العلم النافع سبيل النجاة

اشارة

اسم الكتاب: العلم النافع سبيل النجاة

المؤلف: حسيني شيرازي، صادق

الموضوع: فقه

اللغة: عربي

عدد المجلدات: 1

الناشر: ياس الزهراء(ع)

مكان الطبع: قم

تاريخ الطبع: 1429 ق

الطبعة: اول

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه:

«»

و وقفوا اسماعهم علي العلم النافع لهم

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام علي محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين.

وبعد.. لقد تظافرت الروايات الشريفة في الدعوة لحضور مجالس العلماء للاستفادة من علومهم والاسترشاد بتعاليمهم الروحية والفكرية والخُلُقية؛ فعن رسول الله صلي الله عليه وآله أنّه قال: «مجالسة العلماء عبادة». وعن أمير المؤمنين سلام الله عليه أنّه قال: «العقل ولادة، والعلم إفادة، ومجالسة العلماء زيادة».

كما حثّت الروايات علي تدوين العلم وتقييده بالكتابة، مثل قول النبي صلي الله عليه وآله: «قيّدوا العلم» قيل: وما تقييده؟ قال: «كتابته».

ومن بين تلك المجالس المليئة بالمعارف والعبر، مجالس سماحة المرجع الديني آية الله العظمي السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الذي طالما أتحف مستمعيه بالنكات الخفية والمعارف الدقيقة الكامنة في طيّ كلمات أهل البيت سلام الله عليهم وسيرتهم، فكانت مجالسه تُعَدُّ بحقّ منابع تربويّة كفيلة بأن ترشد المؤمنين إلي الاقتداء بأهل البيت سلام الله عليهم وتحثّهم في السير علي نهجهم، عقيدةً وفكراً، وأدباً وخُلُقاً.

فمن منطلق العمل بالأحاديث الشريفة الداعية إلي الاستفادة من مجالس العلماء ونشرها باشر قسم الترجمة والتحقيق في مؤسّسة الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله بعون الله تعالي وتوفيقه بتدوينها وتتبع مداليلها الروائية والتاريخية عبر مظانّها، فكانت (نفحات الهداية) المجموعة الأولي التي قدّمناها للقرّاء الكرام، والتي ضمّت طائفة قيّمة من أحاديث سماحته التربوية في مناسبات مختلفة.

ثم جمعنا ما أفاض به سماحته من الإرشادات التربوية والخلقية في شرح بعض مقاطع دعاء «مكارم الأخلاق» للإمام زين العابدين علي بن الحسين

سلام الله عليهما، فكان كتاب (حلية الصالحين).

وكنّا قد واعدنا قرّاءنا الأعزّاء بباقي محاضرات الأخلاق التي كان يلقيها سماحته يوم الأربعاء من كلّ أسبوع علي طلاب العلوم الدينية، فكان هذا الكتاب الذي يضمّ بين دفّتيه هذه المحاضرات التي يعود زمن إلقائها لفترات مختلفة تمتدّ من عام 1396 إلي عام 1420ه، وفصلاً ثانياً اشتمل علي كلمات ووصايا قيّمة لسماحته خلال لقائه بوفود من أهل العلم من أساتذة وطلاّب الحوزات والمعاهد والجامعات وأئمّة الجمعة والجماعة والمبلّغين من إيران والعراق وأقطار أخري زوّدَنا بها قسم التحرير في موقع سماحته، ورأينا إلحاقها بهذه المحاضرات، للمناسبة التي بينها وهي كونها تربوية أيضاً وتخاطب بالدرجة الأولي رجال العلم والدين من حوزويين وجامعيين، أساتذة وطلاّباً.

وفي الختام لا يسعنا إلاّ أن نتوجّه بالشكر إلي كلّ الإخوة الذين ساهموا في إعداد وإخراج هذا الكتاب لاسيّما الأخ عبدالرضا افتخاري، والسيّد خلدون العسكري، والأستاذ علاء حسين. نسأل الله العليّ القدير أن يسدّدنا وإيّاهم ويوفّقنا لتقديم المزيد علي هذا الطريق ولكلّ ما يحبّه ويرضاه، وصلّي الله علي سيّدنا ونبيّنا محمد وآله الطيّبين الطاهرين.

قسم الترجمة والتحقيق

في مؤسّسة الرسول الأكرم ? الثقافية

الفصل الأوّل: المحاضرات

(1) العلم والأخلاق

(1) العلم والأخلاق

روي عن رسول الله صلي الله عليه وآله أنّه قال: «نوم مع علم خير من صلاة مع جهل».

هذه الرواية من الروايات التي يجدر الوقوف عندها والتأمّل فيها. وذلك لأنّ الهدف من خلق الإنسان هو العبادة؛ قال الله تعالي: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ?، والصلاة رأس كلّ العبادات وأهمّها، بل هي العبادة التي «إن قُبلت قُبل ما سواها، وإن رُدّت ردّ ما سواها»، فالطاعات والعبادات جميعها مرهونة بمدي قبول الصلاة أو ردّها، ومع ذلك نري النبيّ صلّي الله عليه وآله الذي به عُرفت الصلاة وحقائق العبادة، وكان منطقه

منطق القرآن والوحي، وحكمه الحقّ يخبرنا أنّ نوم العالِم خير من الصلاة وهي أهمّ الطاعات والعبادات إن كانت مع جهل. فكيف يكون ذلك؟

إنّ نوم العالِم ليس تركاً محضاً بل هو مقدّمة وجود؛ لأنّ العالِم إذا نام استراح، واستراحته هذه تمثّل مقدّمة للخدمة والهداية وإرشاد الناس وإخراجهم من الظلمات إلي النور. فنوم العالِم حسنة إذاً.

أمّا الجاهل فإن لم يصلّ الصلاة الواجبة فتلك سيّئة، وإذا صلاّها مع الجهل بها، يكون قد أذهب فضلها. حينها يستوي في ذلك مع من لم يأت بها.

صحيح أنّ القاصر لا شيء عليه، لأنّ من أصول الإسلام العدل، والله سبحانه وتعالي عادل، ومن عدله أن لا يعذّب القاصر، فمن وُلد في مكان أو زمان أو ظرف بحيث كان قاصراً علي الإحاطة بأيّ خطاب أو بلاغ، لا يُعذَّب ولا يُعاقَب ولا تكتب له سيّئة، إلاّ أنّ القاصر يستوي مع المقصّر من حيث الحرمان من ثمار الواجب الذي أُمرَ به المكلف. لذا فنوم العالِم أفضل من صلاة الجاهل سواء كان قاصراً أو مقصراً؛ لغياب الثمرة من صلاتهما.

أمّا الجاهل المقصّر فقد ذهب المحقّقون الأعاظم من الفقهاء والأصوليين إلي أنّ حكمه حكم العالِم العامد خطاباً وعقاباً.

فكما أنّ العالِم العامد أي الذي يعمل عملاً ويعلم أنّه حرام قد توجّه الخطاب إليه أمراً ونهياً، فكذلك الجاهل المقصّر يتوجّه إليه الخطاب، ويستحقّ العقاب علي المخالفة، دون أن يكون فيه إشكال عقلاً.

قد لا يوجد في صفوف أهل العلم جاهل قاصر، فإنّه لا يُقصد بالجاهل المقصّر مَن كان مستواه الدراسي أدني أو كانت معلوماته أقلّ، بقدر ما ينطبق هذا الوصف علي طالب العلم الذي يجهل بعض أحكام الله تعالي بسبب تقاعسه، فيعمل الحرام وهو لا يعلم تقصيراً منه أنّ عمله هذا حرام،

وكان بمقدوره أن يعلم أنّه حرام فيجتنب عنه.

فمادام المؤمن باذلاً عمره في سبيل الله سبحانه وتعالي، منفقاً وقته وساعاته ودقائق حياته في طاعة الله، مصلّياً أو صائماً أو حاجّاً أو معتكفاً أو قارئاً للقرآن، فليخصّص حظّاً منه للعلم، وأعني به العلم بأصول الدين وأحكام الإسلام وأخلاقه وآدابه.

وعلينا بعلم الأخلاق أيضاً، فليست أخلاق الإسلام وآدابه كلّها لا اقتضائيّة حسب الاصطلاح العلمي أي مستحبّات ومكروهات، بل إنّ فيها الواجبات والمحرّمات أيضاً. فهذا كتاب جامع السعادات، وكذلك باب الأخلاق في كتاب بحار الأنوار، وتلك كتب الأخلاق الأخري راجعوها تجدوها مليئة بالواجبات والمحرّمات.

العلم ينقذ

ولكي ندرك أهمّية العلم أكثر وأنّه كيف صار النوم مع علم خير من صلاة مع جهل، أنقل لكم هذه الحكاية وقد سمعتها من أحد العلماء الذين عاصروا الشيخ عبد الكريم الحائري؛ فلا يزال بين ظهرانينا اليوم جملة من الذين عاصروه، وممّن تجاوزت أعمارهم السبعين، وينقل بعضهم عنه قصصاً من دون واسطة.

حدّثني ذلك العالِم قائلاً: نزل أحد أصدقاء الشيخ عبد الكريم الحائري ضيفاً عنده، ولم يكن معهما ثالث، ومُدّ خوان متواضع وجاء الشيخ بما كان عنده من طعام عاديّ وبسيط في بيته، وأخذ الضيف يأكل والشيخ كذلك. ولكن فجأة سحب الشيخ يده للحظات وتأمّل، ثم مدّ يده ثانية إلي الطعام واقتطع قطعة من اللحم، وقام ودخل إلي غرفة في الدار ثم عاد بعد ذلك واعتذر للضيف قائلاً: لقد انتبهت فجأة أنّ كلّ اللحم الذي اشتريته اليوم قد طهته زوجتي ووضعتْه أمامنا، ولما كانت الزوجة واجبة النفقة عليَّ، فقد أحسستُ أنّي ربّما وقعت في مشكلة شرعية نحوها، فقلت لنفسي: أن أعتذر للضيف خير لي من أن أقع في مخالفة شرعيّة؛ كان الخوف الذي تملّكني من هذه الناحية هو

أن أترك زوجتي هكذا من دون طعام، لأنّ هذا العمل خلاف للمروءة، بل لعله ترك للواجب، خاصّة وهي التي قامت بذلك العمل بنفسها وهيّأت لنا هذا الطعام، فينبغي لي أن أكون منصفاً.

انظروا إلي ورع الشيخ وكيف أنقذه علمه!

إنّ الكرم خصلة محمودة، وكذا السخاء والإنفاق وإقراء الضيف، فكلّ ذلك عمل محبّب ومقبول، ولكن إلي حيث لا يؤدّي إلي ترك واجب أو ارتكاب محرّم. ولعلّ كثيراً منّا لا يعلم أنّ مثل التصرّف الذي قام به الشيخ الحائري قد يكون واجباً. فها هنا يأتي دور العلم لينفع صاحبه ويقول له: إنّ إقراء الضيف محدود بعدم ترك الواجب، ولو أنّ أحداً نزل به ضيف ثم قام بجلب طعام مَن تجب نفقته عليه وقدّمه بين يدي الضيف من دون رضا واجب النفقة ومن دون وجود طعام فائض، فإنّ إقراءه هذا غير جائز، باتفاق العلماء.

إذاً، علم الشيخ الحائري قد نفعه. فهذا هو الذي صلاته مع العلم لا يعادلها شيء؛ لأنّ الإنسان الذي عنده علم، لا يعمل الحرام في سبيل ترك مكروه، ولا يترك واجباً من أجل الإتيان بعمل مستحبّ، وهو يتحمّل ما يُخجل عند الناس ولا يعمل ما يُسخط الله تعالي. ولاشكّ أنّ الشيخ عبد الكريم قد خجل وشعر بالحرج تجاه ضيفه، ومن المؤكّد أنّ هذا الموقف لم يكن علي الشيخ سهلاً، ولكنه مع ذلك لم يبال، لأنّ ما هو أخطر منه في نظره أن يقع في معصية مولاه عزّ وجلّ، وكان لعلمه الأثر المهمّ في تورّعه. فلو كان جاهلاً بالقضية لما تصرّف هكذا.

وقد ينطبق علي الجاهلين بالأحكام الشرعية قول الله تعالي في كتابه الكريم: ?وَبَدَا لَهُم مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ?.

صحيح أنّ صدر الآية ورد في الظالمين، ولكن ثمّة

تفاسير تقول: إنّها أيضاً في فريق من الناس يظنّون أعمالهم في الدنيا حسنات لكنّها تظهر لهم في الآخرة سيّئات، كما في إقراء الضيف بطعام واجب النفقة من دون رضاه، مثلاً.

أهمية العلم للواعظ

كان هذا مثالاً واحداً تبرز فيه أهمية العلم وتفضيل نوم صاحبه علي الصلاة مع جهل، وإلاّ فإنّ أكثر أعمال الجاهل المقصّر سيّئات. فلو أخذنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من باب المثال أيضاً، لرأينا الشيء نفسه؛ لأنّ الجاهل إذا لم يأمر بالمعروف وينهَ عن المنكر وكان واجباً عليه فقد ارتكب سيّئة، وإن أمَر ونهي فلا يبعد أن يكون أمره ونهيه سيّئة، لأنّه لا يعلم الكيفية والوقت والأسلوب اللازم للأمر والنهي الواجبين عليه، بل قد يقول عن المكروه: إنّه حرام، أو عن المستحبّ: إنّه واجب، فيصدر منه والعياذ بالله الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه.

لقد شاهدتُ أحد الأشخاص يعظُ في مجلس حضره أحد مراجع التقليد، فذكر مكروهاً من المكروهات وقال عنه أنّه حرام؛ اعتماداً علي رواية طالعها. فكان من بين الحضور رجل كبير السنّ يعرف شيئاً من المسائل الشرعية انتابه الشكّ، فذهب إلي المرجع وسأله عن الموضوع، فقال له المرجع: كلاّ إنّ هذا الأمر مكروه وليس حراماً. فجاء الرجل إلي الواعظ الذي كان يرشد الناس وقال له: لقد سألت المرجع وأخبرني أنّ ما حدّثت عنه أنّه حرام ليس حراماً بل مكروه.

فتأثّر ذلك الواعظ وجاء إلي المرجع وعاتبه بأنّ كرامته أُهدرت أمام ذلك الشخص؛ لإخباره بخلاف حديثه.

فأجابه المرجع قائلاً: لقد فكّرت في كلامك ورأيت أنّه خلاف الإجماع، أي إنّ المسألة لم تكن خلافيّة؛ يقول أحد العلماء بكراهيتها والآخر بحرمتها، وإنّما أُجمع علي جوازها ولم يقل أحد بالحرمة فيها علي الإطلاق.

فردّ عليه الواعظ: لكنّي وجدت رواية تنهي عن

ذلك.

فقال له المرجع: ليست كلّ رواية فيها نهي، دالّة علي الحرمة.

إنّ المجتهدين يُتعبون أنفسهم عدّة سنين لأجل أن يعرفوا هل النهي الفلاني يدلّ علي الحرمة أو الكراهة، وهل الأمر الفلاني دالّ علي الاستحباب أو الوجوب؟

فهذا مثال واضح لمن يتصوّر أنّه محسن دون أن يعي أنّ عمله عين الإساءة.

وعليه، فلا أتصوّر أن يوجد بيننا جاهل قاصر إلاّ قليل، والجاهل المقصّر كما قلنا كالعالِم العامد خطاباً وعقاباً، إن لم يأت بالواجب فتلك سيّئة، وإن أتي به ولكن مع المنافيات مقصّراً غير عالم بها فتلك سيّئة أيضاً.

موعظة تاريخية

تأمّل في هذا الحديث الصحيح الأعلائي:

يقول الراوي: «كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام إذ دخل عليه صالح بن محمد بن سهل وكان يتولّي له الوقف بقم فقال: يا سيّدي اجعلني من عشرة آلاف في حلّ، فإنّي أنفقتها. فقال له: أنت في حلّ، فلمّا خرج صالح قال أبو جعفر سلام الله عليه:

أحدهم يثب علي أموال حقّ آل محمد وأيتامهم ومساكينهم وفقرائهم وأبناء سبيلهم فيأخذه ثم يجيء فيقول: اجعلني في حلّ، أتراه ظن أنّي أقول لا أفعل؟ والله، ليسألنّهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالاً حثيثاً».

انظر كيف أنّ الإمام المعصوم يقول: «أنت في حلّ» ثم يخبر أصحابه أنّه لا فائدة من ذلك. وسببه أنّ الرجل لا يخلو إمّا أن يكون عالِماً عامداً أو جاهلاً مقصّراً، ولا يمكن أن يكون غير ذلك، وما أخذه من الإمام إنّما أخذه حياءً؛ لقوله عليه السلام: «أتراه ظنّ أنّي أقول لا أفعل؟».

إنّ المطلوب هو العلم، فإنّ الإنسان لا يدري بم سيُبتلي وكيف ينبغي له أن يتصرّف، وكيف يتحدّث لئلاّ يكون من الذين وصفهم الله تعالي بقوله: ?وَبَدَا لَهُم مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ? فيعمل ويتصوّر أعماله

حسنات، ثمّ ينكشف له بعد ذلك أنّها كلّها كانت سيّئات، لذا فأهل العلم أَولي بالانتباه إلي هذا الأمر الخطير.

الهلاك خيرٌ من الافتراء

عن محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني قال: «كنت عند الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح رحمه الله مع جماعة فيهم علي بن عيسي القصري، فقام إليه رجل فقال له: إني أريد أن أسألك عن شي ء؟ …».

فقام الرجل فسأله عن أشياء. فقال له أبو القاسم الحسين بن روح: «افهم عنّي ما أقول لك …» وأجابه إجابات مفصّلة شافية.

قال محمد بن إبراهيم بن إسحاق: «فعُدت إلي الشيخ أبي القاسم بن روح من الغد وأنا أقول في نفسي: أتراه ذكر ما ذكر لنا يوم أمس من عند نفسه؟

فابتدأني فقال لي: يا محمّد بن إبراهيم، لأن أخرّ من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بي الريح في مكان سحيق، أحبّ إليّ من أن أقول في دين الله عزّ وجلّ برأيي أو من عند نفسي، بل ذلك عن الأصل، ومسموع عن الحجّة».

ضرورة التعبئة العلمية والأخلاقية

قال لي أحد طلبة العلم: سألني شخص ذات يوم عن الدليل علي وجود الله سبحانه وتعالي، ففكّرت قليلاً ثمّ رأيت أنّه لا ينبغي أن أتحدّث هكذا من دون علم، ثمّ يظهر للشخص أنّني لم أكن أعرف شيئاً، فخلّصت نفسي من البداية وقلت له: إنّ هذا ليس من اختصاصي!

فهل هذا يليق برجل علم؟ أليس من واجباته إرشاد الجاهل؟ أوَ ليس وجود الله تعالي وتوحيده أساس كلّ الدين وأصل أصوله؟

إنّ كثيراً من مطالب أصول الدين يشعر الفرد بل حتي كثير من أهل العلم بالحاجة إلي تعلّمها سواء بالدراسة أو المطالعة أو المباحثة، وكذا الحال بالنسبة لكثير من الأحكام الشرعية.

كما أنّنا بأمسّ الحاجة إلي تعبئة علمية لمعرفة كثير من الأحكام الشرعية وبالأخصّ تلك التي هي محلّ ابتلائنا، وهكذا الأمر في مقام الهداية والإرشاد وتعليم الأحكام، ومواجهة أصحاب الديانات والمذاهب الباطلة والأفكار

المنحرفة. فهذا كلّه يعدّ من الواجبات العينية التي يجب علي الفرد المسلم السعي لتعلّمها.

لقد ورد في الحديث المأثور عن النبيّ صلي الله عليه وآله قوله: «اطلبوا العلم ولو بالصين». وتعلمون كم هي المسافة بين الحجاز والصين، ومدي صعوبة قطعها، خاصّة في مثل تلك الأيام؛ وغايته الوصف بأبعد مسافة متصوّرة حينذاك، لما لطلب العلم من أهمية شرعية وعرفية في حياة الإنسان.

ولا ينبغي لطالب العلم (لكي يصدق عليه أنّه طالب علم) أن يقتصر علي الدرس أو التدريس برهة من الزمن فحسب وإن كان هذا لا بأس فيه بل علي المرء أن يتعلّم، إلي جنب دروسه، كلّ أحكام الحلال والحرام، بالإضافة إلي أصول الدين والأخلاق والآداب الإسلامية.

فلا يتصوّر أحد أنّ الأخلاق الإسلامية كلّها علوم لااقتضائية، فكثير مما يعبّر عنه اصطلاحاً بالأخلاق إنّما هو من الواجبات، وضدّه من المحرّمات، فإنّ التكبّر والعُجب مثلاً ليسا من المكروهات بالمعني الأخصّ بل هما من المحرّمات، وكذلك المِراء وهو الجدال بالباطل وغير ذلك ممّا يوصف بالأخلاق الذميمة.

فمثلاً، لو قال أحدنا كلمة وكانت مطابقة لما عناه حقّاً، وكان يعلم أنّها كذلك، ثم عارضه أحد، فنوي ردّه، فإن كان ردّه لمجرد إثبات الغلبة أو الفضيلة، فهذا هو المراء الذي ورد التأكيد في النصوص والأخبار علي حرمته مادام مصحوباً بهذه النيّة وإن كان لإثبات حقّ ودفع باطل، إلاّ أن يكون الردّ بهدف إثبات الحقّ لأجل الحق نفسه، فلا خلاف في صحّته، بل قد يكون واجباً عينياً.

وهنا تتبيّن أهمية العلم وكيف أنّ النوم مع علم خير من صلاة علي جهل. فهذه صورة من المسائل الأخلاقية؛ ولذا لا ينبغي أن نضع درس الأخلاق جانباً بذريعة أنّه لا يخرج عن دائرة المستحبّات والمكروهات.

لقد ذكرت لأحدهم مرّة، عن كتب الأخلاق،

فقال لي: أنا مشغول بالفرائض. فقلت له: وكتب الأخلاق مشحونة بالفرائض.

فلنخصّص بعض أوقاتنا وبأقصي ما نستطيع لتعبئة أنفسنا بالعلم في كلّ مجال مشروع وفي مجال العلم الديني خاصّة، ولنعلم أنّ موسم الدرس مناسبة جيّدة، وأنّ التسهيل من الله تعالي.

نعم، لننتهز كلّ فرصة ولا نضيّع حتي دقيقة واحدة، ولنحمل معنا الرسالة العملية التي قرأناها في أيّام شبابنا من أوّلها إلي آخرها، فربّ كثير منّا لا يتذكّر كثيراً منها، أو ربّ أمور لم يعد كثير منّا ملتفتاً إليها، فإذا ما أُتيحت له فرصة ولو بمقدار خمس دقائق، قرأ ولو صفحة واحدة منها، حتي إذا تكرّرت يكون قد تخلّص مما كان عنده من جهل مركّب في بعض المسائل، حيث كان يتصوّر أنّه يعرفها مع أنّه لم يكن يعرفها علي الوجه الصحيح.

نقل لي أحد المبلّغين الذين كانوا يبيّنون المسائل العلمية قال: كنت ذاهباً إلي الحجّ وكان الناس يسألونني عن مسائل فأجيب عليها، وكنت أتصوّر أنّ إجابتي لبعض المسائل صحيحة، لكنّني لم أكن مطمئنّاً فيها، غير أنّي استحييت أن لا أجيب، فأجبت ثم كتبت الإجابات علي ورقة لكي أراجعها بعد عودتي من الحجّ.

يقول: عندما راجعت المسائل لاحظت أنّي أخطأت في اثنتي عشرة مسألة خالفت فيها الإجماع، أي أنّني قمت بتعليم الناس اثنتي عشرة مسألة بصورة خاطئة!

إنّ كلّ طالب علم دينيّ معرّض اليوم وغداً وفي أيّ وقت لهذه الأمور والحالات، فليهتمّ بتحصيل العلم أكثر.

صحيح أنّ لديكم اهتماماً بالعلم، ولكن ليزدد اهتمامكم، واعلموا أنّ العلم يعني النجاة من كلّ طارئ، فإنّ الزمان قصير حقّاً نسبة لتلك الأمور. ولو أنّ أحدنا يعمّر مئة سنة، فهو قليل تجاه ما يجب عليه، فكيف وأعمارنا أقصر من ذلك؟!

(2) العلم نور

(2) العلم نور

قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «العلم

نور يقذفه الله في قلب مَن يشاء».

ينبغي لأهل العلم أن يعرفوا أنّ الدراسة شيء والعلم الذي يبتغيه الله تعالي شيء آخر، فإنّ الدراسة مهما كانت واسعة وعميقة ومستوعبة فإنّها تصلح بحدّ ذاتها أن تكون مقدّمة للعلم فقط. فلو أنّ شخصاً درس عشرات السنوات وتعلّم العربية والمنطق والفقه والأصول والفلسفة والبلاغة وغيرها، يكون قد حصل علي معلومات، أمّا العلم الذي يريده الله وتواترت الأحاديث الشريفة في فضله، فهو ذلك النور الذي يقذفه الله في قلب مَن يشاء؛ والله تعالي يقول: ?وَمَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ?.

قد يكون شخصٌ شديد الذكاء وكثير الدراسة ويعرف أموراً كثيرة، أمّا أن يُكتب عالماً عند الله وحسب ما وردت به الأحاديث الشريفة فليس بالضرورة؛ فقد نقل في الحديث أنّ رسول الله صلي الله عليه وآله قال: «فضل العالم علي العابد كفضلي علي أدناكم»، فهل يعقل أن يكون هذا الفضل العظيم لصاحب المعلومات الكثيرة فقط؟!

إنّ التحصيل العلمي مقدّمة لحصول الإنسان علي مطلق العلم. أمّا ذلك النور نفسه وهو ما تريده الأحاديث الشريفة فهو شيء آخر، وهو من قبيل ما يدرَك ولا يوصف.

ويمكن تقريبه للذهن من خلال مثال: إنّ هناك فرقاً بين المأكل اللذيذ واللذّة؛ فإنّ الأوّل مقدّمة للثاني، ولكن ليس بالضرورة أن تتحقق اللذّة كلّما توفّر الأكل اللذيذ. كما لو جلس شخص إلي مائدة فيها ألذّ أنواع الطعام ولكنّه كان مشغول البال أو يعصره ألم شديد لدرجة أنّه لا يدري ما يأكل، فهل مثل هذا الشخص تتحقق له لذّة من تناول الأكل، مهما كان الطعام الموضوع أمامه لذيذاً؟ في حين إنّ الإنسان قد يلتذّ أحياناً بتناول طعام بسيط كالخبز والملح، ويشعر نتيجة ذلك بلذّة عظيمة إذا كان جائعاً

وقنوعاً ومرتاح البال.

فكما أنّ هذه اللذّة قد تتحقّق عبرالطعام اللذيذ وقد لا تتحقّق، بل قد تتحقّق في طعام بسيط، فكذلك حال العلم. فربّ إنسان أصبح عالِماً من خلال معلومات أقلّ من تلك التي انطوي عليها شخص آخر ولم يصبح كذلك، بل ربّما كان هناك شخص عنده معلومات كثيرة جداً ولا يعدّ عند الله عالماً، وذلك بسبب ما ركبه من هوي نفسه فاستلبه كلّ علمه، فلم يعد يشعر به، فكان من الغاوين؛ قال تعالي: ?وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ?.

إذاً، العلم كما يستفاد من الأحاديث هو أن يلتزم الإنسان بما عَلِمه جيّداً «من عمل بما يعلم ورّثه الله علم ما لا يعلم»، وإن لم يحصل هذا عند الإنسان، فهذا يعني أنّ ذلك النور لم يحصل بعد، وتبقي معلوماته مجرّد قدرة وإمكانية محدودتين كالمال والسلطة و…

فكما أنّ السلطة والمال يكسبان صاحبهما مكانة وشخصية خاصّة فكذلك حال صاحب المعلومات ومَن يُصطلح عليه ب «عالم» تجوّزاً إذا لم يكن عنده ذلك النور الذي عبّرت عنه الأحاديث بأنّه «يقذفه الله في قلب مَن يشاء». ومشيئة الله سبحانه ليست اعتباطية، فإنّ الله تعالي لا يشاء شيئاً من غير مرجّح، لأنه محيط بكلّ الجهات وقادر علي كلّ شيء.

ولنذكر هنا بعض قصص العلماء الماضين لنعتبر:

ولا تبخسوا الناس أشياءهم

«جواهر الكلام» كتاب لا يستغني عنه أيّ فقيه إماميّ حتي اليوم، فهو دورة كاملة وواسعة أي مفصّلة في الفقه الاستدلالي، إلي جانب كثير من الدورات الفقهية كشرح اللمعة، ورياض المسائل وغيرهما، ولكن كتاب الجواهر إضافة إلي كونه دورة كاملة في الفقه الاستدلالي فهو يمتاز بالسعة والتفصيل، وقد بذل مؤلّفه الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري قرابة ثلاثين سنة من عمره في تأليفه

كما يظهر من بعض التواريخ التي سجّلها في نهايات فصول الكتاب.

ويذكر أن الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر كان عالِماً متبحّراً ذكيّاً حافظاً متقناً، وكان هو المرجع الديني في النجف الأشرف. اتّفق يوماً أن جري الحديث في مجلس كان يضمّه وعلماء آخرين عن مسألة فقهية، فأدلي كلُّ عالم بدلوه وأعطي كلّ صاحب رأي رأيه، لكنّ صاحب الجواهر اكتفي بالقول أنّه قد ذكر المسألة في كتاب الجواهر، وأنّ رأيه موجود هناك.

وكان في المجلس عالِم أو بالأحري: دارس! قد التفت إلي صاحب الجواهر وقال: لو تعطي جواهرك للعطّارين ليستفيدوا من أوراقه في لفّ التوابل، يكون أفضل!

وكأنّه يريد بقوله هذا: إنّ كتاب الجواهر لا يستحقّ القراءة أو أن يُنقل عنه شيء، وأنّ الأوراق التي كُتبت عليه خسارة وتبديد للثروة، لأنّ ما كُتب عليها لا ينفع.

لقد ذهب صاحب الجواهر ولكن بقي اسمه وكتابه الجواهر يدلّ علي نور علمه، أمّا ذلك الرجل فقد ذهب اسمه بذهابه، ولا يعرفه اليوم إلاّ من ينبش الكتب التي أرّخت لحياة العلماء، فالملاحظ أنّ هذا الرجل مع أنّه كان عالِماً وبتعبير أدق: دارساً هو الآخر، ولكنه كان يفتقد لذلك العلم الذي عبّر عنه الحديث بأنّه «نور يقذفه الله في قلب مَن يشاء»؛ لأنّ ذلك العلم يكون مصاحباً للفضيلة، وصاحب الفضيلة لا يبخس الناس أشياءهم ولا يقول مثل هذا القول لعالم أتعب نفسه زهاء ثلاثين سنة حتي كتب ذلك الكتاب النادر في تاريخ الفقه.

دع المراء وإن كنت محقّاً

دار في أحد الأيام نقاش بين أحد العلماء المجتهدين وبين أحد تلاميذه حول نصّ من النصوص كان الأستاذ يعتقد أنّه ليس روايةً، وأنّه لم يجده في كتب الأحاديث، وكان تلميذه يقول: إنّه مرويّ.

لم يتوقّف الأمر عند إبداء كلّ من الأستاذ والتلميذ لوجهتي نظرهما،

بل أصرّ الأستاذ علي أنّه غير موجود وأنّه أتعب نفسه في كتب الحديث ولم يعثر عليه وأنّه لو كان لوجده، فيما أصرّ التلميذ أنّه موجود وأنّه وجده بنفسه، وردّ علي أستاذه بالقول: إذا لم تجد شيئاً فإنّه لا ينبغي أن تقول أنّه غير موجود، وإنّما ينبغي أن تقول أنّك لم تجده. وعاد الأستاذ للقول: لا بل إنّه غير موجود وإنّي أتحدّاك في ذلك. وهكذا حدثت مشادّة كلامية بينهما. فما كان من التلميذ إلاّ أن ذهب علي الفور وجاء بالكتاب الذي يوجد فيه الحديث وأخرجه للأستاذ والتلاميذ!

ومن هنا أستطيع القول: إنّ نور العلم الذي جاء في الحديث لم يكن متوافراً كما ينبغي لا عند الأستاذ ولا عند تلميذه!

فما كان ينبغي للأستاذ أن يتحدّي تلميذه ويقطع بعدم وجود الحديث هكذا وإن أمضي عشرات السنين في البحث والتحقيق دون أن يعثر علي ذلك الحديث، وكذلك ما كان ينبغي للتلميذ أن يعامل أستاذه بهذه الكيفية وعلي مرأي ومسمع من الآخرين!

إنّ للمعلم حقّاً، يقول الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه عن ذلك الحقّ: «مَن تعلّمتَ منه حرفاً صرتَ له عبداً»، وكذا للتلميذ حق، ينبغي لمعلّمه ألاّ يوهن رأيه أو يردّ استنتاجه بتهكّم؟

علينا أن نتعلّم من رسول الله صلي الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام ونتأدّب بآدابهم، لنحصل علي نور العلم، ?وَمَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ?. وما لم يكن ذلك النور موجوداً فلا فائدة ترتجي وإن كانت الدراسة متحقّقة عند الشخص وكان يجيد الكلام والمنطق ويتقن الخطابة أو التأليف ويملك معلومات كثيرة وجيدة.

الأخلاق من دلالات النور

هناك أمثلة كثيرة لمَن درسوا حتي بلغوا مراحل عالية في الاجتهاد، ومن جملتهم أحد مراجع التقليد ممّن أدركتُهم في النجف الأشرف، والذي

كان قد ألّف ونشر في أيام مرجعيّته كتاباً لا غبار عليه من الناحية العلمية.

ويذكر أنّ طالباً كان قد طالع الكتاب آنذاك فرأي حسب زعمه أنّ في الكتاب نقاط ضعف، وربما تصوّر أنّه يمكنه إثارتها للتشكيك في علمية ذلك المرجع، فانتهز فرصة جلوس المرجع في بيته لاستقبال الوافدين، إذ حضر هو أيضاً، ثم انبري بعد أن استقرّ به المجلس، مخاطباً المرجع بلهجة تهكّم، قائلاً: أتدري أيّ جناية ارتكبتَ بنشرك هذا الكتاب؟ لقد شوّهت سمعة مدينة النجف الأشرف ومكانتها العلميّة التي اكتسبْتها من كتب الشيخ الأنصاري وأمثاله!

يريد بذلك: أنّ الذي تخرّج من حوزة النجف الأشرف ينبغي أن تكون مؤلّفاته بمستوي مؤلّفات الشيخ الأنصاري، أمّا هذا الكتاب فسوف يحطّ من مستوي حوزة النجف لعدم ارتقائه لمستوي كتب الشيخ الأنصاري!

وأضاف: لقد تلاعبتَ بكتابك هذا بكرامة النجف العلمية وحوزتها الدينية!

أتدرون ماذا كان ردّ فعل ذلك المرجع؟

أجابه قائلاً: وأين أنا من الشيخ الأنصاري، بل إنّي لأفخر أن أفهم كلمات الشيخ الأنصاري رحمه الله، وأستطيع أن أشرحها. لقد كان الشيخ الأنصاري أستاذ الفقهاء، أمّا أنا فأتمنّي لو كنت تلميذاً للشيخ الأنصاري، وفي مثل هذه الحالة ربما صدرت منّي هفوات أو نقاط ضعف لم أنتبه لها خاصّة وأنّي إنسان ولكلّ إنسان زلاّت. لذا أرجو منكم أن تنبّهوني عليها وسأكون شاكراً لكم.

تأمّلوا فيما حدث: لقد ذهب هذا الرجل إلي المرجع لكي ينال منه ويقلّل من شأنه، ولكنه خرج وهو يغبطه.

ومن يسمع بالقصّة يقول: إنّ تصرف هذا المرجع إنما ينمّ عن نورانية لا توجد عند بعض من بلغوا مراحل عالية من العلم دون أن يحصلوا علي نوره، فإنّه كان بإمكان هذا المرجع أن يردّ ذلك الطالب ردّاً علمياً يؤهّله له مستواه، وردّاً اجتماعياً بسبب المنزلة

التي يحظي بها بين الناس، كأن يقول له: ومَن أنت لكي تزكّيني؟ أو هل فهمت كتابي لكي تنتقده هذا الانتقاد؟ ولكنّه مع ذلك لم يقل له شيئاً من هذا القبيل، لأنّ ذلك النور الذي غمره جعله يبتعد عن أمثال هذه الردود.

وكان الأَولي بذلك الطالب أيضاً أن يعرض ما بدا له من نقاط ضعف في الكتاب عرض المستفهِم المؤدَّب، كأن يدوّنها مثلاً ثم يطلب من المرجع أن يلاحظها ليجيبه عليها، فذلك خير من الاستخفاف بجهود مرجع أتعب نفسه عشرات السنين حتي توصّل إلي هذه الآراء ثم طرحها في كتاب رجاء القبول! هب أنّ الحقّ مع المعترض في بعض ما زعم، ولكن هل اعتبر نفسه معصوماً أو حاكياً عن اللوح المحفوظ، ليصدر حكمه بحقّ آراء الآخرين ابتداءً! مع أنّه كان الأَولي به أن يعرض إشكالاته ويناقشها معه حتي يتبيّن له وجه الصواب في كلّ نقطة علي حدة. ولكن يبدو أنّه لم يكن متنوّراً بنور العلم، الذي لا يأتي مع كثرة الدراسة ولا بكثرة التعلّم بقدر ما يأتي مع التحلّي بالفضائل والعمل بمقتضاها.

وليس المقصود أن لا يبذل الطالب جهداً في الدرس، بل المقصود أن يؤطّر دراسته بمجمل الفضائل التي ترقي به لأن يحصل علي نور العلم.

من قصص العلماء

كان الشيخ علي القميّ رحمه الله عالِماً زاهداً يعيش في النجف الأشرف، توفّي قبل زهاء نصف قرن. ولم يكن مرجعاً لكنّه عُرف بالعدالة لدي كلّ العلماء وعامّة الناس حتّي أنّ والدي رحمه الله نقل: أنّه مَن كان يتحفّظ في الصلاة خلف أيّ عالِم، لا يتردّد في الصلاة خلف الشيخ علي القمّي، لما عُرف عنه من ورع وتقوي. فكان مسلَّماً بعدالته لدي الجميع، ويظهر من كلمات السيّد الوالد رحمه الله أنّه كان ملتزماً

بالصلاة خلفه.

يقول الرجاليّ المعروف الشيخ آقا بزرگ الطهراني: لقد زاملت الشيخ علي القمّي رحمه الله عشر سنوات ودرسنا معاً عند السيد محمد كاظم الطباطبائي صاحب (العروة الوثقي) والشيخ محمد كاظم الخراساني صاحب (الكفاية) والشيخ محمد تقي الشيرازي رضوان الله عليهم جميعاً. وكنت أعرفه فقيهاً متبحّراً ومحقّقاً ولكنّه كان يتعمّد أن لا يشترك في النقاشات التي تطرح في المجالس العامّة لكي لا يُظهر درجته العلمية وهذا أمر صعب جداً فكان إذا سئل عن شيء أجاب، وإذا عرضتْ مسألة ودار حولها النقاش بقي ساكتاً يظنّه الرائي أنّه إنسان عادي لا يعرف شيئاً ممّا يدور.

ثم يضيف الطهراني: كان الشيخ علي القمّي عالماً متبحّراً وأنا علي معرفة تامّة به، فهو زميلي، ولكنه لم يكن يتكلّم في مثل هذه المجالس حتي أنّ علماء النجف كانوا يتصوّرون أنّه رجل عادل وزاهد ولكنّه ليس عالماً، لأنّه كان لا يُظهر من علمه شيئاً إلاّ عند الضرورة.

وهذا الأمر يتطلّب نورانيّة خاصّة تمكّن الإنسان أن يضبط نفسه هكذا، فلا يخوض في حالات الجدل العقيم ولا يصرف الوقت والجهد علي أمور لا ثمرة فيها، سوي رغبة كلّ طرف في إظهار نفسه من خلال إثبات صحّة مدّعاه، كأن يقول شخص: إنّ النصّ الفلاني موجود في الكتاب الفلاني، فيحاول الآخر أن يثبت أنّه موجود في غيره، مع أنّ الأمر لا يغيّر من الواقع شيئاً، ممّا يكشف عن عدم وجود نور العلم وفضيلته. والله تعالي لا يعطي هذا النور اعتباطاً ومن دون استحقاق، وكما في المرويّ عن أميرالمؤمنين عليه السلام: «هيهات لا يُخدع الله عن جنّته».

وليست العبرة في قصّة الشيخ القمّي أن لا نشارك في الحديث الذي يجري في النوادي العلمية، إذا كان غايته إحياءً لأمر الشريعة، أو بقصد

التمرّن ليعرف الطالب مواطن الخطأ أو الضعف من مواطن الصواب أو القوّة، الذي تكشفه كثرة المناقشات والمباحثات، وإنّما العبرة أن لا يكون الهدف إظهاراً للذات أو تخطئة المقابل بأيّ ثمن. فهذا هو المراء بعينه والمشهور في فتاوي الفقهاء أنّه حرام، وإذا كان الشيء حراماً فارتكابه مخلّ بالعدالة كسائر المحرّمات.

ومثاله: أنّك تقرأ مسألةً في كتاب ما ك (العروة الوثقي) مثلاً، وتسمع بعد ذلك زميلاً لك ينسب المسألة إلي كتاب آخر ك (توضيح المسائل) فتقول له: إنّ هذه المسألة موجودة في كتاب العروة وليس توضيح المسائل، ولكنّه يؤكّد لك أنّه قرأها في توضيح المسائل فتأتيه بنسخة من الكتاب وتطالبه بأن يدلّك علي موضع المسألة؛ فإن كان هدفك في مثل هذه الحالة نبيلاً كبيان حقيقة تتعلّق بذلك فهذا مما لا إشكال فيه، أمّا إذا كنت تريد في ذلك تسجيل فوز ونصر لذاتك، فذلك هو المراء السيّئ المشهور بين العلماء أنّه من المحرّمات.

ولا شكّ أنّنا لا يمكننا أن نتّهم كلَّ مَن يريد إثبات شيء ما بالمراء؛ لأنّ نيّته قد تكون سليمة وهدفه قد يكون صحيحاً، ولكن المهمّ أن نربّي أنفسنا علي تجنّب المراء والجدال الذي لا يراد به وجه الله تعالي. وهذا الأمر لا يتطلّب دراسة عميقة بل تكفيه لحظات تأمّل والتفات مع مراقبة النفس وضبطها.

هذه قضيّة اُخري أنقلها عن السيد الوالد رحمه الله: فقد تتلمذ المرحوم والدي عند خاله الشيخ محمد تقي الشيرازي رحمه الله، وبعد وفاة خاله انتقل إلي النجف الأشرف وحضر عند جملة من العلماء منهم الميرزا النائيني قدس سره.

عندما أصدر الوالد رسالته العملية استجابة لإصرار بعض مقلّديه، تعجّب أحد علماء النجف الأشرف ممّن كان يحضر معه درس الميرزا النائيني وذلك عندما رأي رسالة السيّد الوالد،

وقال: لم نكن نتصوّر هذا الشخص عالِماً، فقد كنّا نراه يحضر درس الميرزا النائيني يومياً ولكنه لم يكن يتكلّم بشيء من أوّل الدرس حتي آخره، بل كان يجلس ويستمع فقط، فكنّا نتصوّره أحد قرّاء القرآن علي القبور وقد آثر أن يحضر الدرس للتبرّك مثلاً، فكيف استطاع أن يضبط نفسه كلّ هذه المدّة ولم يظهر شخصيته العلمية مع أنّه كان في مستوي المراجع؟!

كانت تلك قصص مَن مضوا، فلننظر كيف سنكون، ولنعلم أنّ العلم لا يأتي من فراغ، ولا من كثرة الدراسة وحدها. نعم، قد تصلح الدراسة لجعل الإنسان متفوّقاً علي أقرانك في المباحثة، ولكنها لا تمنحه منفردة ذلك النور الإلهي المنشود، بل قد تكون في بعض الأحيان وبالاً عليه والعياذ بالله.

لو نصحت أحداً يوماً ما، فحاول أن تطبّق ما نصحته به علي نفسك أوّلاً، بل حاول أن تطبّق كل ما تعتقده فضيلة ولا تيأس مهما فشلت في ذلك.

رأيت كتاباً مطبوعاً في الأصول واستفدت منه أيّام دراستي، ولكن ما لفت انتباهي فيه أنّ مؤلّفه إذا جاء بابتكار من نفسه أو تصوّر أنّه كذلك يشيد به كثيراً ويقول: إنّ هذا من ابتكاراتي التي حصلت عليها علي أثر سهر الليالي، ثم يدعو بالويل والثبور واللعنات وأن يفعل الله كذا وكذا بكلّ مَن ينقله دون أن يذكر اسمه (أي اسم المؤلِّف)!

هب أن الإنسان قد ابتكر فكرة أو أفكاراً، فما الداعي لأن يتعامل معها هكذا، في حين إنّ الشيخ الأنصاري قدس سره كان يطرح ابتكارات عظيمة ضمن بقيّة كلماته دون أن يتباهي بها، ودون أن يُشعر القارئ بأنّها من ثاقب أفكاره، مع أنّها كانت تمثّل عصارة علمه، وقد أتعب نفسه حتي وصل إليها، حتي إنّ الشيخ لم يضمّن كتاباته بكلمات من

قبيل: اغتنِم ونحوها

والآن عندما نلاحظ الواقع نري أنّ كتب الشيخ الأنصاري تملأ الحوزات والمكتبات وما تزال تُطبع كلّ عام في مختلف الأماكن بينما ذلك الكتاب الذي ذكرتُه لم يسمع به كثير من أهل العلم مع أنّه حقيق بالدراسة أيضاً.

إنّ النور الذي أضاء جوانح الشيخ الأنصاري هو الذي جعل كلماته تدور علي ألسن العلماء، وكتبه تدرّس في كلّ الحوزات العلمية، وذِكرُه سائراً بين الناس.

هذا، ونور العلم ليس حكراً علي الأسر العلمية، بل قد يكون الشخص سليل عائلة علمية ولكن الله لا يمنحه هذا النور، وقد يقذف الله نور العلم في قلب ابن عطّار أو مزارع أو بقّال أو تاجر أو حمّال! وهذا يتّضح لمن طالع تاريخ العلماء.

انظروا إلي كتب الشيخ الأنصاري وأمثاله من السلف الصالح فهي عبرة لنا، فهؤلاء العلماء يبدأون كتبهم بالبسملة والحمد والصلاة علي النبي وآله واللعن علي أعدائهم، ثم ينتقلون مباشرة إلي المطالب ويختمون الكتب بها دون أن يفخروا أنّها لهم.

والآن يمرّ أكثر من قرن علي وفاة الشيخ الأنصاري وها هي كتبه في الفقه والأصول تدور عليها كلّ الحوزات العلمية الشيعية.

إذاً، علينا أن نسعي لتحصيل ذلك النور إلي جانب تلقّي الدروس ومطالعة الكتب والحضور عند الأساتذة؛ فإنّ المعلومات وحدها قد تجلب الغرور للإنسان، ولنعرف أنّ الغرور ونور العلم لا يجتمعان، فلنحارب الغرور في أنفسنا ونتواضع لله سبحانه سائلين منه أن يجعل لنا لسان صدق في الآخرين.

(3) العلم النافع

(3) العلم النافع

ورد في الحديث الشريف: «ليس العلم بالتعلّم وإنّما هو نور يقع في قلب مَن يريد الله أن يهديه».

الكيف هو المطلوب

يتناسب حظّ الإنسان طردياً في الوصول إلي غاياته مع ما يبذله من جهد غالباً؛ فالساعي وراء المال يحصل علي كمّية مضاعفة لو ضاعف من ساعات عمله، وهكذا الحال في الأمور المعنوية، فإنّ مَن يتعب نفسه أكثر في سبيل العلم والمعرفة فإنّ نصيبه يكون أكبر في ذلك السبيل.

غير أنّ الفارق بينهما، أنّ الأمور المعنوية يعتبر فيها الكيف أهمّ من الكمّ. فلو أراد شخص مثلاً أن يكون محبوباً لدي شخص آخر، وصار يطيل الجلوس عنده؛ طمعاً في لفت انتباهه ليقرّبه إليه، فإنه ربّما يواجه بردّ فعل معاكس من قبل ذلك الشخص؛ وقد يثير بذلك نفوره منه فيزداد بذلك بعداً عنه. وربما لو جلس مدّة أقصر، لكان أفضل؛ ما يعني أنّ الأمور المعنوية يكون المقياس الأهمّ فيها هو الكيفيّة لا التعب والكمّ.

لا شكّ أنّ علي طلاّب العلوم الدينية أن يجدّوا ويجتهدوا ويتعبوا أنفسهم ويفرغوا طاقاتهم في سبيل العلم، حتي قيل: إنّ لسان حال العلم لطالب العلم هو: «أعطني كلّك أُعطك جزئي» ولكن حيث إنّ المطلوب هو العلم النافع (وهو العلم الذي ينتفع منه طالبه كما ينتفع منه غيره، في الدنيا والآخرة) لذا صار لا يقاس بالتعب وكثرة التعليم وإن كانا مطلوبين أيضاً.

الاعتبار سبيل النجاة

الشيخ محمد شريف المازندراني الملقّب بشريف العلماء هو أحد علمائنا الأجلاّء، عاش قبل قرن ونصف، وقيل إنّه هو أوّل مَن أسّس أو روّج درس «بحث الخارج» في الحوزات العلمية، بالنحو الذي نعهده اليوم، حيث يبحث الأستاذ المجتهد في القرآن الكريم والتفاسير وكتب الأحاديث والدراية وأصول الفقه وكتب الرجال وغيرها، كما يستعرض أقوال الفقهاء المختلفة ثم ينقل ما وصل إليه بحثه الفقهي إلي الطلاب الذين يحضرون درسه.

وممّا يزيد في مقام هذا الرجل أنّه بلغ مرتبة عالية في

العلم وهو في عمر الشباب، فلم يعمّر أكثر من خمس وثلاثين سنة، ومع ذلك كان يحضر درسه نحو ألف مجتهد، وربي تلاميذ فطاحل يكفي أن نعرف أنّ من بينهم الشيخ مرتضي الأنصاري رضوان الله عليه الذي ما زالت الدراسات الحوزوية في الفقه والأصول تدور علي كتبه.

وكان من تلاميذه أيضاً عالِم آخر زميل للشيخ الأنصاري وبمستواه العلمي علي التقريب، ولا أريد أن أذكر اسمه لأنّ به مدار الاعتبار في هذه القصّة قد بلغ في العلم والتحقيق درجة بحيث استطاع أن يستخرج من رواية واحدة سبعمئة قاعدة في الفقه والأصول.

قد يُتعِب العلماء أنفسهم ويأتون لاستدلالهم بطائفة من الآيات القرآنية والأحاديث والروايات مع مناقشة جادّة لأقوال الفقهاء حتي يستخرجوا قاعدة واحدة من القواعد الفقهية أو الأصولية كأصل الاستصحاب، أو أصل الصحّة، أو قاعدة التجاوز أو قاعدة الفراغ، أو البراءة أو غير ذلك؛ في حين إنّ هذا الرجل استطاع أن يستنبط من رواية واحدة حسب ما جاء في حالاته سبعمئة قاعدة فقهية وليس قاعدة واحدة وحسب.

أمّا الرواية التي استنبط منها سبعمئة قاعدة فهي المنقولة عن الإمام الباقر عليه السلام من قوله: «رأي رسول الله صلي الله عليه وآله نخامة في المسجد فمشي إليها بعرجون من عراجين ابن طاب فحكّها ثم رجع القهقري فبني علي صلاته». ولقد نظم السيّد بحر العلوم قدس سره إجمال ما يُستفاد من هذه الرواية في منظومته الفقهية وقد جاء فيها:

ومشيُ خير الخلق بابنِ طاب يُفتح منه أكثر الأبواب

أي: إنّه يمكن الاستفادة من هذه الرواية عدّة أمور؛ منها مثلاً أنّه يجوز للمصلّي أن يمشي وهو في حال الصلاة، ومنها أنّه يجوز له أن ينحني لا بقصد الركوع لحمل شيء أو وضع شيء وتبقي صلاته صحيحة، وهكذا.

والذي

يُذكر أنّه أخذ هذا المعني من حديث الإمام الصادق عليه السلام في قوله: «وهذا يفتح من الصلاة أبواباً كثيرة»، كما أخذه هذا العالم أيضاً وتوسّع فيه وتعمّق زماناً حتي استخرج منه سبعمئة قاعدة في الفقه والأصول، فهل يُشكّ في علميّته بعد ذلك؟!

إنّنا لم نسمع مثل هذا التعمّق حتي عن الشيخ الأنصاري مع أنّهما كانا زميلين يحضران درس أستاذ واحد في وقت واحد ويجلسان معاً تحت منبر واحد. ولكن العجيب أنّ علم هذا العالِم فُقد بينما علوم الشيخ الأنصاري ملأت الحوزات العلمية يتلقّاها الطلاّب جيلاً بعد جيل.

وهنا محلّ الاعتبار. فأين التعب الذي تعبه ذلك العالِم؟ ولماذا لم يعُد له عين ولا أثر. أنا شخصياً عندما قرأت ذلك في سيرة حياته بحثت كثيراً لعلّي أعثر علي كتابه أو إفاداته ولكن دون جدوي!

أمّا الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه فحتي الكرّاس الصغير الذي كتبه في العدالة، قد لا تجد فقيهاً لا يشير إليه عند بحثه في باب العدالة رغم صغر حجمه ومرور أكثر من مئة سنة عليه، ولكن بقي مع ذلك مصدراً يشار إليه، بينما ذهب علم ذلك العالِم بذهابه! مع أنّه كان عبقرياً في فكره، وما أصعب أن يُستنبط من الحديث المذكور آنفاً سبعمئة مسألة؛ فكيف بسبعمئة قاعدة، ولم يبلغنا أنّ أحداً من العلماء الكبار الذين نقلوا هذا الحديث إلينا منذ ألف سنة كالشيخ المفيد والشيخ الكليني والشيخ الطوسي والعلاّمة الحلّي والمحقّق الحلّي والعلاّمة المجلسي رضوان الله عليهم أجمعين استنبط منه سبعمئة قاعدة.

فلماذا إذاً لم يبق علم هذا العالم وذهبت أتعابه دون أن تصل إلينا؟ إذا أردتم أن تعرفوا الجواب فسأذكر لكم قصّة أخري عنه ذُكرت في سيرته أيضاً ولعلّها السبب في الحيلولة دون وصول علومه للأجيال التي

تلته.

ممّا يروي في أحوال شريف العلماء رضوان الله عليه أنّه كان يستغلّ كلّ أوقاته في مجال العلم، حتي أوقات سفره لم تكن ترفيهية محضة، بل كان إذا أراد السفر أخبر تلاميذه ليرافقه جماعة منهم لكي يستثمروا الزمن الذي يقطعونه في السفر بالبحث والنقاش العلمي المثمر.

وفي إحدي سفراته لزيارة الإمامين العسكريين سلام الله عليهما ومقام الحجّة المنتظر عجّل الله تعالي فرجه الشريف في مدينة سامراء المشرّفة مروراً بالإمامين الكاظمين سلام الله عليهما في بغداد اكتري تلاميذه الدوابّ والخيام وأخذوا معهم الغذاء والماء استعداداً للسفر، وتحرّكوا في مجمع علميّ أو قل مدرسة متنقّلة من كربلاء المقدّسة إلي الكاظمية ومنها إلي سامرّاء المشرّفتين. وكانوا كلّما نصبوا في الطريق خيامهم للاستراحة وتناول الغذاء وما أشبه، طرح شريف العلماء بحثاً بينهم للمناقشة.

يقول الراوي: عندما خيّموا في إحدي المناطق علي طريق سامرّاء وكانت الخيام قد بلغت العشرات كان كلّ جماعة في خيمة، يستفيدون من وقت استراحتهم في النقاش العلمي، وبينما هم كذلك إذ احتدم النقاش بين صاحب السبعمئة استنباط قاعدة من رواية واحدة وبين تلميذ آخر من تلاميذ شريف العلماء، ولكن النقاش خرج عن السياق العلمي وتحوّل إلي صراخ فسباب فعراك، حتي اضطرّ أن يفرّ محاوره من خيمته ليلوذ بخيمة أستاذهما شريف العلماء، لكن صاحبنا (العالِم!) حمل عليه بالسكّين حيث ملاذه مما حدا بالأستاذ أن ينهره ويردعه عن سوء فعله، حتي خجل ورجع!

ربما لمثل هذا السبب وغيره لم تعد قواعد هذا العالم وعلومه موجودة، أمّا آثار الشيخ الأنصاري فقد بقيت متلألئة دون أن تبلي؟!

أدب العالم يكشف عن إخلاصه

إذا أردتم أن تزدادوا معرفة بالأسباب التي ميّزت الشيخ الأنصاري قدس سره عن غيره، فانظروا إلي عباراته في ردوده علي مَن لا يتّفق معه في الرأي كما

تظهر في كتبه وقارنوها بعبارات الردود الأخري التي تلاحظونها عند غيره، سواء في ذلك علماء الفقه والأصول أو سائر العلوم.

إنّ الشيخ رضوان الله عليه يردّ بأدب بالغ وتواضع جمّ، فتراه رغم قناعته التامّة بصواب رأيه وخطأ رأي المقابل، إلاّ أنّه لا يستخدم ألفاظاً من قبيل: «خطأ» أو «اشتباه» أو «سوء فهم» أو «قبيح» أو ما أشبه بل يستعمل عبارات من قبيل: «هذا ما أفهمه»، أو «يرِد عليه كذا». إلي غير ذلك من الألفاظ الحسنة.

حدّثني أحد العلماء المعاصرين، قال: كنت في شبابي أحضر درس الأستاذ الفلاني وسمّاه لكنّي بعد مدّة انقطعتُ عن الحضور، ثم لقيني الأستاذ ذات مرّة وسألني عن سبب غيبتي، فقلت له: شبهة حصلت عندي. قال: وما هي؟ قلت: لأنّكم عندما تناقشون الرأي المخالف لرأيكم تناقشونه بأسلوب يترك لدي السامع انطباعاً أنّ صاحب ذلك الرأي ليس عالِماً أصلاً! أي يخلق تشكيكاً بعلميّته؛ حتي لو كان الشيخ الطوسي أو الشيخ المفيد أو العلاّمة الحلّي أو الشيخ الأنصاري. فخشيت أن يتزلزل اعتقادي بعلم كلّ العلماء جرّاء ذلك، ولذلك تركت الحضور عندك!

ثم أضاف ذلك العالم الذي حدّثني بهذه القضية قائلاً: كنّا نحضر درس آية الله البروجردي رضوان الله عليه، فكان إذا أراد أن يردّ علَماً قال: لا أدري هل هذا ما يقصده الشيخ الفلاني مثلاً من عبارته؟ أو: لعلّي غير ملتفت لأبعاد رأيه.. وهكذا. فكان يعظّمه في نظرنا أوّلاً ثم يبيّن لنا رأيه المخالف بعبارات من قبيل: يبدو لي كذا، أو أري أنّ الصحيح كذا، والعلم عند الله. فكنّا ننفضّ من مجلس آية الله البروجردي معتقدين بصواب رأيه، دون أن تتزعزع في أنظارنا المكانة العلمية للعلماء الآخرين.

فعلي طالب العلم أن يتعب نفسه قدر الإمكان في سبيل الدراسة،

ولا يكون كسولاً أو خاملاً بل يعبّئ كلّ طاقاته كما ينبغي، ويسأل الله أن ينظر إليه بعين رعايته، فمن دون هذه النظرة لا فائدة من كثرة التعلّم. ولا نريد بقولنا هذا ترك الدراسة، بل أنّ الدراسة وحدها غير كافية وإنّما هي إحدي الأعمدة لرقيّ الإنسان، مادام يصحبها بمكارم الأخلاق.

قبس من سيرة العلماء

السيّد علي الشوشتري من تلاميذ الشيخ الأنصاري، وكان له في كلّ أسبوع يوم يلقي فيه درسَ أخلاق، فكان الشيخ الأنصاري يحضر درسه الأخلاقي! فما أعظم تواضع الشيخ! ابحثوا في كلّ كتب السير والتراجم، هل تجدون مثل هذا الأدب الذي وصل بصاحبه إلي نكران الذات؟ ولو وُجدت حالة مشابهة، فتظلّ مع ذلك من الحالات النادرة؛ فعلي الرغم من أنّ الشيخ الأنصاري كان مرجعاً عامّاً للشيعة، ومع ذلك كان يحضر درس الأخلاق لدي تلميذه السيّد الشوشتري، ممّا يدلّ علي أنّه قد وضع «الأنا» جانباً، الأمر الذي نفهم من خلاله أنّ الشيخ الأنصاري لم يكن ليُعرف بالشيخ الأعظم اعتباطاً، ولا صار كذلك بعلمه فقط، بل بالتسديد الذي يكون لأمثاله من الملأ الأعلي، نتيجة لما روّض عليه نفسه.

كما ينقل التاريخ أنّه حلّ وباء حينذاك بمدينة النجف الأشرف، وكان مَن يُبتلي به يموت عادة، وكان السيّد الشوشتري واحداً من الذين أصابهم الوباء، فأعجزه عن حضور درسه الأخلاقي، وبعد أن أنهي الشيخ الأنصاري درسه في أحد الأيام قيل له: إنّ السيد علي الشوشتري قد ابتلي بالوباء، فعزم مع بعض تلاميذه علي زيارته وعيادته. وعندما استقرّ بهم المقام عند السيّد الشوشتري وكان أستاذاً أخلاقياً ألزم الشيخ الأنصاري نفسه بحضور درسه مع أنّه كان أستاذه في الفقه ومرجع عصره، كما ذكرنا التفت السيّد الشوشتري للشيخ الأنصاري وقال له: إنّي ميّت اليوم أو غداً ولي

عندك رجاء وطلب، وهو أن تتولّي أنت الصلاة علي جنازتي إذا أنا متُّ.

فحاول الشيخ أن يطمْئنَ السيد ويطيّب خاطره قائلاً له: لا تقل ذلك، ستشفي إن شاء الله وتعود للدرس فنحضر درسك ثانية.

ولكن السيّد عاد في طلبه قائلاً: لا تبتعد عن الموضوع، إنّ هذه وصيّتي لك وأطلب منك تنفيذها.

لم يقبل الشيخ الأنصاري بالوصية وظلّ يتعلّل، ويؤمّله ويدعو له ويقول ملاطفاً: ليس كلّ مَن يُبتلي بالوباء يموت حتماً. ولكن السيّد الشوشتري رغم ذلك كان يصرّ علي الشيخ ولم يتخلّ عن طلبه.

حقّاً عندما ينظر المرء إلي هذين العظيمين ثم ينظر إلي نفسه، يدرك السرّ في لطف الله بهما وإفاضته ما أفاض عليهما.

لقد كان الشيخ الأنصاري يصلّي في العادة علي الأموات، فما الذي يمنعه من استجابة طلب السيد الشوشتري؟

عندما أصرّ السيد الشوشتري، قال الشيخ الأنصاري في جوابه: لقد سألتُ الله تعالي أن تكون أنت الذي تصلّي علي جنازتي، واستجاب الله دعائي!

لا غرابة في دعاء الشيخ الأنصاري سائلاً من الله تعالي ما سأل، فهذا أمر مفهوم بالنسبة لنا، ولكن المثير للتأمّل هو قوله: «واستجاب الله دعائي»؛ فكيف عرف ذلك؟

من الواضح أنّ هذا لا يحصل بالتعب وحده وصرف المزيد من الوقت، ولا يأتي نتيجة الدراسة وحدها مهما بلغت، بقدر ما يأتي عبر اقتلاع صفة ال «أنا» من النفس وأن يحاول الإنسان إصلاح نيّته، لا أن يكون باعثُه الحقيقي من العمل والسعي أن يُنشر اسمه في الأرجاء أو تتناقله الألسن، أو تُجبي إليه الأموال أو تُقبَّل يداه أو يقوم له الناس في حلّه وترحاله، بل إن خطر إلي ذهنه شيء من ذلك القبيل أنَّب نفسه وعاد إلي ربّه.

فإنّ الناقدَ بصيرٌ

قد ينجح الإنسان في غشّ من لم يعرف نواياه وما يدور في ذهنه،

ولكن هيهات أن يغشَّ من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

وإذا كنّا نتعامل فيما بيننا حسب قناعتنا الشخصية فلا نساوي بين مَن يخلص إلينا ومَن يغشّنا، فلماذا نعترض علي الله تعالي أن يعاملنا كذلك؟!

فمثلاً: لو أقسم لك شخصٌ قائلاً: إنّي مخلص لك. ولكنّك لم تكن مقتنعاً بصدقه؛ لما تري من سلوكه أو ما خبرته من نواياه، فهل ستعامله معاملة مَن تعتقد إخلاصه؟ كلاّ بالطبع، بل ربّما تتظاهر معه وتجامله وتعامله بالمثل، ولكنّك في اللحظات المصيرية والمواقف الحسّاسة سوف تعامله حسب قناعتك، فإن كنت شاكّاً به، فإنّك لا تودعه أسرارك، ولو سألك عن السبب، فستحوّل مجري الكلام، وقد تخبره أنّك لا تثق به.

فإذا كانت هذه موازيننا في تعامل بعضنا مع بعض ونري أنّها حقّ، فلماذا نعترض علي الله في الحقّ نفسه، ونتوقّع أن يعاملنا معاملة المخلِصين، ونحن لم نخلص له في نوايانا؟! لا شكّ أنّ الله سبحانه لا يساوي بين المخلص وغيره، فهل يحقّ أن يستوي عنده سبحانه مَن يعمل وهدفه منافع دنيوية أعمّ من أن تكون مالاً أو شهرة وسمعة أو شيئاً آخر ومَن يكون عمله خالصاً لله وحده، ولا يفكّر في سواه؟

وقد يُسأل: إذا كان العلم نوراً كما ورد في الأحاديث فلماذا لا يقذفه الله في قلوب العباد كافّة، مع أنّ الله سبحانه وتعالي لا تزيده كثرة العطاء إلاّ جوداً وكرماً. ويداه مبسوطتان؟ إنّ أيّاً منا إذا أنفق، نقص منه شيء لا محالة، حتي لو أنّه بذل نصف ساعة من الوقت في تدريس أو محاضرة فإنّ ذلك يعني نقصان نصف ساعة من عمره، وكذا لو أعطي مالاً مهما قلّ فإنّه يعني نقصان أمواله بذلك المقدار، أمّا الله سبحانه وتعالي فلا ينقص من ملكه شيء

مهما أعطي. إذاً لماذا لا يقذف نور العلم في قلوب كلّ عباده؟

الجواب: لأنّ «الناقد بصير» أي الذي يتولّي النقد يميّز بين المخلص وغيره، فيعطي مَن يخلص له ما لا يعطي غيره.

و «بصير» صيغة مبالغة لأنّه علي وزن «فعيل» كما في ألفية ابن مالك:

فعال أو مفعال أو فعول في كثرة عن فاعل بديل

فيستحقّ ما له من عمل وفي فعيل قلّ ذا وفعل

فكيف نغفل عن هذه الحقائق ونتصوّر أنّا نخلص عندما نتظاهر بأنّ أعمالنا لله، مع أنّنا نخدع أنفسنا في الواقع ولم نعمل لله؟!

ومن هنا نستطيع أن نفهم السرّ الذي انتشرت به كتب الشيخ الأنصاري، وبقي اسمه، وكذلك سرّ ما قاله للسيد الشوشتري: إنّ الله استجاب دعائي، والكيفية التي أدرك بواسطتها أنّ الله قد استجاب دعاءه.

وبالفعل قد وقع ما قاله الشيخ الأنصاري، فقد شفي الله السيّد الشوشتري وتحسّنت حالته واستأنف الدرس والتدريس، فحضر الشيخ الأنصاري محاضراته الأخلاقية، واستمرّ هو يدرس عند الشيخ الأنصاري إلي أن توفّي الشيخ بعد مدّة وصلّي السيّد علي جنازته، كما أخبر الشيخ قدس سره.

فهل لله تعالي صداقة تربطه مع بعض عباده كالشيخ الأنصاري ليميّزه هكذا اعتباطاً؟ أم أنّ الأنصاري وهذا هو الصحيح أخلص لله تعالي فكافأه الله كذلك؟ إنّ الشيخ الأنصاري عرف الطريق المؤدّي إلي الله تعالي وسلكه، وهو طريق الإخلاص المقترن بنكران الذات والتخلّي عن الأنا وتوابعها.

وكلّ مَن أراد أن يصل إلي ما وصل إليه الشيخ الأنصاري عليه أن يسلك الطريق نفسه، فكما أنّ مَن يريد كسب المال ينظر إلي الناجحين في هذا المضمار فيذهب إلي السوق ويبيع ويشتري ويتعب نفسه حتي يصل إلي مقصوده، أو مَن يريد أن يكون مدرّساً ناجحاً أو طبيباً حاذقاً أو خطيباً مفوّهاً وهكذا في كلّ شؤون

الحياة عليه أن يقتفي أثر الناجحين في ذلك المضمار ويسلك طريقهم لكي يصل إلي ما وصلوا إليه، فكذلك هو الحال من يريد أن يكون مستجاب الدعوة وموقناً بالإجابة، فليحذُ حذو الشيخ الأنصاري بعد أن يقرأ سيرته ويطبّقها علي نفسه، فلقد كان رحمه الله النموذج الناجح في هذا المجال.

وحياة الشيخ الأنصاري كما تظهر لمن تتبعها فيها بندان:

البند الأوّل: العلم.

البند الثاني: الصدق مع الله، المتمثّل بصدق الفطرة وصدق الوجدان وصدق القلب وصدق النية.

فما أدرانا والله العالم بعدد الدعوات التي دعا بها الشيخ الأنصاري وعلِمَ من الله استجابتها، ولكنّ الشيخ الأنصاري لم يصرّح بها، بل لولا اضطراره في المورد المذكور آنفاً لما ذكر ذلك أيضاً، ولكن إصرار السيد الشوشتري وهو في حالة خاصّة ألجأت الشيخ الأنصاري للتصريح بهذه الحقيقة.

أمّا لماذا لم يخبر الله عامّة الناس في حال استجابته دعوتهم كما أخبر الشيخ الأنصاري؟ فلعلّه لو كان الشخص يعلم عن طريق الغيب بحادثة ستقع في المستقبل لما استطاع الكتمان بل من المرجّح أنّه كان سيجعل من الأمر سوقاً رائجة لنفسه، فلا يدَع أحداً إلاّ وأخبره، طمعاً في اشتهاره بين الناس، بينما الأمر عند الشيخ الأنصاري سيّان، فلم يكترث سواء عرفه الناس أو لم يعرفوه، فلا تزيده معرفة مَن لم يعرفه عزّة، ولا جهل مَن جهله وحشة.

فلا شكّ أنّ البند الثاني من حياة الشيخ الأنصاري والذي عليه المعوّل هو ذاك الذي ضيّعهُ زميله ذو السبعمئة قاعدة؛ فضيّع بإضاعته كلّ أتعابه وآثاره، بينما بقيت آثار الشيخ الأنصاري بحيث لا تجد كتاباً في الفقه والأصول إلاّ وفيه ذكر للشيخ الأنصاري، ولا تحضر درس الخارج في الفقه والأصول لدي أيّ أستاذ إلاّ وتسمع فيه اسم الشيخ الأنصاري يُذكر مجللاً.

إنّ للفقه والأصول والنحو والصرف

والبلاغة والمنطق والفلسفة وغيرها من العلوم، كتباً خاصّة، أمّا الصدق مع الله سبحانه فلا يدرَّس في الكتب، وإنّما يتلخّص في شيء واحد، وهو التخلّص من عقدة ال «أنا» وهذا أمر لا يخلو من صعوبة ولكنه في الوقت نفسه ممكن تطبيقه، ولا يعني ذلك أن تذلّ نفسك عند هذا أو ذاك، بل المطلوب أن تُشعر قلبك أنّك محتاج إلي الله دوماً وأنّ الآخرين غير قادرين علي أن ينفعوك بشيء لم يُرده الله، ولا أن يضرّوك إلاّ بإذن الله، لتقطع بذلك أمَلك عمّا سوي الله، وبعدها لا تعود تفكّر في نيل الحظوة عند الناس، وأن تحذر الشيطان دوماً، فإنّك قد تريد الخلاص من هاوية فيرديك في هاوية أخري، فمثلاً تريد أن تتواضع وتتخلّي عن الكبر فإذا به يوقعك في الذلّ والهوان.

إذاً، ليس المقصود من التخلّي عن «الأنا» امتهان الذات، بل المقصود أن يكون العمل لله وحده. فلو أصبح أحدكم مدرّساً أو خطيباً أو إمام جماعة في يوم من الأيام، فعليه أن يضع «الأنا» جانباً وبقناعة، لا أن يتظاهر بذلك وقلبه ممتلئ تكبّراً وحُبّاً للظهور.

الإخلاق طريق النجاة

يحكي أنّ أحد العلماء الزهّاد سافر إلي بلد ما، وكان معروفاً فطلب منه أهل ذلك البلد أن يؤمّهم في الجماعة طيلة المدّة التي يقيمها عندهم، فلبّي طلبهم وذهب ليصلّي في المكان المقرّر، وكان المصلّي بعيداً عن بيته فاستقلّ دابّته واتّجه لأداء الصلاة، ولكن الدابّة عثرت به وسط الطريق فسقط وشجّ رأسه، فعادوا به إلي البيت، وضمّدوا جرحه، ومكث في البيت مدّة لا يستطيع الخروج ليؤمّ المصلّين.

وبلغه خلال هذه المدّة أنّ الحسّاد الذين كانوا منزعجين ومتضايقين لموافقته أن يكون هو الإمام قد أشاعوا بين الناس أنّ الشيخ قد جُنّ علي أثر الضربة التي أصابت

رأسه عندما عثرت به الدابّة!

وخبر كهذا عادةً ما يكون ثقيلاً علي شخص كهذا؛ فبعد خمسين سنة من التعب والدراسة وعناء الاستقامة ثم يقال عنه: مجنون. كما أنّ انطلاء مثل هذه الإشاعة علي كثير من الناس يكون أسرع من النار في الهشيم، لأنّ بعض صور الحدث كالسقوط وشجّ الرأس إضافة إلي عدم حضوره للصلاة، يقوّي ميل كثير من الناس للتصديق بمثل هذه الإشاعات.

ولكن بعد أن تماثل الشيخ للشفاء وعاده بعض أصدقائه وعرضوا عليه أن يعود ويلبّي طلبهم في امامة الجماعة، وطمأنوه أنّ الإشاعة لم تؤثّر في الناس، استجاب الشيخ لرغبتهم وركب دابّته متّجهاً إلي المسجد، فهاله حشود الناس مجتمعين بأعداد غفيرة علي جانبي الطريق لاستقباله، فتوقّف قليلاً ثم طلب من مرافقيه أن يسمحوا له بالعودة إلي بيته لتراجعه عن عزمه في إمامة المصلّين، ولم تنفع معه توسّلات المتوسّلين وقولهم له أنّ الناس ينتظرونه ولا يصحّ منه التراجع. مكتفياً بالقول أنّ حاله ليس علي ما يرام، وأنّه لا يستطيع الاستجابة.

وبعد أن عاد إلي البيت جاءه بعض أصدقائه المقرّبين وسألوه عن السبب الذي دعاه للانصراف، وأصرّوا عليه في ذلك. فقال في جوابهم: عندما خرجت من البيت متّجهاً لأداء الصلاة، ورأيت الألوف من الناس بانتظاري قلت مع نفسي: أين أولئك الذين أشاعوا أنّني صرت مجنوناً؟ فليأتوا ويروا بأمّ أعينهم كيف أنّ الجماهير لم تصدّق أكاذيبهم، ولم تؤثّر فيهم إشاعتهم، وها هي تستقبلني بالألوف.

يقول: ثم انتبهتُ فجأة وخاطبتُ نفسي قائلاً: يا شيخ! أتصلّي لله أم للناس؟! فقرّرت أن لا أحضر تلك الصلاة.

إنّ نكران الذات والإخلاص لله تعالي هو الانتباه لمثل هذه الحالات، فإنّ هذا العالم إنّما رفض أن يؤمّ المصلّين الذين كانوا بانتظاره لمجرّد أنّ خاطراً شيطانياً خطر إلي ذهنه،

فحاربه لأنّه كان يدرك أنّ هذا هو الذي يهدم كلَّ ما بناه.

من أمثال هذا يمكن أن نفهم قول الإمام السجاد سلام الله عليه: «إنّ العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه من الله إلاّ بعداً».

فإن كان العلم موجوداً وهو نتيجة أتعاب خمسين سنة أو أكثر ولكنّه كان من دون عمل فإنّه سيكون وبالاً علي صاحبه.

