثير جداً، ولم يكن يبالي بماهو حلال أو حرام، ومضت علي هذه الحالة سنوات، حتي أدركته رحمة من ربّه، فأخذ يفكّر بما سيكون جوابه في القبر ويوم القيامة، فاتخذ في لحظة واحدة القرار الشجاع، وتخلّي عن أملاكه وأراضيه، ولجأ إلي فلاّح متواضع مقترحاً عليه بأن يقبله عاملاً بسيطاً لديه مقابل أجر محدود، فقبل الفلاّح هذا الاقتراح بعد أن أصيب بالدهشة والذهول، وهكذا تحوّل الملاّك الكبير إلي عامل بسيط يعمل بين يدي الفلاّح، وقد قيل إن أحد أحفاد الملاّك التائب أصبح من كبار العلماء.

والحقيقة انه غالباً ما تمرّ الأفكار، أفكار مراجعة الذات في خواطرنا وضمائرنا: ?وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ? ولكن بعض الأفراد يعيرونها الأهمية

المطلوبة ويرتبون الاثر عليها، فيما البعض الآخر علي العكس من ذلك، وقد ورد في الحديث ما مضمونه أن الذنب يمر علي المؤمن كصخرة علي صدره تثقله؛ يريد التخلص منه، ولكن الكافر أو المنافق يمر عليه كما تمر الذبابة، فلعله ينزعج به بشكل موقت ثم ينتهي الأمر، وهذه طبيعة كل من المؤمن والكافر والمنافق، والفرق بينهم أن المؤمن يتخذ القرار الشجاع بالتوبة والعودة إلي ربّه، بينما الكافر والمنافق لا توجد عنه شجاعة اتخاذ القرار.

التضحية بالجاه في سبيل التوبة

هناك نموذج آخر من نماذج المصلحة الحيوية، وهو المقام الاجتماعي، وقد روي أن «آخر مايخرج من قلوب الصديقين؛ حبّ الرئاسة» وقد تقتضي التوبة تنازل الفرد عن موقعه ومنزلته الاجتماعية في بعض الاحيان.

قصة لا أعلم!!

ينقل عن الشيخ محمد حسين الإصفهاني، صاحب كتاب (نهاية الدراية) أنه قال:

كنا نتتلمذ علي أحد الأساتذة، وكان معنا تلميذ قروي، وذات يوم أخبر هذا التلميذ بخبر غيبي يتعلق بالأستاذ الذي بلغه الخبر، ولما التقيا طلب الاستاذ من التلميذ أن يكشف له عن مصدر علمه بالخبر، وبعد تمنّع وإصرار، قال التلميذ القروي: ان لي قصة وهي ان أبي كان عالماً في قريتنا، وكان يقوم بشؤون القرية الدينية، وحينما توفاه الله تعالي، جاءني أهل القرية يطلبون مني أن أخلف أبي في مقامه، في حين كنت لا أفقه شيئاً من الأحكام الشرعية، ولكنهم ألحّوا عليّ حتي أجبروني علي القبول، فكنت أتولي شؤونهم الدينية بلا علم.

وبعد فترة أدركتني يقظة الضمير، فجمعت أهل القرية وخطبت فيهم، وأعلمتهم بأنني كنت أفتيهم وأقوم بشؤونهم الدينية خطأً، لأنني لم أكن أعرف شيئاً، وعندما سمع أهالي القرية هذا الاعتراف وهم الذين كانوا يظنون بي التواضع بإعلاني عدم استحقاقي لخلافة أبي في أول الأمر- انهالوا عليّ بالإهانة والضرب، ولا أعلم كيف استطعت إنقاذ نفسي من بين أيديهم، ووجدتني أسير في الصحراء علي غير هديً، وبعد ذلك أدركني التعب، فجلست لأستريح، وأخذت أفكر بأن النجف الأشرف هي المكان الأفضل الذي ينبغي لي أن أتوجه إليها لدراسة العلوم الدينية.

فأخذت أسير باتجاه النجف، وفجأة رأيت رجلاً يتجه نحوي، وحينما وصلني قال لي: إلي أين تذهب؟

قلت: إلي النجف!

قال: هل تحب أن أرافقك؟

قلت: نعم.. وترافقنا!

وبعد برهة رأيت نفسي في مدينة النجف، وكأن الأرض طويت تحتي، إذ لم أشعر

ببعد المسافة ولا التعب، وهذا الرجل يأتيني بين الفترة والأخري ليخبرني عن بعض الأمور والأخبار، ومنها هذا الخبر الغيبي الذي أخبرتك عنه بواسطة رفيق دربي.

ففكر الاستاذ أن هذا الرجل إما أن يكون ولياً من أولياء الله تعالي، وأما أنه هو الإمام الحجةعليه السلام.

فقال لتلميذه: هل يمكنني أن أزور رفيقك؟

فقال الطالب القروي في نفسه: يبدو أن استاذي قد بلغ من التواضع درجة كبيرة، فتوجه إليه قائلاً بكل براءة: لعله هو الذي يأتي لزيارتك.

ثم إن التلميذ ذهب وسأل رفيق دربه عن إمكانية اللقاء وزيارة الأستاذ له؟!

فقال له: ليس من حاجة في أن يزورنا، فنحن نزوره اذا عرفنا فيه أهلية ذلك.

فنقل التلميذ هذه الكلمة لأستاذه، فوقعت منه موقعاً عظيماً اهتز لها وجوده … إذ أدرك أنه غير مؤهل لرؤية الإمامعليه السلام …

نعم! إن ما بلغ بالتلميذ القروي الي ما بلغ هو صحوة ضميره واعترافه بواقعه وإعلان ذلك أمام مرأي ومسمع من الناس، فلم يخجل من قول كلمة «لا أعلم» كما ان كبار العلماء الابرار لم يكونوا يخجلون من قول هذه الكلمة حينما كانت تطرح عليهم مسألة لا يعلمونها، وكما لم تخجل الملائكة من قول «لا نعلم» حيث قالوا لربهم العليم: ?قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا? فلماذا نخجل نحن من قول كلمة قالتها الملائكة في السموات العلي! فأن يبتلي الفرد بالإحراج أو حتي الطرد الاجتماعي، خير له من أن يبتلي بعذاب الله العزيز الجبار … وأن يخسر الإنسان دنياه، فذلك أفضل من خسرانه لآخرته.

وقد ندد الإمام المعصومعليه السلام بمن يفتي الناس بغير علم، فقال: «لمثل هذا تمنع السماء قطرها!!».

شهر رجب، شهر الرحمة والتوبة

روي الإمام الصادقعليه السلام عن جده رسول اللهعليه السلام أنه قال: «شهر رجب؛ شهر الاستغفار لأمتي» فهذا

الشهر فرصة سانحة لكل إنسان يريد، التوبة والعودة الي الله سبحانه وانتشال نفسه من حضيض الذنوب والعروج الي آفاق المعنويات الرحيبة.

وقد نقل في احوال جدنا الامي أنه كان يعطّل كل أعماله الاعتيادية مدة ثلاثة اشهر وكان يقول: تسعة أشهر نجعلها للكسب والتجارة، وثلاثة أشهر نجعلها للآخرة، وكان له دكان قرب الحرم الحسيني في كربلاء المقدسة، فكان يعطّله أو يوكّل نائباً عنه، ليقصد النجف الأشرف والكاظمية وسامراء المشرّفتين ليقضي الأشهر الثلاثة في العبادة بمعناها الأخص … وهي غير العبادة بالمعني الأعم الذي يشمل جميع الأعمال الصالحة التي ينوي فيها الإنسان التقرب بها إلي الله سبحانه وتعالي، فالعبادة بالمعني الأخص هي الصلاة والصيام والدعاء والتضرع والزيارة وماأشبه ذلك.

فالمؤمن مدعوّ في هذا الشهر الكريم، كما هو مدعوّ في شهر شعبان المعظم وشهر رمضان المبارك إلي جعلها أشهراً للعبادة بمعناها الأخص، ومن أفضل العبادة الخاصة في هذه الأشهر هي التوبة والإكثار من الاستغفار ومحاولة التخلص من الذنوب نهائياً.

ومن جملة الأمور المؤكد استحبابها في شهر رجب الذي تصبّ فيه الرحمة صبّاً علي أمة رسول اللهعليه السلام، هو الإتيان بالعمرة الرجبية ذات الفضل الكبير والأجر الجزيل، وقد ذُكر في كتب الفقه أنها تلي الحج في الثواب.

كما أن لزيارة الإمام علي بن موسي الرضا? موقعاً مميزاً أيضاً.

أما الأدعية الخاصة بشهر رجب؛ فهي الغاية في الروعة، حيث تحمل الداعي بها إلي أسمي الآفاق الإيمانية والمعنوية.

وقد ورد أن أحد الرواة، وهو محمد بن ذكوان الملقّب بالسجاد لكثرة سجوده الذي فقد فيه بصره، جاء إلي الإمام الصادقعليه السلام قائلاً: هذا رجب … فعلمّني دعاءً ينفعني الله فيه، فقال له الإمامعليه السلام: اكتب:

«بسم الله الرحمن الرحيم، يامن أرجوه لكل خير، وآمن سخطه عند كل شر …»

الي آخر الدعاء.

وهناك دعاء آخر جاء فيه:

«خاب الوافدون علي غيرك، وخسر المتعرضون إلاّ لك، وضاع الملمّون إلاّ بك …».

وجاء في دعاء آخر:

«يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين …».

إذن؛ فشهر رجب الأصبّ شهر ينبغي أن نجعله شهر التوبة والاستغفار والانابة الي الله سبحانه ما وسعنا.

نسأل الله سبحانه وتعالي أن يوفقنا للتوبة ويكرمنا بالمغفرة.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين

التفكير العالمي

التفكير العالمي

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين

يدور موضوعنا حول التفكير العالمي، ونتناول هذا الموضوع في فصلين:

الفصل الأوّل: اختلاف الأمم والأفراد في مدي التفكير.

الفصل الثاني: في مظاهر التفكير العالمي.

نمهّد لهما بمقدمة وهي:

تأثير الفكر في حياة الإنسان

إنّ لمنحي التفكير تأثيراً كبيراً في حياة البشر؛ وذلك لأنّ دور الفكر هو القيادة، وهذه القيادة لا ينحصر تأثيرها في الاتّجاه العام لحياة الإنسان فحسب، بل تتدخّل في كل مفردة من مفردات حياته، فإنّ كل جزئية من جزئيات حياة الفرد خاضعة لنمط تفكيره، منذ أن يفتح عينيه في الصباح إلي أن يغمضهما في الليل. كان الوالد? يقول:

«كان في كربلاء رجلان كلاهما عربيان وينحدران معاً من قبيلة واحدة (وهما علي ما أتذكر حرملة بن كاهل الأسدي وحبيب بن مظاهر الأسدي) اختار الأوّل طريق النار وظلت تلاحقه اللعنات علي مدي التاريخ، فيما اختار الآخر طريق الجنّة وظلّ ملهماً للأجيال.

لو سألنا: لماذا أصبح حرملة هكذا؟ ولماذا صار حبيب حبيباً مع أنّ كليهما عربيان ومن قبيلة واحدة؟ لكان الجواب: إنّ نمط التفكير عند كل منهما يختلف عن الآخر».

والأمثلة علي ذلك كثيرة، فأبو ذر وأبو لهب كلاهما عاصر النبيعليه السلام ورآه، ولكن أبا لهب نزلت سورة من القرآن الكريم في ذمّه وذم زوجته ولا تحضرني سورة في القرآن الكريم نزلت بكاملها في ذم شخص آخر سواه أما أبو ذر فهو الذي قال عنه رسول اللهعليه السلام: «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء علي ذي لهجة أصدق من أبي ذر»، فذاك قاده تفكيره إلي تلك النهاية الشقية، وهذا ساقه تفكيره إلي هذه العاقبة السعيدة.

إذن للفكر أهمية كبري في حياة البشر، وهناك روايات كثيرة في هذا

المجال ذكر بعضها العلامة السيد عبد الله شبّر في كتابه «مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار» وهو كتاب جيّد حري بالمطالعة.

المهم في المقام هو أنّ الأفراد يختلفون في أفكارهم وفي مدي التفكير وحدوده، وهذا الاختلاف يؤثّر تأثيراً بيّناً في كل خطوة من خطوات حياة الفرد، وهو ما نتناوله في الفصل الأوّل من هذا البحث.

الفصل الأوّل: الاختلاف في مديات التفكير

الفصل الأوّل: الاختلاف في مديات التفكير

يختلف الأفراد في مدي تفكيرهم إلي أنواع؛ نذكر بعضها:

النوع الأوّل: ذوو التفكير الشخصي أو الشخصاني إذا جاز التعبير وهؤلاء تكون الذات هي المحور وهي المنطلق والغاية وهي الإطار والهدف في تفكيرهم، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنّ هذا حال أغلب الناس مع الأسف.

هناك كلمة لأحد العلماء جديرة بالتأمّل، يقول فيها:

«نحن البشر في الغالب نتألم لوجع سن واحدة من أسناننا أكثر مما نتألم لموت مليون فرد من أفراد البشر جوعاً مثلاً، مع أنّ الله سبحانه وتعالي قد كرّم بني آدم»

فإنّ كثيراً من الناس لا يهدأ له بال إذا أصابه أدني أذي في بدنه، ولكنه لا يكترث ولا يحرّك ساكناً بل لا يشغل فكره الأمر فيما لو اُخبر أنّ في أثيوبيا مثلاً عشرة ملايين إنسان مهدّدون بالموت جوعاً!

هذا النمط من التفكير هو تفكير أناني، فصاحبه يحب للأنا ويبغض للأنا ويعمل للأنا، ولو بحثتم عن السبب والجوهر الحقيقي وراء كلّ ما يعمل لوجدتم أنّ الأمر لا يعدو تجارة مادّية فقط. وهذا النوع كما قلنا يمثّل مع الأسف حال كثير من البشر إن لم يكن حال أكثر البشر.

النوع الثاني: أصحاب التفكير العائلي، فهؤلاء يترقّون درجة فيفكّرون في حدود عائلاتهم، فكل ما يشغل فكر الفرد هنا زوجته وأولاده وأحفاده، فتفكيره عائلي فقط.

النوع الثالث: التفكير العشائري وهو أرقي من النوع الأوّل بدرجة، لأنّ الفرد يفكّر في عشيرته

وأقاربه، ولكنه لا يفكّر أبعد من ذلك.

النوع الرابع: التفكير القومي، وهذا النوع من التفكير ينطلق من المصالح القومية، أي أنّ المصالح القومية هي التي تقود تفكير الإنسان وتشغل باله ويعمل من أجلها ويضرب ما يتعارض معها. وهذا أرقي من مسابقه لا شكّ.

النوع الخامس: التفكير الإقليمي أو القطري، حيث يكون ملاك التفكير عند صاحبه هو البلد الذي يعيش فيه.

وهناك أنواع أخري كالتفكير اللوني أو اللغوي وغيرهما.

النوع الأخير والأعلي: التفكير العالمي، وهو أن يكون تفكير الفرد علي مستوي العالَم.

تأثير الفكر في حركة الإنسان

لا شكّ أنّ كل نمط من هذه الأنماط كما نوّهنا إلي ذلك في المقدمة يؤثّر في كل جزئية من جزئيات حركة الإنسان وقرارته، حتي أنه يؤثر في اختيار المسكن والمدفن والزواج والتجارة.

أي أنّ قضية نوع التفكير الذي يتبنّاه الإنسان ليست قضية تجريدية لا ربط لها بالواقع، بل هي مرتبطة به ارتباطاً وثيقاً وتفصيلياً، فإنّ الفرديفكّرحدود الإقليم يري أنّه لابدّ أن يسكن ذلك الإقليم، يعيش فيه ويموت فيه حتي لو تعرّضت حياته وكرامته للخطر والزوال، وكأنّ الله سبحانه وتعالي لم يخلق إلاّ تلك الرقعة الجغرافية الضيقة، وكأنّه لم يسمع قول الله عزّ وجلّ: ?وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً?.

فمع أنّ الأرض كلها لله، لكنّنا نري أصحاب التفكير الإقليمي يحصرون تفكيرهم ووجودهم في الأرض التي وُلدوا فيها ويعتقدون أنّ عليهم البقاء فيها مهما كان الثمن، وقد يتّخذون قرارات خاطئة وفق هذا التفكير الخاطئ، وهذه بعض الأمثلة:

• لقد بعث السيد الوالد? إلي عالِم من العلماء رسولاً أعرفه ذكر له أنّ بقاءه في البلد الكذائي خطر عليه وأنّ المصلحة تكمن في مغادرته لذلك البلد؛ لأنّ الحكّام سيمنعونه من ممارسة دوره ويقضون علي حياته.

