يا أبا ذر

اشارة

اسم الكتاب: ياأباذر

المؤلف: حسيني شيرازي، صادق

الموضوع: وصاياي حضر

اللغة: عربي

عدد المجلدات: 1

الناشر: سلسله

مكان الطبع: قم

تاريخ الطبع: 1428

الطبعة: دوم

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة

الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ عبارة عن مجموعة من سلسلة دروس الأخلاق الأسبوعيّة التي كان سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمي السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله قد ألقاها علي طلاّب العلوم الدينية في مدينة قم المقدّسة.

اختصّت هذه المجموعة بشرح نصوص مباركة من وصيّة الرسول الأعظم صلّي الله عليه وآله لصاحبه الجليل أبي ذر الغفاري رضوان الله تعالي عليه.

نأمل أن تشكّل هذه الدروس المباركة مساهمة عقائدية وثقافية وتربوية جادّة في توضيح ملامح الهداية والاستقامة التي يفترض بالإنسان كإنسان أن يقتفي أثرها، لتُجنِّبه السقوط في العديد من المطبّات، كما تمكّنه من اقتحام العقبات الصعبة، فيهتدي إلي حيث الإيمان، ويعود إلي فطرته السليمة متترّساً بالثقافة المحمدية الأصيلة، ويكتسب القدرة علي تمحيص الغثّ من السمين من بين ما يبثّه أو يعلن عنه الإعلام الهدّام بكلّ أشكاله.

ونتوجّه بالشكر الجزيل والامتنان الفائق لكلّ الأصدقاء والأعزّاء الذين ساهموا في إنجاز مشروع هذا الكتاب القيّم وإخراجه إلي النور. لاسيّما الأستاذ علي ضميري الذي قام بترجمة النص من الفارسية، والسيد خلدون العسكري الذي نهض بمهمة التحقيق، والأخ عبد الرضا افتخاري الذي قام بمراجعة النص وتقويمه.

ومن الله التوفيق

تمهيد

تمهيد

علي امتداد حياته المليئة بالبركة والرحمة، زوّد الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله بعض أصحابه بمواعظ ووصايا، كان كلّ منها بحراً من الحكمة والموعظة الحسنة.

إحدي هذه المواعظ هي وصيّة النبيّ صلوات الله عليه وآله لصاحبه الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه الزاخرة بالمضامين الأخلاقية الرفيعة والبنّاءة.

سند الرواية

سند الرواية

تمتاز هذه الوصية بأمور، منها أنّها من الوصايا الطوال، ومنها أنّها وصية زاخرة بالمضامين الرفيعة؛ الأمر الذي يُعدّ بحدّ ذاته دليلاً علي صدورها عن النبيّ الأعظم صلي الله عليه وآله، مضافاً إلي أنّها من حيث السند تعدّ من النصوص المعتبرة، حيث رواها العديد من أعاظم العلماء:

منهم الشيخ الطبرسي في كتابه الشهير (مكارم الأخلاق). فمع أنّ الروايات التي يرويها في هذا الكتاب مرسلة في الغالب ومذكورة بحذف السند، ولكنّه رحمه الله نقل هذه الرواية بعدّة أسانيد.

كما نقل الوصيّة الأمير الزاهد ورّام بن أبي فراس في كتابه المعروف ب (مجموعة ورّام). علماً أنّ هذا العالم الجليل يُعدّ ثقةً عند الفقهاء، وأقواله وأفعاله معتبرة لديهم، حتي أنّ العديد من أعاظم الشيعة اعتبروا سيرته حجّة، في بعض الموارد التي لم تبلغهم فيها رواية عن المعصوم.

فمثلاً جرت سيرة المتشرّعة علي وضع فصّ عقيق في فم الميّت، مع أنّه لم ترد في كتب الأحاديث رواية علي ذلك، والدليل أنّ صاحب «الحدائق» وصاحب «المستدرك» لم يذكرا شيئاً عن هذه المسألة. ولكن مع ذلك نلاحظ أنّ صاحب «الجواهر» وصاحب «العروة» ذكرا هذه المسألة في كتابيهما «جواهر الكلام» و «العروة الوثقي» باعتبارها مسألة مستحبّة.

ونحن نعلم أنّ استحباب عمل ما لابدّ أن يكون مسنداً إلي المعصوم سلام الله عليه قولاً أو عملاً أو تقريراً، ولكن فيما يخصّ هذه المسألة، فإنّ السند الوحيد هو تصريح السيد ابن طاووس الذي

قال فيه:

«وكان جدّي ورّام بن أبي فراس قدّس الله روحه، وهو ممن يُقتدي بفعله، قد أوصي أن يجعل في فمه بعد وفاته فصّ عقيق عليه أسماء أئمّته صلوات الله عليهم. وقد تقبّل الفقهاء التالون له استحباب هذا العمل دون أن يصرّحوا بأن لا دليل لهم عليه، وذلك لأنّ نقل ورّام بمثابة الدليل والحجّة لديهم».

كما قام الفقهاء بنقل مقاطع من هذه الوصية في كتبهم واستدلّوا بها علي أنّها من وصية النبي صلّي الله عليه وآله لأبي ذرّ؛ فقد أشار المحقّق الحلّي في كتابه (المعتبر) إلي أجزاء من الوصيّة النبويّة الشريفة لأبي ذرّ، واستدلّ بها وصرّح بأنّها وصيّة النبيّ صلوات الله عليه وآله. والمحقّق رحمه الله معروف بالدقّة العلميّة الكبيرة ومشهور بجلال المقام ورفعة المنزلة.

أمّا العلاّمة الحلّي؛ فقد تطرّق إلي ذكر هذه الوصيّة الشريفة في مواقع عديدة وكتب متعدّدة.

كما نقل كاشف اللثام في كتابه المعروف (كشف اللثام) مقتطفات من هذه الوصيّة ونسبها إلي النبيّ الأكرم صلي الله عليه وآله.

أمّا المحقّق القدير الحاج رضا الهمداني فقد نسب هذه الوصيّة إلي النبيّ الأكرم صلي الله عليه وآله بعد أن ذكرها في جملة من كتبه.

كما ذكرها العلاّمة المجلسي في كتابه (عين الحياة) قائلاً: «إنّ هذه الوصيّة من جملة الأخبار المشهورة».

سند الرواية في مكارم الأخلاق

نقل سند هذه الوصيّة الشيخ الجليل رضي الدين، أبو نصر، الحسن بن الفضل الطبرسي في كتابه «مكارم الأخلاق» قال:

«يقول مولاي أبي طوّل الله عمره الفضل بن الحسن: هذه الأوراق من وصيّة رسول الله صلي الله عليه وآله لأبي ذر الغفاري، التي أخبرني بها الشيخ المفيد أبو الوفاء، عبد الجبار بن عبد الله المغربي الرازي، والشيخ الأجلّ الحسن بن الحسين بن الحسن بن بابويه رحمه الله إجازة، قالا: أملي علينا الشيخ

الأجلّ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، وأخبرني بذلك الشيخ العالم الإمام الحسين بن الفتح الواعظ الجرجاني في مشهد الرضا سلام الله عليه، قال: أخبرنا الشيخ أبو جعفر رحمه الله قال: حدّثنا أبو الحسين رجاء بن يحيي العبرتائي الكاتب سنة أربع عشرة وثلاثمائة، وفيها مات، قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن شحون، قال: حدّثني أبو حرب بن أبي الأسود الدؤلي، عن أبي الأسود …».

منزلة أبي ذر

كان أبو ذر رحمه الله رجلاً عارفاً فطناً، كما نلاحظه في هذه الوصيّة؛ حيث اغتنم فرصة خلوة المسجد للاستفادة من النبيّ صلّي الله عليه وآله. وكان موضع احترام وتقدير النبيّ وأهل بيته الطيّبين الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم. وطبقاً لرأي العلاّمة المجلسي رحمه الله الوارد في كتاب «عين الحياة» فإنّ ما يستفاد من سياق الأخبار والروايات الشريفة كون سلمان المحمّدي وأبي ذر الغفاري والمقداد هم أفضل ثلّة بين أصحاب الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله، بعد طبقة المعصومين الأربعة عشر (الذين لا يقاس الناس بهم) وبعد ذريّتهم الطاهرة مثل السيّدة زينب الكبري وأبي الفضل العباس عليهما السلام.

ولكي نعي عظمة منزلة أبي ذر رضوان الله تعالي عليه، علينا التدبّر في صدر هذه الوصيّة النبويّة الشريفة، حيث جاء فيها:

«أكرم بك يا أبا ذر، إنّك منّا أهل البيت».

ثمّ إنّ النبيّ الأعظم طالما كرّر في مقاطع وصيّته الشريفة قول: «يا أبا ذر» فقد تكرر حوالي مئة وخمسين مرّة؛ ما يعكس مدي قرب هذا الصحابيّ الجليل من النبيّ الأكرم صلي الله عليه وآله.

إنّ سيرة هذا الصحابي الكبير جديرة بالمطالعة والبحث والتأمّل، وحقّ أن تكون نموذجاً وقدوة طيّبة.

لقد توصّل أبو ذر إلي هذه المنزلة الرفيعة لأنّه كان يتابع النبيّ الأعظم قولاً وعملاً. ولا شكّ أنّ هذه المتابعة

تعدّ إنجازاً صعباً؛ ذلك لأنّ الإنسان في هذه الحالة سيكون بحاجة إلي توفير عناصر القوّة ليتسنّي له مواجهة شيطانه الداخلي (النفسي) والخارجي (الاجتماعي) روماً في الانتصار عليهما.

فالفرد إذا ما أراد العمل بوصيّة النبيّ صلي الله عليه وآله هذه ولو ببند واحد منها طبقاً لمستوي وعيه وفهمه وقابليته فإنّ الشيطان سرعان ما ينبري إلي إعاقته عن ذلك، كما أنّ الشهوات ستبدأ فعلها لتقييده. ولكنّ المؤمن الحذر مَن يطبّق تلكم المواعظ الواردة في الوصيّة بالتدريج ليواجه الشيطان ونفسه الأمّارة بالسوء، ولا شكّ أنّ هذه المهمّة ممكنة الإنجاز رغم صعوبتها.

إنّنا نعلم أنّ مرتبة العصمة ليست في متناول الجميع، وأنّها خاصّة بجملة من الأشخاص معلومين، ولكنّ المراتب التالية للعصمة ممكنة للجميع، ولم يجعلها الله تعالي حكراً علي أحد.

أجل، ما يميّز الصحابيّ أبا ذر رضوان الله تعالي عليه أنّه كان بمستطاعه لقاء الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله في أيّ وقت يشاء، أمّا إنسان فترتنا الراهنة فيفتقر إلي هذه الخاصيّة، ولكن ذلك ليس مبرّراً لئلاّ يكون كأبي ذر. فالمؤكّد في الأمر قدرة الفرد المؤمن علي الارتقاء إلي هذه المنزلة السامية، فإنّ أبا ذر قضي ردحاً من حياته مشركاً، ومع ذلك بلغ ما بلغ لأنه قرّر لنفسه أن يكون أبا ذر الصحابيّ المؤمن العظيم.

ولنا أن نتساءل عمّا قام به ورّام بن أبي فراس أو والد الشيخ الصدوق (أبو الحسن علي بن بابويه) من أعمال لتكون فتاواهما بمثابة السند المعتبر والمقبول لدي الفقهاء؟

إنهما لم يقوما بشيءٍ غير العمل بأوامر أولياء النعم السادة المعصومين سلام الله عليهم.

وعليه؛ فإنّ الإنسان إذا ما قرّر اتِّباع أوامر المولي فسيلمس حقّاً ما يتبع ذلك من توفيق ربّانيّ، ولاشكّ أن قدرة الله وتوفيقه أكبر وأقوي من الشهوة والشيطان،

فإذا ما اعتمد الفرد علي ربّه وصمّم علي المضيّ في هذا الطريق القويم، فسيؤيّده الله تعالي ولن يسمح للنفس الأمّارة أو الشيطان أن يتغلّبا عليه. فالله سبحانه وعد بالنصر والتوفيق عبادَه المخلصين.

إنّ الله تعالي جعل الدنيا دار بلاء وامتحان، كما خلق الإنسان حرّاً مختاراً، ليتبيّن ما الذي سيقوم به.

ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ

البداية

نقل هذه الوصية مع أسانيدها العلامة المجلسي في كتابه بحار الأنوار؛ قال:

قال أبو الأسود الدؤلي:

قدمت الربذة، فدخلت علي أبي ذر، جندب بن جنادة رضي الله عنه، فحدّثني أبو ذر قال:

دخلت ذات يوم في صدر نهاره علي رسول الله صلي الله عليه وآله في مسجده، فلم أرَ في المسجد أحداً من الناس إلاّ رسول الله صلي الله عليه وآله وعليّ إلي جانبه جالس، فاغتنمت خلوة المسجد، فقلت:

يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أوصني بوصية ينفعني الله بها.

فقال: «نعم، وأكرِم بك يا أبا ذر، إنّك منّا أهل البيت، وإنّي موصيك بوصيّة فاحفظها، فإنّها جامعة لطرق الخير وسبله، فإنّك إن حفظتها، كان لك بها كِفلان …»

إنّه لمن النادر أن يتفق فيكون النبيّ الأكرم صلي الله عليه وآله جالساً أو ماشياً أو واقفاً منفرداً في المدينة، فإنّ الناس كانوا دائمي المراجعة له لإدارة شؤونهم الماديّة والمعنويّة، وكان صلي الله عليه وآله يستقبل الناس جماعات أو فرادي بثغر باسم وخُلُق عظيم، ليعلّمهم ويزكّيهم ويحلّ مشاكلهم.

فقد تكون هذه الفرصة الثمينة التي تحدّث عنها أبو ذر رحمه الله حيث رأي النبيّ منفرداً الفرصة الوحيدة خلال صحبته فاغتنمها وطلب من النبي صلي الله عليه وآله أن يوصيه بما ينفعه بها الله تعالي.

وقد جاء في الروايات حثّ الإنسان المؤمن علي اقتناص فرصة رؤية العالم للسؤال منه

عن أحكام الدين، وأنّ فيه الثواب الجزيل. لذلك؛ فإنّ علي المؤمنين أن يحرصوا شديد الحرص علي الاستفادة العلميّة من العلماء، وأن لا يضيّعوا أعمارهم في لهو الحياة ولعبها.

كيف نعبد الله تعالي؟!

كيف نعبد الله تعالي؟!

«يا أباذر، اعبد الله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه، فإنّه يراك.

واعلم أنّ أوّل عبادة الله المعرفة به، فهو الأول قبل كلّ شيءٍ، فلا شيء قبله، والفرد فلا ثاني له، والباقي لا إلي غاية، فاطر السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما من شيءٍ، وهو الله اللطيف الخبير، وهو علي كلّ شيءٍ قدير.

ثمّ الإيمان بي والإقرار بأنّ الله تعالي أرسلني إلي كافّة الناس بشيراً ونذيراً وداعياً إلي الله بإذنه وسراجاً منيراً.

ثم حبّ أهل بيتي الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً».

إنّ الرؤية إما أن تكون بالعين الظاهرية، أو بعين العقل والإدراك العقلي. والمراد هنا بالرؤية أن تكون بالعين الباطنية والعقل؛ يقول الإمام الحسين سلام الله عليه مخاطباً الله تعالي:

«عميتْ عينٌ لا تراك عليها رقيباً»

أي لا خير في إدراك العقول لما حولها إن لم تدرك مصوّرها. فالعمي أولي لها من الإدراك والشعور.

فالمقصود بالعين في قول الإمام سلام الله عليه ليست العين المادّية المنصوبة في الرأس، لأنّ هذه العين عاجزة عن رؤية الربّ تعالي.

إذاً الإنسان يتمتّع بنوع رؤية باصرة ورؤية معنويّة كاشفة.

ومن خصائص العين الباصرة كثرة الخطأ، علماً أنّ «الرؤية بالعقل» قد تخطئ هي الأخري أحياناً، ولكن خطأها أقلّ بكثير من خطأ العين المادّية، وأنّ البصيرة موجودة لدي جميع الناس ولكنّها بدرجات متفاوتة.

وبهذه البصيرة بمستواها الراقي، طبعاً مع شرط التربية والمحاسبة الدقيقة والمتواصلة يمكن إدراك الله عزّ اسمه، وبهذا الإدراك تتمّ عبادة الله أيضاً.

العبادة والمعرفة

في بعض كتب التفسير في ذيل قوله تبارك وتعالي:

وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاّ لِيَعبُدُونَ

عبارة: (أي ليعرفون) مسبوقة بكلمة (رويَ). وقد تكرّرت هذه العبارة إلي حدٍّ أصبحت فيه من المرتكزات الذهنية.

وفي معرض الفحص والتحقيق لتبيان حقيقه الأمر، وفي ورود رواية كهذه من عدمه، لم يتمّ

العثور عليها في كتب الروايات والأحاديث، إلا في كتاب منسوب إلي أحد صوفيّة السنّة. وعلي ذلك؛ فإنّ العبارة لا قيمة لها من حيث السند، علماً أنّ مضمونها ومفهومها يتضمّن المغالطة التي تنتهي إلي إشاعة التساهل غير المقبول في الدين. فهذه العبارة تساوي بين مفهومي العبادة والمعرفة، مع أنّ بين مفهومي هذين المصطلحين تبايناً ماهوياً، أي إنهما يختلفان في ماهيّتهما.

وقد ورد في رواية عن مولانا الإمام الحسين سلام الله عليه:

«إنّ الله جلّ ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه، عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه».

فقال رجل: يابن رسول الله، بأبي أنت وأمّي، فما معرفة الله؟ قال: «معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته».

إنّ من الممكن تصوّر كون اجترار عبارة «ليعبدون، أي ليعرفون» من مفهوم الرواية أعلاه، ولكن لا بد من الالتفات إلي وجود الكثير من الاصطلاحات والمفاهيم، وإلي أنّها مرتبطة فيما بينها، وأنّ هذا الترابط لا يعني بالضرورة التجانس والعينية. فحينما يقال: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد» فإنّه يختلف عن القول: إنّ الإيمان هو عين الصبر، أو القول: إنّ جسم الإنسان هو عين رأسه.

وكذلك حينما يقال: إنّ أصول الدين هي كلّ الدين، فلا يمكن تصوّر أنّ الدين هو عين الأصول؛ ذلك لأنّ الدين يتألّف من أصول وفروع.

إذاً، فالعبادة غير ذات فائدة دون المعرفة، كما أنّ المعرفة التي لا تستتبعها العبادة ناقصة، كما هي العلاقة بين الصلاة والطهارة؛ إذ لا صلاة بلا طهارة، ولا تنفع الطهارة تارك الصلاة.

قال النبي الأكرم في هذه الوصية صلي الله عليه وآله لأبي ذر: «أوّل عبادة الله المعرفة به». وقال الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه: «أوّل الدين معرفته»

من هذين الحديثين الشريفين يتبيّن الفرق

بين العبادة والمعرفة؛ وهي أن المعرفة أوّل شرط للعبادة، وأنّ بها تبدأ العبادة.

إنّ العبادة إذا لم تقترن بالمعرفة، أصبحت عامل ضرر، وأخرجت العابد عن جادّة الصواب، فيري نفسه منحرفاً نحو الشرك والرياء. والعابد علي هذا النحو سيعتقد بالشرك توحيداً وبالذنب ثواباً، وستكون حتي عبادة الصنم حسب وجهة نظره عبادة لله، وهكذا تكون العبادة له بمثابة الطعام المسموم، فتصيب الروح بالمرض، بدلاً من أن تكون عامل إنقاذ للروح والنفس، وتغرق صاحبها في الضلال وتعب الروح ومرضها.

إنّ العبادة تعني العبودية، وهي لا تكون سوي للخالق والمولي الذي يتوقّف تمام الوجود علي لطفه. فهو المولي والخالق، ونحن جميعاً عبيده.

إذاً يلزم العبد أن يعي مفهوم العبوديّة؛ لتتكامل عبوديّته. وحينما يتّضح معني العبودية يفهم العابد بأنّ كلّ الوجود وحيثيّاته وشؤونه متعلّقة بالمعبود، حتّي هذه العبادة التي يزاولها إنّما هي عطاء من الله تعالي، فإذا أدرك العابد ربوبيّة الله، تمكّن من الاستفادة من بركات العبادة.

إنّ الفرق بين العبادة المقرونة بالمعرفة وبين العبادة المفتقرة لها، كالفرق بين الوردة الواقعية ورسمها، من حيث إنّ لهما ماهيّتين ومعنيين، فليس لرسم الوردة الشكيلة أيّ حقيقة من حقائق الوردة ذاتها. ولعلّ رسّاماً بارعاً يتمكّن من تصوير وردة هي في شكلها أجمل وأروع من الوردة الحقيقية، ولكن يستحيل أن يكون لها مميّزات الوردة الواقعية.

إنّ بعض أشكال العبادة تشبه صورة وردة مرسومة علي اللوحة أو الجدار، حيث لا فائدة أو ثمرة لها. فتري العابد يقتصر بالعبادة علي مجرّد اللفظ والحركة أو السكون، دون أن تجد أو تلمس لها روحاً، أي أنّها وإن بدت كاملة من حيث الأداء الشكلي ومراعاة الأجزاء والشروط الظاهرية وإسقاطها للتكليف، ولكن هذا الإسقاط متأتٍّ من ناحية اللطف الإلهي، دون أن يكون لذات العبادة فائدة

أو تأثير.

لقد قال الله سبحانه وتعالي بكلّ وضوح:

إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَي عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ

ومع أنّا نعلم أنّ أصدق كلام في عالم الإمكان هو كلام الله تبارك اسمه، ولكنّا نشاهد كثيراً من الصلوات لا تحول دون الفحشاء والمنكر، بل إنّ منها ما يقترن بالمنكر أصلاً.

والسبب: أنّ ذلك كلّه إنّما يعود إلي خروج الصلاة عموماً عن ماهيّتها الواقعيّة وحقيقتها، فصارت عديمة الشبه بالصلاة الأصليّة، اللهمّ إلا في الشكل ورفع التكليف، وإنقاذ صاحبها من العقاب الأخروي. إذاً فهي غير تلك الصلاة التي أشير إليها في القرآن الكريم علي أنّها تنهي عن الفحشاء والمنكر.

قد تكون جميع آداب الصلاة بما فيها المستحبّات والمكروهات ذات أهميّة خاصّة، ولكن الأمر الأهمّ من ذلك كلّه التوجّه إلي الله عزّ وجلّ، والذي عُبّر عنه ب «الإقبال» في الروايات الشريفة، أي: إنّ الإنسان حينما يشرع بصلاته قائلاً: «الله أكبر» عليه أن يعي ما يقول، وإذا قال: «بسم الله» عليه أن يتعمّق في هذه العبارة المقدّسة. ينبغي إيلاء الاهتمام بقضايا الوعي والدقّة أكثر من الاهتمام بالقيام بالمستحبّات، بمعني أنّ الفرد إذا كان مخيّراً بين الدقّة واستيعاب العبادة وبين إنجاز بعض المستحبّات، فإنّ من المفترض أن يفضّل الخيار الأوّل.

قد يقف المصلّي بين يدي الله عزّ وجلّ، ولكنّه قد لا يتعمّق أو يهتمّ بموقفه، بل لعلّه لا يهتمّ والعياذ بالله بحديثه مع ربّه بمستوي اهتمامه بالحديث مع طفل ذي أربع سنوات، فتري جلّ همّه إتقان الألفاظ ومخارج الحروف، بينما هو غافل عمّا يقول، وهذا الأمر معلول الجهل بالمعبود.

إنّ الله تبارك وتعالي يحبّ للإنسان أن يصلّي بوعي وحضور قلب، وأن يصلّي في أوّل الوقت، وإن كانت مقتصرة علي الواجبات، إذ إنّ أداء الصلاة في أوّل وقتها مع الوعي والتركيز، خير

من اقترانها بكثير من المستحبّات ولكنّها مجرّدة عن الإخلاص والتركيز، وليس خافياً أنّ الإنسان إذا ما كانت له علاقة وطيدة مع أحد الناس، فإنّه يسعي إلي الإقبال التامّ عليه في حال التحدّث إليه، لتكريس مزيد من العلاقة والحبّ تجاهه. ومَن أولي من الله الخالق الودود بالحبّ والارتباط؟!

يقول إمام الزمان عجل الله تعالي فرجه الشريف فيما يخصّ العبادة ومستوي قرب واقتراب العابد من المعبود:

«اللهم أذنت لي في دعائك ومسألتك».

فالله تبارك اسمه قد أكرم عبده كرامة لا تقاس بغيرها، وهي إذنه له بدعائه وعبادته والتحدّث إليه بصورة مباشرة، كما وعده الاستماع إليه وقبول عبادته.

ثمّ يضيف سلام الله عليه قائلاً:

«فاسمعْ يا سميعُ مدحتي، وأجبْ يا رحيمُ دعوتي».

ولاشكّ أنّ عمق هذه العبارة وامتداد أفقها يتجاوزان عمق ومساحة السماوات والأرضين:

إنّ للمعرفة درجات ومراتب، وإنّ المعصومين يتمتّعون بأعلي الدرجات وأسمي المراتب الخاصّة بمعرفة الله المتعال. وإنّ علو الدرجة وسموّ المرتبة المعرفية والاقتراب من حقيقة الربّ المتعال هي التي توجب أو تعكس التفوّه بالعبارة المقدّسة، التي جاء فيها:

«اللّهم! أذنت لي في دعائك ومسألتك»

وما تحويه من المعاني الملكوتيّة.

إنّ الإنسان العارف حقّاً لا يرتكب الخطيئة، لأنّه يدرك حقيقة الله وشأنه، ويلفّه الحياء والخجل من أن يرتكب ذنباً في محضر ربّه، لاسيّما وأنّ جميع الطرق التي تؤدّي إلي ارتكاب المآثم والانحراف البشري تنغلق وتنقطع عند المعرفة، فيُمنح صاحبها حياة شبيهة بحياة المعصومين، تماماً كما أنّ التعرف إلي الحالة البيئيّة أو الطبيعيّة لبدن الإنسان تدفعه في معظم الأحيان إلي انتهاج سبيل الاعتدال والوقاية الصحيّة فيما يخصّ أمور التغذية، ليكون في منأيً عن الأمراض، إضافة إلي أنّ المعرفة المعنويّة بدورها تنجي أو تقي المرء من التعرّض للأمراض والمشاكل الروحيّة كذلك.

فمتي ما حصلت المعرفة الواقعيّة، أصبحت روح الإنسان

وقواه العقليّة وحتَّي المادّية في مأمن من الوقوع في طرق ومهاوي الانحراف. ومن هنا كان من المفروض علي الإنسان أن يسعي دائماً لتوسيع دائرة فهمه وأفق وعيه فيما يتعلّق بالربّ الواحد الأحد، وبعبادته وبشروطها، وينبغي أن يسير ضمن عملية تطوّر متواصل.

أقسام العبادة

لقد قسّم العلامة المجلسي رحمه الله العبادات إلي ستّة أقسام، هي:

1. عبادة الشاكرين.

2. عبادة المتقرّبين.

3. عبادة المستحيين.

4. عبادة ذائقي الحلاوة.

5. عبادة المحبّين.

6. عبادة العارفين.

• عبادة الشاكرين

قد يعبد الناس ربّهم علي ما أنعم عليهم من النعم الكثير، مثل نعمة الحياة والسلامة وسائر النعم الماديّة والمعنويّة، فيشكرونه ويعبدونه. مثلاً: حينما يري الإنسان شخصاً ضريراً أو أصمّ، فإنّه يشكر ربّه علي نعمتي البصر والسمع اللتين أنعم بهما عليه، وهذا النوع من العبادة يُسمَّي عبادة الشاكرين.

• عبادة المتقرّبين

جميع الناس يحرصون علي إقامة علاقات طيّبة مع الأشخاص ذوي السلطة والنفوذ، آملين اللجوء إلي سلطتهم ونفوذهم في ساعات العسرة والحاجة.