ولا نعني بالعمل أداء المستحبّات فضلاً عن الواجبات كصلاة الليل وزيارة المعصوم، وإن كانت مطلوبة أيضاً، وإنّما المقصود اتّخاذ الموقف الصحيح المستند إلي العلم، كما في المثال المذكور آنفاً، وإلاّ لو خُلّينا والفهم السطحي للحديث فإنّ ذلك العالم كان تاركاً للعمل المستحبّ وهو إمامة الجماعة، ولكن الحقيقة أنّه كان يعرف أنّ في عدم الذهاب محاربة لنفسه وعدم الاستجابة لخواطرها الشيطانية، وهذا هو المقصود بالعمل في قول الإمام سلام الله عليه. فليكن الإنسان هو الحكم علي نفسه فكلّ إنسان علي نفسه بصيرة وليفكّر بعقله ويستنبط الموقف الصحيح ويحاول أن يُطبّقه علي نفسه، بمقتضي تشخيصه وعلي قدر وسعه ?لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ مَا آتَاهَا?. فإنّ الله لم يُرد من الشيخ الأنصاري مثلاً إلاّ بالمقدار الذي كان يشعر به ويتوصّل إليه، وكذلك لا يريد منكم إلاّ المقدار الذي تتوصّلون إليه؛ لأنّ المهمّ في الأمر أن يطبّق الإنسان علمه علي نفسه متحرّياً الإخلاص في كلّ حال وأن لا يكون همّه الناس وما سوي الله، وأن يَعلم بعد ذلك «أنّ الله يغفر للجاهل سبعين ذنباً قبل أن يغفر للعالِم ذنباً واحداً». وليس المقصود بالعالِم مرجع التقليد فقط بل كلٌّ عالم علي قدره.

النتيجة

لقد ترك كلّ واحد منكم وراءه العشرات بل المئات من القضايا والاحتياجات المالية والعائلية والاجتماعية وغيرها، إضافة إلي غضّ النظر عن أمور

أخري مختلفة، كلّ ذلك في سبيل العلم، ونِعم ما تفعلون، وأبارك لكم هذا التوفيق، وحقّاً إنّه لتوفيق عظيم. فما أكثر الناس المحرومين من هذا التوفيق الذي وفّقكم الله له، ولكن حاولوا أن تستفيدوا من هذا العناء وهذه التضحيات، واعلموا أنّ ذلك لا يتأتّي عن طريق العلم وحده، فليس بالعلم الاكتسابي فقط تُنال الدرجات، بل العلم الحقيقي هو ذلك النور الذي يقذفه الله عزّ وجلّ في قلب من أراد الهداية وسعي لها.

المطلوب أن لا يستعظم الإنسان نفسه إذا ازداد علماً، بل عليه أن لا يجد فرقاً بين اليوم الذي كان يدرس فيه كتب المقدّمات واليوم الذي أصبح فيه مرجعاً للتقليد أو مدرّساً كبيراً في الحوزة العلمية أو غير ذلك.

قد يكون الإنسان ذكيّاً ولا يدَع أحداً من الناس يعلم أنّ فيه كبراً مثلاً لكنّه هو يعلم ذلك من نفسه، فالله تعالي أعلم بما توسوس به نفوسنا، وكما ورد في وصية لقمان لابنه: «الناقد بصير» وإنّه سيكافَأ كلٌّ منّا علي قدر إخلاصه الذي يثبت عند الله وليس الذي يدّعيه الشخص أو يصوّره للناس، ولذلك اُعطِي الشيخ الأنصاري ما اضطرّ إلي التصريح ببعضه مرّة في قصّة السيّد علي الشوشتري كما تقدّم فهل نكون كذلك أم نصاب لا سمح الله بالغرور الذي يُنسي ذكر الله تعالي فينسينا أنفسنا.

(4) الفرق بين الأخلاق والعلوم الأخري

(4) الفرق بين الأخلاق والعلوم الأخري

هناك فروق واضحة بين الأخلاق والعلوم الأخري، نذكر فيما يلي بعضها:

1. رمزية الأخلاق

إنّ مَن يتخصّص في علم واحد ويستفرغ كلَّ وسعه وجهده يبلغ أعلي الدرجات فيه ويتفوَّق غالباً علي مَن كان ذلك العلم أحد اهتماماته، والأخلاق تحتاج إلي التفرّغ والجدّ والمثابرة من أجل بلوغ المراتب العالية فيها. فالمستوي الذي يبلغه الأخلاقي وطالب العلم الدينيّ خاصة يؤثِّر في أداء دوره في المجتمع. فقوله وفعله وسيرته وتاريخه يشجِّع الناس نحو الفضائل الأخلاقيّة والاجتناب عن رذائلها إذا كان هو من أهل الفضيلة، ولكن إن كان عكس ذلك فسيدفع الآخرين إلي العكس أيضاً.

يقول الشهيد الثاني الشيخ زين الدين العاملي قدس سره الشريف في كتابه منية المريد:

«واعلم أنّ المتلبّس بالعلم» أي طالب العلم الديني «منظور إليه» أي ينظر إليه الناس «ومتأسّيً بفعله وقوله وهيئته» أي يُتخذ أسوة وقدوة «فإذا حسن سمته، وصلحت أحواله، وتواضعت نفسه، وأخلص لله تعالي عمله، انتقلت أوصافه إلي غيره من الرعية، وفشا الخير فيهم وانتظمت أحوالهم. ومتي لم يكن كذلك» أي لم يلتزم بالفضائل «كان الناس دونه في المرتبة التي هو عليها» أي أنّ الناس لا يلتزمون حينئذ حتي بالواجبات والمحرّمات، «فكان مع فساد نفسه، منشأً لفساد النوع وخلله» خلافاً لعامّة الناس. «وناهيك بذلك ذنباً وطرداً عن الحق وبعداً».

ثم يقول بعد ذلك:

«وقد قال بعض العارفين: إنّ عامّة الناس أبداً» أي دائماً «دون المتلبّس بالعلم بمرتبة» أي: هم أدني منه بدرجة.

«فإذا كان» طالب العلم «ورعاً تقيّاً صالحاً» أي ملتزماً بالفضائل فوق التزامه بالواجبات والمحرمات «تلبّست العامّة بالمباحات، وإذا اشتغل بالمباح تلبّست العامّة بالشبهات، فإن دخل في الشبهات تعلّق العامّي بالحرام، فإنْ تناولَ الحرام كفَر العامّيُّ».

إذاً لا ينبغي لطالب العلم أن يفعل المكروهات بدعوي أنّ كلَّ مكروه جائز، ولا

يترك المستحبّات بدعوي أنّ كلّ مستحبّ جائز الترك؛ لأنّ ذلك سيكون سبباً في تساهل العاميّ حتي في الواجبات والمحرّمات.

أمّا إذا عمل طالب العلم بالفضائل أي إنه ترَك المكروهات وأتي بالمستحبّات ولم يتوقّف عند مستوي التقيّد بالواجبات والمحرّمات فقط فهذا يوجب أن تكون العامّة عدولاً، أي ملتزمين بالحدود الشرعية بأجمعها.

لا ينبغي لطالب العلم الديني أن يقول: إنّ حسن الخُلق جيّد ولكنه ليس بواجب فلماذا ألتزم به؟ أو إنّ سوء الخُلق في حدود منه مكروه، فلماذا ألتزم بتركه؟ والصلاة في أوّل الوقت فضيلة ولكنه ليس بواجب، فلا يخلّ بعدالتي لو تسامحتُ به، وهكذا … متذرّعاً بالقول: «إنّ أتقي الناس مَن عمل بالواجبات».

فلو توقّف العالِم أو طالب العلم عند هذا الحدّ، فإنّ الوسط الذي يعيش فيه والأشخاص الذين يشهدون سيرته لا يتوقّفون عند ذلك الحدّ، لأنهم دونه بدرجة، وليست تلك الدرجة هنا إلاّ التورّط بالمعاصي وترك الواجبات؛ لأنّ العامّي إذا رأي قدوته يصلّي صلاة الصبح قبيل طلوع الشمس بلحظات مثلاً فسيستهين هو بالواجب نفسه، وإذا رآه يفعل مكروهاً، فإنّه سيتهاون بالحرام ولسان حاله يقول: هذا رجل عالِم أو سيّد فاضل وهو يفعل كذا أو يترك كذا، فماذا يُنتظر مني؛ وأنا شخص عادي؟

أمّا لو تورّط المتلبّس بلباس أهل العلم بترك الواجب أو فعل المحرّم، كما لو قتل إنساناً ظلماً أو اغتاب أو اتّهم مؤمناً، فإنّ عامّة الناس سيكفرون حينئذ.

إذاً علي طالب العلم أن يولي الالتزام بالفضائل والأخلاق عناية خاصّة لأنّه كلّما ارتفع مستواه فيهما ارتفع مستوي التزام الناس بهما بالتبع.

وهذا أحد الفروق التي تميّز الأخلاق عن سائر العلوم والفنون كالفقه والأصول والبلاغة والفلسفة والخطابة وغيرها.

2. صعوبة الارتقاء

الفرق الآخر بين الأخلاق والعلوم الأخري يكمن في صعوبته قياساً بها، فالرقيّ في الأخلاق

أصعب منه في العلوم الأخري. فهو أصعب حتي من الفقه الذي يُعدّ من أصعب العلوم؛ لسعة آفاقه وكثرة مسائله. ولذلك تري الفقيه يتفرّغ خمسين سنة للفقه ومع ذلك عندما تسأله عن بعض المسائل يقول لك يلزم أن أراجع. ونادراً ما تجد فقيهاً مجتهداً بالفعل في جميع مسائل الفقه أي يملك قوّة استنباط فعلية بحيث عندما تعرض عليه أيّة مسألة يتمكّن أن يخرجها حالاً.

لقد رأيت عدّة مجتهدين معروفين بالفقه طُرحت عليهم مسائل ولم يتردّدوا في قول «لا أدري»، مع أنّ بعضهم قضي ثمانين سنة في الفقه، فكيف لا يدري وماذا كان يعمل طيلة هذه المدّة؟

الجواب: إنّ الفقه واسع وعميق، ولذلك تري الألوف من طلاب العلوم الدينية يبدأون دراستهم مؤمّلين أن يصبحوا فقهاء مجتهدين متبحّرين، ولكن كلّما يتقدّمون في مسيرتهم يجدون صعوبات وصعوبات، فيتناقص العدد المتّجه إلي هذا الهدف، فينحو أكثرهم نحو التخصّص في مجالات أخري كالخطابة أو التأليف أو التدريس، مثلاً.

فلو فرضنا أنّ الذين بدأوا بهذه النيّة كانوا ألفاً فإنّ مئة منهم سيتركون مواصلة الدراسة بعد مرور سنتين، وهكذا يستمرّ العدد بالتناقص مع مرور السنوات حتي لا يبقي من الألف الذين بدأوا دراستهم بهذه النيّة سوي عشرين أو ثلاثين شخصاً فقط.

قال لي شخص قضي عشرين سنة في الدراسة: لقد يئست من أن أكون مجتهداً، لأن كلّ مسألة أواجهها أجد فيها صعوبة بالغة. فقلت له: لا تيأس.

إنّ من جملة ما جعل مرتبة الاجتهاد الفقهي صعبة المنال كون النتيجة فيه لا تحصل بسرعة، قياساً بالفنون الأخري، فإنّ الدراسة والتفرّغ والتركيز لمدّة سنتين قد تكفي لأن يصبح الشخص الذكيّ خطيباً يرتقي المنبر ويستمع إليه الألوف من الناس.

وهكذا الحال بالنسبة لوكلاء المراجع. فمَن أراد أن يصير وكيلاً في منطقته أو

مدينته، يأتي إلي إحدي الحواضر العلمية كقم المشرّفة فيدرس خمس سنوات أو عشراً مثلاً يتعلّم خلالها الرسالة العملية وشرائع الإسلام والعروة الوثقي وبعض الأخلاقيات ويصبح رجلاً صالحاً ثم يعود إلي بلده بعد أن يعطيه أحد المراجع وكالة عنه، وهكذا يحصل علي نتيجة أتعابه بعد عشر سنين.

أمّا إذا أردت أن تصير فقيهاً فإنّ ذلك يتطلّب منك دراسة متواصلة لمدّة عشرين وربّما ثلاثين سنة، لا لكي تلمس النتائج بل لتواجه المشاكل أوّلاً. وهذا يتطلب حقّاً شخصاً لا طمع له في أيّ نفع أبداً، بل يثابر علي الدرس ولا ييأس. ومن هنا كان الاجتهاد في الفقه عملاً بالغ الصعوبة.

ولكن رغم ذلك تجد أنّ الأخلاق أصعب من الفقه لأنّ الأخلاق تعني تهذيب النفس وبناءها، وقد قال بعض اهل الخبرة: من الصعب أن يصبح المرء مجتهداً ولكن من الأصعب أن يصير إنساناً. وبعضهم قال: بل من المستحيل. ولا شكّ أنّ المقصود بالاستحالة هنا ليس الاستحالة العقلية بل كون القضية بالغة الصعوبة.

إنّ الارتقاء في الأخلاق والفضائل أصعب من الاجتهاد في الفقه؛ وإنّ ثمرته ونتيجته أبعد منالاً وأعسر حصولاً من الفقه. فلا يلمس المرء نتيجة سعيه إلاّ عندما يصبح ذا قلب سليم وتصبح الأخلاق والفضائل ملكات لديه، عندها يشعر بلذّة الأخلاق والوصول إلي مراتبها العالية، وعندها يعرف قيمة ترويض النفس ومخالفة الشهوات.

ولا تصبح الأخلاق ملَكة عند الشخص إلاّ بعد أن يحارب نفسه ويخالفها، ويستمرّ في مخالفتها حتي تنمو عنده ملَكة حبّ الخير في كلّ أبعاده. فإذا حصل علي الملَكة شعر باللذّة وبدأ يلمس نتيجة أتعابه في مجال الأخلاق والفضائل. وهذا لا يحصل بصورة سريعة بل هو بحاجة إلي وقت يستغرق عمر الفرد؛ لذلك أصبح الارتقاء في مدارج الأخلاق صعباً بل أصعب من

الاجتهاد في الفقه. وخير دليل علي ذلك، ما نلمسه في الواقع الخارجي، حين نري أنّ عدد مَن بلغوا مرتبة الإنسان المتّزن أندر من عدد المجتهدين.

فالتحلّي بالأخلاق أمر صعب وروّاده قليلون. وإلاّ فمَن من الناس لا يحبّ أن يصبح ذا فضائل، ولكن صعوبة الطريق وطول أمده في الوصول إلي النتيجة المرجوّة تصرفهم عن الاستمرار في المواصلة، لأنّ الإنسان بطبعه يتعجّل النتائج.

ولا نقصد بصعوبة الأخلاق صعوبة تلقّي دروسها كمطالعة كتاب جامع السعادات أو إلقاء المحاضرات الأخلاقية أو الاستماع إليها.. فهذه إنّما تمثّل علم الأخلاق، ولكنّ المقصود صعوبة العمل.

كما لا يعني أن ينصرف المرء عن الأخلاق لصعوبتها، وإنّما يلزم أن يهتمّ بها أكثر، لأنّ الطالب إذا استسهل الأخلاق وتهاون بها، لا يستطيع مواصلة المشوار؛ لما سيواجه من صعوبات. فإنّنا ننبّه في البداية علي الصعوبات وطول الطريق ليأخذ الطالب استعداده ويشمّر عن ساعد الجدّ ويحسب للأمر حسابه؛ فإنّ نتيجة الأخلاق لا تظهر سريعاً، ولذّة الإحساس بالسموّ الروحي لا تحصل إلاّ بعد عناء وصمود.

3. فقدان عامل التشجيع

من الفوارق الأخري بين الأخلاق والعلوم الأخري أنّ الإنسان قد جُبل علي حبّ التشجيع، ويكفي به وازعاً لتقدّمه في مختلف مجالات الحياة، غير أنّ مَن يسلك طريق الرقيّ في الأخلاق عليه أن لا يترقّب التشجيع من أحد، بل ليتوقّع التثبيط أيضاً. فهذا حال المجتمع في الغالب.

فطالب العلم قد يعكف علي مادّة درسه عدّة ساعات حتي يتقنها، ثم يأتي في اليوم التالي ليجيب علي أسئلة أستاذه، فيعرف الأستاذ حينها ومن خلال الإجابة أنّ هذا الطالب قد طالع درسه بدقّة حتي استوعبه، فيشجّعه بالقول: أحسنت، اِستمرَّ علي هذا المنوال، وكلّما حصل لديك سؤال حاول أن تطرحه للمناقشة. وهكذا يستمرّ الطالب بالتشجيع حتي يتفوّق، ثم يقوم بتدريس المادّة نفسها

بعد أن يبلغ فيها المستوي المطلوب.

أمّا في الأخلاق والالتزام بالفضائل فالأمر مختلف تماماً، لأنّ معظم الناس يثبّطون المرء ولا يشجّعونه في الاستمرار. مثلاً، لو حدث شجار بينك وبين أحد أرحامك، وأردت أن تضغط علي نفسك لتصله، وقرّرت أن تزوره لتسدل الستار علي ما حدث بينكما، فإنّ معظم من يحيط بك قد لا يشجّعك بل يضع أمامك مختلف الأعذار والعراقيل.

• يُذكر أنّ أحد مراجع التقليد ابتلي بشخص كان يشتمه ويسيء الأدب في الكلام معه حتي في المجالس العامّة، ويبدو أنّه كان من حاشيته. فاتّفق يوماً أن رأي المرجع وحيداً، فانتهز الفرصة وشكا له الحاجة إلي المال، حينها لم يبخل عليه المرجع بل أغدق عليه ولم يردّه، ولكنّ العجيب أنّ هذا الشخص لم يكفّ عن سوء أدبه مع المرجع والجرأة علي انتقاصه، بل أخذ يقول: إنّ فلاناً أعطاني المال ليسدّ فمي، وإنّ عطاءه هذا لم يكن لله، وليته يعلم أنّ فمي لا يغلقه المال!

وعندما بلغ الخبرُ بعض أصحاب ذلك المرجع، تأثّروا كثيراً وعقدوا العزم في انتداب أحدهم ليكلّم المرجع.

وبالفعل توجّه المنتدَب إلي المرجع وسأله إن كان قد أعطي فلاناً مالاً؟!

فقال: ولِمَ؟ وما الذي حدث؟

عندها قال الشخص: أتعلمون سماحتكم أنّه كان يشتمكم؟

قال: نعم.

قال: وتدرون أنّه لا يزال يشتمكم ويدّعي أنّكم لم تعطوه المال قربةً لله بل ثمناً لسكوته أو رياءً؟

وأضاف مسترسلاً: هب أنّا لا نقول أنّك عالِم دينيّ ومرجع تقليد، أفلا نقول أنّك رجل مؤمن؟ أفيصحّ تشجيع مَن يسبّ مؤمناً؟ ألا يعدّ إعطاؤكم المال لذلك الشخص تشجيعاً له؟! أليس في عملكم هذا اغواء له علي إهانة العلماء وتشجيع للآخرين لكي يحذوا حذوه، فتستمرّ هذه الطريقة حتي بعد وفاتكم؟ و… و…

وهنا رفع المرجع رأسه وقال: أنا أسألك عن شيء:

هل هذا الرجل متزوّج؟

أجاب: نعم، وله أولاد.

قال المرجع: وكيف وضعه المادّي؛ أهو فقير أم غنيّ؟

قال: بل فقير، لا يملك داراً، بل هو مستأجر لها.

فقال المرجع: لنفرض أنّه ارتكب حراماً إذ شتمني، ولكن ما ذنب زوجته وأطفاله إذا كان سيعود إليهم في المساء ولا مال عنده يقوتهم به؟!

• ثَمّ مثال آخر: لماذا نري عدد طلاب العلوم الدينية قليلاً جداً بالقياس لعدد طلاّب العلوم الحديثة؟ هل لأنّ الأمّة في غني عن المرشدين وأنّ الحاجة إليهم أقلّ من العدد الموجود؟!

إنّ السبب هو أنّ التشجيع نحو طلب العلم الديني أقلّ من التشجيع نحو طلب العلوم الحديثة. فلو أراد أب إرسال ولده الي الحوزة لتلقّي العلوم الدينية فإنّ أغلب أفراد العائلة والأقارب سيعارضون أو يبدون عدم ارتياحهم، وربما نجحوا في ثنيه عن قراره، ولكن لو انصرف الابن إلي التحصيل في المدارس الحديثة وأراد أن يتعلّم إحدي المهن مثلاً فإنّ جلّ أفراد العائلة والأقرباء يشجّعونه ويقولون: إنّ من الضروري له ذلك لكي يتخرّج مهندساً أو طبيباً وما أشبه. وهذا يدلّ علي أنّ التشجيع نحو المدارس الحديثة موجود، خلافاً للمدارس الدينية حيث تنتظر التثبيط أكثر من التشجيع! ناهيك عن الضمان الاجتماعي الذي تمنحه الدولة لموظّفيها، بينما هذا القدر غير متوفّر لطالب العلم.

وهكذا هو واقع الحال بالنسبة للأمور الأخلاقية. فلو نوي الإنسان أن يصبر أو يصدق في الحديث أو يفي بالوعد في الموارد التي تتزاحم مع مصالحه الشخصية، أو تتعارض مع أهواء الناس وميولهم غير المشروعة، فإنّ معظمهم يحاولون ثنيه؛ ولذلك يحتاج الالتزام بالأخلاق والفضائل والرقيّ فيهما إلي تقوي وصبر وصمود وتركيز ومثابرة.

4. التمويه ومحاولة الإيقاع في الشبهات

فرق آخر بين الأخلاق وغيره هو مزاحمة الشبهات وانقلاب كثير من الفضائل رذائل، وهذا ما يستغلّه المثبّطون عادة للتمويه علي

من يريد التحلّي بإحدي الفضائل إلي. فمثلاً الصبر فضيلة ولكن قد يُقلب إلي ذلّ، والذلّ رذيلة. فإذا عزم المرء علي الصبر في موقف ما وكان صحيحاً وفي موضعه، قد يجد من يقول له: صحيحٌ أنّ الصبر حسنٌ ولكن هذا ليس موضعه، بل هذا ذلّ منك، وربّما ذكر له الحديث المرويّ عن الإمام الصادق سلام الله عليه: «إن الله عزّ وجلّ فوّض إلي المؤمن أموره كلّها، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً». حقّاً هذا هو الفخّ الذي هلك فيه خلق كثير.

مثال آخر: الكرم خلق محمود. ولكن ما أكثر الحالات التي يقوم المرء فيها بعمل كريم وفي موضعه، ولكن يري كثيرين يصوّرونه له من الإسراف والتبذير الممقوت.

أتذكّر أن أحد الإخوان أهدي دورة من كتاب بحار الأنوار إلي مكتبة عامّة في كربلاء المقدسة، ولم تكن الدورة مطبوعة بالكامل يومذاك بل لم تبلغ مجموع الأجزاء الصادرة عشرين جزءاً، ولم تزد قيمتها علي عشرة دنانير، وكان الراتب الشهري للطالب يومذاك ديناراً واحداً، فكان ذلك الأخ يوفّر بعض راتبه لشراء الكتب ومنها اشتري هذه الأجزاء التي أهداها للمكتبة. فانبري شخص من أهل العلم موجّهاً الي الشخصَ المُهدي تأنيباً شديداً قائلاً له: أتزعم أنّك قمت بعمل جيّد؟ وهل هذا مطلوب منك؟ من المفترض أن تتعلّم موضع الكرم أوّلاً …! واستمرّ في تقريعه كأنّه ارتكب إثماً.

وهكذا الحال لو أراد الإنسان الإيثار أو التحلّي بأيّ من الأخلاق الحميدة، ربّما لا يدَعه مَن حوله حتي يشتبه عليه الأمر.

وهذا الفرق يختلف عن السابق لأنّه كان تثبيطاً مجرّداً، أمّا هذا فتمويه أيضاً.

وهنا يكمن منشأ كثير من البدع الموجودة، وما نشهده من صراعات بين المؤمنين، فهل تظنّون أنّ أطراف الصراعات كلّهم يدركون نتائج عملهم، ويعلمون أنّه عصيان؟! كلاّ،

بل كثير منهم يزيَّن له أسلوبه ويتصوّر أنّه علي حقّ.

قيل: إنّ شخصاً كان يقول: أنا أتجاوز عن كلّ من يغتابني إلاّ الذي يفسّقني أوّلاً ثم يغتابني، فإنّي لا أتجاوز عنه.

فبعض الناس لو قلت له: لماذا تغتاب، أجابك: ماذا نفعل وقد اعتدنا علي ذلك، ثم يستغفر الله تعالي. ولكن بعضاً آخر قد يدّعي أنّ هذا من مستثنيات الغيبة، وأنّ الشخص الذي يغتابه فاسق متجاهر بالفسق وأنّه من الذين تجوز غيبتهم ليحذّر الناس منه، أو يصوّر لك الرجل الذي يغتابه مبتدعاً من دون قرينة أو دليل وقد يأتيك بحديث «باهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام، ويحذرهم الناس ولا يتعلّموا من بدعهم»، ليدعم به غيبته.

الخلاصة

هذه بعض الفوارق بين علم الأخلاق وبين العلوم الأخري، ولكي نجنّب أنفسنا من الوقوع في الشبهات نحتاج مع السعي الي قسط وافر من التوسل إلي الله تعالي والاستمداد منه. لأننا من دون عون الله تعالي وحفظه وعصمته، لا نستطيع أن نعمل شيئاً ولا أن نصل إلي نتيجة.

وينبغي أيضاً أن نركّز علي الأخلاق حتي نصبح كذي الفنّ الواحد، لنحصل علي ملَكة الفضائل، والقلب السليم، فإنّه الاستثناء الوحيد النافع في الآية المباركة: ?يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ? إلاَّ مَنْ أَتَي اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ?. فبهذا القلب السليم نستطيع تخطّي تثبيط الناس وتمويه النفس الأمّارة بالسوء.

فمتي أيقنّا أنّ طريق الأخلاق صعب وشائك وأنّه بحاجة إلي صبر واستمداد من الله قبل ذلك كلّه، وأنّ علينا أن نحذر الانزلاق دوماً، فلنعلم حينئذ أنّنا قد بدأنا بسلوك الطريق، وأنّنا سوف نصل بالتوكل علي الله تعالي إلي الغاية المتوخّاة من بعثة الرسول الأعظم، فلقد قال صلي الله عليه وآله: «إنّما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق».

(5) بالعمل يكون التأثير للقول

(5) بالعمل يكون التأثير للقول

قال الله تعالي في كتابه الكريم: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ? كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ?.

المفهوم من الآية الكريمة أنّ الله تعالي يمقت الذين يقولون ما لا يفعلون. بيد أنّ ههنا مسألتين لا ينبغي الخلط بينهما:

الأولي: أخلاقية، وهي قبح مناقضة القول للعمل.

أمّا المسألة الثانية: فهي مسألة شرعية، وهي عدم سقوط وجوب القول بذريعة عدم العمل به.

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان حتّي علي الشخص الذي لا يعمل بالمعروف ولا ينتهي عن المنكر. ولنأخذ الصلاة مثالاً للمعروف، وشرب الخمر مثالاً للمنكر. فإنّ علي كلّ مكلّف في كلٍّ منهما واجبين: الإتيان بالصلاة والأمر بها، وترك شرب الخمر والنهي عنه. فمَن

ترك الصلاة ولم يأمر بها ارتكب إثمين، ومَن شرب الخمر ولم ينه عنه أتي بمعصيتين، وإن كان مَن يأمر بالصلاة وهو تارك لها، أو ينهي عن الخمر ولا ينتهي عنه، قد استحقّ سخط الله؛ لقوله تعالي: ?كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ?، إلاّ أنّ ذلك لا يعني سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحال، فهما واجبان برأسهما يحاسب المكلّف علي تركهما كما يحاسب علي ترك سائر الواجبات وارتكاب سائر المحرّمات.

اقتران القول بالعمل

ذكرنا هذا لبيان حقيقة شرعية قد تغيب عن بعض الأذهان. أمّا الحقيقة الأخلاقية التي ينبغي الإشارة إليها في ظلّ الآية المباركة فهي أنّ القول الذي لا يعمل به صاحبه لا يكون منبعثاً من القلب، وما لم يكن منبعثاً من القلب لا يقع في القلب، أي لا يؤثّر غالباً.

وقيّدنا ب «غالباً»، لما روي في الحديث الشريف: «أنّ أناساً من أهل الجنّة اطّلعوا علي أناس من أهل النار، فقالوا لهم: قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنّة. فقالوا: كنّا نأمركم بها ونخالف إلي غيرها». وهذا يدلّ أنّ القول قد يؤثّر أحياناً وإن لم يكن صاحبه عاملاً به.

ولكن ينبغي أن يُعلم أنّ هذا الحديث لا يتنافي مع الأحاديث التي تقول: إنّ القول الذي لم يعمل به صاحبه لا يؤثّر في غيره؛ ذلك أنّ المقصود منها الغالب، أو أنّ مثل ذلك القول بمفرده لا يربّي.

ولكن يبقي هذا الحديث نذيراً لأهل العلم والمتصدّين لهداية الناس، بل هو من قواصم الظهر حقّاً إن لم يُلتفت إليه!

إنّ كثيراً من العبارات الجميلة التي تُنسب لبعض الحكماء أو المفكّرين تري لها أصلاً في كلمات أئمّة أهل البيت سلام الله عليهم، فإن لم تكن بالنصّ فبالمعني؛ ذلك أنّ أهل البيت سلام الله

عليهم ما تركوا شيئاً حسناً وجميلاً إلاّ أمروا به ودعَوا إليه، وما من سيّئة إلاّ ذمّوها ونهوا عنها، ولذلك يجد الباحث كلّ العبارات الصائبة والجميلة للحكماء مقتبسة من كلمات الرّسول وأئمّة الهدي عليهم الصلاة والسلام.

إنّ الناس لا يكونون كما تقولون، بقدر ما يكونون كما تكونون، إنّهم يأخذون من سيرتكم أكثر ممّا يأخذون من أقوالكم.

وهذا ما يراه كلّ منّا في نفسه، فإنّ الأشخاص الذين نراهم طيّبين أو كنّا نراهم كذلك وانتقلوا إلي الدار الآخرة إنّما تأثّرنا بسيرتهم أكثر ممّا تأثّرنا بكلماتهم، وما تأثُّرنا بكلماتهم إلاّ لأنّها طابقت أفعالهم. وبعبارة: إنّ كلماتهم التي نعتقد أنّها تتطابق مع سيرتهم هي التي أثّرت فينا وربّما غيّرتنا.

بين التربية والترويض

إنّ الآية التي صدّرنا بها الكلام لا تعني الكفّ عن القول مطلقاً بل هي بصدد تحريضنا علي العمل إلي جانب القول. فالقول شيء سهل، ولكن الالتزام به والعمل بمقتضاه ربّما كان صعباً يحتاج إلي إرادة قوية وممارسة وسعي دون يأس أو فتور إلي جانب الاستعانة الصادقة بالله سبحانه وتعالي.

روي الديلمي في «إرشاد القلوب»؛ قال: «كان بعض العلماء يقدّم تلميذاً له علي سائر تلاميذه. فلاموه علي ذلك، فأعطي كلَّ واحد منهم طيراً وقال: اذبحه في مكان لا يراك فيه أحد، فجاءوا كلّهم بطيورهم وقد ذبحوها، لكن ذلك التلميذ جاء بطيره وهو غير مذبوح، فقال له: لِمَ لم تذبحه؟ قال: لقولك: لا تذبحه إلاّ في موضع لا يراك فيه أحد، وما من مكان إلاّ يراني فيه الله. فقال له: أحسنت. ثم قال لهم: لهذا فضّلته عليكم وميّزته منكم».

يظهر أنّ هذا الأستاذ كان مربّياً وليس أستاذاً في الدروس المقرّرة كالفقه والأصول والنحو حسب، فلم يكن يري واجبه منحصراً في إلقاء الدروس وإنما بتربية التلاميذ أيضاً. ولهذا

كثيراً ما نقرأ عن بعض العلماء الماضين رضوان الله تعالي عليهم كيف أنّه كان متعايشاً مع تلاميذه في السفر والحضر، أو أنّ التلميذ كان يري نفسه خادماً بين يدي أستاذه، كنتيجة حتميّة للتفاعل الروحي الذي يكون سائداً بين أستاذ كهذا وتلاميذه.

فهذا الطراز الرفيع من الأساتذة كان يربّي ذلك الطراز الجيّد من التلاميذ؛ والذين كان منهم ذاك التلميذ الذي ضرب أروع مثل في تنبيه الغافلين عن الله تعالي.

وقد يكون الأستاذ جيّداً، لكن يوجد في تلاميذه من ليس بجيّد. فهل هناك معلّم أفضل من رسول الله صلي الله عليه وآله؟ ومع ذلك نري في أصحابه مَن له القِدم وليس له القَدم، أي ليس علي شيء، فمع أنّ بعضهم صحب الرسول صلي الله عليه وآله أكثر من عشرين سنة، إلاّ أنا نراه داخلاً في قول الله تعالي: ?وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ?، فكان من المنقلبين. فربّ أستاذ جيّد وتلميذه رديء، وربّ أستاذ غير لائق لكن تلميذه يلتقط الدرر، لما لديه من استعداد نحو الرفعة والسموّ.

فإذا أردت أن يكون كلامك مؤثّراً فانظر إن كنت قد عملت به فبها، وإن لم تكن قد عملت به بعدُ فحاول أن تعمل به قبل أن تتفوّه به، وكرّر المحاولات ولا تيأس، لأنّ الأمر ممكن وإن كان لا يخلو من صعوبة. ولو راجع كلّ منّا نفسه بعد كلّ قول يقوله ونظَر إن كان قد عمل به أم لا، لتعجّب من كثرة ما يصدر عنه من أقوال مغايرة لأفعاله! وسيشعر حينها بمسؤولية الكلمة ومدي خطورتها، محاولاً لأن يقترن كلامه مع عمله.

فالآية الكريمة تحرّضنا علي أن نعمل بما نقول، دون أن تنهانا عن القول وإن

كنّا لم نعمل به بعدُ؛ وذلك أنّ القول الحقّ بحدّ ذاته واجب سواء في الواجبات أو المحرّمات، وهو ما يعبّر عنه الشرع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإنْ أمَر المكلّف بالمعروف ونهي عن المنكر ولم يكن ممتثلاً بنفسه، خاطبتْه الآية محرّضة إيّاه علي العمل بما يقول، مضافاً إلي أنّ قوله قد يكون قليل التأثير ما لم يكن مقترناً بالعمل.

ولا ينبغي الاستهانة بالتأثير لأنّ كلامنا إذا أثّر في إنسان وعمل خيراً، فهذا يعني امتداد الثواب لنا مادام أثره باقياً. فلو أنّ شخصاً اهتدي بكلماتك وتربّي بسببها، فهذا يعني حصولك علي الثواب كلّما عمل بها عملاً صالحاً دون أن ينقص من ثوابه شيء. فلو استفاد من كلامك الناس واستمرّوا لآلاف السنوات فإنّه يُكتب لك ثواب ذلك كلّه دون أن ينقص من ثوابهم شيء.

العلماء باقون ما بقي الدهر

علي بن الحسين بن بابويه القمي أحد علمائنا، نلاحظ بقاء ذكر اسمه رغم مرور أكثر من عشرة قرون علي وفاته حيث كان يعيش في زمن الغيبة الصغري ويعلم الله كم من الناس اهتدوا خلال هذه السنين برسالته تلك وعملوا بما جاء فيها، وكم كُتب له جرّاء ذلك من ثواب عند الله، فبقي حيّاً عند الله وعند الناس أجمعين، فأيّة حياة أطول وأكبر من هذه الحياة.

هذا في حين نري أنّ أكثر الناس يموت ذكره بموته، ولا يعود يعرفه أحد حتي من عقبه الخامس بل الرابع أحياناً! فلو أنّك سألت أكثر الناس عن اسم جدّه الخامس لما عرفه، بل إنّ بعض الأشخاص قد لا يعرف حتي اسم جدّه الرابع، فهو يعرف اسم أبيه وجدّه وجدّ أبيه (أي الجدّ الثاني) وجدّ جدّه (أي جدّه الثالث) ولكنّه لا يعرف أسماء مَن هم قبله مع أنّه قد لا يفصله

عنه مئة وعشرون سنة. بل إنّ كثيراً من الناس قد لا يعرف حتي عن جدّه الثاني في أيّ يوم توفي وفي أيّة بقعة دُفن؛ مع أنّ الفاصلة الزمانية قد لا تزيد علي خمسين سنة!

الخلاصة

يمكننا أن نُبقي سجلّنا مفتوحاً تدرج فيه الحسنات، ليبقي معه ذكرنا خالداً ونظلّ أحياء عند الله وعند الناس إذا ما استطعنا أن نؤثّر بأقوالنا، خصوصاً إذا كانت مقترنة بالعمل، فلنحاول دائماً أن نعمل بما نقول، لا أن نترك القول بذريعة عدم العمل، فيكون الحال كما ذكرته الآية الكريمة: ?كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ?. وإذا راجعنا أنفسنا بعد كلّ قول شعرنا بمسؤولية الكلمة من جانب، وجدّدنا سعينا للالتزام بما نقول أيضاً، فيكون ذلك ترويضاً لنا، ولا شكّ أنّ مَن أراد شيئاً وعمل من أجله مستعيناً بالله تعالي بلغه أو اقترب منه.

فلو أنّ الإنسان تمرّن وروّض نفسه استطاع أن يفكّر في كلّ كلمة قبل أن يطلقها، لشعوره بمسؤوليتها.

(6) تذليل الصّعاب في طلب العلم

(6) تذليل الصّعاب في طلب العلم

قيل: «لكل شيء آفة وللعلم آفات» وهذا القول يؤيّده الاعتبار العقلاني. أي أنّه صحيح خارجاً، فإنّنا نلاحظ في الواقع الخارجي أنّ نسبة كبيرة ممّن بدأوا طريق العلم والدراسة بإصرار وصدق وإيمان لم يستمروا حتي النهاية، بينما النسبة الأقلّ هم الذين استطاعوا التغلّب علي المشاكل الكثيرة التي تحفُّ طريق طلب العلم.

فإذا كانت المشاكل والعقبات في طريق طلب العلم كثيرة فيما مضي، فإنّها اليوم أكثر. فأكبر مشكلة في السابق كانت تتلخّص بعدم وجود الكتاب، وكون الكتب مخطوطة، فكان طالب العلم الذي يريد أن يقتني كتاباً كالشرائع مثلاً أمام أحد خيارات:

• إمّا أن يستعير نسخة خطّية أو مستنسخة ثم يقوم بنسخها من أوّل الكتاب إلي آخره.

• أو أن يدفع ثمناً باهضاً لشراء نسخة من الكتاب. وهذا لم يكن ميسوراً لأكثر الطلاّب، فلا نبالغ إذا قلنا: إنّ تسعين بالمئة منهم لم يكونوا قادرين علي توفير هذا الثمن.

• أو أن يجد مَن يتبرّع له بثمن الكتاب. وهذا أصعب الخيارات وأندرها

تحقّقاً.

أمّا اليوم فبإمكان غالب طلاّب العلوم الدينية شراء نسخة من الكتاب الذي يريدون دراسته. إذاً يمكن القول: إنّ مشكلة صعوبة الحصول علي الكتاب لم تعد اليوم موجودة.

ومن المشاكل التي كانت موجودة في السابق، وقد قلّت اليوم إلي درجة كبيرة، الحصول علي مدرّس، فقد زالت هذه الصعوبة اليوم إلي حدٍّ كبير وخاصّة في الحواضر العلمية التي نعيش فيها.

لكن هناك مشاكل استجدّت ولم تكن في السابق، ومنها كثرة العطل، فلم تكن بهذه الكثرة، ولم تتجاوز علي ما أتذكّر غير الخميس والجمعة، والحالات الأربع من كل عام وهي شهر رمضان كلّه، وثلاثة عشر يوماً الأولي من شهر محرّم، ووفيّات ومواليد المعصومين عليهم الصلاة والسلام، والأعياد الثلاثة: الغدير والفطر والأضحي، ولم تكن عندنا عطلة صيفية ولا عطلة أخري غيرها. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ بعض وفيّات ومواليد المعصومين كانت تقع في أيّام الخميس أو الجمع ما عدا تلك التي تقع في أيّام شهر رمضان. إذاً، فإنّ مجموع الأيام التي كنّا نعطّل فيها الدرس لم تزد علي الشهرين في السنة، ومع كلّ ذلك لم نصل إلي شيء، مع أنّنا كنا نستغلّ حتي أيّام العطل في تلقّي دروسٍ خارج المنهج الحوزوي المقرّر كدروس الأخلاق والتفسير والعقائد والرياضيات والخطابة والكتابة، ولم تكن حتي ليالي الجمع وأيّامها مستثناة من ذلك.

لقد عبّأنا كلّ طاقاتنا ولم يصل أغلبنا إلي الغاية المرجوّة، فكيف بالوضع اليوم، وقد نقل لي أحد المدرّسين أنّه أحصي كلّ الأيام التي درّس فيها خلال إحدي السنوات الأخيرة فوجدها لا تزيد علي التسعين!

فإذا كانت المشاكل في طريق طالب العلم كثيرة، وكان طالب العلم لا يريد صرف عمره هكذا عبثاً ثم يكتشف بعد مرور ثلاثين سنة أو ربّما خمسين سنة أنّه لم يصل إلي

شيء ولم يحصل علي نتيجة، فما هو الحلّ العملي للتغلّب علي هذه الصعاب؟

الحلّ الجذريّ يتمثّل بالآية الكريمة: ?أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ?. والمقصود بذكر الله تعالي في الآية كما قال المفسّرون الذكر اللساني والقلبي معاً. والمقصود بالذكر القلبي هو التوجّه إلي الله تعالي، فإنّ الممارسات العبادية التي نؤدّيها لله تعالي ينبغي أن لا تكون طقوساً جامدة، لا روح فيها، بل علينا أن نتفاعل معها، ونشعر من خلالها أنّنا نقف بين يدي الله تعالي ونؤدّي حقّ العبوديّة علي أتمّ وجه.

صحيح أنّ الواجب يسقط بالامتثال وفق الشروط المذكورة في كتب الفقه، حتي مع عدم حضور القلب، وأنّه لا تجب الإعادة علي الشخص الذي أدّي صلاته بصورة صحيحة وذلك لطف وعفو من الله عزّ وجلّ ولكن النتيجة المطلوبة من العبادة لا تحصل، ولهذا فهي لا تسجّل صلاة حقيقية وكذا سائر العبادات، كما في مستفيض الأحاديث.

أي إنّ مَن اكتفي بأداء العبادة كطقس وعادة دون توجّه القلب لله، لا يحصل علي نتيجة لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل إن لم يشمله اللطف الإلهي قد يصبح عمله هذا وبالاً عليه كما ورد في بعض الأحاديث.

الإرادة معيار التغيير

نُقل أنّ الشيخ علي القمّي عندما أراد الزواج يوم كان شابّاً طلب نوعاً من القماش الفاخر الذي كان الشباب المتأنّق في تلك الأيّام يخيطون منه بذلة الزواج، وكان هذا القماش يُستورد من بلاد الشام.

وحيث إنّ طلبة العلوم الدينية كانوا أكثر تواضعاً وبساطة في زيّهم وملبسهم من سائر الشباب، لاعتبارهم قدوة للآخرين، حاول بعض زملاء الشيخ أن يثنيه عن هذا المطلب. ولكنّه كان مصرّاً لدرجة أنّه أجّل زواجه عدّة أشهر، لأنّ ذلك القماش لم يوجد آنذاك في الأسواق.

وما يثير العجب أكثر أنّ هذا لم يكن حال

كلّ الشباب آنذاك. فما كان يهتمّ بمثل هذه المظاهر إلاّ المنهمك في الدنيا.

ولا نقول: إنّه كان حراماً ولكنّه كان يعبّر عن اهتمام زائد بالدنيا، مما لا يناسب طالب العلم الديني، ولذلك كان زملاؤه يحاولون ثنيه.

ولكنه كان يجيبهم بالقول: مادام غير محرّم، فهو زينة والله تعالي يقول: ?قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ?.

وصار يوصي المسافرين إلي المدن الأخري في العراق ككربلاء والحلّة وبغداد ولكن دون جدوي، حتي اتّفق أنّ بعض أصدقائه نوي السفر إلي بلاد الشام وبعد عودته أتي له بذلك القماش، فتزوّج بعد ذلك!

وحيث إنّ وسائط النقل لم تكن يومئذ كما هي اليوم لتلبية رغبته فربما أخّر زواجه لمدة سنة كاملة ليس إلاّ ليكون في ليلة زفافه مرتدياً ذلك القماش!!

أذكر لكم هذه القصّة لتعرفوا أنّ التغيير ممكن، فإنّ هذا الشيخ نفسه بعد أن كان مستوي اهتمامه في شبابه قد أرغمه علي أن يؤجّل موعد زفافه لحين حصوله علي قماش اليوم! قد تحوّل تحوّلاً عجيباً حتي صار مضرب المثل في الزهد والتقوي في عامّة العراق وإيران رغم وجود العشرات بل المئات من الزهّاد والمتّقين في ذلك الزمان! فلقد سمعت قصصاً عن الشيخ علي القمّي رحمه الله أكتفي هنا بنقل اثنتين منها:

• يقول والدي رحمه الله: إنّه كان في النجف الأشرف يومذاك تسعون رسالة عملية، وهذا يعني أنّ المجتهدين كانوا بالمئات، لأنّ الذين عندهم رسائل عملية لا يشكّلون في العادة عشرة بالمئة مثلاً من مجموع المجتهدين. فهكذا كان وضع النجف وحوزتها، إذا ما استثنينا مدينة قم وكربلاء ومشهد! ولا أعلم اليوم بوجود تسعين رسالة عملية في العالم الإسلامي كلّه.

يقول الوالد: إنّه بالرغم من وجود العشرات من المراجع في النجف الأشرف في ذلك اليوم، وبالرغم من

وجود المئات من أئمّة الجماعة من المتّقين والزهّاد، لكن كثيراً من الناس والعلماء لم يكونوا يطمئنّون إلاّ بالصلاة خلف الشيخ علي القمّي، لأنّه كان مسلّم العدالة عند الكلّ.

فلو كان بعض الناس يصلّون خلف فلان لكنّهم يستشكلون بالصلاة خلف فلان الآخر، وكان بعض آخر يُصلّي خلف الثاني ويستشكل بالصلاة خلف الأوّل، إلاّ أنّهم جميعاً كانوا يتّفقون علي عدالة الشيخ علي القمّي ويطمئنّون بالائتمام به. فما أعظم التحوّل الذي حدث في حياة هذا الرجل حتي بلغ هذه الدرجة، بعد أن كان علي ما سمعتم في شبابه!

• أمّا القصّة الأخري من القصص التي تنقل عن الشيخ علي القمّي رحمه الله فهي أنّه أُصيب في أخريات عمره بمرض احتصار البول، وهو مرض مؤلم جدّاً وقد لازمه هذا المرض كما ذكر لي بعض أبنائه زهاء عشر سنوات حتي توفّي رحمه الله. يقول ولده: طيلة المدّة التي كنت معه لم أسمع منه كلمة «شكوي» أبداً، وكان إذا اشتدّ به الألم قال: «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم» فكان ينفّس عن شدّة آلامه بذكر الله، ويأسي أن يصرف هذه الثواني من عمره في قول كلمة تنمّ عن ضجر أو جزع، ولا يستثمرها في ذكر الله عزّ وجلّ.

إنّ الإنسان إذا تألّم لا يمكنه إلاّ أن يقول عبائر تكشف عن مدي تألّمه، ولكن إذا ربّي نفسه تمكّن أن لا يقولها بل يقول بدلاً منها: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

لا شكّ أنّ التأوّه بنفسه ليس مذموماً بل ورد في الأحاديث أنّ المريض إذا تأوّه كُتب له فيه ثواب، ولكن لا شكّ أيضاً أنّ قول: «لا إله إلاّ الله» أكثر ثواباً، إذاً لا ينبغي أن ننهي مريضاً من التأوّه، ولكن حبّذا أن يربّي

نفسه بحيث يُهلّل الله ويَحمده ويُسبّحه ويُكبّره إذا نزل به مرض أو بلاء.

فالشيخ علي القمّي استطاع أن يغيّر نفسه حتي تحوّل ذلك التحوّل الذي جعل منه قدوة في عدالته وفي ذكره لله عزّ وجلّ.

1. تقوية العلاقة مع الله

إذاً، فلنحاول من الآن أن نُدخل في عباداتنا روح التوجّه والصدق شيئاً فشيئاً، وذلك بأن نلتفت إلي معاني العبادة، فمثلاً: إذا وقفتَ بين يدي الله في الصلاة، وشرعت بقراءة سورة الفاتحة، فكّر في معاني مفردات السورة واستحضر مفاهيمها، ولا تدَع فكرك يهرب هنا وهناك، ولو حصل ذلك عُد به سريعاً ولا تدَعه يسرح، ولا تيأس لو خاتلك ذهنك مرّة أو مرّتين بل حتّي خمسين مرّة، واحرص علي أن ترجعه الي حضيرته حتي يصبح حضور الذهن مَلَكة عندك، لتعي ما تقرأ وتتدبّر في المعاني، فإذا قلت: ?إيّاكَ نَعبُدُ? استحضرت في ذهنك أنّ العبادة لله تعالي وحده وأنّك في حال أدائها، وإذا قلت: ?وَإيّاكَ نَستَعين? جدّدت استعانتك به في كلّ أمورك وخاصّة في عبادته.

ولا شكّ أنّ الإنسان العربي يفهم معاني هذه المفردات أفضل من غيره، لأنّها في لغته وعنده انطباع عنها، فكيف إذا كان من طلاّب العلوم الدينية وقد قرأ كتب النحو والصرف والبلاغة.

فهذا هو الأساس؛ قال تعالي: ?أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ?، والتوفيق من الله تعالي، وبمقدار تقوّي الرابطة بين الإنسان وبين الله تعالي يأتي التوفيق بنفس النسبة.

2. ترويض النفس اساس التغيير

وعلي الإنسان أن يحرص علي تقوية علاقته مع المجتمع؛ وذلك عبر الالتزام بالأخلاق الإسلامية كالتواضع والبِشر والكرم والعفو والرحمة وصلة الرحم.

إنّ هذه القيم الأخلاقية معروفة للجميع لاسيّما أهل العلم وهي موجودة في المجتمع المتديّن بنسب متفاوتة، ولكن المطلوب تعميقها وترسيخها والاستزادة منها.

فمثلاً: حاوِل أن تخالف هواك في كلّ الأمور، فإن كنت لا ترغب في أمر ما رغم اعتقادك بصوابه، حاوِل أن تخضع له بكلّ رحابة صدر. وإن كنت مختلفاً مع صديقك وواجداً عليه، حاول أن تصله بزيارة أو بإلقاء التحيّة عليه كلّما لقيته. ولا تبتئس إن لم يقابلك

بالمثل ما دمت قد أدّيت ما عليك. فإن كنت تريد أن تصبح عالِماً ومرشداً ينبغي أن تكون قدوة في الخُلق من حلم وكظم غيظ وما شابه، لا أن تثور بسرعة أو تتوتّر أعصابك لأتفه الأسباب.

تصرّف أنت بالنحو الصحيح واستفد من حياتك بصورة صحيحة ولا يهمّك بعد ذلك إن كان قد استفاد الآخرون منك ومن تعاملك معهم أم لا؛ فإنّ الله تعالي يقول: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ?. ولا توجد عبارة أكثر صراحة من هذه الآية في لزوم ترويض النفس علي الأخلاق الحميدة فإنّ كلمة «عليكم» اسم فعل بمعني «الزموا». فإن بدأتَ بنفسك فربّما اهتدي العشرات بأسلوبك.

3. الاهتمام بالكيف أكثر من الكمّ

أحد الطلبة كان يقول: لديّ اثنا عشر درساً في اليوم. فمثل هذا لا يتمكّن أن يستفيد من الجوانب الأخري من حياته، ولا بإمكان غيره أن يستفيد منه في تلك الجوانب إلاّ أن يكون عبقرياً ولا يكون هذا الاّ لمن هو استثناء من الناس.

وعلي العكس من ذلك، نقل والدي رحمه الله أنّ أحد الطلبة كان يقول: لماذا أنتم الطلبة تدرسون كلّ يوم من الصبح إلي الظهر ثم من العصر حتي الليل، وأنتم في حركة ودويّ مستمرّين، إنّ الأمر لا يتطلّب هذا المقدار، بل يكفي أن يكون لطالب العلم درس واحد أو درسان في اليوم ولا يلزم أيضاً أكثر من يومين أو ثلاثة في الأسبوع.

وهذا أيضاً لا يمكن أن يصل إلي نتيجة، فأيّ كاسب يكتفي بالذهاب إلي السوق ساعة أو ساعتين في يومين أو ثلاثة من الأسبوع فقط، ثم يصير تاجراً ويحصل علي المال الوفير؟ إلاّ أن يكون تاجراً قد بلغ مرحلة يعتمد في عمله علي عوامل وخطوط معيّنة، وهذا أيضاً لم يأت اعتباطاً

بل لابدّ أنّه عمل في أوّل أمره ست عشرة أو ثماني عشرة ساعة في اليوم علي مدار ستة أيام في الأسبوع علي الأقلّ.

لذا، ينبغي لطالب العلم أن يوزّع الوقت بصورة مناسبة بين تحصيله العلمي وقضاء باقي احتياجاته، وليعلم أنّ الأمر المهمّ هو الكيف وليس الكمّ، وأعني بالكيف: الإتقان.

فلو درستم تاريخ حياة العظماء من العلماء كالشيخ المفيد والسيد المرتضي والشيخ الطوسي والمحقق الحلّي والعلاّمة الحلّي والسيد بحر العلوم والشيخ الأنصاري رحمهم الله لرأيتم أنّ اهتمامهم بالكيف ونوعية الدراسة وإتقانها كان أكثر من اهتمامهم بالكمّ.

فلو أنّك خصصتَ وقتاً لدراسة كتابين فقط في الفقه ولكن بإتقان، ستستفيد أكثر مما لو بذلته في دراسة عشرة كتب دون إتقان.

بل يمكن أن يقال لمَن يتقن كتابين تخصّصيين في الفقه أنّه حامل لفقه آل محمد صلي الله عليه وآله.

مقارنة مفيدة

المقارنة التالية تكشف لنا عن أهميّة الدقّة والإتقان وتفضيل الكيف علي الكمّ.

المحقّق الحلّي والعلاّمة الحلّي كلاهما من أعاظم فقهاء المسلمين. والمحقّق هو خال العلاّمة ولهذين العلَمين كليهما كتب في الفقه. ولكن المحقّق الحلّي صبّ جهده في ثلاثة كتب هي «شرائع الإسلام» و «المختصر النافع» وهو تلخيص للشرائع نفسه، وكتاب «المعتبر» وهو فقه استدلاليّ شرحاً للمختصر النافع. أي أنّ الماتن نفسه قام بشرح كتابه، كما للمحقّق كتاب في أجوبة المسائل التي استُفتي فيها.

والآن عندما تنظرون إلي الدراسات الحوزوية تلاحظون أنّ الاستفادة من كتاب «شرائع الإسلام» للمحقّق الحلّي تفوق كثيراً الاستفادة من كلّ كتب ابن أخته العلاّمة الحلّي. فهناك المئات من الشروح علي كتاب «شرائع الإسلام»، ولقد رأيتُ في مكتبة واحدة بقمّ أكثر من مئة شرح بين مخطوط ومطبوع علي هذا الكتاب.

لا ننكر أهميّة كتب العلاّمة، فكلّها جيدة، وعلي بعضها شروح، ومن بينها كتابه «قواعد

الأحكام في معرفة الحلال والحرام»، ولكن لا شروح «القواعد» تبلغ شروح «الشرائع» ولا سلاسة «الشرائع» موجودة في كتاب «القواعد» ولا الالتزام بالفتاوي المتقنة الموجودة في «الشرائع» تجدها في «القواعد».

نستنتج مما تقدَّم أنّه يجب الاهتمام بكيفية الدرس، ولا نعني بذلك أن يكتفي الطالب بدروس قليلة ويترك سائر أوقاته هكذا هملاً بلا استثمار، بل المقصود الإتقان أكثر.

في التكرار إفادة

• هناك أبيات شعرية باللغة الفارسية في النحو تسمّي العوامل المنظومة.. حفظتها في الصغر وحيث إنّ حفظي لها كان حفظاً جيّداً، تراني إلي اليوم أتذكّرها رغم مرور أكثر من خمسين سنة عليها.

• يوصي الشهيد الثاني رحمه الله في كتابه «منية المريد» طلاّب العلوم الدينية أن يكرّروا الدرس سبع مرات. وأنا أضمّ صوتي لما أوصي به، وإن لم تقدروا أقول لكم: كرّروا كلّ درس أربع مرّات علي الأقلّ، وعلي النحو التالي:

? مرة بمطالعته والتحضير له قبل طرحه من قِبل الأستاذ، ولو مطالعة إجمالية بحيث يعلق في الذهن ولو بنسبة خمسين بالمئة، فإنّ ذلك يوجب إعطاء الفكر حريّة أكثر لكي يتفرّغ للخمسين بالمئة الأخري، بدلاً من أن يتوزّع خلال مدّة الدرس علي كلّ المادّة. فما فُهم من خلال التحضير يمكن استسهال فهمه عند إلقاء المحاضرة، وما لم يفهم يمكن التركيز علي محاولة فهمه بشكل جيّد.

? أمّا المرّة الثانية فبالحضور في الدرس مع اليقظة والمشاركة الفعّالة في النقاش والمحاورة المستمرَّين مع الأستاذ.

? المرة الثالثة بمراجعة الدرس الذي تلقّيته مرّة أو أكثر حتي تستوعبه.

? أمّا المرّة الرابعة فبالمواظبة علي مباحثة مادّة الدرس مع زميل لك.

ينقل عن السيّد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي صاحب العروة الوثقي أنّه راجع كتاب «الجواهر» عدّة مرّات، وذلك أنّه كان يباحث الكتاب مع زميل له مرّتين في اليوم، فكانا يتباحثان صباحاً

مثلاً ثمّ يبحثان الصفحة أو الصفحات نفسها مرّة ثانية عصر ذلك اليوم.

وكان السيّد يطالع المادّة نفسها مرّة قبل المباحثة الأولي، ومرّة بين المباحثتين، ومرّة بعد المباحثة الأخيرة.

أتدرون ماذا أثمرت هذه المطالعة الخماسية لكتاب الجواهر من قِبل السيد اليزدي رحمه الله؟ لقد أثمرت كتاب «العروة الوثقي» الذي قلّ أن تجد فقيهاً له رسالة عملية دون أن يكون له إلي جانبها تعليقة علي العروة. هذا مع أنّ كتاب «العروة» ليس دورة كاملة في الفقه، بل ربّما لا يحتوي علي أكثر من ربع مادّة الفقه، ففيه كتاب الطهارة والصلاة والصوم والزكاة والخمس وحوالي عشرة بالمئة من كتاب الحجّ، ثم كتاب المضاربة، وشذرات من باقي الكتب الأخري، فكتاب النكاح مثلاً لا يوجد منه سوي زهاء عشرة بالمئة، أمّا كتاب البيع فلم يتطرّق إليه، كما أنّ كتب المعاملات أغلبها غير موجودة وكذا الديات والقضاء، فربّما ثلاثة أرباع الفقه غير موجودة فيه، ومع ذلك لا تري مرجعاً لم يعلّق أو يهمّش عليه حتي المختلفين مع صاحبه من الناحية السياسية منذ ذلك الزمان وحتّي اليوم، وما ذلك إلاّ لإتقانه.

وهكذا نلاحظ أنّ كلّ مرجع يموت تموت رسالته العملية معه وكذلك تعليقته علي العروة الوثقي، بينما العروة الوثقي باقية يعلّق عليها العلماء رغم مرور هذه المدّة الزمنية علي وفاة صاحبها، فتكون بذلك متميّزة عن سائر الرسائل العملية.

هذه نتيجة دراسة المواد العلميّة بكيفيّة متقنة. أمّا القراءة العابرة فلا تنتج شيئاً من هذا القبيل.

قد يتعب الطالب نفسه أربع سنوات في المباحثة في كتاب الجواهر ولكن لا تشكّل له سوي خلفية فقهية، أمّا تلك الاستفادة التي حصل عليها السيّد اليزدي فلا يمكن تحصيلها إلاّ بذلك التكرار قبل المباحثة وبعدها مع الإتقان.

4. الاهتمام بالخطابة والكتابة

علي طلاّب العلوم الدينية أن يهتمّوا

بهذين البعدين المهمّين مبكّراً. فكلّ الأنبياء والقادة والمصلحين يتمتّعون بموهبة الخطابة، كما أنّك قلّما تجد عالِماً مبرّزاً لم يعنَ بالكتابة منذ شبابه. فالإنسان في شبابه أكثر قدرة علي التركيز، والمجال مفتوح أمامه أكثر، والمشاكل التي يعاني منها أقلّ في الغالب، فغير المتزوّج مشاكله أقلّ من المتزوّج، والمتزوّج أقلّ مشكلة ممن ليس عنده أولاد، وذو الولد الواحد مسؤوليته أقلّ من ذي الولدين.

وهكذا كلّما يتقدّم الإنسان بالعمر تقلّ الفرص أمامه وتكون مسؤولياته أكثر، ولهذا ينبغي المبادرة إلي تنمية هذين البعدين الخطابة والكتابة قبل فوات الأوان. وهاهنا ثلاث نقاط جديرة بالاهتمام:

أ. تقبّّل النقد البنّاء

بعض الأشخاص يستاء لو وُجّه نقدٌ لعمله أو إنتاجه، كما لو نُبّه علي وجود أخطاء في كتابه أو أمور غير سائغة في خطابته، وبعض آخر وإن كان يتقبّل النقد إلاّ أنّه لا يأخذ به في تتمية قدراته، وهناك طائفة ثالثة تطالب الآخرين بالنقد وترحّب به من أجل تطوير عملها.

يُنقل أنّ صاحب «الجواهر» رحمه الله كان يطلب من تلاميذه أن يذكروا له كلّ نقد أو إشكال يأتي إلي أذهانهم علي المادّة التي يلقيها عليهم في درس الخارج يومياً، ولهذا كانت دروسه تتميّز بالفاعلية والنشاط، فكان من طلاّبه من يناقش في سند الرواية التي ذكرها أستاذه، وآخر يستفسر عن صحّة اللفظ، وثالث يعترض علي مداليله، ورابع يشكّك في الإجماع المدّعي مثلاً، وبهذا الأسلوب كان الشيخ الأستاذ يجمع علوم الطلبة إلي علمه.

وفي أحد الأيام لاحظ أنّ أحداً من طلابه لم يستشكل في الدرس الذي ألقاه، فتعجّب وقال لهم: لم أسمع اليوم مَن يوجّه إشكالاً أو نحوه، فهل كان ما ذكرناه اليوم وحياً منزّلاً أم ماذا؟!

فأجابه بعض الطلاب: كلا، ولكنا لم نطالع الدرس ونحضّر له أمس بسبب ارتفاع درجة الحرارة وكثرة

الهوامّ والحشرات؛ لذا لا علم لنا بمدي ثبوت ما ذكرت اليوم.

لم تكن كلّ الإشكالات التي توجّه لصاحب الجواهر صحيحة، لكن حتي لو كان بعضها مهما قلّ صحيحاً، فإنّه لا يخلو من فائدة للشيخ.

إذاً حريّ بالإنسان أن يسمح للآخرين في نقده، ولا شك أنّه يوجب استفادته من وجهات النظر الصحيحة المطروحة عليه، وذلك من خلال تتمية قدراته والتقدّم في أعماله.

ب. البحث عن مدرّسين جيدين

إنّ الاعتماد علي الأستاذ والاستفادة من خبرته وإرشاداته والتدرّب لديه، يوجب الوصول إلي الهدف بصورة أفضل وأسرع. وينبغي عدم اليأس بسرعة من الحصول علي أستاذ جيّد، فإنّه: مَن جدّ وجد.

ج. حفظ النصوص

فإنّ حفظ الأبيات الشعرية والمنظومات القصائدية في علم من العلوم الدراسيّة، فضلاً عن الخطابة والتأليف يُبقي ذكر المطالب في الذهن أكثر، فإنّك حتي لو درست كتاب الشرائع مثلاً ودرّسته مرّات، قد تنسي قسماً كبيراً منه بعد مرور عشرين سنة، أمّا إذا حفظت منظومة فقهية إلي جانب ذلك، فإنّ ما يبقي في الذهن سيكون أدوم، وهكذا الحال مع الموادّ الأخري كألفية ابن مالك في النحو، وغيرها.

أعرف مرجعاً بارزاً، بلغ هذه المرتبة بفضل حفظه المتقن للمسائل الشرعية، فهو مثلاً يحفظ أحكام الإرث وطبقاتها والمقادير والنسب التي يخصّ كلاًّ منها، وعدد الحاجبين ومَن هم، رغم أنّها متشعّبة كثيراً.. وهكذا الحال مع كلّ الفروع الفقهية حتي ذات الفروع والتشعبات الكثيرة كالزكاة والحجّ.

فحفظ أمّهات المسائل والأصول والخطوط العامّة حفظاً جيّداً بحيث يمكن للمرء استحضارها متي شاء، لا بدّ أن ذلك سيعينه علي أمره كثيراً.

علي أيّ حال: إنّ ما ذُكر من هذه المطالب، إذا عمل بها طالب العلم، استطاع رغم كلّ المشاكل أن يحصل علي نتائج في الدنيا والآخرة، وعلي رأس تلك الأمور ذكر الله تعالي باللسان والقلب، أعني التوجّه الدائم إلي الله سبحانه وتعالي؛ ليطمئنّ بذكره قلبه ?أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ?.

(7) التبليغ

(7) التبليغ

قال الله تعالي: ?الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلاَّ اللَّهَ وَكَفَي بِاللَّهِ حَسِيباً?.

لاشكّ أنّ من أشرف المهامّ في حياة الإنسان هي مهمّة التبليغ؛ لأنها مهمّة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فإنّ الله سبحانه وتعالي لم يكلّفهم بمهمّة أخري كما كلّفهم بالتبليغ. ومن ثم إذا استطاع الإنسان أن يكون مبلّغاً لدين الله، فهذا يعني أنّه وضع أقدامه في موضع كان قد سبقه فيه الأنبياء والرّسل عليهم السلام.

القرآن والتبليغ

هناك إلفاتة لطيفة في القرآن الكريم تكشف عن أهمية التبليغ أذكرها بمقدّمة: إنّ الناس كما نلاحظ مترتّبون في الأمور العامّة وفق سلسلة من المراتب يتمّ وفقها تبليغ الأوامر من الأعلي وصولاً إلي مرحلة التنفيذ في المراتب الدنيا. أي أنّ الأعلي يأمر الذي هو دونه، وهذا يأمر الأدني منه، والأدني فالأدني، حتي تنتهي سلسلة المراتب إلي عوامل التنفيذ.

فنري في الحكومات مثلاً أنّ هناك الرئيس ثم يأتي الوزراء في المرتبة الثانية، فالمدراء العامّون تحت إشرافهم، فمدراء الأقسام حتي ينتهي هذا التسلسل الوظيفي عند مَن يتّصل بعامّة الناس مباشرة. فإذا أصدر الحاكم الأعلي أو الرئيس حكماً فإنّه لا يأمر وزيره بأن يبلّغه إلي عامّة الناس مباشرة، بل يأمره بتنفيذ الحكم وحسب. فيقوم الوزير بإصدار الأمر إلي مَن هم أدني منه درجة، وهؤلاء بدورهم لا ينزلون إلي الشارع مباشرة بل يجمعون مَن تحت سلطتهم ويوجّهونهم بالحكم، وهكذا حتي ينتهي الأمر إلي من هم في المرتبة الأدني، فقد يقعون في المرتبة العاشرة من سلسلة المراتب أو أدني. وهذا بطبيعته يعدّ تدرجاً وضعياً في كلّ حكم عامّ أو دائرة وعلاقات، وهو ما نلاحظه ونراه في كلّ الحكومات والأنظمة القائمة.

أمّا الإلفاتة الموجودة في القرآن فهي أنّه عندما يتوجّه الخطاب للنبيّ الأكرم بالتبليغ، يأمره الله

تعالي أن يقوم هو صلي الله عليه وآله به مباشرة وبلا واسطة مع عامّة الناس. يقول سبحانه وتعالي مخاطباً نبيّه الكريم: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ … ?، و?قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ … ?، و?قُل للَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون … ?، و?قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ?، وهكذا؛ وهذا يعني المباشرة في التبليغ.

فمع أنّ الله تعالي هو خالق كلّ شيء، وإله كلّ شيء وهو ربّ الأرباب وسيّد السادة، ومع أنّ النبي صلي الله عليه وآله هو أشرف المخلوقات وأفضلها وأعلاها، إلاّ أنّ الله سبحانه وتعالي يطلب من رسوله أن يقوم بمخاطبة كلّ الطبقات والمستويات من الناس حتي أدناها.

الهدف هو التبليغ

وليعلم الإخوة الذين ينطلقون للتبليغ والإرشاد وهداية الناس في المدن والبلاد الأخري والقري والأرياف في شهر رمضان وغيره، أنّ الهدف المقدّس والغاية الأسمي من دراستهم ومن كلّ ما تلقّوه من علوم دينية في الحوزات هو التبليغ، وحسب الاصطلاح العلمي: إنّ كلّ ما في الحوزات العلمية يعدّ بمثابة مقدّمات، والتبليغ هو ذو المقدّمة.

صحيح أنّ أدوار التبليغ ووسائله قد تختلف باختلاف الحاضرين وتنوّعهم؛ فالخطيب إذا تحدّث إلي جمهور من المثقّفين تحدّث بأسلوب يختلف عمّا إذا كان حديثه إلي أناس أمّيين، لكن يبقي التبليغ يحظي بالأهميّة في كلّ حالاته كما تفيدنا تلك الإلفاتة الرائعة في القرآن الكريم.

أهمية التبليغ في سيرة النبي وأهل بيته

هناك نقطة وإلفاتة أخري تبيّن أهمية التبليغ نكتشفها من خلال سيرة رسول الله والأئمّة من أهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

فكلّنا يعلم مدي اشتياق النبيّ الأكرم صلّي الله عليه وآله للعبادة والالتذاذ بها. فلقد كان صلي الله عليه وآله يشتاق إلي العبادة أكثر من أيّ إنسان آخر، ويلتذّ بها ما لا يلتذّ بأيّ عمل. فهو أعرف الناس بالله تعالي وأفضل مَن عرف الله عزّ وجل. ليس هذا فحسب بل كانت عبادته وذكره ودعاءه وتوجّهه إلي الله تعالي، تفوق في الفضل عبادة الناس كلّهم.

ولكنّا نري أنّ هذا الرسول العابد الذي أبلتْه العبادة حتي خاطبه الله تعالي بقوله: ?طه ? مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَي? يرجّح في كثير من الأحيان التجوّل في الشوارع والطرقات أو المساجد أو البيوت للتبليغ وهداية الناس، علي العبادات المستحبّة في حقّه حتي لقد استغلّ صلي الله عليه وآله معظم وقته بعد البعثة بالتبليغ. ولقد كان يبلّغ في وسط أناس اُميّين بلغ الحال ببعضهم لأن يمدّ رجليه أويستلقي بين يدي رسول الله صلي الله عليه وآله وهو يقول

له: يا محمد حدّثنا!

كان الرسول صلي الله عليه وآله يصرف أوقاته مع أمثال هؤلاء، كما كان يصرفها مع أمير المؤمنين وفاطمة والحسنين سلام الله عليهم، ومع أمثال أبي ذرّ وعمّار، ممّن تقع علي عاتقهم مسؤولية هداية الأمّة، وكان لهم شطر كبير من وقته صلي الله عليه وآله.

إنّ تبليغاً كهذا هو الذي صنع رجالاً عظاماً كأبي ذرّ وعمّار والمقداد وغيرهم من خيار الصحابة، فمن هذا الوسط تخرّج هؤلاء الأخيار والمؤمنون. وهذا يعني أنّ علي المبلّغ ألاّ يقتصِر تبليغه علي فئة معيّنة من الناس كالمثقّفين مثلاً، دون غيرهم، بل عليه أن ينزل إلي كلّ فئات المجتمع وطبقاته.

صحيح أنّ الواجب يفرض علي الإنسان أن يستفيد من حياته ووقته أحسن الاستفادة وبأقصي ما يستطيع، ولكن قد يأتي يوم يصبح فيه هذا الأمّي أحد العظماء، أو أنّ ذلك المثقّف الذي يبدو مهمّاً في نظر الداعية اليوم من الناحية الاجتماعية أو العلمية، ويركّز عليه في تبليغه أكثر من غيره قد لا ينفع في شيء، وربما ارتحل عن الدنيا قبل أن يقدّم شيئاً ما لينفع به الآخرين.

فما دام المبلّغ لا يدري أيّة أرض ستثمر فيها الكلمة الطيّبة أكثر، لذا عليه أن يسعي لبذر الكلمة الطيّبة في كلّ مكان ومع كلّ إنسان، وأن يقتدي برسول الله صلّي الله عليه وآله في ذلك، فلقد كان صلي الله عليه وآله يغتنم كلّ الفرص للتبليغ ويدع التفرّغ للعبادات المستحبّة إلي الأوقات التي لا يمكن التبليغ فيها كمنتصف الليل مثلاً، ليخلو فيها مع ربّه يستمدّ منه العون والتأييد ويناجيه بقوله: «إلهي لا تكلني إلي نفسي طرفة عين أبداً».

أثر التبليغ علي بلدان بأكملها

إنّ للتبليغ أهميةً كبري وتأثيراً عظيماً. فإيران والعراق اللتان تعدّان اليوم مواليتين لأهل البيت عليهم السلام بأغلبية ساحقة، لم

تكونا كذلك في السابق، بل تحوّلتا إليه بفضل التبليغ الذي نهض به رجال أفذاذ نذروا أنفسهم له وعقدوا العزم عليه.

ينقل المحدّث النوري رضوان الله عليه في خاتمة «مستدرك الوسائل» أنّ المرحوم السيّد مهدي القزويني من علماء الشيعة ومراجعها، نزيل الحلّة في العراق، وزميل الشيخ مرتضي الأنصاري رحمهما الله أخذ في أواخر حياته بالتبليغ وهدَي عشائر كانت برمّتها غير موالية لأهل البيت سلام الله عليهم؛ إذ كان يذهب إلي إحدي العشائر ويمكث في مضيفها سنة كاملة يخالطهم فيها ويصلّي بهم ويحكي لهم قصصاً حتي يغيّر معظمهم ويجعلهم موالين لأهل البيت سلام الله عليهم ثم يغادرهم إلي عشيرة ثانية ويمكث فيهم سنة أو أكثر حتي يهديهم الله إلي الحقّ وهكذا… حتي اهتدي علي يديه زهاء مئة ألف إنسان.

فبعزم أمثال هذا الرجل اهتدت شعوب، وصار العراق وإيران دولتين ذاتي أغلبية شيعية، وإلاّ فإنّ إيران مثلاً كانت علي مذهب أهل السنّة والجماعة حتي أنجبت زهاء ثمانين في المئة من كبار علماء العامّة الذين ليسوا علي خطّ أهل البيت ثم تغيّر الوضع بفضل التبليغ حتي آل الأمر إلي أن تنجب إيران الألوف من العلماء المسلمين السائرين علي خطّ أهل البيت سلام الله عليهم.

نعم، لقد كانت إيران علي مذهب العامّة، وكانت إحدي مدنها متعصّبة لدرجة كبيرة حتي أنّه عندما منع عمر بن عبد العزيز سبّ الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه من علي المنابر جاء أهل تلك المدينة إلي واليهم وقالوا له: إنّنا علي استعداد لدفع الضرائب غير المستحقّة علي أن يسمح لنا بالاستمرار في سبّ علي بن أبي طالب لمدّة ستّة أشهر أخري.

فهكذا كانت بعض المدن الإيرانية في يوم من الأيام.. ولكن أتدرون أنّ تلك المدينة نفسها تحوّلت تحوّلاً عظيماً

بحيث احتضنت في عصر مّا أكبر حوزة علمية للشيعة لعشرات السنين، أي انقلبت من مدينة معادية لأهل البيت إلي مدينة منجبة للعلماء السائرين علي نهج أهل البيت سلام الله عليهم والملايين من محبّيهم.

ولو تفحّصت في التاريخ والسير، وبحثت في أنساب كثير من المؤمنين وأجدادهم لرأيت أنّ كثيراً منهم ينحدر من أجداد لم يكونوا علي خطّ أهل البيت سلام الله عليهم ولكنهم تحوّلوا إليه بفضل التبليغ والإرشاد، واستمرّ الخطّ في أولادهم وأعقابهم إلي يومنا هذا. وأنا شخصياً أعرف أشخاصاً من أهل العلم والوعّاظ وأئمّة الجماعة لم يكن أجدادهم موالين لأهل البيت سلام الله عليهم.

نقل لي أحدهم أنّ جدّه السادس لم يكن موالياً لأهل البيت سلام الله عليهم، ثم كان من جملة الذين اهتدوا علي يد المرحوم السيّد مهدي القزويني فصار من الموالين والمؤمنين وعلي ذلك جري نسله وذرّيته. وهكذا نشهد اليوم جماعة من المبلّغين للمذهب من سلالة الذين هداهم الله علي يد السيّد القزويني رحمه الله.

أفضلية التبليغ

من المستحبّات الأكيدة الصلاة في أوّل الوقت. فقد كان رسول الله صلي الله عليه وآله إذا حلّ وقت الصلاة انقطع إليها ولم يعبأ بشيء دونها. يُنقل عن عائشة أنه: كان رسول الله صلي الله عليه وآله يحدّثنا ونحدّثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه.