ولكن ذلك العالِم أصرّ علي

البقاء وقال في جواب الرسول: إنّني ينبغي أن أبقي في هذا المكان مهما كلّف الأمر. وكانت العاقبة أن قُبض عليه بعد مدة قصيرة وقُتل.

• وأتذكّر أيضاً أنّ السيد الوالدرحمة الله عليه نصح عالِماً آخر جاء لزيارته بعدم العودة إلي البلد الذي جاء منه، ولم يقتنع ذلك العالِم وكأن منطقه كان: (لقد وُلدتُ في ذلك البلد ويجب أن أبقي فيه مهما كان) وهذه هي النزعة الاستصحابية ولم تمضِ إلا فترة قصيرة علي عودته حتي أُلقي القبض عليه واقتيد إلي غياهب السجون الخفية ولا يُعلم عنه أيّ خبر حتي اليوم حيث يمرّ علي القضية سنوات طويلة.

تبيّن إذاً أنّ نمط التفكير ليس شأناً مجرّداً بل إنّه يؤثّر علي كل القرارات التي يتّخذها الفرد من المسكن وحتي المدفن.

• نقل أحد الخطباء أنّه كان حاضراً عند السيد الوالد? إذ جاءه أحد العلماء المتقين وقال:

«إنّه تعب من الأوضاع وإنّه يشعر بقرب أجله، فقال له الوالد: هاجر إلي بلاد الغرب، فتعجب الرجل وقال: أأذهب في نهاية عمري إلي الغرب فأموت هناك! فقال له الوالد:

موتك هنا لا يغيّر شيئاً ولكنك إذا متّ هناك فربما أصبح مثواك هناك وأنت العالِم المتّقي مركزاً للإشعاع الفكري حيث يؤمّه المتدينون وربما تقرّب بعضهم بك إلي الله لقضاء حوائجهم، أو جرت العادة علي قراءة القرآن والأدعية عند مرقدك وأصبح محلاًّ عبادياً»!

أرأيت كيف أنّ نوع التفكير ومداه وحدوده وإطاره تؤثّر كلها في كل جزئية من جزئيات حياة الفرد حتي اختيار محلّ موته؟!

الفصل الثاني: مظاهر التفكير العالمي

الفصل الثاني: مظاهر التفكير العالمي

للتفكير العالمي مظاهر في مختلف الحقول، فله مظاهر في الحقل الاقتصادي، وفي الحقل السياسي، وفي الحقل التبليغي.

وحيث إنّنا في الغالب حاملون لراية التبليغ، فإنّ حديثنا يدور في مظاهر التفكير العالمي في الحقل التبليغي، ذلك أنّ للتفكير العالمي

تأثيراً في نمط التبليغ وكيفيته وأسلوبه ورقعته وأبعاده.

إنّ الله تعالي لم يجعل الدين حكراً علي بلد معيّن، لقد كانت البيئة التي نشأ الرسولعليه السلام وترعرع فيها بيئة ضيّقة ومحدودة، وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال مراجعة المعلّقات والقصائد الأخري للعرب يومذاك، ولكن القرآن الكريم لغته لغة عالمية.

يقول الله تعالي: ?لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا?.

ويقول في آية ثانية: ?لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ?.

وفي آية ثالثة: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ?.

وفي آية رابعة: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ? وليس لبقعة خاصة.

ويقول في آيات أخري: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ?.

هناك كتاب جمع «مكاتيب الرسولعليه السلام» التي بعثها إلي ملوك العالَم في وقته، فلقد بعثعليه السلام كتباً وسفراء إلي ملك الروم وكسري فارس وملك الحبشة وعظيم القبط، والحارث بن أبي شمر ملك تخوم الشام، وهوذة الحنفي ملك اليمامة، وبعث كتباً إلي رؤساء العرب وشيوخ القبائل، وإلي الأساقفة وإلي مختلف الطوائف.

ولقد تأثّر بعض هؤلاء واستجاب، ومن أولئك أسقف الروم فإنّه بعدما قرأ كتاب النبيعليه السلام خرج إلي الكنيسة في حشد وقال: «يا معشر الروم إنّه قد جاءنا كتاب أحمد يدعونا إلي الله، وإنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله».

ومنهم فروة عامل قيصر بعمان فإنّه عندما جاءه كتاب النبيعليه السلام آمن وأعلن إيمانه، فطُلب فأُخذ وقُتل.

وكذلك ملك البحرين المنذر بن ساوا، فقد قبل دعوة النبيعليه السلام وأعلن إسلامه، ولقد أعلنت البحرين إسلامها منذ بدايات أمرها.

وقصة النجاشي في هذا المجال معروفة أيضاً.

وهذا يتطلب منّا أن لا نحصر اهتمامنا في بلد أو إقليم أو قومية بل نكون عالَميين في تفكيرنا التبليغي.

التشيّع في الهند وتايلند والفلبين

• لقد انتقل التشيع إلي الهند وأُعلنت فيها الشهادة الثالثة بفضل جهود عالِمَين قدّما حياتهما ثمناً لذلك، هما: الملا عنايت الله الشيرازي والملا

فتح الله الشيرازي، قتلهما (إبراهيم شاه) الحاكم الناصبي المتعصب في الهند يومذاك بعد أن علم بخبرهما وأنّهما غرسا بذور التشيع في قلب ولده المسمي (علي).

ولقد نُقل عن العلاّمة الأميني? أنّه قال بعد عودته من الهند:

«ليت لي أموالاً عظيمة أنفقها لطلاب العلوم الدينية لكي ينشروا الإسلام في العالَم».

• أما في تايلند فيعود الفضل فيه إلي رجل اسمه أحمد من أهالي مدينة قم المقدسة، وتعود قصته إلي ما قبل حوالي خمسة قرون، حيث إنه سافر إلي تايلند وتزوج فتاة تايلندية ثم بدأ نشاطاً اجتماعياً هناك حتي أصبح في فترة من الفترات رئيساً للوزراء بفضل ما تحلّي به من حكمة وعقل ودراية، واستطاع أن ينشر الإسلام والتشيع في البلاد، فبني مساجد وحسينيات وأسس مشاريع حتي أنّ ما نجد اليوم من انتشار الإسلام والتشيع هناك مدين لجهود الشيخ أحمد القمي هذا، وله اليوم مرقد عظيم وقبة يزوره الناس ويتشفعون به إلي الله تعالي لقضاء حوائجهم، كما رأيت المشهد مصوّراً.

وهكذا أصبح الرجل ملجأ للمسلمين وربما قصده غير المسلمين أيضاً، بينما لو بقي تفكيره محصوراً في مدينة «قم» لربما ضاع بين الآلاف أو الملايين الذين لم يقدّموا شيئاً ذا بال.

لا نقصد من هذا الكلام أن لا يبقي الإنسان في مدينته أو قم المقدسة مثلاً، بل المقصود أن يكون تفكيره عالمياً.

• لقد نقل السيد الوالد? أنّ مسلمي الفلبين هم الآخرون مدينون لجهود الشيخ عبد الله المكي الذي ذهب إليهم قبل مئات السنين ونشر بينهم الإسلام.

الخلاصة

يجب علينا أن نأخذ العِبَر والدروس من هؤلاء في فكرهم الشمولي وأن يكون تفكيرنا كما أراده الله سبحانه وتعالي تفكيراً عالَمياً، ألسنا نقول في كل يوم عدة مرات: «الحمد لله رب العالمين»، فربوبية الله عالَمية ورحمته للعالمين

ورسالته كونية.

وفي الحديث الشريف: «مَن أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم»، ولم يقل لم يهتم بأمور بلد معيّن أو قطر معيّن أو عشيرة معيّنة بل قالعليه السلام بأمور المسلمين كلهم.

نسأل الله تعالي أن يوفّقنا للتأثير في مجري التاريخ فيما بقي من أعمارنا، وهذا ممكن بإذن الله، إن كان تفكيرنا عالمياً، وعملنا عالمياً.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين

اليأس من روح الله

اليأس من روح الله

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين. وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي قيام يوم الدين

الحديث عن قضية اليأس من روح الله ينقسم إلي قسمين:

الأول: مفهوم اليأس ومنشؤه.

الثاني: مجالات الأمل وانتظار الرحمة الإلهية.

أما فيما يخصّ المقام الأول؛ فان اليأس ضد الرجاء، إذ هو عبارة عن القنوط وانقطاع الأمل برحمة الله تعالي.

والذي يظهر من بعض الآيات القرآنية الكريمة أن الكفر هو منشأ اليأس من روح الله؛ قال الله تعالي:

?إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ?.

والظاهر أن هذه الآية الكريمة تنحلّ إلي جملتين:

الجملة الأولي: كل يائس من روح الله سبحانه فهو كافر بمرتبة من مراتب الكفر.

الجملة الثانية: كل مؤمن فهو لا ييأس من روح الله تعالي.

وعليه فإذا وجد المرء نفسه في يوم من الأيام يائساً من رحمة الله، فذلك دليل علي عدم إيمانه.

العلاقة بين اليأس والكفر

ولكن تري ماهي العلاقة بين اليأس والكفر بالله تعالي؟ ولماذا أصبح كل يائس كافراً، وكل مؤمن راجياً؟

الشيء الذي يمكن أن يقال والله أعلم إن الكافر يري في هذا الكون معادلات طبيعية حاكمة، ولا يري سواها، فنظام العلية والمعلولية المادية يتحكم بتفكير الفرد الكافر، وهو يشعر بخضوعه المطلق لهذا النظام، دون أن يري وراءه شيئاً آخر.

بين الإيمان والرجاء

إلا أن المؤمن تملؤه الثقة بأن وراء المعادلات الطبيعية شيئاً آخر، وهذا الشيء هو الإرادة الإلهية الحاكمة علي كل شيء، فهو يؤمن بأن الإرادة الإلهية مطلقة لا يقيّدها شيء وهي فوق العلل الطبيعية.

وما دام المؤمن يعلم بأن الإرادة الإلهية فوق كل شيء فلماذا يفقد أمله، ولماذا يصاب باليأس والقنوط؟

يقول بعض الفلاسفة إن الإحراق طبيعة ذاتية للنار، والذاتي لا يختلف ولا يتخلف، ولكن المعادلات الإلهية تؤكد أن الله تعالي قادر علي سلب النار طبيعتها المحرقة مع الحفاظ علي ماهيتها كنار، فتتبدل حرارتها إلي برودة بالإرادة الإلهية.

ويقولون: إن الإرواء أمر ذاتي للماء في نظام العلل والمعلولات، ولكن بالنسبة للإرادة الربانية المطلقة، يمكن أن لا يشعر شخص ما بالارتواء أبداً وإن شرب الماء، كما حدث ذلك بالنسبة إلي ذلك الشخص الذي دعا عليه الإمام الحسينعليه السلام، فكان يشرب الماء حتي يفيض من فمه ولكنه لم يكن يحس بالارتواء أبداً حتي هلك.

إذن هناك ملازمة طبيعية بين اليأس من رحمة الله تعالي وبين الكفر به، وهناك ملازمة طبيعية بين الإيمان بالله وبين الرجاء والأمل والثقة بهيمنته وقدرته ورحمته الواسعة.

آفاق الأمل والرجاء

أما فيمايخصّ الحديث عن القسم الثاني، وهو مجالات الأمل، فنقول:

إن للأمل مجالات ثلاثة متدرجة يمكن توضيحها كالتالي:

المجال الأول: الأمل في التغيير الفردي

وفي هذا المجال أبعاد متعددة منها: الأمل في النجاة من المشكلات الطبيعية للحياة.

إن طبيعة هذه الحياة هي طبيعة المشاكل، حتي يقول الشاعر:

كل من تلقاه يشكو ألماً

ليت شعري هذه الدنيا لمن؟

والفرد في خضمّ المشاكل، ولاسيما العنيفة منها يفقد عادةً الأمل ويتحول إلي كائن قنوط وييأس من أي احتمال للتغيير، ولكن الإنسان المؤمن يمتلئ قلبه بالرجاء والأمل حتي لدي تعرضه لأعتي المشاكل، وقد روي عن الإمام الصادقعليه السلام أنه قال: «اذا دعوت فظنَّ أنّ حاجتك بالباب» فكما تنتظر زيارة ضيفك وتتوقع قدومه في كل لحظة، كذلك كن مفعماً بالأمل في الرحمة الإلهية وتوقّع الاجابة في كل لحظة.

وفي هذا الإطار ينقل عن والد الشيخ عبدالكريم الحائري? أنه لم يرزق في بداية حياته بالذرية، وقد طرق أبواباً متعددة إلاّ انه لم ينجح في تحقيق مبتغاه ولكنه وعلي أثر حادثة معيّنة، انتبه لنفسه فاعترف لربه سبحانه بأنه قد أخطأ حيث قد طرق منذ البداية غير بابه، ومن ثم أوكل الأمر الي المشيئة الالهية في أن يرزقه الله تبارك وتعالي الذرية، أو لا يرزقه، وإثر هذا التوجه الإيماني رزقه الله بولد، وأي ولد كان إنه الشيخ عبدالكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة.

كما نقل أحد العلماء قصة لعل مضمونها أن شخصاً قصد الأطباء لغرض علاج زوجته من العقم، ولكنهم أعلموه بأنها تفتقد الجهاز الذي يصنّع الجنين ولا قابلية لها علي الإنجاب … فذهب الرجل إلي الشيخ (النخودكي) وكان معروفاً بكراماته، فطلب الشيخ منه أن يشتري مقداراً من التين، وعندما أتي به نظر الشيخ اليه أي الي التين نظرة حادّة ثم أمره بأن

يتناول نصفه وتتناول زوجته النصف الآخر، ليرزقه الله تعالي ولداً. فقال الرجل: إن الاطباء يعتبرون حدوث الحمل أمراً مستحيلاً، فقال له الشيخ النخودكي:

«إنك تريد الذرية من الله سبحانه وتعالي، وفقدان الجهاز ووجوده لا يؤثر في الإرادة الإلهية الحاكمة والمهيمنة والقاهرة شيئاً».

فامتثل الرجل لكلام الشيخ، فرزقه الله تعالي ولداً.

الاعتبار بما حدث في العراق!

قبل الأعوام الثلاثة أو الأربعة الماضية لم يكن في حدوث التغيير في العراق لدي الكثيرين بصيص أمل، وربما لم يكن يخطر علي بالهم أن تتبدل أوضاع العراق في يوم من الأيام، ولكن الله سبحانه وتعالي القادر شاء أن تتحول الأحوال، وإذا بتلك السلطة الغاشمة قد تهاوت، والأوضاع قد تبدلت، الأمر الذي يؤكد من جديد هيمنة الله عزوجل علي الأمور، وقدرته المطلقة التي لا يحدّها شيء.

يقول الفلاسفة: إن هناك سنخية (تجانساً وتوائماً) بين العلة والمعلول، إلا أن هذه السنخية لو فرض التسليم بوجودها هي من صنع الله تعالي، ولو تعلّقت الارادة الإلهية بصدور شيء من شيء من غير مسانخة بينهما أبداً لم يمكن أن يقف أمام تحقق تلك الإرادة أيّ مانع.

وفي دعاء الصباح: «وأنهرت المياه من الصمّ الصياخيد عذباً وأجاجاً» فما هو الرابط بين الماء وبين الصخور الصّماء؟ لا تبدو في النظر علاقة مطلقاً بين الطرفين، ولكن الله هو المريد، وهو الذي لا تقيّده الارتباطات الطبيعية بين الأشياء، لأنه القوي القاهر فوق كل شيء، وهو الفعال لما يريد.

بعد آخر

وهنالك بعد آخر يرتبط بهذا المجال (المجال الأول) وهو: أن كثيراً من الأفراد يشعرون في قرارة أنفسهم بالعجز والاستسلام تجاه الظروف القاهرة فلا تجد لديهم رغبة في العمل والإنجاز، ذلك لأنهم فقدوا الأمل بالله وبقدرته ورحمته اللتين وسعتا كل شيء، وبذلك افتقدوا المحرّك والباعث علي التقدم.

ولنا أن نتساءل عن الفرق

بين هؤلاء العاجزين وبين أولئك الذين تقدّموا في هذه الحياة كالمحقّق الخراساني، الرجل الأفغاني الذي أصبح كتابه (كفاية الأصول) محوراً في الحوزات العلمية منذ مائة عام تقريباً. الفارق فيما يبدو هو أن صاحب الكفاية كان يمتاز بالأمل والرجاء برحمة الله، والإيمان بقدرته علي أن يعينه في إنجاز ما يصبو اليه، بخلاف أولئك.