وهناك قسم من الناس، وبداعي معرفتهم بالله سبحانه وتعالي حيث وجدوه الأقوي والأقدر من جميع الموجودات؛ باعتباره الموجد لها يعبدونه ليحرزوا رضاه عنهم ويؤمنّوا لأنفسهم مستقبلاً طيّباً.

وتحقّق هذا النوع من العبادة متوقّف علي مستوي المعرفة الصحيحة بالله تعالي، إذ لابدّ أن تتجذّر في قلب الإنسان العابد حقيقة عدم وجود من هو أكبر وأقوي من ذات الله المقدّسة. وما لم تتكرّس هذه الحقيقة في قلب الإنسان وروحه، فإنّه لن يُقبل علي أداء صلوات مستحبّة، بل لا يبقي لديه تفاوت بين أداء الصلاة المكتوبة في أوّل وقتها أو آخر وقتها، لأنّ إقامة الصلاة المستحبّة أو أداء المكتوبة في أوّل الوقت يعدّ معلول المعرفة التامّة بالله تعالي، ولذلك جاء في الحديث الشريف:

«فأوّل الوقت رضوان الله، وأوسطه عفو الله، وآخره غفران الله»

إنّ من يؤخّر صلاته

أقلّ اطمئناناً إلي أنّ الله تبارك وتعالي سيجيبه إذا ما دعاه، ممن يؤدّي صلاته في أوّل الوقت.

• عبادة المستحيين

وهناك قسم من الناس يشعرون بالخجل من الله تعالي والندم إزاء ما فرّطوا في جنب الله وما ارتكبوا من الذنوب والمعاصي، فتراهم يعبدونه؛ طلباً لرحمته واستنزالاً لعفوه. هذه العبادة، تسمّي عبادة الاستحياء، أو عبادة المستحيين.

• عبادة ذائق الحلاوة

إذا تعبّد شخص ما في ليلة القدر حتي الصباح، بخضوع وخشوع، واستقرّت روحانية ومعنويّة هذه العبادة في قلبه، واستشعر لذّتها، فإنّه سيستيقظ في ليالٍ أخري علي أمل الحصول علي مثل تلك اللذة من العبادة، شأنه في ذلك شأن من يقصد زيارة العتبات المقدّسة رغم ما يعانيه من مشاكل مادّية، فحينما يُتمّ زيارته ويعود إلي محلّ إقامته، تراه يعدّ الساعات والأيّام ليعاود الزيارة ثانية وثالثة ورابعة … أو يتحسّر علي عجزه المالي الذي يعيقه عن معاودة الزيارة. فهذا الشخص إنما ذهب للزيارة في المرّة الأولي بقصد الثواب والمبرّرات العقليّة والشرعيّة، ولكنه يزور في المرّة الثانية بقصد درك اللذة الروحية والمعنويّة.

إنّ هذا النوع من العبادة يُعدّ مرتبة سامية من مراتب العبادة، وتسمي: عبادة ذائق الحلاوة.

• عبادة المحبّين

المرتبة التالية للعبادة، هي التي تسمّي عبادة المحبّين، وهي أسمي من المراتب السابقة لها.

فدافع العبادة لدي بعض الناس هي العلاقة الوحيدة مع الربّ الرحيم الودود، فهم يعبدون الله تعالي، لأنّهم يحبّونه.

• عبادة العارفين

روي عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أنّه قال مناجياً الربّ الجليل:

«ما عبدتُك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، لكن وجدتُك أهلاً للعبادة …»

ومثل هذه المعرفة هي التي يجب أن يُسعي لها.

ولكن، كيف يتسني الحصول عليها؟!

إنّ لتحصيل هذه المعرفة طريقاً واحداً، وهو طريق أهل البيت سلام الله عليهم، بينما الطرق الأخري كافّة

هي طرق الشيطان، وليست طرق معرفة الله تعالي، حتي ما يصطلح عليه بالفلسفة أو العرفان ليست طرقاً موصلة.

والموضوع الدقيق في هذا الفصل من كلام الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله والجدير بأن لا يُغفل عنه، هو أنّه بعد إيراد الشرط الأوّل لصحّة العبادة؛ والمتمثّل بالمعرفة، يعقّب صلّي الله عليه وآله بالقول: «الإيمان بي» أي برسالته صلّي الله عليه وآله ونبوّته وشخصه الكريم، ثم يعطف عليه بقوله: «ثم حُبّ أهل بيتي». وهذا (الحبّ) من الشرائط المهمّة للعبادة الحقّة.

أجل، حينما تتمّ المعرفة يتأتّي الإيمان، ومن يعرف الله تعالي يؤمن برسوله صلّي الله عليه وآله ويحبّ أهل البيت عليهم السلام، وواضح أنّ «المحبّ لمن يحبّ مطيع»، وهكذا ينبغي أن يكون.

فالإيمان والمعرفة يتوقّف أحدهما علي الآخر، وهما بمثابة اللازم والملزوم، وحينها فإن وُجدا معاً، يأتي ويتحقّق حبّ أهل البيت سلام الله عليهم.

ما هي سعادة الإنسان؟

ما هي سعادة الإنسان؟

«يا أبا ذر! احفظ ما أُوصيك به تكن سعيداً في الدنيا والآخرة.

يا أبا ذر! نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ.

يا أبا ذر! اغتنم خمساً قبل خمسٍ: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك …».

يأمر النبي الأكرم صلي الله عليه وآله في هذا القسم من وصيّته أبا ذر رضوان الله تعالي عليه أن يعمل بوصاياه، ليحظي بسعادة الدنيا والآخرة.

إنّ الراحة وطمأنينة النفس الإنسانية أفضل مقياس لتحقّق السعادة، لأنّ جميع مصاديق السعادة الأخري تعود في نهاية المطاف إلي راحة النفس واستقرارها واطمئنانها؛ فإنّ الثروة والشباب، وتناول الطعام اللذيذ والتمتع بكل اللذائذ الأخري، تتحوّل جميعها إلي مرارة وتفاهة، ما لم تكن مقترنة براحة الروح وطمأنينة النفس.

فلو أنّ شخصاً ما قُدّم له في بيته ألذّ الطعام، ولكنه في الوقت ذاته كان

مديناً بمبلغ كبير من المال يُثقل كاهله، وكان يتوقّع أن يطرق الدائن بابه في أيّ لحظة، فهو يحذر ويخاف من أن يذهب بماء وجهه، فيا تري هل يشعر بلذّة حين يتناول ذلك الطعام؟

بينما إذا أُخبر في تلك الأثناء أنّ شخصاً ما قد سدّد عنه دينه، وأن لا مبرر للقلق والخوف، ثم إنّه بعد ذلك انشغل بتناول مجرد الخبز اليابس والماء، ثم سئل عن نوعي الطعام؛ أيّهما ألذ: الطعام الأوّل مع القلق، أم الخبز اليابس مع راحة البال؟!

إنّ من المؤكّد أنّ اللذّة التي يستشعرها أثناء تناول الخبز اليابس أعلي بكثير من أيّ طعام لذيذ آخر، إذ لا لذّة تُستشعر مع الخوف والقلق والاضطراب.

إنّ النبيّ الأكرم صلوات الله وسلامه عليه وآله يحدّد للمؤمنين كافّةً وبوضوح بالغ نوع الدواء الناجع ليحقّقوا السعادة في الدنيا والآخرة، أي ليعيشوا دائماً في راحة واطمئنان، ذلك لأنّ هذه الخصوصيّة ستؤثّر علي جميع مظاهر ومصاديق السعادة.

ويجدر بالفرد المتديّن أن يهتمّ كل الاهتمام بهذه الوصيّة ويعمل وفقها. فمعني التديّن: أن تراعَي جميع جوانب الدين، دون الالتزام الجزئيّ به. فالدين الذي ينتهي إلي منتصف الطريق لا يُسمّي ديناً، ولا يعالج أمراً، ومن ثم فإنّ ثمرة الدين وفائدته ونتائجه الإيجابيّة إنّما تتّضح وتتبلور حينما تحظي جميع مسائل الدين بالاهتمام اللازم.

أمّا ظاهرة (الانتقائية) في مسائل الدين وأحكامه التي يصفها الله (تبارك اسمه) في القرآن الكريم بقوله تعالي:

وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ.

فتعتبر بمثابة الآفة التي تستولي علي قلب الإنسان وسلوكه وتنتهي بإيمانه إلي الضياع، والله سبحانه وتعالي يصف من تستولي عليه هذه الظاهرة في الدين بقوله الصادق والصارم:

أولئك هُمُ الكافرونَ حقّاً

إذ استيلاء هذه الظاهرة علي القلب والفكر، تعني والعياذ بالله التلبس التامّ بالكفر.

أمّا إن عمل الإنسان بجميع تعاليم

الدين والتزم بجميع أبعاده، وحقّق السعادة التي تمّ توضيحها له، فإنّه لن يعاني صعوبة، أو يعذّبه ويقضّ مضجعه نوعُ اضطراب، وإن قضي الأيام عطشاناً والليالي جائعاً.

إنّ أبا ذر رضوان الله تعالي عليه الذي هو من جملة تلامذة هذه المدرسة المحمديّة، ومن عمل بوصايا النبيّ العظيم صلّي الله عليه وآله، يعتبر أفضل وأسمي قدوة ومصداق لهذه الحقيقة، فهو قد توفّي جائعاً عطشاناً، وحيداً في صحراء المنفي الحارقة، ولكن موته كان مقروناً بالسعادة والعزّة، ولم يشعر بالخواء الروحي أبداً، كما لم يحسّ بالتعب والعطب مطلقاً، وإنّما ودّع الدنيا برضيً تام وراحة بال مطلقة، إذ رغم عطشه وجوعه، وفقره وحاجته الماديّة، لم يستسلم للظلم والجور.

لاشك أنّه لم تكن لأبي ذر خصوصية باعتباره مخاطباً، وإنّ خطاب النبيّ الأعظم صلي الله عليه وآله كان موجّهاً إلي جميع الناس، وعلي مرّ التاريخ.

نعمتان مجهولتان

يشير النبيّ الأكرم صلي الله عليه وآله هنا إلي نعمتي الصحّة والفراغ اللتين يتمتّع بهما أكثر الناس، ولكنّهم لا يعرفون قيمتهما، فهم مغبونون تجاههما.

إنّ مفردة (الغَبن) غالباً ما تستخدم في القضايا الماليّة، وقليلاً ما تستعمل في غيرها. فهي تستخدم للتعبير عن انخداع أحد طرفي العقد أو التعامل في تحديد ثمن السلعة. وحكم الغبن معلوم في المسائل الماليّة.

فإذا اشتري شخص ما سلعة، ولم يكن يعلم سعرها الحقيقي، فدفع ألفي درهم لما قيمته ألف درهم مثلاً، فإنّه يعتبر مغبوناً بألف درهم، لكونه انخدع بالألف الأخري، وكذلك شأن من يخدع بأقوال وأكاذيب الآخرين، فهو في واقع أمره مغبون خاسر.

وإنّ إحدي نعم الله سبحانه وتعالي التي لا يُعرف قدرها عادةً، نعمة السلامة والصحّة، إذ مادام الإنسان بريئاً من المرض ولم يُصَب بأوجاع في الرأس أو الظهر مثلاً، فإنّه يستطيع التنعم بلحظات عمره.

ومن المؤكّد

أنّ أكبر منفعة في عمر الإنسان هي ذكر الله تعالي، ويمكن التنعّم بهذه المنفعة في حال الصحّة والسلامة علي أتمّ وجه، كأوقات ما قبل النوم ولدي الذهاب والمجيء، ولكن قدرة الاستفادة من هذه النعمة الكبري تقلّ حالة السقم والمرض.

وابن آدم يتنبّه بندم رهيب بعد الموت إلي ما فقده في هذه النعمة وبركاتها العميمة.

فكم من ملايين المرّات قد تناسي فيها قول «لا إله إلا الله» و «الله أكبر» والأذكار الأخري خلال حياته؟ أوليس هذا التناسي أو النسيان مصداقاً واضحاً للغبن؟

إن لم يستفد الإنسان من هذه النعم واللحظات التي لا تقدّر بثمن، فهو في واقعه مغبون، وتضييع هذه الفرص يمثّل المعني الحقيقي للغبن.

وقد روي قول الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله: (مغبون فيهما كثير من الناس) في بعض الروايات بعبارة أخري، وهي:

«مفتونٌ مغبونٌ فيهما كثير من الناس».

إنّ كلمة «مفتون» تعني «ممتحَن»؛ وذلك لأنّ النعم كلّما تنوّعت وتواترت علي الإنسان، جعلته عرضة للامتحان والاختبار أكثر، وهكذا تتضاعف نسبة الخسارة والضرر.

وقد جاء في بعض الروايات الكريمة:

«نعمتان مكفورتان: الأمن والعافية».

فالكفر يعني الستر، والإنسان الكافر هو الذي يستر عقله ويخفيه بحجب الضلالة والجهل والعناد، وعلي هذا؛ فالكافر مقصّر، لأنّه لا يستفيد من عقله بالصورة الصحيحة، رغم أنّه يفعّل طاقة عقله وذكائه وذاكرته في القضايا غير الدينيّة بشكل جيّد، ولكنّه قد أزاح عقله عن المسائل العقائديّة والمعنويّة. فهو قد لا يتناول طعاماً فاسداً، ولا يورّط نفسه في صفقه تجارية خاسرة، وقد يضفي علي سلوكه طابعاً طيّباً، ولكنه علي الصعيد الديني يعطّل عقله، أي: بحجبه ويقيّده دون العمل والانطلاق، مع أنه يلزمه إزاحة الستار المقيت، ليعرف ويعي حقيقة وفوائد نعمتي السلامة والفراغ، لأنّ معرفة النعم، هي الشرط الأوّل لتحقيق الاستفادة الصحيحة منها.

نعمة العيش في العصر النبويّ

لقد

أكرم الله سبحانه وتعالي الناس في عصر النبيّ الأكرم صلي الله عليه وآله أن أوجدهم في ذلك الزمان، وهي نعمة ربانيّة لا تضاهي، ولكن حيث يعسر الامتحان بتعاظم النعمة، فإنّ المعاصرين للحقبة النبويّة كانوا يعيشون أثناء ذلك في وضع حرج للغاية.

فمثلاً: تري المنافقين الذين كانوا علي عهد النبيّ المصطفي صلّي الله عليه وآله واختاروا طريق النفاق، أصبحوا موضع غضب ولعن، ولو أنّهم عاشوا في غير زمن النبيّ صلي الله عليه وآله واختاروا النفاق أيضاً، لكان خسرانهم أقلّ درجة.

إنّ وجود النبيّ يعدّ مصدر بركة وإلهام لجميع الأمم علي مرّ العصور، فهو نور هداية وبشارة، وإنّ كثيراً من الناس قد اهتدوا إلي الصراط السويّ عبر تعاليمه الفذّة ونصائحه القيّمة صلّي الله عليه وآله، وإنّ شعاع نور وجوده المبارك كان أكثر وهجاً لمن كان يعيش في حقبته، ومن ثمّ فإنّ اختيار طريق الضلال من قبل بعض من عاصروه صلي الله عليه وآله، يعتبر خسراناً مبيناً وتيهاً كبيراً، وليس الخاسر والتائه آنذاك إلا كالمتعثّر في الأرض البسيطة والفضاء المشرق المتوهّج.

إنّ العيش في ظلّ النعم امتحان يصل عبره من يصل إلي جنان الخلد، بينما يقع من خلاله بعض آخر في مهاوي الضياع وحضيض جهنم.

قيمة الشباب والصحة والغني

بعد أن يبيّن النبي الأعظم صلي الله عليه وآله أهميّة نعمة الصحّة والفراغ فرصة الانطلاق ينبّه الشباب أن يعوا قيمة العمر وكونهم شباباً، وأنّ هذه المرحلة من العمر تمرّ وتنقضي، وهي غير قابلة للاستدارة والعودة، وأنّ الإنسان يفقد أكثر قابلياته وقواه بانقضاء مرحلة شبابه، وآنذاك تجده يقول آسفاً: «ليت شباباً بوع فاشتريته!».

ومفردة (ليت) يستعملها العرب للتمنّي لما لا يرجي تحقّقه.

أمّا قول النبيّ صلي الله عليه وآله في هذا الجزء في وصيّته، فيحوي إنذاراً وإخباراً، فهو ينذر

الشباب بأنّ شبابهم مرحلة عابرة، وأنّه من الخطأ التساهل والتفريط به.

ثمّ يقول صلي الله عليه وآله: «وصحّتك قبل سُقمك».

إنّ أحوال الدنيا غيرثابتة، بل إنّ ذات الدنيا متغيّرة، فتري ابن آدم تارة مريضاً، وأخري سليماً، وشأن السلامة شأن سائر النعم الدنيويّة والأحوال غير الثابتة.

ولعلّ جميع ما يتعلّق بالإنسان كالعبادة والمعاش، منوط بالسلامة والعافية، فحينما يصاب بالمرض، يفقد نسبة غير بسيطة من قدرته علي إنجاز الكثير من الأعمال. ومن تراه يعمل طيلة نهاره، ثمّ ينصب نفسه لأداء صلاة الليل، تراه أيضاً يعجز عن مجرّد القيام في حال مرضه، وحالة المرض هذه تتضاعف لديه حين الشيخوخة، ومن ثمّ فإنّ للمرض وتأثيره حالة نسبيّة إزاء الشاب والشيخ. ولذا كان من الجدير بالإنسان أن يعرف قيمة سلامته، ويسعي حثيثاً لتحقيق أفضل درجات الاستفادة منها واستثمارها.

ثمّ يقول صلي الله عليه وآله: «وغناك قبل فقرك».

إنّ هذا المقطع من وصيّة الرسول المصطفي صلي الله عليه وآله جدير بالتأمّل أيضاً.

ففيما يخصّ مفهومَي الفقر والغني، يمكن القول بأنّ حالتي الفقر والغني هما صفتان مشكّكتان، أي: إنّ للفقر من حيث المصداق درجات ومراتب متعدّدة وطبقات متفاوتة، إذ يحلّ كلّ فرد من الأفراد في المجتمع في طبقة من الطبقات. وكلّ طبقة في واقعها غنيّة إزاء ما دونها، وفقيرة بالقياس إلي ما فوقها.

وإنّ أشدّ حالات الفقر أن يجد المرء نفسه جائعاً، لأن نهاية المطاف في الفقر أن لا يجد الإنسان ما يأكل، أو يعجز عن سدّ حاجة بطنه إلي الطعام.

رسول الله والفقر

مع أنّ الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله كان قائداً وزعيماً للحكومة الإسلاميّة، وقبل ذلك كان يتمتّع بأقرب المنازل علي الإطلاق إلي الله عزّ اسمه، إلا أنّه كان يحمّل نفسه أقسي حالات الجوع، وكثيراً ما كان يتفق أنّه

صلي الله عليه وآله لم يتناول طعاماً لوجبات متتالية ثمّ يتوافر لديه المال أو الطعام فيسرع إلي التصدّق به أو إهدائه لمن يصادفه من الفقراء به.

وطالما اضطرّ صلوات الله وسلامه عليه وآله إلي شدّ ما كان يعرف ب (حجر المجاعة) علي بطنه لشدّة ضغط الجوع عليه.

نعم، لقد كان النبي صلي الله عليه وآله، وهو أشرف الأوّلين والآخرين وقائد المسلمين وزعيم الحكومة الإسلاميّة العادلة، يتّخذ هذا السلوك وهو في أوج السلطة والاقتدار.

ولقد ورد في الروايات عن أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أنّ الجوع الذي كان يعانيه النبيّ في مدّة إقامته في المدينة المنوّرة يصل حداً لا تنفع معه مختلف التدابير ومحاولات التحمّل.

فقد أخبر صلي الله عليه وآله ذات يوم ابنته فاطمة الزهراء سلام الله عليها قائلاً:

«ما دخل جوف أبيك منذ ثلاث شيءٌ».

مثل هذا الإنسان الربانيّ الخالص، يتوجّه بالنصح لأبي ذر رضوان الله تعالي عليه بأن يعي قَدْر نعمة الغني قبل أن يحلّ به الفقر علي حين غرّة.

روي عن الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه أنه قال:

«نزل جرئيل علي رسول الله، فقال: إنّ الله جلّ جلاله يقرئك السلام ويقول لك: هذه بطحاء مكة؛ إن شئت أن تكون لك ذهباً.

قال: فنظر النبيّ إلي السماء ثلاثاً ثمّ قال: لا ياربّ، ولكن أشبع يوماً فأحمدك، وأجوع يوماً فأسألك»

نعمة الفراغ

قال رسول الله صلي الله عليه وآله بعد ذلك:

«وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».

إنّ ابن آدم يعجز عن فعل شيءٍ بعد الموت، ويفقد القدرة حتي علي قول «لا إله إلا الله» ويعجز عن التصدّق بأبسط الصدقات، ولذلك أضحي من الضروري والمنطقي أن يغتنم حياته بأفضل الأشكال، لأنّ المنتصر الوحيد هو من يستثمر جميع أوقاته خلال حياته المسارعة إلي الانقضاء.

المبادرة إلي تحقيق الأهداف

المبادرة إلي تحقيق الأهداف

«يا أبا ذر، إيّاك والتسويف بأملك، فإنّك بيومك ولستَ بما بعده. فإنْ يكن غدٌ لك، فكن في الغد كما كنت في اليوم، وإنْ لمْ يكنْ غدٌ لك، لم تندم علي ما فرّطتَ في اليوم.

يا أبا ذر، كم مِن مستقبلٍ يوماً لا يستكمله، ومنتظرٍ غداً لا يبلغه!!».

يوجّه الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله الصحابيّ الجليل أباذر بأن يعمل وكأنّه يعيش في آخر يوم من حياته، بحيث لو عاش في غد لا يستولي عليه الندم في كونه ترك فرضاً أو عبادة فاتته في الأمس، أو عملاً صالحاً بعينه لم يمارسه، أو ارتكب معصية بحقّ الله تعالي أو أذي بحق إنسان صدر منه.

وقد ذكر الرسول صلي الله عليه وآله الأماني ههنا من باب المثال، والغرض هو أن يتأمّل الإنسان في حياته وأن يكون قصير الأمل، لأنّه لا يدري هل سيعيش غداً؟

لقد مضي علي رحيل أبي ذر حوالي (1400) عام، لكن اسمه ووصية النبي الأكرم صلي الله عليه وآله ما يزالان خالدين في الأذهان. لقد التزم أبو ذر بوصيّة سيّده ومولاه، فأصبح اسمه لامعاً مشرقاً في كتب التأريخ والتفسير والثقافة.

لقد رحل أبو ذر وانتهت حقبته، وجاء الدور إلي أُناسٍ آخرين، فما هي مدي وكمية استفادة هؤلاء من ثروة أعمارهم وفرصهم في الحياة؟

قصة وعبرة

قصد أحدهم المرحوم آية الله العظمي السيّد الميرزا مهدي الشيرازي قدس سره وطلب منه أن يكلّف شخصاً كي يصلّي نيابة عن جدّه صلاة الاستئجار ويصوم عنه شهراً كاملاً، وقال: لقد أوصي جدّي قبيل وفاته أن يباع بيت من بيوته ويخصّص ثمنه للصلاة والصوم نيابة عنه، ولكنّ أيّاً من الورثة لم ينجز هذه الوصية، ولكنني أريد الآن القيام بذلك بعد حوالي سبعين سنة وأن أعمل بوصيّته. فمع أنّه

ترك أموالاً كثيرة لورثته، لكنه لم يطلب أكثر من أن تباع إحدي دوره للصلاة والصوم نيابة عنه.

لقد رُزق هذا الشخص حفيداً صالحاً، وإلا كان سيحرم حتي من صلاة وصيام هذه السنة كما هو حال كثيرين.

ويُنقل عن شخص آخر أنّه كان مستطيعاً لأداء فريضة الحجّ، ولكنه لم يفعل ذلك. وحينما أحسّ باقتراب الأجل منه أوصي أن يحجّ ابنه عنه، ولكن المؤسف أنّه لم يكن ابناً باراً، فلم ينفّذ وصيّة أبيه، وحينما كان يسأل عن تقصيره في تنفيذ وصيّة أبيه، كان يردّ قائلاً: لمَ لم يحجّ في حياته، لا شأن لي بذلك!!

أقول: إنّ الإنسان ما دام يتمتّع بفرصة الحياة، فإنّ من الحريّ به أن يهتمّ بإعمار آخرته، وإن استطاع جدلاً أن يهجر النوم والطعام في سبيل ذلك، فعليه أن يفعل وإن كان لا مناص له منهما؛ إذ بدون النوم لا يستطيع مواصلة العبادة أو الدراسة أو الكتابة، ما يعني ضرورة الاقتصار علي الحدّ الأدني من المنام والطعام وغير ذلك، كمن يقصد المستشفي، فيُرقده الأطباء فيها للعلاج، ولكنّه مع ذلك ليس علي استعداد لأن يبقي لحظة إضافية في هذا المكان علي الوقت اللازم، وإن كان البقاء مجانيّاً. والنوم والطعام واللباس كذلك شأنها؛ أي ينبغي الاستفادة بحدود الضرورة، مع الأخذ بنظر الاعتبار لزوم مراعاة الآخرين ومداراتهم في بعض الأحيان، ومثاله: إذا حلّ ضيف علي إنسان فإنّه يجب عليه مداراة الضيف إلي الحدّ الممكن. ولكن هذه الوصايا متعلّقة بحالة كون الإنسان وحيداً، فمن المفترض أن يسعي للاكتفاء بالحدّ الأدني من الاستفادة من النوم والطعام ما أمكنه.

يُنقل أنّ قوماً كانوا يعيشون علي ساحل البحر، وكان من شأنهم أنهم ينتخبون لأنفسهم ملكاً يحكمهم في كلّ سنتين، ولم تكن تهمّهم حقيقة من يحكمهم،

سواء كان حمّالاً أو بقّالاً أو عالماً، شابّاً أو شيخاً، وكانوا يخبرونه بأنّهم سيطيعونه طاعة مطلقة خلال هاتين السنتين، ولكنّهم يقومون برميه في البحر عند انقضاء المدّة، ولذلك قلَّ أن يتقدّم شخص لتقبّل المنصب، إلا أنّ حكيماً مفكّراً أعلن استعداده لأن يكون ملكاً عليهم. فكان له ذلك، وخلال السنتين أرسل جمعاً من أفراد حاشيته ليعثروا له علي جزيرة مناسبة للعيش، وأن ينقلوا إليها وسائل لإقامة العيش الرغيد، كما أمر بتشييد البساتين والمزارع فيها، وصنع الزوارق للانتقال إليها، وقام بإخفائها في ناحية من نواحي الشاطئ. وحينما انقضت سنتا حكومته رماه الناس إلي البحر، فأوصل نفسه إلي الزوارق وقصد الجزيرة وأمضي بقيّة عمره فيها.

فتلك السنتان هما الدنيا، وتلك الجزيرة هي الآخرة. والإنسان إذا عمّر مئة عام، فإنّها تعدل تلك السنتين، ثمّ يرمي إلي البحر، وفيه قد يكون من نصيب الحيتان المفترسة. فإن لم يكن من أهل المعاصي، فإنّه يتحسّر علي ما فرط منه فقط، ولكنّه إن كان من أهل المعاصي والعياذ بالله فإنّ الحسرة ستمتزج بالعذاب الإلهي.

إنّ قول ذلك سهل علي اللسان ولكن ما أصعبه في الواقع!

فمثلاً: إذا سافر شخص ثمّ تنبّه إلي أنّه قد نسي وسائل السفر ومتطلّباته، فهو لاشكّ سيتحسّر لذلك، مع أنّه يستطيع توفير تلك الوسائل لاحقاً بواسطة مكالمة هاتفية أو إرسال برقيّة، ولكن في سفرة الموت ينتهي عنده كلّ شيءٍ، ومن كان من أهل العصيان سيتأكّد بأنّه قد قُضي عليه ويعجز عجزاً مطلقاً عن فعل شيءٍ ما، وتبدأ إذ ذاك مأساته.

التعجيل بالتوبة

ما دام ابن آدم حيّاً، فإنّ باب التوبة مشرع لديه، فيمكنه أن يصلح ماضيه ويضع نفسه في طريق السعادة والتكامل.