هب أنّ لك صديقاً عزيزاً تطلب لقاءه كلّ الطلب، ولم تره منذ سنوات، وقيل لك فجأة إنّه ينتظرك الآن علي الباب، فكيف تسرع للقائه تاركاً كلّ حديث أو عمل؛ فهكذا كان رسول الله صلي الله عليه وآله إذا حضرت الصلاة ترك كلّ شيء متّجهاً للقاء الله تعالي.

ولا يستساغ تفويت فضيلة الصلاة لوقتها إلاّ عند الضرورة الأهم.

يروي عن داود الصَّرمي أنّه قال: كنت عند أبي الحسن

الثالث سلام الله عليه يوماً فجلس يحدّث حتي غابت الشمس، ثم دعا بشمع وهو جالس يتحدّث. فلما خرجت من البيت نظرت وقد غاب الشفق قبل أن يصلّي المغرب ثم دعا بالماء فتوضّأ وصلّي. مما يبدو أنّ الإمام عليه السلام كان يتحدّث مع بعض المتأثّرين بالتيارات المنحرفة والتي انتشرت في عصره، فاستمرّ علي عمله التبليغي حتي فات وقت الفضيلة. وهذا يعني أنّ التبليغ مقدّم علي سائر المستحبّات.

وهكذا فيما إذا اتّفقت ليلة القدر أو ليلة الجمعة أو ليلة النصف من شعبان أو المواسم الأخري التي تكثر فيها الأدعية والمستحبّات، وزاحمت التبليغ فالأرجحية تكون للتبليغ.

مثلاً: في ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان يستحبّ قراءة سورة القدر ألف مرّة، وصلاة مئة وثلاثين ركعة من الألف ركعة في كلّ شهر رمضان وتستحبّ أمور أخري كثيرة، ولكن إذا تزاحمت المستحبّات مع التبليغ وأردت الحصول علي ثواب أكثر فقدّم التبليغ لأنّ الأنبياء والأئمّة سلام الله عليهم كانوا يعملون كذلك.

ويمكنك القيام بالأمرين معاً، فمثلاً: إذا كان هناك شباب مستعدّون للتلقّي والهداية والتوجّه للدعاء وكانت ليلة القدر أمكنك أن تشترك معهم في قراءة دعاء الجوشن الكبير ورفع المصاحف… فهذا نوع من التبليغ العملي وهو مطلوب أيضاً. ولكن إذا دار الأمر بين أن تنهض بمهمّة التبليغ أو تخلو بنفسك وتقرأ سورة القدر ألف مرّة أو تصلّي المئة والثلاثين ركعة المستحبّة وما أشبه، فالتبليغ لاشكّ يكون أفضل في التقديم. والعارف يحاول الأخذ بالأفضل دائماً.

التأهّب للتبليغ

فعلي الإخوة الذين يتوجّهون إلي التبليغ أن يعلموا أوّلاً أنّ مهمّتهم هي مهمّة الأنبياء عليهم السلام الذين صرفوا معظم وقتهم من أجل إرساء دعائم التبليغ.

كما عليهم أن يتهيّأوا للأمر وللأسئلة المتنوّعة التي قد يواجَهون بها، وألاّ ينزعجوا من الأسئلة الساذجة بل حتي

السفيهة التي قد يواجهون بها أحياناً، بل عليهم أن يفتحوا صدورهم للناس، ويعلموا أنّه ليس كلّ الناس علي حدٍّ سواء.

جاءني يوماً أحد المبلّغين وقال: لقد سُئلت اليوم أغرب مسألة. قلت: وما هي؟ قال: كلّ شيء فكّرت فيه إلاّ هذا السؤال. قلت: وما هو؟ قال: جاءني أحد الناس وسألني عن أمّ بعض الأصحاب، ما اسمها؟ فقلت له: دعني أراجع المصادر، ثم عدت إليه وأجبته.

صحيح أنّ معرفة اسم أمّ فلان الصحابيّ ليس من أصول الدين ولا من فروعه ولا من الأخلاقيات ولا من آداب الإسلام ولا ولا… إلا أنّ المبلّغ ينبغي أن يكون رحب الصدر حليماً. فلا فائدة في علم دون حلم، بل قد يكون العلم وبالاً علي صاحبه لا سمح الله. ونحن نقول في الدعاء: «كريم حليم ذو أناة».

لا تردّ أحداً مهما كان سؤاله، بل استقبل الجميع، واحرص علي أن تجيب كلاًّ بمستوي عقله.

وإذا كان الأصل في أعمالنا الاقتداء بالأئمّة المعصومين سلام الله عليهم وأنّ المتقدّم لهم مارق والمتأخّر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق كما نقرأ في أدعية أيّام شهر شعبان بعد الصلوات - فلنفتح صدورنا إذاً لكل الناس ونشجّعهم علي أن يسألوا عما يختلج في صدورهم وما يدور في أذهانهم، فهكذا كانت سيرة النبي الأعظم والأئمّة المعصومين من أهل بيته سلام الله عليهم.

كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم

إنّ لأسلوب المبلّغ وسلوكه أكبر الأثر في التبليغ. فمن الطبيعي أن يتناسب تأثّر الناس بنا مع أعمالنا وتصرّفاتنا وصدقنا ومطابقة عملنا لقولنا.

وليكن تعاملنا حتي مع أضعف الناس علماً وإيماناً بنحو لا يترك لديه انطباعاً سيئاً عنّا. قد لا يكون الإنسان متكبّراً ولكن هذا وحده لا يكفي، بل ينبغي أن لا يترك انطباعاً يوحي بذلك أيضاً. فإنّ لطلاقة الوجه والبِشر والتواضع كما لجمال

التعبير وحسن الاستماع وهكذا الحلم أثراً كبيراً في نفوس الناس يفوق تأثير الأقوال التي تنطلق عبر اللسان، وكما في المرويّ عن أبي عبد الله سلام الله عليه: «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم».

صفات المبلّغ

صحيح أنّه، ينبغي للمبلّغ أن يكون بشّاً طلق الوجه، ولكن هذا لا يعني أن يضحك دائماً ويقهقه لأتفه الأسباب، لأنّه كما ينبغي للمبلّغ أن لا يكون عبوساً، كذلك ينبغي له أيضاً أن يكون وقوراً ولا يكون مبتذلاً. فلو أنّ شخصاً عاميّاً استخدم في عبارته إحدي العبارات السوقية، فلا تقطّب وجهك أمامه فينفضّ من حولك، ولا تشترك معه وتضحك ضحكة طويلة وعريضة فينقلب مجلسك إلي نادٍ يُتباري فيه بإطلاق مثل هذا النوع من الكلمات غير اللائقة.

حاول أن تنسجم مع كلّ مَن يوجّه إليك سؤالاً، فربّ شخص لا يكون له شأن أو ثقافة يهديه الله تعالي علي يديك، بل ربّما يأتي يوم تري مسجداً أو مدرسة دينية فيها حوزة علمية تخرّج منها علماء يكون قد أسّسها ذلك الشخص الذي كانت هدايته علي يديك.

وكما قلت آنفاً فالعديد من العلماء والأخيار الذين كانوا ينحدرون من أصول غير موالية لأهل البيت سلام الله عليهم أوغير مؤمنة قد هداهم الله فأصبحوا اليوم نجوماً في سماء العقيدة والإيمان؛ ومن الأمثلة علي ذلك أحد علمائنا القدامي الذين يفخر الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه بالتتلمذ علي يديه عدّة سنوات، قيل: إنّ جدّه كان شخصاً غير لائق، ولكن ابنه هداه الله علي يد أحد المبلّغين، ورزق بولد صار فيما بعد أحد المراجع والعلماء الكبار، فكتابه الفقهي مازال يحظي بأهميّة بالغة في الأوساط العلميّة. فقد اُلِّفت بعده الكثير من الكتب من قِبل علمائنا كالشيخ الأنصاري والآخوند الخراساني والسيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي.. وبعده جاء

الشيخ محمد حسين الأصفهاني (صاحب الفصول) وكان معاصراً للمحقق الميرزا أبي القاسم بن الحسن الشفتي القمّي (صاحب القوانين) ومازال كتابه في القمّة.

فلو جاء إليكم شخص وكان أبوه ضالاًّ أو ظالماً في حياته ثم مات أو قُتل، فلا ترفضوا استقباله فلعلّه يهتدي علي أيديكم. فإنّه لم يُسمع أنّ رسول الله صلي الله عليه وآله طرد أحداً أبداً، بل حتي وحشيّ قاتل حمزة لم يزد أن قال صلي الله عليه وآله له: «غيّب وجهك عنّي».

الخلاصة

حاولوا أن تستفيدوا من التبليغ بالأسلوب والقول جميعاً لكي تحصلوا علي نتائج جيّدة. ولا تنسوا الإخلاص منذ الآن؛ فإنّ الشيطان قد يأتي أحدكم ويقول له: إذا ما أصبحتَ مبلّغاً جيّداً ونجحت في عملك فسيصبح لك مريدون مخلصون يقبّلون يديك، ويرفعون الصلوات عند قدومك.

نعم، ربّما سيكون ذلك لو نجح حقّاً، ولكن لا ينبغي له أن يستحضر هذا المعني في ذهنه أبداً، لأنّ الشيطان يحاول أن يقحم هذا الهاجس بأن يجعله كهدف في الذهن، لذا فليحاول أن يزيحه ليربح.

نسأل الله تعالي أن يوفّقنا جميعاً لما هو المطلوب ولما هو مطابق لسيرة الأنبياء وأهل البيت سلام الله عليهم أجمعين.

(8) الإنفاق وتربية النفس

(8) الإنفاق وتربية النفس

قال الله تعالي في كتابه الكريم: ?لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّي تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ?.

الإنفاق الذي يربّي النفس

غاية الأخلاق تتلخّص في مسألة واحدة وهي تربية النفس وإصلاحها، وهي من أعقد المسائل وأصعبها، لأنّ كثيراً من الناس قد ينجحون في مسائل صعبة ولا ينجحون في هذه المسألة، بل يمكن القول إنّها ركيزة أساسية ضمن ركائز الهدف من خلق الله تعالي للكون والحياة والإنسان وبعث الرسل والأنبياء وجعل الأوصياء؛ ولهذا نلاحظ اهتمام القرآن الكريم والأحاديث الشريفة في الغالب في الدعوة إلي تحقيقها؛ ومن ذلك قوله تعالي: ?لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّي تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ?.

إنّ الإنسان إذا أنفق الرديء أو ما فاض من ماله فهو وإن كان إنفاقاً لبعض المال وقد ينفع من أنفق عليه، غير أنّه لا يمكن أن يصل بصاحبه إلي ساحل البرّ والإحسان، بينما لو كان إنفاق الإنسان ممّا يحبّ ولا يستغني عنه، فهذا بعينه هو الذي يربّي النفس ليصل بها إلي ما تنشده الآية الكريمة.

إنّ الله لا يحتاج إلي الإنفاق ولا إلي المنفق، لأنّه تعالي قادر علي إغناء الناس فلا يكون فقير واحد محتاج للإنفاق، ولكنّه سبحانه جعل هناك فقيراً وآخر غنيّاً، ومحتاجاً ومنفقاً، لكي يكون هناك امتحان وتربية.

ولا شكّ أنّ هذه التربية لا تتحقّق فيما لو كان هناك فقير جائع وأعطيتَه أرغفةً من الخبز لا تحتاج إليها، وإن كان هذا إنفاقاً أيضاً ويعدّ عملاً صالحاً تثاب عليه، ولكن إن استطعت أن تعطيه أرغفة الخبز مع حاجتك إليها فهذا يعني أنّك بلغت مرحلة عالية من تربية النفس. قال الله تعالي: ?وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَي حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا? أي إنّهم يُطعِمون الطعام مع حبّهم له بناءً علي بعض التفاسير التي تُرجع الضمير في «حبّه» إلي الطعام.

وهذا لا يتحقّق من خلال

تقديم الطعام الزائد عن الحاجة الذي لا تجد النفس رغبة فيه، بل لابدّ أن يكون الإنسان محتاجاً لذلك الطعام الذي يقدّمه وراغباً فيه ومع ذلك يقدّمه لغيره، وهذه الحالة هي التي تساهم في تربية النفس وتُعَدّ من الفضائل؛ لأنّ المراد من الفضائل والأخلاق تربية الإنسان نفسه، وأن يكون هو القائد لها المسيطر عليها وليس العكس.

إن السيطرة علي النفس تحناج إلي ترويض وتمرين قد يستغرق عقوداً من السنين. وما من أحد غالباً إلاّ ويحبّ أن يكون ذا أخلاق محمودة، وأن يكون مالكاً لزمام نفسه، وأن يكون هو المسيِّر لها لا المسيَّر من قِبلها، وإنّ أغلب الناس لا يحبّ أن يكون عبداً لشهواته. فكلّ إنسان يحبّ أن يكون صالحاً إلاّ القليل من ذوي النفوس السيّئة، والكثير قد يتصوّر أنّ بلوغ هذا الأمر شيء سهل وأنّه لا يحتاج إلي مثابرة وترويض؛ مع أنّه أصعب وأعمق شيء ولا ينال بسهولة. هذا ما يدلّ عليه التركيز المستمرّ من الآيات والأحاديث علي مسألة تربية النفس، والإرشاد إلي كيفيتها.

الأشقّ علي النفس أنفع

روي زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «والله ما عرض لعليّ عليه السلام أمران قطّ كلاهما لله طاعة إلاّ عمل بأشدّهما وأشقّهما عليه».

فمع أنّ كلا العملين فيهما مرضاة الله تعالي، إلاّ أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يختار الأشقّ؛ لأنّ تربية النفس تكون في اختيار الشيء الأصعب.

قد لا يُقصد بالأشقّ هنا الأشقّ علي البدن فقط، بل المقصود به الأشقّ روحياً أيضاً، فإنّ الإنسان لا يحسّ أحياناً بالمشقّة البدنية بسب راحة الروح، ومثاله السّهَر، فقد يكون شاقّاً بدنياً علي مَن اعتاد أن ينام الليل كما هو حال أغلب الناس ولكنّه روحيّاً لا يعود كذلك بالنسبة لمن حضر عنده صديق حميم أو ذو

رحم قريب بعد غياب وفراق طويل، فإنّ مثل هذا الإنسان قد لا يأتيه النوم أصلاً لأنّ الروح لا تستصعب السهر في هذه الحال، بل لا تشعر به لأنّها تعيش الأُنس بلقاء الحبيب الغائب. إذاً عمدة المقصود من الأشقّ ما هو أشقّ علي الروح، وهو ما يربّي الإنسان ويقرّبه إلي الله عزّ وجلّ أكثر.

إنّ عامل البناء الذي يتقاضي أجراً مضاعفاً لقاء عمله في اليوم الممطر مثلاً، سيشعر بالأسف إذا فاته العمل في ذلك اليوم؛ لأنّه سيخسر أكثر مما لو تغيّب عن العمل في يوم عادي. ولو قيل له: ينبغي أن تكون فرحاً لأنّك تخلّصت من عناء العمل في يوم ممطر. لقال في الجواب: ولكنّي فوتُّ أجراً مضاعفاً كنت سأحصل عليه لو كنت أعمل في هذا اليوم.

والحالة نفسها تصدق علي العامل في سبيل الله، فإنّ المؤمن الحقيقي يبحث عن أشقّ الأعمال المحبوبة لله تعالي لينال قربه وأجره أكثر، و كما في الحديث: فإنّ «ثواب العمل علي قدر المشقّة فيه».

أفضلية الإنفاق علي الأرحام

ولعلّ هذا أحد أسباب تأكيد الأحاديث بأنّ الإنفاق علي الوالدين أفضل من الإنفاق علي سائر الأرحام، وأنّ الإنفاق علي الأرحام أفضل من الإنفاق علي غيرهم، لأنّ أقارب الشخص عادة لا يستعظمونه إذا أنفق عليهم لأنّهم يعرفون في الغالب حدود قدرته المالية، فلو أنّ شخصاً دخله الشهري ألف دينار أعطي عشرة دنانير لقريب له محتاج فإنّ عطيته ستكون محتقرة وربما اعتبرها القريب إهانة لمعرفته المستوي المالي لقريبه، بينما لو أعطي ديناراً واحداً لمحتاج غريب فإنّ عطيته ستقع موقع الرضا والإعجاب من المحتاج لأنّه لا يعرف شيئاً عن مستوي المعطي، ولا يتوقّع منه المزيد.

هذا مضافاً إلي أنّ المنفِق قد يقابَل بالجفاء من قريبه لو أنفق عليه، لأنّ الإنسان يشعر في

العادة بتصاغر أمام المنفِق عليه، وهذا الشعور يكون مضاعفاً إذا كان المنفِق قريباً للإنسان؛ فإنّه قد يتألّم ويغمره شعور بالضعة والحرمان وربما يندب حظّه قائلاً: لماذا أنا فقير محتاج، وفلان الذي هو من أقربائي غنيّ؟ ومن ثم يلجأ إلي الجفاء في محاولة لإطفاء نائرة تألّمه.

ومن الواضح أنّه تزداد الصعوبة عندما يكون الإنفاق علي الوالدين، فإنّ توقّعهما ولا شكّ من ولدهما أكثر، خاصّة إذا كانا علي اطّلاع بمستواه المالي الحقيقي؛ لأنّهما يعتقدان أنّ ولدهما وكلّ ما يملك هو ملك لهما، وأنّ كلّ ما يقدّمه لهما فهو قليل في حقّهما، فمهما كان عطاؤه لهما، فهو قليل في نظرهما غير معظَّم من قِبلهما. وهكذا الحال بالنسبة للنقطة الثانية، وهي الشعور بالتصاغر الذي يشتدّ عند القرناء والأقرباء والتي تستتبع جفاءً وتعالياً، فهي الأخري تكون في حال الإنفاق علي الوالدين أشدّ لزيادة القرب، خاصّة وأنّ الأبوين لا يشعران أنّ ابنهما نظير لهما وحسب، بل يشعران بأنّهما أفضل منه، فيزدادان ألماً إذا كان غنيّاً ويعطيهما، مع فقرهما.

يقول بعض علماء الأخلاق: ربما لهذين السببين توقُّع الأكثر، والجفاء كان الإنفاق علي الأقارب والأرحام أفضل، غير منكرين الأسباب الأخري. وهذان السببان إنّما يصبّان في تربية النفس، لأنّ التغلّب عليهما يعني التغلّب عليها.

كما يمكن أن نضيف لهاتين النقطتين نقطة ثالثة في السياق نفسه وهي أنّه كثيراً ما نلاحظ قطيعة بين الأرحام، وفي مثل هذه الحالة يجد المنفِق صعوبة في التغلّب علي نفسه والاستجابة لداعي الإيمان في الإنفاق علي قريبه المعسر وإن كان قد أساء إليه، ولهذا عدّ الإنفاق علي أُولي الأرحام أفضل من الإنفاق علي مَن سواهم.

صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ

إنّ الإنفاق أمر حسن ومفيد، ولكن الأهمّ أن يربّي الإنسان نفسه لأجل ذلك. ولهذا ورد في الحديث: «صدقة

السرّ تطفئ غضب الربّ».

إنّ صدقة السرّ تربّي المعطي مضافاً أنّ آخذها لا يشعر بالذلّ؛ فإنّ الإطراء أو الإعجاب الذي يحصل عليه المرء فيما لو أعطي علي مرأي من الناس قد يخفّف من صعوبة الإعطاء والصدقة، لإحساسه بكونه قد اشتري بها سمعة وجاهاً، فلا يشعر بصعوبة بذْله. أمّا الصدقة في السرّ فتعني تغلّب المرء علي صعوبة البذل لغياب التشجيع والإطراء والإعجاب وما أشبه. فصدقة السر تطفئ غضب الرب، لأنّها أقرب إلي الإخلاص؛ لأنّ الله تعالي كما ورد في المأثور سريع الرضا، ولكنّه حليم، أي لا يغضب بسرعة. وهذا قد يبدو جمعاً للأضداد إذا ما قيس إلي حالتنا نحن البشر.

فالذين يحلمون ولا يغضبون بسرعة إنّما يكظمون غيظهم لا أنّهم لا يتأثّرون أساساً، وهذا يعني تراكماً في غيظهم حتي إذا امتلأ وفاض كان غضبهم شديداً وبطيء الزوال، وقديماً قيل: «نعوذ بالله من غضب الحليم». أمّا الله تعالي فليس هكذا، فهو سبحانه حليم وهو سريع الرضا إذا غضب، لأنّه عزّ وجلّ هو الرحمة المطلقة، وقد سبقت رحمتُه غضبه، وقد خلقنا ليرحمنا؛ قال تعالي: ? … إِلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ?، أي ليرحمهم.

ولكن مع ذلك لا ينبغي للعبد أن يستصغر أيّة معصية، فلعلّ غضب الله فيها. وعلي العبد أيضاً أن يعمل ما من شأنه أن يزيل غضب الله تعالي، وممّا يطفئ غضبه سبحانه صدقة السرّ، والعلّة في ذلك أنّها تعني أنّ القائم بها قد نجح في ترويض نفسه وتعبيدها لله عزّ وجلّ، إضافة إلي أنّ آخذها لا يشعر بالضعة بين الناس.

الهدف من الفضائل الأخلاقية

إنّ من أهمّ الأمور في المقام هو أن يربّي الإنسان نفسه، فهذا هو الشيء الأساسي، وإن كانت الفضائل الأخلاقيّة في حدّ نفسها جيّدة ولازمة، من قبيل أن لا

يؤذي الناس بلسانه أو خُلقه السيّئ أو سيرته السيّئة أو بخله. وما نقل من قصص العلماء والصلحاء في هذا المجال يدلّ علي ضبط قويّ للنفس.

فما نراه من اهتمام الناس غالباً بقصص الذين ربّوا أنفسهم تربية صحيحة حتي أكثر من اهتمامهم بالمجتهدين رغم أنّ الاجتهاد ليس شيئاً سهل المنال بل يتطلّب من الشخص متوسّط الذكاء تفرّغاً للدراسة المتواصلة لمدّة زهاء عشرين سنة. فرغم هذا ورغم وجود الألوف من المجتهدين في الحوزات العلمية في طيّ الزمان والحمد لله ولكننا لم نرَ كتباً تهتمّ بإحصاء المجتهدين من الشيعة مثلاً، ولكنا نري اهتماماً بنقل القصص التي تحكي جانب بناء النفس عند بعض العلماء مما يدلّ علي أهميّته وندرته وصعوبته.

قصة فيها عبرة

حكي أنّه كان للشيخ الأنصاري زميل في الدراسة اسمه سعيد العلماء، وكانا يحضران معاً عند الأستاذ شريف العلماء رحمهم الله جميعاً وكان الشيخ الأنصاري ينحدر من مدينة شوشتر الإيرانية، فيما كان زميله سعيد العلماء من أهالي مدينة مازندران الإيرانية أيضاً. وبعد مرور عشر سنوات علي الدراسة معاً استدعي المازندرانيون سعيد العلماء لكي يقيم لهم صلاة الجماعة ويفتيهم في المسائل الشرعية ويقضي بينهم ويقضي حوائجهم، فلبّي دعوتهم، فانتقل إلي مازندران وأسّس هناك حوزة وظل فيها، فيما بقي الشيخ الأنصاري في مدينة كربلاء المقدّسة ثم انتقل بعد وفاة شريف العلماء إلي النجف الأشرف وظلّ يواصل الدرس والتدريس والبحث والتحقيق طيلة مرجعية صاحب الجواهر رضوان الله عليه. ولما توفّي صاحب الجواهر كانت الأصابع تشير إلي الشيخ الأنصاري وتطالبه بالتصدّي للمرجعية والإفتاء وإصدار رسالة عملية لكي يقلّده الناس. ولكن الشيخ الأنصاري أجاب مناشديه بالتصدّي للمرجعية أنّه يشترط الأعلمية في مرجع التقليد. مشيراً الي أنّ زميله سعيد العلماء كان أذكي منه أيام دراستهما في كربلاء

لدي شريف العلماء، مرشداً الأمّة لتقليده. وذهب وفد من العراق إلي مدينة مازندران في إيران وعرضوا الأمر علي سعيد العلماء وطلبوا منه أن يصدر رسالة عملية ليتسنّي لهم تقليده، ولكنه امتنع معلّلاً بالقول: إنني انقطعت عن البحث والتحقيق منذ مغادرتي كربلاء لأتفرّغ لإمامة الجماعة وهداية الناس في مازندران فيما واصل الشيخ الأنصاري الدرس لدي شريف العلماء ومن بعده صاحب الجواهر وكان متفرّغاً للبحث والتحقيق، فصار أعلم منّي وإن كنت سابقاً أعلم منه.

ولما عاد القوم إلي الشيخ الأنصاري ونقلوا له مقالة سعيد العلماء أجابهم إلي طلبهم وكتب حاشيته علي كتاب «نجاة العباد» الرسالة العملية لصاحب الجواهر.

إنّ هذه القصّة هي إحدي القصص الكثيرة التي تنقل عن الشيخ الأنصاري وتحكي سموّ روحه وتهذيب نفسه. وجدير بتلك القصص أن تكون مربّية للأجيال، ولذلك تراها تلتقط وتُدوّن وتتناقل وتذكر ويُتّعظ بها حتي مع تكرر سماعها، لأنّها نادرة وغير يسيرة التحقق عند كلّ أحد. فربّما احتاج المرء إلي خمسين سنة من التربية لتصل نفسه إلي هذه المرحلة بحيث يعرض عليه مثل هذا العرض و مع ذلك يتورّع وينجح في التنازل عنه، في حين إنّ بعض الناس إذا واجه فقيراً يحتاج إلي مساعدة، ربّما يتردّد في المبلغ الذي ينوي إعطاءه، أيعطيه ديناراً مثلاً أم نصف دينار أم ربع دينار؟ وربّما لا يعطيه في الآخِر ولا يتنازل حتي عن درهم من ماله.

تربية النفس أوّلاً

يُنقل عن المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري، عن أستاذه السيّد الفشاركي الذي كان من العلماء الفطاحل والمجتهدين المحقّقين ومن تلامذة المجدّد الشيرازي رضوان الله عليهم جميعاً أنّه قال: لمّا توفّي المجدّد الشيرازي رجع كثير من الناس في تقليدهم إلي الشيخ محمد تقي الشيرازي، وكان والدي أي والد السيّد محمد الفشاركي مجتهداً

ومرجعاً للتقليد أيضاً، فبعثني رسولاً إلي الشيخ محمد تقي الشيرازي لأسأله إن كان يري نفسه الأعلم أم والدي، قال والدي في رسالته إلي الشيخ: إنّ زوجتي وأولادي كانوا يقلّدون المجدّد الشيرازي وقد توفي، فهل تعتقد أنّك أنت الأعلم لكي يرجعوا في تقليدهم إليك، أم تراني أعلم منك لكي يتحولوا إليّ؟!

يقول السيّد الفشاركي: بعد أن نقلت تحيات الوالد وسؤاله للشيخ الشيرازي، فكّر قليلاً ثم قال لي: أبلغ والدك السلام وقل له: وما رأيه؟

يضيف السيّد الفشاركي: عدت إلي الوالد و أخبرته بمقالة الشيخ محمد تقي، فأرجعني للشيخ لأسأله هذه المرة عن رأيه في تفسير الأعلم، وهل هو الأكثر ذكاء وفطنة أم الأكثر تعمّقاً ودقّة أم الأقوي ذهناً من الناحية العرفية؟ ولمّا عدت للشيخ أرجعني بدوره إلي الوالد يسأله عن تحديده لمفهوم الأعلم. وبعد أن دقّق والدي في هذا الأمر كثيراً، أمر أهله بأن يقلّدوا الشيخ محمد تقي الشيرازي لترجيحه أن يكون هو الأعلم وفق تفسيره لمعني الأعلم.

ويظهر ممّا ذُكر المدي الذي بلغه بعض مراجعنا في الورع وتربية النفس بحيث لا يتنافسون علي المرجعية والزعامة، بل لا يتصدّون لها ولا يدّعونها إلاّ بعد تثبّت وتحفّظ وتدقيق، وبعد أن تقلّدهم الأمّة وعلماؤها المسؤولية وهم أهل لها من حيث العلم والورع والتقي والخلق والسموّ الروحي وتهذيب النفس والزهد في الدنيا ونبذ كلّ مظاهرها من شهرة وجاه ومال وغيرها. لأنّ الهدف من الفضائل الأخلاقيّة عندهم هو بناء النفس.

وتبقي قصصهم تربّي الأجيال، فربّ واحدة منها غيّرت مجري حياة فرد وجعلته يستقيم؛ فهذه القصص إنّما جاءت كنتيجة لتربية تميّز بها أصحابها تحوّلت فيما بعد إلي صدقة جارية تتناقلُها الكتب والألسن جيلاً بعد جيل.

أقول: إذا كانت «الكلمة الطيبة صدقة» فكيف بالعمل والسيرة الطيبة؟ لا

شك أنّها أوفر حظّاً، وأبلغ شأواً لاستحقاق الصدقة.

فلنحاول نحن أيضاً من الآن أن نسعي في تربية أنفسنا، فإنّ تهذيب النفس وتربيتها ينبغي أن يكون هو الهدف الأسمي من وراء الدراسة والمنبر والتأليف. إنّ تهذيب النفس هو هدف الأنبياء والأوصياء، قال تعالي: ?إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ?، وقال رسول الله صلي الله عليه وآله: «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي».

فمن أتعب نفسه في هذا الطريق ووصل إليه ولو بعد حين، يكون قد وصل إلي الغاية التي من أجلها خُلق. قال تعالي: ?وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ? إِلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ?.

بينما لو أصبح أكثر الناس مالاً، وأصحّهم جسماً، وأدقّهم نظراً دون أن يحقق هذه الغاية، فستذهب حياته كلّها سدي، ولا فائدة ترتجي من كلّ ما حصل عليه، كما صار إليه قارون، الذي حكي الله قصّته في القرآن الكريم. قال تعالي: ?قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَي عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا?.

(9) في التعامل مع الناس

مصانعة المنافق

هناك أحاديث وروايات عديدة تؤكّد علي الإنسان أن لا يُظهر للآخر كلّ ما في قلبه من حبّ وعداء، وما يختلجه من أفكار تجاهه، إلاّ بمقدار ما يقتضيه الظرف، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو نحوهما مما يُعرف من الأدلّة في مظانّها كما في رواية عن الإمام الصادق سلام الله عليه يرويها الشيخ الصدوق في «من لا يحضره الفقيه»، ويؤكّد صحّة سندها المجلسي الأوّل في «روضة المتقين» وفيها: إنّ إسحاق بن عمار أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام يقول: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: «يا إسحاق، صانع المنافق بلسانك، وأخلص ودّك للمؤمن، وإن جالسك يهوديّ فأحسن مجالسته».

من

الطبيعي أنّ المؤمن لا يحبّ المنافق بل يبغضه ويكرهه، إلا أنّ الإمام يأمره هنا بأن يصانعه بلسانه، أي يجامله في الحديث؛ لأنّ من الأخلاق الحميدة للمؤمن أن لا يظهر كلَّ الكراهية التي يحملها في قلبه للشخص الذي لا يتوافق معه علي حال، وإن كان منافقاً، فكيف إذا كان مؤمناً؟

قد يختلف المؤمن عن أخيه المؤمن في أسلوبه أو خلفياته أو عاداته أو ذوقه أو بعض صفاته، إلا أنّ هذه الفوارق ليس من شأنها أن تسلب المؤمن التزامه بالتعاليم الإسلامية، فلا ينبغي للمؤمنين أن يتباغضوا فيما بينهم؛ ولذا أوصي الإمام سلام الله عليه هنا بقوله: «وأخلص ودَّك للمؤمن»، أي عامله بما هو مؤمن، وأظهر حبّك له بغضّ النظر عن شكله ولونه ولسانه أو ذوقه أو تربيته الخاصّة التي لا منافاة فيها مع الموازين الإسلامية.

أمّا المنافق وهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فإنّ الإمام يوصينا بمجاملته: «وصانع المنافق بلسانك»، فهذا هو الخطّ العام للأخلاق الإسلامية، وهو أن تتحدّث وتتعامل مع الناس مؤمنهم، ومنافقهم، وكافرهم بالحسني، وإذا كانت هناك مستثنيات واقتضاءات خارجية في بعض الموارد تستدعي تقديم الأهمّ علي المهمّ، فيرجع فيها إلي مظانّها، ولكنّ الذي يجب أن نفهمه في الخطّ العامّ هو أنّ علي المؤمن أن يكون مدارياً وإيجابيّاً في تعامله وكلامه مع الناس حتّي مع غير المؤمنين كالمنافقين، واليهود الذين وصفهم الله تعالي بأنّهم أشدّ الناس عداوة للمؤمنين.

الاقتداء بنهج النبيّ وأهل بيته

من يتتبّع تاريخ رسول الله صلي الله عليه وآله وأهل بيته الأطهار سلام الله عليهم ومن بعدهم تاريخ العلماء الأخيار، سيجد هذا النهج الأخلاقي القويم في سيرتهم وتعاملهم مع الناس. فقد ورد أنّ النبي صلي الله عليه وآله كان إذا صافحه شخص، لا يسحب يده حتي يكون ذاك هو

البادي.

ومعلومٌ أنّه لم يكن كلّ الذين يصافحهم رسول الله صلي الله عليه وآله من المؤمنين، بل كان فيهم بلا شكّ المنافقون، ومنهم من يعلم بحالهم النبي صلي الله عليه وآله ممن يستحقّون القتل، ولم يقتلهم لئلاّ يقال: إنّ محمداً استعان بقوم، حتي اذا ظفر بعدوّه قتلهم.

وهكذا كان أهل البيت سلام الله عليهم. فمن يتصفّح تاريخهم سيجد النهج نفسه. ومن يطّلع علي سيرة الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، سيلاحظ أنّه كان يتعايش مدارياً في أيّام حكومته حتي مع الخوارج والمنافقين، فكان لا يغلظ معهم في القول حين يتعرّضون بالإساءة إليه بل كان يظهر لهم منتهي اللين والرفق.

قد يقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في موردٍ ما موقفاً خاصّاً بحسب ما يرجع فيه إلي تقدير الإنسان ومعرفته للحكم الشرعي إلا أنّ الخطّ العام هو أن يعامل الناس بالحسني، أمّا المنافقون فلا يُظهر لهم ما في قلبه من بغض، بل يصانعهم بلسانه، لأنّ هذه من الصفات التي كان أهل البيت سلام الله عليهم، يأمرون بها أتباعهم، وهناك روايات عديدة في هذا الباب، فضلاً عمّا تقدّم.

تهذيب النفس طريق الإبداع

إذا كان في الناس عموماً فضلاً عن المؤمنين انحراف، فهو في الغالب انحراف سطحيّ في بداية أمره، لا يلبث أن يزول تدريجياً فيما إذا كان أسلوب مناصحتهم حسناً، ولكنه يتعمّق بواسطة الأساليب الخشنة؛ فإنّ السلوك الحسن غالباً ما يؤثّر تأثيراً إيجابياً في الإنسان المنحرف ويقوّم انحرافه. ومن النادر أن لا يؤثّر هذا الأسلوب في التعامل مع الأفراد، خصوصاً إذا كانوا مؤمنين؛ ولذا عندما نبحث في بعض الجوانب المهمّة من تاريخ علمائنا الماضين رضوان الله عليهم، نري أنّ هذا الأسلوب من الأخلاق في تصرّفاتهم هو الذي فسح لهم الطريق لأن يبدعوا في مجال

أعمالٍ ضخمة قد خلّدها التاريخ.

أمّا الذين لم يتوانوا عن إظهار ما في قلوبهم من مشاعر سلبية نحو هذا وذاك، فإنهم لم يستطيعوا إنجاز ما حقّقه أولئك الذين سما بهم سلوكهم الأخلاقي الرفيع في الوصول إلي ما وصلوا إليه.

فالسبب المهمّ الذي مكّن المجدّد الشيرازي رضوان الله عليه من محاربة الغزاة المحتلّين في زمانه وتعبئة كلّ الطاقات الشعبية ضدّهم، هو تجنّبه عن الصغائر في الأمور وابتعاده عنها، لعلمه مسبقاً أنّ الإنسان إذا اشتغل وهو بهذا المقام الرفيع بنواقص فلان وفلان لا يسعه المجال لكي ينصرف لمكافحة الاستعمار.

بينما كان هناك عالمان من معاصريه يمثّلان الجهة السلبية، ولذلك لم يُنقل عنهما في الميادين الاجتماعية شيء يذكر، ولو ذُكر اسميهما فلعلّ معظمكم لا يتذكر أنّه سمع بهما، رغم ما توفّرا عليه من مكانة علمية قد ترتقي إلي مستوي علميّة المجدد الشيرازي، إلا أنّ تعاملهما الاجتماعي السلبي قد أقصاهما عن التاريخ.

يُذكر أنّه كان في زمانهما شخص له مقدرة علمية يشار لها بالبنان، إلا أنّه كان متهكّماً، تصدر منه تجاه العلماء الماضين بعض التعبيرات غير اللائقة عند مناقشة آرائهم، فحضر هذا يوماً مجلساً كان يحضره أحد العالمين آنفي الذكر أيضاً أعني أحد الرجلين اللذين يرتقي مستواهما الي مستوي المجدّد الشيرازي فلمّا قُدّم الشاي لذاك الشخص وجاء صاحب المجلس ليرفع من أمامه صحن الشاي، ناداه ذلك العالم من جانب المجلس: مرهم ليغسلوا هذا صحن الشاي! إشارة منه إلي كفر ونجاسة مستعمله أي الرجل صاحب التعبيرات اللاذعة فلقِّب الرجل علي أثر ذلك بالمكفَّر، أي من رُمي بالكفر، ولكن بسبب السلوك التكفيري لم يستطع هذا المكفِّر علي ما له من باعٍ في المقام العلمي أن يبرز في الميادين الاجتماعية من تاريخه سوي في هذا الأمر،

حتي عُرف واشتهر به، أي لا يُنقل عنه من الأمور الاجتماعية سوي أنّه كفَّر فلاناً، بينما عُرِف زميله المجدّد رضوان الله عليه بأنّه كافح الانجليز من خلال إحباطه لمؤامراتهم ضدّ المسلمين، وخير شاهد علي ذلك فتواه في تحريم استعمال التنباك والتي عُرفت فيما بعد ب «ثورة التنباك».

فإذا أخذ الإنسان المؤمن هذا الأمر بنظر الاعتبار، وأخلص ودّه للمؤمن وصانع غير المؤمن من منافق أو كافر، أمكنه أن يقطع شوطاً في هداية الناس، فضلاً عن تقويم نفسه. وهذا معناه أننا لو تعاملنا مع الناس بهذه النفسية وداري كلّ واحد منّا مئة منافق مثلاً فأغلب الظن أنّه سيعود تسعون منهم إلي جادّة الصواب ومنهل الخير شيئاً فشيئاً. وينبغي أن لا يثنينا تخلّف الباقين، كما لا ينبغي أن نضحّي بالتسعين ما دام لديهم هذا الاستعداد في الميل نحو الهدي بسبب امتناع أولئك العشرة الباقين عن طريق الهدي والصلاح.

أحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك

الناس عموماً يُستمالون باللين، وتؤلّفهم الرأفة، وتنفّرهم الحدّة. فإذا استطاع الإنسان كسب ودّ الناس واُلفتهم وعدم تنفيرهم عن نفسه، أصبح أكثر توفيقاً في أموره وأعماله.

نحن نحبّ الحلم، ونحبّ الدفع بالتي هي أحسن وغيرهما من الأمور الحسنة، فهكذا الآخرين. مثلاً: لو صدرت منّا زلّة، فماذا نُحبّ أن نُكافأ به، هل سوي الحلم والصفح؟ كذلك لو صدرت من غيرنا تلك الزلّة، فإنّه يحبّ الشيء نفسه، ويُحبّ أن نحلم ونصفح عنه.

فينبغي لنا دائماً أن نُحبّ لغيرنا ما نُحبُّه لأنفسنا، ونظهر لغيرنا من أنفسنا ما نرجوه لنا من غيرنا، فالإنسان عند هذه الأمور التي تحدث، ينبغي له أن يضع نفسه مكان غيره، وغيره مكان نفسه.

جاء شخصٌ يوماً إلي الشيخ محمّد تقي الشيرازي رحمه الله يطلب منه ما يُسمّي بالصلاة والصوم الاستيجاري وكان الشيخ يشترط العدالة

في المستأجر لقضاء الصلاة والصوم عن الميّت فقال له الشيخ: الآن لا يوجد عندي شيء. فغضب الرجل وسبّ الشيخ ثم انصرف! وبعد مدّة جيء بأموال إلي الشيخ لغرض قضاء صلاة وصوم، فقرّر إرسالها إلي ذلك الرجل الذي سبّه. فقيل له: ألا تشترط العدالة فيمن يقضي صلاة أو صوماً عن ميّت؟ قال: نعم. قالوا: إن كان ذلك الرجل عادلاً فقد فسق عندما سبّ مؤمناً. قال: غير معلوم أنّه كان ملتفتاً إلي قوله، وذلك لشدّة حاله وفقره.

فهذا الخلق الرفيع لهذا العالم الجليل، حقيقٌ بالتمجيد والثناء، فلننظر لو وقعت لنا القضية نفسها، فهل نفعل ما فعله الشيخ؟ أو أنّ سبّه يوجب شكّنا في عدالته علي أقلّ تقدير، فلا نسلّمه شيئاً يقتضي العدالة فيه؟ هذا إن لم نقل: إنّ مجرّد صورة اعتدائه هذا نعتبره تجرّياً علي العصيان والظلم. فطبيعة الإنسان كثيراً ما توحي إليه هذا الإيحاء السلبي تجاه غيره لتميد به عن جادّة الأخلاق الحسنة.

فإن لم نحاول تغيير هذه الطبيعة فسنبقي نتصرّف مع الناس سلبيّاً حال وقوعنا في قضية مشابهة، بينما لو حملنا الأمر علي محامله الحسنة لرؤيتنا له من زاوية أخري لوضعنا له الحلول المناسبة وبحسب ما تقتضيه نفوسنا من حبّ الخير والصلاح، ولا يتأتّي ذلك إلاّ إذا روّضنا النفس علي التحلّي بالخصال التي تحلّي بها أئمتنا الأطهار سلام الله عليهم وعلماؤنا الأبرار.

ينقل عن العلاّمة الحلّي رضوان الله عليه قصّة في هذا المجال، وهي أنّ الفقهاء كانوا يقولون: إنّ ماء البئر ينجس بملاقاة النجاسة، وذلك لعدم اعتبار ماء البئر كرّاً أو جارياً. وكان العلاّمة علي شكّ من هذه المسألة. فاتّفق أن سقطت نجاسة في بئر بيته، فبادر إلي طمّها فوراً، ثم راجع المسألة بدقّة، وبعد أن عثر علي

الحكم الشرعي، أفتي بطهارة ماء البئر، واعتبار حكمه حكم ماء الكر، وإن كان أقلّ منه، فلا يتنجّس بملاقاة النجاسة من غير تغيير.

ربّما كان ضمن وجه عمله هذا هو أن لا تؤثّر مصلحته الشخصية ولو قليلاً جداً في بحثه عن الأدلّة والشواهد التي انتهت به إلي طهارة ماء البئر وعاصميّته.

فقد روي عن أهل البيت صلوات الله عليهم، قولهم: «من اتّهم نفسه أمِنَ خدع الشيطان»، و «من اتّهم نفسه فقد غالب الشيطان»، فإذا أراد الإنسان أن يربّي نفسه، فعليه أوّلاً أن يتّهمها دائماً في تصرّفاته الشخصية، وذلك بأن يجعل نفسه مكان غيره في كلّ القضايا، وكذلك يجعل غيره مكان نفسه، لأنه في كثير من القضايا يحكم لنفسه بشكل، ولغيره بشكل آخر، يعني نفس القضية إذا وقعت له يحكم لنفسه بشكل ينسجم مع غرائزه وميوله، وإذا وقعت لغيره يحكم له بشكل آخر مغاير لما حكم به لنفسه.

يُنقل عن الشيخ نصير الدين الطوسي وكان عالماً فيلسوفاً فقيهاً، وحاكماً أيضاً أنّ شخصاً كتب إليه رسالة فيها تأنيب وتقريع وإساءة أدب، ومن جملة ما كتب فيها (يا كذا) فكتب له الشيخ الطوسي: … وأمّا وصفك لي ب (ياكذا) فهذا خطأ، لأنّ الكلب حيوان يمشي علي أربع، وأنا أمشي علي اثنتين، والكلب يغطّي كلّ بدنه الشعر وأنا لست كذلك، فضلاً عن ذلك فأنا حيوان ناطق بحسب الفصل المنطقي والكلب حيوان غير ناطق.

فهذا النفَس الأخلاقي في الردّ من جانب الشيخ الطوسي مدعاة لتمجيده والإطراء عليه؛ لما له من الثقة بالنفس وعدم المبالاة بما تعرّض له من قبل ذلك الشخص، والتركيز بدلاً من ذلك علي الأمور المهمّة الشرعيّة والاجتماعيّة.

أمّا لو وقعت لنا مثل هذه القضية وجاءنا البريد برسالة من شخص تحمل عبارات كتلك، فهل

نستطيع من دون تربية أنفسنا أن نجيب عليه بمثل جواب الشيخ الطوسي ولا نحاول ردّه بالمثل ونحو ذلك؟

الترفّع عن صغائر الأمور

لا شكّ أنّ الناس غير متّفقين في الأذواق فضلاً عن الأخلاق، فينبغي لمن يتعامل معهم أن يترفّع عن وضائع الأمور، وهذا الأمر يتأكّد بالنسبة إلي العلماء ورجال الدين لأنهم مرتبطون ارتباطاً وثيقاً مع الناس، فيكونون عرضة للمشاكل أكثر من غيرهم، فهناك من يعارضهم في مسألة أو يردّهم في رأي أو يختلف ذوقه مع أذواقهم، بل قد يصل الأمر إلي وجود من يواجههم بالسبّ والشتيمة، لغاية ما. فلو انشغل رجال الدين بهذا وذاك، ستتلف أعمارهم ويضيع تاريخهم وجهدهم دون جدوي.

لقد علّمنا أئمتنا سلام الله عليهم أن نصانع المنافق بألسنتنا فضلاً عن ودّ المؤمن لنكون قادرين علي تغيير المجتمع فضلاً عن تربية أنفسنا.

يُنقل عن المجدد الشيرازي رضوان الله عليه أيضاً: أنّ مجموعة من الأعداء المنافقين قتلوا له ولداً وكان أكبر أولاده فلم يتّخذ رحمه الله تجاههم موقفاً غير موقف الحلم، فصفح عنهم صفحاً جميلاً! مع أنّه كان من حقّه شرعاً أن يطالب بدم ابنه وكان يمكنه ذلك، لأنّ الأمور كانت مهيّأة له، إلاّ أنّه رحمه الله لم يفعل ذلك، وإلاّ لم يكن ليستطيع تعبئة كلّ الطاقات في نفسه وفي المسلمين لمجابهة الاستعمار البريطاني الذي كان قابعاً علي صدر الأمّة آنذاك.

والأمر نفسه حدث للسيّد أبي الحسن الأصفهاني رحمة الله عليه حين قُتل ولده، فاعتُقل قاتلُه، إلاّ أنّه وهو المفجوع بولده الذي كان خير أولاده طلب من المسؤولين وبإصرار، أن يُخلوا سبيل القاتل، وهكذا أُخلي سبيل القاتل وترك. فهذا التوجّه والخلق والاشتغال بالأمور المهمّة التي يُنظر فيها إلي المصلحة العامّة، هو الذي أوصل السيد الأصفهاني رحمه الله إلي ما وصل إليه

من علوّ شأن ورفعة.

فالإنسان إذا انشغل بالأمور الصغيرة، سوف لا يصل للأمور الكبيرة والمهمّة.

إنّ طالب العلم الديني عند بداية دخوله في مجال الدراسة أو التدريس أو الموعظة أو التأليف، يدخل بآمال كبيرة ورؤي واسعة، غير أنّ انشغاله برطب الحياة ويابسها يعرقل سيره ويحبط بالنتيجة آماله ورؤاه التي شرع في السير من أجلها.

لذا فعندما نمجّد الشيخ نصير الدين الطوسي أو المجدّد الشيرازي أو الشيخ محمد تقي الشيرازي أو السيّد أبا الحسن الأصفهاني رحمهم الله وغيرهم من العلماء الأعلام، علي مثل تلك الأخلاق الرفيعة، فلا ينبغي أن نكتفي بذلك، بل علينا أن ننهج نهجهم وذلك بترويض أنفسنا للوصول إلي مثل ذلك الخلق الكريم والسير بين الناس بالحسني.

فإذا استطاع طالب العلم أن يكون بهذا المستوي عندها سيحقّق آماله وتطلّعاته التي من أجلها بدأ، وقطع الأشواط أملاً في الوصول إليها، وإلاّ فلا يرجو أن يحقّق شيئاً، لأنه سيبقي يدور في مجال محدود، ضمن محيط ضيّق وأعمال صغيرة، وإن كانت بعضها حسنة في نفسها، ولكن قد لا تكون كذلك بلحاظ أمور أخري، فيكون هذا الإنسان قد صرف عمره الذي كان ينبغي أن يصرفه لهداية الملايين من الناس في هداية الآحاد وربما العشرات، علي أحسن التقادير، هذا إذا لم يكن قد صرفه في توافه الحياة وهوامشها.

ليس للإنسان عُمران في هذه الحياة، فلو صرف عمره في الأمور التي هي أقلّ أهمية، فإنّه سيُصرف بذلك عن الأمور المهمّة، وبمقدار ما نتأخّر في الأمور المهمّة يتقدم أعداؤنا فيها!

والتوفيق فيما ذُكر يحتاج إلي الاستعانة الدائمة بالله تعالي والاستعاذة به من الزلل في المنعطفات الخطيرة، وفي الوقت نفسه يحتاج إلي تركيز وجهد مع صبر، فالله تعالي لا يقطع رجاء من يرجو فضله. نسأله سبحانه التوفيق بمنّه

وفضله.

(10) المداراة من طرق هداية الناس

(10) المداراة من طرق هداية الناس

وردت في المداراة أحاديث وروايات كثيرة، يظهر منها مدي مكانة المداراة في الإسلام؛ منها:

ما روي عن النبي صلي الله عليه وآله قوله: «من عاش مدارياً مات شهيداً».

وقوله صلّي الله عليه وآله: «أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض».

وقوله صلّي الله عليه وآله: «بُعثت بمداراة الناس».

وكذلك: ما رُوي عن الامام الحسن المجتبي عليه السلام: «مداراة الناس نصف الإيمان».

كما يختلف الناس في أشكالهم وألوانهم كذلك يختلفون في أخلاقهم وأذواقهم، ولا يكاد يوجد إنسان يشبه الآخر في كلّ الجوانب، والمداراة هي واحدة من الجسور التي يمكن عبرها التأثير في الناس. وهي تختلف عن المداهنة.

فعن أمير المؤمنين سلام الله عليه أنّه قال: «لا ترخصوا لأنفسكم فتدهنوا، ولا تداهنوا في الحقّ فتخسروا».

الفرق بين المداراة والمداهنة

الفرق الرئيسي بين المداراة والمداهنة أنّ المداهنة لا تكون في طريق التربية والهداية. ومن يداهن شخصاً يعصي الله تعالي، ليس غرضه مراعاة الأهمّ والمهمّ، بل كسب رضا العاصي علي أيّ حال، فيجاريه من أجل مصالح شخصية، من قبيل أن يحصل علي احترام العاصي أو ودّه، أو يحصل منه علي مكسب مادّي كأن يعطيه مالاً.

والمداهنة مذمومة ويحاسَب الإنسان عليها؛ ولذلك روي فيما أوحي الله تعالي إلي النبيّ شعيب: «إني معذّب من قومك مئة ألف، أربعين ألفاً من شرارهم وستّين ألفاً من خيارهم، فقال: ياربّ هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ فأوحي الله عزّ وجلّ إليه: داهَنوا أهل المعاصي فلم يغضبوا لغضبي».

أمّا المداراة فهي من الدراية والعلم والمعرفة والتوسّل بطرق الهداية لجلب الإنسان إلي الحقّ أو إبقائه عليه.

وبعبارة أخري: المداراة أن يكون موقف الإنسان تجاه الناس موقفاً يخدم في استقطاب الناس وهدايتهم إلي الإسلام والأخلاق والفضيلة بشتّي السبل المشروعة.

من نداري؟

قُسّم المسلمون الأوائل من حيث الأدوار إلي أربعة أقسام، فبعض امتاز بالقِدم في الانتماء فقط دون أن يكون له قَدَم ودور وموقف مشهود، وبعض وإن لم يكن له قِدم بأن كان حديث العهد في الإسلام إلاّ أنه امتاز بالقَدَم والدور، وثالث جمع بين الفضيلتين، ورابع كان فاقداً لهما.

ومثال الفريق الثاني، الذي له قَدم وإن لم يكن له قِدم: ذاك الذي أسلم في الحرب مع رسول الله صلي الله عليه وآله وتشهّد الشهادتين ثم قُتل دون أن تمهله الحرب لصلاة بعدها أو صيام.

كما يمكن أن يكون «الحرّ بن يزيد الرياحي» مصداقاً لذلك لأنّه كان في معسكر قد شهروا السيف في وجه الإمام الحسين صلوات الله عليه، أي كان في صفوف ناصبي العداء لأهل البيت سلام الله عليهم، ولكنه تاب قبل

بدء المعركة واستشهد ربما قبل أن يصلّي صلاة صحيحة بعدما انحاز إلي لواء أهل البيت سلام الله عليهم؛ لأنه وكما يروي عنه قال للإمام الحسين: «يابن رسول الله، كنت أوّل خارج عنك فدعني أكون أوّل شهيد بين يديك».

أمّا مثال الفريق الأخير، وهو الذي لا قِدم له ولا قدَم، كالشيخ الذي يدخل الإسلام ويبدأ الالتزام وقد ناهز عمره السبعين مثلاً فتراه يصلّي ويصوم ويؤدّي العبادات ولكنه لا يتحمّل الشدّة في الدين، وربما انفلت عنه عند تعرّضه لأبسط امتحان، أو ارتكب المعصية مع أوّل شدّة تمُرّ عليه؛ فمن الجدير المداراة مع أمثال هؤلاء، لضعف إيمانهم، كما ينبغي المداراة مع الشباب أيضاً من أجل عدم انفلاتهم عن الطريق وتوغّلهم في المعاصي.

المداراة: تقديم الأهم علي المهم

كنت قد عقدتُ مجلساً في كربلاء المقدسة في زمن بعيد لمجموعة من الشباب لبيان أصول الدين والأحكام والآداب الإسلاميّة. وكان يحضره إلي جانب طلاب العلوم الدينية شباب من طلاّب المدارس الحديثة وبعض المثقّفين. ففي إحدي الجلسات لفت انتباهي شابّ لم أعهد حضوره من قبل ولم أعرفه، رأيته متختّماً بخاتم من ذهب ويظهر أنّه كان جديد عهد بالزواج.

إلاّ أنّي رأيت عدم التعجّل في نهيه عن التختّم بالذهب؛ لاعتبار كونه جديد عهد في حضوره المجلس، فضلاً عن عدم معرفتي به، فخشيت أن لا يحضر المجلس بعد ذلك إذا نهيته في أوّل تعرّفي به. ولم تكن خشيتي بالطبع من عدم حضوره المجلس، إلاّ لأنّه بعدم حضوره قد يتّخذ مسالك غير سليمة.

وبعد أن نقلتُ القضيّة لوالدي رحمه الله قال لي: حسناً فعلت، دعه يحضر أوّلاً، ويستمرّ في حضوره ليتعلّم أصول الدين وفروعه، وما يترتّب عليه من أوامر ونواه، وبعد أن يقوي إيمانه وترتقي إرادته في الإقدام علي ترك المنكرات يمكنك أن

تطرح عليه المسألة، وتقول له: إنّه لا يجوز له ذلك. فاحتمال عدم حضوره المجلس وارد لو نهيته الآن.

فهذا يُعدّ من معاني المداراة، أي تقديم الأهمّ علي المهمّ، عند التزاحم، من أجل هداية الناس إلي الإسلام أو إبقائهم عليه وعلي أصوله وأحكامه. ومهما يكن، فالمداراة ليست كالمداهنة التي لا ترجو هدفاً كهذا، فتري صاحبها يتوخّي من وراء سكوته علي الباطل أن يصل إلي تحقيق منافع شخصية دنيوية صرفة.

النبي يونس والمداراة

يظهر من الروايات أنّ النبي يونس عليه السلام كان قد ترك المداراة وفعل غير ما ينبغي فعله من باب الأولوية ?فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ? ونزل به ما نزل.

فقد روي عن أبي عبد الله الصادق سلام الله عليه أنّه قال: «كان رسول الله صلي الله عليه وآله في بيت أم سلمة في ليلتها، ففُقد من الفراش، فدخلها من ذلك ما يدخل النساء، فقامت تطلبه في جوانب البيت حتي انتهت إليه وهو في جانب من البيت قائماً رافعاً يديه يبكي ويقول: اللهم لا تنزع منّي صالح ما أعطيتني أبداً. اللهم ولا تكلني إلي نفسي طرفة عين أبداً. اللهم لا تُشمت بي عدواً ولا حاسداً أبداً. اللهم لا تردّني في سوء استنقذتني منه أبداً.

قال: فانصرفت أمّ سلمة تبكي حتي انصرف رسول الله صلي الله عليه وآله لبكائها، فقال لها: ما يبكيك يا أم سلمة؟

فقالت: بأبي أنت وأمّي يارسول الله ولم لا أبكي وأنت بالمكان الذي أنت به من الله، قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، تسأله أن لا يشمت بك عدوّاً أبداً ولا حاسداً وأن لا يردّك في سوء استنقذك منه أبداً، وأن لا ينزع عنك صالح ما أعطاك أبداً، وأن لا يكلك إلي نفسك طرفة عين أبداً.

فقال: يا أمّ

سلمة، وما يؤمنني، وإنّما وكل الله يونس بن متي إلي نفسه طرفة عين فكان منه ما كان منه».

فما كان ينبغي ليونس عليه السلام أن يستميل قومه للإيمان ثم يتركهم بعد مدّة قصيرة، بل كان الأولي مداراته لهم أكثر، لكنّه ترك الأولي لأنّ الله تعالي كما يقول النبي صلي الله عليه وآله في الحديث المتقدّم أوكله إلي نفسه طرفة عين!

وهذا الأمر يلزم علينا ملاحظته أيضاً؛ لأننا في كثير من الأحيان قد نغضب لله تعالي ولكنه غضب عن جهل مركب وإن كان لله لذا يجب علينا أن لا نظهر غضبنا بسرعة لئلاّ يحدث ما ربّما لا تُحمد عقباه. وهذا من المداراة أيضاً.

ثم إنّ الناس إمّا مؤمن أو كافر أو منافق، وكلّهم بحاجة إلي المداراة، فأمّا المؤمن فهو بحاجة إلي المداراة ليزداد إيماناً، والكافر يحتاجها ليسلم، والمنافق ليُقلع شيئاً فشيئاً عن نفاقه ويصير مؤمناً.

والمسلم بكلا قسميه يحتاج للمداراة ليثبت علي إسلامه ويقوّيه.

ولكم في رسول الله صلّي الله عليه وآله أسوة

ومن يتتبّع سيرة الرسول الأعظم يجده صلي الله عليه وآله قمّة في مداراة الناس علي مختلف مشاربهم، حتي أنّه صلي الله عليه وآله قلّما كان يستعمل كلمة «حرام» في وصف ما يجب اجتنابه، بل كان يستبدلها بكلمات أخري من قبيل: «إني لا أفعل ذلك» و «إنّي أكره..» لخفّة وقعهما علي السامع، فكان الناس يعرفون الحرام من خلال هذه التعبيرات دون أن يحصل لهم أي ردّ فعل علي ذلك.

ومن الأمثلة علي مداراة الناس في منهاج الرسول صلي الله عليه وآله عدم قتله لمنافقين كانوا يستحقّون القتل؛ لئلا يُساء فهم الإسلام من بعض الناس، فيتركوه.

فقد روي عن النبي صلي الله عليه وآله قوله: «لو لا أنّي أكره أن يقال: إنّ محمداً استعان بقوم حتي إذا ظفر بعدوّه قتلهم،

لضربت أعناق قوم كثير».

لا شكّ أنّ رسول الله صلي الله عليه وآله لا يقدم علي قتل أحد إلا إذا كان مستحقّاً للقتل، لأنّ القتل أمر دائر بين الواجب والحرام حسب تعبير الفقهاء ولا يوجد قتل مستحبّ أو مكروه أو مباح، كما هو الحال في الفرائض كالصوم مثلاً فهناك صوم واجب وصوم حرام وصوم مستحبّ وصوم مكروه، أمّا القتل فليس فيه سوي الوجوب كمن هدر دمه، أو الحرمة كمن عصم دمه.

لذا فقوله صلي الله عليه وآله: «لضربت أعناق قوم كثير» يعني لاستحقاقهم القتل بالحكم الأوّلي، غير أنّ النبي لم يُجر الحكم لأمر أهمّ وهو عدم لحوق تهمة بالإسلام قد تؤدّي إلي ابتعاد الناس عنه.

وهذا يوضّح ما للمداراة من أهميّة في الشريعة. فكما أنّ الإنسان يتعامل في الأمور المادّية والشخصية علي أساس الترجيح بين الأهمّ والمهمّ، كأن يعطي تارة مبلغاً كبيراً من المال لأحد ولا يعطي مثله لغيره، وذلك بحسب ما يراه من المصلحة والأهمية، أو تارة ينفق من وقته ساعات لشخص ما، ولا ينفق إلا دقائق معدودة لآخر، فكذلك الحال في المداراة حيث ينبغي النظر إلي الأهمّ والمهمّ وتقديم الأوّل علي الثاني، وهذه سيرة الأنبياء والرّسل وبالأخصّ سيرة نبيّنا وأهل بيته المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وبتبعهم الأولياء والعلماء والصلحاء.

المعصومون أسوة

يروي أنّه بعد رجوع النبي صلي الله عليه وآله من غزوة حنين وقد نصره الله تعالي علي المشركين بعد فتح مكّة جاء بالغنائم فنزل بالجعرانة بمن معه من الناس وقسّم ما أصاب من الغنائم بين المؤلّفة قلوبهم من قريش وسائر العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير. قال محمد بن إسحاق: فأعطي أبا سفيان بن حرب مئة بعير، ومعاوية ابنه مئة بعير،

وحكيم بن حزام من بني أسد بن عبد العزي مئة بعير … قال: وغضب قوم من الأنصار لذلك وظهر منهم كلام قبيح، حتي قال قائلهم: لقي الرجل أهله وبني عمّه ونحن أصحاب كلّ كريهة، فلما رأي رسول الله صلي الله عليه وآله ما دخل علي الأنصار من ذلك، أمرهم أن يقعدوا ولا يقعد معهم غيرهم، ثم أتاهم صلّي الله عليه وآله شبه المغضب يتبعه عليّ سلام الله عليه حتي جلس وسطهم. فقال: ألم آتكم وأنتم علي شفا حفرة من النار فأنقذكم الله بي؟ … إلي أن قال: بل لو شئتم قلتم: جئتنا طريداً مكذَّباً فآويناك وصدّقناك، وجئتنا خائفاً فآمنّاك.

فارتفعت أصواتهم، وقام إليه شيوخهم فقبّلوا يديه ورجليه وركبتيه، ثمّ قالوا: رضينا عن الله وعن رسوله، وهذه أموالنا أيضاً بين يديك فأقسمها بين قومك إن شئت.

فقال: يا معشر الأنصار، أوجدتم في أنفسكم إذ قسمت مالاً أتآلف به قوماً ووكلتكم إلي إيمانكم، أما ترضون أن يرجع غيركم بالشاء والنَعَم ورجعتم أنتم ورسول الله في سهمكم … ؟.

لقد نبّههم رسول الله صلي الله عليه وآله بما غفلوا عنه وذكّرهم ما نسوه، وأعلمهم أنّ ما قام به من إعطاء المال الكثير لأولئك الناس بعد أن خصّهم بالغنائم دون الأنصار إنّما كان لغاية تأليف قلوبهم للإسلام، ولإظهار عظمة الإسلام، ولكي يكسر حالة العداء فيهم فلا يعود أمثال أبي سفيان وابنه معاوية وغيرهما من المنافقين لتنفيذ مؤامراتهم ضدّ الإسلام، وفي الوقت نفسه استثار صلي الله عليه وآله عواطف الأنصار بقوله: «ألا ترضون أن يكون رسول الله في سهمكم».

شروط لابدّ منها

يري المتتبع لسيرة النبي الأعظم صلي الله عليه وآله أنّ مواقفه كانت تتناسب مع الظروف المحيطة به، فكانت له سيرة خاصة عندما اجتمع حوله

نفر من المسلمين، وكانت له سيرة ثانية عندما جاء مهاجراً إلي المدينة حتي شكّل الدولة الإسلامية، وثالثة بعدما شرع في توسيع رقعة الدولة الكلامية ومحاربة الكفر والطغيان لنشر تعاليم السماء. فكان في بداية دعوته صلي الله عليه وآله يذهب إلي الناس في أيّ مكان يراهم فيه سواء علي الصفا أو المروة أو المسجد الحرام أو الطرقات والأسواق أيّام الحجّ يدعوهم منادياً: «يا أيّها الناس، قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا». أمّا بعد أن اجتمع حوله عدد أكثر من الناس، صارت سيرته صلي الله عليه وآله وفق ما يتناسب وعدد المسلمين، واختلف الأمر أيضاً عندما هاجر إلي المدينة، لأنّه في البداية عندما لم يكن ذا عدّة وعدد كان عليه أن يدعو الناس إلي توحيد الخالق وعبادته وفق المنهج التبليغي الصرف، وبعدما هاجر إلي المدينة وكثر أتباعه الذين آمنوا به، فضلاً عن شيوع أمر نبوّته أخذ يسير في نشر الإسلام بين الناس بما يستلزمه الموقف استناداً الي العدّة والعدد، كما انبسط الأمر له صلّي الله عليه وآله في زيادة تفعيل أحكام الشريعة بين المسلمين، وهكذا.

لذا فإنّ الظروف الاجتماعية كثيراً ما تتحكّم في مثل هذه الأمور، وهذا ليس معناه أنّ الحلال يصبح حراماً وبالعكس، بل اللازم ملاحظة مدي استعداد الناس وقبولهم الحقّ؛ وإرجاء الحكم الشرعي لا يعني إبداله أو إبطاله بأيّ حال من الأحوال.

روي أنّه دخل علي الإمام الصادق سلام الله عليه رجل فقال له: أصلحك الله ذكرت أنّ عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونري عليك اللباس الجيّد.

فقال له الإمام: إنّ علي بن أبي طالب كان يلبس ذلك في زمان لا يُنكر، ولو لبس مثل ذلك

اليوم لشهّر به، فخير لباس كلّ زمان لباس أهله، غير أنّ قائمنا أهل البيت إذا قام لبس لباس عليّ وسار بسيرته.

يتبيّن لنا من خلال هذه الرواية أنّ المداراة تتطلّب معرفة طبيعة المجتمع وعاداته وتقاليده في اختيار ما يتناسب معها. فأسلوب هداية الناس لا يعني السكوت عن الحرام أو ترك الواجب، بل يعني التدرّج في مراحل بيانه ونحو ذلك، لكيلا يقع المداري والمداري كلاهما في حرام أهمّ منه وأشدّ. وبما أنّ الناس بما فيهم المؤمنون ليسوا كلّهم عدولاً فضلاً عن عدم علمهم لجملة ممّا له مدخلٌ في التشريع؛ لذا يلزم علي من يريد هدايتهم أن يتحلّي بأعلي قدر من المداراة في تعامله معهم.

إنّ الله سبحانه وتعالي خلق الخلق ليرحمهم، فيلزم علي من يريد هدايتهم أن يكون مدارياً لهم إلي آخر لحظة ليتمكّن من توجيههم نحو الله تعالي، فيكون قوله وفعله جامعاً للناس وهادياً لهم، لأنه مسؤول علي أن لا ينفرّهم عن الحقّ.

مثال عملي

لو طلب كاتب ناشئ من مؤلّف قدير أن يقرأ له مقالاً كتبه، وبعد قراءته للمقال وجد المؤلّف أخطاءً بعدد كلماته، وذكر له أخطاءه كلّها في المرة الأولي دفعة واحدة، فإنّ هذا الناشئ قد يفقد الأمل بالتقدم في مجال الكتابة ويترك الأمر. أمّا إذا تعامل معه بتدبّر وعقلانية وحكمة وأخبره ببعض الأخطاء وقلّلها في عينه، ثم ذكر له في المرّة القادمة أخطاء أخري وهكذا، فمما لا شك فيه أنّه لن يفقد الأمل بل تنمو عنده القابلية ويكثر استعداده لأن يصبح كاتباً له شأنه. هذا مصداق من مصاديق المداراة.

المداراة أسهل طرق الهداية

ينبغي لطالب العلم أن يعرف كيف يهدي الآخرين ويوجّههم إلي الله سبحانه وتعالي، أمّا إذا أخذهم بالشدّة والغلظة فربّما كثير منهم ينحرف عن الطريق، خصوصاً في زماننا هذا الذي تكثر فيه التيّارات المختلفة، والكفيلة بالتقاط المنفرط عن الحق فيما إذا تاه ونأي، لذا علينا أن لا نفسح المجال أمام تلك التيّارات الفاسدة والمضلّة باصطياد شبابنا، خاصّة مع كثرة أهل الباطل وتيّاراتهم التي أعدّت فخاخها ومصائدها المتنوّعة لاصطياد أيّ شخص قد يضعف إيمانه أو ينفلت عن الحقّ وأهله.

نسأل الله تعالي أن يوّفقنا للتحلّي بهذا الخلق العظيم الذي ورد في قول رسول الله صلي الله عليه وآله: «من عاش مدارياً مات شهيداً».

(11) الحرص والكفاف

(11) الحرص والكفاف

قال الله تعالي في كتابه الحكيم مخاطباً نبيّه الكريم: ?وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَي مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَي?.

تتناسب الموعظة والنصيحة التي يقدّمها الموصي مع الموصي له تناسباً يحدّده الكمّ والكيف لدي كلّ من المانح والقابل، فمن الطبيعي أن تختلف الموعظة علي اختلاف درجات طالبها. فلو أنّ تلميذاً جاء إلي عالِم دين أو واعظ وقال له: عظني أو أَوصني، فربما يقول له العالم: أتقِن درسك. أمّا إذا جاءه كاسب وطلب منه النصيحة والموعظة فقد يقول له: تفقّه في مسائل البيع والشراء أو إيّاك والتطفيف والاحتكار.

وهكذا تختلف الموعظة لو كان طالبها عالماً أو رجل دولة أو غيرهما؛ فإنّ الحكمة تقتضي ذلك، وهذا ما ندركه نحن بعقولنا، فكيف بالله سبحانه وتعالي وهو خالق العقل وربّ الحكمة، فإنّه لاشكّ قد حكم هذا الأمر. فإذا كان الواعظ الله، والقابل سيّد الأنبياء صلّي الله عليه وآله، فلاشكّ أن تكون الموعظة جامعة للفضائل، والوصية التي يوصي بها الله سبحانه وتعالي نبيّه الكريم صلّي

الله عليه وآله لاشك تكون أبلغ الوصايا وأسناها.

وهذه القضية يمكن إدراكها أيضاً من خلال ملاحظة كلمات وخطب الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة، فإنّ خطبه عليه السلام علي منبر الكوفة لعامّة الناس تختلف عن تلك التي يلقيها علي جيشه، كما تختلف وصاياه العامّة عن تلك التي يوصي بها ولديه الحسن والحسين عليهما السلام.

هذه الآية الكريمة، يوصي الله سبحانه وتعالي نبيّه، والوصية موجَّهة له وهو المخاطَب بها، وهذا ما يميّزها عن غيرها وإن كانت الوصية موجَّهة في الحقيقة لسائر الناس بصورة غير مباشرة؛ وذلك لأنّ رسول الله صلي الله عليه وآله هو الأسوة والقدوة في كلّ أعمال الخير ولكن عندما يكون المخاطَب هو النبي صلي الله عليه وآله ويراد به نفسه بصورة مباشرة، فلا شكّ أنّ أسلوب القرآن الكريم يختلف، ولابدّ أن تكون الوصية التي يوصَي بها من خيرة الوصايا.

ما يؤكّد أنّ الخطاب موجَّه إلي النبي صلي الله عليه وآله علي نحو ما أسلفنا أنّ الآية الكريمة لم تتصدّر بقوله تعالي: «قل» كما هو الحال في كثير من الموارد؛ مثل قوله تعالي: ?قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا … ?، ونظائرها من الآيات، بل وجّه النصيحة والموعظة والوصية للنبي مباشرة، فقال: ?وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَي مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا?.

وكأنّ الآية تنهي النبي صلي الله عليه وآله عن التطلّع إلي ما متّع الله به الآخرين من المتع الدنيوية، أو النظر إلي ما عندهم من مباهج وزخارف نظرة إعجاب وتحسّر، وذلك ليكون وقعها أكبر في نفوس المسلمين؛ لا فرق في تلك المتع والمباهج إن كانت أموالاً أو أولاداً أو أزواجاً أو قصوراً أو إمكانات أخري من قبيل العلم أو الجمال أو الشخصية والوجاهة، فكلّها في نظر القرآن

الكريم زينة لهذه الدار المشحونة بالآفات والكدورات.

كما تُلفت الآية إلي أنّ مَن كان يتمتّع بهذه المتع فليعلم أنّها كلّها من الله تعالي، فمَن كان يملك أموالاً فالله سبحانه هو الذي متّعه بها، ومَن كان ذا علم فإنّ الله تعالي هو الذي أفاضه عليه، ومَن كان يحظي ببسطة في الجسم أو طلاقة في اللسان أو ذكاء مفرط أو جمال كثير أو قصور راقية أو أيّة نعمة ومزيّة فكلّها من الله لأنّ الآية تقول: ?وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَي مَا مَتَّعْنَا بِهِ?، أي نحن الذين أعطيناهم ذلك ومتّعناهم به.

وهذا كلّه ليس مهمّاً، إنما المهمّ من هذه الأمور كلّها أنّه فيم تستعمل وتستغلّ، أمِن أجل الله، أم من أجل الشهوات؟ ولذلك تقول الآية: ?لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ? أي لننظر كيف يعمل بها، فهي من باب الامتحان والابتلاء وليست تعبيراً عن التفضيل والاحتفاء.

فما أحوج الإنسان إلي اتّباع الوصايا الإلهية، سواء تلك الوصايا التي أوصي بها المولي تعالي خاتم الأنبياء صلّي الله عليه وآله ليريد الناس بها، أو تلك الوصايا الصادرة من النبي الأكرم صلي الله عليه وآله وسائر الأنبياء والأئمّة عليهم السلام.

إنّ الناس يقتدون بأهل العلم ويتعلّمون من سيرتهم، ولذا فهم يحاسبون علي أعمالهم من جهتين، الجهة الأولي كونهم كسائر الناس، حيث يحاسَب كلّ إنسان علي عمله، والجهة الثانية لما يستتبع اقتداء الناس بهم من جهة كونهم علماء أو طلبة علم أو ما شابه.

ما قلّ وكفي خير ممّا كثر وألهي

روي أنّه: «مرّ رسول الله صلي الله عليه وآله براعي إبل، فبعث يستسقيه، فقال: أمّا ما في ضروعها فصبوح الحيّ، وأمّا ما في آنيتنا فغبوقهم. فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: اللهمّ أكثِر ماله وولده. ثمّ مرّ براعي غنم، فبعث إليه يستسقيه، فحلب له ما في ضروعها

وأكفأ ما في إنائه في إناء رسول الله صلي الله عليه وآله وبعث إليه بشاة، وقال: هذا ما عندنا، وإن أحببت أن نزيدك زدناك. فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: اللهمّ ارزقه الكفاف. فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله، دعوت للذي ردّك بدعاءٍ عامّتنا نحبّه، ودعوت للذي أسعفك بحاجتك بدعاء كلّنا نكرهه! فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: إنّ ما قلّ وكفي خيرٌ ممّا كثر وألهي، اللهمّ ارزق محمّداً وآل محمّد الكفاف».

إنّ أكمل عقل خلقه الله عزّ وجلّ هو عقل رسول الله صلي الله عليه وآله، وهذا هو منطقه، فإنّ الذي عنده الكفاف هو في مأمن، أمّا صاحب الزيادة فمعرّض للأخطار. فكلّما ازداد المرء أموالاً زادت التزاماته ومسؤولياته وازداد تحديداً وتقييداً. إنّ طالب العلم إذا كان موسراً تراه لا يبلغ المراحل العلمية العالية في الغالب، لأنّها ستشْغله عن هدفه الأصلي. ولا نقصد أنّه سينصرف عن الإيمان، ولكن الأموال تُشغله وتأخذ من وقته وفكره، فيتأخّر عن الدراسة وارتقاء الدرجات، ولهذا نري معظم مراجع الدين ينحدرون من عوائل فقيرة، وذلك لأنّ ابن الغني غالباً لا يتيسّر له الرُّقيّ في هذه المجالات.