وكذلك الفرق بين العلاّمة الأميني صاحب موسوعة (الغدير)، وبين غيره من الألوف الذين كانوا في عهده.

والفرق هو كما يبدو بين صاحب الجواهر وبين الآخرين، لقد نجح صاحب الجواهر في تأليف هذه الموسوعة العظيمة بسبب أمله بالله سبحانه، رغم قساوة ظروفه وموت ولده أثناء تأليفه للكتاب، وهو القائل في مقدمة كتابه:

«فاستعنت بالله وتوكلت عليه بعزمة دونها العيّوق منزلةً وساعد ليس تثنيه الملمّات».

ورغم مرور حوالي مائتي عام علي تأليف هذه الموسوعة، إلاّ أنك ربّما لا تجد فقيهاً إلاّ و «الجواهر» في مكتبته، أما الآخرون فانهم استسلموا لظروفهم القاهرة وفقدوا الأمل في الإنجاز فلم يُحققوا شيئاً.

المجال الثاني: الأمل في التغيير الاجتماعي

بعض الأفراد يتقوقع علي نفسه ولا يفكر في تغيير المجتمع، ولعل هؤلاء يشكّلون الأكثرية من المجتمع، وهنالك أقلية من الناس تفكّر في صناعة التغيير الاجتماعي.

تري هل التغيير الاجتماعي المحدود أمر ممكن وقريب المنال؟

والجواب نعم بإذن الله تعالي وإن أدلّ دليل علي إمكان الشيء هو وقوعه في الخارج، فالمؤمنون الأفذاذ تحرّكوا من أجل التغيير في أشدّ الفترات التاريخية حرجاً وأحلكها ظلمة وقد نجحوا في ذلك مرات كثيرة، مثلاً: الأمويون والعباسيون عرّضوا أهل البيتعليهم السلام وشيعتهم لأشدّ أنواع الأذي والتنكيل والقتل والتشريد، ولكن الشيعة لم يستسلموا ولم يفقدوا الأمل بالله ولم يتنازلوا عن إرادة التغيير، فكان من جملة إنجازاتهم كسب العديد من الشخصيات الأموية والعباسية إلي طريق الحق، مثل المعتضد العباسي الذي أمر

بعد وصوله إلي الحكم أن يُكتب علي المنابر عبارة: «خير الناس بعد رسول الله علي ابن أبي طالب» كما أمر بتدوين رسالة في معايب معاوية، وأن تتلي فوق المنابر.

وقد كان المتوكل العباسي من زنادقة النواصب، ولكن الشيعة بذلوا وسعاً حتي نجحوا في جعل إبنه (المنتصر) مؤمناً شيعياً، وعندما وصل إلي الحكم ردّ فدك إلي أهل البيتعليهم السلام وفتح الطريق لزيارة سيّدالشّهداء الإمام الحسينعليه السلام في كربلاء، بعد أن كان أبوه المتوكل قد منع ذلك سنين طويلة وحاول إغراق قبر الإمام الحسينعليه السلام مرات عديدة.

وكان الخليفة العباسي الناصر لدين الله من الذين اعتنقوا التشيّع بفعل ما بذله الشيعة من جهود، وقد انتشر في عهده الذي استمر سبعة وأربعين عاماً مذهب أهل البيتعليهم السلام.

إلي غير ذلك من النماذج.

وهناك العديد من الشخصيات بذل علماء الشيعة ورجالهم جهوداً في سبيل تغييرهم ومنهم ابن (خالد بن الوليد) الشهير بمعاداته لأهل البيتعليهم السلام، وكان هذا الابن يدعي (المهاجر) وقد قاتل في معركة الجمل إلي جانب أمير المؤمنينعليه السلام وقُتل في حرب صفين شهيداً بين يدي وصي رسول اللهعليه السلام، ومنهم محمد ابن أبي بكر، ومنهم (سعد الخير) الأموي الذي ورد في الحديث الشريف «إنه رجل منا أهل البيت».

وقد أقام الشيعة دولاً متعددة علي مرّ التاريخ علي أثر جهود جبارة بذلوها ومن تلكم الدول:

• دولة الأدارسة في مراكش، أسسها ابن حفيد الإمام الحسن المجتبيعليه السلام وقد امتدت بين أعوام (172 375) ه.

• دولة الشرفاء في مراكش، امتدت بين أعوام (951 1311).

• الدولة الفاطمية في مصر، التي حملت اسم الصدّيقة الكبري فاطمة الزهراء?، بين أعوام (297 547).

• دولة الحمدانيين في حلب والموصل وغيرهما بين أعوام (217 394).

• دولة المزيديين في العراق بين أعوام

(403 545).

• دولة آل حمود في مالطا بين أعوام (407 499).

• دولة آل الأخيضر في مكة واليمامة بين أعوام (251 305).

• دولة آل موسي في الحجاز بين أعوام (305 453).

• الدولة المرعشية في مازندران.

• الدولة البويهية في العراق وإيران بين أعوام (321 447).

• الدولة الصفوية في إيران، وفي العراق في بعض الفترات، وكان عدد من العلماء من الموجّهين لهذه الدولة، منهم العلامة المجلسي والشيخ البهائي?.

• ولقد نجح السيد مهدي القزويني? وهو شخص واحد أن يحوّل بفضل الله تعالي مئة ألف شخص في العراق إلي مذهب أهل البيتعليهم السلام في ظلّ الحكومة العثمانية الشديدة العداء لأهل البيتعليهم السلام.

إذن؛ من الممكن أن يقوم كلّ واحد منا بإيجاد تغيير وتحول تاريخي كبير بالتوكل علي الله تعالي والأمل برحمته الواسعة والهمّة الرفيعة والجهد الذي لا يعرف الكلل والملل ان شاء الله تعالي.

المجال الثالث: الأمل في التغيير العالمي الشامل

وهو الأمل بالتغيير الذي سيتمّ علي يد الإمام المهدي المنتظرعليه السلام، وهذه الحالة (حالة الأمل بهذا التغيير وانتظار هذا التغيير) ينبغي أن يعيشها الفرد وينمّيها في داخله.

ونذكر بعض الروايات التي تبيّن أهمية وجود هذه الحالة.

فقد قال الإمام الصادقعليه السلام: «من مات منكم وهو منتظر لهذا الأمر كان كمن هو مع القائم في فسطاطه».

ثم مكث الإمامعليه السلام هنيئة وقال: «لا بل كمن قاوم معه بسيفه».

ثم قال: «لا والله إلاّ كمن استشهد مع رسول رسول اللهعليه السلام».

وعن أمير المؤمنينعليه السلام: «المنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله».

وعن الإمام الصادقعليه السلام، عن أمير المؤمنينعليه السلام قال: «انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله، فإنّ أحبّ الأعمال إلي الله عزوجل انتظار الفرج».

ولا بأس أن نشير هنا إلي أن الذي يبدو من بعض الروايات أن الانتظار قضية مشتركة، بمعني أنه في الوقت

الذي ننتظر الفرج الإلهي للإمام المهديعليه السلام، كذلك هو ينتظر ذلك، وهو يحزن كما تشير الروايات المتحدثة عن الأئمة المعصومينعليهم السلام عموماً لحزن المؤمنين ويفرح لفرحهم، وقد عبّر الإمام أمير المؤمنينعليه السلام عن حزنه في قضية الأنبار التي أغار عليها جند معاوية وآذوا أهلها بقوله: «فلو أن امرأً مات من بعد هذا أسفاً ما كان ملوماً، بل كان به عندي جديراً» فكيف والإمام المهديعليه السلام يشاهد هذه المآسي التي جرت وتجري في العراق وغيره من بلاد المسلمين؟!

روي العلامة المجلسي? في كتاب (بحار الأنوار) دعاءً للامام المهديعليه السلام يقرأه في قنوته وهو:

«اللّهم صلِّ علي محمد وآل محمد، وأكرم أولياءك بإنجاز وعدك، وبلّغهم درك ما يأملون من نصرك، واكفف عنهم بأس من نصَب الخلاف عليك، وتمرّد بمنعك علي ركوب مخالفتك، واستعان برفدك علي فلّ حدّك، وقصد لكيدك بأيدك، ووسعته حلماً لتأخذه علي جهرة، وتستأصله علي غرّة، فإنك قلت وقولك الحق: (حتّي إذا أخذت الأرض زُخرُفها وازّيّنت وظنّ أهلها أنّهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تَغنَ بالأمس كذلك نُفصّل الآيات لقوم يتفكّرون) وقلت: (فلمّا آسَفُونا انتقمنا منهم)وإن الغاية عندنا قد تناهت وإنا لغضبك غاضبون، وإنا علي نصر الحقّ متعاصبون، وإلي ورود أمرك مشتاقون، ولإنجاز وعدك مترقّبون، ولحلول وعيدك بأعدائك متوقّعون، اللهم فأذن بذلك، وافتح طرقاته، وسهّل خروجه ووطّئ مسالكه، وأشرع شرائعه، وأيّد جنوده وأعوانه، وبادر بأسك القوم الظالمين، وابسط سيف نقمتك علي أعدائك المعاندين، وخذ بالثأر».

وجاء في كتاب (الصحيفة المهدية) دعاء آخر للإمام المنتظرعليه السلام: «إلهي أين كفايتك التي هي نصرة المستضعفين من الأنام؟ وأين أين عنايتك التي هي جُنّة المستهدفين لجور الأيام؟».

«إليّ إليّ بها يا ربّ، نجنّي من القوم الظالمين، إني

مسّني الضر وأنت أرحم الراحمين».

لقد شبّهت الروايات الشريفة صبر الإمام المنتظرعليه السلام بصبر أيوبعليه السلام، وعندما تضايقت حلقة البلاء علي نبي الله أيوب، دعا بهذا الدعاء: «ربّ إني مسّني الضر وأنت أرحم الراحمين» ودعاء الامام المهديعليه السلام بهذا الدعاء قد يشير إلي شدة ضغط الحوادث علي الإمامعليه السلام:

«مولاي! تري تحيّري في أمري، وتقلّبي في ضرّي، وانطوائي علي حرقة قلبي وحرارة صدري، فصلِّ يا رب علي محمد وآل محمد، وجُد لي يا رب بما أنت أهله فرجاً ومخرجاً».

نسأل الله تعالي أن يعجّل فرجه ويسهّل مخرجه، ويجعلنا من أعوانه وأنصاره.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين

التبعية الثقافية

التبعية الثقافية

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي محمد وآله الطاهرين، واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي قيام يوم الدين

قبل الحديث عن التبعية الثقافية، لابدّ أوّلاً من الحديث عن مشكلة التبعية بشكل عام، كما أن من الضروري التحدث عن سبل مكافحتها؛ ومن ثم فإنّ موضوعنا سيدور حول ثلاثة محاور هي:

• مشكلة التبعية بشكل عام.

• التبعية الثقافية وأخطارها.

• كيف نواجه التبعية الثقافية؟

1مشكلة التبعية بشكل عام

إحدي المخاطر الكبيرة التي تواجه المجتمعات والأمم هي مشكلة تبعية الأمم الضعيفة للأمم القوية، وهذه المشكلة لا تتوقف عادة عند حدّ معيّن، فهي تستمر في كثير من الأحيان حتي تصل إلي مرحلة الذوبان الكلي للأمّة الضعيفة في الأمّة القوية، حيث تُمحي هوية الأمّة الضعيفة وكيانها بشكل كامل.

قد تبدأ تبعية أمّة ما في المجال الاقتصادي، ولكن لا تتوقّف عند هذا الحد، يقول الله في معرض تحذيره للمسلمين من التبعية لليهود والنصاري: ?وَلَن تَرْضَي عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَي حَتَّي تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ?، أي إنّ هؤلاء لا يقنعون منكم بأن تكونوا تابعين لهم من الناحية الاقتصادية، ولا أن تدوروا في فلكهم من الناحية السياسية، ولا أن تكونوا مقلّدين لهم في الظواهر الاجتماعية فقط، بل لا يكتفون منكم إلاّ بالذوبان الكامل والتحوّل التام إلي دينهم وملّتهم.

ولم يقل الله تعالي: «ولا ترضي» بل قال: ?وَلَن تَرْضَي? و «لن» كما هو المعروف في اللغة العربية تفيد تأبيد النفي، أي أن هذه حالهم أبداً، فلا تتصوروا أنهم ربما يتغيّرون في المستقبل ويكتفون بالقليل! ومعني هذا أنّ اليهودي والمسيحي لا يكفيه أن تكون صديقاً له بل لا يقبل منك إلاّ أن تتحوّل عن دينك وتكون يهودياً أو نصرانياً مثله، أما العلاقات الظاهرية والمجاملات وما أشبه فلن تقنعهم أبداً.

ويقول تعالي في آية

أخري: ?حَتَّيَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ?، فالهدف النهائي لهم هو أن نتخلي عن ديننا ومبادئنا وقيمنا.

قضية التنباك والعهد البهلوي في إيران مثالاً

من الأحداث التاريخية المهمة في إيران القضية المعروفة بقضية التنباك أو التبغ، وقد كان الهدف الظاهري للمستعمرين الهيمنة علي اقتصاد إيران من خلال شركة التبغ، ولكن الهدف الذي كانوا يخططون له كان أبعد من ذلك، وكان موضوع احتكار التبغ الإيراني مجرد طريق وبداية، ولو أنهم أرادوا احتكار التبغ فقط لكفاهم ألف ممثل لهم علي مستوي إيران مثلاً، ولكنهم جاءوا بأربعمئة ألف فرد إلي إيران كما ذكر في بعض الكتب وهذا في الواقع جيش احتلال كامل! أما الهدف الحقيقي فقد كان القضاء علي الهوية الإسلامية للشعب الإيراني، والدليل علي ذلك أنّهم عندما سيطروا بعد ذلك حاولوا تحطيم الدين في إيران، ولم يرتضوا حتي بوجود عباءة واحدة علي رأس امرأة في إيران، وحظروا إقامة المآتم الحسينية، وذلك في عهد البهلوي الأوّل الذي كان عميلاً من عملائهم. وهذا معني قوله تعالي: ?حَتَّيَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ?، فالأمر رهين باستطاعتهم.

وقد نقل بعض من عاصر تلك الحقبة أنّهم كانوا يخافون حتي من إظهار البكاء في أيام عاشوراء فكانوا يذهبون إلي المقابر ويجتمعون هناك للبكاء علي الإمام الحسينعليه السلام متظاهرين أنهم إنما يبكون موتاهم، كي لا يلحقهم الضرر!

ونقل لي أحد الشيوخ أنّ والدته لم تغادر بيتها طيلة تلك المدة خشية أن يتعرض لها الشرطة الذين يتربصون بالمحجبات لخلع حجابهن.

كما نقل أحد الذين عايشوا تلك الظروف، قال:

«كنّا جماعة مجتمعين في غرفة في ظل احتياط أمني شديد نبكي علي مصاب الحسينعليه السلام وإذا بشرطي يداهم المنزل، فلم ندرِ ما نفعل؟ وبماذا نبرّر له وجودنا وجلوسنا هنا؟ فألهمنا الله تعالي فوراً طريقة الخلاص حيث تمدد أحدنا

وسط الغرفة وألقينا عليه غطاءً، وعندما سألَنا الشرطي عن سر اجتماعنا وبكائنا، أشرنا إلي الشخص المسجي وسط الغرفة، فاقتنع وعاد».

فانظر إلي أيّ مدي بلغ فرض التبعية علي الناس بحيث منعوهم حتي من البكاء علي إمامهمعليه السلام في يوم مصابه.

لماذا لم يفعلوا هذه الفظائع في ثورة التنباك؟ لأنّهم لم يستطيعوا، وعندما استطاعوا ذلك في عهد البهلوي الأوّل، لم يترددوا أبداً، وهذه الحقيقة كشف عنها القرآن الكريم بقوله تعالي: (حتّي يردّوكم عن دينِكم إن استطاعوا). فهذه حقيقة من الحقائق التاريخية يدلّ عليها استخدام كلمة (لن) التي تفيد النفي المؤبد كما ذكرنا ذلك سابقاً.