وبهذا الصدد، يؤكّد الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله:

«إنّ الله تعالي يتوب علي

عبده قبل سنة من موته، بل سنة كثير، إنّه يتوب عليه قبل شهر، بل شهر كثير، إنّه يتوب عليه قبل أسبوع من موته، بل أسبوع واحد كثير، إنّه يتوب عليه قبل يوم، بل يوم كثير، إنّه يتوب علي ابن آدم قبل لقائه ملك الموت إن تاب واستغفر …».

أي: إنّ الله تعالي يقبل التوبة من العبد حتي قبيل نظره إلي عالم الآخرة بلحظة، ولكن لا ينبغي التسويف في التوبة وإيكالها إلي الغد وما بعده، إذ ما هي الضمانة لديه في أن يبقي حيّاً إلي الغد؟ وهل الذين ماتوا كانوا يعلمون بموعد انقضاء آجالهم؟

إنّ من المستحسن أن يزور الإنسان القبور، ليعلم أنّ أهلها نائمون تحت أكداس من التراب، وكان فيهم من هو أعلم وأذكي وأغني وأقوي وأكثر أو أقلّ عمراً منه. فكلّ واحد منهم كان يمنّي نفسه بالعديد من الأماني، ولكن ما هي النهاية التي انتهي إليها؟ وهل حقّق جميع الموتي أمانيهم؟

يقول الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله: «إيّاك والتسويف» فلْيمتنع من يظنّ في نفسه العقل والإرادة عن التباطؤ في إعلان التوبة ومشروع الإصلاح النفسي.

يروي أنّ عمر بن سعد لعنه الله قال أبياتاً من الشعر بعد أن عزم علي حرب الإمام الحسين سلام الله عليه؛ منها قوله:

فإن صدقوا فيما يقولون إنني أتوب إلي الرحمن من سنتين

فهل تاب حقّاً؟ وهل كانت ستنفعه توبته المزعومة؟ علماً أنّ الله تعالي لا يتجاوز عن حقّ المظلوم.

وإذا كان الله تبارك وتعالي هو العادل و إنّ اللهَ لا يَظْلمُ مثقالَ ذرّةٍ فإنّه ينبغي الخوف والحذر من عدل الله. فهو لا يتجاوز عن مظلمة صغيرة لعباده، ولا يقبل في ذلك عذراً أو تبريراً.

بعض الظالمين يردّد مقولة «المأمور معذور» وهي مقولة خاطئة إذا اُريد منها

الإطلاق، ولا تكون مقبولة إلاّ في منطق الطغاة، كفرعون ويزيد وهارون العباسي، غير أنّ الأمر ليس علي هذا النحو في منطق الرسول المصطفي صلّي الله عليه وآله ومنطق القرآن الكريم ومنطق الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه وعباد الله الصالحين.

فالمهمّ هو الآمر من يكون، وهل أمره حقّ؟ فعندما يكون المأمور كأبي ذر رضوان الله تعالي عليه والآمر الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله، فهنا ليس المأمور معذوراً فحسب، بل هو مأجور أيضاً.

أما المأمور من ناحية سلطان الجور، فإنّ جميع أعماله وإن كان ظاهرها صالحاً هي في عداد الباطل والإثم.

علي سبيل المثال: لا فضيلة في الإسلام كعمارة المساجد؛ إذ ورد في القرآن الكريم والروايات الشريفة أنّ في بناء المساجد فضائل جمّة، ذلك لأنّها محالّ العبادة والدعاء والتوبة والاعتكاف وغير ذلك، لكننا نلاحظ أنّ الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه يقول لأحد أصحابه:

«لا تُعنْهم ¬ الطغاة والظلمة¬ علي بناء مسجد».

إنّ القضيّة مهمّة للغاية وخطيرة، فحتّي إذا بني شخص ما للظالم مسجداً أو داراً للأيتام أو حسينيّة، فلا يقبل منه، لأنّ عمله هذا يوجب تقوية ودعم المؤسّسة الظالمة علي الصعيد الدعائي ومحاولة خداع الناس، ولذلك لُعنت بعض المساجد في بعض الروايات المرويّة عن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام!!

أقول: هناك من بين آلاف الرواة الشيعة عدّة مئات من هم في عداد الثقات ومحطّ الاعتماد، ومن بين هؤلاء عشرات أفضل من الآخرين، ولعلّ من بين هؤلاء العشرات من يوصفون بأنّهم خيرة الخيرة، وقد كان أحد هؤلاء رجل يدعي صفوان بن مهران الجمّال.

كان لصفوان هذا جمال كثيرة يكسب رزقه بما يعود عليه من مال إجارتها. ذات يوم استأجر هارون العباسي جمالاً منه.

يقول صفوان: دخلت علي أبي الحسن الأول (موسي بن جعفر

سلام الله عليه) فقال لي: يا صفوان، كلّ شيء منك حسن جميل، ما خلا شيئاً واحداً. فقلت: جعلت فداك، أيّ شيء؟ قال: إكراوك جمالك هذا الرجل يعني هارون.

قلت: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا لصيد ولا للهو، ولكني أكريته لهذا الطريق، يعني طريق مكّة، ولا أتولّيه بنفسي، ولكني أبعث معه غلماني.

فقال لي: يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟

قلت: نعم، جعلت فداك.

فقال لي: أتحبّ بقاءهم حتي يخرج كراؤك؟

قلت: نعم.

قال: فمن أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان وروده في النار.

قال صفوان: فذهبت فبعت جمالي عن آخرها. فبلغ ذلك الي هارون، فدعاني فقال لي: يا صفوان، بلغني أنك بعت جمالك. قلت: نعم. قال: ولم؟ قلت: أنا شيخ كبير وإن الغلمان لا يفون بالأعمال. فقال: هيهات هيهات، إني لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسي بن جعفر سلام الله عليه. فقلت: ما لي ولموسي بن جعفر سلام الله عليه! فقال: دع هذا عنك، فو الله لولا حسن صحبتك لقتلتك».

التفكر في الموت والقيامة

التفكر في الموت والقيامة

«يا أبا ذر، لو نظرتَ إلي الأجل ومصيره لأبغضتَ الأملَ وغرورَه.

يا أبا ذر، كنْ كأنّك في الدنيا غريب، أو كعابر سبيل، وعدَّ نفسَك من أصحاب القبور».

إنّ الأجل هو اللحظة التي يغادر فيها الإنسان دنياه. فهو بعد طيّ مسيره الدنيوي يصل إلي مصيره الأخروي، وهذه خاصيّة الإنسان، إذ الحيوانات لا (مصير) لها.

فالأجل هو أوّل الآخرة وخاتمة الدنيا، وتبدأ عمليّة الحساب بعد الممات مباشرة، والقبر هو المصير الأوّل:

«القبر إمّا روضةٌ من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران».

والمصير الذي يلي القبر هو يوم القيامة. أما المصير النهائي فهو إمّا الجنّة أو النار.

هناك كثير من الناس يبذلون ما يستطيعون من الجهد خلال فترة شبابهم وقوّتهم، ولا يريحون أنفسهم إلا

قليلاً، ولكنّهم يضحّون ب (مسيرهم) لحساب (مصيرهم)، كما أنّ كثيراً من الناس يقضون (مسيرهم) باللهو واللغو ويقولون: ليكن (المصير) ما يكون!!

إنّ الطفل الذي يعِدُه أبوه بالجائزة إن استحمّ وتنظّف، يدرك علي مستواه معني وضرورة التضحية بالمسير لصالح المصير، أي أنّه يتحمّل إزعاج الاستحمام من أجل الوصول إلي الجائزة الموعودة، إلا أنّ كثيراً من الكبار مع الأسف يضحّي بالمصير من أجل المسير.

إذا فكّر ابن آدم في عاقبة الأمر وتساءل مع نفسه عمّا سيكون مصيره؛ الجنّة أو النار، حيث مطلق النعيم أو مطلق العذاب والسخط، فإنّه لن يغفل بعد ذلك عن ذكر الله تعالي، ولن تخدعه أمانيه، وسيقول لنفسه: إنّ أولئك الذين قضوا نحبهم كانت لهم آمالهم، الصغير منهم والكبير، ولكنهم رحلوا جميعاً مع أمانيهم وآمالهم.

وحين يفكر الإنسان بهذه الطريقة المتعقّلة، سيهجر أمانيه. لاشك أنّ مجرد التمنّي ليس أمراً معيباً، ولكن ما يعتوره من الكذب والغرور يجرّ ابن آدم إلي حيث وادي الغفلة والجهل والضياع.

الغربة في الدنيا

يقول النبيّ صلي الله عليه وآله:

«يا أبا ذر، كن كأنّك في الدنيا غريب …»

كما أنّ الفرد الذي يعيش في بلاد الغربة، ويجهل قوانينها، ولا يعرف لغتها، يستعلم من الناس عمّا يحتاج إليه من إعداد المسكن والطعام، ويسأل أهل الخبرة والعلم عن كلّ شيءٍ يشكّ فيه. فكذلك ينبغي أن يكون حال ابن آدم في غربة الدنيا، فإن لم يعلم أمراً، وجهل حكمه الشرعي، فعليه أن يتورّع عن الخوض فيه حتي يسأل أهل الخبرة والعلم، من أئمة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم، إذ يجب أن يسأل هؤلاء عن السلعة المرغوبة في سوق الآخرة، فيحملها إليها من دار الدنيا.

وواقع الأمر يؤكّد ضرورة أن تكون جميع أعمال المؤمنين محطّ تأييد ورضا أهل البيت سلام الله

عليهم، وأنّ الخاسر هو من يقضي عمره في ممارسة أعمال يظنّها صالحة وما هي كذلك لأنّها لا تحظي برضا الربّ المتعال في الدار الآخرة، ولم تكن موضع تأييد المعصومين عليهم الصلاة والسلام.

إنّ الله تعالي جعل رسوله المصطفي وأهل البيت سلام الله عليهم طرقاً مضيئة إلي إنجاز أعمال الخير والصلاح، وهؤلاء لا انفصام بينهم، إذ لابدّ من الالتزام بأوامرهم جميعاً لممارسة الدين.

وفي عصر الغيبة غيبة إمام الزمان عجل الله تعالي فرجه الشريف يلزم الرجوع إلي الفقهاء الذين لهم آراؤهم المستقاة من القرآن والسنّة، بعد أن يفرغوا كلّ جهدهم في هذا السبيل.

علي سبيل المثال: كان المرحوم آية الله العظمي السيّد مهدي الشيرازي يجلس من أجل البحث في قضية استفتائيّة إلي عدّة من المراجع والمجتهدين في عصره، مثل المرحوم السيّد حسين القمّي والسيّد محمد هادي الميلاني والميرزا الأصفهاني وزين العابدين الكاشاني، وقد يقضون في مسألة واحدة أسبوعاً من التفكّر والتأمّل؛ كلّ ذلك من أجل إحراز أكبر نسبة من الحقيقة والواقع الشرعي.

ثم قال صلّي الله عليه وآله: «أو كعابر سبيل».

إذا أراد شخص ما التوجّه من مدينة إلي أخري، فإنّه لا يهتمّ للطريق الرابط بينهما إلا بما يضمن عبوره بسلام، دون الالتفات إلي خصوصيّات المناطق الكائنة فيه، إذ إنّ ما يتعلّق به هو سرعة وسلامة الوصول، وهكذا أراد النبيّ المصطفي صلي الله عليه وآله للإنسان أن ينظر إلي الدنيا كما ينظر المسافر إلي الطريق، فلا تشغله الجادّة عن الوصول إلي المقصود.

وقال صلّي الله عليه وآله: «وعدّ نفسك من أصحاب القبور».

أي لا تلجئ نفسك إلي الارتباط بالدنيا طرفة عين، وتخيّل أنّك تعيش آخر أيّامك بل تصوّر أنّك قد وُضعت في القبر، وأُهيل عليك التراب، وبقيتَ وحيداً مع أعمالك، وأنّ أهلك وأصحابك

قد تركوك.

ذُكر في كتب المواعظ والإرشاد: أنّ شابّاً من الأنصار كان يأتي عبد الله بن عباس، وكان عبد الله يكرمه ويدنيه، فقيل له: إنك تكرم هذا الشاب وتدنيه، وهو شابّ سوء يأتي القبور فينبشها بالليالي! فقال عبد الله بن عباس: إذا كان ذلك فأعلموني. قال: فخرج الشابّ في بعض الليالي يتخلّل القبور، فأُعلم عبد الله بن عباس بذلك، فخرج لينظر ما يكون من أمره، ووقف ناحية ينظر إليه من حيث لا يراه الشاب، قال: فدخل قبراً قد حفر، ثم اضطجع في اللحد، ونادي بأعلي صوته: يا ويحي إذا دخلت لحدي وحدي، ونطقت الأرض من تحتي، فقالت: لا مرحباً بك ولا أهلاً، قد كنت أبغضك وأنت علي ظهري، فكيف وقد صرت في بطني! بل ويحي إذا نظرت إلي الأنبياء وقوفاً، والملائكة صفوفاً، فمن عدلك غداً من يخلّصني؟ ومن المظلومين من يستنقذني؟ ومن عذاب النار من يجيرني؟ عصيت من ليس بأهل أن يعصي، عاهدت ربّي مرّة بعد أخري فلم يجد عندي صدقاً ولا وفاءً.

وجعل يردّد هذا الكلام ويبكي. فلما خرج من القبر التزمه ابن عباس وعانقه، ثم قال له: نعم النباش، نعم النباش، ما أنبشك للذنوب والخطايا، ثم تفرّقا.

نعم! إنّ شابّاً ينشغل بذكر الموت والآخرة لذو حظٍّ عظيم، ولعمله هذا قيمة كبري.

الحذر من الصرعة عند العثرات

الحذر من الصرعة عند العثرات

«يا أبا ذر، إيّاك أن تدركك الصرعة عند العثرة، فلا تُقال العثرة، ولا تُمكّن من الرجعة، ولا يحمدك من خلّفتَ بما تركتَ، ولا يعذرك من تَقدّم عليه بما اشتغلت به».

العثرة والصرعة

العثرة بمعني السقوط إلي الأرض، وهي أمر طبيعي في حياة الإنسان، لأنّه ليس كائناً معصوماً، لاسيما وأنّه كثيراً ما تبهره زخارف الدنيا وزينتها، ولذلك يقترف الذنوب، ويتعدّي علي حقوق الله أو الناس.

والنبيّ صلي الله عليه وآله يوصي أبا ذر رضوان الله تعالي عليه ويذكّره خطر العثرة والسقوط، لئلاّ تتبدّل عثرته إلي صرعة.

إنّ من السقطات الصغيرة التي يتعرّض لها الإنسان في الدنيا ما تعيقه وتعجزه عن القيام مرّة أخري، شأنه في ذلك شأن المصاب بمرض بسيط، ولكنّه يغفل عن معالجته حتي يستفحل عليه ويتسبّب له بأمراض خطيرة ومميتة.

إلا أنّ ما يقصده النبي الأكرم صلي الله عليه وآله من تحذيره أبا ذر من السقوط، ليس هو السقوط الجسماني والمادّي منه، بل هو السقوط المعنوي، وإذا ما حدث ذلك، فينبغي الإسراع إلي معالجة الأمر، لئلاّ يتحوّل إلي صرعة دائمة مميتة.

قد يحدث أن يصاب جسم الإنسان بجرح عميق، ولكن من شأن هذه الإصابة أن تلتئم في حال المعالجة والعناية الدقيقة، وهكذا هو شأن العثرة المعنويّة، فالذنب والسقوط، مهما عظم وكبر، فإنّ رحمة الله المطلقة وعفوه اللامحدود يُجبران زلّة الإنسان، إن هو أراد التوبة، أمّا إذا عتا واستكبر، فسيذوق وبال أمره، عاجلاً أم آجلاً.

إنّ الحجّاج بن يوسف الثقفي لم يكن شخصاً مجرماً قاتلاً في بداية حياته، بل قيل إنّه كان من أهل الصلاة والصيام، بل كان إماماً للجماعة، فكيف تحوّل هذا الشخص إلي طاغية جبار كما هو معروف عنه؟!

لقد أصبح الحجّاج حاكماً دموياً بفعل عثراته المتعاقبة وغفلاته المتتالية، حتي كانت

عاقبة عثرته الأولي صرعة قاضية في نهاية المطاف.

لهذا وغيره، أوصي أهل البيت سلام الله عليهم أصحابهم مراراً وتكراراً أن يحاسبوا أنفسهم كلَّ يوم. وقد أورد علماؤنا الأعلام ومحدّثونا العظام في كتبهم مثل: أصول الكافي، وبحار الأنوار باباً تحت عنوان «باب محاسبة النفس كل يوم». وهذه الوصايا الكريمة كلّها من أجل الحذر من العثرة، ولئلاّ تُبدّل والعياذ بالله إلي صرعة.

وأكثر من ذلك، هناك من العثرات الفرديّة ما يسري خطرها إلي الجماعة، فمثلاً: إذا كان ربّ البيت سيّئ الخُلُق، فإنّه سيؤثّر شيئاً فشيئاً في سائر أفراد الأسرة. وهكذا سيكون تأثير سوء الخلق لدي الحاكم أو المسؤول أكثر بكثير منه في الأفراد العاديين في المجتمع. كما أنّ الخطر الذي يحدق بالمتسلّق الواقف علي قمّة الجبل، أكثر بدرجات من الخطر الذي يهدّد من لم يبدأ الصعود بعد. ولذلك كان الحذر المطلوب من الأوّل أكثر أيضاً، ومن ثم لو زالت قدمه قليلاً، فعليه الإسراع والمبادرة إلي تدارك موقفه، والرجوع بقدمه إلي حيث كانت، وإلا فإنّ الهلاك والموت مصيره المحتوم.

الصرعة بعد النبي

لقد أعقبت عثرة الناس بعد وفاة الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله عندما نكثوا بيعتهم لأمير المؤمنين علي سلام الله عليه صرعة لا تجبر، إذ لو كان الإمام سلام الله عليه قد أمسك بالحكم في تلك المدّة التي دامت خمساً وعشرين سنة بعد رحيل النبيّ الأكرم صلي الله عليه وآله فإنّ ظلماً واحداً ما كان ليقع، ولعاش الجميع وكذلك الأجيال المتلاحقة بنعمة الرفاه والسلام والاستقرار.

لقد أدّت عثرة إبعاد أمير المؤمنين سلام الله عليه عن السلطة والخلافة إلي صرعة تخطّي الطريق الذي رسمه النبيّ صلّي الله عليه وآله، وإعادة الناس باسم الإسلام إلي الجاهلية العمياء. فالعثرة التي حدثت بعد الرسول الأعظم صلّي

الله عليه وآله أهلكت جماعةً، وساقت جماعات آخرين باتجاه طريق الدمار تحت شعارات دينية في ظاهرها، دنيوية في باطنها. وقد تطرّقت روايات أهل البيت سلام الله عليهم إلي حقيقة أن مردّ جميع ما وقع ويقع من الظلم إلي أُولئك الذين حالوا دون العمل بوصيّة رسول الله صلي الله عليه وآله الخاصّة بالسلطة والخلافة الحقّة، حيث كان من المفترض أن يخلف النبي صلّي الله عليه وآله من له الحقّ الإلهي في ذلك، وأن تتجنب الأمّة الانحراف، وتتّقي العثرة، لئلا تتحوّل الي صرعة.

عامل بني أمية والنجاة من الصرعة

علي بن أبي حمزة البطائني قال: كان لي صديق من كتّاب بني أمية، فقال لي: استأذن لي علي أبي عبد الله سلام الله عليه فاستأذنت له فلما دخل سلّم وجلس ثم قال: جعلت فداك إني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً وأغمضت في مطالبه. فقال أبو عبد الله سلام الله عليه:

«لولا أنّ بني أمية وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفي ء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقّنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئا إلا ما وقع في أيديهم».

فقال الفتي: جُعلت فداك، فهل لي من مخرج منه؟ قال:

«إن قلت لك تفعل؟»

قال: أفعل. قال:

«اخرُج من جميع ما كسبت في دواوينهم، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدَّقتَ به، وأنا أضمن لك علي الله الجنّة».

قال: فأطرق الفتي طويلاً فقال: قد فعلت جُعلت فداك.

قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتي معنا إلي الكوفة، فما ترك شيئاً علي وجه الأرض إلا خرج منه حتي ثيابه التي كانت علي بدنه.

قال: فقسمنا له قسمة واشترينا له ثياباً وبعثنا له بنفقة.

قال: فما أتي عليه أشهر قلائل حتي مرض، فكنّا نعوده.

قال: فدخلت عليه

يوماً وهو في السياق ففتح عينيه ثم قال: يا عليّ وفّي لي والله صاحبك.

قال: ثم مات، فولينا أمره، فخرجت حتي دخلت علي أبي عبد الله سلام الله عليه فلما نظر إلي قال:

«يا عليّ وفينا والله لصاحبك».

قال: فقلت: صدقت جُعلت فداك، هكذا قال لي والله عند موته.

وكيل الإمام يسقط في الصرعة

وأمّا علي بن أبي حمزة البطائني فقد بلغ من أمره أن انقلبت عثرته إلي صرعة!

فهو كان وكيلاً للإمام جعفر الصادق سلام الله عليه، وبعده أصبح وكيلاً للإمام موسي بن جعفر سلام الله عليهما، وحينما كان الإمام الكاظم رهين الحبس، جمع ابن أبي حمزة أموالاً كثيرة باسم الإمام، وبعد استشهاد الإمام الكاظم وانتقال الإمامة إلي الإمام علي الرضا سلام الله عليه، أعلن ابن أبي حمزة التمرّد وعدم اتّباع الإمام الرضا، وذلك لأنّه كان يعلم بأنّ إقراره بإمامة الإمام الرضا يعني ضرورة وجوب إعادة الأموال (الوجوه الشرعية) إلي إمامه الواجب الطاعة، لكنه اختار العمي علي البصيرة وهو الذي كان قد ساهم في إنقاذ كثير من الناس من ظلمات الضلالة فاختار لنفسه مذهباً سُمّي فيما بعد بمذهب الوقف، أي إنّه وبعض من تبعه ممّن سقطوا في حضيض الضلال، وقفوا بالإمامة عند الإمام موسي الكاظم سلام الله عليه، مغلّفين ذلك بأغلفة عقائدية وفكرية باطلة.

والحال أنّه من المفترض المبادرة إلي قطع طريق الضلالة والذنوب، لأنّ من يكذب مثلاً يضطرّ للتغطية علي كذبته الأولي إلي الانغماس في كذبة أخري، فيتكاثر عليه الكذب، وتتوالي عليه العثرات، حتي تصرعه فيهلك، كما هلك ابن أبي حمزة.

وكما أنّ جراح الجسد لابدّ من معالجتها سراعاً، لئلاّ يضطرّ صاحبها إلي بتر عضو من أعضائه نتيجة الإهمال، فكذلك هي الجراح النفسية والدينية والاجتماعية؛ ما لم تتمّ مداواتها بالسرعة القصوي، فإنّها تنتهي بأصحابها

إلي المهلكة.

ينبغي أن يتمّ التأكّد والتحرّز من أبسط قضايا الحياة ومشاكلها، للحيلولة دون الوقوع في المحارم والمآثم، فمن كان مجتهداً، عليه أن يجتهد، ومن كان مقلِّداً، عليه أن يسأل مرجعه، لكيلا تتحوّل عثرته إلي صرعة تقضي عليه نهائياً.

قيمة العمر

قيمة العمر

«يا أبا ذر، كن علي عمرك أشحَّ منك علي درهمك ودينارك.

يا أبا ذر، هل ينتظر أحدٌ إلا غنيً مطغياً، أو فقراً منسياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجّال؛ فإنّه شرُّ غائب ينتظر، أو الساعة.. فالساعة أدهي وأمرُّ»؟!

في هذه الفقرة تمّ الانتقال من صيغة المخاطب إلي صيغة الغائب؛ وذلك لأنّ أبا ذر رضوان الله تعالي عليه ليس مصداقاً للمقطع الثاني.

يتساءل النبي صلي الله عليه وآله من أبي ذر: ماذا ينتظر من لا يعرف قيمة عمره ويبادر إلي اصلاح أمر آخرته قبل فوات الأوان، ونراه يسوّف في ذلك؟ أينتظر أن يكون غنيّاً للقيام بذلك، والحال أنّ الثروة تأتي بالطغيان؟ أم ينتظر الفقر بدعوي أنّه حين الغني لا مجال له للعبادة والعمل بينما الفقر يتسبّب عادة بالنسيان ومنه نسيان أو نكران النعم الأخري؟ أم ينتظر المرض، والمرض بطبعه يتسبّب بفساد البدن؟ أم ينتظر الشيخوخة، وهي تنتهي بابن آدم إلي الضعف والعجز؟ أم ينتظر الموت الذي يقضي عليه؟ أم ينتظر ظهور الدجّال وقيام القيامة؟

كنّي النبي صلي الله عليه وآله بما سبق للإشارة إلي بطلان التسويف وأنّ الإنسان لا ينبغي له أن ينتظر حتي حصول حوادث كهذه، بل عليه المبادرة إلي إصلاح أمر الآخرة، بما يتضمّن ذلك اقتناص فرصة العمر التي لا تقدّر بثمن، وأن لا يؤجّل عمل اليوم إلي غد، ولا يقول مسوّفاً: إن أصبحت ثريّاً سوف أستخدم ثرائي في سبيل الله، لأنّ من طبيعة الغني

الطغيان. كما لا ينبغي أن يؤجّل التوبة وذكر الله تعالي إلي وقت المرض بدعوي أنّ الحاجة إذ ذاك ملحّة، لأنّ المريض بالأصل يكسل أو يضعف عن ذلك. كما أنّ الغنيّ بدوره لا يصحّ منه القول بأن لا فرصة لديه لعمل الخير والمستحبّات، وأنّه إذا ما افتقر، التفت إلي العبادة وإيتاء المستحبّات، وأنّ المرحلة مرحلة بيع وشراء وتدوين وحساب، دون أعمال الخير والمستحبّات.

فالنبيّ الأكرم صلي الله عليه وآله يؤكّد في هذه الفقرة من وصيّته المباركة علي بطلان انتظار إعمار الآخرة، ويتساءل عمّا ينتظره الشخص المسوِّف، أينتظر أن يتبدّل فقره غنيً؟ بينما الغني يوجب الطغيان عادةً، أم ينتظر أن يتبدّل غناه فقراً؟ والفقر يُنسي صاحبه؛ وعليه لا يصحّ تأجيل العمل الصالح.

فمن كان في ذمّته حقّ من حقوق العباد، فعليه صناعة الفرصة، أو اقتناص أوّل فرصة لأدائه والتوبة عن ذنبه والتصميم علي جبران ما فاته.

ومن كان قادراً علي مساعدة الآخرين، فليهجر التقاعس، وهكذا الحال بالنسبة للشخص القادر علي التأليف والنشر والتوزيع؛ لينهض بالمستوي الحضاري والثقافي للناس، ومن كان قادراً علي العبادة فعليه أن يعبد.

وبكلمة أوضح: من أتيحت له الفرصة في إعمار آخرته، فليس له التأخّر والتكاسل عن ذلك، فقد لا تؤاتيه الفرصة مرّة أخري.

البخل بالعمر

الفقرة الثانية من العبارة توضيح وتفصيل للفقرة الأولي.

ففي الأولي قال النبي صلي الله عليه وآله:

«يا أبا ذر، كن علي عمرك أشحّ منك علي درهمك ودينارك»

وفي الثانية تمّ التطرّق إلي أضرار عدم اغتنام فرصة العمر، إذ لا ضمانة في جبران خسائر الأمس. ويبدو أنّ هذا هو المورد الوحيد في الروايات الشريفة، تمّ فيه التوصية بالشحّ.

إنّ البخل بالمال صفة معيبة، ذمّتها النصوص الدينيّة وعدّتها سلوكاً قبيحاً، ولكن البخل بالعمر صفة ممدوحة، وقد أوصي بها النبي صلّي

الله عليه وآله صاحبه أبا ذر الغفاري.