وأكرّر القول أنّ هذا ليس بمعني ذمّ الغني بما هو غني، بل لبيان كونه يمنع الإنسان غالباً، والحال أنّ المطلوب أن يسمو ويتكامل ويرتقي، فكلّما طوّقت عوارض الدنيا عنقه حالت دون سموّه بالطبع إلاّ إذا كان قويّ النفس بحيث لا تشغله ولا تحدّه هذه الأمور.

وهكذا الحال مع باقي النعم وما متّع الله به العباد، كالجاه والملكات والقوي والاستعدادات، ولهذا دعا رسول الله صلي الله عليه وآله بالكفاف لراعي الغنم.

ما المقصود بالكفاف؟

الكفاف هو المقدار الذي يكفي الإنسان لسَنته. ويظهر من عدّة أمور، منها:

• المقدار الضروري الذي

يحتاجه لمعيشة نفسه.

• ما يحتاجه لحفظ كرامته. فمثلاً لا يليق بالرجل أن يخرج إلي الشارع بسروال قصير فقط وإن كان يمكنه أن يعيش به وحده، لكنّه يحتاج إلي ما هو أكثر من ذلك لحفظ كرامته الاجتماعية، لأنّه لو خرج بسروال قصير فقط لتعرّض للسخرية والحطّ من شأنه وشخصيته.

• ما يحتاجه لتوفير العيش الكريم لمَن يعيلهم، كالزوجة والأولاد، وبحكمهم الضيوف، خاصة لمَن كان من شأنه ذلك. ولاشكّ أنّ الإنسان يستحبّ له أن يتقشّف في مصارفه الشخصية، ولكنّه لا يستحبّ له أن يتقشّف علي عائلته وضيوفه، بل العكس هو الصحيح.

• ثمّ إنّ الله تعالي أمر المسلمين بالعمل من أجل بلوغهم الاكتفاء الذاتي وعدم خضوعهم اقتصادياً للكفّار، فقد يريد التاجر مثلاً أن يترك عمله لأنّه قد حصل علي ما يكفيه من المال، ولكنّ الإسلام يأمر أتباعه بالتجارة لئلاَّ تنتقل أزمّة اقتصاد البلاد والعباد إلي الكفّار، وهكذا تكون مواصلة العمل بالتجارة جزءاً من الكفاف المطلوب اجتماعياً وإن كان التاجر المسلم قد وصل إلي مرحلة الكفاف الشخصي.

وما عدا هذه الأمور المتقدّمة يُعدّ زيادة، وفخّاً، علي الإنسان المسلم أن يحذر منه بدلاً من أن يتمنّاه.

الهدف سموّ النفسّ

ينبغي للإنسان أن يتقشّف علي نفسه، ولكنّه يستحبّ له أن يبذل علي عائلته وضيوفه، وينبغي للإنسان المسلم أن يقنع بما يسدّ حاجته ولا يمدّ عينيه إلي المزيد إلاّ فيما أمر الإسلام. وهذه الأمور وأمثالها تكشف عن أنّ هدف الإسلام هو تربية الإنسان لكي يسمو ويتكامل روحياً، ولقد ذكرنا ذلك مراراً، وإنّ ذلك لا يتحقّق إلاّ إذا آثر الإنسان بما يحبّ. قال تعالي: ?لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّي تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ?.

إنّ أغلب الناس يسعي لأن يأكل الأفضل ويلبس الأجود ويسكن الأرفه… ولكنّه عندما يريد أن يعطي وينفق فإنه

يُخرِج الأدوَن والأقلّ وما لا حاجة لنفسه فيه. فإذا أراد أن يعطي فاكهة لفقير مثلاً أعطاه الفاكهة الرديئة، وإذا سُئل عن ذلك، قال: لأنّه متعوّد علي أكلها. وإذا أراد أن يعطيه مالاً أعطاه قليلاً جداً، مدّعياً أنّ ذلك يكفيه، وأنّه لا يأمل أكثر من ذلك؛ غافلاً عن أنّ للإنفاق هدفين، الأوّل سدّ حاجة المنفَق عليه، والثاني تحقيق الكمال للمنفِق نفسه، فإنّ الله تعالي قادر علي أن يعطي الفقير ويغنيه كما هو قادر علي أن يسلب الغني ويفقره، ولكنّه سبحانه جعل هذا التفاضل من أجل الامتحان والابتلاء والتربية لهما معاً؛ ولذلك قال تعالي وهو الحكيم: ?قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء?.

من مواعظ السيّد المسيح

ذهب عيسي إلي مكان ما وصحبه يهوديّ وكان مع اليهودي رغيفان ومع عيسي رغيف، فقال له عيسي: تشاركني؟ قال اليهودي: نعم، فلما رأي أنّه ليس مع عيسي إلاّ رغيف ندم، فلما نام عيسي جعل اليهودي يريد أن يأكل الرغيف. أكل لقمة، قال له عيسي: ما تصنع؟ فيقول له: لا شيْء. فيطرحها حتي فرغ من الرغيف كلّه، فلما أصبحا قال له عيسي: هلمّ طعامك، فجاء برغيف، فقال له عيسي: أين الرغيف الآخر؟ قال: ما كان معي إلاّ واحد. فسكت عنه! وانطلقوا فمرّوا براعي غنم، فنادي عيسي: يا صاحب الغنم، أجزرنا شاة من غنمك. قال: نعم، أرسِل صاحبك يأخذها. فأرسل عيسي اليهودي، فجاء بالشاة فذبحوها وشووها، ثم قال لليهودي: كل ولا تكسر عظماً. فأكلا فلما شبعوا قذف عيسي العظام في الجلد ثم ضربها بعصاه، وقال: قومي بإذن الله. فقامت الشاة تثغو، فقال: يا صاحب الغنم، خذ شاتك. فقال له الراعي: مَن أنت؟! قال: أنا عيسي ابن مريم. قال: أنت الساحر. وفرّ

منه.

قال عيسي لليهودي: بالذي أحيي هذه الشاة بعدما أكلناها، كم كان معك من رغيف؟

فحلف ما كان معه إلاّ رغيف واحد.

فمرّ بصاحب بقر فقال له: يا صاحب البقر، أجزرنا من بقرك هذه عجلاً.

فقال: ابعث صاحبك يأخذ.

فقال: انطلق يا يهودي فجئ به.

فانطلق فجاءه به فذبحوه وشووه وصاحب البقر ينظر، فقال له عيسي: كل ولا تكسر عظماً.

فلمّا فرغوا قذف العظام في الجلد ثم ضربه بعصاه وقال: قم بإذن الله.

فقام له خوار.

فقال: يا صاحب البقر، خذ عجلك.

قال: ومن أنت؟

قال: أنا عيسي.

قال: أنت الساحر. ثم فرّ منه.

قال اليهودي: يا عيسي أحييته بعدما أكلناه؟!

قال: يا يهوديّ! فبالذي أحيي الشاة بعدما أكلناها، والعجل بعدما أكلناه، كم رغيفاً كان معك؟

فحلف بذلك ما كان معه إلاّ رغيف واحد.

فانطلقا حتي نزلا قرية، فنزل اليهودي في أعلاها وعيسي في أسفلها، وأخذ اليهودي عصا مثل عصا عيسي وقال: أنا الآن أُحيي الموتي. وكان ملِك تلك القرية مريضاً شديد المرض، فانطلق اليهودي ينادي من يبغي طبيباً، حتي أتي ملِك تلك المدينة فأخبره بوجعه، فقال: أدخلوني عليه فأنا أُبرئه، وإن رأيتموه قد مات فأنا أُحييه.

فقيل له: إنّ وجع الملك قد أعيي الأطبّاء قبلك، ليس من طبيب يداويه ولا يغني دواؤه شيئاً إلاّ أمر به فصلب.

فقال: أدخلوني عليه فإني سأُبرئه.

فأُدخل عليه، فأخذ برجل الملك فضربه بعصاه حتي مات. فجعل يضربه وهو ميّت ويقول: قم بإذن الله.

فأُخذ ليُصلب فبلغ عيسي، فأقبل إليه وقد رُفع علي الخشبة، فقال: أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم أتتركون لي صاحبي؟

قالوا: نعم.

فأحيي عيسي الملِك، فقام وأنزل اليهودي، فقال: يا عيسي أنت أعظم الناس عليَّ مِنّة. والله، لا أفارقك أبداً.

فخرجوا، فمرّوا بثلاث لبنات، فدعا الله عزّ وجلّ عيسي فصيّرهن من ذهب.

قال: يا يهودي، لبنة لي ولبنة لك، ولبنة

لمَن أكل الرغيف.

قال أنا أكلت الرغيف …

ثمّ إنّ عيسي عليه السلام تركه مع اللبنات الثلاث وانصرف. فأتاه رجلان، فأرادا أن يأخذاه ويقتلاه.

قال: هو بيننا أثلاثاً.

فقالا له: إنّا لا نستطيع هذا الذهب إلاّ أن نحمله علي شيء، فخذ من هذا الذهب فاشترِ لنا به طعاماً واشترِ لنا ظهراً نحمل عليه من هذا الذهب.

فانطلق لما أمراه به، فأتي الشيطان الرجلين فقال لهما: إذا أتاكما فاقتلاه واقسما المال نصفين.

فلما أحكم أمرهما انطلق إلي الآخر فقال: إنك لن تطيق هذين فاجعل في الطعام سمّاً فأطعمهما واذهب بالمال وحدك.

فابتاع من المدينة سمّاً فجعله في طعامهما. فلما أتاهما وثبا عليه فقتلاه ثم قرّبا الطعام فأكلا منه، فماتا.

فانطلق عيسي إلي حاجته ثم رجع فإذا هو بهم قد ماتوا عند الذهب. فقال لأصحابه: انظروا إلي هؤلاء.

ثم حدّثهم حديثهم، ثم قال: النجاء النجاء، فإنّما هي النار».

فعندما نسمع بمثل هذه القصص من سير الأنبياء ينبغي أن نعتبر بها، لأنّها تذكّرنا فيما إذا مررنا أمام امتحان مشابه، فهل يا تري سنكون كهؤلاء الرجال الثلاثة الذين ضحّوا بحياتهم من أجل ثلاث قطع ذهبية، أم سنعتبر بقصّتهم؟!

قد لا نركض وراء الذهب لأنّنا نعلم أنّا لا نحصل عليه، ولكن بالنسبة إلي أُمور أِخري أيضاً قد نكون كذلك كحبّ التفوّق علي الأقران وحبّ الظهور وغير ذلك.

جعلنا الله من المستفيدين من مواعظ القرآن الكريم ووصايا أهل البيت عليهم السلام، والمعتبرين بما جري علي الأمم الماضين.

(12) قيمة السكوت

(12) قيمة السكوت

روي عن رسول الله صلي الله عليه وآله أنّه قال: «السكوت ذهب والكلام فضّة».

لكلّ من الذهب والفضّة قيمة ولكن الذهب أغلي من الفضّة كما هو معلوم، وقد لوحظ ذلك في الأحكام الشرعية أيضاً. فدية المرء المسلم مثلاً هي ألف دينار من الذهب أو عشرة آلاف درهم

فضّة، وهذا الحديث الشريف يجعل النسبة بين الكلام والسكوت كالنسبة بين الفضّة والذهب، فكما أن للفضّة قيمة وللذهب قيمة، فكذلك يمكن مقارنة السكوت إلي الكلام.

تارة يكون الكلام واجباً، ولاشك أنّ السكوت غير مفضّل عليه في مثل هذه الحالة، كما هو الحال في الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر. وتارة يكون السكوت واجباً ويأثم الإنسان بتركه كما لو أدّي إلي قتل النفس المحترمة، وفي مثل هذه الحالة يكون السكوت مفضّلاً، بل لا يجوز الكلام.

ومن الواضح أنّ الحديث الشريف غير ناظر لمثل هذه الموارد، بل هو يقرّر حقيقة أخلاقية مفادها أنّ السكوت بنفسه إذا لم تكن هناك مرجّحات للكلام عليه خير وأغلي. ويمكن توضيح الأمر بمثال مادّي:

لو قلنا: إنّ الأرز أغلي من القمح. فإنّ ذلك لا يعني أنّه كذلك في كلّ الظروف والأحوال وبالنسبة لكلّ الأشخاص، ولكنّا مع ذلك نقول: إنّ الأرز أغلي من القمح؛ لأنّ هذا هو الغالب.

إذاً المقصود من الحديث الشريف أنّ السكوت النافع أغلي من الكلام النافع، ما لم يكن هناك مرجّح لأحدهما علي الآخر.

وروي أيضاً: «إذا رأيتم المؤمن صموتاً فادنوا منه فإنّه يلقي الحكمة». والصموت مبالغة صامت أي كثير الصمت. والحكمة أغلي شيء في حياة الإنسان.

وهذا الحديث الشريف يكشف أنّ الحكمة تأتي في الغالب من الصمت أكثر ممّا هي في الكلام؛ لأن الحكمة وليدة التأمّل والتدبّر والتعقّل، وهذه كلّها تتحقّق في التأمّل والسكوت.

والأحاديث في هذا المجال عديدة، وهي تفسّر بعضها بعضاً، ومنها الأحاديث التي تنهي الإنسان عن التكلّم فيما لا يعنيه؛ قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «مِنْ حُسْن إسلام المرء تركه الكلام فيما لا يعنيه». أي علي المرء أن يفكّر في الكلام قبل أن يطلقه ليعرف هل يعود عليه بالنفع؟ فإن

لم يعد عليه بالنفع، فليختر السكوت ويتخلّي عمّا كان يريد قوله.

نضرب لذلك مثلاً ماديّاً أيضاً لأنّ الأمثلة المادية تقرّب المعنويات إلي الأذهان، والإنسان بطبعه يحسّ بالمادّيات أكثر:

لو خُيّر إنسان محتاج من الناحية الماديّة بين أمرين: الحضور في ساحة والتكلّم فيها لقاء دينار مثلاً أو البقاء ساكتاً لقاء دينارين، فأيّهما سيختار؟ لاشكّ أنّه سيختار الثاني لأنّه أنفع له وأكثر ربحاً.

السكوت طريق الرقيّ

بعد أن ضربنا هذا المثال الماديّ نقول:

إنّ السكوت هو الطريق الأفضل والأسرع لرقيّ الإنسان وتكامله؛ لأنّ الإنسان ميّال بطبيعته لأن يقول كلّ ما يشعر به ويعلمه ويعرفه، مع أنّ معظمه لا يتناسب من حيث القيمة مع ما يصرفه من وقت في هذا السبيل، بينما التأمل والتفكّر يعطي نتائج أفضل. وإذا كان الناس يعظّمون المبدعين والمخترعين والمكتشفين، فإنّ الإبداع في كلّ مجالات الحياة لا يظهر نتيجة الكلام كظهوره نتيجة التأمّل.

إذا كان المؤمن صموتاً فإنّ تفكيره لا ينصرف إلي المال والشهوات بل يفكّر في التعالي والسموّ في طريق الخير والهداية والفضائل والكمال، وإذا أصبح كذلك أبدع فكره وأينع قوله وفعله وتفتّحت أمامه آفاق الرقيّ والازدهار.

نقرّب الموضوع بمثال من واقع الحياة الماديّة أيضاً:

لو أنّ شخصاً أراد أن يشتري بضاعة مّا، فتأمّل قليلاً قبل الشراء، فربّما انتهي إلي أنّ هذه البضاعة يمكن اقتناؤها من أمكنة أخري، وأنّ سعرها قد يكون أرخص مع الاحتفاظ بالمواصفات نفسها. ولو كان هذا الشخص قد بادر إلي شراء البضاعة دون تأمّل وتفكر، فربّما ندم؛ لفوات الأفضل أو الأرخص.

الحالة نفسها تصدق في المعنويات. فالطالب مثلاً يتأمّل ويفكّر في اختيار الدروس وسلوك الطريق الذي يختصر فيه الوقت. والمحاضر يفكّر كيف يرفع من مستوي الحاضرين، والداعية يخطّط قبل أن يبدأ بهداية الشباب، وهكذا المجاهد والعالم والقائد.. كلٌّ يبحث

بالتأمّل والتدبّر عن أسهل الطرق وأسرعها بلوغاً للهدف. وهذا كلّه لا يأتي إلا بالصمت. فبه وبالتأمّل وملاحظة الأمور ومقارنتها، بلغ العظماء ما بلغوا.

وعندما نراجع سيرة العظماء وندرس تاريخ العلماء ومراجع الدين نجد أنهم كانوا كثيري الصمت والفكر والتأمّل.

فكّر ثم تكلّم

عن الإمام عليّ سلام الله عليه أنّه قال: «لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه» أي أنّ الأحمق سريع الكلام، يطلق القول قبل أن يفكّر فيه، خلافاً للعاقل، فإنّه يفكّر في الكلمة قبل أن يقولها. نقل عن بعض الحكماء أنّه كان يقول: لا ترسل كلّ كلمة مع أوّل خطورها إلي الذهن بل أرجعها إلي الفكر وتمعّن فيها سبع مرّات قبل أن يطلقها لسانك. ولا شكّ أن من يتريّث إلي هذه الدرجة تقلّ شطحاته وزلاّته غالباً ويقلّ ندمه إثر ذلك.

لقد عرف الشيخ محمد تقي الشيرازي رحمه الله بأنّه كان كثير الصمت، كثير الفكر، واشتهر بهذه الصفة حتي تناقلتها الكتب وألسن العلماء. ومن جملة ما نُقل عن أحواله في هذا الصدد أنّه إذا دار نقاش بين تلاميذه في مسألة ما، كان لا يدخل في النقاش إن رأي أنّه لا يعود بالنفع علي الموضوع الذي يتكلّم فيه.

وفي هذا المجال يروي أيضاً أنّه قد صحب النبي صلي الله عليه وآله أو عاصره الآلاف من المسلمين وغيرهم، ولكن الذين عُرفوا واشتهروا بالفضل عدا أهل البيت سلام الله عليهم يُعدّون بالأصابع، ومن أبرزهم أبو ذر الغفاري الذي عُرف عنه من بين أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله أنّ أكثر عبادته كانت في التفكّر. فعن أبي عبدالله الصادق سلام الله عليه: «كان أكثر عبادة أبي ذر التفكّر والاعتبار».

وهكذا لو ألقيتم نظرة علي من حولكم سترون أنّ أكثر الذين بلغوا المراتب العالية في

الدنيا والدين والعلوم الدينية وغيرها كالطبّ والهندسة والتجارة هم أناس مفكّرون قد ركّزوا علي التفكير والتأمّل. ولهذا عُدّ الصمت من فضائل الأخلاق.

وقتك حياتك

ليس المقصود بالصمت عدم الحديث مطلقاً، فكما أنّ الثرثرة بالباطل ممقوتة فكذلك السكوت عن قول الحق يكون ممقوتاً أيضاً، غاية الأمر المطلوب من الإنسان أن لا يصرف وقته في الحديث غير النافع، لأنّ الوقت أغلي من المال، فإذا كان المال قابلاً لأن يعوَّض، فالوقت غير قابل للتعويض، ولقد ورد في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه: «إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها إلاّ بها».

فحريّ بالإنسان أن يستفيد من ساعات عمره أقصي ما يستطيع. فكما يفكّر باستثمار أمواله علي أحسن نحو يمكن، فتراه لا يبذّرها، بل لا ينفقها إلاّ حيث يجب، ولا يعطي منها أكثر مما يجب هذا مع أنّ المال سهل التحصيل نسبةً، ولا يودي ذهابه بحياة الإنسان كذلك يجب أن يكون وقت الإنسان، فهو ثروته الحقيقية، التي توجب عليه أن يحسن كيف ينفقها ولا يبيعها بالتافه.

فلنقرّر من الآن أن نتعوّد علي الصمت والاستفادة من الوقت، وهذا لا يتحقّق دفعة واحدة، بل يأتي عبر الممارسة والترويض ويبدأ بالقليل ثم يزداد شيئاً فشيئاً، وذلك بأن يصمّم المرء أن يكون منتبهاً لنفسه كلّ يوم في ساعة معيّنة، فلا يتكلّم إلاّ بعد أن يتأمّل فيما ينبغي أن يتكلّم فيه، ويستمرّ علي هذا المنوال لمدّة أسبوع مثلاً بعد ذلك يزيد المدّة إلي ساعتين ويستمرّ هكذا لمدّة أسبوعين أو شهر مثلاً ويستمرّ بزيادة عدد الساعات التي يراقب فيها نفسه مع مرور الزمن، حتي تصبح الحالة ملكة عنده.

هذه التجربة التي أنقلها لكم خلال عدّة ثوان أو دقائق يحتاج تحقيقها إلي وقت طويل، ولكنّها ثمينة جدّاً،

لأن ما يحصل عليه الإنسان منها هو أغلي شيء في الحياة، وهو عمره وتاريخه وحياته، بل ثروته الحقيقية في هذه الدنيا التي يتاجر بها لكي يربح الحياة في الآخرة.

الفضائل الخمس

إنّ الإنسان المهذار الثرثار الذي يطلق للسانه العنان ويتفوّه بكلّ ما يخطر بباله، ولا يري قيمة لوقته وحياته، مثل هذا الإنسان لن يصل إلي شيء.

أمّا الذين يهدفون إلي بلوغ جوار الله تعالي والقرب من الأنبياء والمتّقين، فليسوا كذلك، وإنّ التكامل لا يأتي من لا شيء وبلا تأمّل وفكر.

كان للإمام موسي بن جعفر عليهما السلام ولد يكنّي بزيد النار لم يكن سالكاً طريق أبيه، فقال له الإمام الرضا سلام الله عليه يوماً ينصحه: «إن كنت تري أنك تعصي الله عزّ وجلّ وتدخل الجنّة وموسي بن جعفر أطاع الله ودخل الجنّة، فأنت إذاً أكرم علي الله عزّ وجلّ من موسي بن جعفر. والله، ما ينال أحد ما عند الله عزّ وجلّ إلاّ بطاعته».

فالذين يريدون أن يكونوا غداً مع أولياء الله في الجنّة، ليس لهم إلي ذلك إلاّ طريق واحد وهو سلوك طريق أولياء الله تعالي، ومن أساسيات هذا الطريق أنّ أصحابه كانوا أهل صمت وتأمّل، وكما ورد في الحديث عن الإمام الصادق سلام الله عليه: «الأغلب من غلب بالخير، والمغلوب من غُلب بالشرّ، والمؤمن مُلْجَم».

وصدق من قال: حجب الله سبحانه اللسان بأربع مصاريع لكثرة ضرره: الشفتان مصراعان، والأسنان مصراعان. فلماذا لا يلتزم الإنسان الصمت رغم كلّ ذلك؟!

هب أنّ بعض الكلام ليس حراماً، ولكن لماذا الإسراف والتبذير؟ أجل إنّ هذا من أسوأ أنواع الإسراف وإن لم يذكر تحت اسمه، وقد لا يعرف ذلك كثير من الناس، مع أنّه قد يكون أسوأ من إسراف المال أحياناً.

ظهر مما تقدّم أنّ الصمت

أحد الفضائل الأخلاقية التي لايمكن بلوغها إلاّ بالتجربة، والتي تحتاج هي الأخري إلي زمن، وإلي ثبات وصمود. بيد أنّه إضافة إلي ذلك ينبغي للإنسان أن لا يغفل عن الاعتماد علي الله سبحانه وتعالي والتوسّل به وصولاً إلي النتيجة المرجوة؛ قال تعالي: ?قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ?.

فهذه خمس فضائل: معرفة قيمة الوقت، والتأمّل قبل الكلام، وترويض النفس، والثبات، والاعتماد علي الله تعالي، يمكن للإنسان من خلالها الوصول إلي فضيلة الصمت التي إن وُفّقنا لبلوغها فسنشعر حينها كم أهدرنا من وقتنا وكلامنا بلا نفع لأنفسنا ولا لغيرنا. فلننتهز الفرصة قبل أن يأتي يوم لا نستطيع أن نزيد فيه من حسناتنا ولا أن ننقص من سيّئاتنا.

(13) الترويض والهداية وجمال التعبير

(13) الترويض والهداية وجمال التعبير

روي عن رسول الله صلي الله عليه وآله عدّة خطَب في استقبال شهر رمضان المبارك، منها الخطبة المعروفة التي مطلعها: «أيّها الناس، إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة».

ويمكن أن يُستظهر من بعض الروايات أنّ النبيّ صلي الله عليه وآله كان يستقبل شهر رمضان من كلّ سنة بخطبة خاصّة، إمّا في أوّل الشهر أو قبل حلوله. فهناك عدّة خطَب مرويّة عن رسول الله صلي الله عليه وآله في استقبال هذا الشهر الفضيل، منها هذه الخطبة التي يرويها الشيخ الصدوق رضوان الله عليه والتي ينتهي بسندها إلي الإمام الرضا، عن آبائه، عن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهم، والتي تبدأ بقوله صلي الله عليه وآله: «أيّها الناس، إنّه قد أقبل إليكم شهر الله …» ولعلّ العديد منكم يحفظها فأنتم أهل علم ووعظ وإرشاد.

أفضل الأعمال في شهر رمضان

لست الآن بصدد تفسير الخطبة وبيان مفرداتها، فهي خطبة عظيمة وتحتاج إلي بيان وتفسير واسعين، وإن كان يمكن أن يقال بشأنها وحول بنودها مطالب وبحوث كثيرة، لكنّي أريد هنا أن أذكر شيئاً واحداً وهو: إنّ رسول الله صلي الله عليه وآله ذكر للمؤمنين في هذه الخطبة عشرين بنداً أو ما ينيف وحثّ المؤمنين عليها وشجّعهم علي امتثالها، ولكن حينما توجّه إليه أمير المؤمنين سلام الله عليه في نهاية الخطبة بسؤال عن أفضل الأعمال في هذا الشهر علماً أنّ سؤال الإمام ليس لنفسه وإنّما هو لي ولك ولعامّة الناس لم يذكر النبيّ صلي الله عليه وآله في جوابه أيّاً من البنود التي جاء علي ذكرها ضمن فقرات خطبته، أي لم يقل له مثلاً: إنّ قراءة القرآن أفضل الأعمال في هذا الشهر أو الإطعام أو أيّ شيء آخر، بل أجابه بأمر آخر لم

يكن ضمن بنود الخطبة الشريفة؛ إذ قال له: «الورع عن محارم الله».

ما هو الورع؟

والورع أفضل الأعمال في كلّ وقت وزمان وإن خُصّ في هذا الشهر الكريم بالذات. إذاً، فما هو المقصود من الورع؟ وما ينبغي لنا فعله نحن الخطباء والوعّاظ وطلاّب العلوم الدينية خصوصاً صيانة لأنفسنا في هذا الشهر العظيم تحديداً؟

إنّ أوّل مقتضيات الورع أن يجتنب الإنسان عن المحرّمات فلا يقربها.

ولاشكّ أنّ كلّ إنسان تتناسب تكاليفه وواجباته مع مقدار معرفته ومدي فهمه وعلمه، فكلّما ازداد الإنسان علماً ومعرفة تضاعفت مسؤولياته وواجباته.

ولكي يكون الورع حليتنا أعني، أهل العلم والمرشدين المتصدّين لهداية الناس¬ يتحتّم علينا واجبان أساسيان، بدونهما لا يتحقّق الورع عندنا:

الواجب الأوّل: ترويض النفس

لا يمكن للنفس البشريّة أن تستقيم هكذا بسهولة وبسرعة من دون حاجة إلي ترويض ومقدّمات. بل هي بحاجة إلي رياضة مستمرّة، وكما يقول مولانا أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه في بعض كلماته:

«وإنّما هي نفسي أروضها بالتقوي لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر».

فترويض النفس إذاً من أهمّ الواجبات العينية بالنسبة إلي كلّ فرد، ويتأكّد بالنسبة لنا نحن الوعّاظ والمبلّغين وعلماء الدين لأنّ كلّ واحد منّا يتعلّم منه أفراد وربّما جماعات ويتلقّون منه ويقتبسون ويقتفون أثره، ويتأثّرون بكلامه وتصرّفاته.

فإنّك وإن كنت فرداً في وجودك الخارجي لكنّك لست كذلك في العمل؛ لأنّ هناك مَن يعتبرك مرشداً وهادياً ويقتدي بأفعالك سواء كنت خطيبا ً أو عالماً.

أنقل لكم قصّة عن أحد العلماء الماضين رضوان الله عليهم، كما رواها لي بنفسه؛ قال:

لما عدت إلي قريتي ومسقط رأسي لزيارة أهلي وذويَّ بعد أن فارقتهم لسنوات عدّة من أجل الدراسة، جاء أهل القرية بدورهم لزيارتي والاحتفاء بي. وفي أحد الأيّام سألني قريب لي قائلاً: هل يستحبّ تقديم الرجل اليمني إذا أريد الدخول في خزانة الماء في الحمّامات؟

يقول العالم: قلت له: لا. فهذا الحكم أي تقديم اليسري

عند الدخول واليمني عند الخروج مختصّ ببيت الخلاء، أمّا بالنسبة لغيره كالحمّامات وأحواض الماء فلم يُروَ مثله.

فقال لي مستغرباً: إنّ فلاناً ينقل عنكم ذلك!

قلت له: أنا لا أعلم هذا الشيء، فكيف ينُقل عنّي؟!

قال: لكنّ فلاناً ملتزم به طول هذه المدّة، وهو ينقله للآخرين حتي صاروا متعبّدين به لأنّه ينقله عنكم!

يقول العالم: عجبتُ من الأمر، لأنّني لم أرَ هذا الحكم طيلة حياتي ولا سمعت به، فكيف ينقله هذا الشخص عنّي وينسبه لي، ولم أكن قد قلته له لعدم علمي به؟

يقول العالم: فطلبت ذلك الشخص، وسألته: أ أنت نقلتَ عنّي استحباب تقديم الرجل اليمني عند دخول خزانة الحمّام، وتقديم اليسري عند الخروج؟ قال: نعم.

قلت: متي قلت لك هذا؟

قال: إنّك لم تقله لي مباشرة، ولكنّي نظرت إليك عندما جمعني الحمّام وإيّاك ذات يوم، فلاحظتُك تعمل هكذا أي تقدّم رجلك اليمني حين الدخول، واليسري حين الخروج.

قلت: هذا شيء عادي وليس بعنوان كونه مستحبّاً.

والآن أيّها الإخوة، انظروا إلي قصّة هذا العالم واعتبِروا! لقد اتّخذوه أسوة حتّي في العمل العادي؛ ممّا يثبت لنا أنّنا لسنا أفراداً في العمل وإن كنّا كذلك في وجوداتنا الخارجية، بل إنّ كلّ واحد منّا هو مرجع تقليد بمستوي تأثيره ونسبة حضوره. لا فرق في ذلك بين طالب العلم والخطيب، وعالم القرية والمدينة، فكلّ علي قدره ومستواه؛ ممّا يكشف أنّنا غير مسؤولين عن أنفسنا فحسب، بل حتي عن أولئك الذين يتعلّمون منّا، حين يلاحظوننا في كلّ شيء، حتّي في أعمالنا وحركاتنا الصغيرة والعفوية.

ما ذكرته لا ينحصر بذلك العالِم ولا بالعلماء والمراجع وحدهم، بل يشمل كلَّ من له تأثير في المجتمع وإن كان في مستويات أقلّ.

تغيير النفس بحاجة إلي مقدّمات

فإذا كان تغيير النفس من الواجبات العينية بالنسبة لنا، فهذا يعني أنّ

علي الإنسان أن يمهّد لها السبل والأساليب التي تجعله لا يعصي الله تعالي، وهذا أمر لا ينبغي الاستهانة به، بل لابدّ له من تهيئة مقدّمات وتمهيدات تساعده علي ذلك، وكما قال الإمام سلام الله عليه: «أروضها».

إنّ رياضة النفس أكثر صعوبة في مواجهة النوازع والغرائز الشهوانية التي تعتري الإنسان بحكم تعايشه مع البيئة والمجتمع، وهي موانع قوية جدّاً من قبيل: الأنا والهوي وما يستتبعهما وكما قال الشاعر:

إبليس والدنيا ونفسي والهوي كيف الخلاص وكلّهم أعدائي

هذه الموانع جميعها تواجهنا وبقوّة، ولكي نسيطر عليها ونكبح جماحها يتطلّب الأمر منّا همّة قويّة معاكسة للتغلّب عليها. وشهر رمضان مناسبة جيّدة جدّاً؛ وكما ورد في هذه الخطبة المباركة نفسها من قول المصطفي صلي الله عليه وآله: «والشياطين مغلولة فاسألوا ربّكم أن لا يسلّطها عليكم» فلنكن حذرين، يقظين، منتبهين جدّاً.

فما من فرصة للرياضة الروحية وترويض النفس أعظم من الصوم؛ فالإنسان الخاوي البطن تقلّ شهواته، وتتقاعس رغبات نفسه الأمّارة بالسوء، كلّ حسب استعداده في تقرّبه إلي الله تعالي. وهذه الأجواء الرائعة متوافرة في شهر رمضان أكثر من غيره من الشهور والأيّام، أي: إنّ أجواء هذا الشهر تساعد الإنسان علي ترويض نفسه، فلنتّخذ من هذا الشهر الكريم مناسبة لتغيير أنفسنا فيه حقيقة.

وهذا شيء ممكن، وهو في هذا الشهر أسهل؛ لأنّ الإنسان مهما يكن بعيداً والعياذ بالله عن الخير والصلاح والتقوي، يمكنه أن يستفيد من أجواء هذا الشهر لتغيير نفسه، فإنّ الله تعالي قد أودع هذه القدرة في الإنسان، وفرض عليه الصوم في شهر رمضان كي تكون له فرصة مناسبة جدّاً لإتمام هذا الأمر.

من الممكن أن يغيّر الإنسان نفسه ولو خطوة خطوة. وشهر رمضان مناسبة جيّدة جدّاً للتغيير.

لا تقولوا: نحن طلاّب علوم دينية نصلّي ونصوم ونقرأ

القرآن وندرس وندرّس ونخطب ونكتب؛ واعلموا أنّ الشيطان يركّز عليكم أكثر، ولا حاجة به إلي غيركم لطمعه فيكم، فأنتم همّه الأوّل والأكبر.

روي عن أبي جعفر سلام الله عليه قال: «إنّ الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهم عن دينه، فإذا فعلوا ذلك استلقي علي قفاه وتمدّد، ثمّ قال: فُزت».

إنّ الشيطان يحاول أن يؤثّر فينا مهما وسعه، ثمّ يتشجّع للتقدّم أكثر. فلو استطاع أن يؤثّر في مجموعنا بنسبة الواحد في المئة كان ذلك العمل عنده خطوة إلي الأمام، فيطمع بالاثنين في المئة حتّي يصل لا سمح الله إلي التسعة والتسعين في المئة.

إذاً نحن جميعاً بحاجة إلي ترويض وانتباه بحيث إذا دخل أحدنا شهر رمضان وخرج منه يكون قد تغيّر ولو قليلاً، وملاك التغيّر هو العمل بالمستحبّات وترك المكروهات.

قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «إنّ الشيطان ليجري من ابن آدم مجري الدم».

وقال صلي الله عليه وآله: «وما منكم أحد إلاّ وله شيطان». فقيل له: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا، ولكنّ الله تعالي أعانني عليه فأسلم».

الشقي مَن حرم رضوان الله

يقول رسول الله صلي الله عليه وآله في هذه الخطبة الشريفة: «فإنّ الشقيّ مَن حُرم رضوان الله».

إنّ الألف واللام الداخلة علي كلمة «شقيّ» في هذه العبارة تدلّ كما تعرفون في علم البلاغة علي الحصر، أي: إنّ مَن حُرم غفران الله في هذا الشهر فهو الشقيّ لا غير. إذاً هذا الشهر مناسبة جيّدة للتغيير.

فإذا انتهت هذه المناسبة ومرّت دون أن يحصل الشخص علي شيء فإنّ رسول الله صلي الله عليه وآله قد وصفه بالشقيّ؛ لأنّ عشرات الأبواب بل مئات بل ألوف الأبواب فُتحت لصلاح الإنسان في هذا الشهر، لكن هذا الفرد لم يحصل علي شيء منها ولا استفاد من أيّ

باب، فهو الشقيّ إذاً.

أنفسنا مرهونة بأعمالنا

إنّ زمام الأمر بأيدينا نحن وليس بأيدي غيرنا، وكلّ واحد منّا زمام نفسه بيده، وهذا معني قوله صلي الله عليه وآله في هذه الخطبة: «إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم، ففكّوها باستغفاركم …».

فكما أنّ أحدكم إذا رهن داره إلي غيره لا يستطيع أن يتصرّف فيها ما لم يفكّ رهنها بالمال، فكذلك أنفسكم رهينة بأعمالكم، أي هي رهينة هذه النظرات والكلمات والأفكار والرواح والمجيء والنوم واليقظة.. إنّ أنفسكم مرهونة بهذه الأشياء، ففكّوها باستغفاركم. أي مع قولكم: «أستغفر الله ربّي وأتوب إليه»، ينبغي أن يقترن به ترويض النفس أيضاً، وهو من الواجبات العينية كما قلنا وكلّ ما علينا أن نعزم ونهمّ بالأمر، والتوفيق من الله.

إننا في أيّ مرتبة كنّا من مراتب التقوي والورع والرياضة النفسية فهناك المزيد من المجال للتحوّل والارتقاء. وعلينا أن ننتهز الفرص كشهر رمضان، فهو كما قلنا أحسن فرصة لترويض النفس وتغييرها.

الثواب في رمضان يضاعَف سبعين ضعفاً

أشار رسول الله صلي الله عليه وآله في الخطبة نفسها قائلاً: «وجعل لمن تطوّع فيه بخصلة من خصال الخير والبرّ كأجر من أدّي فريضة من فرائض الله، ومن أدّي فيه فريضة من فرائض الله، كمن أدّي سبعين فريضة فيما سواه من الشهور». وهذا معناه أنّ كلّ فريضة في شهر رمضان لها ثواب سبعين فريضة في غيره. أي: أنّك لو أمرت بالمعروف في هذا الشهر أو نهيت عن المنكر فثواب عملك سيكون سبعين ضعفاً.

ولو ألّفت كتاباً في شهر رمضان أو خطبت خطبة أو أسّست مكتبة أو هيئة لإرشاد الناس، أو قمت بالتدريس، أو ساعدت المحتاجين في هذا الشهر، أو سعيت لترويض نفسك وتغييرها، فثوابه عند الله يعادل سبعين مرّة ما لو عملت مثله في غيره من الشهور. فمجلس واحد في شهر رمضان يعادل سبعين مجلساً

في غيره وهكذا.

الواجب الثاني: هداية الناس

أنتم طلبة فقه وأصول وتعرفون أنّ الواجب الكفائي قد ينقلب عينياً إذا لم يوجد مَن فيه الكفاية، ومن جملة الواجبات الكفائية هداية الناس وإرشادهم، ولكنّي أسأل: هل يوجد العدد الكافي اليوم لهداية كلّ الناس؟ فهذا الكمّ الهائل من الغافلين والجاهلين بفروع الدين وأصوله من أتباع الدين الإسلامي ناهيك عن الديانات الأخري¬ هل يوجد مَن فيه الكفاية لهدايتهم وإرشادهم؟ كلاّ. إذاً، التصدّي للإرشاد والهداية واجب عينيّ أيضاً. وله مقدّمتان كلتاهما مهمّتان:

المقدّمة الأولي: تحصيل العلوم الإسلامية

إنّ الناس في هذا الزمان خصوصاً الشباب ولا سيّما طلاّب المدارس العامّة والجامعيين منهم، هم بأمسّ الحاجة لمَن يقول لهم ما هي الواجبات وما هي المحرّمات، فأكثر هؤلاء أذهانهم محشوّة بعشرات، بل مئات الأسئلة حول الإسلام وتشريعه، بانتظار مَن يجيبهم، الأمر الذي يحتاج منّا إلي علم ودراسة عميقين، فلا يتمكّن كلّ شخص أن يجيب عن أسئلتهم بسهولة ويعرّض نفسه للجواب والخطاب والكتاب والنقاش من دون علم، بل إنّ ذلك يحتاج إلي أرضية وتعبئة علمية وافية.

كما لا يخفي أنّ مقدّمة الوجود للواجب المطلق حسب اصطلاح العلماء واجبة أيضاً. فإذا وجب شيء علي الإنسان، وتوقّف ذلك الشيء علي شيء آخر، صار ذلك الشيء الآخر واجباً عليه أيضاً.

فمَن وجبَ عليه الحجّ مثلاً لا يُقال له: يجب عليك ركوب الطائرة أو السيّارة أو إعطاء النقود لهذا الغرض، بل هذه الأمور تجب عليه بداهة من باب وجوب الحجّ عليه وتوقّف الحجّ عليها بحسب استطاعته.

وهكذا الأمر بالنسبة لإرشاد الناس وهدايتهم. فهو واجب كفائي، لمَن توجد فيه الكفاءة، ولهذا الواجب مقدّمات قد تصبح واجبة من باب كونها مقدّمات وجود الواجب. فالمهمّ والواجب هو أن يتمّ إرشاد الناس وهدايتهم ليتحقّق انتشالهم من الانحراف والتيه والضلال، فإذا توقّف هذا المهمّ علي مقدّماته كالتهيّؤ والاستعداد

العلمي، وجبت كذلك من باب الملازمة.

فنحن مهما أوتينا من العلم فهناك آلاف الأسئلة التي لا نعرف لها جواباً يلزم أن نتهيّأ لها. وشهر رمضان مناسبة جيّدة لأن يستثمرها كلّ منّا حسب مقدرته، لأنّ كسب المقدّمات يعدّ من الواجبات المهمّة في هذا المجال وغيره ممّا له صلة بالتقرّب إلي الله سبحانه.

إنّ تهيئة هذه المقدّمات أهمّ من قراءة القرآن في شهر رمضان فيما إذا اقتصر الهدف من القراءة علي طلب الثواب والتبرّك، لأنّ قراءة القرآن بهذه الصورة المجرّدة تعتبر مستحبّة لكنّ التهيّؤ العلمي للقيام بدور الإرشاد والتبليغ واجب.

لاشكّ أنّ قراءة القرآن مقدّمة لمعرفته، ومعرفته مقدّمة للعمل به ومقدّمة لتعليمه للآخرين، وهي مقدّمة لإرشاد الناس إلي القرآن، بيد أنّ القراءة بذاتها مستحبّة، وهذا الأمر التحصيل العلمي مقدّم عليها، إلاّ إذا كانت القراءة بتدبّر وتفكّر، حينها ستكون هي الأخري مقدّمة وتعبئة علمية، ضمن مقدّمات الوجود في مجال ترويض النفس، فإذا روّض الإنسان نفسه بقراءة القرآن والتفكير عميقاً في معانيه والتأمّل في آياته، مهّد لنفسه أساساً متيناً في أساليب ترويض النفس، يساعده أكثر في بلوغ أهدافه ممّا إذا كانت قراءته للقرآن مجرّد قراءة وإن كانت مستحبّة.

صحيح أنّ كلّ آية يقرأها الإنسان في شهر رمضان كما ورد في الخطبة الشريفة نفسها تعدل قراءة القرآن كلّه في غير شهر رمضان؛ لكنّ الحديث في مقدّمات الواجب. فإذا كانت القراءة من باب المقدّمية للواجب، فهي واجبة بلا شكّ وإلاّ ف «لا قربة بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض».

إذاً فإرشاد الناس يعدّ من الفرائض العينية فعلاً، وإن كان من الفرائض الكفائية بذاته؛ لأنّ علماء الإسلام يُجمعون علي أنّ الواجب الكفائي ينقلب عينيّاً إن لم يوجد مَن به الكفاية علي أدائه، وكلّ علي قدر سعته.

أجل: إنّ هداية الناس

أفضل من مجرّد القراءة للاستحباب، كما نقول: عليكم أنتم طلاّب العلوم الدينية أن تكونوا مشغولين دائماً بالدراسة والتدريس والكتابة والتأليف، وشهر رمضان أفضل مناسبة لهذه الأمور.

المقدّمة الثانية: جمال التعبير في القلم والكلام

يعتبر القلم والبيان في هداية الناس وإرشادهم بمثابة إناء الإرشاد وظرفه ووعائه.

فالطعام مهما كان لذيذاً وطيّباً إلاّ أنّه قد لا يستساغ فيما لو وُضع في إناء أو وعاء غير نظيف أو غير صحّي، فتري الإنسان لا يفكر أن يمدّ يده نحو مثل هذا الطعام ليري إن كان لذيذاً أم لا، وذلك لوجوده في وعاء غير مناسب. أمّا إذا جيء بطعام عاديّ ولكن في إناء نظيف وجميل فسوف تتناوله الأعين قبل الأيدي بشوق وإن لم يكن بمستوي الطعام الأوّل.

ووعاء الهداية والإرشاد هو القلم والبيان. فكلّما كانت الكتابة أجمل كان التأثير أفضل وأحسن. انظروا إلي القرآن وكلام الرسول صلّي الله عليه وآله وأهل البيت سلام الله عليهم، أوَليس كلّ ذلك قدوة لنا؟

إنّ القرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد، فلماذا يهتمّ بجمال الأسلوب والتعبير؟ نقول في الجواب: إنّ ذلك جزء من عملية الهداية. وهكذا الحال بالنسبة لكلام المعصومين سلام الله عليهم.

كثير من علماء المشركين والنصاري واليهود، اهتدوا عبر جمال التعبير في القرآن الكريم.

إنّ الجمال مهمّ ومطلوب لهداية الناس، فلا يكفي أن يكون المطلب صحيحاً، بل لابدّ من جمال الأسلوب والتعبير أيضاً.

إذا كان الناس يبحثون عن البروتين في اللحم فلماذا لايكتفون بتناوله وحده هكذا من دون توابل ومرق و … مع أنّه هو الأساس، فنراهم يخلطون معه عشرات الأشياء لا لشيء إلاّ ليصبح لذيذاً ومقبولاً؟ هكذا هو الحال مع المعني الصحيح، فلابدّ أن تجعلوه في وعاء جميل لكي يتقبّله الناس منكم.

وهذا الأمر بحاجة إلي تعلّم وتمرين، لأنّه لا يأتي هكذا عفواً، بأن ينام الشخص

مثلاً في الليل ويستيقظ في اليوم التالي وقد أصبح أديباً.

وشهر رمضان فرصة جيّدة لنا لتطوير قابليّاتنا في هذا المجال أيضاً. فبقدر ما نستفيده في هذا الشهر من فيوض الرحمة وأجواء المغفرة، لنستفد أيضاً من هذين الأمرين المهمّين: ترويض النفس، وإرشاد الناس.

أسأل الله سبحانه أن يوفّقنا في هذا الشهر جميعاً لكلّ الصالحات ولكلّ أمور الخير لاسيّما هذين الأمرين: ترويض النفس، وهداية الناس.

(14) مسؤولية العلماء في عصر الغيبة

(14) مسؤولية العلماء في عصر الغيبة

من المناسب أن نذكر كلمة نعرب فيها لوليّ الله الأعظم صاحب العصر والزمان الإمام الحجّة المنتظر صلوات الله وسلامه عليه عن حبّنا له، وفي الوقت نفسه تكون تذكيراً لنا جميعاً إن شاء الله.

نعرض موضوعين علي نحو الاختصار؛ الأوّل: يتعلّق بالإمام نفسه. والثاني: بنا نحن.

أمّا الموضوع الأوّل فقد روي متواتراً عن النبي صلي الله عليه وآله أنّه قال: «مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات مِيتة جاهلية» أي مات علي الكفر.

فكما أنّ معرفة الله هي شرط الإيمان ولكنها لا تكفي ما لم تقترن بمعرفة النبيّ صلّي الله عليه وآله، فكذلك معرفة النبيّ لا تفي وحدها من دون معرفة الإمام. أي إنّ معرفة الله والنبي لا تنفع من دون معرفة الإمام، بل ليسا بمعرفة من دونها بالمعني الدقّي.

مقادير الأمور بيد الإمام

لقد جعل الله تبارك وتعالي كلّ قوي الكون تحت تصرّف الإمام المعصوم، وهذا الأمر مستدلّ عليه من كلمات المعصومين سلام الله عليهم أنفسهم. هناك زيارة رواها الشيخ الكليني في الكافي وابن قولويه في كامل الزيارات ولها أسانيد متعددة وهي برواية صحيحة، يقول الإمام الصادق سلام الله عليه: «إرادة الربّ في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم، والصادر عمّا فُصِّل من أحكام العباد…».

إنّ أهل العلم الأفاضل يعلمون جيداً أنّ الجمع المضاف يفيد العموم، أي له ظهور في العموم. وكلمة «الأمور» جمع وقد أُضيفت إلي ضمير مرجعه «الربّ».

ما هي أمور الله؟ هل يوجد شيء في الكون ليس من أموره عزّ وجلّ؟

إنّ كلّ ما سوي الله هو مصداق لأمور الله. فخلق الإنسان والحيوان والأفلاك والملائكة والجنّ والحور والجنّة والنار… كلّها من مصاديق «أمور الله سبحانه وتعالي».

أمّا المقادير فهي مصدر ميميّ وهي جمع «مقدار» فيكون معناها: إعطاء كلّ شيء قدره؛ مثلاً: مَن

يأتي إلي الدنيا ومتي؟ ما هي الأمور التي تجري عليه؟ وما مصيره؟ متي يموت، ومَن ذرّيته، وإلامَ ستستمرّ؟ وهكذا تقديرات غير الإنسان كالحيوانات والصحاري والبحار والملائكة وجبرئيل وميكائيل وحملة العرش وعزرائيل والجنّ والجنّة والنار ووقت ظهور الإمام نفسه سلام الله عليه و… هذه كلّها مصاديق لمقادير أموره.

ولو كانت العبارة هكذا: (إرادة الربّ في مقادير أمور عباده) لما كان لها هذه العمومية؛ لتقييدها في إطار أمور العباد، ولكن عبارة: «في مقادير أموره» تعني جميع أمور الربّ سبحانه.

أمّا لماذا لم يقل: إرادة الله؟ فتلك تستبطن نكتة ظريفة ليس هنا مجال ذكرها، ولكن لندع الآن البحث الأدبيّ، ولنعد إلي القضية المهمّة، وهي أنّ إرادة الله في كلّ ما هو مصداق لأموره أي كلّ الأمور التي تصدر عنه سبحانه إنّما تهبط إلي الأئمّة سلام الله عليهم وتصدر من بيوتهم. وهذا معناه: أنّ كلّ ما يريده الله تعالي بالنسبة إلي أموره التكوينية والتشريعية لم يجعل له إلاّ طريقاً واحداً، وهو طريق أهل البيت سلام الله عليهم.

ولو قلنا إنّ الجملة الأولي تتحدّث عن التكوينيات ظاهراً بقرينة ما بعدها، فإنّ الجملة التالية تمدّدت بشمولها التشريعيات أيضاً، بقرينة قوله سلام الله عليه: «والصادر عمّا فُصِّل من أحكام العباد…».

فيكون معني الجملتين إذاً: إنّ كلّ ما يرتبط بالله تعالي من التكوين والتشريع إنّما طريقه المعصومون الأربعة عشر، وامتداد فيضهما ملازم لامتداد وجودهم بدءاً برسول الله صلّي الله عليه وآله وانتهاءً بخاتم الحجج الإمام الحجّة بقيّة الله المنتظر صلوات الله وسلامه عليه.

إذاً كلّ ما يتعلّق بمقدّراتنا فرداً فرداً ومدي تبدّلها أو نقصانها وزيادتها فيما يخصّ العائلة والمجتمع والأقاليم والقوميات إنّما يشكّل صغري من صغريات هذا الحديث الصحيح الشريف.

ويتبيّن مما مرّ أنّ كلّ شؤون الكون وقواه قد

جعلها الله تعالي بيد الإمام المعصوم سلام الله عليه سواء فيما يتعلّق بالأشخاص أو الأشياء بالنسبة إلي الماضي أو الحاضر أو المستقبل. وتوجد عندنا روايات متواترة علي هذا الأمر، والرواية التي عرضناها آنفاً هي إحدي تلك الروايات الصحيحة.

هذا من جهة، ومن جهة أخري، إن ّالمعصومين سلام الله عليهم هم أعرف منّا بفضلهم وأنّه لا يقلّ من شأنهم مهما أعطوا. فإذا كان غيرهم يملك مليون دينار وأعطي منه ديناراً واحداً فإن المليون سينقص بمقدار الواحد، ولا يعود مليوناً بتمامه. ولو كان يملك ملياراً وأعطي واحداً نقص المليار وكسر بذلك المقدار، وهكذا حتي لو كان المبلغ ألف مليار فإنّه لابدّ أن ينقص بالعطاء، بل حتي المحيطات والبحار لو أدخلتَ فيها إبرة وأخرجتها فإنّ شيئاً ولو قليلاً من الرطوبة سيعلق بها وينقص ماء المحيط أو البحر بذلك المقدار. صحيح أنّ ذلك لا يصدق بالحمل الشائع لأنّه لا يظهر ولكنّه نقَص حقيقةً. أمّا أهل البيت سلام الله عليهم ومنهم بقيّة الله الأعظم صاحب الأمر عجّل الله تعالي فرجه فهم يعلمون بحاجاتك أفضل منك، ولو سألتهم ألف حاجة عظيمة واستجابوا لك فإنّه لا ينقص منهم شيء أبداً، بل لو أنّ كلّ البشر المتجاوز عددهم ستّة مليارات نسمة سألوا الإمام آلاف الحاجات فسيكون سلام الله عليه قادراً علي إعطائها لهم دون أن ينقص منه بمقدار الرطوبة العالقة من ماء البحار برأس الإبرة.

ولكن المشكلة فينا نحن. فكلّ منّا فيه ما يمنع المعصوم من أن يفيض عليه، لأنّ الإمام المعصوم حكيم ولا يضع الشيء في غير موضعه. فينبغي إذاً أن يكون إدراكنا ونوع حاجاتنا وأسئلتنا وكيفيتها بنحو بحيث تقتضي الحكمة استجابتها.

هذا مختصر عن الإمام وقطرة من فيض ممّا ينبغي الحديث عنه وعن عظمته

صلوات الله عليه.

مهمّة رجل الدين

أمّا القضيّة الأخري المتعلّقة بنا نحن أهل العلم فهي من المسائل المهمّة جدّاً وتستحقّ أن نبذل الوقت والجهد من أجلها لكي نصل إلي النتيجة المرجوّة، وإلاّ فلسنا علي شيء، ومهما يكن عندنا فهو مساوق للعدم إن لم يكن أسوأ من العدم؛ فإنّ علماً لا ينتفع به صاحبه لا يزيده إلاّ بعداً عن الله تعالي؛ «العلم إذا لم يُعمل به لم يزد صاحبه إلاّ كفراً، ولم يزدد من الله إلاّ بعداً»؛ العياذ بالله تعالي من ذلك.

فطلبة العلوم الدينية علي قسمين؛ القسم الأوّل: أولئك الذين ترنو نفوسهم لأن يبلغوا مقام العدالة والاجتهاد والتقوي ولازالوا سائرين لأجل ذلك وقد يبلغونه وقد لا يبلغونه، فهؤلاء مازالوا في مرتبة جنود الإمام. أمّا القسم الآخر: فهم الذين وُفّقوا لبلوغ مقام العدالة والاجتهاد، وهؤلاء هم الوكلاء العامّون للحجّة عجّل الله تعالي فرجه. وتعرفون أنّ الوكيل إذا تصرّف بالنحو اللائق فأهمّيته عند موكّله أكثر من تصرّف الإنسان العادي. وكذا الجندي بالطبع إذا أحسن التصرّف بين يدي قائده ومولاه كان جديراً بالاحترام أكثر من غيره من الأشخاص العاديين.

ولكن عكس الحالة صحيح أيضاً، فلو كان تصرّف الوكيل والجندي غير صحيح والعياذ بالله كان استحقاقهما للعقوبة أشدّ وآكد.

من بين الأمثلة الكثيرة أذكر لكم نموذجين فقط؛ الأوّل: الفضل بن شاذان رضوان الله تعالي عليه الذي كان مثالاً للوكيل الجيّد، أمّا النموذح الآخر المضادّ فهو علي بن أبي حمزة البطائني، ومثله الحسين بن منصور الحلاّج ومن علي شاكلتهما.

كان الفضل بن شاذان من الوكلاء الجيّدين للأئمّة سلام الله عليهم، فقد روي أنّ الفضل بن شاذان أرسل مبعوثاً إلي الإمام الحسن العسكري سلام الله عليه، وقال مبعوث الفضل بعد ذلك إنّ الإمام العسكري سلام الله عليه قال

له: «أغبِطُ أهل خراسان لمكان الفضل بن شاذان بمكانه بين أظهرهم».

ينبغي القول: إنّ المقصود بالغبطة هنا معناها المجازي وليس الحقيقي؛ لأنّ الغبطة تقابل الحسد، فالحسد هو تمنّي زوال نعمة الغير، وهو من الرذائل، أمّا الغبطة فليس فيها تمنٍّ لزوال نعمة الغير، بل هو تمنّي مثلها للنفس، وهي من الفضائل، وبما أنّ الغبطة بهذا المعني لا يمكن أن تكون من شأن الإمام المعصوم سلام الله عليه. إذاً فما هو ذلك الشيء الجيّد الذين يتوفّر عند أحد من الناس ولا يوجد مثله أو أحسن منه عند الإمام المعصوم ليكون مثار غبطة المعصوم سلام الله عليه؟ بل أيّ فضيلة حقيقيّة من فضائل المعصومين توجد عند غيرهم من الناس؟!

فلاشكّ إذاً أنّ الغبطة هنا غير مقصودة بمعناها الحقيقي بل لابدّ أن تكون بالمعني المجازي لها، ويُعرف أقرب المجازات عن طريق القرائن الخارجية، فهنا مثلاً يكون معني قول الإمام سلام الله عليه: «أغبط أهل خراسان» أي أنّ من شأن مَن لم يكن في خراسان أن يغبط أهلها علي نعمة الاستفادة من جوار الفضل بن شاذان وكانت خراسان يومذاك تعني معظم بلاد إيران اليوم وهذا يعني أن عمل الوكيل بواجبه جيّداً يوصله إلي هذه الدرجة.

أمّا إذا كان عمل الوكيل سيّئاً والعياذ بالله فستكون عاقبته كعاقبة علي بن أبي حمزة البطائني؛ فرغم أنّه كان وكيلاً لإمامين معصومين وكان هو السبب في هداية بعض عمّال بني أميّة، ولكن انظروا إلي عاقبة أمره كيف صار.

يقول الحسن بن علي الوشا: دعاني سيّدي الرضا بمرو فقال سلام الله عليه:

«يا حسن، مات علي بن أبي حمزة البطائني في هذا اليوم وأُدخل في قبره الساعة ودخلا عليه ملكا القبر فساءلاه مَن ربك؟ فقال: الله. ثم قالا: مَن نبيّك؟ فقال:

محمّد. فقالا: مَن وليّك؟ فقال: عليّ بن أبي طالب. قالا: ثمّ مَن؟ قال: الحسن. قالا: ثمّ مَن؟ قال: الحسين. قالا: ثم مَن؟ قال عليّ بن الحسين. قالا: ثمّ مَن؟ قال: محمّد بن عليّ. قالا: ثم مَن؟ قال: جعفر بن محمّد. قالا: ثمّ مَن؟ قال: موسي بن جعفر. قالا: ثمّ مَن؟ فلجلج. فزجراه وقالا: ثمّ مَن؟ فسكت. فقالا له: أفموسي بن جعفر أمرك بهذا؟ ثمّ ضرباه بمقعمة من نار فألهبا عليه قبره إلي يوم القيامة». ومازال عليّ بن أبي حمزة معذّباً إلي الآن؛ بل سيبقي كذلك إلي قيام الساعة؛ فالإمام قال: «إلي يوم القيامة».

لقد كان علي بن حمزة البطائني وكيلاً للإمام الصادق والكاظم سلام الله عليهما ولكنّه انحرف، فضُرب ومازال يُضرب بمقمعة من نار.

إنّ العالِم مسؤول مسؤولية مضاعفة وكما في الحديث الشريف: «لتحملنّ ذنوب سفهائكم علي علمائكم». وليس المراد من العلماء هنا المراجع وحدهم، بل العالِم بالمعني اللغوي وهو يشمل كلّ مَن يتحمّل مسؤولية هداية الناس.

مسؤوليتنا مضاعفة

فلنشدّ العزم ونحثّ الخطي لنكون ممّن اجتاز المقام الأوّل بعد أن أجهد نفسه ليكون ضمن جنود الإمام سلام الله عليه وحصل علي المقام الثاني في الوكالة والنيابة العامّة، التي حثّ الإمام المنتظر عج الله تعالي فرجه عليها شيعته بالرجوع إليها في قوله سلام الله عليه: «وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها الي رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم». وإن كان كلا المقامين رفيع فيما إذا تصرّف الإنسان فيهما تصرّفاً صحيحاً، وإلاّ فمشكل جدّاً.

قال الإمام الصادق سلام الله عليه لأحد أصحابه: «الحسن من كلّ أحدٍ حسن، ومنك أحسن؛ لمكانك منّا. والقبيح من كلّ أحد قبيح، ومنك أقبح؛ لمكانك منّا».

فلنحسن التصرّف، فإنّ الإمام عالِم بأعمالنا ونيّاتنا. ففي الكافي وغيره أنّه في كلّ يوم تُعرض

قائمّة أعمالنا وأقوالنا ونيّاتنا علي الله تعالي وعلي النبي الأكرم صلّي الله عليه وآله وعلي الإمام المعصوم سلام الله عليه بل في بعض الروايات أنّها تُعرض عليه كلّ صباح فلا تسوءوه.

إنّ ارتقاء المدارج العالية يشبه تسلّق الجبل. فلو أنّ شخصاً سقط من ارتفاع متر جرح جرحاً بسيطاً ولكن كلّما كان سقوطه من مكان أعلي كانت إصابته أشدّ ونتائجها أسوأ. فمَن سقط من ارتفاع 200م ليس كمن سقط من ارتفاع مترين مثلاً فكيف بمن يسقط من قمّة الجبل؟!

صحيح أنّ مَن بلغ القمّة يشار إليه بالبنان، لكن السقوط منها قد يقضي عليه تماماً. وكذلك الأمر لمن يسقط من المقامات العالية كما سقط الحلاّج والهلالي والشريعي والبطائني وغيرهم ممّن خرجت اللعنة عليهم.

فما أسوأ حال من تناله اللعنة من صاحب أرأف قلب في الوجود! حتماً ستكون أشدّ لعنة في الوجود.

ختاماً، لنسعَ في هذه المناسبة لتحصيل رضا الإمام، فإنّه لاشكّ يستتبع رضا الله ورسوله صلّي الله عليه وآله. ورضا الإمام يتحدّد في كيفيّة العمل وفق الشريعة. فنحن ولله الحمد نعرف وظائفنا ولو سألَنا شخص لأجبناه ولكن علينا أن نُقرن إجابتنا بالعمل أيضاً.

نسأل الله تعالي ببركة المولي صاحب العصر عجّل الله فرجه الشريف وصلوات الله وسلامه عليه أن يزيد في توفيق العاملين، ويوفّق الباقين، وصلّي الله علي محمّد وآله الطاهرين.

(15) الإخلاص شرط القبول

(15) الإخلاص شرط القبول

قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «إنّ الملَك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به فإذا صعد بحسناته يقول الله عزّ وجلّ: اجعلوها في سجّين إنّه ليس إيّاي أراد بها».

القصد والنيّة أو ما يُطلق عليه العلماء: العمل الجوانحي أي الذي يكون محلّه القلب يكون إطاراً وحافظاً للعمل الذي يصدر بفعل الجوارح أو ما يسمّي «العمل الجوارحي». فالعمل الجوانحي هو الذي يقوّم العمل

الجوارحي، وهذه قاعدة مطّردة عند العقلاء، ويكون الحساب عند الله تعالي علي أساسها.

بعض الأعمال قوامها النية

لا شكّ أنّ بعض الأعمال لا مدخلية لنوع النيّة فيها، بل المطلوب أن تقع كيفما وقعت. ومثالها أن تستدعي بنّاءً لبناء دارك، فالمطلوب أن يؤدّي عمله بإتقان لقاء الأجر الذي يتقاضاه، ولا تهمّك نيّته وراء قيامه بهذا العمل سواء أراد بها الشهرة مثلاً أو الحصول علي المال بل المهمّ عندك أن يكون العمل نفسه وهو البناء صحيحاً.

ولكن ثمة أعمال أخري لا يكفي أن تقع مجرّدةً عن النية والقصد الخاصّ، ومثالها أن تدخل مجلساً وتلاحظ أنّ شخصاً قام عند دخولك، فإن كان لأجلك فهو ذو قيمة بالنسبة لك ويستحقّ عليه أجراً معنوياً وهو الاحترام، أمّا لو كان قيامه لسبب آخر أو دونما سبب واتّفق مع دخولك، فلا يستحقّ عليك شيئاً؛ لأنّ المهمّ ليس أصل القيام، وإنّما القصد والنيّة والباعث من ورائه، فمثل هذا العمل هو الذي يكون للنية أو نوع النيّة دخل فيه وفي قيمته.

والحال نفسه يصدق علي الأعمال التي يريد الله تعالي منّا القيام بها، فثمّة أعمال لا يشترط في صحتها نيّة القربة كالأعمال غير العبادية، وإن كان يمكن التقرّب بها إلي الله إذا نوي المرء امتثالها كذلك.

ومثال آخر للأمور التي قوامها القصد والنية هي المسائل الإنشائية، أي القضايا التي فيها قصد الإنشاء حسب الاصطلاح العلمي. فما لم يقع هذا القصد لا ينشأ في الخارج، ومثاله العقود كعقد البيع والنكاح وسائر العقود. فالمطلوب أن يقع فيها القصد الخاصّ والنيّة. فالمدرّس مثلاً عندما يدرّس الطلاب ويمثّل لهم عقد البيع بقوله: «بعتك هذا الكتاب» فهذا المثال لا يتحقق فيه بيع واقعاً رغم إجراء الصيغة بصورة صحيحة، لأنّ القصد هنا ليس الإنشاء. وهذا جارٍ في

سائر الشؤون عند العقلاء.

ومثال آخر أكثر توضيحاً: يذكر الفقهاء شروطاً عديدة لصحّة عقد النكاح؛ منها: تقدّم الإيجاب علي القبول، وأن يكون اللفظ بالعربية، وأن يكون بصيغة الماضي مثل "زوّجتك نفسي" وما أشبه، وأن لا يقع فصل بين القبول والإيجاب، وأن يكون القبول بمادّته مثل «قبلتُ» إلي آخره. والآن لو سألنا: ما حكم ألوف الألفاظ التي تقع بها صيغة عقد النكاح الحائزة علي سائر الشروط أعلاه في قاعات الدرس عندما يريد الأساتذة أن يمثّلوا لتلامذتهم كيفية وقوع عقد النكاح بها؟ فالجواب: إنّ هذه الألفاظ والصيغ وإن كانت حائزة علي سائر الشروط إلاّ أنّها تفتقد إلي الشرط الأساسي وهو القصد، ولذلك لا يقع بها نكاح، وهذا أمر مفهوم عند العقلاء؛ لأنّهم يدركون أنّ الأعمال التي تتقوّم بالنية والقصد لا قيمة لها إن افتقرت لهما.

ولا يكفي القصد المطلق، أي مجرّد القصد أيّ قصد كان، بل لابدّ من حصول القصد الخاصّ، فلو قال شخص «بعتُ» وقصد النكاح، فلا البيع يقع ولا النكاح، بل لابدّ أن يريد من قوله «بعتُ» البيعَ ومن قوله «أنكحتُ» النكاح.

العبادات شرطها النية

كلّ ما تقدّم في معاملات العقلاء يصدق في العلاقة مع الله تعالي، ومن ثمّ قالوا: إنّ العبادة لا تقع صحيحة إلاّ مقيّدة بالقصد الخاصّ، وهو قصد التقرّب إلي الله تعالي، كما قال سبحانه: ?وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ?، أي لا ينبغي وجود قصد آخر غير الله يختفي وراء عمل المرء ليكون هو الدافع.

بيد أنّ هناك بحثاً فقهياً حول العبادات غير الواجبة والتوصّليات؛ فإنّ الأمور التي أرادها الله سبحانه وتعالي منّا علي قسمين: عباديات وتوصّليات. أمّا التوصّليات فهي التي لا يشترط فيها نيّة القربة رغم أنّ الله أراد منّا القيام بها، سواء ما

كان منها علي نحو الوجوب كطاعة الوالدين والتطهّر من النجاسات كشرط لبعض العبادات، أو علي نحو الاستحباب كصلة الرحم والتصدّق علي الفقراء.

ولا خلاف في أنّ التوصّليات إذا وقعت فهي صحيحة ولا علاقة للصحّة بالحليّة والحرمة فيها فضلاً عن النيّة. فإنّ الثوب النجس يطهر إن غُسل بماء طاهر وإن كان الماء مغصوباً، وأثم المكلّف علي غصبه. ولا خلاف في أنّ العباديات وهي التي يشترط فيها النية لا تقع صحيحة من دون النية والقصد الخاص وإن كانت من المستحبّات.

ولا خلاف في أنّ مَن أتي بالواجب العبادي رياءً أي لم يكن قصده القربة والنية الخالصة لله فإنّه يحاسَب؛ لأنّ التكليف الذي كان في عهدته لم يسقط، حيث إنّ العبادة لم تقع صحيحة لكونها وقعت رياءً وافتقدت مقوّمها الأساسي وهو قصد القربة.

ولكن هناك كلام في المستحبّات العبادية (كصلاة الغفيلة أو صوم شهر شعبان) والتوصّليات عامّة (كالصدقة والإنفاق المستحبّ والواجب وطاعة الوالدين وصلة الرحم) إن وقعت رياء، أيكون المكلّف قد ارتكب عملاً محرماً بذلك أم لا؛ لعدم اشتراطه النيّة فيها؟

هنا يختلف الفقهاء حيث ذهب بعضهم إلي الحرمة، وبخاصّة في العباديات المستحبة حيث إنّ القائلين بحرمة العمل المستحبّ رياء أكثر فمَن صلّي صلاة الليل رياءً مثلاً فإنّما يكون قد ارتكب فعلاً محرّماً. والذاهبون إلي هذا الرأي يتمسّكون بإطلاق أدلّة الرياء، رغم أنّ المسألة شائكة وبحاجة إلي جهد متميّز لاستنباط الموقف الصحيح. ولكن سواء قلنا بحرمة الرياء في العبادات فقط أو بحرمتها في التوصّليات أيضاً، أو اقتصرنا علي القدر المتيقّن وهو الحرمة في الواجبات العبادية واكتفينا في غيرها بالبطلان وعدم القبول، فإنّ الأمر الذي لا شكّ فيه أنّ مَن لم يأتِ بالمستحبّ كصلاة الليل ويبيت نائماً أفضل كثيراً ممّن يقوم ويصليها رياءً؛

ولعلّ هذا يتّفق مع ما ورد في الحديث الشريف: «حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم».

ما خفي علي الملائكة لا يخفي علي الله

في الحديث الذي صدّرنا به البحث من قوله صلّي الله عليه وآله: أنّ «الملَك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به» يتبيّن أنّ ذلك العمل لم يكن جديراً بأن يبتهج به لانعدام قيمته لأنّه لم يكن خالصاً لله تعالي، فأمر أن تجعل في سجّين؛ علماً أنّ الملك لا يبتهج بعمل لا قيمة له، وإنّ ابتهاجه بذلك العمل كان من جهة تصوّره أنّه لله، ولكن تبيّن خلافه.

النقطة الأخري: ينبغي التوقّف ملياً عند لفظ الحديث، فهو مليء بالإشارات والمعاني العميقة، فكما يمكن أن تكون هناك قرائن لفظية تدلّ علي التوكيد كالجُمل، كذلك يمكن أن تكون القرائن اللفظية حروفاً كما في المقام، فكان يمكن أن يقال «إنّ الملَك يصعد» إلاّ أنّ اللام هنا جيء بها للتوكيد وليس لمجرّد جمال التعبير، فقد تدلّ الحالة التي تلفط بها الجملة علي التوكيد كالمولي يصرخ بعبده أو يطلب منه بقوّة أن يأتيه بالماء، ولابدّ أن يكون المقام مقتضياً للتوكيد هنا لأهميّته؛ فإنّ الإنسان قد يتصوّر أنّ مجرّد كون أعماله حسنات في ظاهرها يكفي، ولكنّ الحديث يقول: «إنّ الملَك ليصعد» بهذه الأعمال التي لا يُشكّ في كونها حسنات كما هو الحال في الصلاة أو الصوم أو التدريس أو الخطابة أو المطالعة أو التأليف وذكرتُ هذه الأمثلة لأنّها محلّ ابتلاء طلبة العلوم الدينية في الغالب ولكن عندما يصعد بها الملك يقول الله عزّ وجلّ: «اجعَلوها في سِجّين» أي موضع أعمال الكفّار والمنافقين والظالمين! لماذا؟ أليست صلاة وصياماً وما أشبه؟! أكان فيها خداع أم شيء لا يعلَم به قائله وأطلقه جزافاً؟ أم ثَمّ مانع من قبولها؟

الجواب: كلا فالموانع كلّها منتفية والشرائط كلّها موجودة باستثناء

أمر واحد. يقول الله عزّ وجلّ: «إنّه ليس إياي أراد بها». وهذا قاصم الظهر حقيقة. هذا الذي لا أعرفه منك ولا تعرفه مني لأنّنا نتصوّر أنّنا أذكياء نستطيع إخفاءها. ولكنّها حتي لو خفيت علي الملَك؛ فإنّها لا تخفي علي الله تعالي.

أين الله؟!

كان أحد الكسبة القرويين في العراق قد بلغ درجة عظيمة من التقوي. ولما سُئل عن سرّ بلوغه هذه الدرجة أجاب: يعود الفضل في ذلك إلي عالِم في قريتنا. يتبيّن من قصّته أنّه كان يجيد فنّ هداية الناس. وتفصيل القصّة:

سأل هذا الكاسب عالم قريته سؤالاً؛ قائلا له: أين الله؟ ولو سُئل أحدنا لقال في جوابه: إنّه موجود في كلّ مكان ولا يخلو منه مكان. ولكن العالِم الذي كان يعرف هداية الناس، أجابه سائلاً: ما شغلك؟ قال: صفّار.

ولما قال الرجل إنّه صفّار، قال له العالِم: إذا وضعت قطعة أصغر من المطلوب لسدّ ثغرة في قدر أو ما أشبه، فستبقي فتحة صغيرة، أليس كذلك؟ قال: بلي. قال: أرأيت تلك الفتحة الصغيرة في الوعاء، التي قد تفكّر بتلاشيها عن طريق التمدّد الحاصل من الطَّرق المتكرر والطلاء، فهناك يوجد الله وهو يراك ويراقب عملك.

وهكذا أصبحت هذه المسألة سبباً لمحاسبة الرجل نفسه يومياً، وربما أكثر من مرّة في اليوم الواحد، لأنّه كان يري الله مشرفاً عليه في عمله دوماً.

الحالة نفسها يمكن أن تصدق مع المهن الأخري، كالبنّاء الذي يرمّم جداراً مثلاً بحيث يبدو لصاحب الدار أنّه لم يعُد معيباً، ولكن الوضع لا يدوم طويلاً، إذ سرعان ما تعود الحالة الأولي ويظهر الخلل ويحتاج الجدار إلي الترميم مجدّداً، وذلك لأنّ البنّاء لم يكن دقيقاً في عمله أو لاستعماله الموادّ الرخيصة وغير المناسبة.

فلو أنّ البنّاء رأي الله مطّلعاً عليه حين يمارس عمله،

لما غشّ الناس بعد ذلك وكان ذلك باعثاً علي استقامته وتكامله.

ونحن طلبة العلوم الدينية غير مستثنين من هذه القاعدة، فإنّ عملنا سيكون ناجحاً ويعطي أفضل الثمار إذا لم يغب عن أذهاننا حين أداء دورنا أنّ الله هو الرقيب علينا، وأنّ رسول الله صلي الله عليه وآله حاضر يري أعمالنا.

يشكو لله غربة دينه

كان السيد أحمد القمّي الروحاني عالِماً مجتهداً وواعظاً مؤثّراً، لأنّه كان متَّعظاً أدركتُه وحضرتُ مجلسه ليلة النصف من شعبان حيث كان يصادف زيارة الإمام الحسين سلام الله عليه وحضور الزوّار من كلّ المحافظات وعلي اختلاف الأطياف إلي كربلاء المقدّسة وكان يرتقي المنبر في المدرسة الهندية وهي مدرسة علمية دينية فتمتلئ المدرسة بالعلماء والمدرّسين والخطباء والطلبة، وكان الحاضرون كلهم آذاناً صاغية له، وكأنّ علي رؤوسهم الطير، لصدق كلامه، وبلاغة بيانه.

حكي أنّ هذا العالِم الواعظ كان قد حضر مجلساً خاصّاً عُقد في طهران وحضره جمهرة من الخطباء المشهورين في إيران يومذاك. فقال الخطيب الذي دُعي ليرتقي المنبر في ذلك المجلس لزملائه الخطباء: إنّي مدعوّ لارتقاء المنبر في مجلس يحضره أناس من مختلف الطبقات، وربما يحضره أشخاص لم يحضروا مجلساً طيلة عمرهم أو لم يحضروا إلاّ مجلساً واحداً في السنة كيوم عاشوراء مثلاً لذا أطلب منكم أن تشيروا عليّ في الموضوع الذي يتناسب طرحه في مجلسٍ كهذا.