إذن، التبعية تبدأ من نقطة، قد تكون اقتصادية أو سياسية ولكنّها لا تتوقّف عادة حتي مرحلة الذوبان الكلي، كما حصل في أسبانيا التي ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية عدة قرون، ولكن الأعداء دمّروا فيها الإسلام تدميراً كاملاً حتي لم يعد لتلك الحضارة أي أثر، وهذا هو هدفهم، ومَن يتصوّر أنّ الأمر يتوقّف عند حدود التبعية الاقتصادية أو التبعية السياسية فهو واهم.

2. التبعية الثقافية

التبعية أنواع، فهناك التبعية الاقتصادية، والتبعية السياسية، والتبعية الاجتماعية، وهناك التبعية الثقافية، وهي أخطر أنواع التبعية، لأنّها تنبع من الداخل، فإنّ التبعية المفروضة من الخارج أمدها قصير في العادة، في حين أنّ التبعية إذا نبعت من الداخل وتحوّل الفرد إلي مستعبَد بمحض إرادته، فهذه العبودية ستكون طويلة وربما أبدية.

وقد نُقل أنّ مجموعة من العبيد الذين حرّرهم أحد الحكام خرجوا في تظاهرات رافضين التحرير ومطالبين بإبقائهم عبيداً! حيث أنّهم أُشربوا في قلوبهم العبودية والتبعية للأسياد، وإذا كان الشيء نابعاً من الداخل صعُب علاجه، وهذه هي التبعية التي يعمل المستعمرون علي غرسها في صفوف المسلمين.

نذكر شاهدين علي ذلك:

الشاهد الأوّل من العراق: فلقد واجه البريطانيون فيها مقاومة عنيفة،

فواجهوا قوة الدين، وكان ثقيلاً عليهم وهم الإمبراطورية العظمي والوحيدة كما يقولون أن يُهزموا في العراق أمام مجموعة من الحفاة. وهناك تحليل يقول: إنّ الدول العظمي يهمّها اعتبارها وسمعتها أكثر من أيّ شيء آخر، وكثير من المواقف يتّخذونها من أجل ذلك، وهذا ما خسرته بريطانيا المسمّاة بالعظمي في العراق!

«تقول الجاسوسة البريطانية في العراق في مذكراتها «مذكرات مس بيل»: «ففكرنا بطريقة لمواجهة الحالة، وانتهينا إلي ضرورة فصل المجتمع عن علماء الدين ومراجع التقليد»، ولكن كيف؟ تقول: «عن طريق إنشاء المدارس الحديثة!».

وكانوا يوفدون أولاد رؤساء العشائر والشخصيات المهمة إلي اسطنبول بذريعة الإعداد العسكري وتلقي التدريبات، ويقومون ثمة بشحن عقولهم بما يشاءون.

وهكذا كانوا يقومون بإعداد أفراد من داخل المجتمع العراقي لا يفكّرون إلاّ بالطريقة الغربية وبما يخدم مصالح الحكومات الأجنبية.

وإذا راجعتم تاريخ العراق في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين لرأيتم أنّ كثيراً من النوّاب والوزراء المهمّين وقادة الجيش وأغلب الشخصيات السياسية البارزة كانوا خرّيجي هذه المدرسة، فتصوّر كيف سيكون وضع البلد الذي يحكمه أفراد من أبنائه تحكمهم عقلية الحكومات الغربية!

الشاهد الثاني من إيران: لقد كتب أحد السفراء الغربيين تقريراً حول الأوضاع في إيران يقول فيه:

«إنّ مشكلتنا في إيران تتلخّص في الملالي والبازار (أي رجال الدين والسوق)، فأيّ قانون نضعه إذا رآه الملاّ مخالفاً للدين يحرّك السوق، والسوق يضغط بدوره علي الحكومة، وبالتالي لا نتمكن من تطبيق ذلك القانون».

يقول: «والحل في ذلك أن نضعف التجار وأن نضعف نفوذ رجال الدين عن طريق إنشاء المدارس الحديثة».

من مظاهر التبعية الثقافية في بلاد المسلمين: حدّث السيد الوالد? ما مضمونه:

«أنّه كان وزير للمعارف في العراق يقال له خليل كنة، وقد تبوّأ هذا المنصب في خمس دورات متعاقبة».

يقول الوالد: ذهبنا إليه، فرحّب بنا، فبدأنا الكلام

بذكر حديث شريف عن النبيعليه السلام يقول فيه: «صنفان من أمّتي إذا صلحا صلحت أمّتي وإذا فسدا فسدت أمّتي: الأمراء والعلماء» وقلنا له: أنت من الأمراء.

فقال: الأمراء وأنا منهم أكثرهم غير صالحين، ثم سألَنا عما أتي بنا وقال: ماذا تريدون؟

قلنا: نريد أن نتحدّث معك حول مناهج التعليم.

قال: تفضلوا.

قلنا: المناهج الموجودة لا تدرّس مادة الدين بشكل كامل، إذ إن الدين لا ينحصر في العبادات كالصلاة والصيام.

قال: ماذا تريدون مثلاً؟

قلنا: إن الجانب السياسي في الإسلام مهمل تماماً في المناهج الدراسية، وهكذا الجانب الاقتصادي والجانب الاجتماعي والجانب العقائدي مثل نظرة الدين إلي الكون والحياة فهذه الأمور كلها يجب أن تدرج ضمن المناهج الدراسية.

يقول الوالد: وهنا ضحك الوزير وقال: إنّني مع كوني وزيراً للمعارف، لا أعرف عن هذه الجوانب شيئاً»!

وهذه هي المشكلة، فإذا كان وزير المعارف لا يعرف شيئاً عن هذه الأمور، فمن الطبيعي أن يدرّس الاقتصاد الغربي والسياسة الغربية وعلم الاجتماع الغربي وعلم النفس الغربي و … في المدارس وعندما يكبر الطالب تكون عقليته غربية ومنطلقاته في الحياة غربية، ولذلك يقود البلاد نحو الغرب.

3. وسائل مكافحة التبعية الثقافية

3. وسائل مكافحة التبعية الثقافية

وهي متعددة نذكر منها:

أ إنشاء المعاهد التعليمية ابتداءً من الابتدائية وانتهاءً إلي الجامعة.

وهذا الأمر ممكن وعملي ونافع حتي لو فكّرنا فيه بلحاظ معادلات الربح والخسارة.

والذين ذهبوا إلي الغرب واجهوا هذه المشكلة، لكنّا نحن مع الأسف قليلو الانتباه لهذه النقطة المهمة، إننا نحتاج إلي مزيد من المعاهد الإسلامية في بلاد الغرب، بل في بلادنا، يحتاج العراق اليوم إلي معاهد تعليمية موجَّهة، أفلا نتمكن من القيام بدور ولو محدود في هذا المجال؟

وقبل ذلك ألا نستطيع إنشاء دورات تعليمية في العطلة الصيفية؟ وهل نعلم تأثيرها الكبير؟

لقد بدأ الوالد? أوّل حلوله في الكويت بإنشاء دورات في العطل، وكثير

من المتديّنين الذين نعرفهم اليوم هم خرّيجو تلك الدورات.

نقل لي أحد الإخوة هذه القضية وهي في الواقع قضية مؤلمة جداً أنقلها لكم لتعرفوا حجم الخطر، قال:

«إن إحدي العوائل المتديّنة العريقة التي هاجرت إلي الغرب أرسلت ابنتها إلي المدرسة لتكمل دراستها، وماذا يمكن للمرء أن يفعل هناك؟ إما أن يرسل أولاده إلي المعاهد الغربية الكافرة، أو المعاهد الوهابية المنحرفة، أو يتركهم في البيت ويعني هو بتعليمهم.

وفي يوم من الأيام طُرق الباب، فخرج الأب يتطلع مَن الطارق؟ وإذا بشخص زنجي ضخم واقف علي الباب، سأل من الرجل: ماذا تريد؟ أجابه أنا صديق ابنتك، أريد لقاءها! فارت في عروق الرجل دماء الحمية والغيرة، وصفع الرجل الزنجي، فذهب إلي سبيله.

وبعد دقائق طُرق الباب ثانية وإذا بالرجل الأسود ومعه شرطي، قال الشرطي لصاحب الدار: إن عقوبتك السجن لصفعك هذا الرجل، ولكنه عفا عنك، وأمامك الآن أحد طريقين، فإما أن نأخذ منك ابنتك وندعها ترافق هذا الرجل، وإما أن تسمح له بأن يدخل بيتك لملاقاة بنتك.

فكّر الرجل قليلاً ورأي أنّ السماح للزنجي بالدخول أهون الشرين، وعندما دخل الزنجي جاء الأب وجلس بين يديه وتوسّل إليه أن يشهد الشهادتين، فتلفّظ بهما الزنجي علي مضض، فعقد له الرجل علي ابنته لتحلّ له».

وهذا نموذج لما يحدث لبعض العوائل في بلاد الغرب، ولا نحتاج إلي أن نذهب إلي بلاد الغرب، فإنّهم بدأوا يصدّرون هذه الظواهر إلينا، فمن الظواهر المعقّدة في هذا البلد مثلاً (يعني إيران) ظاهرة هروب الصبايا من منازل آبائهن!

نعود إلي موضوع إنشاء المعاهد، وأذكّركم بتجربة مدارس حفاظ وحافظات القرآن الكريم في كربلاء المقدسة، حيث كان يدرس فيها زهاء ثلاثة آلاف طالب وطالبة يتلقّون فيها العلوم الدينية إلي جانب العلوم الأكاديمية، فكانوا يتلقّون علوم

القرآن والفقه والتاريخ إلي جانب علوم الكيمياء والفيزياء واللغة. ولقد ظهرت نتائج تلك التجربة، فقد انتشر هؤلاء في شرق الدنيا وغربها حاملين لواء الإمام الحسينعليه السلام ومشعله في ظلام الكفر الدامس.

ب اجعلوا بيوتكم قبلة:

نقل لي أحد الإخوة أن مجموعة من المؤمنين الذين يعيشون في بلاد الغرب رأوا أولادهم وبناتهم علي خطر عظيم، فأينما يذهبون يواجههم خطر الانحراف، لأنّ ثقافة العري منتشرة في كل مكان، سواء علي البحر أو في المسابح أو أجهزة المذياع والتلفاز والكمبيوتر والفضائيات والصحف، فالفرد ينظر إلي الانحراف ويسمع الانحراف ويحيط به الانحراف من كل مكان، ففكّر هؤلاء أن يصنعوا مجمّعات ويوفّروا لأبنائهم وبناتهم وسائل الترفيه والراحة فيها، بدلاً من أن يتبعثروا ويذوبوا في المجتمع الغربي.

يري البعض أنّ هذا هو المقصود من قوله تعالي: ?وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً?، أي لا تتوزّعوا وتتبعثروا وتتشتّتوا في المجتمع المنحرف فتذوبوا فيه، بل لتكن بيوتكم بعضها بجوار بعض ومقابل بعض. يقول الناقل:

«وقد فكر هؤلاء أنّهم لا يمكن لهم أن يمنعوا أولادهم من الذهاب إلي المسابح الغربية ففكروا في إنشاء مسابح خاصة بهم، وبالفعل فقد أنشأوا مسبحاً كلّفهم ثلاثة ملايين ونصف مليون بوند».

إذن الأمر الأوّل الذي نحتاج إليه في مواجهة التبعية الثقافية والذوبان الثقافي هو بناء المعاهد العلمية الموجّهة، فلنبدأ بذلك، ولو علي مستوي الدورات الصيفية، فإنّها مؤثّرة جداً.

ج تقديم البدائل الفكرية:

لا يكفي للمهتم بشؤون المجتمع أن يقول إنّ أمراً ما هو خاطئ، بل عليه تقديم البديل الصحيح أيضاً، ونحن عندما نقول مثلاً إنّ السياسة الموجودة غير صحيحة، فالمطلوب منّا تبيين السياسة الصحيحة، وهكذا في فروع الحياة الأخري كالاقتصاد والتربية والعلوم الإنسانية تدرّس في الجامعات الحديثة، وهذا الأمر بحاجة إلي تخصّص واجتهاد.

لقد ربّي الإمام الصادقعليه السلام مجموعة من

التلاميذ، وكان كلّ منهم متخصّصاً في مجال، فإذا كان السائل يبحث عن مسألة في علم الكلام قيل له: عليك بهشام بن الحكم، وهكذا في سائر الفنون.

إنّ تقديم البدائل يتطلّب منّا تخصّصاً ومعرفة بالمباني والمناهج ويحتاج إلي اطّلاع علي الصغريات الخارجية، لأنّ بيان الحكم كما يحتاج إلي معرفة الكبريات الكلية يحتاج إلي معرفة الصغريات الخارجية أيضاً، كما لابد أن يتفرّغ كلٌّ منّا لأحد الفروع والمجالات، كالسياسة والاقتصاد والاجتماع، فعلم الاجتماع مثلاً مليء بالنظريات الإلحادية، فلابد من أن نعرض إزاءها نظريات إسلامية.

د الاهتمام بالأدب والفن:

كان البعض يُشكل علي تسمية نهج البلاغة من قِبل الشريف الرضي? ويقول كان ينبغي له أن يسمّيه نهج الحياة، ولكن هذا الإشكال غير وارد، وذلك لما للأدب من دور ريادي في الحياة؛ ولقد اختار الشريف الرضي? النصوص التي تشكّل القمّة في البلاغة من كلام الإمامعليه السلام، وكلماتهعليه السلام وإن كانت نهج الحياة، ولكن جميعها ليست بالضرورة قمماً في البلاغة، فإنّ الأئمةعليهم السلام كانوا يكلّمون الناس علي قدر عقولهم، فكانوا يضطرّون أحياناً للتكلّم بلغتهم، أما ما جمعه الشريف الرضي? في هذا الكتاب فهي القمم من الناحية البلاغية والتعبيرية من كلمات الإمام أمير المؤمنينعليه السلام، ولقد كان ذلك من أسباب نفوذ كتاب نهج البلاغة وانتشاره.

فالأدب مهم والفن مهم، ولقد غفلنا نحن كثيراً عن هذا الجانب، في حين إنّ له تأثيراً كبيراً في صياغة عقليات الناس بصورة مباشرة وغير مباشرة.

هل تعلمون علي سبيل المثال مدي تأثير أفلام الكارتون في عقول الأطفال؟ وهل تعلمون أنّ كثيراً من هذه الأفلام تحمل إلي أطفالنا قيم الحضارة الغربية؟ إنّ لكل حضارة قيماً، وإنّ الأفلام المنتجة في الغرب تعبّر عادة عن تلك القيم، وهي تنتقل إلي أولادنا الصغار حتي ذوي الخمسة

أعوام أو أقل، وينشأ أولادنا علي تلك القيم من حيث لا نعلم.

وقد صدر قبل فترة كتاب في الغرب ألّفته امرأة غربية، قالوا إنّه بيع منه في اليومين الأوّلين من نشره فقط ثمانية ملايين وستمئة ألف نسخة، أي بما معدّله أربعة ملايين وثلاثمئة ألف نسخة في اليوم، ونُشر تقرير يقول: إنّ المكتبات تعمل ليل نهار بسبب وجود طوابير من الناس منتظرة لاقتناء نسخة من الكتاب!

يقول أحد الإخوة المؤمنين:

«حصلت علي فلم معدّ عن الصدّيقة الزهراء? أنتجه حديثاً بعض الشباب المؤمنين، فرأيت أنه من الأفضل أن أقدّمه لابني الذي يبلغ من العمر حوالي ستة أعوام. وفي أحد الأيام دخلت غرفته فرأيته يشاهد الفلم ودموعه تنهمر كالمطر».

وهذا يدلّ علي تأثير الفن في النفوس، فهذا الطفل الصغير ذو الستة أعوام تأثّر بالفلم علي حدود فهمه وغرق في البكاء!

تصوّروا إذاً ما عمله الغربيون بالعالَم عن طريق الأفلام والقصص والروايات والكتب!

بالهمة والتوكل علي الله يصبح العطاء ثرّاً

لا يقولنّ أحد إنا لا نتمكّن، فإننا قادرون بإذن الله تعالي علي التقدّم في هذه المجالات إذا شمّرنا عن سواعد الجدّ وتوكّلنا علي الله وتفرّغ بعضنا للتخصّص فيها.

أنقل فيما يلي هذا المطلب عن السيد العم حفظه الله، قال:

«إنّ أمّهات الكتب الفقهية الشيعية المؤلّفة من عهد الشيخ المفيد? إلي يومنا هذا، حتي الرسائل العملية، إنما تبتني علي مجموعة من روايات أهل البيتعليهم السلام، فإنّ عمدة الدليل في الفقه هو الدليل الثاني أي الأخبار والروايات، صحيح أنّ القرآن الكريم يقع في الرتبة الأولي ولكنّه يُجمل الحديث في كثير من الموارد، أما الروايات فهي تمتاز بالكثرة والتنوّع وبيان التفاصيل.