وما يلفت الانتباه هنا، هو أنّ الرسول الأكرم صلّي الله عليه وآله قد استخدم مفردة (شحّ) باعتبار أنّ الشخص المبتلي بالشحّ ليس مبتليً بالبخل بأمواله فحسب، بل هو بخيل بأموال غيره أيضاً، حيث يحول دون إنفاق الآخرين أموالهم في سبيل الله تعالي خدمةً ومساعدة لمن حولهم. فإذا رأي شخصاً يتصدّق علي فقير، أو عزم علي إنجاز عمل الخير، سعي حثيثاً لمنعه وتحذيره من الفقر والفاقة، تحت طائلة أهميّة التفكير بتغيّر الأحوال، بدلاً من أن يغبطه علي كرمه والتصميم علي أن ينافسه في أداء أعمال الخير.

مع ملاحظة ذلك، تبدو ضرورة أن يحرص المرء علي عدم التفريط بعمره، لئلا يذهب به سدي ويضيّعه بالباطل. فالشحيح في العمر عمره وعمر الآخرين يستولي عليه الانزعاج إذا رأي غيره يفرّط بعمره. وطبعاً هذه حالة أرقي وأكثر تقدّماً من مجرد الشحّ بالعمر الشخصي، فتري صاحبها لا يتخلف عن توجيه النصح للآخرين بالحرص علي أعمارهم.

روي أنّ الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه أورد في يوم عاشوراء خطبةً بكي لها أعداؤه القتلة، وهم الذين كانوا يصكّون أسماعهم أو يتظاهرون بعدم الالتفات إليه، أو كانوا يجيبونه بقبيح الردّ في أوائل الخطبة ذاتها، وقد قيل في سبب هذا التحوّل أنّ قلب الإمام الحسين سلام الله عليه كان يحترق علي ما يري في الأعداء من تفريط بأعمارهم؛ أعمار كان بمقدورهم أن يجعلوها كأعمار حبيب بن مظاهر أو زهير بن القين، أو الحرّ الرياحي، ولكنّهم أضاعوها، فتأسّف لهم سيّد الشهداء، ولذلك توجّه لهم بالنصح والموعظة.

نبيُّ الرحمة

تبدو العبارة أعلاه غايةً في الصحّة والمصداقيّة، ذلك لأنّ تاريخ المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم مفعم بالرحمة والشفقة، ففي ذلك اليوم الذي تكالب فيه المشركون علي

شخص رسول الله صلي الله عليه وآله لإيذائه وثنيه عمّا أعلنه من أمر النبوّة والرسالة، وحيث عمد فيه أطفال المشركين ونساؤهم علي رجم النبي المصطفي بالحجارة في أزقّة مكّة وشوارعها وإيذائه بشدّة حتي قال:

«ما أوذي نبيّ مثلما أوذيتُ».

وكان بدنه كلّه يتصبّب دماً وألماً … فأنزل الله عزّ اسمه ملائكة من السماء ليعرضوا عليه مساعدتهم، وهو آنذاك بين الموت والحياة بعد شوط من الملاحقة والتنكيل و … ذرفت الدموع منه صلي الله عليه وآله، فقال له ملك من الملائكة عظيم: لو شئت يا رسول الله أضرب بجبال مكّة لتخرّ علي أعدائك، بينما قال آخر: لو أذنتَ لي لزلزت الأرض من تحتهم وأفنيتهم عن آخرهم، ولكن النبي الأكرم صلي الله عليه وآله، وبشفقة متناهية رفض هذه العروض، وتوجّه إلي ربّه الذي زرع فيه الرحمة وعلّمه الشفقه داعياً بالقول:

«اللهم اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون».

بلي، رغم أنّهم كانوا ينصبون أغلظ العداء والضغينة لرسول الله صلّي الله عليه وآله، وكانوا يرمونه بالحجارة حتي فضخوا رأسه الشريف أكثر من مرّة، إلاّ أنّه كان يشفق عليهم ويطلب لهم الرحمة والمغفرة، وهذا نموذج غاية في الوضوح من شحّه حيال أعمار أعدائه الألدّاء، وحرصه علي هدايتهم وإرشادهم.

العضّ بالنواجذ علي لحظات العمر

قبل أربعين سنة مضت، كان رجل يعيش في مدينة كربلاء المقدّسة، وكان له بستان كبير خارج المدينة، فقرّر أن يبيعه، فعرض عليه شخص مبلغ ثلاثة آلاف دينار ثمناً لها وكان هذا المبلغ يومذاك من الأهميّة بحيث يمكن أن يشتري به عشر كيلو غرامات من الذهب.

وبعد أن تمّت الصفقة، وحيث كان البائع يسير في الطريق، رآه أحد أقربائه، فسأله عن بستانه، فأخبره أنّه قد باعه بثلاثة آلاف دينار، فتعجّب السائل وقال له: لقد بعتَه بثمن بخس، ولو أنّك

أخبرتني من قبل لعرضت عليك ستّة آلاف دينار! فلم يجبه الرجل وتوجّه إلي بيته، وهناك جلس يفكّر متحسّراً علي ما فرّط في بستانه وكبير الخسارة التي مُنيَ بها، وفي غد ذلك اليوم أصيب بالسكتة القلبية وقضي نحبه، وكان خبر وفاته قد فاجأ وأفجع معارفه، لاسيّما وأنّ موت الفجأة (السكتة القلبية) لم يكن كثيراً في تلك الأيام.

هنا لابدّ من القول بأنّ عمر الإنسان أغلي وأكثر قيمة من البستان وسائر الممتلكات، ولعلّ الأقسي فجيعة أن يتنبه المرء علي حين غرة أنّه قد باع أغلي ما يملك وهو العمر بأبخس الأثمان، والفجيعة والندم والحسرة تتجلّي لصاحبها بوضوح شديد وإن لم يكن من أهل الذنوب والمعاصي، لأنّ إضاعة العمر وحدها تجعل الإنسان يعاني أشد العذاب وأقسي أنواع تأنيب الضمير.

إنّ عمر كل فرد من أفراد الناس تماماً كعمر سلمان وأبي ذرّ وحبيب بن مظاهر وميثم التمار ومسلم بن عوسجة ورشيد الهجري وزرارة ومحمد بن مسلم الطحّان. فالساعات والأيام نفس تلك الساعات والأيام الخاصّة بأعمار هؤلاء العظماء.

لذلك ينبغي التفكير مليّاً في مدي ما نقضيه من أيّامنا علي طريق التقدّم والرقيّ، فذاك الذي باع بستانه بثمن قليل عجز عن المقاومة حتي أصيب بالسكتة القلبية واستسلم، ولكن من قصرت يده عن الدنيا ويمّم وجهه شطر الدار الآخرة، مهما اغتمّ للتفريط بعمره، فإنّه لن يصاب بالسكتة وستكون حسرته حسرة أزليّة!!

لقد ذكرت الروايات، وقبل ذلك الآيات القرآنية الكريمة، أنّ الكافرين والمنافقين والفاسقين سيتحسرون في يوم القيامة علي أنّهم لم يكونوا مؤمنين، والمؤمن المقصّر سيتحّسر علي أنّه فرّط بعمره بنوع من التفريط، وأنّه لم يفد منه حقّ الاستفادة ومنتهاها، لاسيّما وأنّه سيري باليقين أنّ أموراً من قبيل سوء الخلق وممارسة الكذب والخوض في مزيد من اللعب

واللهو هي من مصاديق التفريط بالعمر، وفي المقابل أن ممارسة العبادة الخالصة والاستماع إلي الموعظة والقول الأحسن واتباعهما، والتعلّم كلّها تعدّ من مصاديق الاستفادة الحقّة من فرصة العمر.

إنّ من يجعل للعمر قيمةً باهضة، لن يتساهل في التفريط به، ولن يضيعه دون حساب، فتراه لا ينام أكثر من الحدّ المطلوب، ولا يقضي وقته في الراحة والترفيه إلا ما اقتضت الضرورة القصوي.

تري كيف نعتقد أنّ من يبيع البضائع بأقلّ من ثمن شرائها مجنوناً، في حين لا نعتقد الاعتقاد ذاته بمن يضيع رأس ماله الوحيد في الحياة ووسيلته إلي حيازة الجنّة والرضوان الإلهي الأبدي، بثمن هو عبارة عن اللهو واللعب؟!

الغاية من التعلم

الغاية من التعلم

«يا أبا ذر، إنّ شرّ الناس منزلةً عند الله يوم القيامة: عالمٌ لا ينتفع بعلمه. ومَن طلب علماً ليصرف به وجوه الناس إليه، لم يجد ريحَ الجنة.

يا أبا ذر، من ابتغي العلم ليخدع به الناس، لم يجد ريح الجنة».

يحدّد النبي الأكرم صلي الله عليه وآله لنا في هذا المقطع من الوصيّة الأسوأ بين الناس، حيث يشير إلي أنّ الأسوأ هو من لا ينفعه علمه شيئاً، أو لا ينتفع ممّا تعلّم، أي من يعلم ما هي الموبقات مثلاً ثم يعمد إلي اقترافها. ومن الواضح أنّ مثل هؤلاء الأفراد قد ضلّوا وهم أعجز عن هداية الآخرين.

التعلّم لنيل المناصب

يواصل الرسول المصطفي صلي الله عليه وآله نصيحته لأبي ذر رضوان الله تعالي عليه ولكافّة المؤمنين، فيشير إلي أنّ من طلب العلم للحصول علي المناصب ومغانم الدنيا، فقد حرم نفسه من ريح الجنّة، أي أنّه ليس يُمنع من دخولها فحسب، بل لا يمكنه الاقتراب منها أيضاً.

طبعاً، نلاحظ أنّ أكثر العلماء من الناحية العملية ينالون المناصب الدنيويّة الظاهرية، وأنّهم مع ما يحملون من العلم يتمتعون بمنزلة رفيعة، إلا أن ما يحدّد المصداق لقول النبي الأكرم هو نوع النيّة المبيّتة التي تدفع إلي كسب العلم، ولاشك في أنّ لكلّ فرد من الأفراد دافعه الخاصّ به وراء تحمّل مشاقّ طلب العلم.

ويلاحظ هذا التفاوت أيضاً في مختلف مناحي الحياة. فمن الناس من ينطلق إلي العمل لتأمين معاشه، وآخر يتاجر لأنّه يعلم بأنّ الكاسب بالكسب الحلال حبيب الله، وهو يريد أن يحقّق رضا الربّ المتعال، فالطرفان يصلان إلي أهدافهما، وكل منهما يؤمّن معاشه عن هذا الطريق، ولكن ذلك الذي يقصد السوق تقرّباً إلي الله سبحانه، فإنّ كل عمله ثواب وأجر، ويكون عند الله أحبّ من ذلك

المجرّد عن نيّة التقرّب، وليس له من همّ سوي تأمين معاشه، رغم أنّ ما يقوم به هو أيضاً سلوكٌ مطلوب وممارسة ضرورية.

التعلم وخداع الناس

«من ابتغي العلم ليخدع به الناس لم يجد ريح الجنّة».

النوع الآخر من العلماء الذين لن يجدوا ريح الجنّة ويحرمون من رؤيتها، أولئك الذين يسعون وراء العلم، ولكن هدفهم من التعلّم كسب القدرة علي خداع الناس، وإرادتهم تصيير الباطل حقّاً والحقّ باطلاً.

فالابتغاء يعني الطلب، و «من ابتغي العلم» أي من سعي وراء العلم، وهو بطبيعة الحال يجهد جهده لكسب العلم، إلاّ أنّ دافعه لذلك هو التعلّم لبسط هيمنته علي أذهان الناس ليجرّهم إلي حيث يريد هو، لا إلي حيث يريد الله تعالي.

وليس هذا النوع من الدوافع بالجديد، وإنّما هو دافع عرفه الإنسان منذ القدم، ومثال ذلك ما يعرف بمذهب السفسطائيين والسفسطة حيث تمّ التخطيط لنشر وتوسعة وتفعيل هذا النوع من التفكير لخلط الحقّ بالباطل، والتأسيس للمغالطات الفكرية في القضايا الحقوقيّة، والذين اشتغلوا بهذا الشغل عكفوا علي دراسة الفلسفة والحقوق، فتعلّموا بشكل رسميّ أصول المغالطات، ليلبسوا الحقّ بالباطل أثناء المرافعات القانونية.

مقياس العمل

كثير من الناس يدرسون ويعظون ويهدون الآخرين إلي الصراط السويّ. وكثير من الناس يمارسون الكتابة والتأليف، وكلٌّ منهم يشبه الآخر، ويعمل كلّ منهم حسب الظاهر كما يعمل سواه، غير أنّ العامل الذي يميّزهم شيءٌ يمكن تسميته: (النيّة) وهي التي تفرّق وتميّز الطرفين في حقيقة الأمر أو عالم المعني.

وهناك أربعة عناصر تمثّل ملاكات لتقييم عمل وسلوك الإنسان عموماً، وهي:

1. النيّة.

2. كيفيّة العمل.

3. كميّة العمل.

4. نتيجة العمل.

وجميع هذه العناصر دخيلة ومؤثّرة في تحديد قيمة العمل، إلا أنّ عنصر «النيّة» له من التأثير الكبير ما يفوق غيره من العناصر بصورة مباشرة وحسّاسة.

إنّ النيّة بمثابة الجوهرة الأصيلة والمحور الذي يحدّد لكلّ عمل قيمته المناسبة، والله سبحانه وتعالي من جانبه محيط بجميع النوايا ولا يعزب عنه أمر من الأمور ونيّة من

النوايا. ومن جانب آخر لا مناص من القول بأن توجّهات النفس ومسيراتها الإيجابيّة والسلبيّة لها تأثير بالغ علي طبيعة الحياة الاجتماعية والدينية والسياسيّة للإنسان.

وتعتبر حياة أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله أفضل درس وخير مثال لفهم هذه الحقيقة. فقد كان الأصحاب جميعاً يحيطون بالنبي ويتردّدون عليه ليستلهموا منه القضايا والمباحث العلمية والأحكام والبصائر الدينيّة، ولكن نيّاتهم المخلصة أو غير المخلصة هي التي جذبت كلاً منهم إلي طريق معيّن، وانتهت بهم إلي هذا المصير أو ذاك. ويمكن الإشارة هنا إلي أنّ نيّة «سلمان المحمّدي» الخالصة قد بلغت به حدّاً وصفه رسول الله صلي الله عليه وآله بالقول: «أنت منّا أهل البيت».

وليس أبو ذر غريباً عن هذه المنزلة الأسمي، إذ إنّه لم يسئ إلي أحد، وكان إلي جانب أبي ذر أشخاص تتلمذوا علي يدي الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله واستلهموا من علمه المتصل بالوحي، ولكن أبا ذر وسلمان وأمثالهما هم الذين بلغوا هذه القمّة السامقة.

إنّ أقوال وأفعال وأفكار النبيّ الأكرم صلّي الله عليه وآله كانت كلّها علوماً سماويّة ومعارف إلهيّة، وكان كلّ واحد من الأصحاب يستلهم من وجوده المقدّس ما يستلهم، وفي الوقت ذاته كانت في مواقف بعضهم ما يبعث علي الحيرة والتعجّب، لاسيّما للأجيال التي تلتهم، فرغم أنّهم جميعاً كانوا يأخذون عن رسول الله صلي الله عليه وآله، إلاّ أنّ نواياهم المتباينة دفعت كثيراً منهم إلي السقوط في المهاوي السحيقة بصورة لا تُصدَّق، وكان أحد هؤلاء الأصحاب رجل يسمي (القعقاع).

فمع أنّ ما تلقّاه القعقاع من النبي صلي الله عليه وآله لم يكن من ناحية الكم بأقلّ من غيره من الأصحاب، إلاّ أنّه لم يكن يتمتع بنيّة وشخصية وسلوك طاهر نزيه، وكان يمتاز بالعنف المفرط

مع الناس، حتي أنّه سلك سلوكاً شيطانيّاً مع سكّان إحدي القري غير المسلمة التي كان يفترض به أن يدعو أهلها إلي الإسلام والسلام، ولكنّه عمد إلي تقسيمهم عدّة أقسام، فمنهم من حرق، ومنهم من رمي من فوق الجبل، ومنهم من رجم، ودفن بعضهم أحياءً في الآبار.

وإذا قارنّا الآثار الوجوديّة الخاصّة بأبي ذر بما يميّز هذا الشخص القعقاع اتّضح لنا مستوي تأثير النيّة علي الإيمان. فأبوذر رحمه الله تعالي لم يكن له سلطة أو جيش أو ثروة، وإنّما كان سلاحه الوحيد نيّته الطاهرة وسلوكه القويم مع جميع سكّان ما يدعي الآن بجنوب لبنان، حتي هداهم بذلك إلي الانتماء لمدرسة أهل البيت سلام الله عليهم واتّباع سيرة الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله، في حين كان لعنف القعقاع وخشونته اللئيمة ومئات الأشخاص من أمثاله ردّة فعل عكسيّة في مواقف سكّان المناطق غير المسلمة، فزادوهم بعداً عن الإسلام والقرآن، فتسبّب هؤلاء (الأصحاب) باستفحال العداء من قبل الكفّار لدين السماء الحقّ. وإنّ المؤكّد في الأمر هو أنّ سبب عدم إسلام الناس في مختلف مناطق العالم يعود إلي نوع سلوك القعقاع وأمثاله الذين كانوا شرّ سفراء و(فاتحين).

مصير العنف

لقد ضرب أشخاص مثل القعقاع وخالد مثلاً للعنف والخشونة، ولم يخلّفوا وراءهم غير التنفّر والعناد والحقد.

ومن الشواهد علي ذلك الاختلاف بين كيفية مبايعتهم من قبل الأمّة وكيفية مبايعة الإمام علي سلام الله عليه. فقد روي أنّهم قيّدو الإمام سلام الله عليه بالحبال ووضعوا السيوف علي رقاب الثلّة من حوارييه لأخذ البيعة منهم قسراً؛ فيما أعلن أمير المؤمنين سلام الله عليه وهو الإمام المنصوب بنصّ القرآن الكريم ووصيّة الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله أنّ الناس جميعاً غير مجبَرين علي مبايعته، وكان إذا قيل

له: إنّ فلاناً وفلاناً لم يبايعا، وإنّ من الضروري إجبارهما وغيرهما من أمثالهما علي البيعة، كان سلام الله عليه يرفض ذلك رفضاً قاطعاً، ولعلّه كان يكتفي في بعض الحالات بالحوار الهادئ معهم، أو يذكّرهم ما سبق منهم من المبايعة له في واقعة الغدير، أو بما سمعوا عن رسول الله صلي الله عليه وآله في كونه الإمام والخليفة الشرعي دون سواه.

الإسلام يرفض العنف

إنّ من الممكن جدّاً نشر الإسلام والتبليغ له من دون استخدام القوّة والسيف. وقبل ذلك لابدّ من تحديد موقف الدين من العنف وممارسة القوّة واستعمال السلاح. إن الإسلام لم يشرع استخدام القوّة إلا حين الدفاع وردّ الاعتداء أو الهجوم المعادي، وقد طلب أهل البيت سلام الله عليهم منّا أن نكون لهم خير دعاة، فقد روي عن الامام الصادق سلام الله عليه:

«كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً».

وثمّة مثل رائع للسلوك المسالم والداعي للأمن والسلام كان له أكبر الأثر في اعتناق الناس للإسلام، وهو السلوك الشخصي للنبي المصطفي صلي الله عليه وآله بعد فتح مكّة المكرّمة. لقد كانت مكانة أبي سفيان في الإسلام معلومة، فهو الذي أعلن منذ بدء الدعوة رفضه ومعارضته للحركة الربانيّة المحمديّة الوليدة، وقد كرّس كلّ جهوده ووظّف حياته وجميع ما يملك لطمس نور الإسلام وتصفية شخص النبي الأعظم صلي الله عليه وآله، ورغم هذا التاريخ الأسود لأبي سفيان إلا أنّ النبيّ المصطفي صلي الله عليه وآله جعل من بيته محلاً آمناً وقال بكلّ صراحة:

«من دخل دار أبي سفيان فهو آمن».

ومن الواضح أنّ هذا العفو والكرم لا نظير لهما عبر التاريخ، فأين نجد قائداً قد جعل دار عدوّه الألدّ والأكثر حقداً عليه وعلي مبادئه وأصحابه محلّ أمن وسلام.

إنّ سعة لطف ورحمة نبيّنا المصطفي

صلي الله عليه وآله بلغت حدّاً يعجز الآخرون عن دركها، ولم يبقَ لهم إلا اتباعه بما أمكنهم.

قصة أخوين

كان في عهد الإمام الجواد سلام الله عليه أخوان يعيشان بين المسلمين، وفي قصّتهما خير نموذج لدرك ما للنوايا من التأثير في سلوك وشخصيّة ومصير كلّ إنسان.

هذان الأخوان هما محمد بن فرج الرخجي وعمر بن فرج الرخجي، عاشا في جوّ عائليّ واحد، فبلغ محمد فيها القمّة حين أصبح من الأصحاب المقرّبين والأوفياء للإمام الجواد سلام الله عليه. وقد نُقلت في كتابَي (جواهر الكلام) و(وسائل الشيعة) روايات عن محمد بن فرج باعتباره راوية ثقة، وأحد أصحاب الإمام المعصوم سلام الله عليه. بينما كان أخوه عمر علي النقيض منه تماماً حيث اشتهر بالظلم والوقاحة وخدمة المجرمين، من أمثال: هارون والمأمون والمعتصم والمتوكّل.

وفي تلك البرهة حيث كان محمد منشغلاً بتحصيل العلوم الحقّة وجمع الأحاديث والروايات ونقلها، كان أخوه عمر منهمكاً في ظلم الشيعة وقمعهم وتدميرهم.

فبعد استشهاد الإمام موسي الكاظم سلام الله عليه علي يد طاغيته الجلودي وبأمر من هارون العباسي مباشرة، أوعز هذا الأخير له بمصادرة أموال وممتلكات أسرة الإمام الكاظم، ثمّ أمر بتعيين عمر بن فرج والياً علي المدينة ومكّة، وأصدر له مرسوماً يبلّغه الناس، ويقضي بمنع التعامل مع العلويين، بل بلزوم الامتناع عن التحدّث إليهم.

واستمرّت هذه الجرائم والمضايقات الشديدة حتي زمن الإمام الجواد سلام الله عليه، وكان عمر بن فرج الرخجي والياً في مكّة والمدينة، وكان يمعن في معاقبة كلّ من يحاول كسر طوق المحاصرة العباسية اللئيمة ضدّ العلويين، بحيث يصادر جميع أمواله ويجلده ضمن التحقير وإسقاط الشخصية وهدر الكرامة.

وقد ورد في التاريخ تعبير خاصّ لهذا النوع من العقوبة، فكان يقال: «أنهكه عقوبة وغرماً» أي حقّر شخصيّته وأهدر كرامته

و «غرماً» إشارة إلي مصادرة أمواله، أي إنّ كل من كان علي علاقة طيبة بآل عليّ بن أبي طالب سلام الله عليهم، كان جزاؤه أن يزاح عن الوجود، وأن تصادر أمواله كافّة.

واستمرّ التعذيب والتنكيل والإرهاب إلي زمن المتوكّل العباسي، حيث وصل الحال بقضيّة مصادرة الأموال إلي أنّ النساء الهاشميّات كن لا يخرجن من بيوتهنّ لعدم امتلاكهن العباءات الكافية، بل كن جميعاً يصلّين بعباءة واحدة علي الترتيب، وقد وصفتهن بعض الروايات بأنهنّ كنّ حواسر.

قال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين: وكان المتوكّل شديد الوطأة علي آل أبي طالب، غليظاً علي جماعتهم، مهتمّاً بأمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم. ثم ذكر من ذلك كرب قبر الحسين سلام الله عليه وعفاء آثاره.

(إلي ان قال): واستعمل علي المدينة ومكة عمربن الفرج الرخجي فمنع الناس من برّ آل أبي طالب، وكان لا يبلغه أنّ أحداً برّ أحداً منهم بشيء وإن قلّ إلاّ انهكه عقوبة وأثقله غرماً، حتي كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة ثم ينزعنه ويجلسن علي مغازلهن عواري حواسر! إلي أن قُتل المتوكّل فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم ووجّه بمال فرّقه فيهم، وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادّة مذهبه طعناً عليه ونفرة لفعله.

وكان الوضع علي هذه الصوره طيلة حكم المتوكّل، وكان الأئمّة المعصومون سلام الله عليهم قد اختاروا أسلوب الصبر والتحمّل دون أن يستفيدوا من قدراتهم المادّية أو المعنويّة في حين كان القضاء علي السلطة العباسيّة برمّتها ليس بالأمر الصعب بالنسبة للأئمة سلام الله عليهم، وهم الذين يتمتّعون بأقرب المكانة لدي الله القادر المتعال.

وكان سبب ذلك التحمّل والصبر حسب ما جاء في الروايات امتحان الناس، حيث ينبغي أن يُميَّز الخبيث من الطيّب، ويرتقي

من هو جدير بالرشد والتكامل إلي أعلي المراتب، ويختبر ما يحمل من الإرادة، فالجميع يجب أن يعرضوا للفتنة والبلاء.

فكان الحكّام وأتباعهم من جهة، والأئمّة وأتباعهم من جهة أخري يمثّلان فريقين يتعرّضان للاختبار الإلهي، لكي ينال فريقٌ الخزي والعذاب، ويستحقّ الفريق الآخر رضوان الربّ وجنان الخلد والرحمة الأبديّة، ولتكون حيواتهم خير نموذج وقدوة حسنة لمن أراد النجاة من الشيطان والموبقات والعذاب الأخروي.

إنّ كلا الفريقين روّضوا أنفسهم وربّوها، ولكنّ العلويين روّضوها بشكل، والعباسيين وشياطينهم وعتاتهم بشكل آخر، أي إنّ الجميع كانوا يستعدّون للقاء مصيرهم. وقصّة الامتحان والاختبار، والتكامل أو السقوط، قصّة لا تنتهي، واليوم وكلّ يوم يعيش الناس جميعاً في ساحة الامتحان.

قَالَ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ: دَخَلْتُ عَلَي أَبِي الْحَسَنِ سلام الله عليه فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، حَدَثَ بِآلِ فَرَجٍ حَدَثٌ؟ فَقُلْتُ: مَاتَ عُمَرُ. فَقَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّه) حَتَّي أَحْصَيْتُ لَهُ أَرْبَعاً وَعِشْرِينَ مَرَّةً. فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا يَسُرُّكَ لَجِئْتُ حَافِياً أَعْدُو إِلَيْكَ.

قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَوَلا تَدْرِي مَا قَالَ لَعَنَهُ اللَّهُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَبِي؟ قُلْتُ: لا.

قَالَ: خَاطَبَهُ فِي شَيْ ءٍ فَقَالَ: أَظُنُّكَ سَكْرَانَ. فَقَالَ أَبِي:

اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أَمْسَيْت لَكَ صَائِماً فَأَذِقْهُ طَعْمَ الْحَرْبِ وَ ذُلَّ الأَسْرِ.

فَوَاللَّهِ إِنْ ذَهَبَتِ الأَيَّامُ حَتَّي حُرِبَ مَالُهُ وَمَا كَانَ لَهُ ثُمَّ أُخِذَ أَسِيراً وَهُوَ ذَا قَدْ مَاتَ لا رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ أَدَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ وَمَا زَالَ يُدِيلُ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ.

فالإمام اتّخذ من علم الله تعالي شاهداً عند الله نفسه، مشيراً إلي براءته من فداحة التهمة الموجّهة إليه.

استجابة دعاء الإمام الجواد

بقي عمر هذا في منصبه والياً علي المدينة ومكّة إلي ما بعد استشهاد الإمام الجواد سلام الله عليه. وبعد ذلك تمّت الاستجابة لدعائه، فبسبب وقوع بعض الأحداث والتقلبات السياسيّة، غضب المتوكّل

علي عمر وأمر بمصادرة جميع أمواله وممتلكاته وخدمه، ثمّ ألقاه في السجن، وقيده بما يزيد علي ثلاثمائة كيلو من الحديد في رقبته ويديه ورجليه، وأصبح عرضةً بأمر المتوكل للضرب وتصاعد عدد الجلدات في كل يوم بصورة منتظمة.