فاقترح بعضهم أن يتناول أصول الدين، واقترح آخرون أن يتحدّث عن الأخلاق، واقترح غيرهم أن يعلّمهم أحكام الصلاة ويرشدهم لوجوبها ومدي أهميّتها فمن المفترض أن يوجد في مجلس عامّ كهذا أناس لا يصلّون فعسي أن يهديهم الله ليصبحوا من المصلّين.

تكلّم الجميع وكلٌّ أدلي بدلوه إلاّ السيّد أحمد القمّي فقد بقي صامتاً. وعندما انتهوا أجمعهم، التفت الخطيب إلي السيد أحمد القمّي وقال له: أحب

أن أسمع رأيك. قال: السادة أعاظم أهل الفنّ قد أشاروا عليك. قال الخطيب: هذا صحيح ولكنّي أريد أن أعرف رأيك. قال السيّد القمّي: كلّ الذي قالوه جيّد، ثم إنّك لا تريد أن ترتقي أكثر من منبر، ففيما اقترحوه الكفاية إذاً، فما الداعي للإضافة؟ ولكنّ الخطيب أصرّ علي السيد طالباً رأيه ولم يشتهر السيد يومذاك بكونه خطيباً من الدرجة الأولي، لكنّ إجابته كانت تكشف عن كونه كذلك فقد قال له: في الواقع، ليس لديّ موضوع خاصّ أقترحه عليك أكثر ممّا اقترحه عليك الإخوة، فقد اقترح كلٌّ موضوعاً واستوعبه ذهنك وبحمد الله، ولكن أسألك أسئلة أوّلاً ثم أتقدّم إليك باقتراحي وكان بإمكانه أن يطرح اقتراحه دون الحاجة إلي هذه الأسئلة ولكن أراد أن يهيّئه للموضوع ويجعل إجاباته من باب المقدّمات والإعداد النفسي.

فسأله من باب سؤال العارف عن المكان الذي يقام فيه المجلس ثم عن مساحة الأرض التي يقوم عليها، وكميّة الحضور مثلاً ثم طلب منه أن يصف له مكان المنبر والزاوية التي يوضع فيها… وكان يريد بذلك أن ترتسم صورة المجلس في ذهنه.

وهنا قال له: عندما ترتقي المنبر وتبدأ بقراءة المقدّمة وتفكّر في ترتيب الموضوع الذي وقع عليه اختيارك، تصوّر وأنت في تلك الحالة أنّ رسول الله صلي الله عليه وآله جالس أمامك آخذاً لحيته بيده ويشكو لله غربة دينه. ثم انظر وأنت في تلك الحالة، ماذا ستقول ، وكيف ستتكلم؟

قال ذلك الخطيب: عندما صعدت المنبر تراءي لي ذلك المنظر حقّاً، فقد امتلكني وهيمن عليَّ شعور بحضور الرسول صلي الله عليه وآله وأنّه يراني ويسمع ما أقول وكيف أخدم دينه؛ ثم انتخبت موضوعاً وبدأت أتكلّم فيه، وكان لكلماتي تأثير معنويّ عظيم في الناس، وأنا أجزم أنّه لم يكن

ليحصل لولا تأثير تلك الالتفاتة المعنوية والإحساس بمراقبة النبي صلي الله عليه وآله.

الشيطان يأتي كلّ إنسان من نقطة ضعفه

إذاً يجب علينا أن نوجد هذا الشعور بأنفسنا، فإنّه وإن كان صعباً إلاّ أنّه ممكن لأنّ الشيطان لا يأتي إلينا من الطرق التي أشربت بها نفوسنا، فهو لا يدعونا لترك الصلاة لأنّنا قد تعوّدنا عليها منذ نعومة أظفارنا، بل فتحنا أعيننا عليها واعتقدناها، فكان آباؤنا وأقرباؤنا وأصدقاؤنا يصلّون. ولكنّه يأتي كلَّ إنسان من نقطة ضعفه. فهو يأتي مَن يحبّ المال من جهة المال، ومَن يغضب بسرعة من جهة الغضب، والمحبّ للشهوات من جهة الشهوات. وهكذا فكلّ يأتيه من الجهة التي تتناسب مع طبيعة عمله. فإن لم نكن منتبهين، كنّا والعياذ بالله من الذين ?وَبَدَا لَهُم مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ?، وهذه قاصمة الظهر، وسببها التقصير في المقدمات. فمَن لا يعتني بالمقدّمات استرسل ثم تعوّد شيئاً فشيئاً، وإذا به يفتح عينيه فجأة ليري نفسه أنّه ذهب إلي الآخرة خالي اليدين والعياذ بالله حيث لا ينفعه الندم والجزع؛ فقد ورد في الحديث: «فإنّكم لو عاينتم ما قد عاين مَن مات منكم، لجزعتم ووهلتم، وسمعتم وأطعتم. ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا، وقريباً ما يُطرح الحجاب».

والجزع لا يكون من العذاب فقط، بل كثيراً ما يكون نتيجة التقصير، بل القصور أيضاً، فيقول الإنسان: وا أسفاً؛ لماذا فعلت كذا تقصيراً ؟ أو لماذا فهمت الشيء الفلاني هكذا قصوراً ؟

ويمكن أن نضرب لذلك مثلاً في الحياة الدنيا بشخص يدعو أناساً محترمين لوليمة مهمّة ويرتّب لها كلَّ شيء. وعندما يُهيّأ لصبّ الطعام في الصحون والأواني يكتشف أنّ في الطعام عيباً وأنّه لا يمكن تقديمه إلي الضيوف هكذا، ولا يوجد عنده المال أو الوقت الكافي لتوفير البديل؛ فإنّ هذا

الشخص لا ينسي هذا الإحراج الذي حصل له طيلة عمره، مع أنّه ربما لم يكن مقصّراً، فإنّ التألم والجزع قد يكون بسبب القصور أيضاً.

في السابق، عندما كان يدور الحديث عن القاصر والمقصّر، كان يُضرب مَثل للقاصر بالشخص الأمّي الذي يعيش في قرية لا يوجد فيها أحد من أهل العلم ليسأله، أمّا في المدن فلا يوجد قاصر. وجري هذا الحديث مرّة فذكر أحد العلماء المعاصرين أنّه حتي في القري لا يوجد اليوم قاصرون.

وبغضّ النظر عن المناقشة في ذلك ولكن المسلَّم أنّ أحداً لا يعدّ أهل العلم من القاصرين.

لذا لا ينبغي أن تكون دراستنا لغرض التدريس والتبليغ والموعظة وإرشاد الآخرين والإجابة عن أسئلتهم فقط، بل يجب أن ندرس ونواصل البحث لأنفسنا أيضاً، لأنّ تهذيب النفس وإصلاحها واجب كما أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان. ولو بحثنا لوجدنا أشياء كثيرة لم نكن نعرفها، ولاكتشفنا مطالب جمّة لم نكن نتصوّرها علي تلك الكيفية، أي نكتشف أنّا كنّا نجهل أموراً كثيرة. ولا نعذر في جهلنا هذا مادمنا نري وجوده محتملاً لأن العلماء يقولون: إنّ دفع الضرر المحتمل واجب.

أمّا حديث: «رفع عن أمّتي تسعة … وما لا يعلمون» فلا يمكن أن يقصد به الجاهل المقصّر، لأنّ هذا معناه أنّه لا يجب علي أحد أن يتعلّم، ويصبح الكلّ معذورين، ولا يتصوّر وجود شخص غير معذور بعد ذلك.

حذار من الشرك الخفي

إذاً من الأمور الأكثر أهمّية بالنسبة لنا أن لا يكون طلبنا العلم لغرض رفع جهل غيرنا فقط بل لنزيل الغموض عن أنفسنا أيضاً، وأهمّ المسائل التي ينبغي أن نكون واعين لها ونبدأ بمعالجتها هي مسألة الإخلاص والتخلّص من الرياء. فلنراجع أنفسنا في كلّ موقف بدقّة وننظر كم كان منه لله وكم لأنفسنا، فلينظر الخطيب

مثلاً إلي حديثه عندما يجهد نفسه لكي يجذب الآخرين، هل أتعب نفسه وعني بعباراته ونمّق أسلوبه لكي يقال عنه إنّه خطيب ناجح، أم كان كلّه لله، أم بعضه لله وبعضه لنفسه؟ وهكذا الكاتب والمدرّس والمجتهد و….

وهذه العملية تتطلّب وعياً مستمرّاً؛ وذلك لأنّ الشيطان يجري في الإنسان مجري الدم في عروقه، فلا نغفلْ ولا نخضع لوساوسه وتسويلاته. فإنّ كثيراً من الناس يرتكبون الخطأ ويتصوّرونه صحيحاً، وقد يعملون ما يضرّهم ويعلمون بذلك، ولكنّهم مع ذلك لا يتناهون عنه!

وكذلك الأمر بالنسبة لطالب العلم فربّما أتاه الشيطان عن طريق علمه وزيّن له عمله؛ فيرتكب ما نُهي عنه ثم يقول متذرّعاً إنّ هذا العمل منهيٌّ عنه إلاّ ما خرج بالدليل، وشيئاً فشيئاً تصبح «إلاّ» هذه تخصيصاً للأكثر!

ولذلك ورد في الحديث: «دبيب الشرك في أمتي كدبيب النملة السوداء علي الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء».

إشارة إلي اجتماع السواد الحاصل بالنملة والصخرة العظيمة في رأس الجبل مع الليل الأسود، بحيث يستحيل معها تمييز وجود النملة فضلاً عن دبيبها. وهكذا يكون الشرك أحياناً. وهذا هو المأزق!

داؤك منك ودواؤك فيك

إذاً، ما هو طريق الخروج من هذا المأزق؟ هل هو الدرس أم التدريس وما أشبه؟ نقول في الجواب: لا هذا ولا ذاك. وإنّما الدواء في داخلنا.

هناك حديث مقتضب العبارة بليغ المعني عزيز المنال، إلاّ علي من نظر إلي نفسه من خارجها وحاسبها وكأنّها نفس غيره، حينها يتّضح له معني هذا الحديث، حيث يروي عن أمير المؤمنين سلام الله عليه قوله: إذا صعدت روح المؤمن إلي السماء تعجبت الملائكة. وقالت: عجباً! كيف نجا من دار فسد فيها خيارنا. ومفهومه أنّ المؤمنين قليلون جداً، فإنّه يموت الألوف من الناس يومياً ولا يثير ذلك عجب الملائكة، ولكن حيث إنّ المؤمنين قليلون

فموت مؤمن اليوم لا يتكرر حتي تمرّ أيام أو أسابيع وربما أشهر حتي يتّفق أن يموت مؤمن آخر.

أمّا عجب الملائكة فهو للمؤمن كيف استطاع أن يفلت من كلّ تلك الفتن الشائكة ولم يقع في حبائل مضلاّتها وبقي مؤمناً حتي الممات.

ولكن مَن يسلك الطريق ويسير فيه قليلاً قليلاً، يصل. ومَن صدق مع نفسه، وفّقه الله. ولا ينبغي اليأس بل المطلوب اليقظة والحذر. إنّ الأمل برحمة الله كبير جداً. وإنّ من أرجي آيات القرآن الكريم قوله تعالي: ?إِلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ?، فصريح القرآن أنّ الله تعالي خلقنا ليرحمنا، أي إنّ رحمة الله هي الهدف والعلّة الغائية لخلقنا ¬حسب الاصطلاح الفلسفي ¬¬.

فإن نحن صدَقنا مع أنفسنا فحاشا لله أن لا يأخذ بأيدينا ويوفّقنا. وهذا لا يعني أنّ الطريق سهل فهو صعب وصعب جداً ولكنه ممكن.

قد يظهر أحدنا أمام الآخرين بمظهر لا ينمّ عن نيّته الحقيقية، لعلمه بعجز الناس عن القدرة في معرفتها، بينما الأمر يختلف تماماً مع الله سبحانه الذي يعلم السرّ وأخفي، وبرحمته ستر علينا ولم يفضحنا.

أجل، هنا مكمن الصعوبة، ومع ذلك فتربية النفوس والإخلاص في النوايا يبقي أمراً ممكناً؛ لأنّ الله سبحانه وعد بالتوفيق، وما علي الإنسان إلاّ أن يسعي والتوفيق من الله ?وَأَن لَيْسَ لِلإِنسَانِ إلاَّ مَا سَعَي?، فمع السعي والدعاء يوفّق الله عباده.

وإذا برزت عند الإنسان نقاط ضعفه وأرادت أن توقفه فليتذكّر أنّ الله موجود هناك عند تلك النقاط وليركّز علي هذا الأمر، وبتكرار هذا التذكّر مع نفسه سيصلح ما قد فسد من نفسه شيئاً فشيئاً إن شاء الله تعالي.

(16) الاخلاص وآثاره

(16) الاخلاص وآثاره

?قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ? إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ?.

الفرق بين المخلِص والمخلَص

هناك فرق بين المخلِص والمخلَص.

فالمخلِص بكسر اللام مَن كانت أعماله خالصةً لله، أي يقوم بها لله فقط، وقد وردت في هذا المعني آيات عديدة في القرآن الكريم، منها قوله تعالي: ?وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ?. فالمخلصين هم الذين أخلصوا دينهم لله. أمّا المخلَص بالفتح فهو من أخلصه الله لطاعته.

وفي هذا المعني أيضاً وردت آيات عديدة، منها الآية التي ذكرناها، والتي ورد فيها أنّ الشيطان أقسم بعزّة الله تعالي بعد أن طرده الله من الجنّة لمّا رفض السجود لآدم عليه السلام أنّه سيقوم بإغواء بني آدم ولكنّه استثني منهم عباد الله المخلَصين. فإنّ مَن استخلصهم الله تعالي ووقّع علي إخلاصهم، لن يقدر إبليس علي إغوائهم، ولم يستثنِ غيرهم حتي المخلِصين.

الإخلاص من الأمور الواقعية

هناك في الحياة أمور واقعيّة أعمّ من أن تكون مادّية أو معنوية. فمن الأمور الواقعية في الحياة مثلاً أنّ الإنسان الذي يستطيع أن يسيطر علي أعصابه ويملك نفسه تجاه السفهاء من الناس لا يفقد صحته ولا دينه ولا كرامته في المجتمع، خلافاً لمَن يثور بسرعة فيفقد السيطرة علي أعصابه وربما ردّ الكيل بكيلين والصاع بصاعين، فينقلب ظالماً بعد أن كان مظلوماً فيفقد دينه، كما يخسر صحّته بسبب غيظه، وتتزلزل مكانته الاجتماعية لتعرّضه للنقد من قِبل الآخرين. فالشخص الأوّل في المثال تصرّف بصورة ربح فيها الموقف بينما فرّط به الشخص الآخر.

والإنسان مفطور علي حب الكمال، فحتي الذي ليس عنده علم يحبّ أن يقال عنه عالِم، ويفرح بذلك. كما أنّ الجاهل لا يرضي أن يقال عنه جاهل وإن كان كذلك حقيقة. وهذا إنّما يدلّ علي أنّ العلم له واقعية والجهل كذلك.

وكون الإخلاص أمراً حسناً وممدوحاً فهو من الأمور الواقعية؛ فالإنسان عادة تجده ينزعج ويتأثّر لو

قيل أنّه غير مخلص في عمله، كما أنّه حتي غير المخلص يفرح لو قيل عنه أنّه مخلص وإن لم يكن كذلك واقعاً. وهكذا حال سائر الواقعيّات كالصدق والشجاعة والكرم.

آثار الإخلاص في الواقع العملي

وللأمور الواقعية آثار عملية تترتّب عليها، وتلك الآثار تتناسب مع درجة الواقعية، فكلّما زادت واقعيّة الشيء زادت آثاره.

نقل في أحوال أحد العلماء الماضين رحمه الله أنّه كان إذا دُعي للصلاة علي ميّت، يحضر الجنازة فيصلّي عليها ولا يتأخّر بعد ذلك بل ينصرف إلي أعماله وشؤونه الاخري فقد كان مرجعاً صاحب رسالة عملية يرجع إليه الناس في أمور دينهم واتّفق في يوم من الأيّام أن توفّي أحد القصّابين في ذلك البلد، فأُخبر العالِم، فحضر للصلاة عليه، ولكنّه وعلي خلاف عادته تأخّر هذه المرّة حتّي دفنوا الميت، ثم جلس علي قبره وقرأ له جملة من الأدعية وبعض السور من القرآن الكريم.

فأثار هذا الأمر استغراب البعض، لأنّ القصّاب الميّت لم يكن من أقرباء العالِم ولم يكن من العلماء أو الزهّاد! وعندما أراد الانصراف توجّه إليه أحدهم بالسؤال عن وجه اهتمامه بهذا الميّت، والإكثار من الترحّم عليه، فقال: إنّ هذا القصّاب ساعدني في أيّام عسيرة، فكان يقرضني وهو لا يعرفني في وقت كنت محتاجاً دون أن يرجو قدرتي علي إرجاع المال إليه. فيوم قدمتُ إلي هذا البلد كنت معيلاً فقيراً ولم يكن أحد يعرفني بمن فيهم هذا القصّاب، غير أنّي كنت أشتري منه اللحم، وفي إحدي المرّات لم يكن عندي مال لأدفع الثمن، فقال لي: لا بأس أنا مستعدّ لأن أبيعك اللحم دَيناً، وتكرّرت الحالة في اليوم الآخر، ولعدّة أيام، وهو يقرضني برحابة صدر دون أن يعرفني أو يعلم أنّي قادر علي تسديد الديون، فقد كنت طالباً ولا أملك مورداً

آمل أن يأتيني منه المال، فسألته يوماً: هل أوصاك أحد بي؟ قال: لا. قلت: تعرفني؟ قال: لا. قلت: لماذا إذاً تقرضني؟ قال: رأيتك مؤمناً بادي الصلاح ومعيلاً؛ فأقرضتك في سبيل الله، فإن حصلتَ علي المال رددته إليّ، وإن لم تحصل فلا بأس عليك ولا أخسر في صفقتي مع الله.

يقول العالِم: أُعجبتُ بإخلاص هذا الرجل الذي ساعدني قربة إلي الله تعالي دون أن يعرفني.

فإذا كنّا نحن البشر لا ننسي المساعدة المخلصة، ونستطيع أن نميّزها من دون آلاف المساعدات الأخري، ونقدّرها، وإذا كنا ندرك هذه الحقيقة ولا نختلف فيها وهذه الحقيقة من الواقعيات، وللواقعيات آثارها كما قلنا فكيف بالله تعالي وهو العليم الحكيم.

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ لنا محبين لو قطّعنا الواحد منهم إرباً إرباً ما زادوا إلاّ حبّاً، ولنا مبغضين لو ألعقناهم العسل ما ازدادوا إلاّ بغضاً».

فهل يُعقل أن يُقطَّع أحدٌ بالسيف ومع ذلك يحب مَن بسببه قُطِّع؟! إلاّ إذا كان حبّه لله تعالي.

الإخلاص ونتائجه المستقبلية

جاء في الرواية: «لما أُهبط آدم عليه السلام إلي الأرض جاءته وحوش الفلاة تسلم عليه وتزوره، فكان يدعو لكل جنس بما يليق به، فجاءته طائفة من الظباء فدعا لهن ومسح علي ظهورهن فظهر منهنّ نوافج المسك، فلما رأي ما فيها من ذلك غزلان أُخر قالوا: من أين هذا لكنّ؟ فقلن: زرنا صفيّ الله آدم فدعا لنا ومسح علي ظهورنا، فمضي البواقي إليه فدعا لهنّ ومسح علي ظهورهنّ فلم يظهر لهن من ذلك شيء، فقالوا: قد سلّمنا كما فعلتم فلم نرَ شيئاً ممّا حصل لكم. فقالوا: أنتم كان عملكم لتنالوا كما نال إخوانكم وأولئك كان عملهم لله من غير شيء فظهر ذلك في نسلهم وعقبهم إلي يوم القيامة».

حكي أنّ رجلاً من

الأعراب زار قبر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ونظم عنده بيتاً واحداً من الشعر مختلّ الوزن وعارياً من البداعة ونحوها، فانحلّت عروة قنديل من الذهب كان معلّقاً في سقف الحرم، وسقط القنديل أمامه علي الأرض، فقيل للأعرابي: إنّ هذا القنديل سقط إكراماً وهدية لك من الإمام؛ وذلك لأنّ الأمر كان خلاف العادة، فالقناديل كانت محكمة الربط بسلاسل حديدية، الأمر الذي فُسّر علي أنّه كرامة من الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه لهذا الأعرابي.

فسمع أحد شعراء النجف في تلك الأيام بالقصّة، فنظم قصيدة عصماء وقرّر أن يلقيها عند ضريح الإمام، ليحصل علي قنديل من ذهب إن لم يكن أكثر وسمعة طيبة، واجتمع مع أصدقائه عند حرم الامام عليه السلام في اليوم المقرّر الذي أخبرهم به، وشرع بقراءة البيت الأوّل ولم يسقط شيء، واستمرّ فقرأ البيت الثاني ثم الثالث والرابع حتي نيّف علي العشرين إلي أن أكمل القصيدة، ولكن دون جدوي. حينها تألّم الشاعر كثيراً وتقدّم نحو الضريح المقدّس وخاطب الإمام قائلاً: أنشدك ذاك الأعرابي بيتاً واحداً من الشعر الذي لا يُعرف أوّله من آخره، فضلاً عن خلوّه من المعاني البديعة، فأعطيته جائزة، وأنا أتيتك بهذه القصيدة العصماء التي أتعبتُ نفسي فيها، ولم تكافئني عليها! ثم انصرف متألّماً.

فرأي الإمام عليه السلام في عالَم الرؤيا يقول له: لماذا عتبتَ عليَّ هذا اليوم؟ فقال: إذا كانت القضية قضية شعر، فشعري أجمل وأبلغ، فلماذا أعطيته وحرمتني؟ قال له الإمام: إنّ ذلك الأعرابي قال الشعر لي، وأنت قلته للقنديل! صحيح أنّك مدحتني لكن لأجل القنديل والكرامة الاجتماعية.

مسؤولية رجال الدين

إنّ طلاب العلوم الدينية مبتلون في مسألة الإخلاص أكثر من غيرهم، لأنّهم قد يصلون نتيجة دراستهم إلي مكانة في المجتمع يطمع الشيطان بسببها في

إغرائهم، لأنّ أحدهم لو زلّ لا سمح الله فسيزلّ ويضلّ بسببه خلق كثير؛ كما لو بلغ أحد مقام المرجعية حيث تُجبي إليه الأموال ويحظي باحترام الناس وتقديرهم وحبّهم، وكذا لو كان وكيلاً للمرجع أو خطيباً أو أيّ مركز اجتماعيّ مرموق. فإنّ مثل هذه الأمور مغريات وكثيراً ما تتطلّب اليقظة بدءاً واستمراراً. فإذا كان نظر الإنسان إلي هذه اللوازم التي تنشأ من التصدّي للمسؤولية كالهيبة والتقدير والوجاهة أو الأموال والمكاسب المادّية الأخري، حينها يقال للإنسان بعد تعب مرير وعناء كثير: لقد فعلت ما فعلت من أجل هذه الأمور، وقد حصلت عليها، إذاً فلا شيء لك عندنا بعد. لقد عملتَ للشهرة والسمعة ليقال عنك مثلاً: كاتب جيّد أو خطيب مصقع أو عالم عامل أو ما أشبه، وقد نلت مرامك. فيكون حينها كمَن نظم القصيدة للقنديل، أو كالغزلان التي ذهبت للقاء آدم من أجل نوافج المسك وليس من أجل الله تعالي، أمّا مَن عمل هذه الأمور ولم يكن يرجو من ورائها مالاً ولا جاهاً ولا أموراً دنيوية أخري، بل عمل لله خالصاً فإنّ الله سوف يقدّر له عمله ويجازيه أحسن الجزاء.

فلنعتبر قبل فوات الأوان وقبل أن نكتشف الأمر، ولات حين عبرة، ولنأخذ الدروس من قصص الآخرين. فإذا كان الإنسان بفطرته يدرك أنّ المخلِص هو الحريّ بالثواب دون غيره كما تبيّن لنا ذلك في قصّة العالِم الذي كرّم القصّاب بعد وفاته بسبب إخلاصه وأنّ للإخلاص آثاراً وضعية وتكوينية بل تبقي حتي في أعقاب الشخص إلي يوم القيامة، فليراجع نفسه إذاً وينظر أيقوم بأعماله ودراسته وجهاده لله حقّاً، أم هناك ضمائم يشركها مع الله سبحانه؟ وليعرف أهل العلم خاصّة أنّ بلاءهم أعظم لأنّ الشيطان يستهدفهم أكثر من غيرهم، والمغريات أمامهم

قد تكون أكثر يشهد لذلك قلّة المخلصين.

الإخلاص المزيّف وانعكاسه

والإخلاص مرتبة صعبة البلوغ، وبالنسبة إلي أهل العلم أصعب؛ لمعرفتهم بعض الشيء أن يكيّفوا أعمالهم بنحو بحيث يتصوّر مَن يلاحظهم أنّهم مخلصون حقّاً. حتي إذا شعر من يصاحبهم بعد فترة أنّهم كانوا يتصنّعون الإخلاص ولم يكونوا مخلِصين حقاً، سري في نفسه الشك في المخلصين من أهل العلم كلّهم، مخاطباً نفسه: إنّ هذا الذي عاشرته كلّ هذه المدّة متصوّراً أنّه مخلص تبيّن لي زيفه، فلا بدّ أن يكون الآخرون كذلك.

وهكذا يكون لمن تظاهر من أهل العلم بالإخلاص تأثيراً سيّئاً علي المخلصين الحقيقيين من العلماء؛ إذاً من الأسس التي يجب علي الإنسان أن يسأل الله التوفيق فيها والاستمرار عليها هي أن تكون أعماله لله حقيقة.

لا بأس أن يدرس الإنسان لكي يكون مرجعاً ينفع الناس أو مبلّغاً أو خطيباً أو عالِماً في بلدة ما، ولكن ليكن كلّ ذلك لثواب الله وأجره. ومَن كان هذا هدفه لا يهمه ما يقوله في حقّه زيد أو عمرو، سواء كان سلباً أو إيجاباً. صحيح أنّ التشجيع والتثبيط لهما أثر في نفس الإنسان، ولكن مَن بلغ درجة الإخلاص لاتؤثّر هذه الأمور فيه كثيراً.

لا ضير فيما لو شجّعنا أحد بشيء. أمّا لو كنّا فقط ننتظر أن يقول لنا الآخرون ذلك من باب الإطراء والاحتفاء، فلنعلم أنّ هذا الأمر الذي أدركته عقولنا القاصرة لا يخفي علي الله تعالي، وكلّ شيء عنده بمقدار.

إنّ الشيطان الغويّ قادر علي أن يفرّق بين المخلِص والمخلَص، وعندما يقسم بالله يعرف كيف سيكون العمل مع كلّ منهما. فهو يستثني المخلَصين من دائرة إغوائه، مركّزاً علي من سواهم ابتداءً بالمخلِصين فمن دونهم.

ثم إنّ الله سبحانه يعرف كلّ ذلك ويكيل لنا بنفس المكاييل ويعرّفنا بها حتي

تنقطع حجّتنا ?فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ?.

لننظر إلي أنفسنا، كم يؤثّر فينا التشجيع والتثبيط؟ فإن كان التثبيط يؤثّر فينا مئة في المئة، فذلك دليل علي أنّ الإخلاص غير موجود فينا، حتي ولو بنسبة الواحد في المئة. وذلك كما لو أردت أن تقوم بعمل مثلاً تأليف كتاب ثم لاحظت أنّ هناك مَن يتكلّم ضدّك في حضورك أو غيابك ويصفك بالمراء أو كذا وكذا. فإن قلت: لا فائدة في هذا العمل! أنا أعمل والناس يتكلّمون ضدّي، فلأتركه إذاً! فهذا دليل علي أنّه لا وجود للإخلاص في عملك؛ إلاّ إذا كان هناك مصلحة دينية في ترك العمل، أي كان الترك أيضاً لله وليس بسبب تأثّرك لنفسك.

أو مثلاً: لو لم تكن تفكّر في القيام بعمل ما ولكن شجّعك الآخرون ورأيت بأنّه توجد رغبة عند الناس في هذا الأمر، فقمت به من أجل رغبة الناس وليس لأنّ الله أمرك به أو أحبّه، فهذا أيضاً يعني غياب الإخلاص.

فهذان مثالان علي عدم وجود الإخلاص حتي بنسبة واحد في المئة.

ولكن لو كان العمل لله وكان التشجيع وراء العمل، أو كان الترك لله وكان التثبيط وراء العمل، وكان لكليهما مصلحة دينية، فهذا يعني وجود الإخلاص.

فعلينا أن نربّي أنفسنا علي الإخلاص، ويكون كلّ عملنا لله تعالي، لنكون قد أرغمنا أيضاً أنف الشيطان، فإنّ الإمام عليه الصلاة والسلام يقول: «لابن آدم لمّتان؛ لمّة من الملك ولمّة من الشيطان».

والإمام المعصوم هو خير مَن يعرف الشيطان ولذلك يجتنبه، لكنّا لا نعرفه كما يعرفه الإمام وإلاّ لكان ابتعادنا عنه كابتعاد الإمام. أرأيت كيف يفرّ أحدنا من الظالم أو من الحيوان المفترس؟! إنّ ذلك لمعرفتنا بهما. فلو كنت في غرفة ليلاً وأردت النوم وقيل لك إنّ في الغرفة أفعي مختبئة فهل يغمض

لك جفن أم تبقي حذراً حتي الصباح؟!

إنّ الشيطان أخطر من الأفعي وهو عدوّنا الذي حذّرنا الله منه، فلنحذره ولا ننخدع به قبل أن يفوتنا الأوان وينتصر علينا لا سمح الله ويسخر منّا ونندم عند ذلك ولا يفيدنا الندم. ورد في الحديث: «إذا بلغ الرجل أربعين سنة ولم يغلب خيره شرّه قبّل الشيطان بين عينيه، وقال: هذا وجه لا يفلح».

لاشكّ أنّه لا يأس من رحمة الله لمَن بلغ الأربعين أو أكثر ولكن التحوّل عند ذلك استثناء ?إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ? وفيه صعوبة بالغة.

فالشباب أقدر علي أن يسحقوا جبين الشيطان ويرغموا أنفه، فليبادروا قبل أن يتمكّن الشيطان منهم؛ فإنّ الخلاص من ربقته في المستقبل أصعب. والشيطان يعرف ذلك، ويعرف أنّ الإنسان إذا بلغ الأربعين ضعفت قواه وإرادته علي محاربة الشيطان إلاّ مَن رحم الله.

فإذا كان الأمر كذلك فلنبدأ من الآن في مراجعة أنفسنا كلّ يوم، كلّ في مجال عمله، ولنزنها قبل أن يصعب الأمر علينا أكثر، وقبل أن تصيبنا الغشاوة التي تكون مانعاً من نفاد نور اليقين والعلم إلي أعماقنا، لكي نتمكّن أن نميّز أصلاً ما هو الشيطان، وما هو الإخلاص!

انظروا الآن إلي مدي اهتمامنا بهذا الواقع الذي نعتقد به ونعتقد أنّه أساسي وأنّ كلّ الأمور الأخري مبنيّة عليه.

إذاً علينا نحن طلبة العلم أن ننتبه إلي خطر عدم الإخلاص في أوساطنا أكثر من غيرنا؛ لأنّ عدم إخلاصنا سيكون له والعياذ بالله أسوأ الآثار، وربّما تبقي علي مرّ التاريخ، ويسلك الطريق المعوّج كثيرون بسببنا نحن، أو نتيجة لما استنبطوه من سلوكنا؛ ولهذا يجب علينا الاهتمام بموضوع الإخلاص أكثر من غيرنا.

هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإنّ الشيطان ينشط في أوساط المتديّنين أكثر، ويدلّيهم علي الطرق التي يمكن أن

يظهروا فيها بصورة المخلِصين وإن كانوا ليسوا كذلك.

نعوذ بالله من الشيطان ونسأل الله التوفيق لأن يجعلنا من المخلصين إن شاء الله تعالي.

(17) ثمن الجنة

(17) ثمن الجنة

عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: «ثلاث من أتي الله بواحدة منهنّ أوجب الله له الجنّة: الإنفاق من إقتار، والبِشر لجميع العالَم، والإنصاف من نفسه».

الحديث يقول أنّ مَن كانت فيه واحدة من هذه الصفات وبها خُتمت حياته فهو يستحقّ الجنّة، وهذا لا يعني أن يكون الشخص مستحقّاً للنار ومع ذلك يجعله الله من أهل الجنّة، بل يعني أنّ مَن توجد فيه هذه الصفات أو واحدة منها فإنّه يكون مؤهّلاً للجنّة.

إنّ أعمال الإنسان وتصرّفاته إنّما تنبعث عن نفسه؛ فالأعمال الصالحة والخصال الحميدة تصدر عن نفسٍ قد ملكَ صاحبها زمامها كنفوس المعصومين عليهم الصلاة والسلام وأولياء الله تعالي، كما أنّ المعاصي لا تصدر إلاّ عن نفس غير مسيطَر عليها. ومن الطبيعي أنّ مثل هذا الإنسان لا يتمكّن من الاتّصاف بالصفات التي من شأنها أن تورده الجنّة. أمّا الإنسان المالك لزمام نفسه فسينتقل من خير إلي خير حتي يكون من أهل الجنّة. وهذه الخصال التي ذكرها الإمام عليه السلام لا تتوافر إلاّ عند ذوي النفوس العالية.

الخصلة الأولي: الإنفاق من إقتار

عن مروان بن أبي حفصة قال: «كان المنصور قد طلب معن بن زائدة الشيباني طلباً شديداً وجعل لمن يأتي به مالاً، فحدّثني معن باليمن أنّه اضطرّ لشدّة الطلب إلي أن نام في الشمس حتي لوّحت وجهه، وخفّف عارضيه، ولبس جبّة صوف غليظة وركب جملاً من الجمال الثقالة، وخرج عليه ليمضي إلي البادية، وكان قد أبلي في حرب يزيد بن عمرو بن هبيرة بلاءً حسناً، فخاف فاغتاظ المنصور وجدّ في طلبه.

قال معن: فلما خرجتُ من باب حرب تبعني عبد أسود متقلّداً سيفاً حتّي إذا غبتُ عن الحرس قبض علي خطام الجمل فأناخه وقبض عليّ.

فقلت: ما لك؟

قال: طلبة أمير المؤمنين.

قلت: ومَن أنا

حتي يطلبني أمير المؤمنين؟

قال: أنت معن بن زائدة.

فقلت: يا هذا اتّق الله، وأين أنا من معن؟

قال: دع هذا عنك، فأنا والله، أعرَف بك منك.

فقلت: فإن كانت القصّة كما تقول، فهذا جوهر حملته معي بأضعاف ما بذله المنصور لمن جاء بي، فخذه ولا تسفك دمي.

فقال: هاته. فأخرجته إليه فنظر إليه ساعة وقال: صدقت في قيمته، ولستُ قابله حتي أسألك عن شيء، فإن صدّقتني أطلقتك.

فقلت: قل.

فقال: إنّ الناس يصفونك بالجود، فأخبرني هل وهبتَ قطّ مالَك كلَّه؟

قلت: لا.

قال: فنصفه؟

قلت: لا.

قال: فثلثه؟ حتي بلغ إلي عشره. فاستحيت وقلت: أظنّ أني فعلت هذا.

فقال: ما أراك فعلته، وأنا والله راجل ورزقي من أبي جعفر عشرون درهماً، وهذا الجوهر قيمته ألف دينار وقد وهبته لك، ووهبتك لنفسك وجودك المأثور بين الناس، لتعلم أنّ في الدنيا من هو أجود منك، فلا تُعجبك نفسك، ولتحتقر بعد هذا كلّ شيء فعلته، ولا تتوقّف عن مكرمة.

ثم رمي بالجوهر في حجري وخلّي خطام البعير وانصرف.

فقلت: خذ ما وهبته إليك فإنّي عنه غنيّ.

فضحك وقال: أردتَ أن تكذّبني في مقالي هذا، والله لا آخذه ولا آخذ للمعروف ثمناً أبداً!

ومضي. فوالله، لقد طلبته بعد أن أمنت وبذلت لمن جاءني به ما شاء، فما عرفت له خبراً وكأنّ الأرض ابتلعته».

فمَن كان يحمل بين جوانحه نفساً كنفس هذا الرجل فهو مُرشَّح لأن يتحوّل ويكون إنساناً صالحاً.

الإنفاق من إقتار أفضل من الإيثار

إن الإنفاق من إقتار أعلي درجة من الإيثار، ومثاله الإنفاق الذي قام به الإمام أمير المؤمنين والسيدة الزهراء وابناهما عليهم السلام حين قدّموا إفطارهم إلي المسكين واليتيم والأسير ثلاث ليالٍ متواليات وبقوا جائعين. أمّا الإيثار فقد لا يكون مع شدّة حاجة المؤثر إلي ما يؤثر به غيره، ومثاله أن يؤثر المرء بعباءة لا يملك غيرها ولكنه

قد لا يحتاجها الآن أو أنّه يستطيع شراء غيرها، أمّا الإنفاق من إقتار فهو كما لو أنفق المرء عباءته مع أنّه لا يملك غيرها ولا يستطيع شراء غيرها، وحاجته فعليّة وشديدة إليها، كما لو كان الفصل شتاءً وهو يدفع بها البرد عن نفسه.

الخصلة الثانية: البِشر لجميع العالم

ومعناه أن يكون الإنسان طلق الوجه مع كلّ مَن يلقاه، سواء كان قريباً أوبعيداً، مسلماً أو كافراً، تربطه به علاقة ما أو لا تربطه. وهذا أيضاً أمرٌ صعب جداً. ولو قرّر أحد أن يجرّب هذا الأمر لَلمسَ صعوبته. فأنّي للمرء أن لا يضجر ولا يتبرّم ولا تظهر عليه آثار الاستياء مع أنّ في مجتمعه وبيئته الأذواق المختلفة والسلوكيات المتباينة، ناهيك عن الأحقاد والعداوات والمشاحنات والمشاكسات، فهذا يحسدك، وذاك يعاديك، والآخر لا يتّفق مع ذوقك في الطعام والشراب أو الدرس أو غير ذلك. فربّما ظهرت من صديق فلتة لا ينساها من كانت بحقّه ولو مضي عليها خمسون سنة، بل سيظلّ يتألّم منها كلّما تذكّرها.. فما أعظم الشخص الذي ينكر نفسه ويقاومها رغم كلّ ذلك ويظلّ منطلق الوجه مع الكُلّ.

إنّ الضحك بصوت عالٍ، أو القهقهة مكروه خلافاً للتبسّم، لذلك عبّر عليه السلام بالبشر ليميّز به التبسّم عن الضحك.

والأمر يعود إلي نفس الإنسان وإمكانية السيطرة عليها في مواجهة كلّ الحالات بصدر رحب ووجه طلق وبِشر وبشاشة؛ فإنّ ضبط النفس يحتاج إلي همّة عالية وتمرين ورياضة مستمرّين.

الاستقامة شرط أساسي

• كان أحد العلماء يذكر عن نفسه أنّه كان زميلاً لأحد المراجع المعروفين، وقد قطعا معاً جميع الأشواط الدراسية والعلمية، وأنّه لا يقلّ ذكاءً وعلمية عنه، ولكن عيبه الوحيد الذي حال دون بلوغه مقام زميله هو أنّه كان ينطوي علي طبيعة ساخرة لا يستطيع معها أن يضبط نفسه فيما إذا رأي أدني ما يثير انتباهه، بل كان يسخر ويستهزئ بكلّ مَن يلقاه.

يقول الرجل: آلمني وضعي ذات مرّة فقرّرت مع نفسي أن أضع حدّاً لحالتي هذه التي جعلتني متأخّراً، فيما تقدّم غيري. فعزمت علي أن لا أُظهِر استهزاءً أو سخرية بعد اليوم لأحدٍ،

وبالفعل واجهتني بعد ذلك عدّة حالات، فضبطت نفسي إزاءها واستطعت بمشقّة بالغة تجاوزها الواحدة تلو الأخري، ولكني بعد فترة وجدت أن نفسي في ضيق شديد، فقلت: لا جدوي من صلاحها بعد الآن فلأنطلق وأدعها علي سجيّتها تاركاً لها العنان لما تشتهي، وفعلاً تمّ لها ما أرادت، وعدتُ إلي شخصيتي السابقة. وها أنا اليوم لم أجد إلاّ التكسّب من صلاة الاستئجار التي أقبض ثمنها من ذلك المرجع الذي كان زميلي في الدراسة.

وهذا إن دلّ علي شيء فإنّما يدلّ علي أنّ السيطرة علي النفس أمر صعب إلاّ أنّه وفي الوقت نفسه لاينبغي التراجع عن ترويضها.

• كانت الوالدة رحمها الله توصينا دائماً بأن نبتلع الكلمة علي حدّ تعبيرها سبع مرّات قبل أن ننطق بها، أي لا نستعجل في إطلاقها بل نفكّر فيها سبع مرّات لئلا نندم بعد ذلك. وهذه الوصيّة إنّما تعبّر عن حكمة استُلهمت من حكم الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام: «لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه». أي أنّ العاقل يفكّر أوّلاً ثم يتكلّم. أمّا الأحمق فيتكلّم ثم يفكّر في الكلمة التي قالها وفي أضرارها، وفوائدها، ولماذا قالها؟ أمّا العاقل فلا يعرّض نفسه للاستجواب بعد صدور القول منه، لأنّه فكّر في الأمر قبل ذلك عدّة مرّات.

• لا شكّ أنّ مَن يفكّر في عواقب أموره عدّة مرّات يتمكّن من إتقان مقدّماتها ولا يخطئ فيها غالباً. كما أنّ مَن يكرّر مطلباً يتقنه ويتفوّق فيه.

يقول الشهيد الثاني فيما يوصي به طالب العلم في حفظه لدرسه: «ثم يحفظه حفظاً محكماً، ثم يكرّره بعد حفظه تكراراً جيداً، ثم يتعاهده في أوقات يقرّرها لمواظبته، ليرسخ رسوخاً متأكّداً، ويراعيه بحيث لا يزال محفوظاً جيّداً».

وهكذا الحال بالنسبة لتعويد النفس علي الخصال الحسنة كما في

البِشر مع كلّ العالَم؛ فإنّ للناس أذواقاً مختلفة، وقد يواجه المرء يومياً عشرات الأشخاص والحالات، فربّما يتألّم من بعضهم، ولكي يحافظ علي خصلة البشر مع الناس ينبغي له أن يضغط علي نفسه لكي لا يظهر التأثّر علي وجهه وسلوكه، فإن نجح في تكييف حياته بهذه الصورة فهذا معناه أنّه مسيطر علي نفسه.

• قال أحد العلماء: إنّ أحد أساتذتي كان يتبرّم بسرعة وربّما أغلظ مع الطلاّب. فناقشته يوماً في مسألة وبقيت ألفّ معه وأدور، وكلّما أجابني رددت عليه وناقشته حتي تأثّر كثيراً، فضربني بقوّة علي صدري بظهر كفّه ضربة بقيت أعاني منها لمدّة ثلاثة أيام حتي أنّني استعملت اللصقة الطبّية من شدّة الألم.

يبدو أنّ الأستاذ لم يملك نفسه فتصرّف هكذا، مع أنّ النقاش المثمر هو الطريق الأمثل لتنمية الطلاّب علمياً، ولا ينبغي للأستاذ أن يتصرّف بغير الكياسة وسعة الصدر. ربّما يتألّم الأستاذ من تلميذه لأنّه لم يفهم الدرس بسرعة أو لأنّه فهمه ولكنّه يراه مشاكساً، ولكن تبقي النقطة المهمّة في الأمر هي أن يسيطر الإنسان علي نفسه ويتمالك أعصابه، ويلقي الجميعَ بالبِشر ورحابة الصدر.

المؤمن هشّ بشّ

ورد في الأثر أنّ: «المؤمن هشّ بشّ». فالمؤمن ينبغي أن يكون بشّ الوجه والمحيّا وإن كان متألّماً، وهذا يتطلّب إرادة قويّة ونفساً متربيّة، لأنّ النفس بطبيعتها لا تترك الإنسان هكذا، بل تدعوه للعبوس في وجه الآخرين بسبب أزمات الحياة والحالات المختلفة التي لا ترتاح لها إلاّ إذا كان الإنسان مؤمناً كما وصفه أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: «حزنه في قلبه وبشره في وجهه».

ولا عجب إن كان التحلّي بهذه الخصال أمراً صعباً لأنّها ثمن الجنّة، والجنّة لا تثمّن، فاللحظة الواحدة فيها لا يعدلها ملايين ولا المليارات من كنوز الدنيا؛ خصوصاً بعد اقترانها

بالخلود.

فالحديث الذي صدّرنا به الكلام وهو أنّ صاحب النفس التي تتمتع بإحدي الخصال التي ذكرها الإمام عليه السلام يستوجب الجنّة، وقلنا إنّ ذلك بحاجة إلي تمرين وترويض مستمرّين للنفس، وأضيف: إنّ ّمَن تحلّي بإحدي هذه الخصال جاءته البقية تباعاً؛ لأنّها صفات متلازمة.

الخصلة الثالثة: إنصاف الناس من النفس

يجدر بالمؤمن فيما لو اكتشف أنّ الحقّ ليس معه بل مع مقابله سواء كان أستاذه أو تلميذه أو صديقه أو قريبه أو زميله أو أيّ شخص آخر يتعامل معه أن يقرّ له ويتراجع، وهذه الخصلة لا يمكن أن تكون إلاّ في نفس خاضعة للإيمان وللعقل.

يقول الله تعالي في وصف النفس الخاضعة لغير الحقّ: ?وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ?، وقد يكون هذا حال معظم الناس إلاّ مَن روّض نفسه علي خلاف أهوائها وغرائزها. فلو قيل للمؤمن ?اتّق الله? فإنّه سيشعر بذلّ المعصية، أمّا إذا لم يكن الشخص مؤمناً حقّاً أخذته العزة بالإثم وكابر.

كنت في بعض الأيّام أتمشّي مع أحد الإخوان، في مكانٍ، فرأينا شخصاً يسبّ الله والعياذ بالله فنهره ذلك الأخ وردعه. ولكنّ ذلك الشخص التفت إلينا قائلاً: أنا أشعر وأعني ما أقول ولست جاهلاً أو غافلاً! وهكذا أخذته العزّة بالإثم.

من النادر أن تلقي أحداً يتقبّل النصيحة من أعماقه ولا أعني بالنصيحة الموعظة العامّة كالحديث الذي يلقيه الخطيب أو المحاضر، بل المقصود بها النصيحة المباشرة في موقعها المناسب وإن كانت بالأسلوب الصحيح وباللطف واللين فإنّ النفوس في الغالب لا تخضع للحقّ ولا تذعن له وإن لم يكن موقفها صحيحاً، بل كلٌّ يحاول أن يُظهِر لنفسه وللآخرين أنّ موقفه كان صحيحاً وأنّه لم يكن جاهلاً بحقيقة الأمر.

وهذه الخصلة كالخصلتين السابقتين تماماً، وهي كلّها أمامكم وبأيديكم. وبإمكانكم أن تجرّبوا أنفسكم فيها لتروا بأُمّ

أعينكم إن كانت سهلة أم صعبة، وإن كانت النفوس مختلفة فيما بينها إزاء كلّ من هذه الخصال حسب المحيط والتربية والأجواء التي عاشتها والمراحل التي قطعتها، إلاّ أنّه تبقي الصعوبة موجودة عند كلّ النفوس ولكن بدرجات مختلفة، فبعضها أصعب لدي بعض وبعضها أقلّ صعوبة وهكذا.

مزيداً من التفكير في الجنّة

نحن طلاّب العلوم الدينية حريّ بنا أكثر من غيرنا أن نفكّر في الجنّة والشوق لنيلها؛ ذلك لأنّ المفترض أنّ سبب توجّهنا إلي هذا السبيل هو طلب رضي الله سبحانه وتعالي، وبسبب زيادة معرفتنا عموماً بهذه الأمور.

فينبغي لطالب العلم أن يفكّر أكثر من غيره في الجنّة، وليُعن نفسه في الثبات علي ما أخلص فيه، فهو أَولي من الجميع بذلك؛ لأنه ترك الدنيا وإن كانت مقبلة عليه من أجل الله سبحانه.

ولا شكّ أنّ كثيراً منا لو لم يكن من طلاّب العلوم الدينية لكان وضعه المالي والاقتصادي أحسن. إذاً مادمنا قد تخلّينا عن الدنيا وبعناها ولو إلي حدّ ما فلنركّز قليلاً ونهتمّ ليكون المثمن هو الجنّة؛ فإنّ الله تعالي قد خلق الجنّة للمؤمنين المخلَصين والخيّرين المخلِصين، وأنتم الطلبة قد قطعتم مسافةً باختياركم، فأكملوا الطريق. وكما تحملتم عناء الابتداء فتحمّلوا لتكملوا المسيرة.

فلنجرّب من الآن ولنبدأ بأسهل الخصال ثم نرتقي، فنبدأ بالبِِشر للعالم، فهو أسهل نسبياً من الإنفاق عن إقتار، ومن إنصاف الناس.

وأكرّر أنّ ذلك لا يعني الضحك دائماً؛ فإنّ الله تعالي قد ذمّ الضحك بقوله عزّ من قائل: ?فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا?. بل المقصود بشر الوجه بحيث لو رآه المهموم زالت همومه؛ علماً أنّ هذا التصرّف يؤثّر في الناس أكثر من القول. فقد تحاول أن تزيح الهمّ عن صدر أخيك من خلال كلامك معه لمدّة نصف ساعة أو أكثر ولا تري استجابة، بينما يمكن

أن يكون لمقابلتك الطيّبة معه ولقائك إيّاه بالبِشر الأثر في تحسّن حالته، مع أنّ هذا الموقف قد لا يستغرق دقيقة واحدة، ولهذا ورد في الحديث عن الصادق عليه السلام: «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم».

فلنجرّب أن نكون منبسطي الوجوه مع مَن نلقي، ولا نيأس؛ فإنّه وإن كان أمراً صعباً في الجملة إلا أنّه ممكن التحقق بالممارسة والمواظبة.

• كان اثنان من أقربائنا بينهما مشكلة، فذهب إليهما قريب لهما توفّي هو الآخر ونصحهما بطريقة لطيفة، فقال: إنّكما لا ينقصكما شيء إلاّ إزالة التخاصم الموجود بينكما، فأنتما بحمد الله مسلمان مواليان لأهل البيت سلام الله عليهم ومن المصلّين الصائمين القارئين للقرآن والعاملين للخيرات والعارفين لأحكام الدين، فلماذا تحتفظان ب «بعرة الفأر» هذه في صحيفة أعمالكما؟!

وأنتم طلاب العلوم الدينية الذين تركتم في الغالب معظم اللذات الدنيوية من أجل الله سبحانه، لماذا لا تكملون صحيفة أعمالكم بجعلها خالصة كلّها لله تعالي؟ فما علي المرء إلاّ أن يحاول ويبدأ، والله تعالي هو الذي يعينه شيئاً فشيئاً حتي يبلغ المقصود.

أمّا الصعوبة في ذلك فشيء طبيعي ويحتاج إلي تمرين وممارسة واستمرار واستعانة بالله تعالي.

(18) حبّ الذمّ وكراهة المدح

(18) حبّ الذمّ وكراهة المدح

روي عن رسول الله صلي الله عليه وآله أنّه قال: «ويل للصائم وويلٌ للقائم وويل لصاحب الصوف إلاّ من …». ويظهر من الرواية أنّه صلي الله عليه وآله سكت هنا، فقيل: يا رسول الله إلاّ من؟ فقال: «إلاّ من تنزّهت نفسه عن الدنيا وأبغض المدحة واستحبّ المذمّة».

يستفاد من هذا الحديث الشريف وأحاديث أخري أيضاً أنّ من أسس تربية الإنسان لنفسه أن يكون بحيث لا يتأثّر ويتغيّر بمدح أو ذمّ فضلاً عن ظهور آثارهما علي أعماله وأفعاله.

إنّ الإنسان بطبعه الأوّلي يحبّ المدح ويكره الذمّ، ولكي يصل إلي مرحلة يبغض فيها المدح

ويحبّ الذمّ يحتاج إلي ملكة لا يمكن تحصيلها إلاّ بعد أن ينزّه نفسه عن الدنيا وملذّاتها.

ربّما يكون تحصيل هذه الملكة أصعب من الحصول علي ملكة العدالة، ولكنّ الآثار المترتّبة علي هذه الملكة هي الأخري أكثر من الآثار المترتّبة علي ملكة العدالة.

وليس المقصود ممّا ورد في هذا الحديث بغض المدحة لأنها مدحة، ولا حبّ المذمّة لأنّها مذمّة، بل لأنّ المدح والثناء يقلّلان من قيمة الإنسان غالباً إذا عمل لأجلهما؛ إمّا بخيلاء أو تفاخر أو تكبّر أو غير ذلك، بينما المذمّة علي العكس؛ فهي مدعاة لأن تحثّ الإنسان علي تصحيح أحواله وأفعاله.

وبعبارة أخري: ينبغي للإنسان أن يبغض المدح لأنّ الآثار المترتّبة عليه تضرّه، وكذا الحال بالنسبة لحبّ المذمّة، فهو يحبّها لا لكونها حسنة وإنّما لأنّه إذا ما ذُمّ فإنّه سيلتفت غالباً إلي عيوبه ويسعي لتصحيحها، فتكون نتيجة الذمّ لصالحه.

لكي يصل الإنسان إلي مرحلة بغض المدحة وحبّ المذمّة، يحتاج إلي جهدٍ كبير في المراقبة والتركيز، وإذا وفّق إلي تحصيل هذه الملكة سيكون من أعظم الناس راحة، بل حتّي الذين لم يصلوا إلي هذه الملكة سيشعرون بأنّه أكثر منهم راحة واستقراراً.

وفي خبر عن النبي صلي الله عليه وآله أيضاً أنّه قال: «إنّما هلك الناس باتّباع الهوي وحبّ الثناء» لأنّ حبّ الثناء ربّما يهلك الإنسان، وكلّما زاد مدح الإنسان تعرّض للمحرّمات أكثر، إلاّ من ربّي نفسه.

بغض المدح رأس التواضع

روي عن النبي صلي الله عليه وآله أنّه قال: «رأس التواضع أن تكره أن تُذكر بالبرّ والتقوي».

فمن الجدير بالإنسان وإن كان برّاً أن يكره أن يقال عنه أنّه برّ؛ لأنّ مدح الناس للبرّ لا يزيد في الأمر شيئاً إن لم يفسد؛ لذلك تري البَرّ الحقيقي يكره أن يقال عنه بَرّ، وهذا يعدّ قمّةً في

التواضع الذي هو من قمم الأخلاق.

قد تكون للمدح آثار سيّئة ربما تترتّب عليه، فالإنسان الكاره للمدح يتصوّر نفسه كمن يري ثقباً في جدار بيت قديم مشرف علي السقوط فلا يُدخل يده فيه خشية أن تكون ثمة حشرة مؤذية أو أفعي سامّة أو غيرهما.

فمن طبيعة الإنسان أنه إذا احتمل المضرّة يفرّ، وليست المضرّة في المدح مجرد احتمال وإنّما هي غالبة، إلاّ إذا ربّي الإنسان نفسه تربية حسنة وحاز علي ملكة تحصّنه من آثارها السيّئة.

الآثار السيّئة للمدح

روي عن النبي صلي الله عليه وآله أنّه قال لرجل أثني علي آخر بحضرته: «لو كان صاحبك حاضراً فرضي بالذي قلت فمات علي ذلك، دخل النار».

فما أكثر ضرر المدح بالإنسان إذاً؟ لربما كان المدح كذباً فتترتّب علي الرضا به آثار تسوق الممدوح إلي النار. ويشهد لذلك أنّ بعض النوايا تقود الإنسان إلي النار؛ روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّما خلد أهل النار في النار لأن نيّاتهم في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبداً».

قد لا يكون المدح بنفسه موجباً لدخول النار، إلاّ أنّه يفتح باباً يجرّ إلي جهنّم؛ ومن هنا حسن بغض المدحة وحبّ المذمّة.

ولو قيل لإنسان فقير: كلّما مُدحت نأخذ منك ديناراً، وكلّما ذُممت نعطيك ديناراً، أفتراه بعد ذلك يحبّ المدح أم الذمّ؟

بالطبع سيحبّ الذمّ لأنّه لو ذُمّ في كلّ يوم عشر مرّات فسيحصل علي عشرة دنانير بينما إذا مُدح عشر مرّات أُخذ منه عشرة دنانير. وهكذا يكون حال الإنسان المؤمن؛ لعلمه بأنّه سيثاب علي حبّه للذمّ وبغضه للمدح.

فعندما يقارن الإنسان الأمور المعنوية بالأمور الماديّة تتجلّي له تلك الحقائق بكلّ وضوح، وبقدر ما يفرح الإنسان المحتاج للدينار بحصوله علي عشرة دنانير عندما يُذمّ في اليوم عشر

مرّات، فكذلك يكثر فرحه في المعنويات. وبالتأكيد إنّ الفوز بالجنّة أفضل من الدنيا وما فيها مهما طالت أيّامها وكثر متاعها، فهي لا تعدّ شيئاً مقابل خلود الآخرة وعظيم نعمها ?فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ?.

حقيقة التأثر وعدمه

لا يخفي أنّ عدم تأثّر الإنسان بالمدح أو الذمّ لا يعني سلب شعوره بمرارة الذمّ أو حلاوة المدح، بقدر ما يعني أن يجعل غضبه وسروره تحت إرادة عقله؛ فقد روي عن النبي صلي الله عليه وآله أنّه قال: «أشدّكم من ملك نفسه عند الغضب».

فالإنسان إذا ذُمّ أو شُتم يتأذّي، وقد يغضب ولكن عليه أن لا يتعامل مع غضبه بصورة سلبية. وقد دلّت الروايات علي ذلك فضلاً عن سيرة أهل البيت عليهم السلام.

يروي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لما أدرك عمرو بن عبد ود، لم يضربه! فوقعوا في عليّ عليه السلام، فردّ عنه حذيفة، فقال النبيّ صلي الله عليه وآله: مه يا حذيفة، فإنّ عليّاً سيذكر سبب وقفته. ثمّ إنّه ضربه، فلمّا جاء سأله النبي صلي الله عليه وآله عن ذلك. فقال: قد كان شتم أمّي، وتفل في وجهي، فخشيت أن أضربه لحظّ نفسي، فتركته حتي سكن ما بي ثمّ قتلته في الله.

إنّ المدح والذمّ إمّا أن يكونا صادقين فيوقفان الإنسان علي حقيقة أمره، أو يكونا كاذبين فيطلعانه علي انطباع المجتمع عنه. فكراهة المدح الكاذب تزيده معرفة وتعينه علي هداية الناس وموعظتهم، ومحبة الذمّ الصادق تزيده معونة في تغيير سلوكه نحو الأفضل لكي يتعامل بصدق مع المجتمع، فيوفَّق لموعظتهم وإرشادهم؛ فإنّ الأخلاق الفردية الصالحة لها تأثير قويّ علي هداية الناس.

وإذا روّض الإنسان نفسه بالرياضات الشرعيّة، عن علمٍ ودراية، وضمّ إليها الدعاء والاستعانة بالله سبحانه، فإنّه يوفّق حتماً.

التخبّط في الشبهات

ذُكر في أحوال البسطامي الذي عدّه المتصوّفة صوفياً، واعتبره العرفاء عارفاً أنّه قال: دعوتُ نفسي إلي طاعة الله، فلم تجبني، فمنعتها الماء سنة.

السؤال الذي يُطرح في المقام: هل هذه الرياضة يقبلها الشرع؟

ألا ينبغي للإنسان أن يكون متشرّعاً في تحصيل

المقدّمات التي توصل إلي النتائج ولا يقتصر علي النتائج فقط؟

حتي العرف يقرّ ذلك، فعندما يدعو الإنسان ضيفاً إلي داره، ويحبّ مجيئه، فهذا لا يعني أنّه يرضي بأن يدخل داره من أيّ مكان، كما لو يتسلّق الجدار ويدخل عليه، وإنّما يريد مجيئه عن طريق خاصّ وهو الباب.

وكما يكره الإنسان قدوم الضيف إذا تسلّق عليه داره بغتة، كذلك الشرع، الذي جعل لكلّ شيء حكماً.

ومع كثرة الأحاديث والروايات التي بين أيدينا، فهل من مسوّغ لأن نلجأ إلي طرق لا يُعلم مدي صحّتها من بطلانها؟ ثم ما الداعي لأن يخترع الإنسان طرقاً لرياضة النفس مع وجود الطرق الشرعيّة؟! هذا إن لم نقل بحرمة أو كراهة بعض هذه الطرق المخترعة.

وعلي أيّ حال: إنّ ترويض النفس بهذه الصفة (كراهة المدح وحبّ الذّم) يستغرق زمناً طويلاً، إلاّ إذا حظي الإنسان بهمّة عالية.

كما أنّ أهل البيت عليهم السلام تصدّوا في أحاديثهم وسيرتهم إلي بيان طرق تربية النفس، وإنّ آثارهم سلام الله عليهم موجودة بين أيدينا، فلا حاجة لأن نسلك معها سُبلاً مخترعة قد تقود المرء إلي المكروهات فالمحرّمات.

نسأل الله سبحانه وتعالي أن يوفّقنا للسير علي خطي أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، وصلّي الله علي محمد وآله الطاهرين.

(19) النظر إلي ملكوت الله

(19) النظر إلي ملكوت الله

إنّ التخلّي عن الرذائل طريق إلي التحلّي بالفضائل، والتحلّي بالفضائل طريق إلي الإمدادات والفيوضات الإلهية.

قد يحمل الإنسان نفسه قسراً علي تقمّص الفضائل، لكنّه في الوقت نفسه تجده قد احتوشته الرذائل، حتي لا تجد تلكم الفضائل لها مكاناً في القلب إلا لوقت محدود وسرعان ما تزول.

يقول علماء الأخلاق: إنّ علي الإنسان أن يصلح نفسه أوّلاً باقتلاع جذور السيئات والرذائل المتعلّقة بقلبه لتحلّ بعد ذلك محلّها الحسنات والصالحات.

وهناك العديد من الأحاديث التي تشير إلي هذا المعني إجمالاً؛ منها

ما روي عن رسول الله صلي الله عليه وآله أنّه قال: «لولا أنّ الشياطين يحومون حول قلب ابن آدم، لنظرالي الملكوت».

حام: أي دار و طاف، والملكوت كما جاء في التفاسير المعتبرة يعني الأمور الماورائيّة والأشياء التي لا تُدرَك بالحواسّ العامّة كالسمع والبصر و … فالإنسان لا يري الملائكة مثلاً ولا يسمع أصواتها، كما لا يري كلّ آثار رضي الله وغضبه، شأنه في ذلك شأن عجزه عن الإحساس بحدوث مقدّمات الزلزلة قبل وقوعها، في حين إنّ الله تعالي قد زوّد بعض الحيوانات قابلية الإحساس بقرب وقوع الزلزلة، بحيث تراها تصرخ قبل وقوعها، وتسعي لمغادرة المكان، بل لعلّها تهجره قبل يوم أو يومين من حدوث الزلزال، فهي إذاً تدرك أمراً يعجز الإنسان رغم فكره وعقله عن توقّعه أو تحسّسه.

فمن كانت الشياطين تحوم حول قلبه لتغمره بالأمراض الروحيّة والمساوئ النفسية، يعجز عن النظر إلي ملكوت السماوات والأرض، و عن معرفة الحكمة، ولا يعي أهميّة العقل والفضيلة، وبالتالي ينجرّ إلي حيث تسوقه شياطينه المحيطة بقلبه.

القلب أوّلاً

لكلّ شيء في الحياة آثار يدركها الإنسان إذا توفّر شرط الإيمان وشرط العلم، فالنظر مثلاً إلي ملكوت السماوات والأرض، ليس بحاجة إلي معجزة ليتحقّق، بل أمره متوقّف علي توفّر جملة من العوامل، في مقدّمتها إصلاح القلب.

ومثَل الناظر إلي ملكوت السماوات والأرض مثل المهندس المعماريّ الذي يحدّد عمر هذه البناية أو تلك من أوّل نظرة إليها، ومثل الطبيب الحاذق الذي يستطيع تشخيص المرض بمجرّد أن يلقي نظرة علي المريض؛ لما يراه من آثار في وجهه وغير ذلك، ومثل الخبير في علم اللغة والخطابة الذي يستطيع معرفة الخطيب المفوّه من أوّل جملة يتفوّه بها هذا الخطيب أو ذاك.

إذا فما حازه أولئك من علوم وفنون حتي صاروا

يعرفون ضمن إطار تخصصهم، إنّما حصل بفعل إعمالهم العقل والعناية، فهكذا الحال لمن يريد الوصول إلي معرفة الملكوت يجب عليه إعمال القلب وتهيئته للتوسّم بآيات الله؛ قال سبحانه وتعالي: ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ للْمُتَوَسِّمِينَ?.

ومن هذا الحديث الشريف وأمثاله قال علماء النفس والأخلاق أنّ علي الإنسان لكي ينظر إلي الملكوت أن يصلح قلبه أوّلاً، وذلك عبر انتزاع الرذائل منه، ثمّ بعد ذلك يحاول زرع الفضائل مكانها.

وهذا يلزم قلع جذور السوء من قلبه أوّلاً، فإن استطاع، فبمقدار ما استطاع وبنفس النسبة يكون تسديد الله سبحانه، إليه وشمول رحمته له.

روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «إنّ من أحبّ عباد الله إليه، عبداً أعانه الله علي نفسه، فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدي في قلبه».

و(فاء) التفريع المتكرّرة في هذا الحديث تدلّ علي ترتّبٍ يكون في مقام حصول النور في القلب. فابتداءً لابدّ من عزيمة وإرادة حقيقية ليتمكّن الإنسان من السيطرة علي شهواته وأهوائه.

وممّا ينبغي الإشارة إليه أنّ الحواسّ الظاهرة أسهل في الامتلاك من القلب. فلعلّ من السهل علي الفرد أن يحاول امتلاك لسانه إذا تعرّض للسبّ والإهانة، أو أن يسيطر علي يده إذا تعرّض للضرب، فيشبك أصابعه لئلاّ ينفلت منه زمامها ولكن من الصعب أن يملك المرء قلبه. فالجبان مثلاً حتي إذا خاض بجسمه في الأمر المهول، إلاّ أنّه يعجز عن امتلاك قلبه وأن يتحكَّم بدقّات القلب فيحول دون اشتدادها.

فامتلاك الجوارح أسهل علي الإنسان بكثير من امتلاكه قلبه وباطنه، لاسيّما في اللحظات الحرجة والحسّاسة، كلحظات الغضب والطمع والحسد. وهذه حالة موجودة في القلب ولكن إذا غذّاها الإنسان اشتدّت وزادت، أما إذا أنّبها وحاول إزالتها تقلّ الحالة وتضعف.

وما ورد في هذه الرواية من قوله عليه السلام: «فاستشعر

الحزن» يفيد أنّ الحزن لا يكون إلاّ من النفس؛ فيصيب قلب الإنسان فتور في الانقباض والانبساط فتظهر آثاره علي البدن والوجه، والمراد هنا الحزن علي ما فرّط وارتكب من الذنوب وعلي ما قد ينتظره من مستقبل غير معلوم من هذه الجهات. لذا فإنّ من أعانه الله علي نفسه لابدّ أن يكون كثير التأكيد والتركيز علي نقاط الضعف الكثيرة والمتأصّلة في قلبه والتي عادة ما يكون استسلام الإنسان لشهواته مسبّباً عنها.

آثار حزن القلب

ثمّ إن استشعار الحزن يتبعه تجلبب الخوف واتّخاذه لباساً، أي يكون الخوف بادياً عليه كلّه، ولذلك فإنّك لا تري المؤمن يمتلئ ضحكاً كما في بعض الأحاديث وإذا ضحك لم يتعمّق في الضحك، لأنّه يعرف ويدرك مَن الناظر إليه، وما الذي يمكن أن ينتظره إن زاغ قلبه عن الجادّة. قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «كثرة الضحك تمحو الإيمان». ولذلك، فالمؤمن في حزن دائم، وقد ورد في الأحاديث والروايات ضرورة أن يسعي العابد لأن تظهر آثار العبودية علي جوارحه وأعضائه.

ثمّ يقول عليه السلام: «فزهر مصباح الهدي في قلبه»، تفريعاً علي ماسبق، فأصبح يري بعين الله ما وراء الأشياء، فلا يؤخذ من حيث يجهل، فيتجنّب بذلك كثيراً من المهاوي؛ فيكون قلبه نورانيّاً، لأنّ فيه مصباح الهدي.

وعلماء الأخلاق يقولون بأنّ هذه الحالة تدرك ولا توصف كما هو حقّها؛ إذ يضاعف الله من نعمه علي الإنسان، فيقذف في قلبه نور العلم، فبدلاً عن الرذائل تكون المحاسن، وعوضاً عن الجهل تكون المعرفة، أي يتحوّل القلب إلي وعاء نورانيّ بفضل الله تعالي بعد قيام إرادة الإنسان ونيّته الصالحة فتنبعث في داخل الفرد حالة من السكينة والاطمئنان، يتمكّن بسببها من مواجهة الصعاب واقتحام العقبات.

فالحاجة ملحّة إلي إصلاح القلب قبل إصلاح الجوارح،

وليس الإصلاح بكثرة الصلاة والصيام رغم مطلوبيتهما، ولكن الإنسان مدعوّ إلي التركيز علي اقتلاع جذور الفساد والاستعانة بأفضل العبادات. وقد أشارت الآيات والروايات إلي فضل التفكّر في أمر الله علي كل عبادةٍ، فالإنسان إذا لم يهتمّ بإصلاح قلبه، لا تؤثّر العبادات الظاهرية في حاله.

وسائل التطهير

للتطهير والإصلاح وسائل، منها: الإخلاص لله سبحانه وتعالي، والذي يتأتّي بالإرادة والممارسة. ورد عن النبي صلي الله عليه وآله: «من أخلص لله أربعين صباحاً تفجّرت ينابيع الحكمة من قلبه علي لسانه».

فالقلب كالمرآة، كما أنّ الإنسان لا يستطيع أن يري نفسه جيّداً في المرآة التي تراكم الغبار عليها، كذلك إذا علا قلبه رين الرذائل، لا يستطيع أن ينظر إلي ملكوت الله؛ قال عزّ وجلّ: ?الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَي رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ?.

فلِمَ توجل قلوب هؤلاء عند ذكر الله تعالي؟ الجواب: لأنّ قلوبهم عامرة في الأساس، فعندما يسمعون اسم الله تعالي، يستذكرون أشواط حياتهم ويستعيدونها ويتوقّفون عند مساوئهم ويستغفرون الله من المعاصي.

والإخلاص لا ريب مهمّة صعبة إلاّ أنّها ممكنة.

ويتلو الإخلاص لله تعالي، مهمّة الاستمرار في محاسبة النفس.

كما يعتبر التوكّل علي الله سبحانه وتعالي وطلب المعونة منه من وسائل الإمدادات الإلهيّة في تطهير القلب من الرذائل، وتعويضها بالفضائل.

وهذه الوسائل سلسلة متّصلة الحلقات، لا تنفكّ. أسأل الله سبحانه وتعالي أن يمنّ علينا بتسهيل الطريق لنتحلّي بالفضائل ونتجنّب الرذائل.

(20) الابتعاد عن هوي النفس

(20) الابتعاد عن هوي النفس

قال الله تبارك وتعالي: ?وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَي النَّفْسَ عَنِ الْهَوَي?فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَي?.

التلازم بين الخوف واجتناب الهوي

إنّ الخوف من مقام الله ونهي النفس عن الهوي وجهان لشيءٍ واحد قوامه الورع والتقوي في الذين آمنوا. فمتي نهي المؤمن نفسه عمّا تهواه يكون قد خاف مقام ربّه، ومتي خاف مقام ربّه فقد نهي النفس عن الهوي. فالعطف هنا شبه تفسيريّ.

ولعلّ الحكمة في ذكر الجانبين في سياق واحد هوظهور أحدهما لبعض الناس أسرع من الآخر، فقسمٌ من المؤمنين يخاف أوّلاً مقام الربّ فينهي نفسه عن هواها وبعضهم بالعكس، ينهي نفسه عن هواها فيخاف مقام ربّه.

وقد ورد هذا الأصل الأصيل في أحاديث عديدة تشير إلي أنّ الميزان الإلهي في الجزاء للخلق وأعمالهم هو كونها منبعثة عن هذين الأمرين: خوف مقام الله، ونهي النفس عن الهوي. فإن كانت الطاعات والعبادات منبعثه عن خوف الله ونهي النفس عن الهوي، فهي المقبولة.

ومن ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام: «لو صُمْتَ الدهر كُلَّه، وقمت الليل كُلَّه، ثم قُتلت بين الصفا والمروة أو قال: بين الركن والمقام لما بعثك الله إلا مع هواك بالغاً ما بلغ، إن في جنّة ففي جنّة، وإن في نار ففي نار».

فمن يقضي كلّ أيامه بالصوم وكلّ لياليه بالسهر والعبادة، وختمت حياته بالشهادة بين الصفا والمروة أو بين الركن والمقام وهو البقعة التي تتساقط فيها ذنوب العباد؛ لما لها عند الله من الحرمة والقداسة فإنّه مع كلّ ذلك لن يتعدّي طبيعة هواه. فإذا كان يهوي الدنيا وكانت أعماله وعباداته مجرّدة عن خوف الله تعالي ومقامه، فإنّه سيُحشر مع طبيعة هذا الهوي وحسب نسبتها، والعكس بالعكس.

الهوي أعدي أعداء الإنسان

روي عن الإمام الصادق عليه السلام: «احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيءٌ أعدي للرجال من اتّباع أهوائهم».

فإذا كان للإنسان عدوّ خطير، وأراد أن يتجنّب شرّه، فإنّه يحذره في مجلسه، فتراه

يجمع كلّ انتباهه، وينظر إليه بعين الحذر وإن كان منشغلاً بالتحدّث إلي غيره أو يقرأ كتاباً، وربّما يتساءل في نفسه عن سبب مجيئه إلي المجلس، أيريد به سوءاً، أم كان مجيئه صدفةً؟ كذلك يحذره أينما يراه، وإذا ما قدّم له طعاماً، فإنّه يتأنّي ويتوجّس، وإذا دعاه إلي مكان، يتثبّت ويوجل، وهكذا. فكذلك ينبغي أن يكون الأمر مع الهوي الذي هو أعدي أعداء الإنسان، بمعني ضرورة التثبّت منه واليقظة لدي أيّ عمل يقوم به الإنسان أو كلمة يتفوّهها، لئلاّ تكون مشوبة بالهوي.

يُنقل أنّ خطيباً كان مريضاً طريح الفراش، في ساعاته الأخيرة، وصفه أحد زائريه، قائلاً: رأيت عينيه تفيضان بالدموع، مع أنّه ينبغي أن يتوقّع الأجر الجزيل من الله تعالي لما بذله من جهود في خدمة أبي عبد الله عليه السلام فسألته عن السبب!؟ فازداد بكاؤه وأشار إلي حوض ماءٍ كان قريباً منه، قائلاً: لقد أخذتُ من أعين الناس دموعاً بمقدار ماء هذا الحوض، ولكنّ جهودي لم تكن خالصة لله سبحانه وتعالي بقدر ما كانت لشخصي، لأزيد من شهرتي، وأرضي نفسي.

فأيّ عمل يعمله الإنسان أو قول يقوله يعلم بنيّة نفسه، ويعلم ما إذا كان قلبه وفكره متوجّهاً إلي الله تعالي، أم متعلّقاً بغرض آخر.

ومن ناحية أخري؛ فإنّ أسوأ ما يتعرّض له الإنسان من أعدائه أنّ العدوّ يقضي علي جزء من حياته، فيُحرمه مثلاً سنين معدودة من عمره، بينما الهوي وهو أعدي الأعداء في حال استرسل الإنسان معه، تاركاً له العنان، يحطّم كلّ حياته، حتي يأخذ بآخرته مع دنياه.

روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوي وطول الأمل، فأمّا اتّباع الهوي فيصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة».

ولكن كيف

يمكن للإنسان الحصول علي ملكة نهي النفس عن الهوي؟ لاسيّما طلاب العلوم الدينية الذين آثروا حرمان أنفسهم عن جملة من الزخارف لأنّهم إذا اتّبعوا الهوي تركوا آثاراً سلبيةً أكثر علي من يعيشون معهم؛ نظراً لما يتوقّعونه منهم.

إنّ خسارة أهل العلم والعياذ بالله فيما إذا اتّبعوا الهوي كالخسارة المادّية للشخص الذي تقرّب من ملك أو رئيس أو تاجر ليستفيد منه ومع ذلك لم يستفد من مقامه أو أمواله، حينها سيكون أكثر حسرة وخسارة من الإنسان البعيد عنه كليّاً، وعليه؛ فإنّ خسارة من سلك هذا الطريق متزلّفاً ولم يظفر بجملة من المظاهر الدّنيويّة ستكون أكبر.