وهذه الروايات نقلها لنا مجموعة من الثقات أمثال زرارة بن أعين وأكثر من عشرة من إخوانه وأخت واحدة لهم.

أنا أخمّن أنّ خمس فقهنا تقريباً يبتني علي

هؤلاء!

ولكن هل تعلمون مَن الذي كان سبباً في هداية هذه المجموعة؟ إنّه رجل أفغاني يقال له أبو خالد الكابلي، فهو رأس الخيط في استقطاب هؤلاء إلي الإيمان، بينما لم يكونوا مؤمنين من قبل».

انظروا كيف استطاع شاب واحد أفغاني أن يترك أثراً عظيماً وامتداداً تاريخياً يعود لأكثر من ألف عام وقد يستمر حتي يرث الله الأرض ومن عليها.

إذن لا يقل أحد منّا أنا لا أقدر، فقد يحتجّ الله تعالي علينا يوم القيامة بأبي خالد الكابلي، ولعلّ بينكم مَن هو أكثر قدرة منه»!

إذن المطلوب منا أن نبدأ بملء هذه الفراغات بالتوكل علي الله تعالي والاستمداد منه والاستعانة بأوليائه الطاهرين، نسأله سبحانه أن يوفّقنا لذلك.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين.

الجلد و الجتهاد

الجلد و الجتهاد

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين. وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي قيام يوم الدين

مقدّمة

نتحدث عن هذا الموضوع بإذن الله تعالي ضمن ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: الجدّ والاجتهاد في مجال الطاعة والعبادة.

المبحث الثاني: الجد والاجتهاد في مجال التعلّم والمعرفة.

المبحث الثالث: الجد والاجتهاد في مجال العمل والخدمة.

ولكن قبل أن نخوض في هذه المباحث نقدّم مقدمة قصيرة وهي: أن كلّ عمل يقوم به الإنسان يبتني علي فلسفة فكرية معيّنة، بدون فرق في ذلك بين أن يكون العمل حقيراً أو خطيراً، بل ثبت في علم الحكمة الإلهية أنه لا يمكن بالإمكان العقلي صدور عمل معيّن إلا إذا كانت لدي الفاعل غاية معيّنة، عبّروا عنها هناك بالعلة الغائية، ولكننا نعبّر عنها هنا بالفلسفة الفكرية للعمل.

قد تجدون طالبَين من طلاّب العلم يختلفان من ناحية العمل، فترون الأوّل يستيقظ قبل الفجر بساعة ليبدأ بالعبادة والطاعة والبحث والمطالعة مع أنه لم ينم قبل الساعة الثانية عشرة ليلاً، بينما يظلّ

الثاني نائماً حتي الساعة العاشرة صباحاً، فهدا الاختلاف يبتني فيما يبتني علي الفلسفة الفكرية لكلّ منهما.

كان السيد الوالد? يقول: بعض الأفراد عندهم فلسفة التأخر في الحياة؛ لأن للمتأخرين فلسفة في الحياة أيضاً! فلو قيل لأحدهم: لماذا أنت متأخّر؟ ولماذا لا تعمل؟ أو لماذا لا تجدّ في طلب العلم؟ فلن يعدم الجواب ولن يعدم الفلسفة الفكرية التي تبرر له عمله، ولكنها فلسفة التأخّر كما أن هناك فلسفة للتقدم تكمن وراء تقدّم الأفراد المتقدّمين في الحياة.

إذا اتضحت هذه المقدمة تبدو لنا حينئذ أهمية معرفة الفلسفة الفكرية التي يبتني عليها الجدّ والاجتهاد في هذه المجالات الثلاثة.

1. الجد والاجتهاد في مجال الطاعة والعبادة

هنالك بعض الأفراد يوجد لطاعته وعبادته لله سبحانه سقف معيّن يظنّ أنه إذا بلغه بلغ الحدّ الأقصي من العبادة وانتهي بعد ذلك كلّ شي، فيتصوّر مثلاً أنه بلغ القمة في العبادة إذا كان ملتزماً بالفرائض اليومية أو كان يؤدّي نافلة الليل فوق ذلك، أو كان ملتزماً بما ورد في الروايات الشريفة من صلاة إحدي وخمسين (أي أداء النوافل إضافة للفرائض اليومية)، أو كان يقرأ دعاء كميل كلّ ليلة جمعة ودعاء الصباح عقيب صلاة الفجر، إنه يشعر عندئذ أنه أدّي الوظيفة بل زاد عليها، وقد يُدلّ علي الله تعالي بعمله، مع أن عبادة الله تعالي وطاعته لا تقف عند حدّ معيّن إلا عجز الفرد، وهذا أيضاً ليس حدّاً حقيقياً وإنما هو من باب التسامح في التعبير، وإلا فليس للطاعة والعبودية لله تعالي حدّ معيّن تقف عنده.

والعجز قد يكون تكوينياً؛ فإن الإنسان لا يستطيع الاستمرار علي العبادة من دون أن ينام مثلاً، فيكون في مثل هذه الحالات مضطرّاً للانقطاع عن العبادة، وهذا ما نعبّر عنه بالعجز التكويني، أي أن تكوينه لا يسمح له بالاستمرار

أكثر، وإذا ما أجبر نفسه علي الاستمرار فإنه سينهار.

وقد يكون العجز تشريعياً، ومثاله أن الطالب عندما ينشغل بطلب العلم الواجب فإنه لا يمكنه آنئذ أن يجمع بين البحث والدراسة وطلب العلم وبين قراءة القرآن والأدعية وأداء العبادات الأخري عادة. إذن ليس لعبادة الله تعالي وطاعته حدّ معيّن.

وهذه الحالة تبتني علي فلسفة فكرية ذُكرت في رواية رواها الشيخ الكليني? في كتابه (الكافي) عن الإمام الصادق عليه السلامقال: قال رسول اللهعليه السلام: من عرف الله وعظّمه منع فاه من الكلام وبطنه من الطعام وعنّي نفسه بالصيام والقيام.

[عظّمه: عدّه عظيماً، منع فاه من الكلام: لعل المقصود منه الكلام الذي لا يعنيه، وبطنه من الطعام: لعل المراد الطعام أكثر من المقدار الضروري، وعنّي نفسه بالصيام والقيام: أي أتعبها بالصوم في النهار والعبادة في الليل]. فجذر العبادة معرفة الله عزّ وجلّ.

وفي حديث روي عن النبي الأعظمعليه السلام أنه قال: ما عبدناك حق عبادتك وما عرفناك حقّ معرفتك.

وكلما زادت المعرفة زادت العبادة، وقد نقل عن بعض العبّاد أنهم لم يكونوا طوال عمرهم ينامون في الليل ولا يأكلون في النهار، بل كانوا يصومون نهارهم ويقومون ليلهم فكانوا منشغلين بعبادة الله تعالي دائماً، وهكذا الأمر في الخشية، فمن كانت معرفته بالله تعالي متواضعة كانت خشيته منه قليلة، لأن الخشية ليست عملاً اختيارياً بل للخشية مبدأ هو المعرفة، فلو عرفت أن شخصاً ما عظيم بدرجة ما فإنك تقوم تجاهه بتعظيم يتناسب مع معرفتك، ولكن إذا انكشف لك أنه فوق ما كنت تتصوره فإن تعظيمك واحترامك سيكون أكثر، فكيف بالله تعالي الذي لا حدّ لعظمته وجلاله؟! وما قدر أعمالنا في جنب عظمته.

لقد كان الماء في السابق يمثّل مشكلة كبيرة وكان الحصول علي الماء الصالح للشرب

أمراً عسيراً وقد يعود كذلك في المستقبل، ويقول العلماء إن حروب المستقبل ستكون من أجل الصراع علي الماء ?قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ? وكانوا قديماً يضعون التمر في الماء المالح لتقليل ملوحته، ولمثل هذا الماء كان يقال النبيذ، فلكلمة النبيذ الواردة في الروايات معنيان هذا أحدهما.

ويحكي ما مضمونه أن بدوياً كان يقطع الصحراء فمرّ بموضع رأي فيه حفرة اجتمع فيها ماء المطر فقال يخاطب نفسه: هذه أفضل هديّة أقدّمها للملك إذا دخلت عليه، فملأ قربة كان يحملها حتي ورد المدينة فدخل علي الملك وقدّم له ذلك الماء، فشكره الملك علي هديته وكافأه ثم أمر خدمه أن يصطحبوه إذا خرج ويمرّوا به علي الطريق الذي يطلّ علي النهر الكبير للمدينة كنهر دجلة في بغداد مثلاً يقال: عندما رأي الأعرابي هذا النهر الممتلئ بالمياه العذبة كاد أن يذوب خجلاً من تواضع هديته التي قدّمها إلي الملك.

ونحن أيضاً عندما ننتقل إلي الدار الآخرة فسوف تعترينا هذه الحالة، ونندم علي ضآلة ما قدّمناه، ولعل من هنا كان من أسماء القيامة يوم الحسرة والندامة، إننا سنري أن كل ما قدّمناه ضئيل وحقير بالنسبة لما تتطلّبه الآخرة؛ يقول الله تعالي: ?لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ?.

وقد روي أن الإمام أمير المؤمنينعليه السلام كتب علي كفن سلمان الفارسي?:

وفدت علي الكريم بغير زاد

من الحسنات والقلب السليم

وإذا كان هذا الكلام يقال في سلمان فماذا نقول نحن؟

وما قدر أعمالنا في جنب عظمة الله تعالي؟

لو قام البعض منا بأداء صلاة الليل تصوّر أنه بلغ المرحلة العليا في العبادة وأنه أصبح في مصاف أولياء الله تعالي وخلصائه، وقد يتصوّر أنه لا يوجد علي سطح الأرض أو

تحت السماء مثله! هذا في حين أننا محدودون بالكسل والعجز التكويني والتشريعي في عبادتنا لله تعالي، لذلك ينبغي لنا أن نخاطب الله سبحانه وتعالي دوماً ونقول له: اللهم عاملنا بفضلك ولا تعاملنا بعدلك، ونردد ما ورد في الدعاء الوارد عقب زيارة الإمام الرضاعليه السلام: لا تُحمد يا سيدي إلا بتوفيق منك يقتضي حمداً، ولا تُشكر علي أصغر منّة إلا استوجبت بها شكراً، فمتي تُحصي نعماؤك يا إلهي وتجازي آلاؤك يا مولاي.

روي الحرّ العاملي في كتابه (وسائل الشيعة) قال: ولقد دخل أبو جعفر ابنه عليه فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد فرآه قد اصفرّ لونه من السهر ورمضت عيناه من البكاء حتي كادت أن تحترق، ودبرت جبهته وانخرم أنفه وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، قال أبو جعفر: فلم أملك حين رأيته بتلك الحال، فبكيت رحمة له. فالتفت إليّ بعد هنيئة من دخولي فقال: يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالبعليه السلام، فأعطيته، فقرأ فيها شيئاً يسيراً ثم تركها من يده تضجّراً وقال: من يقوي علي عبادة عليّ بن أبي طالبعليه السلام؟

لا شكّ أن عبادة الإمام أمير المؤمنينعليه السلام كانت عبادة متعددة الأبعاد، لأنّ العبادة في معناها الأعم تعني استعمال الإنسان قواه في سبيل المعبود، ولقد كانت حياة أمير المؤمنينعليه السلام كلّها عبادة لله تعالي وكانت مشروعاً دائماً للتضحية في سبيله، ولم يكن مبيته عليه السلام في فراش النبيعليه السلام ليلة المبيت المعروفة إلا نموذجاً مشهوداً لتلك التضحيات المستمرّة، وإلا فإن الإمامعليه السلام كان يقدّم نفسه فداءً لرسول اللهعليه السلام في كلّ المواقف، ولولا تلك المواقف التي وقفها أمير المؤمنينعليه السلام في الذبّ عن رسول

اللهعليه السلام لما زُرعت ضدّه تلك الأحقاد البدرية والأحدية والخيبرية والحنينية وغيرهن، ولما أبغضه إمام أحد المذاهب حيث قتل الإمام جدّه لأمّه (الخارجي المعروف بذي الثدية) في معركة النهروان. وكان الإمامعليه السلام يعلم بأن مواقفه هذه ستنتج تلك الأحقاد، ولكنه مع ذلك لم يتوانَ عن أداء حقّ العبودية الخالصة لله تعالي وفداء نفسه لنبيّهعليه السلام.

ولقد أشارت الصديقة الكبري فاطمة الزهراء? إلي مواقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه السلام في خطبتها المعروفة بقولها: قذف أخاه في لهواتها.

وكما أكرم الله تعالي نبيّهعليه السلام في الدنيا فقرن اسمهعليه السلامباسمه تعالي، فكذلك أكرم عليّاًعليه السلام وقرن اسمه باسم نبيّهعليه السلام، وسينكشف لنا في الآخرة بعض آخر مما ادّخر الله تعالي لهما وللإمام زين العابدين وسائر الأئمّة المعصومينعليهم السلام من عطاء وتكريم.

وقد روي أنه سُئلت خادمة للإمام السّجادعليه السلام عن عبادته فقالت: أطنب أم أختصر؟ فقيل لها: بل اختصري، فقالت:

«ما أتيته بطعام نهاراً قطّ، ولا فرشت له فراشاً بليل قطّ».

وهذا معناه أن الإمامعليه السلام لم يكن يفطر إلا في يوم العيد، وكان في سائر الأيام صائماً نهاره قائماً ليله، ومع ذلك يقول من يقوي علي عبادة أمير المؤمنين؟! فأين نحن من عبادته وعبادة سائر الأئمة المعصومينعليهم السلام وقد كانوا القمّة في العبادة؟! فلنعرف إذن علي الأقلّ أننا نعيش في السفوح؛ لأن هذه المعرفة نفسها قد ترتقي بنا شيئاً فشيئاً.

2. الجد والاجتهاد في مجال التعلم والمعرفة

إن النهضة والبناء الحضاري للأمم يقودها العلماء، ولذلك يحاول الأعداء أن يبقونا في حضيض الجهل والتخلّف، وبالمناسبة أنقل لكم القضية التالية وهي أن أحد الشباب أراد الذهاب إلي الغرب للدراسة في حقل الاقتصاد، فنصحه السيد العمّ? أن يواصل التحصيل في هذا المجال ولا يعود إلا بعد أن يبلغ أعلي الدرجات

وإن استغرق ذلك منه مدة طويلة، وذهب الشاب والتحق بإحدي الجامعات الغربية، وبعد أن حصل علي الشهادة المتعارفة قدّم طلباً للمسؤولين عن الجامعة يخبرهم أنه يريد الاستمرار حتي المرحلة العليا، فأرسلوا إليه شخصاً يهودياً خلا به وبدأ يسأله أسئلة دقيقة حول حياته، والشابّ يجيب، فسأله عن منطقته وأقربائه ومهنهم، وسأله عن أصدقائه ومن يلتقي بهم، ولكنه بقي كمن يبحث عن حلقة مفقودة دون أن يجدها.

يقول الشاب:

وأخيراً قال لي: لديّ سؤال واحد، وهذه الأسئلة كلّها كانت مقدّمة للوصول إلي جواب هذا السؤال ولكني لم أصل إليه؛ ولذلك أسألك الآن: من الذي اقترح عليك البقاء من أجل مواصلة الدراسة حتي المراحل العليا؟ فإني لا أري في هؤلاء المحيطين بك من هو أهل لذلك.

فقلت له: إن في بلدنا عالماً من علماء الدين هو الذي حثّني علي ذلك.

فقال: لقد انحلّت العقدة ووصلت إلي الحلقة المفقودة.

ولكنهم بعد ذلك حاولوا بمختلف الأساليب ثنيي عن الاستمرار، ومن جملة الأمور التي قالها لي ذلك اليهودي: إن بلادكم متخلّفة وإن المقدار الذي حصلتَ عليه من العلم يكفيك لخدمتها، وإن الزائد لن يفيدك في مجال تقديم الخدمة لبلادك.

واقتنع الشاب بهذا المنطق وعاد إلي البلاد.

لقد جعلوا بلادنا كطائر حبيس في قفص لا يمكنه التحرّر منه، وبقيت مقدّراتنا بأيديهم سواء في عالم السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع ومن أسباب ذلك أن لهم مفكرين في كل المجالات، وحتي الكتب التي تدرّس في جامعاتنا في علم الاجتماع والاقتصاد وغيرهما هي كتب تحتوي علي أفكار الملحدين والمنحرفين، فكم منظّراً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً عندنا؟ وكم مؤلفاً لدينا كصاحب الجواهر الذي أنفق الأعوام الطويلة من عمره لتأليفه؟ إن الاكتفاء ببضعة دروس في اليوم الواحد لا يصنع مؤلفاً مثل صاحب الجواهر.