إنّ الفرد يجب أن يحافظ علي نفسه، فمن العذاب الدنيوي ما لا يخطر علي بال ابن آدم، فكيف بالعذاب الأخروي؟!

وتمرّ الأيام، ولا يجد عمر بن فرج سوي الأغلال والإهانة والفقر ومضاعفة الجلدات حتي بلغ عددها ستّة آلاف جلدة، وتخلّصت منه البشرية ذات يوم، إذ رحل إلي حيث ما ينتظره من العذاب الأخروي إزاء ما خان المسلمين واضطهد أولياء الله تعالي وحارب قانون السماء، إرضاءً للطغاة الزائلين، ورغبةً في بعض المال والسلطة.

اقتران العلم بالعمل

اقتران العلم بالعمل

«يا أبا ذر، يطلع قومٌ من أهل الجنة علي قومٍ من أهل النار، فيقولون: ما أدخلكم النار وقد دخلنا الجنّة لفضل تأديبكم وتعليمكم؟ فيقولون: إنّا كنّا نأمر بالخير ولا نفعله».

الخطاب في هذا الفصل من وصيّة النبي صلي الله عليه وآله موجّه إلي أهل العلم.

يؤكّد الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أنّ العلماء «أفضل الناس أكثرهم فضيلة إذا سلموا» وكانوا نزيهين مخلصين. ولكنّهم إن كانوا غير ذلك، فهم أسوأ الناس، ويكونون مصداقاً لقول النبي الأكرم صلي الله عليه وآله في هذه الوصية، حيث أشار إلي أنّهم سيساقون إلي جهنّم، ثمّ يرون بعض الناس من أهل الجنّة كانوا قد تربّوا وتأدّبوا علي أيديهم فنجوا، فيتوجّه الناجون إلي هؤلاء عن سبب دخولهم النار، فيجيبونهم قائلين: «إنّا كنّا نأمر بالخير ولا نفعله».

صحيح أن نيل المراتب العلمية العالية وبلوغ درجة الاجتهاد بحاجة إلي مزيد من الجهد، ولكن بلوغ الفرد لمرتبة (الإنسانيّة) يحتاج إلي جهد أكبر.

لقد نُقل عن الشيخ الأنصاري رحمه الله بأن قال:

«أن يكون المرء عالماً فذاك أمر مشكل، ولكن أن يكون إنساناً فذاك أمر أشكل».

الشيطان وتزكية النفس

في قضيّة تزكية النفس والتحوّل إلي إنسان، ثمّة عدو لدود يسمّي الشيطان، وقد أقسم علي عدم السماح لأيّ إنسان بالتقدّم والتطوّر فيما يتعلّق بالأمور المعنويّة، ولا ننسي أنّه لا قيمة للعلم وحياة ابن آدم عموماً دون إحراز التقوي والالتزام بقوانين السماء، ولذا قال أحد الشعراء معبّراً عن هذا المعني الكبير:

لو كان للعلم من غير التقي شرف

لكان أشرف خلق الله إبليس

إنّ علم إبليس أكثر من علم الناس، ولكنّه لا تقوي له، وتلك كانت مشكلته، ولذلك فإنّ من له علم، ولا تقوي له، فإنّه في واقع الأمر لا يحقّق شيئاً في إطار التقدّم والتطوّر الإنساني.

إنّ الشيطان لا يتربّص بالقتلة والسرّاق والمفسدين فحسب، وإنّما سخّر كلّ قواه وأسلحته لصدّ العلماء والصالحين أيضاً، بل إنّ اهتمامه بتخريب شخصيّة العالم أكبر بكثير من اهتمامه بسائر الناس، ذلك لأنّ العالَم برمّته قد يفسد بفساد العالِم. وقد قيل: «صلاح العالِم صلاح العالَم، وفساد العالِم فساد العالَم».

إنّ الدنيا تصلح وتعمر بصلاح العالِم، وفساد العالم يعني خراب الدنيا وما فيها، لأنّ المفترض بأهل العلم أن يكونوا القادة الفعليين للحركة الإنسانيّة، فما بالك إذا فسد قادة المجتمع وأصبحوا يوجّهونه نحو الشرّ والفساد؟!

وقد قال الله عزّ اسمه في القرآن المجيد:

لقدْ مَنَّ اللهُ عَلي المؤمِنينَ إذْ بَعَثَ فيهِمْ رَسُولاً مِنْ أنْفُسِهمْ يَتلُو عَلَيهِمْ آياتِه وَيُزَكّيهِمْ وَيُعلِّمُهُمْ الكتابَ والحكمةَ.

فقدّم سبحانه التزكية علي التعليم، لأنّ العلم من دون التزكية لا ينفع، وعلي المرء أن يكتسب القدرة لإصلاح نفسه، ومفتاح ذلك بيد الإنسان نفسه.

صفات النبي

ورد في كتاب (الإقبال) للسيّد ابن طاووس وبعض الكتب الأخري حديث قدسيّ خاطب الله تعالي فيه أبانا آدم عليه السلام وبيّن له ثلاث صفات لنبيّ آخر الزمان صلي الله عليه وآله، فقال:

«لا فظٌّ، ولا غليظٌ، ولا

سخّاب».

وقال الله تعالي في القرآن العظيم مخاطباً نبيّه الكريم:

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ …

وقد قيل في معني الفظّ والغليظ القلب: أنّ أحدهما يشمل الآخر، فإذا قيل: فظّ، شمل من كان غليظ القلب، والعكس صحيح، وهما في ذلك مثل كلمتي: الفقير والمسكين من حيث الاستخدام. ولكن إذا استخدما أي الفظّ والغليظ القلب معاً فيقصد بالفظاظة: الخشونة الظاهرية، وبغلظة القلب: الخشونة الباطنية.

قد تعترض المرء قضية يغضب جرّاءها كلّ الغضب، ويحمل بسببها الحقد، إلاّ أنّ ملامح الغضب لا تلوح علي محيّاه، بل تراه يحافظ علي هدوئه وابتسامته، فيقال لمثل هذا الشخص: غليظ القلب. وقد يحدث أن لا يغضب الفرد في باطنه، ولكنّه يُظهر علي ملامحه الانزعاج، فيقال إنّه فظّ.

وفي الحديث القدسي المتقدّم الذكر تمّت الإشارة إلي ثلاث من صفات النبي صلي الله عليه وآله، وهي أنّه ليس فظّاً ولا غليظ القلب ولا مرتفع الصوت في الكلام. أي إنّ الرسول المصطفي كان رغم ما قد يتعرّض لما يزعجه وهو كثير جداً يحفظ احترامه في الظاهر، ولا شكّ أنّ هذه الصفة ليست نفاقاً أو مجرّد تظاهر، بل هي من خصائص وفضائل المؤمنين، وقد جاء في كلام أمير المؤمنين سلام الله عليه:

«المؤمن بِشره في وجهه، وحزنه في قلبه».

فلا يجدر بالإنسان أن يظهر علي لسانه كلّ ما في قلبه. فقد كان النبي صلي الله عليه وآله لا يحبّ العديد من أصحابه، وتارة يدلي ببعض الحديث لإتمام الحجّة، ولكنّه كان يهتمّ مطلق الاهتمام للمحافظة علي كرامة الآخرين وصيانة الحدود، باعتبار أنّ الإنسان المؤمن لا يصحّ منه أن يبدي استياءه بشكل مباشر علي الأقلّ لمن يشعر بالانزعاج تجاههم، وإنّما الفضيلة في عدم إظهار ذلك حتي

آخر لحظة من لحظات العمر. أما إذا كان في الأمر ضرورة قصوي، كأن يكون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذلك مما لا إشكال فيه.

لا ينبغي للمؤمن أن يكون فظّاً، ونظرته يجب أن تكون نظرة لطيفة ودودة، وكذلك يجب أن يصطبغ حديثه بصبغة الليونة، وهذه الصفات بمستطاع الناس تحقيقها في أنفسهم، وهي قد تكون صعبة، ولكنّها غير مستحيلة.

تعاليم رسول الله

من الضروري جدّاً مطالعة سيرة النبي المصطفي صلي الله عليه وآله في جميع أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.

وقد ورد في ذلك رواية عن المعصوم سلام الله عليه يصف فيها أخلاق الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله بقوله:

«كان صلَّي الله عليه وآله خُلُقه القرآن».

كما ورد أيضاً أنّ قوماً من هوازن جاءوا لحرب النبي صلي الله عليه وآله وصمّموا علي إبادة المسلمين، وكان جمعهم كبيراً، ولكنّهم خسروا الحرب وهرب رجالهم وخلّفوا نساءهم وراءهم، وأُسِر منهم حوالي ستّة آلاف شخص، فما كان من النبي الكريم إلا أن أطلق سراحهم جميعاً دون أن يتقاضي عن ذلك درهماً واحداً أو يشترط شرطاً، الأمر الذي دفع بكثير من اليهود والنصاري والمجوس إلي اعتناق الإسلام، وهذا نموذج من فضائل النبي صلي الله عليه وآله.

إنّ الأخلاق ليست بالبشر وحده، فرغم ما هو متعارف اليوم عن فضيلة طلاقة الوجه، ولكن هذه الخصلة لا تمثّل بمفردها خُلُق الإسلام.

لقد كان جميع أسري هوازن مشركين، ولكن النبي صلي الله عليه وآله كان رحمة للعالمين جميعاً وليس للمسلمين والأقارب، وبناءً علي ذلك أمرنا القرآن الكريم بأن نتّخذ نبيّ الإسلام قدوة وأسوة حسنة، وتلك كانت أخلاقه بعد الحرب.

فإذا كانت هذه أخلاق النبي صلي الله عليه وآله فهل يصحّ من مسلمَين تخاصما جرّاء خلافٍ ما قد زالت أسبابه، أن يظلاّ

متخاصمَين طيلة عمرهما؟ وهل هذا يمثّل الأخلاق الإسلامية؟

رسول الله في أحد

لقد عاني النبي صلوات الله عليه وآله أشدّ المعاناة في معركة أحد، عندما ضربه أحد المشركين فأصاب أسنانه بحجر فكسر رباعيّتيه، فيما أصابه آخر في جبهته المقدّسة فجرحها حتي جري دمه الطاهر علي وجهه المبارك، كما انشقّت شفته وجرحت يده، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها وغادر الجميع ساحتها، تألّم الصحابة للمنظر الدامي للنبي، واعتصرت لذلك قلوبهم، فقالوا له: يا رسول الله، إنّك مستجاب الدعوة، فادعُ علي الكفّار والعنهم. ولكنّه ردّ علي ذلك بالقول: «إنّي بُعثتُ رحمةً» ثم دعا الله ربّه مبتهلاً: «اللهمّ اهدِ قومي؛ فإنّهم لا يعلمون».

عقّب القاضي نور الله التستري رحمه الله بعد نقل هذه الرواية بإيراد عبارة لطيفة تنمّ عن الفطنة وعمق التحليل، فقال: إن رفض شخص أن يلعن غيره، فإنّه يختار الصمت علي الأقلّ، إلا أنّ النبي وفضلاً عن عدم لعنه ألدّ أعدائه، فقد دعا لصالحهم وطلب من الله تعالي لهم الهداية، وهم الذين يستحقّون الدخول إلي جهنم.

يقول أكثر الناس: إنّ الإساءة من العدوّ مفهومة ويمكن تحمّلها، ولكن الإساءة من الصديق لا يمكن تحمّلها بحال وهي مغالطة شائعة في المجتمع بينما نري النبي صلي الله عليه وآله لا يوجّه الإساءة والإهانة حتي إلي أعدائه.

يقول القاضي نور الله: لم يتوجّه النبيّ باللعن، بل طلب للكفّار المعذرة إلي الله تعالي وقال: إنّهم لا يعلمون.

نموذج آخر لسماحة النبي الأعظم

ذُكر أنّ أحد المشركين، وكان يدعي غورث بن حارث واسمه كان شائعاً في أيّام الجاهلية، ويعني جائع رأي النبي المصطفي صلي الله عليه وآله مستلقياً في ظلّ شجرة، فوصل عنده حتي وقف فوق رأسه وشهر سيفه وقال له: من ينقذك منّي يا محمد؟

فأجابه النبي من فوره: «الله» وقفز من مكانه، حتي انزلقت قدم غورث وسقط السيف من يديه، فسارع النبي

إلي السيف ورفعه بوجه غورث وقال له: «الآن من ينقذك منّي؟» فأبدي ندمه علي ما صدر منه سلفاً وقال للنبيّ: إحسانك يا محمّد!

فتنحّي النبي جانباً وعفا عنه، فأسلم غورث علي يديه الكريمتين، ثمّ عاد إلي قومه وقال لهم: لقد عُدت من عند أفضل خلق الله.

أجل، لقد كانت أخلاق الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله من العظمة بحيث أذعن لها واعترف بعظمتها أعتي أعدائه، وحقيقة الأمر تشير إلي نوع من إتمام الحجّة الإلهية، فلا يكون ثمّة عذر لأحد في يوم القيامة: لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَي اللّهِ حُجَّةٌ.

استحالة أداء حقوق الله كلّها

استحالة أداء حقوق الله كلّها

«يا أبا ذر، إنّ حقوق الله جلّ ثناؤه أعظم من أنْ يقوم بها العباد، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن امسوا وأصبحوا تائبين».

يثير النبي المصطفي صلي الله عليه وآله في هذا المقطع من الوصيّة انتباه أبي ذر رضوان الله تعالي عليه إلي ثلاث قضايا، وهي: العبادة، والشكر، والتوبة.

كما يؤكّد صلي الله عليه وآله بأنّ حقوق الله سبحانه وتعالي علي درجة من العظمة بحيث تعجز جميع المخلوقات عن أدائها، وإن استخدموا مطلق قابليّاتهم وواصلوا العبادة والشكر طيلة أعمارهم.

ومن لا طاقة له علي تقديم الشكر المطلوب، يفترض به أن يلتزم بواجب التوبة والاستغفار والتضرّع إلي الله تعالي، لعلّه يجبر ضعفه وعجزه عن أداء حقّ الشكر لربّه.

ولعلّ إحدي فوائد وآثار الإقرار بالعجز عن أداء الشكر لله تعالي أن لا يصاب المرء بالغرور والعجب بطاعاته وعباداته.

العجب بالعبادة

من مؤامرات الشيطان ومكائده أنّه يستهدف عبادة ابن آدم ليمزج معها العجب والغرور، بمعني أنّه قد لا يوسوس للعابد في بعض المرّات بارتكاب هذا الذنب أو ذاك، وإنّما يقصد العبادة بحدّ ذاتها ليصيبها في الصميم، ويأتي علي إيمان الإنسان ويهدمه من أسسه.

فقد يقوم المؤمن بأداء صلاته بنيّة خالصة وحضور قلبيّ مقترن بالخضوع والخشوع، ولكنّ الشيطان يدخل عليه من نافذة صلاته ليقول له: لا أحد يصلّي مثلك، ويمتدح ما عنده من الخشوع والتوجّه، حتي يلقي في روعه العُجب والغرور، فيعبّد جادة الانحراف في قلبه وعقله.

عن الإمام الصادق سلام الله عليه قال: قال رسول صلّي الله عليه وآله: بينما موسي عليه السلام جالساً إذ أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان، فلما دنا من موسي عليه السلام خلع البرنس وقام إلي موسي فسلّم عليه. فقال له موسي: من أنت؟ فقال: أنا إبليس، قال:

أنت فلا قرّب الله دارك. قال: إنّي إنّما جئت لأسلّم عليك لمكانك من الله. قال: فقال له موسي عليه السلام: فما هذا البرنس؟ قال: به أختطف قلوب بني آدم. فقال موسي: فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه؟ قال: إذا أعجبته نفسُه، واستكثر عملَه، وصُغر في عينه ذنبه.

وروي عن الصادق عليه السلام أيضاً أنّه قال:

يدخل رجلان المسجد أحدهما عابد والآخر فاسق فيخرجان من المسجد والفاسق صديق والعابد فاسق، وذلك أنّه يدخل العابد المسجد وهو مدلّ بعبادته ويكون فكره في ذلك ويكون فكرة الفاسق في التندّم علي فسقه؛ فيستغفر الله من ذنوبه.

والعلّة في ذلك تكمن في أنّ الرجل الصالح قد أدّي عبادةً معيّنة في المسجد، ولم يظلم أحداً، ولكنّه حينما همّ بالخروج، خرج وهو «مدلّ بعبادته» أي أنّه قد دخله العجب واغترّ بعبادته، وهذه الحالة لا تحتاج إلي حركة أعضاء وجوارح، وإنّما الله يَعلَمُ السِرَّ وَأخفي ولذلك خرج الصالح فاسقاً بعد أن كان عابداً.

ولكن الفاسق دخل المسجد فرأي صاحبه العابد بحالة من الخضوع والخشوع يتعبّد ويستغفر، ففكّر في نفسه وقال: إذا كان هذا الصالح يتعبّد ويستغفر ويخشع ويخضع، فالويل لي مما ارتكبت من الذنوب، ثمّ تكرّست في ذاته حالة من الندم والتوبة، علماً أنّه لم ترد في الرواية كلمة تشير إلي أن الرجل الفاسق قد مارس الصلاة أو الدعاء داخل المسجد، وإنّما تمّت الإشارة فيها إلي مجرّد الندم والتوبة القلبية، وهذا ما اعتبرته الرواية الكريمة عبادة حقّة.

أجل، لا ينبغي الاغترار بالعبادة، لاسيّما وأنّ حقّ الله تعالي كبير إلي حدّ يعجز فيه العقل عن حدّه والعلم عن وصفه؛ مهما عظما واتسعا، كما تعجز كلّ عبادة وكلّ شكر عن مجاراة عظيم حقّ الله تعالي أو الدنوّ

منه.

ولوصف المعني نقول: لو أنّ رجلاً فاحش الثراء استضافه صديق له فقير، فإنّ هذا الأخير سوف لا يسعه تقديم ما يناسب صديقه الثريّ من طعام ومجلس مهما جهد وسعي، رغم أنّه قد يبذل الكثير من الطاقة والجهد، فتراه يجد نفسه مضطراً إلي الاعتذار إليه علي قصوره أو تقصيره، رغم علمه بأنّه حرص علي أن لا يبدو مقصّراً، ذلك لأنّ له عقلاً يميّز به حقيقة أنّ ما قدّم غير لائق بضيفه.

وكذلك شأن العبادة، فمهما بدت لصاحبها متكاملة إلا أنّها غير لائقة علي سبيل الحتم بمقام الربوبيّة الأجلّ الأقدس، هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ الله سبحانه وتعالي قد قبل عبادات الأنبياء والصالحين وكثير من العباد، وهو غير محتاج لهم أو لعباداتهم.

ولكن لشديد الأسف نري الشيطان لا يسمح للناس بالتنبّه والالتفات، فهم يتذكّرون ربّهم عند سماعهم موعظة واحدة، ولكن ما إن ينقضي عنهم وقت ليس بالكثير حتي تراهم ينحرفون عن جادة الحقّ، ويعودون بأمسّ الحاجة إلي موعظة أخري تعيدهم إلي الصواب.

إنّ غواية إبليس لا تختصّ بذنوب الإنسان الظاهريّة فحسب، لأنّ لمؤامراته ومكائده فيما يخصّ الذنوب الخفية والباطنية فاعلية أكبر، لذلك تراه يحرص أكثر ما يحرص علي إفساد وتخريب باطن الإنسان وجوهره.

روي عن الإمام الصادق سلام الله عليه أنّه قال لعبد الله بن جندب في معرض تحذيره له من الشيطان:

يا عبد الله؛ لقد نصب إبليس حبائله في دار الغرور، فما يقصد فيها إلاّ أولياءنا.

إنّ من المفترض بمن تلقّي بعض العلم، وكان يتمتّع بذهنيّة وقّادة أن يحذر من مرض العجب والغرور، وأن يدرك أنّ ذهنيتّة هذه إنّما هي نعمة ربانيّة قد منحت له من الله تعالي بلا مقابل. وبهذه الذهنيّة التي وهبها الله إيّاه استطاع أن يكون محطّ حاجة

الناس، ولكنه بدلاً من أن يلبّي للناس حاجاتهم العلمية والثقافية، تراه ممتلئاً غروراً وعجباً، وهذا من حبائل الشيطان.

إن الشيطان لا يصارح الإنسان بهدفه ونيّته، وإنّما يتسلّل إليه شيئاً فشيئاً، فليقّنه الغرور كلمة كلمة، ويغذّيه بالعجب لقمةً لقمة، وما يحول دون الإصابة بهذه الجراثيم القاتلة هو العلم بأن حقوق الله لا يمكن للإنسان تأديتها علي الوجه المطلوب، وأنّ أعماله غير لائقة في محضر الله وساحته القدسية، وأنّ من المفترض به أن يسعي إلي اجتناب المحارم، وإذا ارتكب ذنباً عليه أن يفرّ من ارتكابه ثانية ويتّجه إلي ربّه وحاميه. وإذا عصي الله وارتكب موبقة ولو أربعين مرّة، فما هو المبرّر والداعي لأن يصرّ علي الموبقات ويعود لارتكابها ثانية؟! وكذلك لو عصي ألف مرّة، فعليه أن يهجر الذنوب ويحذر من ارتكاب المعصية الأولي بعد الألف!

تستحبّ «الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم» بعد تكبيرة الإحرام في الصلاة وقبل بسملة سورة (الحمد) المباركة. وينبغي أن تقال بكلّ إصرار وعزم؛ ليكون المصلّي في مأمنٍ من الشيطان وإلقاءاته.

لقد كان بمستطاع الله عزّ وجل أن لا يخلق الشيطان؛

لَوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَي النَّاسَ جَمِيعًا

ولكنّه خلقه ليمتحن الناس ويفتنهم، ليُعلم مدي تمسّكهم بأوامر الله تعالي وابتعادهم عن نواهيه.

إنّ الله وهب الإنسان العقل، وغرس فيه الشهوة، وخلق الشيطان يوسوس له، ومنح الإنسان أيضاً الإرادة، ليكتشف ذاته ويري ماذا يعمل ويختار!

فكما أنّ السوق يعتبر ساحة للتنافس بين التجّار، وكما أنّ من لا يرغب في المنافسة، فليس له دخول مضمار السوق، كذلك هي ساحة الدنيا ومضمار الكدح إلي الله تعالي، فكيف يصحّ تصوّر إنسانٍ في الحياة الدنيا، وهو يرفض الالتزام بقوانين المضمار أو يتجاهل حقيقة الهدف؟

إنّ الإنسان المؤمن يمتاز حتي في الأمور المادية بالسعي للحصول علي الثواب من عند

الله تعالي؛ بسبب نيّته، علي الضدّ من الإنسان غير العارف بربّه، إذ لا شكران لسعيه مهما بني وشيّد وجمع وفرّق.

إنّ المدرسة والمسجد والحسينيّة وغيرها من مصاديق الخير مضامير السباق إلي كسب رضا الله تعالي واكتساب الفضل والنعم الإلهيّة الكبري، ومن يتقدّم علي منافسه هو الذي يجاهد الشيطان فعلاً، ويجاهد بما أوتي من إمكانات.

صحيح أنّ الناس لا قدرة لهم علي أداء حقّ الله تعالي في العبادة، إلا أنّ الله تعالي قد جعل لهم من الخصائص والفرص ما تقرّبهم إليه زلفي، ومنها: أنّه تبارك اسمه قد شرع للمسلمين صوم شهر رمضان ومنحهم فرصة شهر رمضان؛ ليعبّدوا به طريق الوصول إلي الجنة. قال رسول الله صلّي الله عليه وآله:

«أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة».

ففي كلّ نفس للإنسان ثواب، وفي كلّ نومة جزاء حسن.

وأكثر من ذلك: أنّ الله يحبس الشيطان في هذا الشهر المبارك.

وهذه كلّها امتيازات وألطاف إلهية غير متناهية علي الناس، يتوجّب عليهم الاستفادة القصوي منها.

روي عن الإمام الحسين عليه السلام، قوله:

إنّ الله عزّ وجلّ اخفي أربعة في أربعة: أخفي رضاه في الحسنات، فلا يستصغرنّ أحد منكم حسنة، لأنّه لا يدري فيم رضا الله تعالي. وأخفي سخطه في السيئات، فلا يستصغرنّ أحدكم سيّئة، فإنّه لا يدري فيم سخط الله …

فلا يستصغرنّ المرء أيّة عبادة، مثل الاستغفار قبل الشروع بالدرس، أو قراءة صغار السور القرآنية قبيل النوم.

ومن ناحية أخري، لا يجدر بالفرد العاقل استصغار أيّ نوع من المعاصي، وإنّما المفترض المحافظة علي النفس في مواجهة الشيطان ومنعه دون اقتحامه القلب واحتلاله.

عبادة عابد بني اسرائيل

ورد في الروايات:

«أنّ رجلاً في بني إسرائيل عبد الله أربعين سنة، ثم قرّب قرباناً، فلم يُقبل منه، فقال لنفسه: ما أُتيت إلاّ منكِ، وما الذنب إلا لكِ. قال

فأوحي الله تبارك وتعالي إليه: ذمّك لنفسك أفضل من عبادتك أربعين سنة».

ولم تكن عبادته بمعني أنّه كان يصلّي إحدي وخمسين ركعة في اليوم، أو يصوم شهر رمضان في كلّ عام، وإنّما كان يطلق علي العابد عابداً إذا صام نهاره وقام ليله، وقد يكون من السهل قول ذلك، ولكن أن يقوم رجل بهذا النوع من العبادة لمدّة أربعين سنة، فإنّنا لا نجد نظيراً له إلا بما لا يتعدّي رقمه رقم عدد أصابع اليد من بين الملايين من بني إسرائيل.

تري ماذا لو أراد المرء أن يعبد علي هذه الطريقة دائماً؟ إنّه سيتعب ولعلّه يمرض يوماً أو لا يجد ما يقتات به إذا ما واصل العمل بهذا الأمر. فالمهمّة صعبة للغاية، وهذا العابد زاول عبادته وقضي أيّامه المديدة بهذا الشكل من العبادة بمعناها الواقعي. وذات يوم قرّب قرباناً، وكانت الأمم السابقة تعرف قبول قرابينها بعلامات خاصّة بها، مثل أن تنزل ناراً فتحرق القربان، ولكن قربان هذا العابد لم يقع موقع القبول، أي أنّه رُفض بعد أربعين سنة من العبادة، وبعد أن علم العابد عدم تقبّل قربانه، عاد باللوم علي نفسه وقال في نفسه: لابدّ من عيب في عبادتي، أو أنّها كانت غير خالصة، لأنّ الله تعالي لا يرفض أحداً أو طلب أحدٍ دون دليل وحكمة، فأعلمه الله تعالي له أنّ قيمة ملامته ومؤاخذته لنفسه أكبر من قيمة عبادته طيلة تلك السنوات.

فإذا كانت عبادة هذا العابد علي امتداد أربعين سنة علي هذا الشكل، فما أحرج موقع عوامّ الناس الذين لا يعرفون بم يفترون، ولأيّ سبب يتكبّرون؟!

لقد كان هذا العابد محظوظاً حين علم بعد أربعين سنة من العبادة أنّ أعماله غير ذات فائدة، ولكن ماذا يحلّ بالإنسان إذا جهل واقعه

وواجهته الآخرة وهو لا يملك الفرصة في جبران مافاته؟

إنّ الأئمة المعصومين سلام الله عليهم حدّثوا أتباعهم بحكاية هذا العابد ليفتحوا عيونهم وآذانهم لدرك الحقائق الإلهيّة والمثوبة الخاصّة بالإنسان.

عبادة أمير المؤمنين

دخل الإمام الباقر عليه السلام علي أبيه الإمام السجّاد سلام الله عليه فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفرّ لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته، وانخزم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، فقال عليه السلام:

فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمة له، فإذا هو يفكر فالتفت إليّ بعد هنيئة من دخولي، فقال: يا بنيّ أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام. فأعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثم تركها من يده تضجّراً وقال: من يقوي علي عبادة عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه.