بين الخسارة الدنيويّة والربح الأخروي

يروي عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه كان له خادم أوصاه بأن يمسك زمام فرسه حالما يزور قبر جدّه النبي الأكرم صلي الله عليه وآله، وحينما دخل الحرم الشريف جاء رجل من تجّار خراسان إلي الخادم وعرض عليه أن يهبه كل أمواله بإزاء تفويض خدمة المسكة بزمام الفرس إليه، ففكّر الخادم هنيئة ثمّ قال له: سأذهب لمولاي وأستأذنه في الأمر، ثمّ سلّمه زمام الفرس وذهب إلي الإمام وقال له: يابن رسول الله، هل رأيت منّي سوءاً طيلة خدمتي، فنفي الإمام أن يكون رأي منه ذلك. فسأله مرّة أخري: إذا كان هناك خيرٌ يصلني فهل تمنعني عن نيله، فأجابه الإمام بالنفي أيضاً. فقال له الخادم أنّ تاجراً خراسانيّاً عرض عليه ما عرض، وطلب منه الإذن في الانصراف عن الخدمة ليزاول عمل التجارة فيما سيمنحه الرجل الخراساني، فوافق الإمام علي ذلك، ولكنّه حينما همّ بمغادرة الحرم سمع نداء الإمام يطلبه، فعاد إليه، فقال له الإمام: حيث خدمتنا فترة فإنّ لك عليّ النصيحة، وأخذ يذكّره بما لشيعة أهل البيت عليهم السلام وملازميهم من درجات عند

الله ومنازل قريبة منهم في الدار الآخرة، وأنّ الخير كلّ الخير في الدنيا والآخرة من نصيب مَن يلازمهم. فتغيّرت حالة الخادم لكلام الإمام وقرّر البقاء في خدمته عليه السلام. وحينما خرج من الحرم رآه التاجر، فقال له: جئتني بغير ما ذهبت ولا أري علي وجهك علامة الشوق لعقد الصفقة، فأعلمه الخادم بأنّه لن يتبادل المواقع معه.

إنّنا لم نعرف ذلك التاجر كما لا نعرف من كان ذلك الخادم، ولكن هذه القصّة تدلّ علي عظمة شخصيّة التاجر والخادم معاً، حيث كان الأوّل علي استعداد للتخلّي عن كلّ أمواله في مقابل خدمة الإمام عليه السلام، فيما وعي الخادم من رحلة قصيرة عميقة الأثر وأعرض عن المال الكثير لأجل الله سبحانه والدار الآخرة.

من يتّق الله يُرزق

وروي أنّه: كان رجل من العبّاد في بني اسرائيل يصنع السلال ويعيش هو وعياله من ذلك، وذات يوم مرّ علي باب دار أحد السلاطين، وكان الرجل جميل السيماء، فبصرت به زوجة السلطان، فأرسلت عليه ليقتادوه إلي داخل القصر، وحينما جاءها راودته عن نفسه، فاستعصم، فأبت عليه إلا ارتكاب الإثم، فارتأي لنفسه حيلة يتخلّص منها، فطلب من زوجة السلطان أن يتنظّف علي سطح القصر، فأوعزت إلي الخدم أن يصحبوه إلي السطح، فقال الرجل في نفسه: لقد قضيت عمري بالعبادة ولن أفسد عبادتي الطويلة بساعةٍ، ثم قرّر أن يلقي بنفسه من علي سطح القصر لعلّ الانتحار للتخلّص من الذنب كان جائزاً في بعض الأمم السابقة، أو كان هذا عابداً غير متفّقه، أمّا في الإسلام فذلك ممّا لا يجوز. فمن أجبر علي الحرام في مثل هذه المواقع فعليه أن يتخلّص منه بالحلال أو بحرام آخر أقلّ خطراً، لا أن يقتل نفسه.

ولكن ما تدلّ عليه هذه القصّة تفاني هذا الرجل

في الخوف من مقام الربّ وقدرته علي مصارعة هواه.

فصمّم علي إلقاء نفسه من فوق القصر، ولكن الله تبارك وتعالي أمر جبرئيل بأن يتلقّفه ويهبط به إلي الأرض، ففعل جبرئيل ذلك ولم يلحق به ضرر، وهرب من زوجة السلطان.

وحيث كان الرجل قد ترك سلاله في قصر السلطان، فإنّه عاد إلي زوجته بلا سلال أو ثمن مال يشتري به لعياله شيئاً يأكلونه كما هي عادته، فسألته زوجته شيئاً يشتريه، فقال لها بأنّه لا يملك شيئاً أبداً، ثمّ أمرها بإشعال التنور لئلاّ يتصوّر الجيران بأنّهم جياع، فامتثلت المرأة أمر زوجها. وصادف أن جاءت إحدي الجيران تطلب منهم ناراً، فقالوا لها: أمامك التنّور وخذي منه. وحينما أخذت ناراً عادت إليهم لتقول: إن خبزكم يكاد يحترق: فلمَ لا تخرجونه، فجاءوا إلي التنّور، فرأوا الخبز فيه بالفعل، فتناولوه وأكلوه، وعلموا أنّ الله هو الذي رزقهم به، وما كان ذلك إلا نتيجة نهي النفس عن الهوي والخوف من مقام الرب، ومصداقاً لتحقّق الربح في الدنيا والآخرة.

الفصل الثاني: الوصايا

(1) الاقتداء والاعتبار

1 الاقتداء بالعلماء الربانيين

لا ريب أننا وإيّاكم وسائر علماء الدين وطلاّب العلوم الدينية ورثة حوزات يمتدّ تاريخها لقرون، وورثة الألوف من طلاب العلوم الدينية والأساتذة وأئمّة الجمعة والجماعة والعلماء. فلسنا الرعيل الأوّل ولسنا الجيل الأخير، وينبغي لنا جميعاً أن نهتدي بهدي القرآن الكريم وهدي رسول الله وفاطمة الزهراء والأئمّة الاثني عشر صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأن نتعلّم ونقتبس من حياة العلماء الماضين حتي نكون صالحين وحتي تتعلّم منّا الأجيال القادمة إن شاء الله تعالي.

أذكر لكم قصّة من تاريخ الحوزة العلمية في مدينة النجف الأشرف عن أحد العلماء الماضين والذي كان بدوره في يوم من الأيام شابّاً متعلّماً ثم أصبح أستاذاً ثم عالماً ومرجعاً للتقليد، وهو المرحوم الشيخ محسن

خنفر.

عاش الشيخ خنفر في زمان الشيخ الجواهريّ صاحب كتاب الجواهر و(ربما) كان متقدّماً في مرجعيته علي صاحب الجواهر كما يستفاد من تاريخه، وقد تتلمذ علي يديه المئات، صار العشرات منهم فقهاء ومراجع تقليد، أحدهم المرحوم الشيخ محمد طه نجف.

يذكر أنّ الشيخ محسن خنفر مرض في أخريات حياته مرضاً أجلسه في البيت وألزمه الفراش، بحيث لم يستطع مزاولة شؤون المرجعية من قبيل التدريس وتحقيق المسائل والإجابة علي الأسئلة الشرعية …، وطال به المرض إلي أن توفّي رضوان الله تعالي عليه عام 1270 ه وتوفّي الشيخ صاحب الجواهر قبله بأربع سنوات أي عام 1266 ه وفي الفترة ما بين وفاة صاحب الجواهر إلي وفاة الشيخ خنفر صارت المرجعية للمرحوم الشيخ مرتضي الأنصاري رضوان الله تعالي عليه.

وحيث إنّ من طبع الناس غالباً أنهم لا يسألون عن الشخص إذا مرض أو غاب لسبب ما، وإن كان شخصاً مهمّاً، بل ينسونه بسرعة، لا يزورونه ولا يسألون عنه! فأصبح الشيخ خنفر هذا المرجع الكبير والمربّي لعشرات الفقهاء لا يمتلك ما يسدّ به حتي قوت عائلته.

وفي هذا الوقت جيء للشيخ الأنصاري رضوان الله تعالي عليه بكيس كبير مملوءاً بالليرات الذهبية، وبدون أن يفتحه الشيخ الأنصاري قال: احملوه إلي الشيخ محسن خنفر. فأتوا به إلي الشيخ خنفر فقال: ما هذا؟ قالوا: الشيخ الأنصاري يبلّغك السلام ويقول هذا لك. فسأل عما فيه؟ قالوا: ليرات ذهبية. فجلس الشيخ خنفر وفتح الكيس وأخذ ليرة واحدة وكسر منها كسرة وأخذها وأرجع المتبقّي منها في الكيس وقال: عودوا به إلي الشيخ الأنصاري، فهذا المقدار الذي أخذته يكفيني حالياً.

وعندما أرجعوا الكيس إلي الشيخ الأنصاري قام بتوزيع ما فيه علي الفقراء والأيتام وعلي المساجد والحسينيات ومجالس أهل البيت سلام الله

عليهم وعلي المشاريع الخيرية الأخري.

وبعد أيام تُوفّي الشيخ خنفر وتبيّن أنّ المقدار الذي أخذه من الليرة سدّ حاجته وحاجة عائلته للأيام المتبقّية من حياته.

أجل لقد رحل الشيخ محسن خنفر وبعده بزهاء عشر سنوات توفّي الشيخ الأنصاري ومرّ علي وفاتهما زهاء 150 سنة لكن آثارهما وقصصهما لن تموت إلي قيام الساعة.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «هلك خزّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة».

لقد كانت هذه القصّة في الحقيقة امتحاناً كبيراً للشيخ محسن خنفر، حيث استطاع بتحمّله للمرض والفقر والألم وعدم اغتراره بمال الدنيا أن يخرج من الدنيا مرفوع الرأس.

إنّ أهل العلم يواجهون ظروفاً صعبة، وفي أكثر الأحيان ابتلاءات كثيرة، فيجب عليهم أن يقوا أنفسهم من الانجرار وراء شهوات النفس ورغباتها. جاء في الروايات الشريفة: «إنّ الإمام عليّ بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه سمع رجلاً يقول: اللهم إنّي أعوذ بك من الفتنة. فقال: أراك تتعوّذ من مالك وولدك، يقول الله عزّ وجلّ: ?إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ? ولكن قل: اللهم إنّي أعوذ بك من مُضلاّت الفتن».

إنّ منشأ سعادة الماضين وسرّ التوفيق الإلهي الذي حظوا به هو تحمّلهم لمصاعب الدنيا ومشاكلها ومشاقّها، وعدم اغترارهم بزخرفها وملذّاتها، وبذلك خلّدهم التاريخ علماء عظاماً.

لذا ينبغي أن تكونوا علي وتيرة العلماء الماضين وفي طريقهم. إقرؤوا تاريخهم وتعلّموا منهم حتي يتعلّم الأجيال منكم، فعلماؤنا رضوان الله تعالي عليهم ورّثونا تراثاً ثميناً، وعلينا أن نورّث الأجيال القادمة ما ورثنا. فلا ينبغي لأحدكم أن يفكّر في المشرب الأهنأ أو المطعم الألذّ أو الثياب الأنعم أو البيت الأجمل والأرفه وما شابه ذلك من المادّيات وأمور الدنيا الفانية. فلم يكن بيت النبي صلي الله عليه وآله أفخم

بيت في المدينة، ولا كان بيت الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أفخم بيت في الكوفة.

فهذه الأمور ليست مفخرة للعلماء، بل المهمّ والمدعاة للفخر هو أن تكونوا الأحسن علماً وتقوي وزهداً.

2 الاعتبار بعاقبة الظالمين

في أطراف مدينة سامراء منطقة تسمّي ب (الخلفاء) تقع بالقرب من المأذنة المعروفة ب (الملويّة) التي تبعد عن الروضة العسكرية الطاهرة حوالي كيلومترين، هذه المنطقة فيها قبور سلاطين بني العباس ومنهم الطاغية المجرم المتوكّل الذي ظلم وطغي زهاء عشرين سنة وذبح الآلاف من محبّي أهل البيت سلام الله عليهم وشرّد الآلاف منهم، وسجن الألوف. ولكن لو ذهب اليوم أحدكم إلي هذه المنطقة لما وجد أيّ أثر لقبور العباسيين حتي ولو بمقدار آجرة واحدة.

ومن نوادر ما جاء في كتاب (مآثر الكبراء في تاريخ سامراء) أنّه ذهب ذات مرّة أحد أحفاد طغاة بني العباس مع مجموعة من أصدقائه إلي سامراء، حيث مرقد الإمامين العسكريين سلام الله عليهما وقرأوا الفاتحة ثم ذهبوا إلي قبور العباسيين. فقال أحدهم للحفيد العباسي: لقد كان آباؤك خلفاء وملوكاً وقد حكموا نصف المعمورة، وكان عندهم الحول والطول والمال والجيش والرجال والسلاح وكلّ شيء، وهؤلاء وأشار إلي مرقدي الإمامين العسكريين سلام الله عليهما كانوا أسراء بيد آبائك، فما بال قبورهم مشيّدة وتزورها الناس بينما لا نجد أثراً لقبور آبائك؟ فقال العباسي: لأنّ هؤلاء وأشار إلي ضريحي الإمامين الهاديين سلام الله عليهما كانوا مع الحقّ، وآبائي كانوا علي باطل.

(2) تعلّم محاربة «الأنا» من العلماء

قال الله تعالي: ?مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ?.

نقل أنّ الشيخ البهائي رحمه الله ذهب ذات مرّة في زمن مرجعيّته وزعامته للشيعة إلي زيارة العتبات المقدّسة في العراق، والتقي بالمقدّس الأردبيلي في مدينة النجف الأشرف وكان حينها من أكبر الشخصيات العلمية. فتباحثا حول مسألة ما في مجلس كان غاصّاً بالعلماء والشخصيات الدينية. وبعد مناقشات كثيرة وردّ وإثبات استطاع الشيخ البهائي أن يثبت رأيه ويكسب جولة النقاش.

ثم بعد عدّة أيام ذهب هذان العالمان الجليلان إلي مقبرة

وادي السلام. وبعد أن قرآ الفاتحة جلسا جانباً وطرح المقدّس الأردبيلي المسألة نفسها وناقشها مع الشيخ البهائي واستطاع أن يقنع الأخير برأيه بأدلّة محكمة وقويّة. فقال الشيخ البهائي: أكنت تعلم بهذه الأدلّة في بحثنا ذلك اليوم، أم علمت بها بعد ذلك؟ قال الأردبيلي: نعم، كنت عالماً بها ذلك اليوم، لكنني لم أطرحها خشية أن أخدش شأنكم العلمي، وتصغر شخصيّتكم في عيون الحاضرين وأنتم في مقام الزعامة المطلقة للمذهب.

يمرّ اليوم علي هذه الحادثة زهاء أربعمئة سنة تخرّج خلالها الألوف من الطلاب في حوزة النجف الأشرف، ولكن كثيراً منهم لم يبق له حتي الاسم، فيما بقي اسم المقدّس الأردبيلي وأمثاله؛ لأنّ ما كان لله تعالي ينمو، وما كان لغيره فهو فانٍ وزائل. لقد بقي ذكر المقدّس الأردبيلي وسيبقي اسمه مخلّداً، لأنّه كان يعمل لله تعالي فقط.

نعم، لقد عاصر المقدَّسَ الأردبيلي كثير من العلماء ولكن لو راجعتم كتب التراجم والتاريخ لما وجدتم لأكثرهم أيّ ذكر. فالعمل الخالد هو ما كانت صبغته إلهية، أما الأهواء النفسية ففانية وزائلة.

أيّها الأعزّة، بما أنّكم الآن تسلكون طريق العلم، فعليكم أن تختاروا بين أن تعملوا بنحو تكونون معه مخلّدي الذكر كالمقدّس الأردبيلي والشيخ البهائي وغيرهما، أو تكونوا ممّن لم يبق منهم أيّ ذكر، وهذا تابع لنواياكم وأعمالكم، فإن كانت لله سبحانه فسيخلّد ذكراكم، أما إذا كانت لغير الله تعالي فلا خلود ولا ذكر.

ثمّ إنّ حبّ الظهور هو من صفات النفس الأمّارة بالسوء ومن شهوات النفس الموجودة في باطن كلّ إنسان، وكلّ واحد يحبّ أن يتظاهر بقدراته وإيجابياته.

إذاً من يبغي التوفيق الكثير، عليه أن يعزم لوقاية نفسه من هذه الخصلة السيّئة، وذلك بالسيطرة علي شهوات نفسه.

(3) العلماء وإقامة الدين

(3) العلماء وإقامة الدين

قال الله تعالي: ?أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ?،

وقال تعالي: ?إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ?.

من خلال إجراء مقارنة بين هاتين الآيتين المباركتين نستنتج أنّ الله تعالي أمرنا أن نفعل ما من شأنه إقامة الإسلام وإعلاء كلمته. ومن الواضح أنّ إقامة الإسلام تشبه إقامة عمارة أو بنيان؛ لأنّ الإسلام عنوان عام لمجموعة من الأخلاق، والعقائد، والقيم، والأحكام، والآداب المختلفة في حياة الإنسان، تحدّدها طائفة من الأحكام الشرعية.

والمقصود من إقامة الدين أن يلتزم به جميع الناس كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً وأن يعملوا بأحكامه. فإقامة الدين أعمّ من فهمه، وهي تتطلّب الإيمان والالتزام بقوانين الدين وتطبيق أحكامه جميعاً.

مقدّمات إقامة الدين

إنّ إقامة الدين تتطلب مقدّمات عدّة، أحدها تعلّم العلوم الإسلامية، والعلوم المتعلّقة بها كالعربية والبلاغة. وبعبارة أخري: العلوم المعروفة بالعلوم الدينية أو الحوزوية. فالمتظلّع بالعلوم الإسلامية يمكنه أن يقيم مناظرة مع أصحاب الديانات الأخري وخاصّة علمائهم، فيثبت بطلان عقائدهم ويُتمّ الحجّة عليهم ويهديهم إلي مذهب أهل البيت سلام الله عليهم.

لقد شاء الله تعالي أن يختار أهل الحقّ والهدي طريقهم في الهداية والصلاح عن علم ووعي، وأن يعي أهل الباطل أيضاً بطلان عقائدهم، كما اختاروا طريقهم عن علم أو بعد إتمام الحجّة عليهم؛ قال الله تعالي: ?لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ?.

سألت أحد الفضلاء الذين يعيشون في إحدي الدول عمّا يقال من أن تلك الدولة قد أعدّت مليون ومئتي ألف كادر متعلّم لتبليغ مذهبهم الباطل؟ فقال: هذه الإحصائية تعود إلي ما قبل عدّة سنوات سابقة من الآن. أما الآن فقد بلغ عددهم مليون وخمسمئة ألف تشكّل النساء أكثر من مئة ألف منهم، وكلّهم منحرفون عن مذهب أهل البيت سلام الله عليهم!

ولكي ننجح في مواجهة هذا المدّ السلبيّ فلاشك أنه يجب أن يكون لنا

أيضاً طاقات متعلّمة وكفوءة. ومقدّمة ذلك هو تعلّم العلوم الإسلامية.

واقعية التشيّع

إنّ هناك الآلاف من علماء المذاهب الأخري وبعد عمرٍ من الاتّكاء علي مسند التدريس والفتيا، قد استبصروا وتحوّلوا إلي مذهب التشيّع. وبعضهم حدث عنده هذا التحوّل الروحيّ المبارك بعد أن ناهز السبعين أو الثمانين من العمر.

من المسلّم أنّ الإنسان ما لم يكن عالماً لا يمكنه أن يناظر عالماً من مذهب آخر وأن يهديه إلي الصراط المستقيم.

فمن يدقق في بعض مناظرات علماء الشيعة مع علماء الأديان والمذاهب الأخري، يجد روائع العلوم والآثار؛ خذ منها مثلاً مناظرة السيّد محمد باقر القزويني مع علماء اليهود في مدينة ذي الكفل في العراق قبل حوالي مئة وخمسين سنة والتي انتهت إلي اهتداء جملة منهم إلي نور الإسلام والتشيّع.

الخبرة في سوق العلم

ههنا أودّ أن ألفت نظركم إلي مسألة وهي كما توجد في عالم البضائع والاقتصاد والتعاملات التجارية ظاهرة باسم «الغش»، والتي تعرض فيها سلع مزوّرة بدل السلع الأصليّة، فكذلك الحال في سوق العلم أيضاً، وما أكثر الحالات التي تزيّف فيها الحقائق ويلبس فيها الباطل لبوس الحق، وتحلّ المغالطة وهي الاستدلال الباطل الذي يظهر بمظهر الحق محلّ البرهان والاستدلال الحقيقي.

وكما أنّ أهل الخبرة فقط هم الذين يستطيعون تمييز العقيق والياقوت وسائر الأحجار الكريمة عن غيرها من الأحجار العادية، فكذلك العلماء الدارسون والضالعون هُم فقط يمكنهم أن يفرّقوا في سوق العلم بين الحق والباطل، ويميّزوا الخبيث من الطيب، والمغشوش المزيّف من النقي الأصيل.

ثمّ إنّ الخسارة والغشّ في سوق العلم أعظم بكثير من الخسارة في الأمور المادّية؛ فلو أنّ أحداً اشتري بدل العقيق حجرة لا قيمة لها بثمن غال جداً من دون استشارة أهل الخبرة بالأحجار فإنّه سيخسر مبلغاً كبيراً من أمواله فقط، أما من ابتلي بالمغالطات المضلّلة فإنّه سيخسر دنياه وآخرته.

وصاحب العلم النزيه لا يقتصر

ربحه علي نفسه، بل يحول دون ضلال الآخرين أيضاً.

كما أودّ لفت انتباهكم إلي كثرة الخرافات الموجودة في الأديان غير السماوية، لذا يجب عليكم أن تطلبوا العلم عدّة سنين، وتتباحثوا فيما بينكم، وتعزّزوا من قدراتكم العلمية لئلا تشعروا بالعجز إزاء أية مغالطة قد تواجهكم ولكي تجيبوا علي الشبهات بأسلوب علميّ صحيح. ففي هذه الصورة وحدها توفّقون في نشر الإسلام وإقامة الدين.

إقامة الدين مسؤولية عامّة

إنّ قوله تعالي ?أقيمُوا الدين? أمر، والأمر يفيد الوجوب، أي يجب إقامة الدين. كما أنّ الله تعالي لم يقيّد إقامة الدين في الحجاز أو ايران أو في مكان آخر؛ أي إنّ في الآية إطلاقاً، وهذا يعني: وجوب إقامة الدين في كلّ مكان من العالم.

من هنا يجب علي كلّ إنسان أن يعمل حسب طاقته من أجل إقامة الدين في كلّ مكان. وهذا الواجب لا يقتصر علي الرجال وحدهم، فالرجال والنساء فيه سواء، والمسؤولية مشتركة، فإنّ الأمر القرآنيّ يشمل الرجال والنساء معاً. وما أكثر النساء اللواتي وقفن عبر التاريخ في وجه الشبهات والمغالطات ودافعن عن مدرسة أهل البيت صلوات الله عليهم وصنَّ المبادئ والمقدّسات.

(4) لنتعلم من ورع العلماء

قبل زهاء أكثر من قرن كان الشيخ الآخوند الخراساني قدس سره يدرّس بحث الخارج في حوزة النجف، فعزم يوماً ما اثنان من تلامذته أن يحصوا عدد الحاضرين في الدرس، فوقف أحدهما علي باب الدخول إلي قاعة الدرس والآخر علي باب الخروج، وأمسك كلّ منهما بمسبحة للعدّ، فكان مجموع ما أحصوه (1200) طالب.

ولكن كم من هؤلاء بقي اسمهم في التاريخ؟ ربما مئة أو علي أكثر التقادير مئتان.

لذا أوصي جميع طلاب العلوم الدينية خصوصاً، والمسلمين عموماً بوصيّتين هامّتين:

1. التعبئة العلمية، باغتنام الفرص وعدم تضييع الوقت بل استغلاله للعلم والتعلّم.

2. التقوي الحقيقية «الاحتياط في الدين».

لقد كان للشيخ مرتضي الأنصاري قدس سره زميل أيّام دراسته، يدرسان معاً، واتّفق في أحد الأيّام أنّ هذين الشخصين (الشيخ الأنصاري وزميله) لم يكونا يملكان أكثر من فلس واحد، فالتفت ذلك الزميل للشيخ الأنصاري وقال له: هل توافق علي أن نشتري بهذا الفلس رغيفاً من الخبز نصفه لك ونصفه لي؟ فوافق الشيخ الأنصاري وذهب ذلك الزميل إلي السوق ليأتي بالرغيف ولكنّه في

طريق عودته صادف بائع دبس فقال له: هل تعطيني من الدبس ما قيمته فلساً واحداً قرضاً؟

فوافق البائع وأعطاه الدبس، فوضعه الشخص وسط الرغيف وعاد إلي الشيخ.

وعندما رأي الشيخ الأنصاري الدبس في الخبز سأله مستغرباً: من أين لك بثمن الدبس ولم يكن عندنا سوي فلس واحد؟ فقال: أقرضَنيه بائع الدبس.

وهنا التفت الشيخ الأنصاري إلي زميله وقال: وهل تضمن بقاءك حياً لتفي له؟ وما كان ينبغي لك أن تفعل هذا؛ لأنّ رغيف الخبز وحده كان سيشبعنا أيضاً. أما إني فسآكل من أطراف الخبز التي لم يمسّها الدبس وأترك لك الباقي.

ومضت الأيام وانقضت علي هذه الحادثة ثلاثون سنة. وعاد زميل الشيخ الأنصاري من إيران إلي النجف الأشرف وكان الشيخ الأنصاري يومذاك مرجعاً كبيراً يدرّس في الروضة العلوية المباركة. وعندما وصل الزميل كان الشيخ قد أتمّ الدرس توّاً والطلبة في حال الخروج من الروضة، وعندما ولج الزميل القديم الصحن الحيدري التقي الشيخ الأنصاري وهو في حال الخروج فسلّم عليه وخاطبه بلهجة الصديق القديم: ما ضرّ لو استمرّت رفقتنا؟ كيف بلغت أنت هذا المقام السامي في حين إني لم أبلغ شيئاً؟

فالتفت إليه الشيخ الأنصاري وأجابه بلهجة الصديق القديم والممازح: ربما لأني تخلّيت عن ذلك الدبس ولم تستطع أنت التخلّي عنه.

صحيح أنّ كلام الشيخ الأنصاري رحمه الله كان مزاحاً، ولكنه في الوقت نفسه لم يخل من الصدق، وإن لم يكن أيّ إشكال في الدَّين ولم يَقُلْ أحد بحرمته، إلاّ أنّ شدّة احتياط الشيخ الأنصاري لم تسمح له بذلك. وفي النتيجة كانت شدّة الورع لدي الشيخ هي السبب وراء خلود اسمه.

وعليه، فليفكّر كلّ منكم من الآن مع نفسه وليقرر أيريد أن يكون ضمن الألف المنسيّين أم القليلين الذين بقيت ذكراهم؟ فمن كان

يحبّ أن يبقي اسمه حتي بعد مرور ألف سنة، فليعمل بهاتين الوصيتين علي أفضل وجه.

(5) التأسي برسول الله في صموده وأخلاقه

قال الله تعالي في القرآن الحكيم: ?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ?.

لا ريب أنّ المعني المستفاد من هذه الآية الشريفة هو أنّ القرآن يأمرنا أن نتعلّم من رسول الله صلي الله عليه وآله كلّ شيء، حيث قال علماء البلاغة: «حذف المتعلّق يفيد العموم». فاقرأوا تاريخ رسول الله صلي الله عليه وآله واستثنوا ما كان من مختصّاته صلي الله عليه وآله كصلاة الليل التي كانت واجبة عليه، وزواجه من تسع بالعقد الدائم، ودخوله مكّة المكرمة بالسلاح حيث أبيح له ذلك ولمرّة واحدة فقط، وهذا الأمر لا يجوز لغيره مطلقاً. فاقرأوا وانظروا كيف كان يتعامل مع الأسري والعبيد والأطفال والمؤمنين والعاصين والمنافقين. وكيف كان يعاشر زوجاته وأصحابه وأقرباءه، وكيف يتعامل مع أعدائه، وكيف كان يفصل بين ماله الشخصي ومال الأمّة، وكيف كان يعبد الله سبحانه. انظروا إلي سيرته بتمعّن ثم تأسّوا به، فالتأسّي برسول الله صلي الله عليه وآله واجب لمن يريد الفوز والنجاة في الآخرة، كما قال عزّ من قائل: ?لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ?.

أذكر لكم بالمناسبة نقطتين عن حياة وسيرة الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله وأكتفي بذكر مثال واحد عن كل نقطة، لأنّ الحديث عن سيرته صلي الله عليه وآله يتطلّب المئات والمئات من الليالي والأيام.

1. صموده

لقد كان رسول الله صلي الله عليه وآله صامداَ في الحقّ صموداً لا نظير له في تاريخ الإنسانية، فضلاً عن صمود الأنبياء والرسل عليهم السلام. وهناك العشرات من الأمثلة علي ذلك؛ منها: عندما بعثه الله تعالي كانت الكلمة الأولي له صلي الله عليه

وآله مع المشركين هي: «قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا». وبما أنّ المشركين كانوا يعبدون آلهة متعدّدة ومتنوّعة حيث كان لهم إله من خشب ومن قطن وحديد، وإله من حجر وطين، وإله من ذهب وفضّة ونحاس، وكان لكلّ قرية صنم، ولكل عشيرة صنم، بل لكل عائلة صنم، وأحياناً لكلّ فرد صنم،

وبما أنّهم نشأوا علي عبادة الأصنام، فكان لقول رسول الله صلي الله عليه وآله وقع كبير عليهم. فشقّ عليهم ذلك وجاءوا إلي أبي طالب سلام الله عليهم عمّ النبيّ صلي الله عليه وآله وقالوا له: إنّ ابن أخيك سفّه أحلامنا وأفسد شبابنا و …، فقل له إن كان يشكو العُدم، فسنجمع له من المال ما يكون به أغني العرب ونملّكه علينا. وذكروا كثيراً من هذه المغريات.

فنقل أبو طالب سلام الله عليه كلامهم إلي النبيّ وكان بإمكانه صلي الله عليه وآله أن يقول: هذا اعتقادي، ولي أدلّة عقلية تثبت ذلك، وأستطيع إقناع من يناقشني بأنّه لا إله إلا الله وأنّي رسول الله إلي الناس كافّة. لكنّه صلي الله عليه وآله أجابهم بكلام قطع به الطريق عليهم أن يأتوا له ثانية حيث قال:

«لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، ما أردته».

هذا صمود رسول الله صلي الله عليه وآله. وعليه، ينبغي لكلّ من يعرف الحقّ ويقتنع به، أن يستقيم، كما في قوله تعالي: ?إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ? وليصمد، ولكن بأخلاق حسنة، لا بعنف أو بإرهاب أو بشدّة.

لنتعلّم الصمود من رسول الله صلي الله عليه وآله، وأن نعزم في نفوسنا وقلوبنا بأن نعاهده علي الصمود، لكي نحظي بدعائه صلي الله عليه وآله. فكلّ إنسان مسؤول أمام الله سبحانه عمّا

يعتنق ويعتقد، ومسؤول في الدنيا أمام مجتمعه، وأمام من يبلغهم خبره، وأمام التاريخ عندما يطّلع عليه الأجيال في المستقبل. فالذي يعتقد برسول الله صلي الله عليه وآله عليه أن يصمد في سبيله، والذي يعتقد بأمير المؤمنين عليه أن يصمد في سبيله سلام الله عليه، والذي يعتقد بفاطمة الزهراء فعليه أن يصمد من أجلها وفي طريقها سلام الله عليها، والذي يعتقد بالحسن والحسين عليه أن يصمد في سبيلهما سلام الله عليهما، والذي يعتقد بباقي الأئمّة من أهل البيت عليه أن يصمد في سبيلهم سلام الله عليهم، والذي يعتقد بوليّ الله الأعظم صاحب العصر والزمان فليصمد معه عجّل الله تعالي فرجه الشريف.

2. أخلاقه

عندما تتصفحون تاريخ رسول الله صلّي الله عليه وآله وتقرأونه بتمعّن، تعرفون أخلاقه العظيمة، وسجاياه الكريمة. والشواهد عليها كثر؛ منها: عندما كان صلي الله عليه وآله في المدينة المنوّرة وكان يومها حاكماً ورئيساً للدولة الإسلامية وكان كلّ شيء تحت أمره ونهيه جاءه «أعرابي فأخذ بردائه فجبذه جبذة شديدة حتي نظرتُ كما يصفه أنس بن مالك إلي صفحة عنق رسول الله صلي الله عليه وآله وقد أثّرت به حاشية الرداء من شدّة جبذته ثم قال له: يا محمد مُر لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه رسول الله صلي الله عليه وآله متبسماً وأمر له بعطاء» أي أنّه صلي الله عليه وآله عفا عنه ولم يقابله بالمثل. وكان بإمكانه صلي الله عليه وآله أن يصفع الأعرابي، أو أن يترك ذلك لأصحابه، أو أن يقتصّ منه، لأنّ الله تعالي يقول: ?فَمَنِ اعْتَدَي عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَي عَلَيْكُمْ ? لكنه صلي الله عليه وآله لم يقابله بالسيّئة بل عامله بالفضل. فهل في دنيا اليوم يوجد

رئيس حكومة يمكن الاقتراب منه فضلاً عن جذب ردائه؟!

كذلك كانت لرسول الله صلي الله عليه وآله زوجات وكان بعضهنّ يُسئن الأدب معه صلي الله عليه وآله وقد عاتبهنّ القرآن بل هدّدهن كما في قوله تعالي: ?إِن تَتُوبَا إِلَي اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ?. بل وصل الأمر بإحداهنّ أن شكّكت في نبوّته صلي الله عليه وآله، فقد ذكرت الروايات أنّها قالت لرسول الله صلي الله عليه وآله: أنت الذي تزعم أنّك نبيّ الله؟ ولم ينقل أحد أنها تيقّنت بعد ذلك. ونقل أيضاً: أنّه كان بينها وبينه صلي الله عليه وآله كلام فأدخل أباها حاكماً فقالت لرسول الله صلي الله عليه وآله: قل، ولا تقل إلاّ حقّاً. فلطمها أبوها وقال: يا عدوّة الله! النبيّ يقول غير الحقّ؟!

فلم نجد ولو مرّة واحدة أنّ رسول الله صلي الله عليه وآله قابل إساءة إحداهن بالمثل، سواء كانت إساءة بالكلام أو بالفعل.

كما كان لرسول الله صلي الله عليه وآله أصحاب كثيرون وكان فيهم الجيّد والجيّد جداً، والسيّئ والسيّئ جداً، بل بعضهم كان من المنافقين بصريح القرآن الكريم حيث قال تعالي: ?وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَي النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَي عَذَابٍ عَظِيمٍ?. فابحثوا في التاريخ وانظروا كيف تعامل معهم صلي الله عليه وآله.

يجب إذاً أن نتعلّم من رسول الله صلي الله عليه وآله هذه الأخلاق ونقتدي به ونصنع كما كان يصنع، ونقابل إساءة الأصدقاء والجار والأقارب وغيرهم كما كان يصنع مولانا رسول الله صلي الله عليه وآله. ولا يكون هذا إلاّ بعد عزم، ومن يعزم يوفّقه الله تعالي

ليكون في رضوانه سبحانه ضمن الذين اقتدوا برسول الله وتأسّوا به صلي الله عليه وآله، وممّن عمل بالآية الشريفة في صدر البحث. فالتوفيق لا يحصل دون عزم وتصميم.

واعلموا أنّ وراءكم مئات الملايين في العالم، في آسيا وأوربا وأمريكا وغيرها وكذلك في القارة الأفريقية التي هي الآن معظمها حرّة أو مقبلة علي الحريّة، فحاولوا الاستفادة من أجواء الحريّة بإيصال تاريخ وسيرة النبي المصطفي صلي الله عليه وآله وأهل بيته الأطهار سلام الله عليهم إلي كل هذه الملايين. فإن تسعين بالمئة من الشعب الأفريقي مثلاً ليسوا مسلمين أو لا يعرفون أهل البيت سلام الله عليهم لكنهم في الوقت نفسه ليسوا معاندين، بل حتي المتعصّبين الذين خضعوا لغسيل الدماغ، إذا ما عرفوا الصورة الحقيقة للرسول الأكرم وأهل البيت صلوات الله وسلامه عليه وعليهم سيتبدّلون ويتغيّرون.

فلعلّ كلمة واحدة، أو قصّة واحدة، أو سطراً واحداً من عبارة حق وصدق تغيّر تاريخ الإنسان وحياته، كما حصل لعالِمٍ لم يكن يعرف أهل البيت سلام الله عليهم واستوقفه حرف الجرّ (من) في قوله تعالي: ?وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا?.

هذا العالِم تأمّل في هذه الآية الشريفة وتدبّر فيها، وفكّر وبحث في الكتب والأحاديث والتاريخ فوجد الحقّ وصمد في سبيله، حيث استنتج أنّ أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله ليسوا كلّهم علي صواب أو مغفوراً لهم، ولا يؤجرون جميعاً علي صحبتهم لرسول الله صلي الله عليه وآله وعلي ما أدّوه من صلاة وصيام وحجّ و …

لذا عليكم الاقتداء برسول الله وآله صلوات الله وسلامه عليهم في القول والعمل، وأن تطبّقوا في حياتكم أسلوب رسول الله صلي الله عليه وآله، وتتعلّموا منه الصمود والأخلاق الحسنة. فالملايين في العالم ينتظرون هدي

الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله بسببكم وبواسطتكم، وهدي القرآن الحكيم عبركم، وهدي أهل البيت سلام الله عليهم بقلمكم ولسانكم وأسلوبكم، فلا تحرموهم، وهذا بحاجة إلي خدمة وتعلّم كبيرين ومعمّقين، وعمل واسع حتي توفّقوا.

(6) طلب العلم فريضة

قال مولانا رسول الله صلي الله عليه وآله: «طلب العلم فريضة علي كلّ مسلم ومسلمة». فكما أنّ الصلاة والصيام والحجّ والزكاة واجبة بشرائطها، كذلك طلب العلم واجب علي الرجال والنساء.

إنّ علوم الإسلام الحقيقية ثلاثة، وهي:

1. أُصول الدين.

2. فروع الدين.

3. الأخلاق والآداب.

والمقصود من أصول الدين هو معرفة تفاصيل وأدلّة التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد. ومعرفة أصول الدين تبعث علي الاعتقاد بالله تعالي والإيمان به وبملائكته وأنبيائه ورسله وأوصيائه، والتصديق بكتبه ورسالاته وصحفه. كما يمكن أن يُستدلّ من أُصول الدين علي أنّ أوصياء رسول الله صلي الله عليه وآله هم اثنا عشر أوّلهم أمير المؤمنين الإمام علي سلام الله عليه وآخرهم الإمام المهديّ الموعود عجّل الله تعالي فرجه الشريف. وقد استشهد منهم أحد عشر، أمّا الإمام المنتظر فهو حيّ لكنه غائب وسيظهر ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً. هؤلاء الاثنا عشر مع رسول الله صلي الله عليه وآله ومولاتنا فاطمة الزهراء سلام الله عليها هم المعصومون الأربعة عشر، الذين عُصموا من السهو والنسيان، وهم أهل الكمال، وطاعتهم واجبة علي الجميع.

وفروع الدين يمكن أن تجدوا تفاصيلها في الرسائل العملية. أما الأخلاق والآداب فهي ترتبط بسلوك الفرد والمجتمع وتعامل الإنسان مع نظرائه كالزوجة، والأولاد، والأقارب، والأصدقاء، والجار، وزملاء العمل و … الخ.

وكما أنّ معرفة أصول الدين قدر الحاجة واجبة علي الجميع، ويمكن التعرّف عليها عبر مظانّها، فكذلك الأمر بالنسبة إلي فروع الدين، حيث يمكن الرجوع فيها إلي العالم الفقيه. كما يجب علي كلّ

فرد أن يعرف الواجب والحرام من الأخلاق والآداب وتتّبع موارد الابتلاء فيهما من خلال دراسة سيرة النبي صلّي الله عليه وآله وسيرة آل بيته عليهم السلام. ومن الجدير تعليم هذه العلوم للآخرين بعد تعلّمها.

ولا بأس أن نذكر بعض الأمثلة التي لها ارتباط بالأخلاق والآداب حيث ذكر لنا التاريخ نساء كثيرات قمن بهداية الآخرين، منهن ديلم بنت عمرو، زوجة زهير بن القين أحد أصحاب الإمام الحسين سلام الله عليه.

فقد كان زهير عثمانيّ الهوي، وكان في طريقه إلي العراق من مكّة المكرّمة، فعلم أنّ الامام الحسين سلام الله عليه أيضاً في المسير نفسه، فكان زهير وكما نقل جماعته من فزارة ومن بجيلة، قالوا: كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكّة، فكنا نساير الحسين عليه السلام فلم يكن شي ء أبغض إلينا من أن ننازله في منزل، فإذا سار الحسين عليه السلام ونزل منزلاً لم نجد بدّاً من أن ننازله، فنزل الحسين عليه السلام في جانب ونزلنا في جانب، فبينما نحن جلوس نتغذّي من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين عليه السلام حتي سلّم ثم دخل فقال: يا زهير بن القين! إنّ أبا عبد الله الحسين بعثني إليك لتأتيه، فطرح كل إنسان منّا ما في يده حتي كأنّ علي رؤسنا الطير. فقالت له امرأته: سبحان الله أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه؟! لو أتيته فسمعت من كلامه، ثم انصرفت. فأتاه زهير بن القين. فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهه، فأمر بفسطاطه وثقله ورحله ومتاعه فقوّض، وحمل إلي الحسين عليه السلام، ثم قال لامرأته: أنت طالق، إلحقي بأهلك فإنّي لا أحبّ أن يصيبك بسببي إلاّ خير، ثم قال لأصحابه: من أحبّ منكم أن

يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد».

فالمرأة المؤمنة تستطيع أن تبدّل وتغيّر حياة إنسان من عدوّ لأمير المؤمنين إلي محبّ وتابع له سلام الله عليه. وقد صار زهير بفضل إرشاد وتذكير زوجته ممن يخاطبهم يومياً الآلاف من الناس: بأبي أنت وأمّي.

ومن هذه النساء أم الأسود بنت أعين بن سنسن التي استطاعت أن تهدي إخوتها العشرة إلي طريق أهل البيت سلام الله عليهم، منهم الراوية زرارة بن أعين الذي خرج من نسله كبار المحدّثين الذين قدّموا خدمات جليلة للتشيع، منهم أبو غالب الرازي.

وهكذا بوسع المسلمين والمسلمات ممارسة ذات الدور في الأخلاق والآداب روماً في الوصول الي مرضاة الله تعالي ورسوله صلّي الله عليه وآله وآل بيت رسوله صلوات الله عليهم.

(7) كيف نحظي برعاية صاحب الزمان؟

كان المرحوم السيّد مهدي بحر العلوم رضوان الله تعالي عليه قد حظي بشرف اللقاء مع مولانا المفدّي الإمام المهدي الموعود عجّل الله تعالي فرجه الشريف مرّات عديدة. ونقلوا عنه عندما كان مرجعاً للتقليد أنّه سافر ذات مرّة من مدينة النجف الأشرف إلي مدينة الحلّة. وحين وصوله للحلّة استقبله الناس وكان كلّ واحد منهم يرجو السيّد أن ينزل في بيته. إلا أنّ السيّد سألهم عن عنوان واسم أحد كسبة المدينة، لكن أكثرهم لم يعرفه. وبعد أن بحثوا عنه تبيّن أنّ الذي سأل عنه السيّد هو كاسب عادي يملك دكّاناً بسيطاً في إحدي أحياء المدينة. فأخبروه بأنّ السيّد بحر العلوم يبحث عنك. ففرح الرجل، وعندما حضر سأله السيّد: هل تسمح لي أن أنزل في بيتك؟ فأجاب الرجل: أنت تمنّ عليّ بذلك، لكنّ بيتي صغير وبسيط جداً ولا يسع لاستقبال من يريد اللقاء بك. فقال السيّد: سأنزل وحدي في بيتك وأجعل اللقاء بالناس في مكان آخر.

أمّا الناس فاعترضوا وقالوا للسيّد: هذا

المكان لا يليق بكم كونكم أحد المراجع الكبار، ومحلّ تشرف كثير من الناس. فأجابهم السيّد: سأحضر في أيّ وقت كان وفي أيّ مكان تنتخبونه أنتم للقاء الناس. فوافق الجميع علي إصراره بتعجّب!

ثم بعد فترة من الزمن سألوا السيّد بحر العلوم عن سبب إصراره للنزول في بيت ذلك الكاسب البسيط. فقال رحمه الله: لقد أمرني سيدي ومولاي الحجّة بن الحسن عجّل الله تعالي فرجه الشريف بذلك.

قالوا: وهل سألت المولي عن سبب ذلك؟ قال: أنا مطيع له ولا يسعني سوي تنفيذ أمره.

قالوا: إنّ أهل البيت سلام الله عليهم كلامهم كلّه حكمة، فهل تستطيع أن تبيّن لنا سبب ذلك حسب قناعتك الشخصية؟

قال السيّد: عندما كنت ضيفاً عند الرجل أحببت كثيراً أن أجد فيه ما كان سبباً في رعاية المولي صاحب العصر والزمان عجّل الله تعالي فرجه الشريف له فوجدت حياته بسيطة وكان متديّناً بسيطاً، لكنه كان ملتزماً بالفرائض كلّها. وعندما أخبرته أنّي أُمرت من قبل المولي عجّل الله تعالي فرجه الشريف بالنزول في بيته، تعجّب وفرح وبكي! ثم قال: إنّي كاسب بسيط وإنّ تركي العمل ليوم واحد يجعلني أبات ليله جائعاً، ولكن سعيت قدر استطاعتي أن أحافظ علي ديني وألتزم بأحكامه وأخلاقه.

يقول السيّد بحر العلوم: وبعد أن ألححت عليه ذكر لي ما اعتبره سبباً لكلّ ما حظي به من الخير والبركات في حياته.

هذه القصّة لا خصوصية فيها، فكلّ إنسان سواء كان رجلاً أو امرأة، شابّاً أو كهلاً، متعلّماً أوغير متعلّم، قد أودع الله تعالي فيه قوّتين متضادتين إحداهما العقل والأخري الرغبات، وهما من عجائب صنع الله جلّ شأنه. فكلّ واحد منّا يمكنه أن يحظي برعاية الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه الشريف وينال القرب منه بمقدار ما فضّل

به معتقداته علي أهواء نفسه وشهواتها.

(8) ليكن يومنا خيراً من أمسنا

قال الإمام الصادق سلام الله عليه: «من استوي يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يومه شرّهما فهو ملعون». وقال مولانا أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: «الكيّس من كان يومه خيراً من أمسه».

هذه الحالات الثلاث التي وردت في الحديثين الشريفين ترتبط بكلّ فرد، مهما كان دوره في الحياة، سواء كان عالماً أو جاهلاً، كاسباً أو موظّفاً، ورجلاً أو امرأة. ومعني المغبون: هو بيع الشخص شيئاً ثميناً بقيمة بخسة أو شرائه شيئاً رخيصاً بسعرٍ غالٍ، وبالطبع ستكون نتيجة هذا العمل هي الحسرة والندم.

إن خسر المرء أو فَقَد ثروته فيمكنه أن يعوّض عنها في يوم ما، أما خسارة العمر فلا يمكن التعويض عنها أبداً، فما فات لا يرجع، وكلّ إنسان يقضي عمره وأيّام حياته تبعاً لواحدة من تلك الحالات الثلاث فلا بدّ أن يكون قد غبن نفسه.

فمن استوي يوماه فهو كمن خسر ثروته. وهكذا من لم يرتقِ في طلب العلم، أو في التقرّب إلي الله تعالي بالعبادات وخدمة الناس والتعامل الحسن مع عائلته وأقاربه وأصدقائه، فهو كمن خسر عمره. فالكيّس كما ورد في الحديثين أعلاه من كان يومه خير من أمسه، والملعون والعياذ بالله هو من كان يومه أسوأ من أمسه.

لقد منّ الله تبارك وتعالي بنعم كثيرة علي الإنسان كالسمع والبصر والحياة، والعقل الذي جعله الله تعالي معياراً للثواب والعقاب، والقدرة علي الفعل والإنتاج.

إذاً ينبغي للمرء أن يستفيد من هذه النعَم بشكل صحيح ويستثمرها في أن يعزم ويبذل ما في وسعه لأجل أن يكون يومه خيراً من أمسه، وشهره الذي فيه خيراً من شهره الذي فات، حتي لا يتحسّر علي ساعات وأيّام حياته، ولكي ينال التوفيق والسعادة في الدارين.

(9)التأسي بالصديقة الزهراء

إنّ أحد عشر إماماً معصوماً سلام الله عليهم

هم من ذريّة مولاتنا فاطمة الزهراء سلام الله عليها وطاعتهم مفروضة وهم أسوة وحجج علي الخلق أجمعين وسيّدتنا الزهراء سلام الله عليها حجّة عليهم، كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الحسن العسكري سلام الله عليه: «نحن حجج الله علي خلقه وجدّتنا فاطمة حجّة علينا». ومعني هذا أنّه من الواجب علي الإمام الحسن والإمام الحسين وباقي الأئمّة الهداة الأطهار سلام الله عليهم أن يتأسّوا بأمّهم البتول سلام الله عليها.

لقد شاءت إرادة الله سبحانه أن لا يخلق قبل مولاتنا الزهراء وبعدها امرأة بمستوي فضلها ومقامها سلام الله عليها.

حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء سلام الله عليها فقالت: إنّ لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شي ء، وقد بعثتني إليك أسألك. فأجابتها فاطمة سلام الله عليها عن ذلك، ثم ثنّت، فأجابت، ثم ثلّثت [فأجابت ] إلي أن عشّرت فأجابت، ثم خجلت من الكثرة، فقالت: لا أشقّ عليك يا بنت رسول الله. قالت فاطمة سلام الله عليها: هاتي وسلي عمّا بدا لك، أرأيت من اكتري يوماً يصعد إلي سطح بحمل ثقيل، وكراؤه مائة ألف دينار، أيثقل عليه؟ فقالت: لا. فقالت: اكتريت أنا لكلّ مسألة بأكثر من مل ء ما بين الثري إلي العرش لؤلؤاً، فأحري أن لا يثقل عليّ، سمعت أبي [رسول الله ] صلي الله عليه وآله يقول: «إنّ علماء شيعتنا يحشرون، فيخلع عليهم من خلع الكرامات علي قدر كثرة علومهم وجِدِّهم في إرشاد عباد الله، حتي يخلع علي الواحد منهم ألف ألف خلعة من نور».

لذا يجدر بالأمّهات والنساء المؤمنات عامّة أن يتأسّين بسيّدتنا الصديقة الكبري سلام الله عليها في كلّ شيء، فيتعلّمن المسائل الشرعيّة وعلوم أهل البيت سلام الله عليهم، ويسعين في تعليم قريناتهن.

إنّ علوم أهل البيت

سلام الله عليهم موجودة في الأحكام والعقائد والآداب والسنن، فاسعين إلي تعلّمها بعمق وعلّمن الأخريات اقتداءً بمولاتنا فاطمة سلام الله عليها، وبمقدار ما تبذلن من الجهد والسعي في هذا المجال تنلنَ يوم القيامة القرب من مولاتنا سيّدة نساء العالمين سلام الله عليها.

إنّ كثيرات من بنات اليوم لا يعرفن المسائل الشرعية ولا آداب الإسلام ولا ثقافته، فأوصيكنّ أن تنتهزن العطلة الصيفيّة وتسعين في جمع النساء من أقاربكن ومن محلّتكن، واعقدن لهنّ جلسات تعليم أصول الدين وأحكامه وأخلاقه وآدابه وسننه.

فعلي كل واحد منّا واجبان: الأوّل العمل بأحكام الإسلام، والثاني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فنحن مكلّفون بإعطاء الخمس وتحفيز الآخرين علي ذلك. فالذي يخمّس ولا يأمر بالمعروف، أو لا يحفّز الآخرين علي دفع الخمس، فإنّه قد عمل بواحد من الواجبين. والذي يخمّس ويأمر بالمعروف أو يدعو الآخرين لدفع الخمس، فإنّه قد عمل بالواجبين، والذي يترك كلا العملين فإنّه تارك لكلا الواجبين.

إنّ هذين الواجبين، واجبان مستقلاّن عن بعضهما. لذا لا ينبغي لنا أن نترك تبليغ وتعليم أحكام الدين إن لم نوفّق للعمل بهما. بل من الجدير ضمن سعينا في تبليغ وتعليم أحكام الإسلام للآخرين أن نسعي في العمل بأحكام الإسلام وأن نطبّق ما نقول.

(10) السعي في قضاء حوائج الناس

كان أحد الطلبة يسمّي(الشيخ محمد الكوفي) يسكن في مدينة النجف الأشرف، وبعد فترة سكن مدينة الكوفة واتخذ من إحدي غرف مسجد الكوفة سكناً له، وكان من المواظبين علي زيارة مسجد السهلة وذلك في عصر مرجع الشيعة الكبير سماحة السيّد أبي الحسن الإصفهاني رحمة الله عليه أيّام كان يعطي كلّ واحد من الطلبة ديناراً شهرياً مع كميّة من الخبز تكفي لشهر واحد، حيث كان الطلاب يستلمونها من المخابز علي حساب السيّد.

وكان الشيخ محمد الكوفي يذهب

إلي النجف الأشرف مرّة كل أسبوع فيستلم مقداراً من الجبن واللبن ويجفّفهما ليستطيع الاستفادة منهما خلال أسبوع، كما كان يستلم معهما وجبة من الخبز، وكذلك كان خادم مسجد الكوفة يعطيه ما يفضل من طعامه.

وذات يوم دخل الشيخ محمد علي السيّد أبي الحسن وأخذ يبكي بكاءً شديداً، وبعد أن سأله السيّد: ممّ بكاؤك؟ قال: كنت لسنين أبحث عن مولاي الحجّة بن الحسن عجّل الله تعالي فرجه الشريف، فرأيته ذات مرّة ولكنني ما عرفته وعندما تعرّفت عليه فقدته.

فسأله السيّد: وكيف حدث ذلك؟ قال: كنت ماشياً في الطريق الذي يربط بين مسجدي الكوفة والسهلة، فأحسست أنّ خلفي شخصاً، فقال لي: يا شيخ محمد، من أين تأكل؟ فقلت: من دينار وخبز السيّد أبي الحسن الإصفهاني الذي يعطيهما معونة للطلاب. فقال لي: قل للسيّد أبي الحسن: «رخّص نفسك، واجلس في الدهليز واقض حوائج الناس، نحن ننصرك». فتناول السيّد أبوالحسن علي الفور ورقة وكتب فيها هذه الوصية.

وقد نقلوا عن السيّد رحمه الله قوله: عندما كنت أحسّ بالتعب والضغط جرّاء الأعمال اليومية والمسؤوليات كنت أتناول هذه الورقة واقرأ ما أوصي به مولاي الحجة عجّل الله تعالي فرجه فكان التعب يذهب عني، ومعنوياتي تتجدد.

لقد رحل السيّد أبوالحسن ولكن وصيّة مولانا صاحب العصر والزمان عجل الله تعالي فرجه الشريف باقية وهي وصيّة للجميع.

إذاً علينا أن لا نعطي مجالاً للتعب، وأن نتنزّه عن عبارات من قبيل: هذا ليس من عملي، أو ليس بشأني، أو وقتي ثمين و … فأئمّتنا الهداة الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كانوا يقضون معظم أوقاتهم في قضاء حوائج الناس. ثم إنّ وقتنا ليس بأقدس وأعزّ من أوقاتهم سلام الله عليهم.

ولعلّ أحدنا يصرف بعض وقته لشخص بسيط فيقضي حوائجه بمقدار ما

يتمكّن، فيتبين أنّ ذلك الشخص هو وليّ من أولياء الله تعالي، كما ورد في الحديث الشريف عن مولانا سيّد الشهداء الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه حيث قال: «إنّ الله عزّ وجلّ أخفي أربعة في أربعة: … وأخفي أولياءه في الناس فلا يستصغرنّ أحدكم أحداً؛ فإنّه يوشك أن يكون ولياً لله تعالي …».

(11) الأجر علي قدر المشقّة

قال الله عزّ وجلّ: ?فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ?

إنّ الله تبارك وتعالي شبّه أحوال الدنيا بالسيل الذي يجرف في طريقه كثيراً من الأشياء الخفيفة كالشوك ونشارة الخشب والتبن وما شابه ذلك. ولأنّ هذه الأشياء خفيفة فهي تُري علي سطح الماء طافية ولكن بعد مدّة تزول وتختفي وتبقي الأشياء النافعة والمفيدة.

لقد شاءت إرادة الله تعالي أن لا تخلو أمور الدنيا من المشاكل؛ لذلك تري أنّ أفضل مَن خلق الله تعالي ومَن لأجلهم خلق الكون بأفلاكه وهم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قد تعرّضوا خلال تبليغهم رسالة ربّهم إلي أشدّ أنواع الأذي والظلم والاعتراض والمخالفة.

ولئن كان المؤمنون المبلّغون لا يواجهون اليوم ردود فعل سلبية أو مشاكل خلال ممارستهم للتبليغ في مكان ما، فلعلّ مردّه التضحيات التي بذلها السلف الصالح، وما تحمّلوه من المتاعب والمشاقّ في هذا السبيل.

علي سبيل المثال: إنّ مدينة إصفهان وهي إحدي المدن المعروفة بتمسّكها بالتشيّع والتي ينطلق منها الكثير من المبلّغين إلي أرجاء العالم كان أهلها في فترة من الزمن لا يكتفون بردّ الفعل السلبي تجاه المبلّغين وعلماء التشيّع بل كانوا لا يطيقون سماع كلمة (الشيعة). ولكن إثر جهود وتضحيات العلماء الأعلام كالعلاّمة المجلسي والمحقّق الكركي وأمثالهما رضوان الله تعالي عليهم باتت إصفهان اليوم إحدي المدن الكبري

المتمسّكة بالولاء والحبّ لآل بيت رسول الله صلي الله عليه وآله.

إنّ التعامل السلبي مع المبلّغين الشيعة اليوم أقلّ من الماضي، وإذا راجعتم كتاب (شهداء الفضيلة) للعلاّمة الأميني رضوان الله تعالي عليه يتّضح لكم مدي الأذي والمشاقّ والتعذيب الذي تعرّض له السلف الصالح في نشر علوم أهل البيت سلام الله عليهم، بل إنّ بعضهم كان يُلقي حيّاً في النار.

قبل زهاء ألف سنة كانت الدراسة والتأليف والتحقيق عملاً شاقّاً جدّاً، حيث إنّ جمع بضعة أحاديث كان يتطلّب زماناً لا يقلّ عن سنة، وربّ شخص كان يصرف الكثير من الجهود ويتحمّل الكثير من مشاقّ السفر علّه يسمع من محدّث ما حديث الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله: «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار» أو «فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني». حيث إنّ العثور علي حديث واحد في ذلك الزمان، كان أصعب من تهيئة عدد من الكتب في زماننا الحاضر، بل إنّ كلّ من كان يحمل معه ورقة فيها حديث حول منقبة من مناقب مولاتنا الزهراء سلام الله عليها، كان يعرّض نفسه للخطر.

يذكر أنّ شاباً (في ذلك الزمان) كان يسكن في الكوفة وقد بذل عمره في خدمة علوم أهل البيت سلام الله عليهم وجمع الكثير من الأحاديث التي تذكر ولاية آل الرسول صلي الله عليه وآله في أوراق وعرضها علي زملائه وقال لهم: أريد أن أخرج بهذه الأوراق من الكوفة لأنشرها في بقية المناطق. فقالوا له: نتخوّف عليك من ذلك!!

وبما أنّه كان مصمّماً علي ذلك مهما كلّف الثمن، اقترح عليه زملاؤه أن يذهب إلي مدينة البصرة لأنّ فيها قليلاً من الشيعة وحذّروه من الذهاب إلي مدينة إصفهان. ولكنه اختار الذهاب إلي مدينة إصفهان ليبلّغ

ما كتبه في أوراقه. فشدّ الرحال إلي إصفهان وتحمّل عناء السفر كالجوع ووجود الحيوانات الضارية والسرّاق والجلاوزة الذين كانوا مأمورين بقتل كلّ من يدعو إلي التشيّع، وشرع بممارسة عمله التبليغي ونشر ما كتبه في أوراقه حتي استشهد علي أثر ذلك.

لا شكّ أنّ مقام هذا الشابّ وعلماء السلف الصالح الذين بجهودهم تحوّلت إصفهان إلي مدينة شيعية سيكون عظيماً جداً يوم القيامة، والمثيب لهم هو مولانا رسول الله والأئمّة الهداة من آله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

إنّ تحمّل المشاقّ والمشاكل في العمل التبليغيّ يعدّ من البديهيات، فلا ينبغي لنا الخوف من الأذي والمشاكل في سبيل نشر ثقافة أهل البيت سلام الله عليهم، بل يجب الاقتداء بالسلف الصالح في نذر أنفسنا للصعوبات والأذي.

فهذا «عطيّة» أحد علماء ومفسّري الكوفة تحمّل التشريد عشرين سنة خوفاً من بطش الحجّاج، وعاش مع عائلته في أقسي الظروف، وبعد هذه الفترة من الزمن قبض عليه الحجّاج الملعون في إحدي مناطق إيران فأمر بجلده أربعمئة سوط ونتفوا لحيته؛ كلّ ذلك بسبب روايته للأحاديث التي تذكر مناقب مولاتنا فاطمة سلام الله عليها.

إنّ صعوبات العمل التبليغي تعدّ من الأمور الثمينة، وهذه المتاعب والآلام لها ثمن عظيم عند الله تعالي، وعاقبة مرارتها هي الحلاوة. وقد دعانا القرآن الكريم وأئمّتنا الهداة إلي الاعتبار بحياة الماضين. وإذا راجعتم صفحات التاريخ لرأيتم أنّ كثيراً من المؤمنين أمثال ذلك الشابّ الكوفي قد تعرّضوا إلي أنواع التعذيب وقضوا نحبهم تحت سياط الجلاّد. أنتم أيضاً سيذهب التعب عنكم، فحذار أن تكونوا من الذين يشعرون بالتقصير والخجل تجاه مولاتنا الصديقة الكبري سلام الله عليها.

فلا تستصغروا أيّ عمل تبليغيّ، ولا تستهينوا بأيّ مفردة في هذا الصدد، فلعلّ تفوّهكم بكلمة بسيطة بالظاهر تؤدّي إلي استبصار كثيرين بنور

أهل البيت سلام الله عليهم ويتشيّع كثير ممن لا تعرفونهم، حينها يمكن القول: لقد فعلتم جميلاً وحسناً أن صرفتم أيّاماً من عمركم في تبليغ ونشر علوم أهل البيت سلام الله عليهم، فلتطمئنّ قلوبكم أنّ كلّ ما تحمّلتموه من الآلام والصعوبات وكلّ مساعيكم في هذا الطريق هي محفوظة عند الله جلّ شأنه وسيرعاكم مولانا بقية الله الأعظم عجّل الله تعالي فرجه الشريف برعايته ودعائه.

(12) هكذا تطول الأعمار

جاء في الروايات الشريفة أنّه في عصر إمامة مولانا الإمام موسي الكاظم صلوات الله وسلامه عليه خرج أخوان من مدينتهما وهما يريدان مكّة المكرّمة، فاصطحبا الطريق معاً إلي أن وصلا قرية، واختلفا فيها حول شيء ما، فتنازعا وتسابّا وتقاطعا، وأخذ كلّ منهما طريقاً غير طريق الآخر.

فجاء أحدهما واسمه يعقوب ودخل مكّة المكرّمة وحده، وكان مشغولاً بالطواف، فبعث إليه الإمام الكاظم سلام الله عليه رسولاً وقال له: أتريد موسي بن جعفر؟ قال: نعم، قال: اتبعني.

«فلما رآه الإمام سلام الله عليه قال له: يا يعقوب! قدمت أمس ووقع بينك وبين أخيك شرّ في موضع كذا وكذا، حتي شتم بعضكم بعضاً، وليس هذا ديني ولا دين آبائي، ولا نأمر بهذا أحداً من الناس، فاتّق الله وحده، لا شريك له، فإنّكما ستفترقان بموت. أما إنّ أخاك سيموت في سفره قبل أن يصل إلي أهله، وستندم أنت علي ما كان منك، وذلك أنكما تقاطعتما فبتر الله أعماركما. فقال له الرجل: فأنا جعلت فداك متي أجلي؟ فقال الإمام: أما إنّ أجلك قد حضر حتي وصلتَ عمّتك بما وصلتها به في منزل كذا وكذا، فزيد في أجلك عشرون.

قال: فأخبرني الرجل ولقيته حاجّاً أنّ أخاه لم يصل إلي أهله حتي دفنه في الطريق».

هذه القصّة ذاتها تتكرّر في كلّ زمان ولكلّ

الناس، فلا خصوصيّة لهذين الأخوين، وإنّ عاقبة عمل الشرّ خصوصاً عقوق الوالدين وقطع الرحم هي تقريب أجل المرء، وعمل الخير وخصوصاً برّ الوالدين وصلة الرحم ينسئ الأجل، كما ورد ذلك في الأحاديث الشريفة.

لذا ينبغي لكلّ فرد أن يعزم علي عمل الخير مهما كان وبقدر ما يستطيع ويتمكّن، ولا يترك ذلك، سواء كان للوالدين أو الأقارب أو الجيران أو شركاء العمل وغيرهم، ولا يتواني في تقديم الخدمة لأيّ أحد من الناس.

يقول الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: «وصدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة السوء، وصنائع المعروف وتقي مصارع الهوان».

كما أنّ من المهم ترك جميع صور الشرّ من ظلم وإيذاء وما شابه ذلك، لأنّ عمل الشرّ يحيق بالإنسان والعياذ بالله. فعمل الشرّ يبتر عمر الإنسان، وعمل الخير يطيله.

وما يصيب الإنسان أحياناً من بلاء أو مشكلة قد يكون تقديراً من الله تعالي لرفع الدرجة في الآخرة، وقد يكون لتقصير أو لمعصية أو لظلم أو لقطع رحم. فليحاول الجميع خصوصاً الأحداث والشباب أن يعزموا علي ترك الشرّ وإن كان صغيراً، فالعزيمة علي ذلك تقلّل من ممارسة عمل الشرّ. واعزموا علي عمل الخير وإن كان صغيراً، فالعزم علي ذلك يزيد من توفيق عمل الخير. وكلّ ما يصنع بكم ورأيتموه خيراً فاصنعوا مثله لغيركم، وكل ما رأيتموه شراً لكم فاجتنبوا فعله للآخرين.

(13) منهل السعادة

ينشد السعادة كلّ إنسان ويبحث عنها، ويسعي لها كل جدّه واجتهاده، وبعض الناس يعيشون السعادة، وكثير منهم لا يعيشونها. فأين تكمن السعادة؟

إنّ أصل السعادة ومنبعها هو الرضا بما قسم الله جلّ وتعالي. وليست بالمال أو العلم أو الشباب أو صحّة البدن أو في الوظيفة أو في الشخصية أو في العشيرة أو الأقارب الكثيرين، أو في السمعة الطيبة؛ بدليل أنّ

هنالك العديد ممّن توفّرت عندهم هذه الأمور لكن مع ذلك تراهم متعبين نفسياً، أو يقدمون علي الانتحار والعياذ بالله.

لذا، فالملاك في السعادة أن يجد الإنسان نفسه قانعاً بمقدار ما يوجد في أعماق نفسه من رضا بما قسم الله سبحانه له، سواء كان شاباً أو كبير السن، فتاة أو عجوزاً، متزوجاً أو أعزب، رجلاً أو امرأة، غنياً أو فقيراً، جامعياً أو حوزوياً، وفي أيّ مجال كان. فإذا رضي مئة بالمئة، فهذا سعيد مئة بالمئة، وهكذا.

إنّ الآيات المباركة في القرآن والأحاديث الشريفة عن المعصومين الأربعة عشر صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قد أكّدت هذا الأمر كثيراً. ففي محكم التنزيل قال الله تعالي: ?لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَي مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ?، وفي دعاء الإمام زين العابدين سلام الله عليه الذي نقرأه في أسحار كلّ يوم من شهر رمضان المبارك والمعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي الذي لو قرأه المرء مرّة واحدة بتأمّل وتفهّم دقيقين، فإنّه سيرجي عند الانتهاء منه أن يكون مستجاب الدعوة من الله إن شاء الله تعالي نقرأ في آخر سطر منه العبارة التالية: «ورضّني من العيش بما قسمت لي».

إنّ امرأة فرعون كانت تعيش مع أسوأ الرجال، حيث كان طاغوتاً وجبّاراً وظالماً، فرضيت بما قسم الله لها، حين قالت كما أخبر عنها قوله تعالي: ?رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ? فكانت امرأة سعيدة، وصارت نموذجاً للاقتداء والتأسّي. فالله تعالي في كتابه العزيز يدعو النساء والرجال إلي التعلّم منها، وهذا هو أساس السعادة.

إنّ الرضا بما قسم الله ليس معناه أن لا يسعي الإنسان في رفع مشاكله أو سدّ نواقص حياته أو دفع معاناته، بل عليه مع ذلك أن يكون قانعاً بما قسمه

الله عزّ وجلّ له، حتي يهنأ في معيشته وحياته.

إنّ الذي يرضي بما قسم الله له لا يتعرّض للأمراض، سواء البدنية منها أو النفسية ولا يقتل نفسه أبداً، وهذا أمر بالغ الأهمية وله آثار إيجابية كبيرة. فينبغي لكلّ مؤمن أن يعزم عليه ويعمل به دوماً، حتي يهنأ ويسعد في عيشه.

(14) سرّ النجاح

يخاطب الله تعالي نبيّه في القرآن الكريم بقوله عزّ من قائل:

?فَبمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ?.

وفي آيات أخري يأمر الله تعالي عباده المؤمنين أن يتعلّموا من النبيّ ويقتدوا به في حياتهم ويتّخذوه أسوة لهم؛ قال سبحانه: ?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ?.

لو أردنا أن نبحث عن الإنسان الناجح والموفّق في حياته، فلا ريب أننا سنجده في ذلك الذي اقتدي بالنبيّ صلي الله عليه وآله وأهل بيته سلام الله عليهم، ولاغرو أن يكون أحسن الناجحين والموفّقين في الحياة؛ وذلك لأنّ الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله كان المثل الأعلي للإنسان في قوله وصمته، وسرّه وجهره، وفي فعله وتركه، وفي كلّ أحواله، بل فاق وسما علي كلّ الشخصيات في العالم منذ بدء الخلق وحتي انتهائه، بشهادة المؤمنين به وغيرهم.

لقد ألّف كاتب مسيحيّ كتاباً دوّن فيه أسماء أعظم مئة شخصية في تاريخ العالم أو (المئة الأوائل) كما سمّاهم، وذكر في المقدّمة أنّه جعل الترتيب حسب الأولوية من حيث نجاح الشخصية في حياتها وتحقيقها للأهداف التي كانت تصبو إليها، وليس حسب التسلسل الزمني، فجعل رغم أنّه رجل مسيحيّ اسم نبيّنا أوّل الأسماء إذ عدّه صلي الله عليه وآله الشخصية الأنجح.

فما هو السرّ وراء

نجاح النبيّ صلي الله عليه وآله في حياته، رغم كلّ الحروب والضغوط التي تعرّض لها من قومه وغيرهم منذ أن أعلن دعوته حتي استشهاده صلوات الله عليه وآله؟

من الأسباب الرئيسية التي تكمن وراء هذا النجاح الباهر ما ذكره القرآن الكريم في مواطن عديدة؛ منها الآية التي صدّرنا بها الكلام أعني قوله تعالي: ?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ ? أي لينه صلي الله عليه وآله.

لقد كان رسول الله ليّناً، ولم يكن فظّاً مع أيّ أحد، ليس فقط كنبيّ في تعامله خلال دعوته، بل كزوج مع زوجته وكأب مع أولاده، وهكذا كقائد مع جنده. فرغم أنّه كان يمثّل القائد الأعلي للقوّات المسلحة وكانت إشارة واحدة منه تكفي لإيقاف القتال أو استمراره، لكنّه لم يستعمل الشدّة في الحديث مع أحد من جنده وأصحابه، بل حتي مع أعدائه، وإنما كان عذب اللسان رحب الجنان دائماً.

أمّا في مجال تبليغ رسالته، فرغم كلّ الضغوط والصعوبات التي تعرّض لها من قومه، ومعارضتهم الشديدة لدعوته، حتي شنّوا عليه الحروب في بدر وأُحُد وغيرهما، وهو من عُرف بينهم قبل ذلك بالصادق الأمين، رغم كلّ ذلك لم يُعهد أنّه صلي الله عليه وآله تعامل بفظاظة مع أحد منهم طيلة حياته المقدّسة، مع أنّه لم يكن حاشاه إنساناً ضعيفاً من حيث القوّة البدنية أو النفسية، فكان يتألّم ويغضب كسائر البشر، بل كان يملك من القوّة البدنية ما يعادل قوّة أربعين رجلاً كما ذكرت الروايات ولكنه كان يحظي بأخلاق عالية جداً، ولذلك كان يعامل المسلمين، بل حتي أعداءه بالمحبّة والأخلاق الحسنة، فكان بأخلاقه العظيمة يكسب أعداءه ويحوّلهم إلي أصدقاء، ويزيد من محبّة أصدقائه له.

لقد عاش النبيّ في قومه أربعين سنة لم يُعرف عنه أنّه آذي أحداً،

بل كان الوحيد الذي لُقّب من بين العرب بالصادق الأمين، ولكن ما إن أعلن دعوته حتي بدأت مضايقاتهم له ومقاطعاتهم وحروبهم التي استمرّوا عليها مدّة عشرين عاماً، تحمّل خلالها هو وأصحابه الجوع والشدائد وحوصروا في شِعب أبي طالب، وهاجروا إلي يثرب، وكم من محاولات قاموا بها لقتله صلي الله عليه وآله ولكن الله تعالي حفظه منها … ورغم كل ذلك استطاع النبيّ أن يبني دولته وينتصر علي مشركي مكّة في جميع الحروب التي شنّوها عليه بقوّة الأخلاق قبل قوّة السيف؛ حتي جاء في الروايات أنّه:

«لما دخل النبيّ صلي الله عليه وآله مكّة كانت إحدي الرايات بيد سعد بن عُبادة وهو ينادي: اليوم يوم الملحمة اليوم تسبي الحرمة، أذلّ الله قريشاً. فسمع أبو سفيان، ونادي: يا رسول الله أمرت بقتل قومك! إنّ سعداً قال كذا، وإني أُنشدك الله وقومك؛ فأنت أبرّ الناس وأرحم الناس وأوصل الناس. فوقف النبي صلي الله عليه وآله وقال: بل اليوم يوم المرحمة، أعزّ الله قريشاً. وأرسل إلي سعد وعزله عن اللواء، وقال لعلي عليه السلام: خذ منه الراية وناد فيهم. وأخذ عليّ سلام الله عليه اللواء وجعل ينادي: اليوم يوم المرحمة».

إنّ مطالعة سيرة الرسول صلي الله عليه وآله تكشف لنا أنّه كان بإمكانه أن يقتل أعداء الرسالة ويحقّ له ذلك لكنّه صلي الله عليه وآله مدّ لهم يده الرحيمة وأخرجهم بأخلاقه العظيمة مما هم فيه من هاوية الوثنيّة والشرك؛ لأنّه نبيّ الرحمة واللين، كما عبّر القرآن الكريم.

وبهذه المناسبة أوصي المؤمنين بثلاث وصايا، وهي:

1. إقامة الأفراح خلال أيّام السنة في ذكري مواليد وأفراح أهل البيت سلام الله عليهم. فضلاً عن إحياء مراسيم الحزن خلال شهري محرم وصفر تطبيقاً لقول الإمام أمير المؤمنين

سلام الله عليه: «إنّ الله اطلع إلي الأرض فاختار لنا شيعة ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أنفسهم وأموالهم فينا، أولئك منّا وإلينا».

2. تقديم الخدمات الاجتماعية، ومن أبرز مصاديقها المساعدة في تزويج الشباب لأنّ حالة الشباب في المجتمعات الإسلامية اليوم لا يرضي الإمام الحجّة عجّل الله تعالي فرجه الشريف بل يؤلمه جداً، وأداء هذه المسؤولية التي تمثّل تطبيقاً لوصية النبي صلي الله عليه وآله لا تقع علي عاتق طبقة أو فئة من المجتمع بل هي مسؤولية الجميع كلّ من موقعه وحسب قدرته.

3. تحسين الوضع الاقتصادي والمعاشي للمؤمنين من خلال المعونة علي المستويات كافّة، مثل افتتاح صناديق قروض بعيدة الأجل لمساعدة المحتاجين في حلّ مشاكلهم الاقتصادية والمعيشية.

إنّ مسؤولية كل فرد منكم اليوم هي المشاركة في إنشاء مؤسسات ثقافية تقوم بنشر ثقافة أهل البيت سلام الله عليهم، سواء علي الصعيد المالي أو الثقافي أو الدعم المعنوي والتشجيع واستثمار كلّ علاقاته وإمكاناته وصبّها في هذا المجال.

(15) العمل من أجل إيجاد مجتمع مؤمن

قال الله تعالي في كتابه الكريم: ?أَقِيمُوا الدِّينَ?، ولا ريب أنّ هذه المسؤولية تقع علي عاتق الجميع رجالاً ونساءً، شيباً وشباباً.