ألا نحتاج اليوم

إلي نهوض فقهي؟ فهل من يكتفي بتلقّي بعض الدروس البسيطة ويقضي ليله ونهاره بالكسل مرشّح للقيام بهذا الدور والإجابة علي التساؤلات القائمة؟ كلا بالطبع، إن الأمر بحاجة إلي عمل دائم وسعي حثيث وجهد متواصل من طالب العلم عسي يمكنه تقديم شيء يساهم في خلق النهوض الفقهي أو الحضاري؛ يقول الشاعر:

وما نيل المطالب بالتمني

ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

إن كتاب (مفتاح الكرامة) للسيد جواد العاملي من الكتب الفقهية الرائعة، ومن يراجعه يقف مذهولاً أمام الذهن الوقّاد لمؤلفه، حتي أن أحد العلماء المعاصرين شبّه ذهنه بالحاسوب (الكمبيوتر)، فهل يتصوّر أن هذا العمل الضخم أتي من فراغ ومن دون جدّ واجتهاد؟ كلاّ بالطبع.

ينقل حفيده بعض أحواله فيقول:

«كنت أعيش مدة في بيت جدّي، فكان إذا أراد النوم وضع رأسه علي كفّه وغفا إغفاءه قصيرة ثم نهض وواصل الكتابة! ولقد قال لي مرة: كم تنام؟ وإلي متي هذا الحب للنوم؟».

لو راجعتم كتاب (مفتاح الكرامة) للاحظتم أنه يذكر في آخر بعض مجلداته عبارات من قبيل:

«(قد فرغت من تأليف هذا الكتاب قبل منتصف الليل، أوقد فرغت من هذا المجلد بعد منتصف الليل، أوقد فرغت منه في الربع الأخير من الليل، أوقد فرغت منه في ليلة القدر) مما يكشف أنه كان يكتب حتي في ليلة القدر، ولقد سئل ما أفضل الأعمال في ليلة القدر؟ فقال: طلب العلم، بإجماع علماء الإمامية».

إن من يريد أن يصبح فقيهاً أو أصولياً أو رجالياً فعليه أن يجدّ ويجتهد.

إن كتاب المامقاني? في علم الرجال وحده لعله يقع في حوالي خمسين مجلداً حسب الطبعة الحديثة، وكتاب الجواهر للنجفي? يقع في ثلاثة وأربعين مجلداً، وهكذا كتب الأصول، فمتي سيكمل الطالب دراسة هذه الكتب إذا لم يكن مستعدّاً للسهر ومضاعفة الجهود والسعي الحثيث المتواصل؟!

وقديماً قيل: يقول العلم: أعطني كلّك أعطك بعضي.

3. الجد والاجتهاد في مجال الخدمة والعمل

وفي هذا المجال أذكر كلمتين:

الكلمة الأولي للسيد الوالد? حيث كان يدعو للوقوف عند ثلاث آيات في القرآن الكريم، وهي:

الآية الأولي قوله تعالي: ?وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَي اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ? فهذه الآية المباركة دعوة للعمل.

الآية الثانية قوله تعالي: ?وَسَارِعُواْ إِلَي مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ? وهذه الآية لا تكتفي بالدعوة إلي العمل بل تحثّ علي المسارعة فيه أيضاً.

الآية الثالثة قوله تعالي: ?فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ? فههنا دعوة للمؤمن لأن يكون في حالة سباق في العمل، وهذا يتطلّب منه استنفاد كلّ طاقاته.

الكلمة الثانية للسيد العم (السيد المجتبي?)، حيث قال:

إن هناك أربع مراحل للعمل بالنسبة لطالب العلم:

المرحلة الأولي: المرحلة الطبيعية، وفيها يتلقّي طالب العلم الدروس المقرّرة في كلّ يوم، ويكتفي بذلك.

المرحلة الثانية: هي أدون من المرحلة الأولي، حيث لا يلتزم الطالب في هذه المرحلة بمقتضيات المرحلة الطبيعية.

المرحلة الثالثة: هي ما فوق المرحلة الطبيعية وفيها يضاعف الطالب من جهوده في طلب العلم.

وأما المرحلة الرابعة فيمكن أن نعبّر عنها بمرحلة الرجال المحاصَرين، أرأيت الرجال المحاصَرين من قِبل العدو في قلعة مهدّدة بالسقوط؛ كيف سيتصرفون؟! تراهم لا ينامون إلا قليلاً ولا يفكرون في الأكل والشرب كثيراً، بل يبذلون وقتهم وجهدهم وفكرهم كلّه للخروج من الوضع الذي هم فيه، ولا يهدأ لهم بال حتي بلوغ الهدف النهائي وهو النجاة.

حقّاً أين نحن من هذا التفكير والمنطق، منطق المسارعة والتفكير في كوننا محاصرين، والشعور بأن لدينا مهمة كبيرة وأن كلّ ما نعمله فهو قليل إلي جنب ما هو مطلوب منّا؟ لاسيما ونحن نعيش هذه التحديات الكبري في عالم اليوم؛ فالأرقام الموجودة في العالم في كلّ المجالات أرقام فلكية، فهل يقنع أحدنا بأنه ألّف كتاباً

أو كتابين أو أنه طُبع من كتابه بضعة آلاف نسخة، أو أنه بني مسجداً ثم يتصور أن هذا غاية المني وأنه انتهي كلّ شي.

إن هذه الأرقام تنفع علي مستوي بلد صغير وليس علي مستوي العالم.

لننظر إلي العالم بيد من هو الآن؟ إنه بيد الكفار، فالإعلام بيدهم، والفكر بيدهم ومناهجنا الجامعية هم الذين يضعونها، ودستورنا وقوانينا هم الذين يصوغونها، أما آن أن نختار نحن مصير العالم، كما قال العم الشهيد (السيد حسن الشيرازي?):

قد آن أن نختار نحن مصيره

من قبل أن يختاره الكفار؟

لقد اختار الكفار الآن ومع الأسف مصير العالم يصنعون فيه ما يشاءون ويلعبون ببلادنا ومقدّراتنا كما يلعب الأطفال بالكرة.

إنها لحقيقة مؤسفة؛ إن بلادنا اليوم ألعوبة بيد حفنة من الكفّار.. كلّ شي بأيديهم، سواء التجارة والمال والاقتصاد أو الدعاية والإعلام أو السياسة والفكر والاجتماع، ولا يمكن بهذه الأعمال المتواضعة التي نقوم بها أن نحقق قوله تعالي ?وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ?، لقد بلغنا من الهوان حدّاً بحيث باتوا لا ينظرون إلينا ولا يستمعون لما نقول، فكيف سنقول كلمتنا؟!

في هذا العالم المشحون بالأفكار والإمكانات ينبغي لنا أن نسعي ونعدو بكلّ طاقاتنا لعلّ الله سبحانه وتعالي يمنّ علينا بالنجاة، فإنّه تعالي مغيّر الأحوال وهو القائل ?وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ?.

إن الإصلاح التام لا يتحقق إلا في عهد الإمام المنتظرعليه السلام ولكن يمكننا أن نغيّر من سوء حالنا ولو بمقدار، بالجد والاجتهاد، سواء في ميدان الطاعة والعبادة، أو في ميدان العلم والمعرفة، أو في ميدان العمل والخدمة.

نسأل الله سبحانه وتعالي أن يعيننا علي ذلك كما أعان الصالحين عليه.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين.

لنكن من المجتهدين

لنكن من المجتهدين

بسم الله الرحمن ارحيم

الحمد لله رب العالمين. وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم علي

أعدائهم أجمعين إلي قيام يوم الدين

مقدّمة

كما أن الأمة بحاجة الي عدد كبير من الخطباء والمؤلفين والمؤسسين والناهضين، فهي بحاجة الي مجموعة كبيرة من المجتهدين.

ولا نعني بكلامنا هذا التفكيك بين الاجتهاد والتأليف ولا بين الاجتهاد والخطابة أو النهوض أو التأسيس؛ فقد يكون المجتهد مؤلفاً كما كان العلامة الحليّ الذي ألّف ألف كتاب كما يمكن للمجتهد أن يكون خطيباً، وقد نقل السيد الوالد? أن مجموعة من خطباء إيران قديماً كانوا مجتهدين، ويمكن أن يكون ناهضاً كصاحب الكفاية أو المجدد الشيرازي، إنما نعني أن هنالك فراغاً كبيراً في هذا الجانب ينبغي ملؤه كما ينبغي ملء الفراغات الموجودة في المجالات الأخري العلمية منها والعملية.

إذن يدور هذا الحديث حول موضوع الاجتهاد وضرورة ملء الفراغ الذي تعاني منه الأمّة في هذا المجال، ونتناول هذا الموضوع ضمن البحوث التالية:

البحث الأول: ما هي حاجة الأمة إلي المجتهدين؟

البحث الثاني: لماذا لا نكتفي باجتهادات المجتهدين الماضين؟

البحث الثالث: هل عملية الاجتهاد منحصرة في إطار الأحكام الفقهية فقط؟

البحث الرابع: هل الاجتهاد محصور في قطر أو قومية أو حدود جغرافية معيّنة؟

البحث الأول: الحاجة إلي الاجتهاد

كما أن المجتمع بحاجة إلي أهل الخبرة والاختصاص في جميع العلوم والفنون، فكذلك الحال في مجال علم الفقه الذي يُعني بمعرفة الأحكام الشرعية، وكما أن الثقافة العامة لا تكفي عادةً في المجالات الأخري بل لا بدّ من التخصص والخبرة، فكذلك لا يحقّ لمن لم يبلغوا درجة الاجتهاد (أي التخصص في الفقه) أن يبتّوا في المسائل الشرعية بتصوراتهم الظنية، مهما بلغت ثقافتهم الدينية العامة، تماماً كما لا يحقّ لغير المتخصص في مجال الطب معالجة مريض أُصيب بالجلطة القلبية مثلاً، مهما بلغت ثقافته الطبية ومهما قرأ من كتب في علم الطب مالم يبلغ درجة الخبروية التامة. وقد جرت سيرة العقلاء في كل المجالات أن

لا يستمعوا إلاّ لآراء المتخصصين فيها.

إذن، فالحاجة إلي المجتهدين في الفقه تمثّل صغري من صغريات كبري كلية وهي الحاجة إلي أهل الخبرة في كل علم.

أما أن ينبري شخص ويقول: هذا هو فهمي من الآية أو الرواية أو هكذا أتصوّر روح الإسلام فهذا يشبه من يقول هذا فهمي من النصوص الطبية أو هكذا أتصور روح الطب، فكما أن الثاني ليس له الحق أن يعمل وفق فهمه مالم يكن متخصصاً في الطب، فكذلك لا يحقّ لمن ليس متخصصاً في الفقه أن يجعل فهمه الخاص مقياساً لاستنباط الاحكام الشرعية.

ولتقريب الحاجة إلي التخصص نضرب مثلاً ذكره صاحب المناهج? بشيء من التصرف: إذا ورد حديث يقول: «إذا أفطرت يوماً من شهر رمضان متعمداً فأعتق رقبة أو أطعم ستين مسكيناً أو صُم شهرين متتابعين»، فإن فهم هذا الحديث يتوقّف علي بحوث كثيرة هنا، ومنها:

هل الخبر الواحد بنحو عام حجة أو لا؟

هل هذا الخبر الواحد بنحو الخصوص حجة أو لا؟

هل الرواة الذين وقعوا في طريق الخبر ثقات أو لا؟

هل الرواية موثّقة أو حسنة أو …؟

وهل الخبر الموثق أو الحسن حجّة؟

إذا كان هذا الخبر ضعيفاً ولكنه عمل به المشهور، فهل الشهرة العملية جابرة لضعف السند أو لا؟

هل يجب البحث عن المخصّص والمقيّد والمعارض بشكل عام أو لا؟

لو قلنا بوجوب البحث عن المخصص والمقيّد والمعارض، فهل يوجد في خصوص المقام مخصّص أو مقيّد أو معارض أو لا؟

إلي أيّ مقدار يجب الفحص عن المقيّد والمخصّص والمعارض؟ هل يكفي الظن أو يجب بلوغ مرحلة الاطمئنان؟ أو لا بد من تحصيل العلم؟

هل صيغة الأمر هنا (أعتق) تدلّ علي الوجوب أو لا؟

ما المقصود بالمسكين؟ هل هو الفقير أو من هو أسوأ حالاً منه؟

هل المقصود بالشهرين أن تكون من

الأشهر القمرية أو تشمل الشمسية أيضاً أو أنها أعمّ من كل ذلك؟

وما حكم الشهور التلفيقية؟

ما المراد بالتتابع؟ هل هو التتابع الدقّي أو العرفي؟

ما المقصود بالإطعام في «أطعم»؟ هل يكفي الطعام غير المطبوخ أو لابد أن يكون مطبوخاً، وهل يكفي الادني أو لا بد من المتوسط؟

هل يكفي إطعام الأطفال أو لا؟

هل يجزي إطعام ستين مسكيناً علي انفراد، أو لا بد من إطعامهم سوية؟

هل الجاهل المقصّر مشمول لقوله (متعمداً) أو لا؟

هل يطلق علي التقصير في المقدمات التقصير العمدي (اذ ما بالاختيار لا ينافي الاختيار) أو لا؟

هل المقصود بشهر رمضان في الرواية المعلوم بالعلم الوجداني أو يشمل التعبدي أيضاً؟ فمثلاً: لو شككنا في يوم هل هو آخر شهر رمضان أو أول شهر شوال فهل يشمل من أفطر في هذا اليوم متعمداً هذا الحكم لاستصحاب بقاء شهر رمضان أو لا؟

هل الأمر يفيد الفور أو لا؟

هل لا بد من مباشرة التنفيذ بعد انقضاء شهر رمضان أو يمكن التأجيل حتي بعد مرور سنة؟ وإلي أي حدّ يمكن التأجيل؟

هل يجوز الإطعام في بلد آخر أو لا بد من الاقتصار علي بلد المكفّر؟

هل يجوز الإطعام في بلد آخر إذا كانت القيمة فيه أقل من قيمة بلد المكفّر؟

هل يجب أن يكون الإطعام من ماله أو يكفي أن يقول لشخص أطعم عني من مالِك؟

لو تبرّع متبرّع بدون علم المكلف، فهل يجزي عنه أو لا؟

إذا وكّل غيره فهل ينوي الموكّل أم الوكيل أم كلاهما؟ …

إلي آخر هذه الفروع التي تبدأ وربما لا تنتهي، وربما احتاج تحليل هذه الرواية ومبانيها المختلفة (الأصولية والفقهية والرجالية) إلي عام كامل من البحث، مما يدلّ علي أنه لا تكفي الثقافة العامة بل لا بد من التخصص.

يقول أحد أطباء الأسنان:

«قبل أن أدخل

كلية طب الأسنان كنت أتصور أنني اخترت أقلّ فروع الطب توسّعاً إذ كنت أتصور أنني سأتعامل مع عظم صغير الحجم لا تعدو قضية التعامل معه القلع أو التنظيف ونحوهما، ولكن اكتشفت بعد أن دخلت الكلية أن الأسنان فيها من المشاكل والمسائل والقضايا بمقدار بلد تعداده ستون مليون نسمة!».

البحث الثاني: هل تكفي اجتهادات المجتهدين السابقين؟

بعد أن سلّمنا بضرورة الاجتهاد في الفقه وعدم إجزاء الثقافة العامة، يثار هذا السؤال، وهو: ألا تكفي اجتهادات مجتهدينا الماضين، لاسيما وأنهم? قد بذلوا جهوداً كبيرة وسهروا الليالي وألّفوا المصنّفات الضخمة في الفروع الفقهية؛ فما هي الحاجة إلي مجتهدين جدد؟

نجيب علي هذا السؤال بثلاثة أجوبة، الأول منها نقضيّ والآخران حليّان.

الجواب الأول: لقد بذل الأطباء القدامي جهوداً كبيرة وألّفوا الكتب الطبية ككتاب القانون لابن سينا مثلاً؛ فما هي الحاجة إلي الأطباء الجدد؟

فهذا إشكال مشترك بين جميع العلوم ولا يخصّ علم الفقه وحده؛ فما يقال في الجواب هناك يقال في الجواب هنا.