إنّ جميع أعمال الإنسان العبادية قاصرة في محضر الربّ الجليل. وإذا رسخت هذه القاعدة في الأذهان، فلا شك أنّ الذنوب ستتضاءل، هذا فضلاً عن أهميّة إدراك أنّ ما يقوم الأشخاص به من الأعمال، والموفقيّة التي تدفعهم إلي ذلك إنّما هي موفقيّة ربانيّة تقف وراءها الرحمة والنعمة والفضل الإلهي، فالدراسة والعبادة والذهنيّة الصالحة والسعي الدؤوب، إنّما هي توفيقات إلهيّة مباركة، ولولاها لاستحالت فرصة إنجاز أيّ عمل صالح.

نعم الله لا تُحصي

«إنْ تعُدّوا نعمةَ اللهِ لا تُحصوها».

إنّ نعم الله تعالي علي الوجود عموماً والإنسان خصوصاً من الكثرة بحيث يعجز العادّون عن حصرها، كما يعجز الإنسان عن إبداء الشكر لله تجاهها، وقد قال رسول الله صلي الله عليه وآله:

« … وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد»

إنّ أكبر نعمة تفضل الله بها علي المؤمنين هي نعمة الإيمان بالربّ الواحد الخالق المتفضّل العادل، ما يحتّم عليهم إبداء الشكر علي أنّهم ليسوا من الكفّار. أما أولئك الذين عكفوا علي عبادة غير الله طيلة أعمارهم فسيصابون بالحسرة العظمي في يوم

القيامة، كما سيري المؤمنون آنذاك عظمة نعمة الإيمان التي تفضّل الله بها عليهم.

فالإيمان نعمة كبري، ولتحقّقها شروط كثيرة، مثل: الزمان المناسب، أو كون الأبوين مؤمنين، والمكان المناسب، فيتكوّن من هذه الشروط وغيرها مزيج رائع ينتج عنه انخراط الفرد في سلك الإيمان.

نعمة التوبة

قلنا: إنّ الإنسان أساساً يفتقر إلي القدرة علي شكر النعم الإلهية. والأمر الوحيد الذي يستطيع إنجازه، هو السير علي طريق التوبة والاستغفار «أمسوا وأصبحوا تائبين».

نعم؛ إنّ للتوبة أن تجبر النقائص والعيوب البشرية، وتغطّي أخطاء الإنسان.

لقد ورد في الأثر الموثّق:

أربع من كنّ فيه لم يهلك علي الله بعدهنّ إلا هالك: يهمّ العبد بالحسنة فيعملها، فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيّته. وإن هو عملها، كتب الله له عشراً. ويهمّ بالسيئة أن يعملها، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء، وإن هو عملها أُجّل سبع ساعات …

فإذا ما استلقي شخصان يريدان النوم، وكان في نيّة أحدهما أن يستيقظ في منتصف الليل ليتناول الخمر والعياذ بالله وكان في نيّة الثاني أن يقوم في الوقت ذاته لأداء صلاة الليل ولم يستيقظا، فإنّه سيكتب للثاني ثواب القيام بصلاة الليل، في حين لا يكتب للأوّل أيّ ذنب.

إنّ الذنب لا يدوّن في كتاب الإنسان حتي مرور سبع ساعات، حيث يعطي الفرصة الكافية، لعلّه يقوم بعمل صالح، فيمحي ما ارتكبه من السوء؛ قال الله سبحانه وتعالي:

إنّ الحسناتِ يُذهبْن السيّئات.

نعمة الولاية

أتباع مدرسة أهل البيت سلام الله عليهم يعيشون اليوم في عصر الغيبة؛ غيبة الإمام المهدي الموعود عجل الله تعالي فرجه الشريف، وإنّ واحدة من نعم الله تعالي علي الشيعة هي الوجود المقدّس لمولانا صاحب العصر والزمان صلوات الله عليه، الأمر الذي يوجب عليهم إبداء مزيد من الشكر تجاهه، وإن من أبرز مصاديق الشكر هو إدخال السرور علي قلب الإمام؛ وهو حجّة الله في أرضه.

ولعلّ أكبر ما يدخل السرور علي قلبه سلام الله عليه هو القيام بالمسؤوليات الشرعية، أي ضرورة أن نعي هذه المسؤوليات وندرك عمقها ومدي تأثيرها والعمل بموجبها.

وبهذا الصدد يُنقل

عن الشيخ مرتضي الأنصاري رحمه الله تعالي أنّه كان يعمل كاسباً لمدّة ساعتين كلّ يوم من أيام دراسته للعلوم الدينيّة، وذلك لكي يجني بعض المال الذي يضمن لنفسه إمرار معاشه أثناء دراسته.

وذات يوم شوهد إمام الزمان عجل الله تعالي فرجه الشريف جالساً مع الشيخ الأنصاري الذي كان منهمكاً في بيع أحد الأقفال، فقال الإمام سلام الله عليه في معرض ثنائه علي طريقة تعامل الشيخ أثناء البيع بشكل نابع من نفس مخلصة وسلوك ورع، قال لمن كان حاضراً: هكذا كونوا لأقدم بنفسي عليكم.

إنّ الشيخ الأنصاري رحمه الله لم يكن معصوماً، ولا ابن إمام معصوم، بل لم يكن من الذريّة الطيّبة لرسول الله صلي الله عليه وآله، وإنّما قيل إن نسبه يعود إلي الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري رضوان الله عليه، فكيف بلغ هذه المرتبة السامية؟ لغد بلغها رحمه الله بسبب النهوض بمسؤولياته كإنسان مؤمن تابع لمدرسة آل البيت سلام الله عليهم؟

الموت يأتي بغتةً

الموت يأتي بغتةً

«يا أبا ذر، إنّكم في ممرّ الليل والنهار في آجالٍ منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتةً، ومَنْ يزرع خيراً يوشك أنْ يحصد خيراً، ومن يزرع شرّاً يوشك أنْ يحصد ندامةً، ولكلّ زارع مثل ما زرع».

من الواضح هنا أنّ النبي الأكرم صلي الله عليه وآله في هذا المقطع المبارك من وصيّته الشريفة يصوّر لأبي ذر رضي الله عنه الإنسان بكونه عبارة عن كائن موجود في ممرّ الليل والنهار، أي أنّه محكوم بحكومة الزمن، ومثل هذا التعبير لم يرد في الروايات والآيات والأشعار والأمثال إلا هنا وفي بعض أقوال أمير المؤمنين سلام الله عليه. فكان وصف الليل والنهار بكلمة (ممرّ) ابتكاراً نبويّاً رائعاً علي الصعيد البلاغي.

وفي هذا التعبير البلاغي نقطتان مهمّتان علي المستوي الأدبي والمعنوي.

فمن

الناحية الأدبية، يمكن تصوّر كلمة (ممرّ) علي اعتباره مكاناً، وكذلك يمكن تصوّره زماناً، أي أنّ محل حضور الإنسان مكان مرور الزمان، وهو في الوقت ذاته ظرف زمنيّ لطيّ لحظات الزمن.

أما الناحية المعنويّة؛ فهي أنّ الليل والنهار بمثابة السيل الذي يدفع ابن آدم ضمن تيّاره الهادر، وقد وضع المرء في هذا الحيّز وضعاً جبريّاً، وكذلك هو حال وجوده في هذا المعبر والممرّ.

آجال منقوصة

للأجل معنيان: فطول العمر ومدّة حياة الإنسان في هذه الدنيا تعتبر أجلاً. وكذلك نهاية العمر حيث ينقطع عن الحياة تسمّي (أجلاً)؛ وعليه فإنّ شأن تواجد ابن آدم في (ممرّ) الليل والنهار كشأن بعض الأشياء المحدودة التاريخ والصلاحيّة.

كما تستعمل كلمة (النقص) في اللغة العربية علي ثلاث طرق؛ فهي تستعمل فعلاً لازماً، ومتعدّياً لمفعول واحد، ومتعدّياً لمفعولين.

و(النقصان) في هذا الحديث الشريف استعمل بمعني اللازم والمتعدّي.

فهو من ناحية يري أنّ عمر الإنسان وفقاً لشرائط الخلقة أمر محدود وزمنيّ، فكان نقصان الآجال لازماً محتوماً.

ومن الجانب الثاني، ثمّة يد وإرادة ملؤها القوّة والقدرة تتحكّم بطبيعة عمر الفرد وحدوده، قلّة وكثرة، وطبقاً لنوع حياة الفرد ذاته. فالنقصان فعل مباشر من جانب الله الحقّ تعالي، ومفعول نفس العمر.

إنّ يد الله القادرة المقتدرة تنقص في عمر الإنسان، وتغيّر مقداره، أيّ أنّ هذا العمر ناقص؛ وهناك منقِّص قادر مستولٍ عليه، تماماً كثروة التاجر التي تزداد حين يستثمرها بنجاح، وتنقص حين يتّخذ منها موقفاً دون ذلك، أو عمد إلي تجميدها وصرفها في أمور غير تجارية.

وكذلك شأن قابليات وإمكانات الإنسان، ففي يوم تكون قدرته علي الإدراك في مستويً سامٍ، وفي اليوم التالي يعتورها النقص والضعف.

ورغم أنّ انقضاء عمر الإنسان وزواله عادة ما يكون في غفلة منه، إلا أنّه يتقدّم في كلّ لحظة ويطوي مسيرته في

سرعة بالغة، وبين هذا وذلك هناك مجموعة عوامل ومقدّمات توجب للعمر البركة والإزدياد، مثل صلة الرحم، أو العفو عند المقدرة، وغير ذلك مما تناولتها الأحاديث والروايات الشريفة.

أعمال محفوظة

يواصل النبي المصطفي صلي الله عليه وآله حديثه الشريف ليؤكّد أنّ الإنسان يعبر من هذا الممرّ الزماني وجميع أعماله تحفظ وتسجّل في صفحة مصيره بشكل لا يفوت علي حافظها شيء منها، ولا هو من أهل الغفلة فتغادره.

إنّ أعمال ابن آدم؛ الكبير منها والصغير، ورغم أنّه قد ينساها أو تمحي من ذاكرته، لكنّها لن تمحي من كتابه الخاصّ، لاسيّما وأنّها ستكون مادّة وموضوع محكمة العدل الإلهي الكبري في يوم القيامة.

وتستمرّ حركة الحياة في جوهر الإنسان وبدنه، حتي تستولي عليه قبضة الموت الهائلة «الموت يأتي بغتةً»، فيُستدعي ابن آدم إلي ساحة المحكمة الموعودة بواسطة الموت، فيواجهه هناك بجميع أفعاله وأقواله وأفكاره بعد أن تجمع كلّها في ملفّ خاصّ يحمل اسمه هو دون غيره، أمّا قاضي هذه المحكمة فلا تأخذه سنةٌ ولا نوم، ولا غفلة عن أيّة قضيّة من القضايا، وهو الذي لا تخفي عليه خافيه.

أقول: إذا كان من المقرّر أن يحاسب شخص ما في الدنيا ويحاكم علي أعماله ونواياه؛ فإنّه لاشك سيتعرّض لأزمة نتيجة الخوف والترقّب والاضطراب ويستولي ذلك علي كلّ وجوده، حيث تقدح في زوايا مخيّلته صورة تلك المحاكمة، ولعلّه يفقد السيطرة علي حواسّه، فهو يتوقّع حلول وقتها في كلّ لحظة، فإذا كان نائماً ثم استيقظ فكّر من فوره بالمحاكمة، بل إنّ مستوي قلقه المتزايد يسأله باستمرار عن موعد انعقادها المرتقب، ومتي يسوقه حرسها إلي ساحتها وبأيّة حالة سيساق، حتي يصل به الأمر إلي أنّه قد يفقد معه لذّة الطعام والنوم والاستراحة والتركيز الذهني، فتراه إذا ضحك، ضحك ضحكة

ملؤها المرارة، وأصبحت أفراحه أفراحاً ظاهرية …

مثل هذه الحالات تستولي علي من اضطرّ للمثول أمام محكمة دنيويّة، فكيف بمن سيرغم علي الحضور في محكمة الآخرة، فهل ستظهر عليه ملامح الراحة والاستقرار النفسي؟ أوليس ما يبدو علي الإنسان الناقص العمر، المحفوظة أعماله من السعادة والفرح إلا نتيجة غفلته وجهله ولا مبالاته؟! لاشك أنّ جميع الناس مصابون بداء الغفلة عن حقيقة ما يسيرون باتجاهه، ولا شك أيضاً أنّ درجات إصابتهم بهذا الداء متفاوتة.

ضحكة النبي الأخيرة

ذكرت الروايات الكريمة أنّ النبي المصطفي صلي الله عليه وآله وفي ليلة المعراج حيث كان مع جبرائيل رأي جهنم وما فيها من العذاب، وبعد ذلك لم يُرَ ضاحكاً أبداً.

ولكن هناك كثير من الناس يحشرون أنفسهم في مستنقعات الغفلة والجهل، فيظهرون بملامح الفرح والضحك، ولو أنّ الناس عرفوا أنّهم سيستدعون إلي محكمة الآخرة، لسُلب منهم الفرح، ولترقّبوا الموت في كلّ آن ومناسبة وحالة.

فتارة يفاجئ الموتُ الإنسان في منتصف الليل وهو نائم، وتارة يباغته وهو يتعبّد ساجداً، وأخري ويداه منغمستان في المعصية، فأين هذا النوع من الموت، من النوع الآخر، حيث تقبض روح الإنسان وهو غارق في التعبّد ليلة القدر يذكر ربّه ويردّد قوله: «بك يا الله»؟

إنّه ليس ثمّة إنسان يعلم متي وأين سيموت. «والموت يأتي بغتةً».

الآخرة وظاهرة النسيان

من القضايا الأخري الخاصّة بيوم القيامة، هي أنّ ابن آدم وبداعي نسيانه، تراه لا يتذكّر كثيراً من أعماله الصالحة أو الطالحة، ولذلك فهو لا يتفهّم في بادئ الأمر العديد من موارد اتّهامه، ولكن للمحكمة الأخرويّة قاضٍ لا يضلّ ولا ينسي ولا يحيد عن الحقّ مقدار أنملة، إنّه سوف تحضر أمام الملك الحقّ ملفّات الصالحات والسيّئات التي نسيها الإنسان.

ولعلّ المرء قد غفل عن بعض الممارسات الدنيويّة ومُسحت من أمام عينيه، ولكنّها متكدّسة في ضميره، وبمجرّد إحضاره ووجوده في ساحة المحاكمة وانفصاله عن الجاذبيات المادّية والدنيويّة، سيلاحظ تلكم الأعمال والممارسات ماثلة في وجوده بحيث لن تكلّف المحكمة نفسها للضغط عليه من أجل كسب اعترافه بما اقترفت يداه، وإنّما سيكون مجرّد وقوفه في تلك الساحة إقراراً واعترافاً مطلقاً، حتي أنّك لا تسمع إذ ذاك إلا همساً.

إذا تمكّن الإنسان من تكريس هذه الحقائق في نفسه وتسجيلها في ضميره بصورة حيوية بحيث يفعّلها متي يريد

وكيف يريد، فإنّه حينذاك سيكون هدفه الأكبر في الحياة إنجاز أعمال الخير وتسجيل الصالحات في ملفّ أعماله، وإذا نحّي المرء حجب الغفلة جانباً، واستثمر ذكاءه، ولم يتصوّر المستقبل (الموت والآخرة) حقيقة بعيدة بل رآه قريباً، فإنّه سيتأكّد من شديد حاجته للأعمال والنوايا الصالحة. «ومن يزرع خيراً يوشك أن يحصد خيراً».

الاستعداد للموت

كان رجل ثريّ يعيش في مدينة كربلاء المقدّسة، وقد حدّث قريب له قال: مرض الرجل ذات يوم مرضاً شديداً، نُقل علي أثره إلي المستشفي، فبقي فيها مدة، وكنّا نذهب إلي عيادته، فنصحه بعض منّا بضرورة أن يكتب وصيّته، لاسيّما وأنّه رجل غنيّ ولابدّ له من تخصيص جزء من أمواله لصرفها في سبل الخير والبرّ لتكون له ذخيرة طيّبة لآخرته، ولكنّه كان يرجئ ذلك إلي وقت آخر أو بعد شفائه وخروجه من المشفي، بينما كان المحيطون به يشجّعونه علي كتابة الوصيّة مؤكّدين له قدرته علي كتابة ما يريد، وإذا ما رغب في تعديلها أمكنه ذلك، وبعد إصرار متواصل منهم تنازل واستعدّ أن يبدأ بكتابة الوصيّة، فجيء له بقلم وورقة، وكتب قسماً من وصيّته، ولكنه تراجع بعد ذلك وترك الكتابة! مؤكّداً مع نفسه أنّه سيعاود كتابة الوصيّة بعد نيله الشفاء، ولكن الأجل لم يمهله، ولم يُرَ إلا ميّتاً في صباح اليوم التالي …

إنّ علي المرء أن يكون مستعدّاً علي الدوام لهذه المواجهة الحتميّة، ذلك لأنّ الاستعداد للموت له تأثير كبير جداً علي سلوكه. فمن كان كذلك في حياته، كان سلوكه بصورة عامّة يتّسم بنوع من الحذر والاحتياط، ومثل هذا الإنسان لا يجرؤ أبداً علي الخوض في المعاصي والرذائل الأخلاقيّة؛ ولذلك فهو حذر في كلّ لحظة من شطحات لسانه وبطش يده، وزيغ عينيه وطيش أذنيه، وانسياب أمواله في

طريق الذمّ.

إنّ مراد النبي الأكرم صلي الله عليه وآله من قوله المبارك: «الموت يأتي بغتةً» توضيح قاعدة وقانون يستوعبان الناس جميعاً، وهو أنّ الموت أمر حتميّ ومباغت، وكون الجميع عاجزين عن مواجهته. ولا نجد إنساناً مسلماً أو غير مسلم له القدرة علي مواجهة هذه الحقيقة والقانون الثابت، بل يستسلم له بصورة مطلقة، وبعدما تزاح عن قوة إدراكه حجب الجهل والغفلة، تستولي عليه الحسرة وتبدأ مسيرة الندم في انطلاقته باتجاه الآخرة، وعندها سيفهم ماذا فرّط طيلة حياته، وماذا حمل من أثقال لا نفع لها علي ظهره، وكم أضاع من حسنات كان بامكانه جمعها، وهو إذ ذاك بمسيس الحاجة لها.

قيل في سبب أن بعض الناس يموت وعيناه مفتوحتان، بينما بعض يموت مغمض العينين: أنّ الموت لا يسمح لهذا أو لذاك بأن يغيّر وضعيّة عينيه أبداً.

وقد قيل إنّ شخصاً أصيب بالسكتة القلبية ومات وهو يؤدّي صلاة الفجر، فرآه أحد ذويه في منامه، فسأله عن طبيعة موته، فأجابه قائلاً: كنت منشغلاً بقراءة كلمة من إحدي الآيات، فتفوّهت بحرف من تلك الكلمة في الدنيا، وبحرفها الآخر في عالم ما بعد الدنيا.

نعم إنّ قانون مباغتة الموت لا يمهل ابن آدم حتي لمجرّد التفوّه بحرف واحد فقط، فلماذا التجاهل، ولماذا الغفلة، ونحن نعلم بمحدوديّة أعمارنا وتناقصها؟!

أسباب ضحالة الفكر

إنّ ما يعيق الإنسان دون استثمار عقله أو أن يفكّر في عاقبته أمران؛ الأوّل: الجهل. والثاني: الشيطان. فهذان العاملان غالباً ما يتسبّبان في ضحالة الفكر وعيب السلوك.

فالشيطان من ناحيته خبير بكيفيّة تحقيق أهدافه المشؤومة، دون أن تتضاءل رغبته في التسلّط علي الإنسان والتحكّم به أبداً، ولكنّ الله سبحانه وتعالي لم يجعل له سلطاناً أو سبيلاً علي ابن آدم يجبرانه علي الخنوع له. كما أنّ إرادة الكائن

البشريّ وعلمه كفيلان بأن يستطيع وفقهما مواجهة الوساوس الشيطانية والتحصّن دون أذاه ومؤامراته المتعدّدة الأشكال والألوان.

إنّ الله جل ثناؤه قد جعل في داخل الإنسان (مصباحاً) يضيء له الظلمات التي قد تحيط به، فيعرف ويتحسّس به طريقه القويم من الطرق الملتوية، وجعل مفتاح هذا المصباح بيد الإنسان دون سواه، وهو الذي ينبغي له أن يفعّل هذا المصباح بإرادته، فيستطيع أن يوقده أو يطفئه، وهذا المصباح هو (العقل) القادر علي هداية الإنسان، ومن ثم يمكن القول بأن العقل هو جناح ابن آدم، بينما الشهوة جناح الشيطان.

لقد سئل أمير المؤمنين سلام الله عليه عن خير خلق الله بعد أئمّة الهدي ومصابيح الدجي، فقال صلوات الله عليه:

«العلماء إذا صلحوا».

قيل: ومن شرّ خلقٍ بعد إبليس وفرعون ونمرود وبعد المتسمّين بأسمائكم وبعد المتلقّبين بألقابكم والآخذين لأمكنتكم والمتأمّرين في ممالككم؟ قال:

العلماء إذا فسدوا، هُمُ المظهرون للأباطيل، الكاتمون للحقائق …».

لم يقل الإمام سلام الله عليه وفق هذا النصّ الشريف بأنّ أفضل الناس من يؤدّي صلاة الليل، أو يعطي الخمس من أمواله، وغير ذلك ممّن يقومون بالأعمال الصالحة، رغم فضلها وعظمتها، ولكنّه أكّد أنّ أفضل عباد الله تعالي هم العلماء إذا فعّلوا عقولهم وأطاعوا مولاهم وأصبحوا صالحين.

العالم الصالح والعالم الطالح

الحسين بن روح والشلمغاني هما من علماء الإسلام. وكانا يتمتّعان بمستوي من العلم الرفيع، إلا أنّ جوهر الصلاح نما في الحسين بن روح فقط، علي عكس شخصيّة الشلمغاني الذي أخذ يبتعد تدريجياً عن الصلاح، رغم أنّه كان أكثر شهرة من ابن روح، كما كان الناس يرجعون إليه في المسائل الشرعية، ولكننا نري في نهاية المطاف أنّ الحسين بن روح أصبح النائب الخاصّ الثالث للإمام صاحب العصر والزمان عجل الله تعالي فرجه الشريف.

لقد كان هذان الشخصان وفي سنين

مديدة متصدّين لحلّ مشاكل الناس ويفتونهم بمسائلهم الشرعية، ولكن كلّما مرّ الوقت كان الحسين بن روح يقترب من الخير والصلاح درجاتٍ، بينما الشلمغاني يبتعد عن الحقّ وتضيع عليه الحقائق وتلتبس، إلي أن بلغ الأمر أن خرج التوقيع الشريف من الإمام المهديّ عجّل الله تعالي فرجه الشريف يقضي بلعن الشلمغاني والتبرّؤ منه.

هنا لا ينبغي التصوّر بأنّ الحديث المتقدّم عن أمير المؤمنين سلام الله عليه قد ورد بحقّ المراجع وعلماء الطراز الأوّل فقط، بل هو حديث يشمل جميع الذين يكتسبون العلم، كلٌّ بمستواه؛ ما يعني أنّ علي طلاب العلوم المختلفة من جامعيين وحوزويين وغيرهم أن يطبّقوا هذا الحديث الوارد عن أمير المؤمنين سلام الله عليه علي أنفسهم ويجعلوا منه نبراساً وضياءً ملهماً لهم.

لا ننسي أنّ موضوع «العالم» أمر نسبيّ، أي أنّه مع وجود تفاوت كبير بين درجات العلماء، فإنّهم يجتمعون في تسميتهم علماء. فالطالب المبتدئ يجب عليه أن يحذر ويتّقي الابتعاد عن الصلاح والنزاهة، بنفس المقدار الذي يتوجّب علي أكبر العلماء وأشهرهم. فالجميع ينبغي لهم أن يسعوا إلي الجمع بين العلم والصلاح، وبين التربية والتعليم في أنفسهم.

ولإنجاز هذه الفريضة لا تكفي مجرّد النيّة والقرار، وإنّما لابدّ من السعي المتواصل وبذل الجهود الحثيثة اللازمة في عمليّة التطبيق.

إنّ الدعاء بمنزلة التصميم، وهو من ضرورات إنجاح العمل، ولكنّه لا يكفي وحده، كما لا يصحّ الاكتفاء بالدعاء في تنفيذ أيّة مهمّة.

يتحتّم علي الإنسان أن يخوض صراعاً مريراً مع الشيطان ومع نفسه الأمّارة وشهواته طيلة عمره.

إنّ الجميع يتمتّع بوجود المؤهّلات الذاتيّة لبلوغ منزلة الحسين بن روح، بل أعلي منها أيضاً، لاسيّما إنّ هذا النائب العظيم لم يتلقَّ أيّة ضمانة في عدم بلوغ شخص مّا درجة أسمي من درجته، ولكنّ مفتاح الوصول منوط

بالإنسان ذاته.

ففي الحديث المتقدّم المرويّ عن الإمام، أمير المؤمنين سلام الله عليه تمّت الإشارة إلي أنّ شرّ الناس عند الله هم «العلماء إذا فسدوا»؛ ومن ثمّ فإنّ تحديد واقع العالِم ومصيره مرتهن به ومتعلّق بإرادته، فإذا سعي وجاهد ونجح في مهمّة الجمع بين العلم والصلاح، أصبح من أفضل الناس، أمّا إذا فشل في جمع الصلاح والخير إلي علمه، وسقط في الصراع مع النفس الأمّارة بالسوء والشيطان، فإنّه لاشكّ سيصبح الكائن الأسوأ في المجتمع البشري برمّته.

وهاتان العبارتان خير الناس، وشرّ الناس دليلان واضحان علي ما لإرادة الإنسان من دور أساسيّ مهمّ ومؤثّر في تحديد مصيره. ولابدّ من الأخذ بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية والتربويّة في صياغة الشخصيّة وتحديد نوعها، لأنّ لكلّ منهما تأثيره ودوره في تنمية الإنسان، ولكنّهما مع ذلك ليسا العاملين الأكبرين.

مثال ذلك: إنّ شهر رمضان المبارك فرصة رائعة من حيث الزمان لكي يستفيد منها الإنسان لتسهيل المهمّة القاضية بتربية نفسه وتهذيبها، مع ملاحظة ما ورد في الروايات المأثورة عن أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين والقائلة بأنّ الله عزّ وجلّ سيحبس الشياطين بالحديد عن أن توسوس لبني آدم في هذا الشهر الفضيل، ولكن هل تكفي فرصة شهر رمضان في استغلال هذا الاستثناء الرائع لكي ينجز الإنسان مهمّته الكبري، والتي من أجلها قد خُلق؟!

الشيطان في شهر رمضان

بين أيدي المسلمين خطبة شريفة متواترة عن النبيّ المصطفي صلي الله عليه وآله، جاء فيها أنّ الله تعالي يحبس الشياطين في شهر رمضان، ثمّ خاطب المسلمين قائلاً: «فاسألوا ربّكم أن لا يسلّطها عليكم».

وبناءً علي إشارات وتعابير كثير من العلماء، فإنّ الشياطين بمثابة أشياء تتحرّك باتجاه الإنسان بواسطة جاذبيّتها الذاتيّة وجاذبيّة النفس الأمّارة بالسوء لها، إلا أنّ مانعاً كبيراً يصدر من قبل الله

تعالي في شهر رمضان المبارك يحول دون إتمام عملية التجاذب، ولهذا المانع قدرة أكبر من قوّة الجاذبة الشيطانيّة، ولكن تبقي جاذبة الشهوات والنفس الأمّارة بالسوء قادرة علي الاقتراب من الشيطان في شهر رمضان، ولولا وجود جاذبيّة الشهوات والنفس الأمّارة، لما كان هناك من يقترف ذنباً طيلة هذا الشهر.

ولنا أن نفهم من خلال روايات أخري، حقيقة الوسائل والأسباب التي تحطّم أغلال الشياطين، التي هي مظهر من مظاهر العناية الإلهيّة.

روي عن أمير المؤمنين سلام الله عليه أنّه قال:

الفتن ثلاث: حبّ النساء، وهو سيف الشيطان. وشرب الخمر، وهو فخّ الشيطان. وحبّ الدينار والدرهم، وهو سهم الشيطان.