تارة يأمرنا الله تعالي بالفروع أو المقدّمات فيقول: ?أَقِيمُوا الصَّلاةَ? أو ?كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ? أو ?وَلِلّهِ عَلَي النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ? … وتارة يأمرنا بالنتيجة مباشرة فيقول عزّ من قائل: ?أَقِيمُوا الدِّينَ ?.

وهذا معناه وجوب أداء كلّ ما من شأنه أن يساهم في إقامة الدين، كالقيام بالفروع والواجبات الشرعية المتقدمة، وكذلك الدروس الحوزوية وبناء المساجد والحسينيات والمدارس، وطبع الكتب ونشرها، والخطابة والتأليف، والتبليغ والإعلام واكتساب المعلومات الصحيحة والعلوم الجديدة، وبكلمة: كلّ عمل تكون نتيجته إقامة الدين.

والدين يشمل الواجبات والأحكام والآداب والأخلاق. ويجب علي الجميع العمل من أجل إيجاد مجتمع متديّن؛ كلٌّ حسب ما

حباه الله سبحانه من طاقات ومواهب وإمكانات. ومن يقصّر فسيكون مسؤولاً أمام الله تعالي.

صحيح أنّ الشخص بمفرده لا يمكنه إيجاد مقدمات بناء المجتمع المؤمن في كل مكان، كما لا يمكنه أن يسافر إلي كل البلدان ليُقيم فيها الدين، فيكون معذوراً عمّا خرج عن قدرته ولكن هذا لا يعفيه من العمل ضمن ما تيسّر له.

قسّ نصراني يسمّي (سنسن) عاش في زمن رسول الله صلي الله عليه وآله ولم يعتنق الإسلام إلي أن مات، وكان عنده ولد واحد يسمّي أعين، اعتنق الإسلام وحفظ القرآن وأضحي أديباً بارعاً، وعقّب عشرة أولاد وبنتاً واحدة اسمها أمّ الأسود، الوحيدة من عائلتها التي أضمحت من المتمسكين بولاية أهل البيت سلام الله عليهم بادئ الأمر.

جاء في كتب الرجال الشيعية أنّ هذه السيّدة دعت كلّ إخوتها إلي مذهب الحقّ، وبالفعل تشيّعوا جميعهم، وحسن تشيّعهم إلي درجة أصبح بعضهم من كبار ثقات الشيعة من المحدّثين والعلماء.

تري ما هو الأمر الذي صار سبباً لأن تصل هذه السيدة إلي هذه الدرجة الرفيعة؟

لا شكّ أنّه الإخلاص والاجتهاد والأخلاق الحسنة.

أمّا الإخلاص: فمعناه أن لا يتعلّق قلب الإنسان بالدنيا بل يتعلّق بالله تعالي ونبيه وأهل بيته صلوات الله عليهم، وعند ذاك ستتحوّل عنده مرارة الدنيا إلي حلاوة الآخرة.

وأما الاجتهاد: فيعني بذل الجُهد وترك الكسل، لأنّ الدنيا دار عمل وعناء ومن لا يعمل ويجدّ فيها لن يحصد في الآخرة سوي الحسرة والندامة.

وأما الأخلاق: أن يقتدي الإنسان بسيرة النبي صلي الله عليه وآله وأهل بيته سلام الله عليهم، فيتحلّي بالصبر والحلم ودماثة الخلق حتي مع الذين يعاملونه بسوء الخلق.

بهذه الجمل الثلاث تتحوّل الجهود من القوّة إلي الفعل. وكلّ من يلتزم بهذه الأمور الثلاثة أكثر يبلغ درجة من التوفيق أعلي. ومن أراد

الحصول علي هذه الأمور فلابدّ له من أمر واحد وهو العزم والتصميم بعد التوكل علي الله تعالي.

(16) شروط الرقيّ

قال الله تعالي: ?وَأَن لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَي?وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَي?.

يقال: إنّ المرحوم صاحب الجواهر كان يتلقّي الدرس عنده مئات الطلاب وكان رحمه الله يشجّعهم علي أيّ استفسار أو إشكال أو نقد أو اقتراح يلوح في أذهانهم، وفي الدرس نفسه، لكي تترسّخ المطالب العلمية في أذهان الطلاب عبر النقاش والسجال العلمي.

وفي أحد أيّام الصيف الحارّة في النجف الأشرف، وبعد أن ألقي الشيخ (صاحب الجواهر) الدرس وانتهي منه لم يتلقّ أيّ نقد أو إشكال أو استفهام من أيّ من الطلبة؛ فتوجّه إليهم وقال: ما الذي حدث اليوم؛ إنني لم أسمع اليوم أيّ نقد ولم يقل أيّ طالب شيئاً؟! هل كان تدريسي وحياً منزلاً؟!

قال الطلبة: الحقيقة أننا لم نستطع أن نطالع أمس بسبب كثرة البعوض وشدّة الحرارة ولم يكن يومذاك مكيّفات هواء أو مبرّدات ولا حتّي مراوح كهربائية.

فالتفت صاحب الجواهر وقال: أجل، كان البعوض ليلة أمس كثيراً وقد عانيت مثلكم، ومهما عملت للتخلّص منه ومن مضايقته لم أفلح، ولكن بما أني كنت ملزماً بالمطالعة للتحضير لدرس هذا اليوم، لم يهدأ لي بال، وتذكرت أنّ عندنا غرفة في السطح مهجورة وأشبه بمخزن، فقمت بخلع ملابسي وائتزرت بمئزر وأخذت كتبي ومصباحاً وذهبت إلي تلك الغرفة وجلست للمطالعة، ولم أبال لأنواع الحشرات التي كانت موجودة هناك وكانت تمشي علي بدني.

نعم، بمثل هذا بلغ صاحب الجواهر ما بلغ من المنزلة العلمية.

لذا يجب علي طالب العلم إن أراد أن يوفّق أن يسعي ويجدّ ويجتهد ويدرس جيّداً إلي جانب تحلّيه بالإخلاص والتوجّه إلي الله تعالي وأهل البيت عليهم السلام.

لقد تتلمذ عند المرحوم كاشف الغطاء الآلاف

ولكن كم منهم بقي اسمه أو مؤلفاته؛ كما بقي اسم وذكر صاحب الجواهر.

إنّ طريق طلب علوم أهل البيت سلام الله عليهم جيد جدّاً ولكنّه بحاجة إلي همّة وعزيمة، مضافاً إلي التخلّي عن كثير من الأمور الأخري التي تهواها النفوس عادة، حتي يتمكّن الشخص من بلوغ المراحل العالية فيه.

(17) من سمات الأولياء

في المأثور عَنْ عُبَادَةَ الْكُلَيْبِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ فَاطِمَةَ الصُّغْرَي عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَخِيهِ الْحَسَنِ سلام الله عليهم قَالَ: رَأَيْتُ أُمِّي فَاطِمَةَ عليها السلام قَامَتْ فِي مِحْرَابِهَا لَيْلَةَ جُمُعَتِهَا، فَلَمْ تَزَلْ رَاكِعَةً سَاجِدَةً حَتَّي اتَّضَحَ عَمُودُ الصُّبْحِ، وَسَمِعْتُهَا تَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَتُسَمِّيهِمْ وَتُكْثِرُ الدُّعَاءَ لَهُمْ، وَلا تَدْعُو لِنَفْسِهَا بِشَيْ ءٍ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّاهْ، لِمَ لا تَدْعُوِنَّ لِنَفْسِكِ كَمَا تَدْعُوِنَّ لِغَيْرِكِ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، الْجَارُ ثُمَّ الدَّارُ».

توجد أدعية كثيرة عن أهل البيت سلام الله عليهم صيغتها أن يبدأ الإنسان بالدعاء لنفسه أوّلاً ثم للآخرين، مثل: اللهم اغفر لي وللمؤمنين. واللهم اغفر لي ولوالدي، وهكذا.

لكنّ هذا الحديث المأثور عن مولاتنا فاطمة الزهراء سلام الله عليها رغم قصره ينبئ عن سرّ خاصّ وأمر مهمّ جداً يرشد إلي الإيثار في الدعاء.

يمكن للكثير من الناس أن يسترخصوا من قيمة الدعاء كونه لا يحتاج إلي مال ولا جهود ولا وقت طويل. لكنّ سيّدتنا الزهراء سلام الله عليها تعرف قيمة الدعاء وتقدّر مدي تأثيره، كيف لا، وهو يعدّ مصداقاً لواحدة من الوسائل في التكلّم مع خالق كلّ شيء، والقادر علي كلّ شيء وهو الله جلّ شأنه، معطي كلّ نعمة وصارف كلّ نقمة. لذلك آثرت سلام الله عليها الدعاء لغيرها علي الدعاء لنفسها.

لاشك أنّ كل واحد منّا بحاجة للدعاء كما في قوله تعالي: ? قُلْ

مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ? وفي الحديث النبويّ الشريف: «الدعاء مخّ العبادة» والمخّ هنا معناه الأساس، لكن أن يؤثر المرء غيره حتّي في الدعاء، فهذا من الفضائل الرفيعة والراقية جداً والتي لا نجدها إلاّ عند أهل البيت. فهم سلام الله عليهم علاوة علي إيثارهم برزقهم وبالحاجات الدنيوية قد آثروا غيرهم علي أنفسهم في الدعاء أيضاً.

إذاً ينبغي أن نتأسّي بأهل البيت سلام الله عليهم ونتعلّم منهم كيفية إيثار غيرنا علي أنفسنا حتي في الدعاء. فعلي المؤمنين أنّ يؤثروا أرحامهم علي أنفسهم، وعلي الأولاد أن يؤثروا الوالدين علي أنفسهم، وعلي الوالدين أن يؤثروا أولادهم علي أنفسهم، وهكذا الجيران والأصدقاء وزملاء العمل … علماً أنّ هذا الخصلة من الإيثار تعود علي الإنسان بأمرين:

الأوّل: إذا دعوت لغيرك فهناك ملائكة ستدعوا لك بضعف ما دعوت لغيرك ورد في الحديث الشريف عن أبي عبد الله سلام الله عليه، قال: «دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب يسوق إلي الداعي الرزق، ويصرف عنه البلاء، وتقول له الملائكة: لك مثلاه» فمن يريد الرزق والذرّية الصالحة والتوفيق من الله تعالي فليدعُ بها لغيره حتي تعود عليه بأضعاف كثيرة.

الثاني: كما أنّ الإيثار له ثمرات وآثار إيجابية في الدنيا، كذلك له درجة رفيعة وأجر عظيم في الآخرة.

(18) مسؤولية العلماء

إنّ للعلم والعلماء مكانة شامخة في الإسلام كما نجد ذلك في قول الله سبحانه: ?قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ?. وهذه المكانة السامية تتبعها مسؤولية بحجم وبنسبة ما لها من الشموخ والسموّ.

روي عن الحارث بن المغيرة وهو من أجلاّء وثقات أصحاب الإمام الصادق سلام الله عليه أنّه قال:

لقيني أبو عبد الله الصادق سلام الله عليه في طريق المدينة فقال: «من ذا، حارث؟» قلت: نعم، قال: «لأحملنّ ذنوب سفهائكم

علي علمائكم»! فأتيته واستأذنت عليه فدخلت فقلت: لقيني من ذلك أمر عظيم، فقال: «ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل ماتكرهون، ومايدخل علينا به الأذي أن تأتوه فتؤنّبوه وتعذلوه، تقولوا له قولاً بليغاً؟» فقلت له: جعلت فداك إذاً لايطيعونا، ولايقبلون منّا، فقال: «اهجروهم واجتنبوا مجالستهم».

إنّ هداية الناس واجب شرعيّ مميّز، وواجبنا نحن أهل العلم لاينحصر بأنفسنا فقط بل نحن مسؤولون عن غيرنا أيضاً. وهذا يحتّم علينا حسب قدرتنا وإمكاننا أن نسعي في تهيئة الأجواء الصالحة لهداية الآخرين. فالأجواء الصالحة تربّي جيلاً صالحاً، والعكس بالعكس أيضاً.

كان في عصر الإمام الجواد والإمام الهادي سلام الله عليهما أخوان أحدهما تربّي في أحضان أهل البيت، فصار من الثقات ويعتمد علي رواياته كلّ فقهاء الشيعة بدءاً من الشيخ المفيد رضوان الله عليه وإلي علماء عصرنا الراهن ذلكم هو محمد بن فرج الرخجي، بينما الآخر عمر بن فرج الرخجي الذي تربّي في أحضان حكّام بني العباس مع المأمون والمعتصم والمتوكّل فكان متناقضاً مع أخيه تماماً حيث لقي منه أهل البيت سلام الله عليهم وشيعتهم مظالم كثيرة، حتّي أودي به سوء فعله أن سلّط الله تعالي عليه من لا يرحمه، ذلك بعد ما عمل ما أثار به غضب المتوكّل فسجنه وصفّده بالحديد ثم قضي عليه. ولبيان مدي خبث هذا الشخص أذكر لكم الرواية التالية:

«عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَي أَبِي الْحَسَنِ (الهادي) سلام الله عليه فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! حَدَثَ بِآلِ فَرَجٍ حَدَثٌ؟ فَقُلْتُ: مَاتَ عُمَرُ. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. حَتَّي أَحْصَيْتُ لَهُ أَرْبَعاً وَعِشْرِينَ مَرَّةً. فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا يَسُرُّكَ لَجِئْتُ حَافِياً أَعْدُو إِلَيْكَ. قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَوَ لا تَدْرِي مَا قَالَ لَعَنَهُ اللَّهُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَبِي (الجواد)؟ قَالَ:

قُلْتُ: لا. قَالَ: خَاطَبَهُ فِي شَيْ ءٍ فَقَالَ: أَظُنُّكَ سَكْرَانَ. فَقَالَ أَبِي: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أَمْسَيْتُ لَكَ صَائِماً فَأَذِقْهُ طَعْمَ الْحَرْبِ وَذُلَّ الأسْرِ، فَوَ اللَّهِ إِنْ ذَهَبَتِ الأيَّامُ حَتَّي حُرِبَ مَالُهُ وَمَا كَانَ لَهُ ثُمَّ أُخِذَ أَسِيراً وَهُوَ ذَا قَدْ مَاتَ لا رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ أَدَالَ اللَّهُ عَزّ وَجَلَّ مِنْهُ وَمَا زَالَ يُدِيلُ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ».

إذاً علينا أن نعمل ما نهيّئ به الأجواء الصالحة في مختلف الأحوال وبشتّي الأساليب الشرعية، لكيلا نلام بعد ذلك؛ قال تعالي: ?ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَي مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ?.

إنّ المطلوب هو الالتزام العمليّ بما نعلمه من الدين ليقتدي بنا الآخرون، والالتزام بالأخلاق العملية واللفظية في ممارسة الهداية مع الناس، كما يفترض بنا ممارسة التبليغ والموعظة والإرشاد والتأليف والتربية لتتوافر أسباب الهداية المرجوّة، لنكون موفّقين وناجحين في إنجاز هذه المهمّة الجليلة إن شاء الله تعالي.

(19) شهر رمضان فرصة للتزكية والهداية

قال الله تعالي: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?.

جاءت كلمة (لعلّ) في القرآن الكريم في موارد متعددة بمعني الإيجاب، أي أنّ ما بعدها متحقّق. ومن تلك الموارد هذه الآية، فمعناها: إذا صمتم فستصيرون متّقين حتماً.

ولا يخفي أنّ للصوم مراتب، والصائم الذي يبلغ التقوي هو الذي يكون صائماً حقيقة، لا الذي يصفه الإمام عليّ سلام الله عليه بقوله: «كم من صائم ليس له من صومه إلاّ الظمأ والجوع»، بل الذي يصوم وتصوم جوارحه أيضاً. فصوم كهذا لا شك سيكون سبباً لأن يصير إنساناً متّقياً، كما في الحديث عن الإمام الصادق سلام الله عليه: «اذا صمتَ فليصُمْ سمعك وبصرك وشعرك وجلدك».

وكذلك للتقوي مراتب، ومفتاح ذلك كلّه بأيدينا، فإنّ الله تعالي قد خلق فينا القابلية لأن نستفيد

من الصوم أكثر، وذلك بأن يكون صومنا في اليوم الثاني من الشهر أفضل من صومنا في اليوم الأوّل، وهكذا.

كان النبيّ صلي الله عليه وآله يستقبل شهر رمضان من كلّ عام بخطبة يوجّه فيها المؤمنين إلي أهميّة هذا الشهر وضرورة الاستفادة منه؛ ولذلك فخُطَب النبي صلي الله عليه وآله وكذلك خُطَب الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه في استقبال شهر رمضان كثيرة، ومنها الخطبة المشهورة التي رواها الإمام أمير المؤمنين عن النبيّ صلي الله عليه وآله، والتي يسأل فيها الإمام عن أفضل الأعمال في هذا الشهر، فيجيبه رسول الله صلي الله عليه وآله بأنّه «الورع عن محارم الله تعالي». فحريّ بنا أن نقرأها ونتدبّر معانيها ونعمل بها ما وسعنا، والله سبحانه وتعالي يعيننا علي ذلك.

إنّ الله تعالي يحبّ أن نتقرّب اليه أكثر فأكثر؛ لأنّه يحبّنا أكثر من حبّ الأمّ لابنها كما في بعض الروايات، بل يقول الله تعالي في كتابه الكريم: ?إِلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ?. والظاهر أنّ العلّة هنا منحصرة، واللام لام التعليل. اذاً ينبغي لنا أن نستفيد من هذا الشهر العظيم أكثر فأكثر ونزيد من اقتدائنا بأهل البيت سلام الله عليهم.

لقد كان الأئمّة سلام الله عليهم يدعون حتي لأعدائهم؛ فقد روي في المقاتل أنّ الإمام الحسين سلام الله عليه وبعد أن نزلت به كلّ تلك المصائب واستشهد أصحابه وأهل بيته وذُبح طفله الرضيع … إلي ما غير ما مرّ به من المصائب، شوهد يبكي ومن المعروف أنّ المُقاتِل لا يبكي في ساحة الحرب؛ لأنّ ذلك يعدّ علامة علي الضعف والانكسار فلماذا بكي الإمام الحسين سلام الله عليه؟ الجواب: لأنّه كان يري أنّ هؤلاء الأعداء كلّهم سيكون مصيرهم إلي النار؛ فبكي لحالهم ومصيرهم الأسود!

هؤلاء

أئمّتنا فلنكن من المؤتمّين بهم إن شاء الله تعالي، ولنتوسّل بهم في هذا الشهر أيضاً، فإنّ الله قد قرن عطاءهم بعطائه وفضلهم بفضله؛ قال تعالي: ?وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْا مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ? وقال تعالي: ? وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ?، وهذا يعني أنّ الله تعالي يعطي، والنبيّ صلي الله عليه وآله يعطي علي نحو التفويض، لأنّ عطاء النبي هو من الله أيضاً، وهكذا الأئمّة الأطهار الذين هم امتداد لجدّهم صلي الله عليه وآله لأنّهم كّلهم نور واحد. ولا يوجد طريق غيرهم يؤدّي إلي الله تعالي؛ حيث قال الإمام الباقر سلام الله عليه: «شرّقا وغرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ شيئاً خرج من عندنا أهل البيت».

ينقل أنّ الميرزا النائيني ذهب مرّة من النجف الأشرف إلي كربلاء المقدسة ماشياً مع تلامذته. وقبل أن يصلوا إلي كربلاء المقدسة بحوالي ثمانية كيلومترات أمطرت السماء بشدّة وابتلّت ملابسهم جميعاً، ولما وصل الميرزا النائيني إلي كربلاء المقدسة مرض بسبب ذلك حتي أغمي عليه من شدّة الحمّي، ولما رأي الطلاب أنّه في سكرات الموت أسرع بعضهم لاستدعاء طبيب، فيما ذهب أحدهم إلي قبر الإمام الحسين سلام الله عليه ووقف تحت القبّة ودعا لشفاء الشيخ. وبعد أن تعب عاد إلي المدرسة حيث يرقد الشيخ وكان في حالة بين اليأس والرجاء من حال الشيخ؛ حيث لا يعرف أهو حيّ أم ميّت؟

وعندما وصل إلي المدرسة رأي الشيخ جالساً، فسأله عن صحّته؟ فقال: إنّه بخير وبصحّة تامّة! وقال: بينما كنت في تلك الحالة رأيت الموت بأمّ عيني ورأيت ملائكة الموت، ورأيتك أيضاً تحت قبّة الإمام الحسين سلام الله عليه تدعو لي، وأظن أنّ دعاءك هو الذي صار سبباً لشفائي.

وأضاف: أمّا الشيء الغريب الذي

رأيته في تلك الحالة أيضاً، فهو أنّي رأيت الملائكة يأتون اليّ ويأخذون علومي واحداً واحداً، ولم يبق لي إلاّ القرآن وروايات أهل البيت سلام الله عليهم، وفي لحظة رأيت أنّي قد شفيت.

أجل إنّ الله سبحانه وتعالي لم يجعل لنا طريقاً صحيحاً إليه إلاّ طريق أهل البيت سلام الله عليهم ولا يقبل منّا غير هذا الطريق؛ قال تعالي: ?وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ? فعلينا أن نسعي لرضا الله سبحانه بجلب رضاهم، وأن نعرف كيف نرضيهم. فمن المسائل المهمّة عند أهل البيت سلام الله عليهم هي أن نكون في كلّ يوم أفضل من اليوم الذي سبقه. وهذا الشهر المبارك هو شهر التزكية فعلينا أن نزكّي أنفسنا فيه حتي نصير أمثال زرارة أو عليّ بن مهزيار أو سلمان المحمّدي، وهذا لا يحتاج إلي أكثر من أن نصمّم حتي نوفّق إن شاء الله تعالي.

المسألة الأخري التي ينبغي الالتفات إليها هو الاهتمام بهداية الشباب وإرشادهم في هذا الشهر، فإنّ النفوس تكون مهيّأة أكثر لاستقبال الموعظة، ولا تتصوّروا أنّ هؤلاء الشباب لا يهتدون، بل كثير منهم إذا وجد الطريق الصحيح سلكه وربما صار من العظماء وصار سبباً لهداية الآخرين مثل كثير من أصحاب الرسول الأعظم والأئمّة الميامين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

إذاً علينا أن نستثمر فرصة هذا الشهر الكريم من أجل هداية الشباب عبر تشكيل الجلسات لهم وأن نستمع إلي الشبهات التي تخالجهم فنرفعها، وأن نربّيهم في هذا الشهر علي شيئين، هما:

1. العقيدة الصحيحة.

2. مكارم الأخلاق. فإنّ النبي صلي الله عليه وآله يقول: «إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق».

فلربما اهتدي شابّ واحد وصار فيما بعد سبباً لهداية المئات. والعكس صحيح أيضاً فربّ شاب فاسد صار سبباً لفساد المئات.

إنّ الانسان السائر في طريق الله سبحانه

تشمله النصرة الإلهية؛ حيث يقول الله تعالي: ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ? فلنزكِّ أنفسنا في هذا الشهر بالعمل الصالح، ولنعمل علي هداية الشباب وإرشادهم إلي الطريق القويم.

(20) شهر رمضان وتعميم الثقافة القرآنية

قال النبي الأكرم صلي الله عليه وآله: «إنّ القرآن شافع مشفّع وماحِلٌ مصدّق» أي يقبل الله تعالي شفاعته ويصدّق شكايته.

للتعاطي مع القرآن الكريم أربع مراتب:

المرتبة الأولي: أن يتعلّم الإنسان القرآن من ناحية القواعد والحركات والإعراب والتجويد والقراءة الصحيحة، وتعليمها للآخرين.

المرتبة الثانية: التدبّر في القرآن ومعرفة معانيه.

المرتبة الثالثة: العمل بالقرآن.

المرتبة الرابعة: تطبيقه في المجتمع.

لاشك أنّ المرتبتين الأخيرتين أرفع من المرتبتين الأولي والثانية، فمن يعمل بالقرآن ويسعَ لتطبيقه في المجتمع، فإنّ القرآن سيكون شافعاً له، لأنّ الله تعالي لا يردّ شفاعة القرآن. أمّا من كان قادراً علي ذلك ولم يفعل فإنّ القرآن يشتكي عليه يوم القيامة لأنّه ماحِلٌ مصدّق، كما في الحديث الشريف المذكور آنفاً.

إنّ القرآن نورٌ، فإذا وصل هذا النور إلي الناس عبر الطريق الصحيح، أي بالحكمة والموعظة الحسنة، فلاشكّ سيؤثّر فيهم. ولكن علينا أوّلاً أن نهيّئ الأجواء بحيث يؤثّر في الآخرين.

كذلك فإنّ القرآن هو الغذاء الروحيّ للإنسان، وكما أنّ الغذاء المادّي بحاجة إلي إناء نظيف يقدّم فيه ليرغب فيه الآخرون، كذلك الغذاء الروحيّ لابدّ له من وعاء نظيف مؤثّر.

ذهب أحد الأشخاص إلي أحد المراجع وقال له: لقد نصحت فلاناً ولكنه لم يقبل نصيحتي. فأرسل المرجع بطلب ذلك الشخص وسأله: لماذا لم تقبل نصيحة هذا الرجل؟ فقال: سله كيف نصحني؟ وتبين أنّ الطريقة التي نصحه فيها لم تكن صحيحة.

إنّ الأنبياء والأئمّة سلام الله عليهم ما كانوا ينصحون أحداً بالضرب والشدّة، وإنّما كانوا ينصحون بالأخلاق الحسنة.

إنّ شهر رمضان هو ربيع القرآن، أي ربيع المراتب

الآنفة كلّها من القراءة والتدبّر والعمل، إذاً ينبغي استثمار هذا الشهر المبارك في تعلّم القرآن والعمل علي تطبيق أحكامه حتي يكون المجتمع كلّه قرآنياً. وعلينا أن نسعي في تعميم ثقافة القرآن بقدر الإمكان، من خلال تشجيع الآخرين علي الحضور في الجلسات القرآنية التي تنعقد في هذا الشهر، وكلّ من يعمل أكثر فحسناته ستكون أكثر. والله تعالي يقول في كتابه الكريم: ?وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ?.

(21) الدعاء مفتاح لحلّ المشكلات

بعض المشاكل التي يواجهها الإنسان مقدّرة له، ولا سبيل للخلاص منها، وليس أمامه إلاّ الصبر عليها وشكر الله علي كل حال، ولكن مع ذلك لا ينبغي الجزع واليأس ولا ترك الدعاء والتضرّع، فإنّ الله تعالي يحبّ دعاء عبده المؤمن.

حدّث الشيخ الفاضل العالم الثقة الشيخ باقر الكاظمي المجاور في النجف الأشرف آل الشيخ طالب نجل العالم العابد الشيخ هادي الكاظمي قال: كان في النجف الأشرف رجل مؤمن من أهل العلم ذا نيّة صادقة يسمّي الشيخ محمد حسن السريرة، وكان مصاباً بالسُّعال، فإذا سعل يخرج من صدره مع الأخلاط دم، وكان مع ذلك في غاية الفقر والاحتياج، لا يملك قوت يومه، يخرج في أغلب أوقاته إلي البادية إلي الأعراب الذين يقطنون في أطراف النجف الأشرف، ليحصل علي قوت ولو شعير، ولم يكن علي مبتغاه كفاية، رغم شدّة رجائه، وكان رغم ذلك قد تعلّق قلبه بامرأة من أهل النجف، وقد طلبها من أهلها وما أجابوه إلي ذلك لقلّة ذات يده، وقد أضحي في همّ وغمّ شديدين من جهة ابتلاءاته.

فلما اشتدّ به الفقر والمرض وأيس من تزويج البنت، عزم علي ما هو معروف عند أهل النجف الأشرف من أنّه من أصابه أمر فواظب علي الذهاب إلي مسجد الكوفة أربعين ليلة الأربعاء، لا بدّ أن

يري صاحب الأمر عجّل الله فرجه من حيث لا يعلم و يقضي له مراده.

قال الشيخ باقر الكاظمي قدّس سرّه: قال الشيخ محمد: فواظبت علي ذلك أربعين ليلة الأربعاء فلما كانت الليلة الأخيرة التي تزامنت مع ليلة شتاء مظلمة، مع هبوب رياح شديدة مع بعض الأمطار هبّت ريح، وأنا جالس في الدكّة في باب المسجد وكانت الدكّة الشرقية المقابلة للباب الأوّل تكون علي الطرف الأيسر، عند دخول المسجد، ولا أتمكّن الدخول في المسجد من جهة سعال الدّم، ولا يمكن قذفه في المسجد، وليس معي شي ء أتّقي فيه عن البرد، وقد ضاق صدري، واشتدّ عليّ همّي وغمّي، وضاقت الدنيا في عيني، وأفكّر أنّ الليالي قد انقضت، وهذه آخرها، وما رأيت أحداً ولا ظهر لي شي ء بعد، وقد تعبت هذا التعب العظيم، وتحمّلت المشاقّ والخوف في أربعين ليلة، أجيء فيها من النجف الأشرف إلي مسجد الكوفة، ويكون لي اليأس من ذلك.

فبينما أنا أفكّر في ذلك، وليس في المسجد أحد أبداً وقد أوقدت ناراً لأسخن عليها قهوة جئت بها من النجف الأشرف، لا أتمكّن من تركها لتعوّدي بها وكانت قليلة جداً إذا بشخص من جهة الباب الأوّل متوجّهاً إليّ فلمّا نظرته من بعيد تكدّرت وقلت في نفسي: هذا أعرابي من أطراف المسجد، قد جاء إليّ ليشرب من القهوة وأبقي بلا قهوة في هذا الليل المظلم، و يزيد عليّ همّي وغمّي.

فبينما أنا أفكّر إذا به قد وصل إليّ وسلّم عليّ باسمي وجلس في مقابلي، فتعجّبت من معرفته باسمي، وظننته من الذين أخرج إليهم في بعض الأوقات من أطراف النجف الأشرف، فصرت أسأله من أي العرب يكون؟ قال: من بعض العرب، فصرت أذكر له الطوائف التي في أطراف النجف الأشرف، فيقول:

لا لا، وكلّما ذكرت له طائفة قال: لا لست منها.

فأغضبني وقلت له: أجل أنت من طُريطرة مستهزئاً وهو لفظ بلا معني، فتبسّم من قولي ذلك، وقال: لا عليك من أينما كنت، ما الذي جاء بك إلي هنا؟ فقلت: وأنت ما عليك السؤال عن هذه الأمور؟ فقال: ما ضرّك لو أخبرتني. فتعجّبت من حسن أخلاقه وعذوبة منطقه، فمال قلبي إليه، وصار كلّما تكلّم ازداد حبّي له، فعملت له السبيل من التتن، وأعطيته، فقال: أنت اشرب فأنا ما أشرب، وصببت له في الفنجان قهوة وأعطيته، فأخذه وشرب شيئاً قليلاً منه، ثم ناولني الباقي وقال: أنت اشربه. فأخذته وشربته، ولم ألتفت إلي عدم شربه تمام الفنجان، ولكن يزداد حبّي له آناً فآنا.

فقلت له: يا أخي أنت قد أرسلك الله إليّ في هذه الليلة تؤنسني أفلا تروح معي إلي أن نجلس في حضرة مسلم عليه السلام ونتحدّث؟ فقال: أروح معك، فحدّث حديثك.

فقلت له: أحكي لك الواقع أنا في غاية الفقر والحاجة، مذ شعرت علي نفسي ومع ذلك، معي سعال أتنخّع الدّم، وأقذفه من صدري منذ سنين، ولا أعرف علاجه وما عندي زوجة، وقد علق قلبي بامرأة من أهل محلّتنا في النجف الأشرف، ومن جهة قلّة ما في اليد ما تيسّر لي أخذها.

و قد غرّني هؤلاء الملاّئيّة وقالوا لي اقصد في حوائجك صاحب الزمان وبت أربعين ليلة الأربعاء في مسجد الكوفة، فإنّك تراه، ويقضي لك حاجتك وهذه آخر ليلة من الأربعين، وما رأيت فيها شيئاً؛ وقد تحمّلت هذه المشاقّ في هذه الليالي فهذا الذي جاء بي هنا وهذه حوائجي.

فقال لي وأنا غافل غير ملتفت: أما صدرك فقد برئ، وأما المرأة فتأخذها عن قريب، وأما فقرك فيبقي علي حاله حتي تموت.

وأنا

غير ملتفت إلي هذا البيان أبداً. فقلت: ألا تروح إلي حضرة مسلم؟ قال: قم، فقمت وتوجّه أمامي، فلمّا وردنا أرض المسجد فقال: ألا تصلّي صلاة تحيّة المسجد، فقلت: أفعل، فوقف هو قريباً من الشاخص الموضوع في المسجد، وأنا خلفه بفاصلة، فأحرمت للصلاة وصرت أقرأ الفاتحة.

فبينما أنا أقرأ وإذا يقرأ الفاتحة قراءة ما سمعت أحداً يقرأ مثلها أبداً، فمن حُسن قراءته قلت في نفسي: لعلّه هذا هو صاحب الزمان وذكرت بعض كلمات له تدلّ علي ذلك، ثم نظرت إليه بعد ما خطر في قلبي ذلك، وهو في الصلاة، وإذا به قد أحاطه نور عظيم منعني من تشخيص شخصه الشريف، وهو مع ذلك يصلّي وأنا أسمع قراءته، وقد ارتعدت فرائصي، ولا أستطيع قطع الصلاة خوفاً منه فأكملتها علي أيّ وجه كان، وقد علا النور من وجه الأرض، فصرت أندبه وأبكي وأتضجّر وأعتذر من سوء أدبي معه في باب المسجد، وقلت له: أنت صادق الوعد وقد وعدتني الرّواح معي إلي مسلم.

فبينما أنا أكلّم النور، وإذا بالنور قد توجّه إلي جهة مسلم، فتبعته فدخل النور الحضرة، وصار في جوّ القبّة، ولم يزل علي ذلك ولم أزل أندبه وأبكي حتي إذا طلع الفجر، عرج النور.

فلما كان الصباح التفتّ إلي قوله: أما صدرك فقد برئ، وإذا أنا صحيح الصدر، وليس معي سعال أبداً وما مضي أسبوع إلاّ وسهّل الله عليّ الزواج من البنت من حيث لا أحتسب، وبقي فقري علي ما كان كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه وعلي آبائه الطاهرين».

(22) هكذا تحبط الصدقات

دخل رجل علي محمد بن عليّ بن موسي الرضا سلام الله عليهم وهو مسرور، فقال له الإمام: ما لي أراك مسروراً؟

قال: يا ابن رسول الله، سمعت أباك يقول: أحقّ يوم

بأن يسرّ العبد فيه يوم يرزقه الله صدقات ومبرّات وسدّ خلاّت من إخوان له مؤمنين، وإنّه قصدني اليوم عشرة من إخواني [المؤمنين ] الفقراء لهم عيالات، قصدوني من بلد كذا وكذا، فأعطيت كلّ واحد منهم، فلهذا سروري.

فقال محمد بن علي (الجواد) سلام الله عليه: «لعمري إنك حقيق بأن تسرّ إن لم تكن أحبطته أو لم تحبطه فيما بعد».

فقال الرجل: وكيف أحبطته وأنا من شيعتكم الخُلّص؟

قال: «هاه، قد أبطلت برّك بإخوانك وصدقاتك».

قال: وكيف ذاك يا ابن رسول الله؟

قال له محمد بن علي سلام الله عليه: اقرأ قول الله عزّ وجلّ: ? يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ والأذي? .

قال: يابن رسول الله! ما مننت علي القوم الذين تصدّقت عليهم ولا آذيتهم.

قال له محمد بن علي سلام الله عليه: إنّ الله عزّ وجلّ إنّما قال: ?لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ والأذي? ولم يقل لا تبطلوا بالمنّ علي من تتصدّقون عليه، وبالأذي لمن تتصدّقون عليه ، وهو كلّ أذي، أفتري أذاك للقوم الذين تصدّقت عليهم أعظم، أم أذاك لحفظتك وملائكة الله المقرّبين حواليك، أم أذاك لنا؟

فقال الرجل: بل هذا يا ابن رسول الله.

فقال: فقد آذيتني وآذيتهم وأبطلت صدقتك.

قال: لماذا؟ قال: لقولك (وكيف أحبطته وأنا من شيعتكم الخُلّص) ويحك، أتدري من شيعتنا الخُلّص؟ قال: لا.

قال: شيعتنا الخُلّص حزقيل المؤمن، مؤمن آل فرعون وصاحب يس الذي قال الله تعالي فيه: ?وَجاءَ مِنْ أَقْصَي الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعي? وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمار، أسوّيت نفسك بهؤلاء؟ أما آذيت بهذا الملائكة، وآذيتنا؟

فقال الرجل: أستغفر الله وأتوب إليه، فكيف أقول؟

قال: قل: أنا من مواليكم ومحبّيكم، و معادي أعدائكم، وموالي أوليائكم. فقال: كذلك أقول، وكذلك أنا يا ابن رسول الله، وقد تبتُ من القول الذي أنكرتَه، وأنكرتْه

الملائكة، فما أنكرتُم ذلك إلاّ لإنكار الله عزّ وجلّ. فقال محمد بن علي بن موسي الرضا سلام الله عليه: الآن قد عادت إليك مثوبات صدقاتك وزال عنها الإحباط».

(23) هنا تكمن السعادة

كلّ الذين وفدوا إلي هذه الحياة إنّما وفدوا من أجل الامتحان، لا فرق في ذلك بين الشيخ والشابّ والرجل والمرأة والغنيّ والفقير والعالم والجاهل … قال الله تعالي في كتابه الكريم: ?لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ?.

لقد تحدّث الله تعالي عن امرأة فرعون بعبارات قد يقلّ نظيرها؛ قال سبحانه: ?وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً للَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ?.

فالأمر العاديّ أن يكون قدوة الناس ومثَلَهم رجلاً لا امرأة، ولكن الله تعالي جعل في هذه الآية امرأة فرعون التي هي من سيّدات النساء عند الله تعالي بعد السيدة فاطمة الزهراء قدوة ومثلاً للمؤمنين والمؤمنات؛ فإنّ المفهوم من هذه الآية أنّ الله جلّ شأنه يأمر المؤمنين والمؤمنات أن يقتدوا بهذه السيدة الفاضلة، فلماذا وكيف وصلت إلي هذا المقام الرفيع؟

إنّ الإجابة عن هذا السؤال تنطوي في عبارة من دعاء أبي حمزة الثمالي الذي علّمه إيّاه الإمام السجاد سلام الله عليه والذي نقرأه في أسحار شهر رمضان المبارك … هذا الدعاء العميق المحتوي، العالي المضامين، الذي له خصوصية خاصّة بين مجموع ما وردنا من أدعية عن المعصومين سلام الله عليهم؛ بحيث يمكن القول بجرأة لو أن أحداً قرأه مرّة واحدة من أوّله إلي آخره بالتفات وتأمّل وتدبّر معانيه حقاً، يكون مستجاب الدعوة عند الانتهاء منه؛ أي أنّ قلبه يكون مستعداً لدرجة أنّ الله تعالي لا يردّ حاجته فلقد جاء في الجزء الأخير من هذا الدعاء قوله: «ورضّني من العيش

بما قسمت لي»، وهذا بالضبط هو ما تجلّي في امرأة فرعون وصار سبباً لأن تكون قدوة ومثلاً للمؤمنين والمؤمنات.

عموماً لا يمكن أن توجد علاقة مباشرة بين الراحة والسعادة، ولا بين العناء والشقاء. فربّ شخص يكون محصوراً بين أنواع المصاعب والمتاعب ولكنه مع ذلك يشعر بالرضا ولا يكون متبرّماً. كما يمكن أن يكون شخص متمتعاً بأنواع المتع الدنيوية ولكنه مع ذلك لا يعيش حياة سعيدة.

ينبغي الالتفات إلي أنّ سبب السعادة والرضا يتلخّص في ترجيح الرضا الإلهي علي كلّ شيء وإن كان في ظلّ أنواع المحن والمصائب والمشاكل والمصاعب والحرمان من كلّ ما عداه.

ومن هنا نفهم قول العقيلة زينب سلام الله عليها عندما توجّه إليها الطاغي ابن زياد بالقول: كيف رأيت صنع الله بكِ؟ فقالت: ما رأيت إلاّ جميلاً!

ولعلّه لا يمكن تصوّر وضع أصعب من الوضع الذي كانت فيه امرأة فرعون، ولكنّها رغم ذلك كانت راضية برضا الله تعالي في ظل كلّ الظروف الصعبة، ولم يخالجها أدني اعتراض علي ما قدّر الله سبحانه لها.

لا ينبغي أن نعبّس أو تضيق صدورنا أو نحزن بسبب تموّجات الحياة، بل يجب أن نعمل بوظيفتنا في كلّ الأحوال سواء الصعبة أو السهلة وأن نعتبر ذلك امتحاناً إلهياً لنا.

إنّ في القرآن الكريم آية مفعمة بالأمل للإنسان، وتسدّ الطريق بوجه كلّ يأس أو خيبة، وهي قوله تعالي: ?إِلاَّ مَن رحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ?.

لا شك أنّ الرضا بالتقدير الإلهي لا يعني أبداً أن لا نخطو من أجل حلّ المشاكل ورفع النواقص بأن نحجم عن الاستفادة من الوسائل والأسباب الظاهرية والدعاء والتوسّل وغير ذلك، بل المقصود من الرضا بالتقدير الإلهي هو التسليم إزاء الأمور الخارجة عن إرادتنا. فإذا كنّا كذلك فإن تقلّبات الحياة ومصاعبها لن

تثنينا أو تعصرنا ولا نصاب بالإحباط والكآبة؛ ومن هنا أيضاً نفهم وصف المؤرّخين للإمام الحسين سلام الله عليه في يوم عاشوراء أنّه كان يزداد وجهه إشراقاً كلّما سقط شهيد من أسرته وأصحابه.

ليست سعادة الدنيا في أمور زائلة كالثروة أو البيت الواسع وغيرهما بل بامتلاك قلب واسع مطمئنّ؛ راض عن قسم الله تعالي، كيف كانت، فلكلّ واحد منّا تقديرات خاصّة في الحياة، وكلّ فرد يواجه مشكلات ونواقص، فواحد فقير وآخر مريض وثالث عقيم وهكذا.. إنّما المهمّ أن نسعي لأن نكون راضين بقضاء الله عزّ وجلّ في كلّ حال.

(24) التبليغ والمنبر الحسيني

نقرأ في الزيارة عبارة «اللهمّ اجعلني عندك وجيهاً بالحسين عليه السلام في الدنيا والآخرة». هذه العبارة موجودة في زيارة الإمام الحسين ليوم عاشوراء، الذي عُدّ من الأحاديث القدسية.

تتمتّع زيارة عاشوراء باعتبار ووثاقة كبيرين، وليس لأحد التنكّر لذلك، لأنّ ذلك يعني في الواقع التنكّر لزيارة وارث، وزيارة الأربعين، والزيارة الجامعة، وزيارة الإمام الحسين في يوم عرفة، وزيارة رسول الله صلي الله عليه وآله وعدد من الزيارات الأخري، فجميع هذه الروايات تدخل ضمن نسق واحد.

أما زيارة عاشوراء فتعدّ من الأدعية العميقة الغور والعظيمة الأهمية، وهي تعدّ من النعم والألطاف الإلهية التي منّ الله بها علي عباده، حيث رواها أئمّتنا المعصومون سلام الله عليهم، وعلي الرغم من أنّهم يتكلّمون بلسان الله سبحانه وهذا بالضبط هو معني العصمة ولكن مع ذلك فإنّ زيارة عاشوراء تعتبر في الواقع زيارة خاصّة.

تبيّن العبارة المذكورة آنفاً والمقتبسة من زيارة عاشوراء كم أنّ الإنسان حقير مقابل عظمة الله جلّ شأنه، حيث يعترف بحاجته الماسّة إلي ربّه وأن لا وزن له ولا قيمة من دون الله، ويعلم علم اليقين أنّه لا يملك ما يقدّمه في حضرة معبوده سواء

كان قولاً جميلاً أم عملاً رزيناً، وفي الحقيقة إنّا لا نتوافر علي أهلية التحدّث إلي الله أو أن ننطق بكلمة «يا الله»، وإذا كنّا نملك شيئاً من هذا فإنّما هو منّة من الله وفضل حبانا بهما سبحانه فأذن لنا بدعائه كما في المنقول «وأذنت لي في دعائك»، ولولا هذه الأدعية والزيارات، لما استطاعت عقولنا أن تحيط بهذه المعاني الراقية، ولولا لطف أهل البيت وكرمهم سلام الله عليهم، لما استوعب العرفاء والحكماء والفلاسفة هذه المعاني العجيبة والمضامين السامية.

نحن جميعاً نُعتَبر دعاة إلي فكر أهل البيت سلام الله عليهم ومدرستهم، وهذا يفسّر أهمية الدور الذي نضطلع به، وهي أهمية نابعة من أنّ الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله نفسه كان مبلّغ الولاية، حيث خاطبه الله تعالي بقوله: ?يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ?، وكذلك الإمام الصادق والإمام المهديّ سلام الله عليهما هما مبلّغان، ومن هذا المنطلق فإنّنا نُعتبر من مبلّغي أهل البيت سلام الله عليهم والسائرين علي نهجهم، وهي نعمة أنعم الله بها علينا. ربّما يتعب الإنسان من عمله أو يصيبه الكلل و الندم، لكنّ المبلّغ الذي يرتبط بأهل البيت سلام الله عليهم ويكون في خدمتهم لا يكلّ ولا يملّ من عمله.

لذا ترانا في خطابنا إلي رسول الله صلي الله عليه وآله وسائر المعصومين نستخدم عبارة «يا وجيهاً عند الله»، فالوجاهة والكرامة عند الله هي مقام جدّ عالٍ، وعندما نقرأ هذه العبارة المهمّة من زيارة عاشوراء يجب أن نلتفت إلي غور معناها ونحيط بعمق محتواها، وأن نعلم بأنّ لامتلاك الوجاهة عند الله شروطاً ليست باليسيرة.

شروط الوجاهة الربانية

وأحد هذه الشروط هو أن نمتلك صفة العفو والمسامحة إذ إنّ الإمام الحسين سلام الله عليه كان تجسيداً حيّاً لهذه

الصفة العظيمة ونحن باعتبارنا دعاة إلي نهج الإمام ينبغي أن نتحلّي بهذه الصفة، وأن نتخلّي عن كثير من الأشياء في سبيل النهج الحسينيّ الذي اخترناه لأنفسنا.

إنّ مبلّغ الإمام الحسين سلام الله عليه يجب أن يتحلّي بصفة العفو في المجالات السياسية والاجتماعية والأسرية، وأن يتحمّل الصعوبات والشدائد في مسيرة التبليغ لمدرسة أهل البيت سلام الله عليهم، لأنّ الإمام الحسين سلام الله عليه ضحّي بدمه الزكي من أجل تحقيق أهداف دين جدّه صلي الله عليه وآله النبيلة.

جاء في إحدي زيارات سيّد الشهداء سلام الله عليه: «وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة».

لقد تحمّل أشرف الأوّلين والآخرين رسول الله صلي الله عليه وآله في سبيل تبليغ الرسالة الإسلامية شتّي أنواع الأذي، وصبر علي جميع الصعاب وكان نهجه في ذلك الصفح والعفو عن المسيء، ونحن أيضاً ينبغي أن نقتفي أثر رسول الله صلي الله عليه وآله وسيّد الشهداء والإمام الصادق سلام الله عليهما وأن نصبر علي الأذي.

لا شكّ في أنّ الرسول الأكرم والإمام أمير المؤمنين والسيدة الزهراء والإمام الحسن المجتبي عليهم أفضل الصلاة هم أعلي مرتبة من الإمام الحسين سلام الله عليه إلاّ أنّ إرادة الله التكوينية والتشريعية شاءت أن يكون لهذا العبد الصالح مقاماً ومكانة لم يخصّ الله بها أحداً من عباده غيره.

لقد بقي نور مجالس العزاء الحسينية وهّاجاً علي الرغم من تلك المضايقات والمتاعب. إنّ ذكري عاشوراء بقيت حيّة في الأذهان ومتجذّرة في الضمائر رغم التصدّي لها ومحاربتها من قبل أعداء أهل البيت سلام الله عليهم، حتي عدّوا نقل فضائل سيّد الشهداء سلام الله عليه جريمة لا تغتفر في بعض مقاطع التاريخ.

ينقل لنا التاريخ أنّ رجلاً ظالماً من عمّال بني العباس يدعي نصر وكان من

بطانة المتوكّل العباسي والمقرّبين منه، روي حديثاً عن رسول الله صلي الله عليه وآله في باب فضيلة الإمام سيّد الشهداء سلام الله عليه، وعندما تناهي ذلك إلي علم المتوكّل أمر بجلده ألف جلدة.

وفي عصرنا الراهن، حاربت الحكومات المتعاقبة في العراق بعض مظاهر العزاء الحسيني ومنعته، فكان يُرَشّ الملح والفلفل علي جروح المعزّين الحسينيين، ولكن كانت النتيجة أن باتت اللعنات تلاحق أولئك الطغاة، بينما ظل شعاع عاشوراء ينير الدرب نحو العلا.

لقد عُذّب الكثيرون بسبب إحيائهم لمجالس العزاء الحسينية وأُحرقوا وشُرّدوا وقُتّلوا لكن بقي اسم الإمام الحسين سلام الله عليه خالداً لم تمحه هذه الممارسات الظالمة. ولم تنفرج هذه الشدّة إلاّ في السنتين الأخيرتين عقب سقوط حكم البعث في العراق حيث أتيحت الفرصة للزائرين لزيارة العتبات المقدّسة، وحسب الإحصاءات التي نشرتها الجهات الأجنبية، فقد تشرّف حوالي 12 مليون زائر من إيران فقط بزيارة كربلاء المقدّسة.

وينقل أحد خطباء المنبر الحسيني بتعجّب وشغف عن إقامة مجالس العزاء الحسينية في إحدي المدن القريبة من القطب الشمالي التي زارها لأجل التبليغ، حيث يروي أنّ صوت مراسيم العزاء كانت تداعب الآذان حيث كان عدد قليل من المعزّين يحيون شعائر العزاء الحسينية في طقس قارص، شديد البرودة والانجماد.

ويأبي الله إلاّ أن يستمرّ ذِكر أبي عبد الله، وأن يتمّ نوره في القلوب. ?لِيَهلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيَي مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ?. فقد قضت حكمة الله أن يهلك المتوكّل العباسي وأضرابه عن بيّنة وأن يحيا شهداء كربلاء حياة خالدة وأبدية وعن بيّنة أيضاً. ولو لم تكن عاشوراء، أنّي لنا أن نتعرّف علي حقيقة عمر بن سعد أو زهير بن القين الذي قيل عنه بأنّه كان عثماني الهوي؟

كما ينقل التاريخ بأنّ شمر وحبيب بن مظاهر

كانا رفيقين ومن عشيرة واحدة، لكن واقعة كربلاء هي التي فرّقتهما، وكشفت للملأ عن حقيقة كلّ منهما، فلولا عاشوراء لما علمنا بأيّ من هذه الأمور.

وفي ذلكم عبرة

لقد كان الشيخ جعفر الشوشتري أحد مراجع التقليد في عصره حيث له رسالة عملية بعنوان (منهج الرشاد)، وهي رسالة فريدة من حيث تبويب الموضوعات وتصنيفها، وقد علّق عليها صاحب العروة والآخوند ذات مرّة وهو عائد إلي طهران من زيارة كانت له إلي مدينة مشهد المقدّسة صعد المنبر في إحدي المدن في طريق عودته، وذلك نزولاً عند رغبة ثلّة من المؤمنين. وفي إحدي خطبه التي اعتبرها البعض مؤثّرة للغاية قال الشيخ الشوشتري: عندما عزمت علي المجيء إلي هنا لفت انتباهي دابّة من الدوابّ بعد ما أفرغت حمولتها في المكان المقصود، وذلك عندما وقع نظري علي عينيها وكأنّ لسان حالها يقول لي: يا شيخ جعفر، لقد أدّيتُ ما أنيط بي من واجب علي أحسن وجه، ونقلتُ الحمل إلي المنزل المقصود، فهل أدّيت ما عليك من مسؤولية؟ هل نقلت الحمل إلي مقصده؟

فلا بدّ لنا أن نتدبّر في قول رسول الله صلّي الله عليه وآله: «كلّكم راع وكلكم مسؤول عن رعيّته». فكلّنا مسؤول، لأنّ مهمّة التبليغ مناطة بالجميع، لكن القسط الأكبر منه يتحمّله أهل العلم، والجميع بدءاً من مرجع التقليد حتي التلميذ يتحمّل مسؤولية إزاء واقعة عاشوراء ونشر الثقافة الحسينية. حاولوا أن توظّفوا هذه المناسبة بشكل أكبر من السنوات السابقة، وكذلك حاولوا أن توسّعوا من صدركم وصبركم علي الشدائد والصعاب، واعلموا أنّ الإمام الحسين سلام الله عليه في غني عن تبليغنا وكتاباتنا وخدماتنا، بل نحن والعالمين جميعاً بحاجة إلي كرمه ولطفه صلوات الله عليه.

إنّ من أهمّ واجبات المبلّغين والدعاة هو الاهتمام بشريحتي الناشئة

والشباب، كما أنّ من وصايا المغفور له أخي أعلي الله مقامه في مثل هذه المناسبات هي: حاولوا أن ترسّخوا الثقافة الحسينية في ضمير الشباب، فالإمام الصادق سلام الله عليه في خطابه إلي أبي جعفر الأحول (مؤمن الطاق) يقول: «عليك بالأحداث فإنّهم أسرع إلي كلّ خير».

(25) حسِن الخلق يحوز خير الدارين

قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «حَسِنُ الخُلق ذهب بخير الدنيا والآخرة».

إنّ المرء في أيّ مجال كان وفي أيّ بلد وفي أيّ مرتبة فهو مردّد بين الخير والشّر، إذ إنّ في الإنسان دافعاً الي الخير وهو العقل ودافعاً نحو الشر وهي النفس الأمّارة بالسوء. فإذا كان المرء حسن الخلق فإنّ دافع الخير عنده يغلب دافع الشرّ وسيكون نصيبه خير الدنيا والآخرة، بخلاف سيّئ الخلق فهو لا دنيا له ولا آخرة.

أمّا كيف يكون الإنسان حسن الخلق، فهذا يرجع إلي كلمة واحدة يمكن لكلّ إنسان أن يبدأ بالعمل بها من هذه اللحظة ومن هذا المكان الي آخر حياته. والكلمة هي ما ورد في حديث لمولانا الإمام الرضا سلام الله عليه حيث قال: «إنما هي عزمة».

فأيّ إنسان عزم عزماً أكيداً علي أن يكون خلوقاً فإنّه يوفّق لذلك.

وحسن الخلق هو أن تكون صادقاً في الكلام، صابراً عند المكاره، تلقي الناس دائماً ببشر الوجه وطلاقته، وأن تحلم عمّن يسيئ إليك، وإلي غير ذلك من محاسن الأخلاق.

يروي عن الامام الباقر صلوات الله وسلامه عليه، أنّه قد اعترضه شخص نصرانيّ وقال له والعياذ بالله: أنت بقر! فأجابه سلام الله عليه: بل أنا باقر.

وهذا هو الحلم. فاذا انتقصك شخص ما، فعليك أن تحلم، عندها تحوز علي خير الدنيا وخير الآخرة، وهذا بحاجة الي العزم الذي تكون نهايته التوفيق.

وهذه سُنّة الحياة. فطالب العلم إذا عزم علي أن يكون

حسن الخلق فسيصبح عالماً، والكاسب إذا عزم علي ذلك سيصبح تاجراً، والزوج سيكون محبوباً عند زوجته، وهكذا الزوجة.

بعبارة إخري: إنّ حسن الخلق يكون محبوباً عند الله تعالي وعند الناس كافّة.

فمن الخطأ تصوّر وجوب ردّ السيّئة بالسيّئة. أجل إنّه جائز في الحدود الشرعية كما في قوله تعالي: ?فَمَنِ اعْتَدَي عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَي عَلَيْكُمْ?. ولكنه ليس بواجب أو مستحبّ.

إنّه من يريد التوفيق وخير الدنيا و خير الآخرة والمحبّة عند الله عزّ وجلّ وعند الناس ينبغي له أن يردّ السيئة بالإحسان والحلم. فقد ورد في أحوال النبيّ الأكرم صلي الله عليه وآله أنّ إحدي زوجاته اتّهمته تهمة عنيفة في قضية قذف زوجته مارية القبطية، فلم يقابلها صلّي الله عليه وآله بالمثل ولم يجبها، بل إنّه صلّي الله عليه وآله اكتفي بنفي التهمة عنه فقط؛ علماً أنّ هذه الرواية نقلت عن أحد المعصومين سلام الله عليهم ولم ينقلها غيرهم من سائر الناس، لأنّ الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله لم ينقلها لأحد من الناس. فينبغي تعلّم الفضائل هذه والخلق الحسن من رسول الاسلام صلوات الله وسلامه عليه، والقرآن الحكيم يقول: ?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ?.

لقد رأيت الكثير ممن اتّصف بالخلق الحسن من العلماء وغيرهم من سائر الناس كانوا موفّقين في حياتهم وكانوا محبوبين عند الناس ولم يلقوا صعوبة في حياتهم.

إنّ أيّ فرد من أفراد الأسرة اذا كان حسن الخلق فإنّه سيكون محبوباً عند الجميع وسيقبل الله عزّ وجلّ أعماله، وإذا مات فسيترحّم عليه الناس، أمّا صاحب الخلق السيّئ فإنّه سيكون علي العكس من ذلك تماماً.

لذا ينبغي لكم أن تعزموا علي التحلّي بالأخلاق الحسنة، لتنالوا خير الدنيا وخير الآخرة.

(26) الثقافة هي الاساس

قال الله تعالي: ?قُلْ

هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ?.

إنّ صيغة الآية الاستفهامية إنّما تريد الإشارة بوضوح إلي حقيقة الإجابة التي لا يختلف فيها اثنان، باعتبار أنّ العلم والعلماء أرقي منزلة من الجهل والجهّال.

إنّ مسألة الثقافة من أهمّ المسائل في كلّ أُمّة وحضارة. وقد يصحّ ما يقال بأنّ العالَم يدور علي عجلة الاقتصاد والسياسة، ولكن الأصحّ من ذلك هو القول بأنّ الثقافة هي التي توجّه الاقتصاد والسياسة. فبقدر ما يحمل الفرد من ثقافة وعلم في كلا المجالين، فإنّه لا يَخسر ولا يُغلَب.

إنّ الثقافة الصائبة وحدها القادرة علي مواجهة وتصحيح ما نراه من ثقافة ضحلة في عالم اليوم، لأنّ القوّة أو المال أو غير ذلك يعجز عن مواجهة الثقافات وتغييرها، إذ لا يقارع الثقافة إلاّ الثقافة. فقد يهزم التاجر زميله التاجر، والسياسيّ نظيره، ولكن الفكر والثقافة لا يهزمان بالمال أو القوّة السياسية أو العسكرية، بل لابدّ لمن أراد خوض الميدان الثقافي الهادف إلي التغيير أن يكون متسلّحاً بسلاح الفكر والثقافة. ومن هنا كان العمل الثقافي من أهمّ الأعمال في المجتمع، فهو يمثّل البناء التحتيّ لغيره من الأعمال.

إنّ من المغالطات المعروفة، الخلط بين وحدة الموقف السياسي ووحدة العقيدة، فتصوَّر الكثير من المسلمين بأنّ الوحدة بين الشيعة وغيرهم تعني فرض عقيدة واحدة علي الجميع، في حين أنّ هذا الأمر شيءٌ مستحيل وخاطئ، إذ الاختلافات العقائدية من شأنها أن تُحلَّ بالحوار فقط، وصولاً إلي الحقّ وليس من الضرورة أن يتمّ الاتّفاق علي كلّ المعتقدات، فإنّ الاختلاف سنّة الحياة، وقد قال تعالي: ?وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ?.

لو تطرّقنا إلي تفسير جانب من جوانب قوله سبحانه: ?ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ? باعتبار أنّ الدليل هو الأمر الوحيد القادر علي إحداث

التغيير الجذري في قناعة هذا الإنسان أو ذاك، فإنّنا سنجد أنّ الآية الشريفة تريد تأكيد ضرورة أن يعرف من هلك أنّه إنّما هلك لاختياره طريق الضلالة، وأن يعرف من يحيا أنّه إنّما حيّ لاختياره طريق الهداية، فالمهمّ أن يكون الإنسان عارفاً بما اختار، فلا يهلك وهو جاهل بالأمر، وكذلك لا يكفي للمرء أن يكون علي الطريق الصواب، بل يريد الله منه أن يكون عارفاً بأنّه علي صواب، وأن يكون اختياره له عن دليل وبيّنة.

ولا يعني تغيّر الإنسان بسبب فكرة أو كلمة ضرورة أن يحدث التحوّل المعلن لديه دفعةً واحدة، لأنّ تغيير المواقف والعقائد والإعلان عنه ليس بالأمر الهيّن، فهو يغيّر تاريخه، بل ونوعية وجوده. ولكن الفكرة النيّرة تهزّ الإنسان المنصف الواعي وتدفعه إلي مزيد من البحث؛ وصولاً للحقيقة الكاملة، وإذا اتّضحت له البيّنة آمن، إلاّ أن يكون معانداً، والمعاندون قليلون، أمّا ما نراه في عامّة الناس من عدم الاهتداء إلي نور الحقّ فهو التعصّب الناشئ من الجهل وعدم انكشاف البيّنة، الأمر الذي يحتاج إلي وسائل وفرص كفيلة بذلك.

وهناك جملة من الأمثلة علي نفوذ الثقافة الحقّة القائمة علي البيّنة والبرهان في كثير من الأشخاص الذين كانوا يعيشون في بيئة عُرفت بعدائها للحقّ والحقيقة مثل ابن مروان بن الحكم الذي كان يسمّي بسعد الخير رغم ما هو معروف من بطلان منهج أبيه، ومثل عليّ ابن المسمّي صلاح الدين الأيّوبي الذي ارتكب ما ارتكب من مجازر رهيبة بحقّ الفاطميين والشيعة تحت مظلّة مقاومة الهجمات الصليبية.

وخلاصة القول: لمّا كان العمل الثقافي يعدّ من أهمّ الأعمال، بل أهمّها، فإنّ ذلك يستوجب توفّر ثلاثة شروط، لضمان نجاحه وتحويله إلي عمل مثمر، وهذه الشروط هي:

1. التأكّد بأنّ فكر أهل البيت عليهم السلام

هو النور والمشعل الوضّاء والبيّنة، وأنّ هنالك الملايين من البشر محرومون منه، وأنّ مهمّة إيصاله إلي هذا الكمّ الهائل ليس بالمهمّة السهلة، ممّا يستدعي مضاعفة الجهود لنشر ثقافة هذا النور لتحرير الناس بمن فيهم المفكّرون والمثقّفون من ظلمات الجهل.

2. إذا أردنا لأعمالنا أن تحقّق أهدافها، فلابدّ أن تكون مطابقة للطريق الذي رسمه الشرع لنا، وإلاّ فسيكون مثَلنا مثل ذلك السائق الذي لا يتقيّد بالعلامات المرورية، ثمّ يتبيّن لنا أنّ المسافة التي قطعناها بعد مدّة طويلة لم تكن هي المطلوبة، وأنّه ينبغي علينا العودة إلي نقطة البداية لتصحيح المسار.. وبتعبير أدقّ: إنّ علي العاملين في السلك الثقافي عموماً أن يعرضوا علي الناس عين ما يريده أئمّة أهل البيت سلام الله عليهم، فهم أعلام الهداية وأنوارها.

3. ضرورة العمل وفق أنجح الأساليب وأجمل التعابير، تماماً كما هو الحال بالنسبة لأساليب الأدعية الواردة عن أئمّتنا المعصومين سلام الله عليهم، حيث روعة البلاغة والفصاحة وجمال التعبير، فضلاً عن سموّ المعني.

(27) التبليغ رسالة العلماء

ورد في إحدي زيارات الإمام الحسين سلام الله عليه التي رواها الأعاظم، عن كامل الزيارات للمرحوم ابن قولويه القمّي عن الإمام الصادق سلام الله عليه:

«أشهد أنّك طهر طاهر مطهّر من طهر طاهر مطهّر، طهُرَت وطهُرتْ بك البلاد وطهرت أرض أنت بها وطهر حرمك».

عشرة ألفاظ من مادّة «طهر» استعملها الإمام الصادق سلام الله عليه في هذه الجملة في مخاطبة جدّه الإمام الحسين سلام الله عليه. ونسبة الطهر إلي الإمام إذا قصد منها العصمة، فهذا يعني أنّ هناك خصوصية للإمام الحسين سلام الله عليه في هذا المجال لا يشاركه فيها إلاّ أخوه الإمام الحسن سلام الله عليه لانفرادهما بأبوين معصومين طاهرين؛ فأمّا جدّهما رسول الله صلّي الله عليه وآله وإن كان أفضل

وأطهر الأولين والآخرين ولكنّ أباه وأمّه لم يكونا معصومين وإن كانا طاهرين لكن العصمة هي أعلي درجات الطهارة. وهكذا الحال بالنسبة إلي أبيهما أمير المؤمنين عليه السلام فإنّ أبويه كانا طاهرين غير معصومين أيضاً. أما بالنسبة لسائر الأئمة المعصومين من ذرية الإمام الحسين عليه السلام فكانوا معصومين من جهة الآباء أيضاً ولكن أمّهاتهم كنّ طاهرات غير معصومات. فتنحصر صفة عصمة الآباء والأمّهات في الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام فقط.

ولذلك يخاطب الإمام الصادق سلام الله عليه جدّه الإمام الحسين سلام الله عليه بقوله: «أشهد أنّك طهر طاهر مطهَّر من طهر طاهر مطهَّر». وإثبات العصمة لهؤلاء الطاهرين المطهرين الأربعة عشر مما تسالم عليه الشيعة الإمامية.

والبحث في هذه القطعة لا يخلو من أهمية رفيعة لأنها عبارة فريدة لم يرد مثيل لها في حقّ أحد غيره، لما فيها من نكات مهمّة لم تبحث بعد، سواء من الناحية اللغوية والبلاغية أو من الناحية العقائدية.

إنّ للطهارة مراتب سامية فلنجعلها نصب أعيننا ونبذل جهدنا من أجل تحقيقها في ذواتنا، وإذا كان شهر محرّم الحرام خير فرصة لاتّخاذ مثل هذا القرار فلننتهز هذه الفرصة، ولنتذكر أنّ الطهارة قابلة للتأثّر، ويمكن أن تتلوّث بسرعة بالذنب والمعصية تماماً كالماء الطاهر الذي ينفعل ويتلوّث إن لاقته النجاسة، والذنوب نجاسات، فلا تدعوها تلوّث طهارتكم.

دخل علي الميرزا الكبير في أحد الأيّام رجل علم عادي ولكنّ الميرزا نهض من مكانه واستقبله استقبالاً حافلاً وقبّل ما بين عينيه، فتعجّب الطلاب الذين كانوا يحضرون المجلس! لأنّ الميرزا كان لا يقوم لكل أحد يومذاك بسبب شيخوخته، فضلاً عن ذلك فهذا الشخص الوافد لم يكن يحظي بدرجة علمية مهمّة، وعندما استقرّ المجلس توجّه أحد الطلبة بسؤال الميرزا عن هذا الشخص الذي قام

من أجله وكرّمه، فقال: إنّه من الذين أخشي أن أغبطهم يوم القيامة. قيل: وكيف ذاك؟ قال: لقد كنّا ندرس سوية في بحث الخارج، وفي أحد الأيّام تناهي إلي سمعه أنّ هناك قري في العراق تحتاج إلي من يبصّرها بأمور دينها، فأهلها أناس أميّون لا يعرفون كثيراً عن أحكام الإسلام، فشعر بالمسؤولية وترك الدرس والرقيّ العلمي وتوجّه لإجابة نداء الواجب الذي أحسّ به تجاههم، وبدأ بتعليم أطفالهم القراءة والكتابة ثم تعليم الكبار أحكام الدين حتي وُفّق أخيراً إلي رفع مستواهم وبناء مراكز علمية ودينية وعبادية لهم.

فالرتبة العلمية لا تعني كل شيء، بل الرسالة التي ينهض بها العلماء هي التي ينبغي الاهتمام بها، فليعرفوا قدر ما يقومون به، وليعبئوا أنفسهم من أجل القيام بهذه المهمّة علي أحسن وجه.

(28) نشر مبادئ أهل البيت

قال الله تعالي: ?أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ?.

مفردة ?أقِيمُوا? تعني الثبات، فمثلاً، أداء الصلاة يختلف عن الالتزام بروح الصلاة والثبات عليها، ففي زيارة الإمام الحسين سلام الله عليه وردت هذه الفقرة (أشهد أنك قد أقمت الصلاة) أي إنّه قد التزم روح الصلاة وثبت عليها؛ وجعلها قائمة في نفسه والمجتمع.

لا ريب أنّ الخطاب القرآنيّ موجّه إلي عامّة الناس وسائر المسلمين والمتدينين، ليبيّن لهم أنّ (أقيموا الدين) عبارة عن هيئة ومادّة، إذا ما جري التفكيك أو الفصل بينهما، أصبحت أمراً ومادّة متعلّقة بأمر.

ولكن ما الدين؟ القرآن الكريم يقول: ?إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ?، ما يعني أنّ المستحبّات والمكروهات وأخلاقيات وآداب الإسلام وغيرها من التشريعات الإسلامية هي قوام دائرة الأمر (أقيموا)، ويجب أن نلاحظ بدقّة أنّ القرآن الكريم لم يقل (أقيموا الواجبات) بل قال (أقيموا الدين) أي كلّ ما يقع ضمن دائرة الدين.

لكن من المؤكّد أنّ أهل العلم لهم خصوصيتهم، ويتعيّن

عليهم إبلاغ الناس بمسائل الحلال والحرام وأصول الدين وفروعه … وفي هذا الصدد روي عن الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه، أنه قال لواحد من خيرة أصحابه وأعوانه، وهو الحارث بن مغيرة: «لأحملنّ ذنوب سفهائكم علي علمائكم».

فإنّ كلمة (علماء) لا تعني مراجع التقليد فحسب، بل إنّ الخطاب يشمل كل من يمتلك علماً في أيّ مجال، وبالطبع فإنّه كلّما ازداد العلم، كانت المسؤولية أكبر وأثقل. ويجب أن نعلم بأنّ الناس إذا ما قارفوا الذنوب كأن يكون الفرد المسلم لا يصلّي، ولا يؤدّي واجباته ووظائفه الدينية فإنّ ذنوبهم تقع علي عواتقنا، إلاّ إذا عجزنا حقاً عن القيام بشيء حيالها، وأعذرنا الله عزّ وجلّ.

إنّ الله سبحانه وتعالي قد جعل لأهل العلم منزلةً ومقاماً رفيعاً عنده، وإنّ صلاة العالم وعباداته الأخري، تفضل صلاة العابد بألف ضعف، فكان من الطبيعي طبقاً لهذا المقام أن تتضاعف مسؤولية العالم أمام الله عزّ وجلّ.

من هنا لا بدّ من الإشارة إلي بعض المواطن في التاريخ الإسلامي، تتعلّق بالمصاعب والمعاناة التي تحمّلها الرسول الأكرم صلّي الله عليه وآله علي طريق تبليغ الرسالة الإسلامية السمحاء، فبعد أن بُعث صلي الله عليه وآله بالرسالة، اعتلي جبل الصفا، ثم جبل المروة، ودعا الناس إلي عبادة الله الواحد الأحد، غير أنّ المشركين راحوا يرمونه بالحجارة، حتي أدموا بدنه الشريف، فبادرت إليه ملائكة السماء تلتمس منه الأمر لإبادة المشركين، إلاّ أنّ الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله لم يقبل، وقال: «اللهم أهد قومي».. وعلي أثر استقامة رسول الله صلي الله عليه وآله في قوله وعمله، وبعد مضيّ نحو إحدي وعشرين سنة من بدء دعوته، دخل أكثر هؤلاء المشركين، أو أبنائهم إلي الإسلام.

إنّ النبي صلي الله عليه وآله لم يدعُ علي

أولئك المشركين بالويل والثبور، ذلك لأنّه صلي الله عليه وآله رحمة، وكان يقول: (بُعثتُ رحمةً). والله عزّ وجلّ يأمرنا في كتابه الحكيم أن نتعلّم من نبيّه صلي الله عليه وآله كما يجب أن نعلم أن أكثر الناس ليسوا معاندين. نعم، قد يكونون متعصّبين، إلاّ أنهم ليسوا بالضرورة معاندين.

فمثلاً يُذكر أنّ العيّاشي كان كاتباً سنّياً متعصّباً، لكنه لم يكن معانداً، فلما بصّره بعض الشباب الشيعة بالحقيقة، اختار مذهب أهل البيت سلام الله عليهم، بحيث أنّه عندما ورث من أبيه (300 ألف) من المسكوكات الذهبية أي ما يربو علي طن واحد من الذهب بحساب اليوم بذل كل هذه الثروة في خدمة المذهب الحقّ، وربّي أفراداً مثل (الكشي) الذي لاقي كتابه الموسوم ب «رجال الكشي» فائق السمعة في تصنيفه لعلماء الشيعة في مجال الحديث والرواية.

فلنستفد في هذا الشهر المبارك أكثر من ذي قبل، ولنعمل الي جنب إصلاح الذات، لهداية أولئك الذين لا يعلمون، ولنفعل كلّ ما باستطاعتنا عمله، من إقامة مجالس أهل البيت سلام الله عليهم وعقد جلسات القرآن، أو حتي حثّ الأفراد للمشاركة في مثل هذا النوع من أعمال الخير، لأجل ترسيخ دعائم الدين؛ امتثالاً لهذا الأمر الإلهي (أقيموا الدين).

(29) وصايا عامّة للمبلّغين

1. إحياء أمر أهل البيت سلام الله عليهم بتعريف المؤمنين مبادئهم؛ فقد جاء عن الإمام الرضا سلام الله عليه: «رحم الله عبداً أحيا أمرنا». وإيصال نورهم وهم مصباح الهداية للعالم والناس كافّة لإخراجهم من الظلمات إلي النور؛ عن أبي خالد الكابلي قال: سألت أبا جعفر الباقر عليه السلام عن قول الله عزّوجلّ: ?فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا? فقال: «يا أبا خالد! النور والله نور الأئمّة من آل محمد إلي يوم القيامة، وهم والله نور الله الذي

أنزل، وهم والله نور الله في السماوات والأرض».

2. تعريف مبادئ وقيم النهضة الحسينية المقدّسة للعالم. فقد جاء عن النبيّ صلي الله عليه وآله: «إنّ الحسين مصباح الهدي وسفينة النجاة».

وتشجيع الناس علي إقامة الشعائر الحسينية بأحسن وجه، فإن إحياءها تعظيم لشعائر الله سبحانه وإحياء لأمر أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

3. التعامل الأخلاقي الحسن مع الجميع، والتحلّي بالأخلاق الفاضلة في أداء العمل، لأنّ الكلام إذا قيل بخُلق رفيع كان أثره أكبر وأعمق، قال الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه: «من حسّن خلقه كَثُر محبّوه وأنست النفوس به».

4. محاسبة النفس كلّ يوم، فإن المبلّغ إذا هذّب نفسه وزكّاها استطاع التأثير أكثر. قال الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه: «ثمرة المحاسبة صلاح النفس».

5. الجدّ والاجتهاد في هداية الناس كافّة. قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «يا عليّ … وأيم الله لئن يهدي الله علي يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت».

6. الاهتمام الوافر بالشباب والأحداث، وعقد جلسات خاصة بهم وتعليمهم أصول الإسلام وعقائده وأحكامه وآدابه وأخلاقه وتعريفهم بسيرة النبي الأكرم صلّي الله عليه وآله والمعصومين من أهل بيته سلام الله عليهم، والإجابة عن مختلف الأسئلة التي تجول في خاطرهم وذلك بأسلوب حديث وسهل وجميل. وتشجيع الشباب علي إقامة النشاطات والفعاليات الدينية والثقافية والاجتماعية في سبيل إحياء أمر أهل البيت سلام الله عليهم. وحفظهم من خطر الغزو العقائدي والتيارات المنحرفة والفئات الضالّة والأخلاق الفاسدة. فإنّ الإمام¬الصادق عليه السلام يقول: «عليك بالأحداث فإنهم أسرع إلي كل خير».

7. تأكيد ضرورة اهتمام الآباء والأمهات بأولادهم بنات وبنين وتنشئتهم علي التمسّك بحبّ وولاية الأئمة الهداة الأطهار، وحفظهم من خطر الغزو العقائدي والثقافي.

8. التأهّب للأمر، والتهيّؤ للأسئلة المتنوعة

والإجابة علي أسئلة الناس بصدر رحب، وعدم التبرّم حتي من الأسئلة الساذجة أو السفيهة أحياناً. وتحمل الصعاب والأذي مهما كانت اقتداءً برسول الله صلي الله عليه وآله.

9. خدمة الناس والسعي في حلّ مشاكلهم وقضاء حوائجهم قدر المستطاع. قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «خير الناس من نفع، ووصل، وأعان».

10. السعي لبذر الكلمة الطيّبة في كلّ مكان ومع كلّ إنسان، والاقتداء برسول الله صلي الله عليه وآله في ذلك، فلقد كان صلّي الله عليه وآله يستغلّ كلّ الفرص للتبليغ ويدع التفرّغ للعبادات المستحبّة إلي الأوقات التي لا فرصة للتبليغ فيها لمنتصف الليل.

11. كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، وذلك بأن تكون أعمالكم وتصرفاتكم مطابقة لما تدعون إليه. قال الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه: «كونوا دعاة للناس بالخير بغير ألسنتكم، ليروا منكم الإجتهاد والصدق والورع».

12. الدعاء لتعجيل فرج مولانا المفدّي الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالي فرجه الشريف، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات كافة.

13. الإخلاص في العمل، فمن يخلص في عمله أكثر، ينل درجات أرفع عند الله عزّ وجلّ.

14. عليكم بالتواضع، فإن مفتاح الموفقية هو تقبّل الكلام الحق وطرد التكبر والأنانية.

15. دراسة سيرة العلماء والفقهاء الشيعة عبر التاريخ، والبحث عن الأساليب التي جعلت من بعض علماء الشيعة كالشيخ الصدوق والمفيد والطوسي والأنصاري و … رضوان الله تعالي عليهم خالدي الذكر.

16. الاقتداء بسيرة أهل البيت سلام الله عليهم الأخلاقية، ليكون هذا الاقتداء مصداقاً طيباً لما تحملون من علم.

17. إحياء القلب بطاعة الله عزّ وجلّ.

18. الانتفاع من الوقت كلّه في طلب العلم، لأن العلم لا نهاية له، والله تعالي خاطب نبيه صلّي الله عليه وآله ب ?وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً?.

19. الاستعانة بمختلف وسائل الإعلام والتقنية الحديثة في نشر الإسلام وتعريف

العالم بواقعه الأصيل، وحقيقته الصادقة.

20. الاهتمام بالكيفية دون الكمية. أي الاهتمام بنوعية الدراسة وإتقانها.

21. الاهتمام بالخطابة والكتابة لأنّها من لوازم الشخصية العلمية والقيادة الناجحة. ولأجل تنمية ذلك ينبغي التوجّه إلي النقاط التالية:

أ تقبّل النقد البنّاء.

ب البحث عن مدرسين أو دورات للخطابة والكتابة.

ت تخصيص جزء من الوقت لحفظ النصوص.

(30) وصايا عاشورائية لعامّة المؤمنين

• أولي مهامّ محبّي أهل البيت سلام الله عليهم إعلان شأن عاشوراء وثقافتها.

• يجب أن نبقي علي جذوة ملحمة عاشوراء متّقدة علي الدوام.

• علينا أن نعلم بأنّ الفضل في اشتراكنا في إحياء الشعائر الحسينية يعود لآبائنا وأجدادنا.

• لنعلم أن ما ينفق ويبذل في سبيل الإمام الحسين سلام الله عليه هو الأفضل.

• علي الإنسان أن يوظّف نفسه من أجل خدمة الإمام الحسين سلام الله عليه.

• لا يمكننا أن ندّعي الانتماء لمدرسة عاشوراء، مالم نبذل الغالي والنفيس في سبيل تحقيق أهدافها السامية.

• لنتعرّف علي ماذا قدّمه الإمام الحسين سلام الله عليه لنا، حتي نسلك طريقه ونتبع أثره.

• إذا كنتم لا تستطيعون بناء الحسينيات، فشجّعوا الآخرين علي ذلك.

• علي المؤمنين أن يضيئوا مصباح الهداية الحسيني في بيوتهم عبر إقامة الشعائر المصغّرة.

• لنحاول أن لا يحرم أيّ شاب من المشاركة في الحسينيات والشعائر الحسينية.

• لنحاول تجنيب الحسينيات عن أن تكون مسرحاً للخلافات والنزاعات، ولنجعل منها أماكن للاجتماعات الطيّبة والوحدة والوئام.

• علينا أن نحذر ونحتاط، فلا نسيء إلي شيء من قضايا سيد الشهداء عليه السلام.

• أبسط ما يمكن القيام به في إطار إيصال صوت الإمام الحسين سلام الله عليه للعالم جمع مقدار من المال وتغطية تكاليف موقع علي الانترنت.

• اسعوا إلي أن يكون أحد أبنائكم خادماً للإمام الحسين سلام الله عليه.

• ما أحسن الجمع بين أمر التطبير والتبرّع بالدم، ففي يوم عاشوراء

يكون التطبير، وفي يوم ولادته سلام الله عليه يكون التبرّع بالدم.

• ليكن يوم أربعين الحسين سلام الله عليه يوم جمع كلمة المؤمنين والحذر من فتنة الأعداء والمنافقين.

أسأل الله تعالي لكم ولكلّ العاملين المخلصين التوفيق منه جلّ وعلا، بحقّ محمد وآله الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

فهارس الكتاب

فهارس الكتاب

• الآيات الكريمة

• الأحاديث والروايات الشريفة

• مصادر الكتاب

• المحتويات

فهرس الآيات

الآية ورقمها السورة رقم الصفحة

الفاتحة

?إيّاكَ نَعبُدُ وَإياكَ نَستَعين/5? 73

البقرة

?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ/183? 270، 281

?فَمَنِ اعْتَدَي عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَي عَلَيْكُمْ/194? 240، 304

?وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ/206? 200

?يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ والأذي/264? 293

آل عمران

?إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ/19? 230، 313

?قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء/26? 134

?لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّي تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ/92? 95، 134

?وَلِلّهِ عَلَي النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ/97? 270

?وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ/144? 64

?فَبمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللّهِ/159? 265، 266

?الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَيَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ/191? 213

المائدة

?وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ/35? 284

?يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ/67? 298

?لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ/82? 108

?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ/105? 74

?وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْا مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُه وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ/119? 283

الأنعام

?أَقِيمُوا الصَّلاةَ /72? 270

?فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ/149? 190

الأعراف

?قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ/32? 70

?وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ/175? 22

الأنفال

?الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا/2? 214

?إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ/29? 225

?قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ … /38? 84

?لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَة/42? 231، 280، 301، 307

التوبة

?فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ/38? 206

?فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا/82? 202

?وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ

وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَي النِّفَاقِ/101? 241

يونس

?لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ/14? 294

هود

?وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ/118 119? 100، 105، 182، 282، 296، 307

يوسف

?إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ/53? 191

الرّعد

?أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ/28? 69، 73، 81

?فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ/17? 256

النحل

?مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ/96? 228

طه

?طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَي/1 2? 86

?وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً/114? 97، 319

?وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَي مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا/131 ? 129

النّور

?وَمَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ/40? 21، 26

الفرقان

?قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ/77? 146

الشعراء

?يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ* إلاَّ مَنْ أَتَي اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ/88 89? 59

القصص

?قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَي عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا/78? 105

الأحزاب

?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ … /59? 84

?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ/21? 237، 265، 305

?الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلاَّ اللَّهَ/39? 83

يس

?وَجاءَ مِنْ أَقْصَي الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعي/20? 293

الصافات

?فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ/142? 121

ص

?قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ/82 83? 183

الزمر

?قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ/9? 278، 306

?وَبَدَا لَهُم مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ/47? 13، 16، 178

غافر

?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ/51? 285

?يَعلَمُ خَائِنَة الأعيُن … /19? 41

الشوري

?أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه/13ِ? 230، 233، 269، 313

الجاثية

?قُل للَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون … /14? 84، 130

الأحقاف

?إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ

يَحْزَنُونَ/13? 239

الفتح

?وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا/29? 242

الحجرات

?إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ/13? 104

?إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ للْمُتَوَسِّمِينَ/75? 211

الذاريات

?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ/56? 9

النجم

?وَأَن لَيْسَ لِلإِنسَانِ إلاَّ مَا سَعَي/39? 182، 273

?وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَي/40? 273

الحديد

?لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَي مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ/23? 264

الحشر

?وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ/19? 48

الصف

?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ /2? 61

?كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ/3? 61، 62، 66

التغابن

?فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا/8? 316

الطلاق

?لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ مَا آتَاهَا/7? 47

التحريم

?إِن تَتُوبَا إِلَي اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ/4? 240

?وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً للَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ/11? 264، 294

القيامة

?بل الإنسان علي نفسه بصيرة/14? 47

الإنسان

?وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَي حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا/8? 96

النازعات

?وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَي النَّفْسَ عَنِ الْهَوَي * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَي/40 41? 215

الانفطار

?وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ/10 11? 173

المطفّفين

?وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ/26? 287

?وَلاَتَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَي مَامَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا/131? 129 131

البيّنة

?وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ/5? 171، 183

الكافرون

?قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ/1? 84

فهرس الأحاديث

«أ»

«آه اسم من أسماء الله عزّ وجلّ. فمن قال: آه، فقد استغاث بالله» 15 16

«أحدهم يثب علي أموال حقّ آل محمد وأيتامهم … أتراه ظنّ أنّي أقول لا أفعل؟» 16

«احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيءٌ أعدي للرجال من اتّباع أهوائهم» 216

«أخذ أعرابي بردائه صلّي الله عليه وآله فجبذه جبذة شديدة» 240

«أخلص ودَّك للمؤمن» 108

«أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوي وطول الأمل، فأمّا اتّباع الهوي» 217

«أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» 104

«إذا بلغ الرجل أربعين سنة ولم يغلب خيره شرّه قبّل الشيطان بين

عينيه» 191

«إذا رأيتم المؤمن صموتاً فادنوا منه فإنّه يلقي الحكمة» 140

«إذا صعدت روح المؤمن إلي السماء تعجبت الملائكة. وقالت: عجباً! كيف نجا» 181

«إذا مات ابن آدم، انقطع عمله الا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية 104

«اذا صمتَ فليصُمْ سمعك وبصرك وشعرك وجلدك» 281

«إرادة الربّ في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم، والصادر عمّا فُصِّل» 160

«أراك تتعوّذ من مالك وولدك» 225

«أسوّيت نفسك بهؤلاء؟ أما آذيت بهذا الملائكة، وآذيتنا؟» 293

«أشدّكم من ملك نفسه عند الغضب» 206

«أشهد أنّك طهر طاهر مطهّر من طهر طاهر مطهّر» 310، 311

«اطلبوا العلم ولو بالصين» 18

«الأغلب من غلب بالخير، والمغلوب من غُلب بالشرّ، والمؤمن مُلْجَم» 145

«أغبِطُ أهل خراسان لمكان الفضل بن شاذان بمكانه بين أظهرهم» 164

«ألا ترضون أن يكون رسول الله في سهمكم» 125

«إلاّ من تنزّهت نفسه عن الدنيا وأبغض المدحة واستحبّ المذمّة» 203

«الآن قد عادت إليك مثوبات صدقاتك وزال عنها الإحباط» 293

«ألم آتكم وأنتم علي شفا حفرة من النار فأنقذكم الله بي» 124

«اللهم إنّي أعوذ بك من مُضلاّت الفتن» 225

«اللهمّ اجعلني عندك وجيهاً بالحسين عليه السلام في الدنيا والآخرة» 297

«اللهم اهد قومي» 315

«اللهمّ ارزق محمّداً وآل محمّد الكفاف» 132

«اللهمّ ارزقه الكفاف» 132

«اللهمّ أكثِر ماله وولده» 131

«اللهم لا تنزع منّي صالح ما أعطيتني أبداً. ولا تردّني في سوء استنقذتني منه» 121

«إلهي لا تكلني إلي نفسي طرفة عين أبداً» 87

«أما إنّ أجلك قد حضر حتي وصلتَ عمّتك بما وصلت فزيد في أجلك عشرون» 261

«أما ترضون أن يرجع غيركم بالشاء والنَعَم ورجعتم أنتم ورسول الله في سهمكم» 125

«أمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها الي رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم» 166

«أمرني حبيبي جبرئيل عليه السلام بمداراة الرجال» 117

«إنّ الله اطلع إلي الأرض فاختار لنا

شيعة ينصروننا… أولئك منّا وإلينا» 268

«إنّ الله عزّ وجلّ أخفي أربعة في أربعة … فلا يستصغرنّ أحدكم أحداً» 255

«إنّ أناساً من أهل الجنّة اطّلعوا علي أناس من أهل النار» 62

«أنت ومالك لأبيك» 99

«إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم، ففكّوها باستغفاركم …» 154

«إنّ الأنبياء إنّما فضّلهم الله علي خلقه بشدّة مداراتهم لأعداء الله …» 124

«أنتم حفظة عمل عبدي، وأنا رقيب علي ما في نفسه» 173

«أُنزلت عليّ هريسة، فأكلت منها، فزاد الله في قوتي قوّة أربعين رجلاً في البطش» 267

«إن ضحك لم يخرق، وإن غضب لم ينزق، ضحكه تبسّم» 212

«إنّ قائمنا أهل البيت إذا قام لبس لباس عليّ وسار بسيرته» 126

«إنّ علي بن أبي طالب كان يلبس ذلك في زمان لا يُنكر» 126

«إنّ ما قلّ وكفي خيرٌ ممّا كثر وألهي» 132

«إن قُبلت قُبل ما سواها، وإن رُدّت ردّ ما سواها» 9

«إن كنت تري أنك تعصي الله وتدخل الجنّة … إذاً أنت أكرم علي الله» 145

«إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» 60، 285

«إنّما خلد أهل النار في النار لأن نيّاتهم في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله» 205

«إنّما هلك الناس باتّباع الهوي وحبّ الثناء» 204

«إنما هي عزمة» 303

«إنّما هي نفسي أروضها بالتقوي لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر» 149

«اهجروهم واجتنبوا مجالستهم» 278

«ب»

«باهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام، ويحذرهم الناس» 59

«بذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة» 299

«بعثت بمداراة الرجال» 171

«بل أنا باقر» 304

«بل لو شئتم قلتم: جئتنا طريداً مكذَّباً فآويناك وصدّقناك» 125

«بنا يمسك السماء أن تقع علي الأرض إلاّ بإذنه، وبنا ينزل الله الغيث» 161

«ث»

«ثلاث من أتي الله بواحدة منهنّ أوجب الله له الجنّة: الإنفاق من إقتار» 193

«ثمرة المحاسبة صلاح النفس» 317

«ثواب العمل علي قدر المشقّة» 98

«ج»

«الْجَارُ

ثُمَّ الدَّارُ» 275

«جعل لمن تطوّع فيه بخصلة من خصال الخير والبرّ كأجر من أدّي فريضة» 154

«جلس يحدّث حتي غابت الشمس» 89

«ح»

«حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم» 172

«حَدَثَ بِآلِ فَرَجٍ حَدَثٌ؟» 279

«حزنه في قلبه وبشره في وجهه» 199

«حَسِن الخُلق ذهب بخير الدنيا والآخرة» 303

«الحسن من كلّ أحدٍ حسن، ومنك أحسن؛ لمكانك منّا» 167

«الحسين مصباح الهدي وسفينة النجاة» 316

«خ»

«خير الناس من نفع، ووصل، وأعان» 318

«د»

«داهنوا أهل المعاصي فلم يغضبوا» 118

«دبيب الشرك في أمتي كدبيب النملة السوداء علي الصخرة الصمّاء» 180

«دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب» 338

«الدعاء مخّ العبادة» 276

«ر»

«رأس التواضع أن تكره أن تُذكر بالبرّ والتقوي» 204

«رأي رسول الله نخامة في المسجد فمشي إليها بعرجون.. فبني علي صلاته» 35

«رَأَيْتُ أُمِّي فَاطِمَةَ قَامَتْ فِي مِحْرَابِهَا لَيْلَةَ جُمُعَتِهَا … سَمِعْتُهَا تَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ» 275

«رحم الله عبداً أحيا أمرنا» 316

«رخّص نفسك، واجلس في الدهليز واقض حوائج الناس، نحن ننصرك» 255

«رضّني من العيش بما قسمت لي» 264، 295

«رفع عن أمّتي تسعة … وما لا يعلمون» 179

«ركعتان يصلّيهما العالم أفضل من ألف ركعة يصلّيها العابد» 314

«ز»

«زهر مصباح الهدي في قلبه» 213

«س»

«السكوت ذهب والكلام فضّة» 139

«ش»

«شرّقا وغرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت» 283

«الشقيّ مَن حُرم رضوان الله» 153

«الشياطين مغلولة فاسألوا ربّكم أن لا يسلّطها عليكم» 151

«الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم» 153

«الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهم عن دينه» 152

«شيعتنا الخُلّص حزقيل المؤمن، مؤمن آل فرعون وصاحب يس» 293

«ص»

«الصادر عمّا فُصِّل من أحكام العباد…» 161

«صانع المنافق بلسانك … وإن جالسك يهوديّ فأحسن» 107، 108

«صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ» 99 «101

«صنائع المعروف فإنّها تدفع ميتة السوء وتقي مصارع الهوان» 261

«صدقة العلانية تدفع ميتة السوء» 261

«ط»

«طلب العلم فريضة علي كلّ

مسلم ومسلمة» 25، 244

«ع»

«العقل ولادة، والعلم إفادة، ومجالسة العلماء زيادة» 5

«العلم إذا لم يُعمل به لم يزد صاحبه إلاّ كفراً، ولم يزدد من الله إلاّ بعداً» 163

«العلم نور يقذفه الله في قلب مَن يشاء» 21 24، 42

«العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه من الله إلاّ بعداً» 47

«علماء شيعتنا يحشرون، فيخلع عليهم من خلع الكرامات علي قدر كثرة علومهم 252

«عليك بالأحداث فإنّهم أسرع إلي كلّ خير» 302، 317

«عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار» 257

«غ»

«غيّب وجهك عنّي» 93

«ف»

«فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني» 257

«فضل العالم علي العابد كفضلي علي أدناكم» 22

«فوّض الله إلي المؤمن أموره كلّها، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً» 58

«ق»

«قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة» 147

«القرآن شافع مشفّع وماحِلٌ مصدّق» 286

«قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» 126، 238

«قيّدوا العلم» 5

«ك»

«كان أكثر عبادة أبي ذر التفكّر والاعتبار» 143

«كان رسول الله صلي الله عليه وآله في بيت أم سلمة في ليلتها، ففُقد من الفراش، 121

«كثرة الضحك تمحو الإيمان» 212

«كريم حليم ذو أناة» 91

«كلّكم راع وكلكم مسؤول عن رعيّته» 302

«كم من صائم ليس له من صومه إلاّ الظمأ والجوع» 281

«كونوا دعاة للناس بالخير بغير ألسنتكم، ليروا منكم الإجتهاد والصدق» 92، 202، 318

«الكيّس من كان يومه خيراً من أمسه» 249

«ل»

«لئن يهدي الله علي يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت» 317

«لابن آدم لمّتان؛ لمّة من الملك ولمّة من الشيطان» 190

«لا ترخصوا لأنفسكم فتدهنوا، ولا تداهنوا في الحقّ فتخسروا» 118

«لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم» 72

«لأحملنّ ذنوب سفهائكم علي علمائكم» 166، 278، 314

«لا قربة بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض» 157

«لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه»

142، 198

«لنا محبين لو قطّعنا الواحد منهم إرباً إرباً ما زادوا إلاّ حبّاً» 186

«لولا أني أكره أن يقال إنّ محمداً استعان بقوم حتي إذا … لضربت أعناق قوم» 109،123

«لعمري إنك حقيق بأن تسرّ إن لم تكن أحبطته أو لم تحبطه فيما بعد». 292

«لكل شيء آفة وللعلم آفات» 67

«لما أُهبط آدم عليه السلام إلي الأرض جاءته وحوش الفلاة تسلم عليه وتزوره» 186

«لما دخل النبيّ صلي الله عليه وآله مكّة كانت إحدي الرايات بيد سعد بن عبادة» 268

«لم يقل لا تبطلوا بالمنّ علي من تتصدّقون عليه» 293

«لو صمت الدهر كله … لما بعثك الله إلا مع هواك بالغاً ما بلغ» 216

«لو عاينتم ما قد عاين مَن مات منكم، لجزعتم ووهلتم، وسمعتم وأطعتم» 178

«لو كان صاحبك حاضراً فرضي بالذي قلت فمات علي ذلك، دخل النار» 205

«لولا أنّ بني أمية وجدوا مَن يكتب لهم ويجبي لهم الفي لما سلبونا حقّنا» 165

«لولا أنّ الشياطين يحومون حول قلب ابن آدم، لنظرالي الملكوت» 209

«لولا ما علي الأرض منّا لساخت بأهلها» 161

«لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي علي أن أترك هذا الأمر ما فعلت» 239

«ليست العبادة كثرة الصلاة الصوم، إنّما العبادة التفكّر في أمر الله عزّ وجلّ» 213

«ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنّة فلا تبيعوها إلا بها» 143

«ليس العلم بالتعلّم وإنّما هو نور يقع في قلب مَن يريد الله أن يهديه» 33

«ليس هذا ديني ولا دين آبائي» 260

«م»

«ما أوذي نبيّ مثلما أوذيت» 238

«ما رجل لم يصلّ لله ركعة دخل الجنّة غيره» 119

«ما شيء أحق بطول الحبس من اللسان» 145

«ما عرض لعليّ أمران قطّ كلاهما لله طاعة إلاّ عمل بأشدّهما وأشقّهما عليه» 98

«ما يبكيك يا أم سلمة» 122

«ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل

ماتكرهون … أن تأتوه فتؤنّبوه وتعذلوه» 278

«ما ينال أحد ما عند الله عزّ وجلّ إلاّ بطاعته» 145

«مات علي بن أبي حمزة وأُدخل في قبره … ثمّ ضرباه بمقعمة من نار فألهبا عليه قبره» 166

«ما منكم أحد إلاّ وله شيطان، وأنا، ولكنّ الله تعالي أعانني عليه فأسلم» 153

«المتقدم عنهم زاهق» 91

«مجالسة العلماء عبادة» 5

«مداراة الناس نصف الإيمان» 117

«مُر لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه صلي الله عليه وآله متبسماً وأمر له بعطاء» 240

«معذّب من قومك مئة ألف، أربعين ألفاً من شرارهم وستّين ألفاً من خيارهم 118

«الملَك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به فإذا صعد بحسناته» 169،173، 174

«من اتّهم نفسه أمِنَ خدع الشيطان» 113

«من اتّهم نفسه فقد غالب الشيطان» 113

«من أحبّ عباد الله إليه، عبداً أعانه الله علي نفسه، فاستشعر الحزن» 211

«من أخلص لله أربعين صباحاً تفجّرت ينابيع الحكمة من قلبه علي لسانه» 214

«من استوي يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يومه شرّهما فهو ملعون» 249

«مَن تعلّمتَ منه حرفاً صرتَ له عبداً» 26

«من تلا فيه آية من القرآن، كان له أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور» 157

«مِنْ حُسْن إسلام المرء تركه الكلام فيما لا يعنيه» 140

«من حسّن خلقه كَثُر محبّوه وأنست النفوس به» 317

«من عاش مدارياً مات شهيداً» 117، 128

«من عمل بما يعلم ورّثه الله علم ما لا يعلم» 23

«مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» 159

«المؤمن هشّ بشّ» 199

«ن»

«الناقد بصير» 42، 84

«نحن صنائع الله، والخلق كلهم صنائع لنا» 161

«نحن حجج الله علي خلقه وجدّتنا فاطمة حجّة علينا» 251

«نعوذ الله من غضب الحليم» 100

«النور والله نور الأئمّة من آل محمد إلي يوم القيامة، وهم والله نور الله الذي أنزل 316

«نوم مع علم

خير من صلاة مع جهل» 9

«ه»

«هاه، قد أبطلت برّك بإخوانك وصدقاتك». 292

«وهذا يفتح من الصلاة أبواباً كثيرة» 35

«هلك خزّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر» 225

«هيهات لا يُخدع الله عن جنّته» 29

«و»

«الورع عن محارم الله تعالي» 148، 282

«ويل للصائم وويلٌ للقائم وويل لصاحب الصوف إلا من …» 203

«ويحك، أتدري من شيعتنا الخُلّص؟» 293

«وكل الله يونس بن متي إلي نفسه طرفة عين فكان منه ما كان منه» 122

«ي»

«يا سريع الرضا» 100

«يا يعقوب! قدمت أمس ووقع بينك وبين أخيك شرّ» 260

«يحدّثنا ونحدّثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه» 89

«يغفر الله للجاهل سبعين ذنباً قبل أن يغفر للعالِم ذنباً واحداً» 47

«اليوم يوم المرحمة اليوم تحمي الحرمة» 268

فهرس المصادر

القرآن الكريم

نهج البلاغة

«أ»

إحياء علوم الدين لمحمد بن محمد الغزالي، أبو حامد / ت 505 ه / ط. دار المعرفة بيروت.

الاختصاص لأبي عبد الله محمد بن النعمان العكبري، المفيد / ت 413 ه / ط. جماعة المدرسين قم.

إرشاد القلوب للشيخ أبي محمد الحسن بن أبي الحسن محمد الديلمي / من أعلام القرن الثامن / ط. منشورات الرضي قم.

الإستبصار للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي / ت 460 ه / ط. دار الكتب الإسلامية قم.

أسرار الشهادة للشيخ آغا بن عابد الشيرواني الحائري الدربندي / ت 1285 ه / ط. دار ذوي القربي قم.

أعلام الدين في صفات المؤمنين للشيخ أبي محمد الحسن بن أبي الحسن محمد الديلمي / من أعلام القرن الثامن الهجري / ط. مؤسّسة آل البيت عليهم السلام قم.

إعلام الوري بأعلام الهدي لأمين الإسلام الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي / ت 548 ه / ط. مؤسّسة آل البيت عليهم السلام قم.

الأمالي لشيخ الطائفة أبي جعفر

محمد بن الحسن الطوسي / ت 460 ه / ط. دار الثقافة قم.

«ب»

بحار الأنوار للعلامة محمد باقر بن محمد تقي، الملقب بالشيخ المجلسي / ت 1111 ه / ط. مؤسّسة الوفاء بيروت.

البداية والنهاية لأبي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي / ت 774 ه / ط. دار احياء التراث العربي بيروت.

«ت»

تاج العروس لمحب الدين أبي الفيض السيّد محمد مرتضي الحسيني الزبيدي / ت 1205 ه / ط. مكتبة الحياة بيروت.

تاريخ مدينة دمشق لأبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله، المعروف بابن عساكر / ت 571 / ط. دار الفكر بيروت.

تحف العقول لأبي محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرّاني / من أعلام القرن الرابع الهجري / ط. مؤسّسة النشر الإسلامي قم.

التحفة السنية للسيّد عبد الله نور الدين بن نعمت الله / ت 1019 ه / مخطوط.

تفسير الإمام العسكري منسوب الي الإمام الحسن بن علي العسكري عليهما السلام.

تفسير القمّي لأبي الحسن علي بن ابراهيم القمّي / ت 329 ه / ط. مؤسّسة دار الكتب قم.

تفسير مجمع البيان لأمين الإسلام أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي / ت 548 ه / ط. مؤسّسة الأعلمي بيروت.

تفسير الميزان للسيّد محمد حسين الطباطبائي / ت 1402 ه / ط. مؤسّسة النشر الإسلامي قم.

تهذيب الأحكام للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي / ت 460 ه / ط. دار الكتب الإسلامية طهران.

التوحيد للشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابوية القمّي، الصدوق / ت 381 ه / ط. جامعة مدرسين قم.

«ج»

جامع الرواة للعلامة محمد بن علي الأردبيلي / ت 1101 ه / ط. مكتبة المحمدي قم.

جامع السعادات للشيخ محمد مهدي النراقي / ت 1209 ه / ط.

مطبعة النعمان النجف الأشرف.

«خ»

خصائص الأئمة لأبي الحسن محمد بن الحسين بن موسي الموسوي، الشريف الرضي / ت 406 ه / ط. مجمع البحوث الإسلامية، الأستانة الرضوية المقدّسة مشهد.

الخصال للشيخ أبي محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الصدوق / ت 381 ه / ط. جماعة المدرسين قم.

خلاصة عبقات الأنوار للسيّد حامد الحسيني النقوي / ت 1306 ه / ط. مؤسّسة البعثة قم.

«ر»

روضة الواعظين للعلامة محمد بن الفتّال النيسابوري / ت 508 ه / ط. منشورات الرضي قم.

«س»

سعد السعود لرضي الدين أبي القاسم علي بن موسي بن طاووس / ت 664 ه / ط. الحيدرية النجف الأشرف.

«ش»

شجرة طوبي للشيخ محمد مهدي الحائري / من أعلام القرن الرابع عشر الهجري / ط. المكتبة الحيدرية قم.

شرح الأخبار للقاضي أبي حنيفة النعمان بن محمد التميمي المقري / ت 363 ه / ط. مؤسّسة النشر الإسلامي قم.

شرح نهج البلاغة لعزّ الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي / ت 656 ه / ط. دار إحياء الكتب العربية بيروت.

«ص»

الصحيح من السيرة للسيّد جعفر مرتضي العاملي / معاصر / ط. دار الهدي بيروت.

«ع»

عدة الداعي لأحمد بن فهد الحلّي / ت 841 ه / ط. حكمت قم.

عوالي اللئالي للشيخ محمد بن علي بن ابراهيم الاحسائي، المعروف بابن أبي جمهور / ت 880 ه / ط. سيّد الشهداء عليه السلام قم.

عيون الحكم والمواعظ للشيخ أبي الحسن علي بن محمد الواسطي / من أعلام القرن السادس الهجري / ط. دار الحديث قم.

«غ»

غرر الحكم للآمدي الشيخ أبي الفتح عبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد / ت 510 ه / ط. مكتبة الإعلام الإسلامي قم.

الغيبة للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي / ت 460

ه / ط. مؤسّسة المعارف الإسلامية قم.

«ف»

الفرج بعد الشدّة للقاضي أبي علي الحسن بن أبي القاسم التنوخي / ت 384 ه / ط. منشورات الرضي قم.

الفصول المختارة لأبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبري، المفيد / ت 413 ه / ط. دار المفيد بيروت.

فضائل الأشهر الثلاثة للشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي الصدوق / ت 381 ه / ط. دار المحجّة البيضاء بيروت.

فلاح السائل لرضي الدين أبي القاسم علي بن موسي بن طاووس / ت 664 ه / ط. الحيدرية النجف الأشرف.

«ق»

القاموس المحيط للشيخ نصر الهوريني / ت 817 ه /.

«ك»

الكافي للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني / ت 328 ه / ط. دار الكتب الاسلامية طهران.

كمال الدين وتمام النعمة للشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الصدوق / ت 381 ه / ط. مؤسّسة النشر الإسلامي قم.

كنز العمّال للعلامة علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي / ت 975 ه / ط. مؤسّسة الرسالة بيروت.

كنز الفوائد للعلامة أبي الفتح محمد بن علي الكراجكي / ت 449 ه / ط. مكتبة الصطفوي قم.

«ل»

لسان العرب للعلامة أبي الفضل جمال الدين بن منظور / ت 711 ه / ط. دار إحياء التراث العربي قم.

اللمعة البيضاء للمولي محمد علي بن أحمد التبريزي الأنصاري / ت 1310 ه / ط. دفتر نشر الهادي قم.

«م»

مجمع الزوائد للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي / ت 807 ه / ط. دار الكتب العلمية بيروت.

مجموعة ورّام للأمير الزاهد أبي الحسين ورّام بن أبي فراس الأشتري / ت 605 ه / ط. دار الكتب الاسلامية طهران.

مدينة المعاجز

للسيّد هاشم بن سليمان البحراني / ت 1107 ه / ط. مؤسّسة المعارف الاسلامية قم.

المزار للشيخ محمد بن مكّي العاملي، المعروف بالشهيد الأوّل / ت 786 ه / ط. مدرسة الإمام المهدي عجّل الله تعالي فرجه الشريف قم.

مستدرك سفينة البحار للشيخ علي النمازي الشاهرودي / ت 1405 ه / ط. مؤسّسة النشر الاسلامية قم.

مستدرك وسائل الشيعة للميرزا حسين النوري الطبرسي / ت 1320 ه / ط. مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث قم.

المستدرك علي الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري / ت 405 ه / ط. دار المعرفة بيروت.

مستند الشيعة للمولي أحمد بن محمد مهدي النراقي / ت 1245 ه / ط. مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث مشهد.

مسند الربيع للربيع بن حبيب بن عمرو الفراهيدي / من أعلام القرن الثاني الهجري / ط. الأزهار البارونية بيروت.

مشكاة الأنوار لأبي الفضل علي الطبرسي / من أعلام القرن السادس وأوائل السابع الهجريين / ط. المكتبة الحيدرية النجف الأشرف.

مصباح المتهجد لأبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي / ت 460 ه / ط. مؤسّسة فقه الشيعة بيروت.

مصباح الزائر للسيّد رضي الدين أبي القاسم علي بن موسي بن طاووس / ت 664 ه /

معجم البلدان لشهاب الدين أبي عبد الله، ياقوت الحموي / ت 626 ه / ط. دار إحياء التراث العربي بيروت.

معدن الجواهر لأبي الفتح محمد بن علي الكراجكي / ت 449 ه / ط. مهر أستوار قم.

مكارم الأخلاق للشيخ رضي الدين أبي نصر الحسن بن الفضل الطبرسي / ت 548 ه / ط. منشورات الشريف الرضي قم.

من لا يحضره الفقيه للشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الصدوق / ت

381 ه / ط. جماعة المدرسين قم.

مناقب آل أبي طالب لمشير الدين أبي عبد الله محمد بن علي بن شهر آشوب المازندراني / ت 588 ه / ط. الحيدرية النجف الأشرف.

منتخب الأنوار للسيّد بهاء الدين بن عبد الكريم النيلي النجفي / ت 803 ه / ط. مؤسّسة الإمام الهادي عليه السلام قم.

منية المريد للشيخ زين الدين بن علي العاملي، المعروف بالشهيد الثاني / ت 965 ه / ط. مكتب الإعلام الإسلامي قم.

«ن»

نوادر المعجزات لأبي جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري / ت أوائل القرن الرابع الهجري / ط. مؤسّسة الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه الشريف قم.

«و»

وسائل الشيعة للشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي / ت 1104 ه / ط. مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث قم.

«ي»

ينابيع المودّة للشيخ سليمان بن ابراهيم القندوزي الحنفي / ت 1294 ه / ط. أُسوة قم.

پي نوشتها

() بحار الأنوار للمجلسي: ج1 ص204 باب4، مذاكرة العلم ومجالسة العلماء، ح24.

() كنز الفوائد للكراجكي: ص13 الفصل الأوّل، مختصر الكلام في أنّ للحوادث أوّلاً.

() مستدرك سفينة البحار للنمازي: ج9 ص28، باب فضل كتابة الحديث وروايته.

() بحار الأنوار: ج1 ص185 باب1، فرض العلم …، ح102.

() سورة الذاريات، الآية: 56.

() فلاح السائل لابن طاووس: ص127.

() حقّاً لو أنّ هذا التعبير لم يرد عن رسول الله صلّي الله عليه وآله وعلي لسانه، لما أمكن لأيّ عالِم غير أئمّة أهل البيت سلام الله عليهم أن يتفوّه بمثله أبداً؛ إذ كيف يكون النوم مع أنّ النائم لا يعمل شيئاً خيراً من الصلاة، وهي رأس العبادات وأهمّها؟ =

= نعم، لو كانت الصلاة باطلة، كان عدمها خيراً من وجودها، والنوم تركٌ أي عدم، ولكنّ الحديث لم يقيّدها بالبطلان

أو عدم القبول وما أشبه، بل فضّل النوم إن كان مع علم، علي مطلق الصلاة صحيحة أو باطلة إذا كانت مع جهل (منه دام ظله).

() للشيخ المولي مهدي النراقي (ت: 1209ه). وهو كتاب أخلاقيّ.

() للعلاّمة الحجّة فخر المحققين المولي الشيخ محمد باقر المجلسي قدس سره (1037 1110ه)، وهو موسوعة قد جمع المؤلّف فيها ما وقع عليه من أخبار الأئمة المعصومين سلام الله عليهم، لذلك أسماه: بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار.

() هو: الفقيه الشيخ عبد الكريم محمد جعفر المهرجردي اليزدي الحائري (ت 1355 ه)، مؤسّس الحوزة العلمية في مدينة قم المقدّسة.

() ولذلك فإنّ الناقل الأوّل للقصة يحتمل أن يكون الشيخ أو ضيفه.

() سورة الزمر، الآية: 47.

() راجع تفسير مجمع البيان للطبرسي، مورد تفسير الآية.

() فإنّ الكليني علي حدّ تعبير بعض العلماء يروي هذا الحديث عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن هاشم، فالسلسلة تقتصر علي هؤلاء الثلاثة فقط وهم: الكليني، وعليّ بن إبراهيم، وأبوه إبراهيم الذي ينقل القصّة التي شهدها بنفسه في مجلس الإمام الجواد سلام الله عليه.

() يعني: الإمام الجواد سلام الله عليه.

() الكافي للكليني: ج1 ص548 ح27.

() سورة الزمر، الآية: 47.

() هذا بيت القصيد وشاهدنا من هذه القصّة.

() كمال الدين وتمام النعمة: ص507 ح37.

() روضة الواعظين للنيسابوري: ص11، في فضل العلم.

() مصباح الشريعة المنسوب للإمام الصادق سلام الله عليه: ص16.

() سورة النور، الآية: 40.

() منية المريد للشهيد الثاني: ص101، الفصل الثاني: في ما روي عن النبي صلي الله عليه وآله في فضل العلم.

() سورة الأعراف، الآية: 175.

() الفصول المختارة للمفيد: ص107.

() يحدث أحياناً كثيرة أن يختلف العلماء في لفظ الحديث، كما هو الحال في حديث «طلب العلم فريضة علي كلّ مسلم

ومسلمة». فقد كان أحد العلماء الماضين رحمه الله يقول: إنّ لفظ «ومسلمة» غير موجود في نصّ الحديث، ولكنّي وجدتُ روايات تتضمّن هذا اللفظ، (منه دام ظله) انظر: مشكاة الأنوار لعلي الطبرسي: ص236؛ عدّة الداعي لابن فهد الحلّي: ص63.

() غوالي اللآلي للأحسائي: ج1 ص292 ح163.

() سورة النور، الآية: 40.

() لقد اعتاد أهل العلم إذا اجتمعوا وطُرحت مسألة علمية سواء في الفقه أو الأصول أو النحو أو المنطق والعلوم الأخري أن يدلي كلّ منهم بدلوه ليبيّن وجهة نظره. فلو ذكر حديث مثلاً، قال أحدهم: إنّه غير وارد، وقال آخر: إنّ سنده غير صحيح، أو إنّ في سنده فلاناً، أو يقول آخر: إنّه موثّق، وهكذا.

() نهج البلاغة: ج2 ص11 خ129.

() مشكاة الأنوار للطبرسي: ص563، الباب التاسع: في ذكر المواعظ.

() درس البحث الخارج: هو مرحلة عليا من الدراسات الحوزويّة.

() وسائل الشيعة للحر العاملي: ج5 ص191 باب44، باب جواز تقدّم المصلّي عن مكانه، ح4. وابن طاب: نوع من تمر المدينة. والعرجون: عذق النخلة اليابس.

() هو: أُستاذ الشيخ جعفر كاشف الغطاء الذي تلمذ عليه شريف العلماء، أُستاذ الشيخ الأنصاري وزميله (محلّ الاعتبار في القصّة).

() سؤال وجواب للسيّد اليزدي: ص47. (فارسي).

() وسائل الشيعة: ج5 ص191 باب44 ح5.

() سكن شريف العلماء في مدينة كربلاء المقدّسة، وكانت كربلاء في ذلك العصر علي ما رُوي تحتضن أكبر حوزة علمية للشيعة علي وجه الأرض، وبعد وفاة شريف العلماء انتقلت الحوزة إلي مدينة النجف الأشرف، وكان الشيخ الأنصاري ممّن هاجر إليها.

() اقتباس من قوله تعالي: ?يَعلَمُ خَائِنَة الأعيُن … ? سورة غافر، الآية 19.

() انظر مصباح الشريعة: ص16. وخلاصة عبقات الأنوار: ج1 ص114.

() انظر الاختصاص للمفيد، ص341، من وصايا لقمان الحكيم لإبنه.

() ألفية ابن مالك: ج2 ص11.

()

بحار الأنوار للمجلسي: ج14 ص319 ح20.

() اقتباس من قوله تعالي: ?بَل الإنسانُ عَلي نَفسِه بَصيرَة? سورة القيامة، الآية: 14.

() سورة الطلاق، الآية: 7.

() سعد السعود لعلي بن طاووس الحلّي: ص78.

() راجع الاختصاص للشيخ المفيد: ص336، بعض وصايا لقمان الحكيم لإبنه سلام الله عليهما.

() إشارة إلي قوله تعالي: ?وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ? سورة الحشر، الآية: 19.

() هو: الشيخ الأجلّ زين الدين بن علي بن أحمد بن محمد بن جمال الدين العاملي الجبعي. قال فيه الحرّ العاملي: أمره في الثقة والعلم والفضل والزهد والعبادة والورع والتحقيق وجلالة القدر وعظم الشأن وجمع الفضائل والكمالات أشهر من أن يُِذكر، ومحاسنه وأوصافه الحميدة أكثر من أن تحصي وتحصر، ومصنّفاته كثيرة مشهورة. روي عن جماعة كثيرين جدّاً من الخاصّة والعامّة في الشام ومصر وبغداد وقسطنطينية وغيرها. =

= وذكره السيد مصطفي بن الحسين الحسيني التفرشي في كتاب الرجال، وقال فيه: وجه من وجوه هذه الطائفة وثقاتها، كثير الحفظ، نقيّ الكلام، له تلاميذ أجلاّء، وله كتب نقيّة جيّدة، منها: شرح شرائع المحقق الحلي. قُتل لأجل التشيع في قسطنطينية سنة 966 ه. أمل الآمل للحرّ العاملي: ج1 ص85.

() وهو: كتاب في علم الأخلاق، أسماه مؤلّفه الشهيد الثاني: منية المريد في آداب المفيد والمستفيد. حريّ بطلبة العلم مطالعته، لما فيه من مطالب ثمينة في أبحاث العلم.

() منية المريد لشهيد الثاني: ص162، 163.

() الكافي للكليني: ج5 ص63، باب كراهة التعرض لما لا يطيق، ح6.

() الكافي: ج2 ص375، باب مجالسة أهل المعاصي، ح4.

() سورة الشعراء، الآيتان: 88 89.

() مستدرك الوسائل للنوري: ج11 ص187 ب6 ح1.

() سورة الصف، الآيتان: 23.

() انظر مجموعة ورّام لأبي فراس الأشتري: ج2 ص135.

وفي مجمع الزوائد للهيثمي: ج1 ص185: إنّ أناساً

من أهل الجنة ينطلقون إلي أناس من أهل النار، فيقولون: لِمَ دخلتم النار؟! فوالله، ما دخلنا الجنّة إلا بما تعلّمنا منكم. فيقولون: إنا كنّا نقول ولا نفعل.

() إرشاد القلوب للديلمي: ج1 ص128.

() سورة آل عمران، الآية: 144.

() المدفون في مقبرة تُعرف ب «مقبرة ابن بابويه» في قم المقدّسة، وهو شيخ القميين، ووالد الشيخ الصدوق. له رسالة حوت أحكاماً وسنناً وآداباً، قد تناولتها الكتب المعتبرة عندنا.

() سورة الصف، الآية: 3.

() قول لبعض الحكماء. راجع تاج العروس للزبيدي: ج6 ص49 «مادّة آفة».

() سورة الرعد، الآية: 28.

() راجع التبيان للطوسي: ج6 ص249، مورد تفسير سورة الرعد، الآية 28.

() راجع الكافي: ج3 ص468، باب من حافظ علي صلاته أو ضيّعها.

() أحد العلماء المعروفين في النجف، توفّي قبل أكثر من نصف قرن.

() سورة الأعراف، الآية: 32.

() عن أبي اسحاق الخزاعي، عن أبيه، قال: دخلت مع أبي عبد الله عليه السلام علي بعض مواليه يعوده، فرأيت الرجل يكثر من قول: آه. فقلت له: يا أخي، اذكر ربّك واستغث به!!

فقال أبو عبد الله عليه السلام: إنّ «آه» اسم من أسماء الله عزّ وجلّ. فمن قال: آه، فقد استغاث بالله تبارك وتعالي. معاني الأخبار للصدوق: ص354، باب: معني قول المريض: آه.

() سورة المائدة، الآية: 105.

() كتاب فقهيّ كامل من كتاب الطهارة إلي كتاب الديات، وهو بحجم «الشرائع» تقريباً.

يُحكي: أنّ أحد مدارس طهران قد اشترط واقفها علي طالب العلم الذي يُعطي حجرة فيها، أن يعني بكتاب القواعد للعلاّمة الحلّي. أي يكون جزءاً من اهتماماته وضمن منهاجه سواءً درساً أو تدريساً أو مباحثة أو شرحاً.

وعندما سئل الواقف عن سبب اشتراطه هذا الشرط، قال: رأيت أنّ هذا الكتاب الجيد مهمل والطلبة كلهم متّجهون إلي الشرائع، فأحببت

أن أروّج له ليكون كالشرائع.

وهكذا يأتي اليوم بعد مرور ستّمائة سنة أو أكثر ليروّج للقواعد عن طريق وقف مدرسة وإعطاء امتياز ساكنيها لمن يهتمّ بهذا الكتاب.

() هو: الشيخ محمد حسن النجفي، المتوفّي سنة 1266 ه.

() سورة الرعد، الآية: 28.

() سورة الأحزاب، الآية: 39.

() سورة الأحزاب، الآية: 59.

() سورة الأنفال، الآية: 38.

() سورة الجاثية، الآية: 14.

() سورة الكافرون، الآية: 1.

() سورة طه، الآيتان: 1 2.

() راجع تفسير الميزان للطباطبائي: ج18 ص310، مورد تفسير سورة الحجرات، الآية: 4.

() الكافي للكليني: ج2 ص524 ح10.

() وهي بدعة ابتدعها معاوية بن أبي سفيان بعد استشهاد أمير المؤمنين سلام الله عليه وصيّرها سنّة ألزم بها رقاب الناس وأشربهم زعافها.

() مستدرك الوسائل للنوري: ج4 ص100 ب2، تأكّد استحباب الخشوع في الصلاة، واستحضار عظمة الله، ح17.

() وسائل الشيعة، ج4 ص196، باب جواز تأخير المغرب حتي يغيب الشفق، بل بعده لعذر، وكراهته لغير عذر، ح10.

() بحار الأنوار، ج37 ص204، نصّ خطبة النبيّ صلي الله عليه وآله في يوم الغدير.

() اشارة لفقرة من فقرات الزيارة الجامعة الكبيرة.

() الكافي: ج2 ص78 ح14.

() شرح الأخبار للقاضي النعمان: ج3 ص231.

() سورة آل عمران، الآية: 92.

() سورة الإنسان، الآية: 8.

() راجع تفسير نور الثقلين للحويزي: ج4 ص30، مورد تفسير سورة الدهر، الآية 8.

() انظر شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج4 ص110.

() عيون الحكم والمواعظ للواسطي: ص218 ب4 ف3.

() رُوي أنّ النبي صلّي الله عليه وآله قال لرجل جاءه يستعدي علي والده: «أنت ومالك لأبيك» انظر الاستبصار للطوسي: ج3 ص48 رقم2.

() الكافي: ج4 ص7 ح1، فضل صدقة السرّ.

() كما ورد في كثير من الأدعية والأوراد. انظر مفاتيح الجنان للقمي، دعاء كميل مثلاً.

() من الأمثال العربية.

() سورة هود، الآية: 118 119.

() هو:

الميرزا محمد حسن الشيرازي الذي أفتي بتحريم التنباك أيّام ناصر الدين شاه حينما عقد معاهدة مع إحدي الشركات الأجنبية حول التنباك وكانت تضرّ بالأمّة الإيرانية. توفّي عام 1312ه.

() صاحب الفتوي المشهورة في ثورة العشرين ضدّ الاحتلال الانجليزي للعراق عام1920م، توفّي عام1338ه.

() لقوله صلّي الله عليه وآله: إذا مات ابن آدم، انقطع عمله الا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية، وعلم ينتفع به، غوالي اللئالي للاحسائي: ج1 ص97، الفصل السادس، ح10.

() انظر مكارم الأخلاق للطبرسي: ص468، الفصل الخامس، من وصية رسول الله صلّي الله عليه وآله لأبي ذرّ.

() سورة الحجرات، الآية: 13.

() بحار الأنوار: ج16 ص210 باب 9 مكارم أخلاقه صلي الله عليه وآله.

() سورة هود، الآيتان: 118119.

() سورة القصص، الآية: 78.

() من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج4 ص404 رقم 5872.

() قال تعالي: ?لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً للَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ? سورة المائدة، الآية: 82.

() عن أنس بن مالك قال: صحبت رسول الله صلي الله عليه وآله عشر سنين، وشممت العطر كلَّه فلم= = أشمّ نكهة أطيب من نكهته، وكان إذا لقيه أحد من أصحابه قام معه فلم ينصرف حتي يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه، وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول بيده ناولها إياه فلم ينزع عنه حتي يكون الرجل هو الذي ينزع عنه، وما أفرج ركبتيه بين جليس له قطّ، وما قعد إلي رسول الله صلّي الله عليه وآله رجل قطّ فقام حتي يقوم. مكارم الأخلاق للطبرسي: ص17.

() روي عن رسول الله صلّي الله عليه وآله أنّه قال: لولا أني أكره أن يقال: إنّ محمداً استعان بقوم حتي إذا ظفر بعدّوه قتلهم، لضربت أعناق قوم كثير. الكافي للكليني: ج8 ص345 ح544، لولا قول

الناس لضرب النبي صلّي الله عليه وآله أعناق جمع من الصحابة!

() للتفصيل راجع مناقب أمير المؤمنين سلام الله عليه للكوفي: ج2 ص342، كلام أمير المؤمنين سلام الله عليه حول قتاله مع أعدائه.

() راجع بحار الأنوار: ج71 ص154، أبواب آداب العشرة.

() عيون الحكم والمواعظ للواسطي: ص437.

() غرر الحكم للتميمي: ص329 رقم 4831، توبيخ النفس.

() روضة الواعظين للنيسابوري: ص380، مجلس في ذكر حسن الخلق.

() الامالي للطوسي: ص481، المجلس السابع عشر، رقم 19.

() شعب الإيمان للبيهقي: ج6 ص351 رقم8475.

() تحف العقول للحرّاني: ص42، من قصار كلماته صلي الله عليه وآله.

() انظر مستدرك الوسائل للنوري: ج11 ص177 ح12682.

() الكافي: ج5 ص55، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح20.

() روي أنّه: كان عمرو بن قيس قد تأخّر إسلامه، فلمّا بلغه أنّ رسول الله صلي الله عليه وآله في الحرب أخذ سيفه وترسه، وأقبل كالليث العادي يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله، ثم خالط القوم، فاستشهد، فمرّ به رجل من الأنصار فرآه صريعاً بين القتلي، فقال: يا عمرو! وأنت علي دينك الأوّل؟ قال: لا والله، إنّي أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله، ثم مات، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله: يا رسول الله، إنّ عمرو بن قيس قد أسلم وقتل، فهو شهيد؟ قال: إي والله، شهيد، ما رجل لم يصلّ لله ركعة دخل الجنّة غيره. تفسير القمّي: ج1 ص117، مورد تفسير سورة آل عمران، الآية: 122 في بيان معركة أحد، شهادة حمزة عليه السلام.

() راجع أسرار الشهادة للرشتي: ج2 ص210219 المجلس السابع في ذكري شهادة جمع من=

= أصحاب سيد الشهداء روحي فداه.

() سورة الصافات، الآية: 142.

() تفسير القمّي:

ج1 ص49، مورد تفسير سورة الأنبياء، الآية: 87.

() الكافي للكليني: ج8 ص345 ح544.

() ورد في بحار الأنوار: ج72 ص401 باب 87 باب التقية والمدارة، ح42، عن تفسير الإمام العسكري سلام الله عليه قال: «قال رسول الله صلي الله عليه وآله: إنّ الأنبياء إنّما فضّلهم الله علي خلقه بشدّة مداراتهم لأعداء الله …».

() وهي ماء بين الطائف ومكّة، وهي إلي مكّة أقرب. انظر معجم البلدان للحموي: ج2 ص142.

() راجع أعلام الوري للطبرسي: ج1 ص235، غزوة حنين.

() مناقب آل أبي طالب، للمازندراني: ج1 ص51، فصل فيما لاقي صلّي الله عليه وآله من الكفّار.

() فروع الكافي للكليني: ج6 ص444، باب اللباس ح15.

() روضة الواعظين للنيسابوري: ص380، مجلس في ذكر حسن الخلق.

() سورة طه، الآية: 131.

() سورة الجاثية، الآية: 14.

() الكافي: ج2 ص140، باب الكفاف، ح4.

() سورة آل عمران، الآية: 92.

() سورة آل عمران، الآية: 26.

() الثغاء: صوت الشاة والمعز وما شاكلها. لسان العرب لإبن منظور: (مادّة ثغا).

() انظر تاريخ مدينة دمشق لإبن عساكر: ج47 ص396.

() مستدرك الوسائل: ج 9 ص16 ح1.

() بحار الأنوار: ج1 ص154 ب4 ح30، في الوصية الطويلة للإمام الكاظم سلام الله عليه إلي هشام بن الحكم.

() مستدرك الوسائل: ج9 ص34 ح22.

() نهج البلاغة: ج4 ص11، الكلمات القصار، رقم 40.

() روي عن لقمان أنّه قال:

ما إن ندمت علي سكوت مرة ولقد ندمت علي الكلام مرارا.

أعلام الدين للديلمي: ص88.

() وسائل الشيعة: ج15، ص197.

() نهج البلاغة: ج4 ص105، باب الحكم القصار، رقم 456.

() خرج بالبصرة زمن المأمون العباسي، وقد أحرق دور بني العباس، فسمّي بزيد النار. راجع سرّ السلسلة العلويّة لأبي نصر البخاري: ص37، أولاد الإمام أبي إبراهيم موسي بن جعفر الكاظم سلام الله عليه.

() عيون أخبار الرضا

سلام الله عليه للصدوق: ج1 ص259 باب قول الرضا سلام الله عليه لأخيه زيد، ح4.

() بحار الأنوار: ج72 ص275.

() انظر شجرة طوبي للحائري: ج2 ص397، تعليق المؤلف علي قول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: ما شيء أحق بطول الحبس من اللسان.

() سورة الفرقان، الآية: 77.

(1) فضائل الأشهر الثلاثة للصدوق: ص77 رقم 61، والأمالي له: ص153 رقم 4، المجلس العشرون.

(1) نهج البلاغة: 3ج ص70 رقم45. من كتاب له سلام الله عليه إلي عثمان بن حنيف.

(1) من قصيدة للشافعي. راجع كشف الخفاء للعجلوني: ج1 ص40.

(1) الكافي: ج2 ص345، باب ذي اللسانين، ح6.

(1) بحار الأنوار: ج60 ص329، الأخبار الدلّة علي وجود الجنّ والشياطين.

() غوالي اللآلي: ج4 ص97 رقم 136.

() فضائل الأشهر الثلاثة للصدوق، ص77 رقم61 والأمالي له، ص153 رقم4 المجلس العشرون.

() في قوله صلي الله عليه وآله: «ومن تلا فيه آية من القرآن، كان له أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور». راجع الخطبة موضع الاستشهاد.

(2) وسائل الشيعة: ج4 ص286 ب60 ح7، من شك قبل خروج الوقت …

() بحار الأنوار: ج32 ص331 ب8، حكم من حارب علياً عليه السلام.

() الكافي: ج4 ص575 ح2. كامل الزيارات لإبن قولويه: ص362 باب54، ثواب من زار الحسين بن علي سلام الله عليهما، ح2.

() يؤيّده قول رسول الله صلي الله عليه وآله: «فنحن صنائع الله، والخلق كلهم صنائع لنا». انظر اللمعة البيضاء للتبريزي: ص64.

() روي القندوزي بسنده عن الإمام الصادق سلام الله عليه قوله: «… وبنا يمسك السماء أن تقع علي الأرض إلاّ بإذنه، وبنا ينزل الله الغيث وتنشر الرحمة، وتخرج بركات الأرض، ولولا ما علي الأرض منّا لساخت بأهلها». انظر ينابيع المودّة: ج3 ص360 رقم3.

(1) راجع الكافي: ج1 ص168 428، كتاب

الحجة.

() الكافي: ج1 ص44 ح4.

() تهذيب الأحكام: ج10 ص49. جامع الرواة للأردبيلي: ج2 ص5.

أقول: ومزار الفضل بن شاذان في نيسابور، وقد وفّقت مراراً لزيارته. وتقع نيسابور علي طريق مشهد، وفحريّ بالذاهبين إلي مشهد لزيارة الإمام الرضا سلام الله عليه أن يعرّجوا علي نيسابور لزيارة الفضل. بل إنّه حتي لو كان مزاره في مكان آخر لاستحقّ أن تُشدّ الرحال لزيارته.

() روي: أنّ شخصاً قدِم إلي الإمام الصادق سلام الله عليه للتوبة وقال للإمام: «جُعلت فداك إني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً وأغمضت في مطالبه. فقال أبو عبد الله سلام الله عليه: «لولا أنّ بني أمية وجدوا مَن يكتب لهم ويجبي لهم الفي ء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقّنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلاّ ما وقع في أيديهم. قال: فقال الفتي: جُعلت فداك فهل لي مخرج منه؟ قال: إن قلت لك تفعل؟ قال: أفعل. قال: فاخرج من جميع ما كسبت في ديوانهم فمَن عرفت منهم رددت عليه ماله ومَن لم تعرف تصدّقت به وأنا أضمن لك علي الله الجنة». فأطرق الفتي طويلا ثمّ قال له: قد فعلت جُعلك فداك» فهذا واحد ممن صار ابن أبي حمزة سبباً في هدايتهم. بحار الأنوار: ج47 ص382 ح105.

() مناقب آل أبي طالب للمازندراني: ج3 ص449، باب إمامة علي بن موسي الرضا سلام الله عليه.

() المقمعة: وهي سياط تعمل من حديد، رؤوسها معوجّة. لسان العرب لابن منظور، ج8 ص394 «مادّة قمع». ولكن قد يكثّف الله تلك النار حتي يكون لها سمك، والله أعلم، فهذه أيضاً من مقادير أموره.

() مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلّي: ص598.

() الغيبة للطوسي: ص290 رقم 247.

() الأنوار البهية

للقمي: ص159، فصل في مكارم أخلاقه أي، الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه.

() راجع الكافي: ج1 ص219، باب عرض الأعمال علي النبي صلي الله عليه وآله والأئمة سلام الله عليهم.

() هو: أبو معتب الحسين بن منصور البيضاوي، المعروف ب «الحلاّج». له دعاوي باطلة، ومقالات مشهورة. كان يعدّ نفسه أحد الأبواب للناحية المقدّسة في الغيبة الصغري، وصدر توقيع من الناحية المقدّسة في تكذيبه. روضات الجنّات للخوانساري: ص225.

() هو: أحمد بن هلال، المعروف ب «الهلالي» وفيه خرج توقيع الإمام عليه السلام من الناحية المقدّسة، يقول فيه إلي قوّامه بالعراق، قائلاً: «احذروا الصوفي المتصنّع». انظر اختيار معرفة الرجال للطوسي: ج2 ص816 رقم 1020.

() ويكنّي ب «أبي محمد». وهو أوّل من ادّعي مقاماً لم يجعله الله فيه. انظر الغيبة للطوسي: ص397 رقم 368.

() تقدّم شيء عنه تحت عنوان: مهمّات رجل الدين.

() راجع كتاب الغيبة للطوسي: ص6367.

() الكافي: ج2 ص294، باب الرياء، ح7.

() سورة البيّنة، الآية: 5.

() نهج البلاغة: ج4 ص35 رقم 145.

() إنّ عمل الملائكة حفظ ما يكون من أعمال حسنة أو سيئة فقط، لا مراقبتها من حيث النيّة والقصد؛ قال تعالي: ?وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ? كِرَامًا كَاتِبِينَ? سورة الانفطار، الآية: 10 11 وعن النبي صلي الله عليه وآله: «… فيقول الله تعالي: أنتم حفظة عمل عبدي، وأنا رقيب علي ما في نفسه …» مستند الشيعة للنراقي: ج2، ص46، اعتبار قصد القربة.

() كان الصفّارون في تلك الأيّام أكثر ما يستعملون المطرقة والمقصّ، فإذا ما ثقبت الأوعية النحاسية كالقدور والطسوت والأواني جيء بها إلي الصفّار، فيقصّ قطعة من الصفر بمقدار فتحة الثقب ثم يلحم أطرافها بمحيط الفتحة. وكان يتّفق أحياناً أنّ الصفّار عنده قطعة أصغر من الفتحة بقليل، فكان يستكثر

أن يقصّ قطعة بحجم الفتحة بحيث لا تسدّها جميعاً، بل يستعمل قطعة صغيرة للترقيع وإن كانت أقلّ من الفتحة بحيث لا تسدّها تماماً ثم يسدّ الثقب المتبقّي بالطَّرق علي القطعة وأطرافها لكي تتمدّد وتتّصل بأطراف الفتحة، حتي إذا طلاها لا يكاد يبين الخلل وتبدو القطعة متّصلة بالكامل. ولكن اللحام كان ينفتح بسرعة حالما يعرض علي النار؛ بسبب رقّة أطراف القطعة الملتحمة، فضلاً عن كونها أصغر من المطلوب.

() سورة الزمر، الآية: 47.

() نهج البلاغة: ج1 ص57 رقم 20.

() التوحيد للصدوق: ص353، باب الإستطاعة، ح24.

() كان الشيخ جعفر الشوشتري رحمه الله من كبار مراجع التقليد، وكان أعاظم الفقهاء أمثال السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي صاحب العروة الوثقي أصدروا تعليقات علي رسالته العملية، الأمر الذي يكشف أنّه كان له قطاع واسع من المقلّدين بعد الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه فهو كان من المعاصرين للشيخ الأنصاري وعاش بعده.

نقل عن الشيخ جعفر الشوشتري رحمه الله أنّه قال للناس ذات مرّة من علي المنبر: أيها الناس لقد بُعث الأنبياء كلّهم ليأمروا الناس بالتوحيد وأن يجعلوا أعمالهم خالصة له ولا يشركوا فيها أحداً غيره. أما أنتم فأعمالكم كلّها لغير الله، فهل أطلب منكم أن تشركوا الله علي الأقلّ، وذلك بأن تجعلوا لله نصيباً من أعمالكم فإنّكم لم تعملوها لله أبداً ولم تشركوه حتي بنسبة من نواياكم!

ولا شكّ أنّه كان يمزح معهم ويستعمل الأسلوب الساخر لتقريب المعني إلي الأذهان وللتأثير عليهم وحثّهم علي الإخلاص، لا أنّه كان يريد الشرك حقيقة؛ بل كان المعني الكنائي والمجازي هو المقصود، وهو أن يراجعوا أنفسهم وهم مسلمون مؤمنون بالله، ليقلّلوا من نسبة الشرك ويزيدوا في إخلاصهم.

() انظر الكافي للكليني: ح2 ص440 ح1.

() منتخب الأنوار للنجفي: ص16.

() انظر

القاموس المحيط للفيروزآبادي: ح2 ص108.

() عيون الحكم والمواعظ للواسطي: ص136، الفصل 11.

() سورة هود، الآية: 119.

() سورة النجم، الآية: 39.

() سورة ص، الآية: 82 83.

() سورة البينة، الآية: 5.

() نوادر المعجزات للطبري: ص60 رقم26.

() بحار الأنوار: ج62 ص89، أبواب الصيد والذباحة.

() سورة الأنعام، الآية: 149.

() اللمعة البيضاء للتبريزي: 331. واللمّة: الهمّة والخطرة تقع في القلب.

() مشكاة الأنوار للطبرسي: ص169.

() سورة يوسف، الآية 53.

() الكافي: ج2 ص103، باب حسن البشر، ح2.

() الفرج بعد الشدّة للقاضي التنوخي: ج2 ص372.

() نهج البلاغة: ج4 ص11 رقم 40.

() منية المريد للشهيد الثاني: ص264.

() راجع كتاب التمحيص للإسكافي ص74 رقم171.

() بحار الأنوار: ج75 ص73 باب 16 جمع من جوامع كلمه عليه السلام، ح41.

() سورة البقرة، الآية: 206.

() سورة التوبة، الآية: 82.

() الكافي: ج2 ص78 ح14.

() التحفة السنيّة للجزائري: ص51.

() جامع السعادات للنراقي: ج2 ص284.

() التحفة السنيّة: ص51.

() جامع السعادات: ج2 ص284.

() الكافي: ج2 ص85 ح5.

() سورة التوبة، الآية: 38.

() تحف العقول للحرّاني، ص45.

() مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج1 ص381.

() أبو يزيد، طيفور بن عيسي بن آدم بن عيسي بن علي، من مشايخ الصوفية، توفّي سنة 261 ه، ذهب بعض الشيعة والسنّة إلي أنّه شيعي، وآخرون إلي أنّه سنّي، كان معاصراً للإمامين العسكريين عليهما السلام.

() راجع البداية والنهاية لابن كثير: ج11 ص41، ترجمة أبو زيد البسطامي.

() غوالي اللآلي للأحسائي: ج4 ص113 رقم 174.

() سورة الحجرات، الآية: 75.

() نهج البلاغة: ج1 ص151 رقم87.

() مثل قول أمير المؤمنين سلام الله عليه في صفة المؤمن: «إن ضحك لم يخرق، وإن غضب لم ينزق، ضحكه تبسّم». الكافي للكليني: ج2 ص226، باب المؤمن علاماته وصفاته، رقم1.

() روضة الواعظين للنيسابوري: ص419.

() كما في قوله تعالي:

?الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَيَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ? سورة آل عمران، الآية: 191.

وروي عن الإمام الرضا سلام الله عليه أنّه قال: «ليست العبادة كثرة الصلاة الصوم، إنّما العبادة التفكّر في أمر الله عزّ وجلّ». الكافي: ج2 ص55 ح5.

() وقلب الإنسان بمثابة بيته، ولا بدّ من اقتلاع جذور النتن من البيت، لتسهل فيما بعدُ عمليةُ الإصلاح والتحلّي بالجمال والفضيلة والطهارة.

فالفرد الحسود لن ينفعه ندمه علي مراقبة هذا وذاك، ولن ينفعه استغفاره ربّه مادام لم يقتلع جذور الحسد من قلبه، كذلك الحال بالنسبة للمتكبّر والفاسد والمجرم؛ مالم يقتلعوا جذور الفساد والشرّ والرذائل من قلوبهم، وإن كانت للأعمال الظاهرة أثراً علي القلب ولكنّه أثر قليل. = = فالمطلوب الإلفات المباشر إلي القلب ليستطيع أن ينظر الي ملكوت السماوات والأرض. فبإصلاح القلب واستشعار الحزن وتجليب الخوف يزهر مصباح الهدي في قلب الإنسان.

() التحفة السنيّة للجزائري، ص88، باب تطهير السرّ عمّا سوي الله.

() سورة الأنفال، الآية: 2.

() سورة النازعات، الآية: 40 41.

() شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج4 ص105.

() الكافي: ج2 ص335، باب اتباع الهوي، ح1.

() نهج البلاغة: ج1 ص92 رقم42.

() وهما مدفونان في النجف الأشرف، في الروضة الحيدرية المقدّسة قرب باب القبلة.

() خصائص الأئمة للسيد الرضي: ص105، من كلامه سلام الله عليه القصير في فنون البلاغة.

() وسائل الشيعة: ج7 ص137 باب59، أنه يكره أن يقال اللهم إني أعوذ، ح8939.

() وكان مرقد الإمامين العسكريين سلام الله عليهما آنذاك في حجرة صغيرة وكان شيعة أهل البيت ومحبّوهم يأتون لزيارتهما، أمّا عامّة الناس فكانوا يأتون ويقرؤون الفاتحة.

() سورة النحل: الآية 96.

() سورة الشوري: الآية 13.

() سورة آل عمران: الآية

19.

() سورة الأنفال: الآية 42.

() سورة الأحزاب الآية 21.

() يؤيّده قوله صلّي الله عليه وآله: «ما أوذي نبيّ مثلما أوذيت». الصحيح من السيرة، للعاملي: ج3 ص33.

() انظر مناقب آل أبي طالب للمازندراني: ج1 ص51، فصل فيما لاقي من الكفار.

() تفسير القمّي: ج2 ص228، مورد تفسير سورة ص، الآية: 4.

() سورة الأحقاف الآية 13.

() انظر مكارم الأخلاق: ص17، في تواضعه وحيائه صلي الله عليه وآله.

() سورة البقرة، الآية: 194.

() سورة التحريم، الآية: 4.

() إحياء علوم الدين للغزالي: ج2 ص42، الباب الثالث في آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح.

() انظر إحياء علوم الدين: ج2 ص43، كتاب آداب النكاح. وفي كنز العمّال للهندي: ج13 ص696 رقم 37782، قالت: أقصد!

() سورة التوبة: الآية 101.

() وهو المقطع الأخير من الآية 29 في سورة الفتح التي ذكرت صفات أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله.

() مستدرك الوسائل: ج17 ص249 باب4، عدم جواز القضاء والافتاء بغير علم و …، ح17.

() الإرشاد للمفيد: ج2 ص72، ملاقاة الحسين سلام الله عليه لزهير بن القين.

() الأمالي للصدوق: ص766، المجلس95، ح4.

() غرر الحكم ودرر الكلم: ص322.

() تفسير أطيب البيان: ج13 ص225.

() تفسير الإمام العسكري سلام الله عليه: ص340 ح216.

() معدن الجواهر للكراجكي: ص42، باب ذكر ما جاء في أربعة.

() سورة الرعد: الآية 17.

() الفصول المختارة للمفيد: ص135 وص224.

() إرشاد القلوب للديلمي: ج2 ص231، في فضائل ومناقب أمير المؤمنين سلام الله عليه و …

() راجع مدينة المعاجز للبحراني: ج6 ص242 ح52، التاسع والعشرون إخباره بالغائب والآجال.

() راجع تحف العقول للحرّاني: ص299، في قصار كلمات الإمام أبي جعفر الباقر سلام الله عليه.

() نهج البلاغة: ج1 ص215، من خطبة لأمير المؤمنين سلام الله عليه، رقم 110.

() سورة الحديد،

الآية 23.

() سورة التحريم، الآية 11.

() سورة آل عمران، آية 159.

() سورة الأحزاب، الآية 21.

() روي عن رسول الله صلّي الله عليه وآله أنّه قال: «أُنزلت عليّ هريسة، فأكلت منها، فزاد الله في قوتي قوّة أربعين رجلاً في البطش». انظر مستدرك الوسائل: ج16 ص255 باب 255 رقم1، استحباب أكل الهريسة.

() شجرة طوبي للحائري: ج2 ص303.

() غرر الحكم ودرر الكلم: ص 117 ح2050.

() سورة الشوري، الآية: 13.

() سورة الأنعام، الآِية: 72.

() سورة البقرة، الآية: 183.

() سورة آل عمران، الآية: 97.

() راجع تاريخ آل زرارة لأبي غالب الرازي، وفيه تفصيل أحوال وسير بني أعين خاصّة. وقد أشار سماحة السيد دام ظله فيما سبق إلي ذلك.

() سورة النجم، الآيتان: 39 و40.

() وسائل الشيعة: ج7 ص112 باب42، استحباب اختيار الإنسان الدعاء للمؤمن علي الدعاء لنفسه، ح8884.

() راجع مستدرك سفينة البحار للنمازي: ج3 ص283332، في الدعاء.

() سورة الفرقان، الآية: 77.

() عدّة الداعي لإبن فهد الحلي: ص29، الباب الأوّل في الحثّ علي الدعاء.

() ثواب الأعمال للصدوق: ص153، ثواب دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب.

() سورة الزمر، الآية: 9.

() أعلام الدين في صفات المؤمنين، للديلمي، ص236.

() أصول الكافي: ج1 ص496، باب مولد أبي جعفر محمد بن علي الثاني سلام الله عليهما، ح9.

() سورة الأنفال، الآية: 42.

() سورة البقرة، الآية: 183.

() وسائل الشيعة: ج 1 ص72 باب 12، بطلان العبادة المقصود بها الرياء، ح161.

() فروع الكافي: ج4 ص87، باب أدب الصائم، ح1.

() راجع روضة الواعظين للنيسابوري: ص503، مجلس في ذكر الرجاء وسعة رحمة الله تعالي، وفيه: قال صلّي الله عليه وآله: والذي نفسي بيده، إنّ الله تعالي أرحم بعبده من الوالدة المشفقة بولدها.

() سورة هود، الآية: 119.

() سورة المائدة، الآية: 119.

() سورة التوبة، الآية:

59.

() الكافي للكليني: ج1 ص399، باب: إنّه ليس شي من الحقّ في يد الناس إلا ما خرج من عند الأئمة سلام الله عليهم، ح3.

() سورة المائدة، الآية: 35.

() مستدرك وسائل الشيعة، ج11 ص87 باب 6، استحباب التخلّق بمكارم الأخلاق، ح1.

() سورة غافر، الآية 51.

() أصول الكافي: ج2 ص598، كتاب فضل القرآن، ح2.

() سورة المطففين، الآية: 26.

() بحار الأنوار: ج53 ص240، الحكاية الخامسة عشرة.

() تفسير الإمام العسكري سلام الله عليه: ص314.

() سورة يونس: الآية: 14.

() سورة التحريم: الآية: 11.

() راجع اللهوف في قتلي الطفوف لإبن طاووس: ص94.

() سورة هود: الآية: 119.

() قال عبد الله بن عمار بن عبد يغوث في وصفه للإمام الحسين عليه السلام: ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده وأهل بيته أربط جأشاً منه. انظر مثير الأحزان لابن نما: ص54، المقصد الثاني: في وصف موقف النزال وما يقرب تلك الحال.

() راجع مصباح المتهجد للطوسي: ص577 رقم66، دعاء كل ليلة من شهر رمضان.

() سورة المائدة: الآية: 67.

() راجع بحار الأنوار: ج99 ص247، مقطع من دعاء التوسل.

() انظر مصباح المتهجد للطوسي: ص788 رقم12، زيارة أخري في يوم عاشوراء.

() سورة البيّنة، الآية: 42.

() بحار الأنوار للمجلسي: ج72 ص38 ح36.

() المرجع الراحل آية الله العظمي السيد محمد الحسيني الشيرازي قدس سره.

() وسائل الشيعة للعاملي: ج16 ص187 باب19، استحباب الدعاء إلي الايمان والاسلام مع رجاءالقبول …، ح4.

() الخصال للصدوق: ص42 باب الاثنين، معرفة التوحيد بتحصلتين، ح34.

() انظر بحار الأنوار: ج68 ص259 باب73 رقم 3، والعزمة (بفتح العين) هي صيغة مبالغة ومعناها: العزم الأكيد.

() انظر مناقب آل أبي طالب للمازندراني: ج3، ص337، باب إمامة أبي جعفر الباقر عليه السلام.

() سورة البقرة، الآية: 194.

() راجع تفسير الميزان للطباطبائي: ج15 ص103،

مورد تفسير سورة النور، الآية: 11. والمستدرك علي الصحيحين للحاكم: ج4 ص39، ذكر سراري رسول الله صلّي الله عليه وآله. ومجمع الزوائد للهيثمي: ج9 ص161، باب فضل ابراهيم بن رسول الله صلّي الله عليه وآله.

() سورة الأحزاب، الأية: 21.

() سورة الزمر، الآية: 9.

() سورة هود: الآية: 118.

() سورة الأنفال، الآية: 42.

() من زيارة الإمام الحسين سلام الله عليه في أوّل رجب والنصف من شعبان رواها أيضاً ابن قولويه في كامل الزيارات: ص101. والشهيد الأوّل في المزار: ص144، زيارته سلام الله عليه في أوّل يوم من رجب … وغيرهما.

() سورة الشوري، الآية: 13.

() سورة آل عمران، الآية: 19.

() الكافي: ج8 ص162 ح169.

() إشارة إلي قوله صلّي الله عليه وآله: ركعتان يصلّيهما العالم أفضل من ألف ركعة يصلّيها العابد. مكارم الأخلاق للطبرسي: ص441، الفصل الثالث في موعظة رسول الله صلّي الله عليه وآله لعلي سلام الله عليه.

() راجع الخرائج والجرائح للراوندي: ج1 ص162 رقم 252.

() انظر مناقب أمير المؤمنين سلام الله عليه للكوفي: ج1 ص486 رقم 393.

() وسائل الشيعة: ج27 ص92، باب وجوب العمل بأحاديث النبي صلي الله عليه وآله و …، ح33297.

() سورة التغابن، الآية: 8.

() أصول الكافي: ج1 ص194، باب أن الأئمة نور الله عزّ وجلّ، ح1.

() مدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني: ج2 ص327 ح116.

() غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي: ص255 ح5375.

() مستدرك وسائل الشيعة: ج12 ص154، باب وجوب محاسبة النفس و …، ح95.

() مجموعة ورام: ج2 ص277، باب ذكر جمل من مناهي رسول الله صلي الله عليه وآله.

() الفروع من الكافي: ج8 ص91، حديث الرياح.

() مستدرك وسائل الشيعة: ج12 ص390، باب استحباب نفع المؤمنين، ح14376.

() أصول الكافي: ج2 ص78، باب الورع، ح14.

() سورة طه،

الآية: 114.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.