الجواب الثاني: إن العلوم في حالة تطوّر وهي لا تقف عند حدّ معيّن، صحيح أن المباني الأصلية للعلوم ثابتة إلاّ أن هناك أموراً جديدة تكتشف، ففي الفقه تُكتشف روايات جديدة؛ ويشير الشيخ الأنصاري? في كتاب «الفرائد» إلي أن أول من تمسّك بروايات «الاستصحاب» فيما نعلم والد الشيخ البهائي?، فيما حكي عنه في «العقد الطهماسبي» وهذا يعني أن هذه الروايات التي تحظي بكلّ هذه الأهمية لم تُكتشف أو لم يُستدلّ بها خلال حقبة طويلة من الزمن تقدّمت علي عهد والد الشيخ البهائي?.

يقول الشيخ الأنصاري?:

«نعم ربما يظهر من بعض عبارات ابن إدريس الحلي أنه اعتمد علي هذه الروايات في بحث استصحاب نجاسة الماء المتغيّر إذا زال تغيّره من قبل نفسه».

وهناك مجالات أخري يمكن أن تكتشف؛ فمثلاً عُرف عن السيد البروجردي?

أنه اكتشف بتتبعه طرقاً جديدة في علم الرجال.

إذن لما كان العلم لا يقف عند حدّ معيّن فإن الفقهاء قد يكتشفون أموراً جديدة وإن كانت المباني العامة محفوظة وثابتة، ولهذا قيل: كم ترك الأول للآخر؟

الجواب الثالث: إن الحياة نفسها في تجدد وتطوّر، وهذا معناه أن الحياة تطرح صغريات جديدة لابدّ من وجود المجتهد الذي يمكنه تطبيق الكبريات الفقهية عليها.

فمن الصغريات المستحدثة التي لم تكن موجودة في السابق، نظام المصارف والبنوك المالية بهذه الصيغة المعقدة، ومنها عقود التأمين، ومنها قضية الاستنساخ البشري، وقضايا أخري كثيرة ولكل واحد من هذه المسائل فروع لابد من فقيه يجيب عليها، فمثلاً: هل المستنسخ ابن أو لا؟ وهل يرث أو لا؟ إلي غير ذلك من الفروع.

وفي الحديث عن الإمام الصادقعليه السلام: «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع» أي أن الأئمةعليهم السلام بيّنوا الكليات، وعلي الفقهاء تطبيقها علي الصغريات.

وفي قضية «ركب الجارية» شاهد علي تطبيق أصحاب الأئمةعليهم السلام الكبريات علي صغرياتها المتجددة.

البحث الثالث: الاجتهاد الديني ليس منحصراً في الفقه

بعد أن سلّمنا بضرورة الاجتهاد في العلوم الدينية، يتبادر سؤال آخر وهو: هل عملية الاجتهاد منحصرة في إطار الأحكام الفقهية، أي مسائل الطهارة والصلاة والصيام ونحوها؟

والجواب: كلا بل يمكن للإنسان أن يكون مجتهداً في مجالات اخري مثل القضايا العقائدية، (في فروعها طبعاً وليس أصولها، لأن أصول العقائد ثابتة قامت عليها البراهين العقلية والنقلية المتواترة) فمثلاً يبحث هل الذي يعذَّب في القبر روح الميت أو بدنه أو كلاهما؟

ومن المجالات التي يمكن للإنسان أن يجتهد فيها تفسير القرآن الكريم؛ وقد نقل السيد الوالد? عن السيد الحكيم? أنه كان عندهم أستاذ في التفسير تناول إحدي الآيات المباركات بالشرح في أحد الأيام، ولكنه جاء في اليوم الثاني وقال:

«كان ما ذكرناه أحد الاحتمالات في تفسير الآية»

ثم طرح

احتمالاً ثانياً وشرحه، وعندما جاء في اليوم الثالث قال: وهناك احتمال ثالث وتناوله، وهكذا حتي استمر لمدة شهر كامل طرح خلاله حوالي ثلاثين احتمالاً في تفسير الآية الكريمة.

وقد ذكر بعض المفسّرين أن الاحتمالات في تفسير قوله تعالي ?وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَي مُلْكِ سُلَيْمَانَ … ? تبلغ مليوناً ومئتين وستين ألف احتمال تقريباً!

حتي الروايات التي تتناول القضايا الطبية تحتاج إلي اجتهاد، فهناك رواية تقول: «افتتح بالملح في طعامك واختم بالملح» ويمكن تصوّر فروع كثيرة في المقام، منها:

هل الطعام يشمل الفاكهة أو لا؟

وهل يشمل الماء، باعتبار أن الله تعالي يقول: ?إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي … ? أو أنه منصرف عنه؟

وهل يشمل الحليب والعسل ونحوهما أو لا؟

وماذا بالنسبة للطفل الرضيع؟ هل تبدأ أمّه إرضاعه بالملح أو أن الحديث الشريف منصرف عن ذلك؟

إلي غير ذلك من الفروع، ولقد ذكر السيد الوالد? هذه الفروع في كتاب الأطعمة والأشربة فمن أحبّ التفصيل فليراجع.

البحث الرابع: الاجتهاد لا يعرف الحدود

إن من نقاط قوة الشيعة أن الاجتهاد عندهم لا يعرف الحدود الجغرافية والإقليمية والعنصرية واللونية وما أشبه، ولذلك نسمع بمراجع أو فقهاء عرب كالشهيد الأول وإيرانيين كالشيخ الأنصاري، وهنود كالفاضل الهندي صاحب كتاب كشف اللثام، وأفغانيين كصاحب الكفاية، وكذلك كان عندنا فقهاء من البحرين والحجاز، وقد نقل أنه كان في البحرين القديمة بين (300) الي (600) مجتهد، كما سميت القطيف بالنجف الصغري لكثرة العلماء والمجتهدين فيها.

إذن الملاك في الاجتهاد والمرجعية الكفاءة، بالنحو المبيّن في الكتب الفقهية لا الامور الاعتبارية المصطنعة، وهذه مفخرة من مفاخر الإسلام ومذهب أهل البيتعليهم السلام لم تتوصل إليها الدنيا حتي الآن.

وأخيراً

ينبغي للإخوة الكرام جميعاً سواء من كان منهم يريد أن يصبح خطيباً أو كاتباً أو مدرّساً أو مؤسساً أو ناهضاً أو … ومن أية قومية كانوا أن يحاولوا بلوغ مرتبة الاجتهاد إلا إذا كان هناك محذور خارجي لأن المجتهد هو الذي يمكنه أن يحلّ المعضلات الفقهية أو الفكرية أو العقائدية أو الطبية المرتبطة بالشرع كلٌّ حسب اختصاصه.

وقد نقل أنه كان في مدينة طهران ستّون مجتهداً في وقت كان عدد نفوسها لا يتجاوز 600 ألف شخص، أما يوم بلغ نفوس طهران أكثر من 6 ملايين نسمة فإن عدد المجتهدين فيها لم يتجاوز ستة أشخاص!

إن الحاجة الي المجتهدين كبيرة ولا مانع أن يكون الفرد خطيباً أو مؤلفاً أو مفسراً أو … ويكون مجتهداً مع ذلك.

نسأل الله سبحانه وتعالي أن يوفقنا لذلك.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين.

پي نوشتها

. سورة الزمر، الآية: 1718.

. ألقيت هذه المحاضرة في15 ربيع الأول من 1425ه، علي جمع من طلاّب العلوم الدينية في مدينة قم المقدّسة.

. ألقيت هذه المحاضرة في15 ربيع الأول من 1425ه، علي جمع من طلاّب العلوم الدينية في مدينة قم المقدّسة.

. سورة هود، الآية: 119.

. سورة الأنبياء، الآية: 107.

. بحار الأنوار: ج29 ص236.

. قال ابن سنان: كان المأمون يجلس في ديوان المظالم يوم الاثنين ويوم الخميس ويقعد الرضا? علي يمينه، فرفع إليه أن صوفياً من أهل الكوفة سرق، فأمر بإحضاره فرأي عليه سيماء الخير، فقال: سوءاً لهذه الآثار الجميلة بهذا الفعل القبيح! فقال الرجل: فعلت ذلك اضطراراً لا اختياراً وقال الله تعالي: ?فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ? وقد منعت من الخمس والغنائم. فقال: وما حقك منها؟ فقال: قال الله تعالي: ?وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ

وَلِذِي الْقُرْبَي وَالْيَتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ? فمنعتني حقي وأنا مسكين وابن السبيل وأنا من حملة القرآن، وقد منعت كل سنة مني مائتي دينار بقول النبي?. فقال المأمون: لا أعطّل حدّاً من حدود الله وحكماً من أحكامه في السارق من أجل أساطيرك هذه. قال: فابدأ أوّلاً بنفسك فطهّرها ثم طهّر غيرك وأقم حدود الله عليها ثم علي غيرك. قال: فالتفت المأمون إلي الرضا? فقال: ما تقول؟ … قال: إن الله عزّ وجل قال لنبيّه?: ?قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ? وهي التي تبلغ الجاهل فيعلمها بجهله كما يعلمها العالم بعلمه، والدنيا والآخرة قائمتان بالحجة، وقد احتجّ الرجل. قال: فأمر بإطلاق الرجل الصوفي وغضب علي الرضا في السرّ. (مناقب آل أبي طالب?، محمد بن شهرآشوب المازندراني المتوفي عام 588ه، مؤسسة العلاّمة للنشر، قم، 1379ه.

. رجع ابن أبي داوود (قاضي القضاة) ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتمّ فسئل عن السبب، فقال: وددت اليوم أني قد متّ منذ عشرين سنة. قيل له: ولم ذاك؟ قال: لما كان من هذا الأسود (الإمام محمد بن علي الجواد? اليوم بين يدي الخليفة (يعني المعتصم) قيل له: وكيف كان ذلك؟ قال: إن سارقاً أقرّ علي نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمد بن علي، فسألنا عن القطع في أيّ موضع يجب أن يقطع؟ فقلت: من الكرسوع. قال: وما الحجة في ذلك؟ قلت: لأن اليد هي الأصابع والكف إلي الكرسوع؛ لقول الله في التيمم ?فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ? واتفق معي علي ذلك قوم، وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق. قال: وما الدليل علي ذلك؟ قالوا: لأن الله لما قال ?وَأَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرَافِقِ? في الغسل، دلّ

ذلك علي أنّ حدّ اليد هو المرفق. قال: فالتفت إلي محمد بن علي فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فقال: قد تكلّم القوم فيه فدعني. قال: أي شيء عندك؟ قال: اعفني عن هذا. قال: أقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه. فقال?: أما إذ أقسمت عليّ بالله أني أقول: إنهم أخطأوا فيه السنة، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكفّ. قال: وما الحجة في ذلك؟ قال: قول رسول الله?: السجود علي سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، وقال الله تبارك وتعالي: ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ? يعني هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها ?فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا? وما كان لله لم يقطع. قال: فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكفّ. قال ابن أبي داوود: قامت قيامتي وتمنّيت أني لم أك حيّاً. (بحار الأنوار: ج76 ص191).

. سورة البقرة، الآية: 179.

. بحار الأنوار: ج16 ص115.

. كتاب المحاسن للبرقي (أحمد بن محمد بن خالد البرقي الابن) ج2 ص485، وسائل الشيعة: ج11 ص513 ح15403.

. الكافي: ج6 ص537.

. السَّكُونِيِّ عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّد? قَالَ: لِلدَّابَّةِ عَلَي صَاحِبِهَا سَبْعَةُ حُقُوق وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (السابق) وَزَادَ: ولا يَضْرِبُهَا عَلَي النِّفَار (أمالي الصدوق: ص597).

. نهج البلاغة: ص 346 من كلام له? يتبرّأ من الظلم.

. الحدائق الناضرة، للمحقق البحراني: ج52 ص143.

. لما كان فتح مكة … دخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنّون أن السيف لا يُرفع عنهم، فأتي رسول الله? البيت وأخذ بعضادتي الباب ثم قال: لا إله إلا الله أنجز وعده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده، ثم قال: ما

تظنّون وما أنتم قائلون؟ فقال سهيل بن عمرو: نقول خيراً ونظن خيراً، أخ كريم وابن عم. قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف: ?لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ? … فاذهبوا فأنتم الطلقاء. فخرج القوم كأنما أنشروا من القبور ودخلوا في الإسلام (بحار الأنوار: ج21 ص132 ب26 فتح مكة).

. عن الإمام الصادق? قال: إن رسول الله? يوم فتح مكة لم يسب لأهلها ذرية، وقال: من أغلق بابه وألقي سلاحه أو دخل دار أبي سفيان فهو آمن. (بحار الأنوار: ج21 ص117 ب26 فتح مكة.

. بحار الأنوار: ج2 ص30.

. تقرير للكلمة التي القيت علي جمع من الأفاضل وطلبة العلوم الدينية في مدينة قم المقدسة، مطلع جمادي الأولي وذلك بمناسبة قرب حلول الأيام الفاطمية، حيث أكد سماحته علي الإخوة المؤمنين إحياء هذه الأيام والقيام بمسؤولياتهم تجاه السيدة الزهراء? التي تمثل القدوة للمرأة المسلمة والفيصل الذي يفصل بين الإسلام والحكومات الجائرة التي حكمت باسمه.

. تقرير للكلمة التي القيت علي جمع من الأفاضل وطلبة العلوم الدينية في مدينة قم المقدسة، مطلع جمادي الأولي وذلك بمناسبة قرب حلول الأيام الفاطمية، حيث أكد سماحته علي الإخوة المؤمنين إحياء هذه الأيام والقيام بمسؤولياتهم تجاه السيدة الزهراء? التي تمثل القدوة للمرأة المسلمة والفيصل الذي يفصل بين الإسلام والحكومات الجائرة التي حكمت باسمه.

. بحار الأنوار: ج34 ص134.

. بحار الأنوار: ج34 ص191.

. بحار الأنوار: ج14 ص197.

. سورة شعراء، الآية: 88.

. ألقيت هذه المحاضرة في 28 جمادي الأولي 1423 ه بمناسبة قرب مولد السيدة فاطمة الزهراء?.

. ألقيت هذه المحاضرة في 28 جمادي الأولي 1423 ه بمناسبة قرب مولد السيدة فاطمة الزهراء?.

. بحار الأنوار: ج66 ص296.

. بحار الأنوار: ج74 ص434.

. سورة البقرة، الآية:

56.

. سورة البقرة، الآية: 73.

. سورة الفيل، الآية: 34.

. سورة النمل، الآية: 39.

. سورة فاطر، الآية: 28.

. سورة العنكبوت، الآية: 26.

. سورة النور، الآية: 36.

. بحار الأنوار: ج23 ص325.

. انظر بحار الأنوار: ج41 ص30.

. بحار الأنوار: ج14 ص197 ب16.

. سورة البقرة، الآية: 229.

. بحار الأنوار: ج43 ص134 ب5، تزويجها?.

. بحار الأنوار: ج43 ص191 ب7، ما وقع عليها من الظلم.

. بحار الأنوار: ج40 ص343.

. لعل القصة منقولة بالمضمون التقريبي.

. سورة البقرة، الآية: 13.

. سورة الحج، الآية: 32.

. سورة الأنعام، الآية: 9.

. أو هي كفء بعلها.

. سورة الأنفال، الآية: 65.

. سورة فاطر، الآية: 43.

. سورة البقرة، الآية: 124.

. بحار الأنوار: ج13 ص106ب 5.

. سورة الزلزلة، الآية: 7.

. سورة آل عمران، الآية: 195.

. راجع أمالي الشيخ الطوسي المجلس السادس ص161 ح20، والبحار: ج44 ص280 ب34 ح9 وج45 ص313 ب46 ح14، وكامل الزيارات ص107 ب32 ح2 وص108 ح6 و ص193 ب71 ح7.

. بحار الأنوار: ج28 ص55 ب2.

. سورة الغافر، الآية: 51.

. ينقل أنه يوجد في مدينة (قم) وحدها ما يربو علي أربعمئة مزار، أما في كل إيران فربما زاد علي الأربعة آلاف. ولهذه المزارات أهمية كبري فمثلا: وجود مرقد السيدة معصومة? في قم أمر مهم جداً، ليس لديننا فحسب بل لدنيانا أيضاً، فهذا المقام مؤسسة اجتماعية ذات أبعاد مختلفة، لكن بعضنا غفل عن تلك الجوانب والأبعاد، ولم نعِ أهمية وجود السيدة المعصومة? بيننا كما ينبغي.

. إقبال الأعمال: ص590.