كما أنّ لبعض أصحاب المعصومين سلام الله عليهم تفاسير وتحاليل وآراء في روايات المعصومين بصورة عامّة.

ومثال ذلك: أنّ علي بن إبراهيم القمّي رضوان الله عليه وهو من أصحاب الإمام الرضا والجواد سلام الله عليهما، ولعلّ له صحبة للإمام الهادي سلام الله عليه، وكذلك يعتبر أستاذاً للعالم المحدّث الشيخ الكليني، أورد أن من جملة الأسباب التي تفكّ القيود عن الشيطان وتمنحه القدرة علي النفوذ مرّة أخري. الرياء والعجب وعدم إخراج الخمس والزكاة، فما يستفاد من مجموع هذه الروايات أنّ شهر رمضان المبارك هو شهر خاصّ واستثنائيّ.

ولعل سائلاً يسأل قائلاً: اذا كان هذا فعل الشيطان، فلماذا أنظره الله تعالي وأطلقه ثم يحبسه في شهر رمضان؟

وفي معرض الإجابة نقول: إن الله عزّ وجلّ قد أطلق الشيطان ليبتلي به الإنسان ويمتحنه، ولكن الإنسان قد عفي عن هذا الابتلاء والامتحان في شهر رمضان المبارك خاصّة، فهو يتلقّي البركات بلا جهد بذله أو عمل قدّمه.

قصة حبال الشيطان

قيل إنّ شخصاً جاء إلي الشيخ الأنصاري وقال: لقد رأيت الشيطان في عالم الرؤيا وكان معه مزيد من الحبال والسلاسل بأحجام مختلفة، فسألته عنها،

فقال: إنّها وسائل عملي حيث أجذب الناس بها وأجرّهم إليّ، فبعض منهم بالحبال أسحبهم، وآخرون بما دقّ منها، ومنهم بالسلاسل الغليظة، أيّ أنه يستخدم وسائله بما يناسب كل إنسان حسب مستوي إيمانه ومقاومته.

قال: ثم رأيت سلسلة محطّمة متناثرة قطعاً صغيرة، فسألته عنها؟ فقال: لقد ألقيت هذه السلسلة الكبيرة علي عنق الشيخ الأنصاري لأقيّده بها، ولكنه قاوم حتي تحطّمت وتناثرت.

ثمّ إنّ هذا الرجل صاحب الرؤيا قال: فسألت الشيطان في المنام نفسه عن أيّ الحبال قد خصصّها لجذبي نحوه، فأجابه الشيطان بأنّك لا تحتاج إلي واحد منها، لأنّك تستجيب لي بإشارة بسيطة منّي!!

أقول: إنّ أمام الإنسان فرصة مواجهة النفس الأمارة بالسوء والشيطان ما دام علي قيد الحياة ليحفظ نفسه ويصونها دون الاضطرار إلي الانحراف، حيث لا يجد لنفسه فرصة الندم عند الموت، ولات حين مناص.

الهلع من الذنب

الهلع من الذنب

«يا أبا ذر، إنّ المؤمن ليري ذنبه كأنّه تحت صخرة؛ يخاف أن تقع عليه، وإنّ الكافر ليري ذنبه كأنّه ذباب مرّ علي أنفه» …

يكمن الفرق بين المؤمن والكافر في موقف كلّ منهما إزاء الذنب والخطيئة، فالكافر لا يولي أهميّة تذكر لذنوبه، ولا يتحسّس أو يخاف ممّا تقترفه يداه. ولكن المؤمن يتوجّس خيفة من ذنبه حتي وإن مرّ زمن علي اقترافه إيّاه، فتراه يتوقّع عواقب ذنبه الظاهرية أو الباطنيّة، ويعيش اضطراباً وقلقاً نفسيّين لا يستبعد معهما تلقّي الإجابة والردّ التكويني علي الذنب مطلقاً.

ثمّ إنّ إيمان الفرد كلّما ارتقي مرتبة، تضاعف هلعه من الذنب مرتبة مثلها. فلو تصوّرنا شخصاً رأي نفسه فجأة في وسط الصخور ويحتمل تساقط المزيد منها، تراه ولو كان الاحتمال ضعيفاً يعاني قلقاً يسلبه راحته وتركيزه.

فيا تري لو وجد المرء نفسه في هذه الحالة، فهل سيكون بمقدوره النوم؟ وهل سيلتذّ بطعام؟

فاحتمال

سقوط الصخور وإن كان ضعيفاً إلا أنّه سيسلبه الراحة والاستقرار، ويضطرّه إلي معاودة النظر والالتفات، حذراً من تساقط مزيد من الصخور علي رأسه، رغم علمه المسبق بأن إعادة النظر لا تأثير له في تساقط الصخور أو عدمه، والنبيّ المصطفي صلّي الله عليه وآله قد ضرب مثلاً في هذا المقطع من وصيّته الشريفة لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه ليكون مقياساً يمتحِن به الإنسان مستوي قدرته علي مدي اقترابه من جوهر الإيمان.

مجيء حرف (إنّ) في مطلع عبارة الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله، ثم استخدام (اللام) لفعل (يري) يفيدان تأكيد المعني، رغم أنّ الجملة توصل معناها دون الحاجة ل (إن واللام)، ولكن النبي الأعظم ونظراً للأهميّة التي رآها لهذا المفهوم، فقد استفاد من أداة التأكيد مرّتين، ليُعلم الشبه الكبير بين المثال الذي تمّ طرحه وبين مفهوم هذا المقطع من الوصيّة.

وعليه؛ فإنّ الفرد المذنب لا يستطيع إيجاد تغيير ما في ذنبه الذي ارتكبه عن طريق الاضطراب. إلا أنّ هلع المؤمن أقرب إلي التوبة والصلاح من عدم مبالاة الكافر تجاه ذنبه. فكلّ فرد مدعوٌّ إلي الرجوع لنفسه ليري هل خلّف ارتكاب الخطيئة في وجوده هلعاً واضطراباً؟ وهل هو نادم عمّا اقترفت يداه؟

الكافر والذنب

القسم الثاني من العبارة خاصّ بالحديث عن الكافر وموقفه من الخطيئة والذنب. وهنا ينبغي الالتفات إلي حقيقة أنّ الكافر بدوره يرتكب الذنب، ذلك لأنّ الكافر الواقعي يستقبح بعض الممارسات ولكنّه يرتكبها رغم أنّه يعتبرها خطيئة. ثمّ إنّ للكفر مراتبه كما للإيمان مراتبه، لاسيّما أنّ كثيراً من المسلمين وفي حالات معيّنة يُعَدُّون بناءً علي بعض الآيات والروايات الأخلاقيّة كافرين، من حيث التكليف في دائرة الإسلام. بعبارة أخري: لا يلزم أن نتصوّر الكافر شخصاً مشركاً منكراً لأصل الوحدانية،

أو ملحداً منكراً لوجود الله تعالي. فالبارئ سبحانه وتعالي وصف في القرآن المجيد من يتجاهل فريضة الحجّ كافراً، وقال:

ولله علي الناس حِجُّ البيتِ مَنِ استطاع إليه سبيلاً ومَنْ كفَر فإنّ اللهَ غنيٌّ عن العالمين.

مع أنّه قد يكون متشهّداً الشهادتين ومقيماً للصلاة ومؤدّياً للخمس والزكاة، وجمع في نفسه بقيّة شرائط الإسلام.

وإذا أمعنّا النظر في النصّ النبويّ موضوع البحث، وجدنا أنّ عدم انتشار الخوف والاضطراب في ذات المرتكب للذنب يوجب إطلاق وصف الكافر عليه، لأنّ من توصّل إلي معرفة الله الواحد الأحد الفرد الصمد بشكل صحيح، واعتقد ذلك في عقله وقلبه، استطاع أن يغيّر موقفه من الذنب، كما أمكنه أن يستدعي به استيلاء الهلع علي نفسه، وإن لم يحدث ذلك لشخص ما حين اقترافه للذنب، فعليه التأكد بأنّه لم يعرف الله بعد، وبالتالي فهو في حقيقة أمره مصداق للكافر.

إنّ بمستطاع الإنسان المؤمن أن يربّي نفسه بشكل لا يبقي فيه علي الخوف من الخطيئة أو الهلع أو أيّ شيء من نتائجها في داخله حيّاً دائماً، كما له القدرة علي أن يعيش أيّامه مجرّداً عن تحمّل مسؤولية ذنوبه، بعيداً عن أيّ تفكير وهلع في نتائج ما اقترفت يداه.

وهذه الحقيقة تشير بوضوح إلي أنّ للنفس البشرية خلافاً للبدن قابليات متضادّة ومتفاوتة، فهي ليست محدودة كقابليات الجسد، إذ مهما تكن عين الإنسان قويّة، تعجز عن قراءة سطر من الكتابة وضع علي مبعدة منها حسب المتعارف كذلك فإنّ أقوي العيون لا يمكنها قراءة سطر واحد إذا وضع علي مسافة سنتمتر واحد، وهذه المحدوديات وأمثالها توضّح طبيعة التفاوت الكبير بين جسم الإنسان وروحه، إذ لا محدودية لهذه الأخيرة كمحدودية الجسد؛ فهي غير مقيّدة بما يحيط بها بشكل كبير أو دائم.

إنّ قابليات الإنسان في

القضايا النفسيّة والروحيّة، سواء علي المستوي الإيجابي أو السلبي غير محدودة في بعض الأحيان، وسواء في أطر السعادة أو أطر الشقاء، فهي تمتاز بحريّة حركة أكبر ومساحة أوسع، للانطلاق نحو الرشد والتكامل أو السقوط والانحطاط.

فجميع الناس قادرون علي تحطيم قيود الكفر، والابتعاد عن الجهل، والوصول إلي معرفة الله بالصورة الممكنة، كما أراد الله تعالي، وهذه القدرة علي الانطلاق نحو الخير هي التي تبعث في وجودهم الهلع والاضطراب من ذنوبهم التي يقترفونها، وكذلك هم قادرون بما لنفوسهم من حريّة حركة علي أن يبتعدوا عن الله ربّهم ويختطّوا لأنفسهم مسيرة الإجرام وإراقة الدماء وقتل أولياء الله تعالي، دون أن تهتزّ لذلك ضمائرهم وترتجف له قلوبهم.

وقد ورد في بعض الروايات أن تحسّس الإنسان المؤمن تجاه الذنب قد يبلغ حدّاً في بعض الأحيان بحيث يشعر بوخز الضمير وتفاقم الألم والندم، وإن مرّ عليه عشرون عاماً، فتراه يختار التوبة إلي الله تعالي، وآنذاك يتفضّل عليه ربّه بالمغفرة والعفو، بل لعلّه يبدّل سيّئاته حسنات ويكتب له رضواناً وجنّة أبديّين.

قصة المرأة العفيفة والشاب الفاسق

روي عن الإمام السجاد سلام الله عليه حكاية جديرة بالتأمّل نلخّصها علي النحو التالي:

سافر عدّة من الناس علي متن سفينة، وفجأة هبّت عليهم عاصفة أغرقت سفينتهم وجميع من كان عليها، إلا امرأة شابة استطاعت النجاة علي جذع كان طافياً، فالتجأت إلي جزيرة كبيرة مكتظّة بالسكان.

وكان في هذه الجزيرة شاب ماجن، التقته المرأة الشابة علي نحو الصدفة، وما إن رآها حتي تحركت شهوته تجاهها إذ كانت جميلة جداً فسألها عمّا إذا كانت من الإنس أو الجن!

فأجابته وهي تعاني الإرهاق الشديد لما تعرّضت له ولما رأت من غرق الذين كانوا معها في السفينة، بأنّها من الإنس.

فاقترب منها الشاب بقصد الخطيئة، فتفاجأ برؤية المرأة ترتجف

بشدة ويهتزّ بدنها، فسألها عن سبب ذلك، فقالت له بأنّها خائفة، فقال لها: وممن تخافين وليس من أحدٍ معنا؟!

فأشارت بيدها إلي السماء وقالت: أخاف الله تعالي …

وهنا أحسّ الشاب بانقلاب في نفسه حيث ترك جواب المرأة أثراً بالغاً فيه، ولم يشعر إلا وهو يهمّ بترك هذه المرأة العجيبة، ولكنّه التفت نحوها قائلاً: إنّك تشعرين بكل هذا الخوف ولم ترتكبي ذنباً، فالويل لي أنا المذنب وقد أردت حملك علي ارتكاب الخطيئة!

لقد انقدحت في نفس هذا الشاب شرارة المعرفة، وهو الذي كان حتي الأمس رجلاً فاسقاً لا مبالياً، فقرّر التوبة الي الله تعالي …

وفي طريق عودته التقي راهباً من الرهبان، فاتفق لهما أن سارا معاً، وحيث كان الراهب منزعجاً من شدّة الحرّ، فقد قال للشاب: تعالَ لندعوا الله تعالي ليرسل الله لنا غمامة نستظل بفيئها ونواصل مسيرنا.

ولكنّ الشاب الذي كان يشعر بشديد الخجل من سلوكه مع تلك المرأة، أجاب الراهب قائلاً: لا أشعر بالطهارة في نفسي كي يكون دعائي ذا فائدة، وإنّني لأخجل من سيرتي السابقة حتي أقف بين يدي الله.

فقال له الراهب: إذن سأدعو أنا، وما عليك إلا أن تؤمّن علي دعائي.

وفعلاً؛ توجّه الراهب بالدعاء طالباً من الله تعالي أن يرسل عليهما غيمة تظلهما ليتخلّصها بها من أشعة الشمس الحارقة. فأمّن الشاب علي دعائه. ولم يمضِ عليهما كثير وقت حتي رأيا غيمة تسير فوق رأسهما وتظللهما إلي أن بلغا مفترقاً للطرق، فانفصلا عن بعضهما، كلاً باتجاه مقصده، ولكن المفاجئ في الأمر أنّ الغيمة تبعت الشاب بينما بقي الراهب بلا ظلال!!

فأدرك الراهب أنّ الله تعالي قد استجاب لتأمين الشاب فحسب، دون دعائه، فاقترب منه وسأله عمّن يكون لينعم عليه الله بهذه المنزلة السامية، فقصّ عليه الشاب حكايته،

فقال له الراهب: إنّ الله أنعم عليك بهذه المرتبة الرفيعة لما قدّمت بين يديه توبتك وأظهرت خوفك من المعصية.

بلي! إنّ الله تبارك وتعالي يمنّ علي عباده ويرحمهم حيث يهدمون وراءهم جسور المعصية ويتوجّهون إليه بقلوب خاشعة، ونفوس هاربة إليه ممّا يسخطه، فيتوب عليهم إذ يقرّرون في ثوانٍ معدودة التوبة عن سنين الخطايا والموبقات، وإذ ذاك يفتح لهم رحاب الرحمة وآفاق المعرفة والتكامل.

قصة أخري

قيل: إنّ شخصين ذهبا إلي مجلس مّا، وما إن استقرّ بهما المقام حتي قام أحدهما وغادر المكان، فظنّ صاحبه أن أمراً ما قد ألمّ به أو عارضاً قد أصابه. وبعد ما رآه مرّة أخري سأله عن سبب تركه للمجلس، فأجابه قائلاً: لقد كان لي مع أحد الذين كانوا حاضرين في المجلس مشكلة، فظننت أنّ حضوري في المجلس سيسبّب إحراجاً لي، فرجّحت مغادرة المكان.

يتّضح من ذلك أنّ احتمال ذهاب ماء وجهه دعاه إلي مغادرة المجلس، ولعلّ ذلك لا يحدث أبداً، بل ولعلّ ذلك الشخص الآخر قد نسي أو غفل عن أصل المشكلة، ولكن هذا الاحتمال علي ضعفه دفعه إلي المغادرة، والآن لننظر إلي أيّ مدي تحظي الرغبة بحفظ ماء الوجه لدي الوقوف أمام الله تعالي بالأهمية عندنا.

كنوز ثمينة

تعتبر الآيات القرآنية والنصوص الدينيّة، بما فيها الأحاديث النبويّة وسائر روايات المعصومين صلوات الله عليهم كنوزاً ثمينة ورأسمالاً لا يضاهي لحياة الإنسان في الدنيا والآخرة، حيث يمكن لابن آدم استثمارها في تعبيد طريقه نحو النجاح والفلاح في كلا الدارين، ولو أعاد النظر بالموقف من هذه الكنوز وعادلها بمال الدنيا من ذهب وفضّة لتبيّنت حقيقة تفاهة هذا المتاع القليل إزاء كلمات الله تعالي وكلمات المعصومين سلام الله عليهم، تلك الكنوز المفعمة بالحكمة والنور والفوز العظيم.

إنّ هذه الكلمات تناسب وتأخذ بيد الإنسان نحو الصلاح والفلاح دائماً وأبداً، فهل يمكن قياسها مع أموال الدنيا الماديّة والظاهريّة علي ما هي من متاع قليل؟

إنّ للإنسان بعدين وجوديين، روحانيّ وجسمانيّ، ولكلّ واحد من هذين البعدين آفاته وأمراضه، وهي قابلة للعلاج إذا ما تمّت الاستفادة من تلكم الكنوز، فإذا ما تمّ الالتفات بدقّة إلي تلكم الكلمات النورانية الحكيمة، أمكن استيحاء واستلهام النصائح والإرشادات والتعاليم الفذّة والدروس

القيّمة التي يستطيع ابن آدم من خلالها إعمار دنياه وآخرته. إنّ القرآن وأحاديث أهل البيت سلام الله عليهم: هما الطبيب البارع والعلاج الناجع لأمراض وآفات الإنسان جميعها.

ابن أبي الحديد ونهج البلاغة

لأمير المؤمنين سلام الله عليه خطبة مهمّة وكلّ خطبه وكلماته سلام الله عليه كذلك جديرة بالمطالعة والتدبّر، باعتبار احتسابها أفضل عبرة للناس. وقد أورد الشريف الرضي هذه الخطبة العظيمة في (نهج البلاغة) فيما أولاها ابن أبي الحديد مزيداً من الاهتمام في (شرح نهج البلاغة) خاصّة، وقد قال في معرض تبيينه لشيءٍ من عظمة هذه الخطبة: وأقسم بمن تُقسم الأمم كلّها به لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلي الآن أكثر من ألف مرّة ما قرأتها قط إلاّ وأحدثت عندي روعة وخوفاً وعظة وأثّرت في قلبي وجيباً وفي أعضائي رعدة.

وقبل التمعّن في كلام ابن أبي الحديد، لابدّ من إلقاء نظرة علي شخصيّته العلمية ليتمّ إدراك أهميّة كلامه في هذا الباب.

يعتبر ابن أبي الحديد من شيوخ وأساتذة والد العلامة الحلّي رضوان الله تعالي عليهما. وقد قام بشرح (نهج البلاغة)، ومن ناحية أخري؛ فإنّه فضلاً عن شرحه، فقد أتي علي ذكر الكثير من أقوال أمير المؤمنين سلام الله عليه التي لم يدوّنها الشريف الرضي رحمه الله في (نهج البلاغة) ذلك لأنّ ما جاء في هذا الكتاب الشريف لا يحوي جميع كلام الإمام علي سلام الله عليه، وإنّما تضمن مختارات من خطبه وكلماته.

والآن نجد هذا المحقّق المفكّر الذي قضي عمره في تحصيل العلم، وسمع الكثير الكثير من الأحاديث والروايات، وبلغ منزلة مرموقة في فهم واستيعاب كلمات وأقوال أمير المؤمنين سلام الله عليه، نجده يؤكّد بأنّه يواجه نصّاً جديداً رغم قراءته لنصّ الخطبة العلويّة المذكورة لأكثر من ألف مرّة، وهي الخطبة الخاصّة

بقضايا الآخرة والموت، كما نراه يؤكّد بأنّه كلّما قرأها، رآها تترك فيه من الأثر مالم تتركه عليه المرّة السابقة لها، مع أنه قد طالع الأشعار والنصوص الأدبيّة الكثيرة الخاصّة بشأن الموت والآخرة.

ثمّ يعود ابن أبي الحديد ليسأل نفسه عن السبب الحقيقي لهذا التأثير العجيب.

ويجيب هو قبل غيره علي هذا السؤال قائلاً: وكم وقفت علي ما قالوه، وتكرر وقوفي عليه، فلم أجد لشيءٍ منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي، فأمّا إن يكون ذلك لعقيدتي في قائله أو كانت نيّة القائل صالحة، ويقينه كان ثابتاً، وإخلاصه كان محضاً خالصاً، فكان تأثير قوله في النفوس أعظم، وسريان موعظته في القلوب أبلغ.

في بداية الخطبة، تلا مولانا أمير المؤمنين سلام الله عليه آيات من سورة التكاثر المباركة، فقرأ:

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّي زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ.

ثمّ قال سلام الله عليه:

«يا له مراماً ما أبعده! وزوراً ما أغفله! وخطراً ما أفظعه! لقد استخلوا منهم أي مُدّكر، وتناوشوهم من مكان بعيد، أفبمصارع آبائهم يفخرون … ؟ أم بعديد الهلكي يتكاثرون … ؟ ولأن يكونوا عبراً أحقّ من أن يكونوا مفتخراً».

وقال سلام الله عليه في فصل آخر من هذه الخطبة:

«الذين كانت لهم مقاوم العزّ، وحَلَباتُ الفخرِ، ملوكاً وسُوقاً، سلكوا في بطون البرزخ سبيلاً …»

الاعتبار بالمقابر

حقاً إنّ بمستطاع الإنسان أن يستلهم العبر الكثيرة من رؤية المقابر، وحيث يطّلع مع ذلك علي معارف كالمعارف التي تضمنتها خطبة مولي المتّقين وسيّد الزاهدين سلام الله عليه المشار إليها، فإنّه سيقضي علي غروره وتكبّره إلي حدّ كبير، وسيصبّ عظيم اهتمامه علي أمر الآخرة.

ومن ناحية أخري؛ يؤكّد الإمام علي سلام الله عليه أنّه علي افتراض كون التفاخر بالأموات أمراً حسناً، فإنّ استلهام العبرة من مصائرهم أمر أحسن وأشدّ إلحاحاً. فبدلاً من الاغترار

بماضي الآباء والأجداد تفاخراً يراد منه التكبّر، علينا أن نأخذ من واقعهم الذي هم عليه الآن الدرس والعبرة.

وبهذه العبرة والاعتبار سيكون من الصعب علي الإنسان أن يغضّ النظر عمّا قد يرتكبه من الذنوب، وما قد يترتّب عليه من النتائج، لأنّه ستعتوره حالة من الهلع والاضطراب، وسيخاف أبداً من أن لا يغفر الله له، بل سيكون الذنب بمثابة حجر كبير يجثم علي صدره، فينتهي به إلي الاختناق فالهلاك!!

دعاء الشيخ عباس التربتي

كان المرحوم الشيخ عباس القمّي والمرحوم الشيخ عباس التربتي والد المرحوم الراشد الواعظ إنسانين عظيمين ونادرين، كما كانا من عظماء خطباء المنبر والموعظة، وكانا يتركان الأثر الطيّب في من يستمع إلي خطبهما.

ذات يوم ارتقي المرحوم الشيخ عباس القمي منبر مسجد گوهر شاد، وكان الناس يصغون إليه، فإذا بالشيخ عباس التربتي يدخل المسجد، فقطع الشيخ القمّي خطابه؛ إكراماً وإجلالاً للشيخ التربتي، قائلاً: لقد حضر الفيض، وها أنا ذا أنزل من المنبر لكي نستفيد جميعاً من الشيخ التربتي.

فأجابه الشيخ التربتي قائلاً: ولكنّني جئت لمجلسك لأستفيد منك. ولكن إصرار القمّي حمل الشيخ التربتي علي ارتقاء المنبر. فجلس علي مرقاته الأولي واستقبل الناس الجالسين قائلاً: لقد استمعتم الي مواعظ الشيخ القمّي، ولست علي استعداد لأضيّع أوقاتكم، ثمّ نظر إلي الحاضرين وقال:

أيّها الشيوخ والكبار، يا من هم بعمري، لعلّكم علي علم بكثير من القضايا، وأنا لا أدري ما أقول، ثم استدعي الأطفال والصبية لكي يتقدّموا قرب المنبر.

وحينما اجتمعوا إليه وجلسوا عند المنبر قال: لا شأن لي مع كبار السن، وحديثي منصبّ معكم أيّها الصغار الأبرياء، لقد قدمت إلي مدينة مشهد المقدّسة لأستفيد فيها، ولكن لم أصب فائدة بنزول الشيخ عباس القمّي، ولعلّني أستفيد منكم أيّها الصغار لأنّ لكم صحائف بيضاء لم يكتب فيها

ذنب وخطيئة، ذلك لأنّ: «القلم رفع عن ثلاث: عن الصبيّ حتي يحتلم، …» ولذلك فإنّني سأرفع يدي بالدعاء وعليكم أن تؤمّنوا علي دعائي واطلبوا من الله تعالي أن يستجيب لنا ويقبل دعاءنا.

فرفع الشيخ التربتي يديه داعياً: إلهي، لسنا معصومين، ولكنّنا لا نرغب في ارتكاب ذنب، وليس في نيّتنا مخالفتك، غير أنّنا سقطنا في الذنوب، ولا نعلم أيّها سيكون محطّ غضبك، وأيّها ستَغفر وتَمحو … إلهي! إنّ هؤلاء الصبية لم يرتكبوا ذنوباً بعد، فاقبل دعاءهم وارحمنا.

فنادي الصبية جميعاً: إلهي آمين. حتي تغيّر جوّ المجلس واصطبغ بصبغة أخري، وعمّت الجميع الفائدة.

حقاً إنّ خطاب هؤلاء العظماء يصدر عن قلوبهم، ولذلك كان تأثيرهم في القلوب مباشراً أيضاً.

كيف ينبغي أن يكون المؤمن؟

كيف ينبغي أن يكون المؤمن؟

«يا أبا ذر، إنّ نفسَ المؤمنِ أشدُ ارتكاضاً من الخطيئة من العصفور حين يُقذف به في شركه».

في هذا القسم من الوصيّة الشريفة، يشير النبي صلي الله عليه وآله استمراراً للحديث السالف عن الهلع من الذنب، واستفادة من مثالٍ جميل إلي حالة المؤمن أثناء ارتكاب الذنب، حيث يؤكّد عليه وآله الصلاة والسلام أنّ قلب المؤمن حين اقتراف الخطيئة يرتجف أكثر من ارتجاف قلب العصفور الرقيق حين وقوعه في فخّ الصياد.

إنّ كلمة (ارتكاض) تعتبر كلمة غريبة ونادرة الاستعمال بين الكلمات الأخري. فهذه الكلمة لا وجود لها في نصوص الروايات إلا ما ندر.

والارتكاض: يعني الاضطراب. ولكن للاضطراب مراتب ودرجات.

وحيث إنّ الارتكاض يقف علي قمّة مراتب الاضطراب، فإنّه لا يستعمل في أيّ نوع من الاضطراب كان.

ومثال ذلك: إذا ألقيت علي رجل من الأعيان تهمة السباب والفحش في القول، فإنّه سينزعج لذلك ويضطرب. وفي هذه الحالة لا يعبّر عن انزعاجه واضطرابه بالارتكاض. ولكن هذا الشخص نفسه إن اتّهِم بتهمة الفسق والفجور، فإنّ الارتكاض في هذه الحالة سيصدق

تماماً علي انزعاجه واضطرابه؛ لأنّ اضطرابه سيكون في أعلي درجاته، وقد يضطرّ إلي الهجرة عن محلّ سكناه؛ ومن ثم فإنّ الاضطراب حسب أقوال علماء اللغة والبلاغة ذو معني مشكّك، وله درجاته الخاصّة به.

العلاقة بين الارتكاض والارتكاب

ثمّة قضيّة لطيفة في هذا الحديث الشريف، وهي أنّ النبي المصطفي صلي الله عليه وآله اعتبر حصول الارتكاض في قلب المؤمن من مجرّد ارتكابه الخطأ كافياً، أيّ إنّ المؤمن الحقيقي وفق المنظار النبويّ هو من يهتزّ وجوده لارتكابه الخطأ، وليس بالضرورة أن يكون خطؤه ذنباً أو معصية، ويتّبع ذلك الاضطراب بأشدّ صورة.