. نهج البلاغة: ص510 ح237.

. سورة الأنعام، الآية: 43.

. وهو كتاب مؤلف في نهضة سيد الشهداء?.

. الكافي: ج8 ص58.

. انظر: شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج7 ص159.

. تاريخ الطبري: ج4 ص239، مؤسسة الأعلمي، بيروت لبنان.

. الفتوح لابن أعثم: ج3 ص196.

. جواهر المطالب في

مناقب الإمام علي? لابن الدمشقيّ: ج1 ص308.

. جواهر المطالب في مناقب الامام علي بن أبي طالب?: ص43.

. يقول اليعقوبي في تاريخه: ثم ملك معاوية بن يزيد بن معاوية أربعين يوماً، وقيل: بل أربعة أشهر، وكان له مذهب جميل، فخطب الناس، فقال: أما بعد حمد الله والثناء عليه، أيها الناس فإنا بلينا بكم وبليتم بنا، فما نجهل كراهتكم لنا وطعنكم علينا، ألا وإن جدي معاوية ابن أبي سفيان نازع الأمر من كان أولي به منه في القرابة برسول الله، وأحقّ في الإسلام، سابق المسلمين، وأول المؤمنين، وابن عم رسول رب العالمين … فركب منكم ما تعلمون، وركبتم منه ما لا تنكرون، حتي أتته منيّته وصار رهناً بعمله، ثم قلّد أبي وكان غير خليق للخير، فركب هواه، واستحسن خطأه، وعظم رجاؤه، فأخلفه الأمل، وقصر عنه الأجل، فقلّت منعته، وانقطعت مدّته، وصار في حفرته رهناً بذنبه، وأسيراً بجرمه. ثم بكي، وقال: إن أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه وقبح منقلبه، وقد قتل عترة الرسول، وأباح الحرمة، وحرق الكعبة، وما أنا المتقلّد أموركم، ولا المتحمّل تبعاتكم، فشأنكم أمركم، فوالله لئن كانت الدنيا مغنماً لقد نلنا منها حظاً، وإن تكن شراً فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها. (تاريخ اليعقوبي: ج2 ص254). وراجع: جامع النورين: ص316، وتتمّة المنتهي: ص48، وبحار الأنوار: ج46 ص118.

. راجع مروج الذهب: ج3 ص253.

. مناقب آل أبي طالب: ج3 ص279.

. سورة الشوري، الآية: 23.

. سورة الإسراء، الآية: 26.

. سورة الانفال، الآية: 41.

. سورة الأحزاب، الآية: 33.

. اللهوف في قتلي الطفوف للسيد ابن طاووس الحسني: ص102.

. العدد القوية، علي بن يوسف الحلي: ص319.

. فروع الكافي: ج2 ص474، أعيان الشيعة: ج1 ص629.

. سورة الأعراف، الآية: 156.

. بحار الأنوار:

ج53 ص11.

. مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي.

. أصول الكافي: ج1 ص528.

. لاحظ ما ورد في زيارة الإمام الحسين?: «إرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم، والصادر مما فصل من أحكام العباد»، وقد روي هذه الزيارة «المحمدون الثلاثة» ?.

. سورة الأعراف، الآية: 156.

. سورة محمّد، الآية: 17.

. سورة طه، الآية: 50.

. بحار الأنوار: ج3 ص67.

. لاحظ كلمات الزيارة المعتبرة التي أشرنا إليها آنفاً.

. بحار الأنوار: ج35 ص193.

. بحار الأنوار: ج5 ص306.

. كمال الدين وتمام النعمة، المقدمة.

. سورة الشعراء، الآية: 80.

. ذكر أحد العلماء أنه كان يوجد في مدينة إصفهان طبيب معروف يسجّل أسماء مراجعيه من المرضي في ورقة عنده بعد أن يكتب لهم الوصفة الطبية، وعندما سئل: لماذا تعمل هذا العمل؟ أجاب: إنني أعتقد أن الأدوية عوامل ظاهرية وأن الشفاء حقاً بيد الله تعالي، ولذلك أكتب أسماء المرضي الذين يراجعونني كي أدعو لهم في صلاة الليل وأطلب شفاءهم من الله تعالي، فهو الشافي، وما الأطباء والأدوية إلا أسباب ظاهرية.

. سورة النحل، الآية: 69.

. سورة الزمر، الآية: 42.

. سورة السجدة، الآية: 11.

. سورة البقرة، الآية: 79.

. بحار الأنوار: ج153 ص98.

. سورة الذاريات، الآية: 17.

. سورة النمل، الآية: 62.

. سورة السجدة، الآية: 16.

. سورة البقرة، الآية: 152.

. هذا في صورة العمد أو الجهل التقصيري، وأما في صورة الجهل القصوري فقد دلّت الروايات الشريفة علي أنه يعاد امتحانه في يوم القيامة ويتوقف مصيره علي ذلك الامتحان.

. سورة البقرة، الآية: 22.

. الكافي: ج1 ص193 ح6 باب أن الأئمة? ولاة أمر الله تعالي.

. بحار الأنوار: ج53 ص178 ح9 ب31 ما خرج من توقيعاته عليه السلام.

. الكافي: ج1 ص377 ح3 باب من مات وليس له إمام.

. سورة الذاريات، الآية:

56.

. سورة المائدة، الآية: 35.

. سورة فاطر، الآية: 43.

. بحار الأنوار: ج9 ص2.

. سورة الشعراء، الآية: 80.

. سورة النحل، الآية: 69.

. صحيح البخاري: ج2 ص15.

. سورة آل عمران، الآية: 61.

. مسند أحمد بن حنبل: ج4 ص138. وسنن ابن ماجة، الحديث رقم 1385 بتفاوت يسير.

. وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج7 ص113، ط: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم.

. صحيفة الزهراء?، الشيخ جواد القيومي: ص304 (الفارسية).

. بحار الأنوار: ج58 ص37 ب1 ح18.

. سورة سورة التوبة، الآية: 114.

. سورة التوبة، الآية: 113.

. سورة الممتحنة، الآية:: 8.

. راجع تفاصيل ذلك في الكتب الفقهية.

. بحار الأنوار: ج11 ص88 رقم15.

. سورة الأنعام، الآية: 19.

. سورة هود، الآية: 35.

. سورة النحل، الآية: 98.

. شرح نهج البلاغة: ج13 ص241.

. صحيح البخاري: ج4 ص210.

. صحيح البخاري: ج8 ص3.

. بحار الأنوار: ج30 ص317 ب30.

. كشف الغمّة: ج1 ص479.

. سورة آل عمران، الآية: 190191.

. الكافي: ج1 ص310.

. سورة آل عمران، الآية: 191.

. بحار الأنوار: ج79 ص198 ب1، فضل الصلاة وعقاب تاركها.

. سورة الزخرف، الآية: 13.

. راجع تفاصيل كل ذلك في كتب الأدعية.

. بحار الأنوار: ج14 ص83 ب5.

. مستدرك الوسائل: ج31 ص334، باب استحباب الإكثار من الصلاة.

. مستدرك الوسائل: ج31 ص336، باب استحباب الإكثار من الصلاة.

. مستدرك الوسائل: ج55 ص262، باب نوادر ما يتعلق بأبواب القصاص.

. سورة السجدة، الآية:: 1617.

. سورة الذاريات، الآية: 56.

. روي عن الإمام أمير المؤمنين? أنه قال: لقد قام رسول الله? عشر سنين علي أطراف أصابعه حتي تورّمت قدماه واصفرّ وجهه يقوم الليل أجمع حتي عوتب في ذلك فقال الله عز وجل: ?مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَي?. (مستدرك الوسائل: ج4 ص118 ب2 ح2 جواز التوكي علي أحد الرجلين).

. روي عن الإمام الحسن المجتبي?

أنه قال: ماكان في الدنيا أعبد من فاطمة?، كانت تقوم حتي تتورم قدماها (بحار الأنوار: ج43 ص76 ح62 ب2 أسماؤها وبعض فضائلها?).

. عن ابن عباس قال: لقد حجّ الحسن بن علي? خمساً وعشرين حجّة ماشياً وإن النجائب لتقاد معه (مستدرك الوسائل: ج8 ص30 ب21 ح4 رقم8989).

. الإرشاد: ج2 ص89.

. بحار الأنوار: ج44 ص393 ب37 رقم17.

. بحار الأنوار: ج48 ص107 ب5 عبادته ومكارم أخلاقه?.

. المصدر نفسه.

. مستدرك الوسائل: ج11 ص244 ب15 ح29.

. مثلاً ذكر في بعض الروايات أن بعض الأمور تورث الفقر مثل: التمشط وقوفاً أو ترك بيت العنكبوت في البيت، ولعن الأمهات أولادهن ونحو ذلك، دون أن يبدو هنالك ارتباط واضح بين الفقر وهذه الأمور.

. لا يخفي أن هذه المعطيات قد تترتب علي صلاة الليل بخصوصها وقد تترتب علي عنوان عام يشمل صلاة الليل فلاحظ.

. مستدرك الوسائل: ج5 ص207 ب28 استحباب الدعاء في جوف الليل.

. الكافي: ج3 ص488 باب النوادر.

. التهذيب: ج2 ص121 ب8 ح225.

. وسائل الشيعة: ج8 ص150 ب39 رقم 10275.

. مستدرك الوسائل: ج6 ص337 ب33 ح28 رقم6945.

. إرشاد القلوب: ج1 ص92 ب22 في فضل صلاة الليل.

. وسائل الشيعة: ج7 ص257 ب9 رقم9268.

. مستدرك الوسائل: ج5 ص207 ب28 استحباب الدعاء في جوف الليل ح1 رقم5708.

. مستدرك الوسائل: ج6 ص332 ب33 ح17 رقم6934.

. التهذيب: ج2 ص120 ب8 رقم222.

. المصدر نفسه.

. ثواب الأعمال: ص42.

. بحار الأنوار: ج84 ص161 ب6 فضل صلاة الليل ح53.

. مستدرك الوسائل: ج6 ص335 ب33 ح25.

. بحار الأنوار: ج84 ص153 ب6 فضل صلاة الليل ح31.

. بحار الأنوار: ج84 ص153 ب6 فضل صلاة الليل.

. المصدر نفسه.

. المصدر نفسه.

. من لا يحضره الفقيه: ج1 ص473 باب ثواب صلاة الليل، رقم1367.

. مستدرك الوسائل: ج6 ص335 ب33

ح25.

. نفس المصدر.

. المصدر نفسه.

. المصدر نفسه.

. المصدر نفسه.

. المصدر نفسه.

. المصدر نفسه.

. بحار الأنوار: ج84 ص161 ب6 ح53.

. شرح نهج البلاغة: ج11 ص199.

. سورة طه، الآية: 14.

. وسائل الشيعة: ج10 ص313؛ بحار الأنوار: ج93 ص356 ب46.

. سورة النساء، الآية: 19.

. سورة ص، الآية: 35.

. بحارالأنوار: ج72 ص14 ب5.

. بحارالأنوار: ج74 ص84.

. سورة المؤمنون، الآية: 51.

. دعاء كميل من الأدعية المهمة وهو دعاء خضر? علّمه الإمام أمير المؤمنين? لكميل بن زياد? فسمّي باسمه.

وحقاً أن هذه الأدعية الموجودة بين أيدينا نحن الشيعة كنوز لا يملكها الآخرون.

. الكافي: ج8 ص58.

. مستدرك الوسائل: ج18 ص258 ح11.

. بحارالأنوار: ج130 ص20 ب12.

. وهذا حال بعض الأفراد مع الأسف، وبعض التقصير يعود لنا، لأننا لم نعمل من أجل نشر التشيع وتعريف الناس بآل البيت?، وإلا فإن أغلب مناطق إيران كانت سنية المذهب سابقاً، حتي أن العلاّمة المجلسي? ينحدر من أسرة سنية، فقد كان أحد أجداده سنياً وهو أبو نعيم الإصفهاني؛ إلاّ أن الشيعة نشطوا في إصفهان وبقية مناطق إيران وشيّعوها.

. سورة الأعلي، الآية: 17.

. بحار الأنوار: ج18 ص214.

. سورة الإنسان، الآية: 20.

. سورة النساء، الآية: 77.

. سورة الرحمن، الآية: 70.

. سورة الزمر، الآية: 15.

. سورة التوبة، الآية: 72.

. بحار الأنوار: ج8 ص140.

. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي: ج11 ص153.

. سورة المؤمنون، الآية: 10099.

. شرح نهج البلاغة: ج18 ص225.

. سورة طه، الآية: 121.

. سورة البقرة، الآية: 37.

. سورة القيامة، الآية: 2.

. سورة البقرة، الآية: 32.

. بحار الانوار: ج94 ص38 ب55 فضائل شهر رجب.

. أو هو من العوامل الرئيسية في ذلك. وهذه الملاحظة سارية فيما يأتي من الكلمات أيضاً.

. بحار الأنوار: ج22 ص398 ح4.

. سورة النساء، الآية: 100.

. سورة الفرقان، الآية:

1.

. سورة الفتح، الآية: 28.

. سورة الأنبياء، الآية: 107.

. سورة سبأ، الآية: 28.

. سورة البقرة، الآية: 21 و169، سورة النساء، الآية: 1 و170 و174، سورة الأعراف، الآية: 158، سورة يونس، الآية: 23 و57 و104 و108، سورة الحج، الآية: 1 و5 و49 و73، سورة لقمان، الآية: 33، سورة فاطر، الآية: 3 و5 و15، سورة الحجرات، الآية: 13.

. الكافي: ج2 ص163 ح1.

. سورة يوسف، الآية: 87.

. الكافي: ج2 ص473.

. الكافي: ج2 ص473.

. بحار الانوار: ج52 ص126 ب22.

. بحار الانوار: ج10 ص104 ب7.

. بحار الانوار: ج10 ص94 ب7.

. نهج البلاغة، خطبة الجهاد.

. مهج الدعوات: ص68.

. بحار الانوار: ج53 ص224.

. سورة البقرة، الآية: 120.

. سورة البقرة، الآية: 217.

. من الخطط الاستعمارية إضعاف التجّار المسلمين لأن للتجار دوراً مهماً جداً في الحياة.

. إرشاد القلوب: ج1 ص70.

. سورة يونس، الآية: 87.

. الكافي للكليني: ص 426، وانظر: وسائل الشيعة: ج1 ص87.

. بحار الأنوار: ج68 ص23 ب61 الشكر.

. سورة الملك، الآية: 30.

. سورة ق، الآية: 22.

. بحار الأنوار: ج99 ص55.

. أي دخل الإمام الباقر علي أبيه الإمام السجّاد?.

. ويكفينا أن نعرف أنّه لقب بالسجّاد وزين العابدين.

. مهما يكن من أمر، فالإمام بشر (قل إنما أنا بشر مثلكم) يتألمّ ويصفرّ لونه، وهكذا حال كلّ العظماء، ولكن بعض الناس يتصوّر أن العظماء لا يتألمون، إننا نري اليوم كتاب وسائل الشيعة للحرّ العاملي بين أيدينا ولا نعرف مبلغ العناء الذي لقيه المؤلّف، فربما كان وراء كلّ كلمة فيه جهد وتعب، وربما كان الحرّ العاملي يكتب بعض كتابه وهو في أقصي درجات الجهد والإعياء، وهكذا الحال مع موسوعة الجواهر وغيرها من الكتب الفقهية والحديثية.

. أي حميت.

. أي تقرّحت من كثرة المماسة والاحتكاك بالأرض بسبب كثرة السجود عليها

لله تعالي.

. من السجود أيضاً.

. يعني الإمام الباقر?.

. أي تلا أو طالع.

. وسائل الشيعة: ج1 ص91 رقم215.

. بحار الأنوار: ج29 ص223.

. وسائل الشيعة: ج1 ص89 ب20.

. سورة التوبة، الآية: 105.

. سورة آل عمران، الآية: 133.

. سورة البقرة، الآية: 148.

. سورة آل عمران، الآية: 139.

. سورة آل عمران، الآية: 140.

. المراد من هذه العبارة وأمثالها: التصورات الظنية، علي التفصيل المذكور في مباحث «الحجج» من علم الاصول.

. وهي إحدي القواعد أو الأصول العملية المهمة التي قد تترتب عليها آلاف الفروع الفقهية.

. فرائد الأصول.

. وسائل الشيعة: ج27 ص62 ب6 الرقم33202.

. علي الظاهر.

. سورة البقرة، الآية: 102.

. الكافي: ج6 ص325 باب فضل الملح.

. سورة البقرة، الآية: 249.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.