نعم؛ إنّ النصّ النبويّ الشريف لم يستخدم كلمة (ذنب أومعصية)، وإنّما استفاد من كلمة (خطيئة) وهي تعني في بعض الأحيان الاضطرار إلي المعصية، أو ترك الأولي، هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ وراء انتخاب المعصومين سلام الله عليهم لهذه الكلمة دون غيرها حكمة بالغة وبلاغة فائقة، وهم سلام الله عليهم لا يستعملون الكلمات المترادفة أو القريبة من بعضها في المعني إلا ضمن انتخاب دقيق وعناية خاصّة. وهكذا فإنّ النبي صلي الله عليه وآله حينما لم يستعمل كلمة (معصية) ولجأ إلي استخدام كلمة (خطيئة) يعني بأنّه كان بصدد تبيين وتأكيد مراتب خاصّة في هذه المعاني المتقاربة.

إذن فاستفادته صلي الله عليه وآله من كلمة (ارتكاض) في هذه الجملة كان هادفاً، وهذه البلاغة النبويّة الحكيمة إنّما كانت من أجل توضيح أهميّة الموضوع ودرجته، ولذلك أدرج صلوات الله وسلامه عليه في حديثه كلمة نادرة الاستخدام، وإلا كان بمستطاعه أن يأتي مثلاً بعبارة (أشد اضطراباً) لانسياقها في نفس المعني.

والقضية اللطيفة الأخري في هذا الحديث اختياره صلّي الله عليه وآله للعصفور في وصف درجة الاضطراب، ولاشك أنّ الطير بل الحيوانات جميعاً بما فيها الإنسان أيضاً، يصابون بالاضطراب

جميعاً حينما يسقطون في فخّ من الأفخاخ، ولكن يبدو أنّ شدّة اضطراب العصفور آنذاك أكثر وضوحاً، لاسيّما أنه في تلك الحالة المزرية سيمتنع عن شرب الماء والتقاط الحبّ، بل عن كامل حريّته، فتراه يرتطم ببدنه بهذا الجانب وذاك لعلّه يتخلّص من فخّه أو شراكه.

لا تستصغرن ذنبك

يتفاوت الناس في طبيعة اضطرابهم للذنوب، كما يتفاوتون فيما بينهم بكثير من الأمور.

فتارة يقال لأحدهم: لماذا أذنبت؟ فيجيب بأنّه لا يرتكب كبائر الذنوب وإنّما يكتفي بصغائرها مشيراً إلي أمله لأن يحاسبه الله عليها فقط!!

وهذا النوع من التفكير في المحاسبة المأمولة في استصغار الذنوب قد عبّرت عنها الروايات الكريمة بأنّها ذنوب لا تُغفر، لأنّ الاستصغار بحدّ ذاته يعدّ من كبائر الذنوب؛ قال الإمام الصادق سلام الله عليه:

«اتقوا المحقّرات من الذنوب، فإنّها لا تُغفر».

أي مع استصغارها والتهاون في الموقف منها.

الاضطراب لدي ارتكاب الذنب، من الإيمان

وفقاً لما تقدّم؛ إنّ الاضطراب لدي ارتكاب المعصية يعدّ الشرط الأوّل لوجود الإيمان في قلب الإنسان. أما من يقضي كلّ نهاره في ارتكاب الذنوب والمعاصي دون أن ترتجف له شعرة ثم ينام هادئ البال، فهو لاشكّ خارج عن دائرة الإيمان. بينما لو سمع هذا الشخص نفسه بأنّ من المقرّر اعتقاله أو اعتقال أحد أقاربه، فهل تراه ينام ليلته مطمئنّ البال؟ أم هل سيكون لنومه معني؟ ولذلك فإنّ نومه الهنيء بعد ارتكابه للذنب يعني أنّه محروم من معرفة عظمة الله تعالي وخارج عن دائرة الإيمان.

إنّ علي الإنسان أن يحيي في نفسه حالة الاضطراب حين ارتكابه الذنب، كما عليه أن يبذل قصاري جهده ليصل إلي درجة من الإيمان عبر التمرين والممارسة.

نعم، هكذا كان العظماء الصالحون الذين إنّما وصلوا إلي ما وصلوا إليه من الإيمان بوسيلة المراقبة التدريجيّة للنفس.

إنّ قلب المؤمن يشبه إلي حدّ كبير جداً وعاء الماء الذي يصلح بعد حدوث شرخ أو كسر فيه، فهو في ظاهره سالم من العيوب، وقد يحافظ علي جميع قطرات الماء المسكوب فيه من الانسياب، ولكنّه في الوقت ذاته لا يبقي وعاءً سالماً.

إنّ أثر ذلك الشرخ في الوعاء يشابه اللوعة والألم للذين يحرقان

قلب المؤمن جرّاء ارتكاب الخطيئة. لهذا فإنّ الإيمان لن يترك للمؤمن الحقيقي شعوراً مريحاً حين ارتكاب الذنب، بل إنّه سيستعذب الخير والصلاح ويكره الخطيئة كرهاً حقيقيّاً.

إنّ علي الإنسان أن يعي الحكمة الأساسيّة من وجوده في الحياة الدنيا، ثمّ يتصرّف وفق ما يمليه عليه وعيه لفلسفة خلقته، كما عليه أن يعرف بأنّه سيغادر الدنيا لا محالة ذات يوم، وسيدخل عالماً ملؤه الهيبة وحاكميّة العدل.

فكلّ عام ينقضي، يغادر معه عدّة من الأشخاص الذين كانوا بين ظهرانينا، ونتحسّس نحن من جانبنا الفراغ الذي خلّفوه برحيلهم، وهذا كلّه لا يعدو أن يكون رسالة مباشرة لنا نحن الأحياء، ودليلاً علي اقتراب يوم الهيبة والعدل.

وجميع الرسائل والإشارات والمواعظ الأخلاقيّة أمور منبّهة، ولكن المرجع في جميع ذلك هو مراقبة النفس ومحاسبتها المستمرّة، لئلا تنفلت من عقالها، ثمّ لا يستطيع صاحبها كبح جماحها أبداً.

ليلة القدر

طبقاً لإحدي الروايات الشريفة؛ فإنّ ليلة التاسع عشر من شهر رمضان تعتبر (ليلة التقدير) والليلة العشرين(ليلة القضاء) أما ليلة الثالث والعشرين فهي (ليلة الإبرام)، وهي كلّها ليالي القدر، ولكن مع تساويهن في هذا المجال إلا أنّ لكلّ واحدة منهنّ خصوصيّاتها التي تميّزها عن غيرها.

وحسب الروايات الكريمة بهذا الشأن؛ سمّيت الليلة التاسعة عشرة ب (ليلة التقدير) أيّ أنّها الليلة التي تحدّد فيها حدود حياة الإنسان من حيث الكميّة، فتعرف فيها هيكليّة حياته من ناحية السعادة والشقاء، والراحة والألم، والطاعة والمعصية، والغني والفقر، والصحّة والمرض.

وحينما تنقضي هذه الليلة بطلوع الفجر تُعيّن هيكلية حياة الإنسان وتعلم، وبكلمة: يجري التقدير فيها.

وكذلك يعلم في ليلة التقدير هذه تقدير ابن آدم من حيث الأعمال التي سينجزها، أو المراتب والدرجات التي سيرتقيها. أي أنّه سيعلم من هذه الليلة من هو: «أشد ارتكاضاً من الخطيئة».

وبعد مرحلة (التقدير)

تحلّ ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك، والتي فيها يثبّت لابن آدم ما علم وحتم وقُدّر في الليلة التاسعة عشرة. أي أنّ التقدير لمّا عُلم، حلّت مرحلة تفعيل هذا التقدير. تماماً كما يطالع القاضي ملفّ موضوع الدعوي ثمّ يرجع الحق إلي أحد الطرفين في الدعوي، إلاّ أنّه يوكل إصدار الحكم النهائي إلي وقت آخر، فإذا ما سئل القاضي عن مضمون الحكم الذي لم يصدر بعد، فإنّه قد ينبئ به، ولكن صدور الحكم بشكل قاطع قد أرجئ إلي حين آخر.

أما الليلة الثالثة والعشرون؛ فتسمي ليلة (الإبرام) والإبرام لغةً يعني شدّ خيوط الحبل بعد أن كانت منفصلة ومنفكّة، وهنا يعني تأكيد الحكم الحتمي الذي كان قد صدر من قبل، فالتقدير والتثبيت يكون الحكم فيهما غير قابل للنقض في هذه الليلة، رغم إبرام الأحكام الصادرة في هذه المرحلة الحتميّة يمكن أن تبدل وتغيّر بواسطة الإرادة الإلهيّة المطلقة، وذلك طبقاً لمضمون هذه الرواية الشريفة. بعبارة أخري: إنّ الإبرام والحتم وتحديد البركات والفيوضات هو من جانبنا نحن البشر، وليس من جانب الرب الخالق القادر والمتفضّل في واقع الأمر.

ولعلّ شهر رمضان المبارك وليالي القدر الشريفة وأوقات أخري مميّزة قد اختصّت لتحقيق هذا الأمر تلزم الفرد المؤمن باستثمارها، باعتبارها فرصاً ذهبيّة.

وإنّنا نلاحظ من جانب ثانٍ أنّ الأئمة المعصومين سلام الله عليهم كانوا حريصين أشدّ الحرص علي توضيح هذه الحقائق الرائعة للناس، وليست الروايات الشريفة والأدعية المباركة المخصّصة لهذه المناسبة أو تلك إلا وسائل وآليات كسبٍ واجتذاب للمسلمين كي يدركوا شرف تلكم المناسبات والاستفادة من فضائلها لتحقيق ما يتسني لهم من الرقيّ والتقدّم في طبيعة النظرة إلي الاستغفار والتوبة، وصقل الشخصية الإيمانيّة باتجاه الحذر من الذنوب والخطايا.

نعم؛ إنّ الوقت المحدّد ومعرفة المناسبة

الخاصّة لنهل الفيوضات الربانيّة المباركة قضية مهمّة للغاية ومثمرة في الحين ذاته. ورغم أنّ الله المتعال في شهر رمضان المبارك هو نفسه الرب الوهاب في فترة ما بعد هذا الشهر الفضيل وما قبله، ولكن لموسم الصوم خصوصية وميزة غير موجودة في غيره من المواسم والمناسبات، مثله في ذلك مثل الموسم الزراعي حيث تنشر البذور في الارض، ولو أنّك نثرت أضعافاً مضاعفة من البذور في غير الموسم الخاصّ، ما أينع زرع ولا اشرأبّت نبتة.

وقد نسبت في هذا المعني أبيات شعرية لطيفة المعني للإمام أمير المؤمنين علي سلام الله عليه، حيث جاء فيها:

إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً

ندمتَ علي التفريط في زمن البذر

وما إن ليوم البعث زاد سوي التقي

تزودته حتي القيامة والحشر

أقول: قد يتّفق أن يفتقر المرء إلي أرض زراعيّة، أو يكون عاجزاً عن امتلاك وسائل الزراعة، فتراه لايندم علي شيءٍ لأنّه يفتقر إلي أصل القضيّة، وهو القدرة علي أن يكون مزارعاً، ولكن النادم الأكبر هو من تتوافر لديه جميع الإمكانات، كالأرض والبذر والماء، غير أنّه لا يحرّك ساكناً ويترك الأرض يباباً، وهو الذي يوصف بأنّه مصاب بداء التفريط المروّع.

وبما أنّ الناس لا يشبه بعضهم بعضاً، كذلك فإنّ مسؤولياتهم متفاوتة في الدنيا، وليس موقف الأب والأخ والابن علي حدّ سواء في يوم القيامة، إذ كلُّ له شأن يغنيه، وكلٌ له موقفه وموقعه الخاصّ به، ولعلّ العامل الأساسي في هذا التفاوت هو حجم الاستفادة التي اقتنصها من إمكاناته في دار الدنيا، وكذلك طبيعة أعماله التي قام بها أو لم يقم بها …

فإنّ مفهوم جملة (مثقال ذرة) كفيل بأن يؤثّر كلَّ التأثير في تحديد المصير، ولهذا أصبحت لحظة تدبّر وتعمّق وتفكّر واحدة قادرة علي السموّ بالإنسان إلي منزلة وصفها

النبي المصطفي صلي الله عليه وآله بقوله: «انصرف الرجل وهو فقيه …».

إذاً؛ فهناك مقاطع زمنية ذات تأثير كبير ومباشر في تحديد ورسم مصير الإنسان، ومن أبرز مصاديق هذه المقاطع ليلة القدر التي بمقدور مختلف الناس أن يستثمروها حسب مستوياتهم، وما يهمّ في شأن هذه الليلة المباركة أن يعرف المحيي لها واجبه الذي عليه أن يودّيه فيها، وماذا عليه أن يحقّق في نفسه من الشروط والمؤهلات.

تزكية النفس واجب عيني

إنّ أوّل شرط لسلوك هذا السبيل هو تزكية النفس، وهي الواجب الوحيد الذي يعتبر واجباً عينياً بما للكلمة من معني، أي أنّه لا يقبل الاستنابة والبدل، حيث لا يتصوّر إلا صدوره من الإنسان نفسه، فهو واجب شخصيّ فردي مطلق. فلا يستطيع شخص آخر النيابة به عن الآخرين، ولا يستطيع صاحبه استبداله بغيره من الواجبات والفرائض.

لذلك أصبح هذا الأمر واجباً مباشراً، بأن يضع المرء قدمه علي طريق إحراز التنفّر عن المعاصي، وهذا التنفّر هو المرحلة الأولي من مراحل تزكية النفس، حيث يرتفع بها ابن آدم درجات ودرجات نحو السمو والرقي ليصل بقلبه إلي قلب ذلك العصفور، بل أشدّ منه ارتكاضاً من الذنوب.

بلي؛ إنّ الهلع من الذنب أحد العوامل التي تقصّر الطريق علي ابن آدم، فتأخذ بيده من حضيض المأساة والتخلّف إلي أوج الإدراك وقمّة التفقّه والوعي.

كما أنّ إحياء وتنمية صفة العدالة في الذات عامل آخر من عوامل الرشد والتكامل الحقيقي. فإذا تمكّن المرء من تنمية هذه الملكة الرائعة في نفسه وعجن ذاته بها، ونمت فيه شجرتها الضخمه الفارعة، كان لذلك كلُّ الأثر في صياغة ملكة العدالة عنده، وعليه أن يطمئنّ إذ ذاك إلي أنّه قد خطا خطوة مهمّة وواسعة علي صراط الكمال.

ولعلّ اكتساب هذه الصفة والصفات الصالحة الأخري يتأتّي بواسطة المراس

والتمرين وقراءة الأدعية وإحياء ليالي القدر المباركة، والتوجّه الخالص الي الله تعالي عبر قراءة أدعية أبي حمزة الثمالي، والافتتاح، دعاء كميل، فهذه وغيرها تهيّئ الأرضيّة المناسبة واللازمة لغرس جذور الصفات الطيّبة في ذات وروح الإنسان. وبهذه الممارسات الراقية ترتقي النفس الإنسانيّة إلي مراحل أعلي وأعلي، ذلك لأنّ العدالة وكذلك سائر الصفات المحمودة الأخري ذات مراتب مختلفة ونسبية، ولهذا تري بعض الناس (عادلاً)، بينما غيره (أعدل)، والثالث أصبح (أعدل من ذاك الأعدل).

ولاشكّ أن سعي ابن آدم نحو الإصلاح لا يصحّ أن ينحصر بزمان دون آخر، أي أن تزكية النفس لابدّ أن تشكل مع ذات ابن آدم اندماجاً جوهرياً، مع جدارة الإشارة الي أنّ شهر رمضان المبارك وخصوصاً ليالي القدر، موسم لتركيز المساعي التي لا شكّ في كونها ستصبح أكثر إثماراً، وقد قال سبحانه وتعالي: لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْر بمعني أنّ الفوائد المباشرة وغير المباشرة في هذه الليلة أفضل في واقعها وأرقي من العبادة طيلة ألف شهر.

لهذا ينبغي البحث عن أفضل وأحجي وأهمّ الأعمال في هذه الليلة، أي البحث عن أفضل المقدّمات العبادية الخاصّة بليلة القدر، من قبيل قراءة الدعاء، أو رفع المصاحف علي الرؤوس، لإحراز أكبر قدر وأفضل نوع من التمهيدات التي تنتهي إلي صفاء القلوب والتوجّه التام إلي الله تعالي، ليتفضّل بعد ذلك بأحسن التقدير والقضاء والإبرام.

وقد أوصي المتقدّمون من العلماء لمثل هذه الليلة بالقيام بعملين لهما فائدة جمّة.

ذكر الشيخ الصدوق في كتابه الأمالي، وتبعه في ذلك العلامة المجلسي في بحار الأنوار والشيخ عباس القمّي في مفاتيح الجنان، حيث أوصوا رضوان الله تعالي عليهم بأهميّة بحث القضايا العلمية الإسلامية والخاصّة بأصول وفروع الدين في هذه الليلة المباركة، ثمّ قال الصدوق: «ومن أحيي هاتين

الليلتين بمذاكرة العلم، فهو أفضل».

وطبعاً فإنّ إحياء ليالي القدر ومذاكرة العلوم المفيدة ينبغي أن يكونا بعد القيام بالعبادات التمهيديّة وإحراز وكسب الحالات الروحية.

والعمل الآخر: العبادة الخاصّة التي مارسها السيّد ابن طاووس وأوردها في كتابه القيّم (إقبال الأعمال)، وبناءً علي القطع بتشرّف هذا العالم الجليل بلقاء مولانا بقية الله الأعظم عجل الله تعالي فرجه الشريف، فإنّ من الممكن القول بأنّ هذا النوع من العبادة الخاصّ بليلة القدر المباركة كان موضع تأييد إمام الزمان سلام الله عليه ولكن حيث كان من واجب أصحابه في زمن الغيبة التكتّم علي بعض الحقائق، فإنّه لا دليل علي إثبات أمر في هذا الإطار.

قال السيّد ابن طاووس رحمه الله بخصوص أعمال ليلة القدر:

لقد نظرت في نفسي وإلي ما يمكن أن يكون الأفضل بين الأعمال في ليلة القدر، حتي توصّلت إلي أنّ أفضل الأعمال في هذه الليلة هو: الدعاء للكفار والمشركين وغير المسلمين لينعم الله عليهم بنعمة الهداية.

وعلي هذا الأساس، كان السيّد ابن طاووس يرفع يديه المباركتين بالدعاء ويطلب إلي ربّه المتعال أن يهدي فلاناً المشرك أو فلاناً الكافر أو فلاناً المسيحي أو فلاناً اليهودي إلي دين الإسلام القويم.

ولعلّ هذا الدعاء بحقّ الكفّار يعقبه ثواب أكبر للشخص الداعي من الأدعية بالشفاء أو الغنا لمريضٍ أو فقير، لأنّ مرض الفرد المسلم أو فقره، أمور مؤقتة، ومن الممكن جبرها بالصحّة والثروة فيما بعد، ولكن البقاء في نيران الكفر والإلحاد الدائمة، ليس أمراً مؤقّتاً ليمكن تجاهله والتغافل عنه.

وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين.

پي نوشتها

() رضيّ الدين أبو نصر، الحسن بن الفضل بن الحسن، فقيه محدّث. من كبار علماء القرن السادس الهجري، ابن أمين الإسلام أبي علي الطبرسي صاحب تفسير مجمع البيان. انظر ترجمته في كتب رجال

الشيعة.

() انظر مكارم الأخلاق (ط. دار الشريف الرضي، قم، 1413 ه) ص458، الفصل الخامس، في وصية رسول الله صلي الله عليه وآله لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه.

() أبو الحسن، أو أبو الحسين: مسعود بن أبي فراس عيسي بن أبي النجم بن حمدان بن خولان بن إبراهيم بن مالك الأشتر النخعي جدّ السيد ابن طاووس لأمّه، لقبه: ورّام. له كتاب تنبيه الخاطر ونزهة الناظر ويعرف أيضاً ب مجموعة ورّام. راجع ريحانة الأدب للتبريزي الخياباني: ج6، ص313 314.

ورّام بن أبي فراس بن ورّام أبي الحسين؛ ذكره ابن طي في الإماميّة، وبالغ في = = إطرائه، وذكر له كرامات، لسان الميزان لابن حجر: ج 6، ص 218، رقم 763 في من اسمه ورّام.

() مجموعة ورّام ج2، ص51.

() يوسف بن أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني (1107 1186ه) صاحب كتاب الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة فقيه محدّث، من معاصري الوحيد البهبهاني. صلّي البهبهاني علي جنازته. وقد دفن في الحرم الطاهر لسيد الشهداء الإمام الحسين سلام الله عليه.

والكتاب المذكور عبارة عن دورة فقهية نصف استدلالية طبقاً للآيات والروايات تميل إلي المنحي الأخباري. راجع ريحانة الأدب ج3، ص360 361؛ الذريعة إلي تصانيف الشيعة للطهراني: ج6، ص289 290.

() الميرزا حسين بن محمد تقي بن محمد علي النوري الطبرسي (1254 1320ه) المدفون في الصحن الرضويّ المقدس. فقيه، محدّث، مفسّر، رجاليّ، من كبار علماء الإماميّة في مطلع القرن الرابع عشر، وهو من تلامذة الشيخ = = الأعظم مرتضي الأنصاري والملاّ علي كني والمجدّد الشيرازي، ومن مشايخ الأغا بزرك الطهراني والشيخ عباس القمّي.

وهو صاحب كتاب مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل الذي علاوة علي تضمّنه زهاء (23000) حديث طبقاً لترتيب أبواب كتاب وسائل الشيعة فإنّه حوي

ترجمة عدّة عديدة من علماء الشيعة. راجع الذريعة إلي تصانيف الشيعة ج11، ص7 8.

() محمد حسن بن باقر عبد الرحيم الشريف الأصفهاني (1266 ه) من كبار علماء الإمامية، ومن تلامذة السيد جواد العاملي صاحب موسوعة مفتاح الكرامة والشيخ جعفر كاشف الغطاء. وقد جاء في كتابه جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام علي جميع فروع الفقه بالأدلة الدقيقة، حتي قيل: إنّ جواهر الكلام بالنسبة إلي الفقه كنسبة بحار الأنوار إلي الأحاديث. راجع ريحانة الأدب ج3، ص357 358.

() السيد محمد كاظم بن السيد عبد العظيم الطباطبائي (1347 1337ه) شرع في طلب العلم علي المرحوم ملا محمد إبراهيم الأردكاني والمرحوم الآخوند زين العابدين العقدائي، والسطوح الأعلي علي المرحوم الآخوند ملا هادي في يزد. ثمّ هاجر إلي العراق فأخذ عن الآيات العظام المرحوم الميرزا الشيرازي والشيخ راضي ابن الشيخ محمد الجعفري (فقيه العراق) وغيرهم. وبعد هجرة الميرزا الشيرازي إلي سامراء، شكّل المرحوم السيد حلقة دراسية وُصفت بأنّها أوسع وأسدّ، وأنفع من أكثر مدارس فقهاء = = عصره، وفضلاء مصره، وبقي في النجف حتي توفّي فيها. انظر ترجمته في مقدّمة العروة الوثقي ط. مؤسسة النشر الإسلامي: قم، ج1، ص5.

() رضيّ الدين أبو القاسم، عليّ بن موسي بن جعفر (589 664 ه) المعروف بالسيد ابن طاووس، فقيه، متكلّم، محدّث، مؤرّخ، أمّه ابنة الشيخ ورّام بن أبي فراس الحلّي. وأمّ أبيه ابنة الشيخ الطوسي. غادر مسقط رأسه الحلّة إلي بغداد بعد سنين من طلب العلم، وأقام فيها خمسة عشر عاماً، ثم عاد إلي الحلّة، ثم إلي النجف وكربلاء وسامرّاء والكاظمين، وعاد إلي بغداد في أيّام سلطة المغول. وقد عاصر خليفتين من بني العباس هما المستنصر والمستعصم، وكانت لديه علاقات جيّدة مع المستنصر

وعرضت عليه في زمن المستنصر مسؤوليّات متفاوته إلاّ أنّه لم يقبل أيّ منصب اقتُرح عليه، ولكنّه بذل جهوداً جبّارة لحفظ العراق من دمار المغول. وعُرف عنه القول لهولاكو بأنّ الحاكم الكافر العادل أفضل من الحاكم المسلم الظالم. ثم إنّه قبل نقابة العلويين علي كرهٍ إلي آخر عمره الشريف. توفّي في بغداد ودُفن في النجف الأشرف. راجع كشف المحجّة بأكمله، ففيه ما يغني.

() فلاح السائل ص75 في ذكر صفة القبر.

() أبو القاسم، نجم الدين جعفر بن الحسن بن أبي زكريا يحيي بن الحسن بن سعيد الهذلي الحلّي (676 ه) مدفون في الحلّة في شارع يحمل اسمه. من مفاخر علماء الإماميّة، هو المحقق علي الإطلاق دون ذكر القرينة، وذلك رغم كثرة المحقّقين وفحول العلماء. من معاصري نصير الدين الطوسي. من تلامذته: السيد محمد رضيّ الدين عليّ بن طاووس، وابن داود، والعلاّمة الحلّي ابن أخته. له تصانيف عدّة، من أشهرها: شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام؛ المعتبر في شرح المختصر طبعا مراراً. راجع ريحانة الأدب ج5، ص231 236.

() جمال الدين، أبو منصور الحسن بن سديد الدين يوسف بن علي المطهّر الحلّي (648 724 ه) من أعاظم علماء الإماميّة. وقصّة مناظرته مع علماء المذاهب الأربعة في قضيّة الطلاق عند السلطان محمد خدابنده معروفة، إذ تشيّع هذا الأخير ببركة المناظرة. ولمزيد من التعرّف علي ترجمة العلاّمة وتصانيفه يراجع كتاب طرائف المقال للبروجردي: ج2، ص434، ترجمة العلاّمة الحلّي.

() بهاء الدين محمد بن الحسن بن محمد الأصفهاني (1062 1135 ه) =

= المدفون في أصفهان. من أفاضل علماء أواخر العهد الصفوي، لقّب بالفاضل الهندي رغم عدم رغبته في ذلك، لهجرته أيّام شبابه برفقة والده إلي الهند. من تأليفاته: كشف اللثام عن قواعد الأحكام

وهو شرح لكتاب قواعد الأحكام للعلاّمة الحلّي. راجع ريحانة الأدب ج4، ص284 285.

() رضا بن محمد هادي الهمداني (1250 1322 ه) من فقهاء الإماميّة في أوائل القرن الرابع عشر الهجري. من تلامذة المجدّد الشيرازي. راجع ريحانة الأدب ج6، ص377.

() عين الحياة ص19.

() هو ظالم بن عمرو يكنّي أبا الأسود الدؤلي الذي أنشأ الأعلم النحو بوصية من = = أمير المؤمنين سلام الله عليه لما كان من فساد المولّدين فقال سلام الله عليه له: فاجمع في علم الإعراب شيئاً. انظر الأنساب للسمعاني: ج5، ص467، مادّة النجوي.

ولقد كتب سيرة هذه الشخصية العملاقة أُمّهات الكتب في التاريخ والسير والتراجم لعموم المسلمين، بالإسهاب تارة والإيجاز أخري؛ نظراً لما لهذه الشخصية من تاريخ مشرّف. امالي الصدوق المجلس73، ص479 والكليني في الروضة مؤاخاة الأنصار والمهاجرين.

() مكارم الأخلاق ص458، الفصل الخامس، في وصيّة رسول الله صلي الله عليه وآله لأبي ذر الغفاري رضوان الله تعالي عليه.

() جندب بن جنادة أبو ذر الغفاري، يقال: جندب الخير، له صحبة. كنيته: أبو عبد الله. هو أحد الأركان الأربعة سلمان والمقداد وعمّار وهو رابعهم، وقيل في اسمه واسم أبيه غير ذاك، إلاّ أنّ المشهور به هو ما قدّمناه (جندب بن جنادة). زاهد، صادق اللهجة، مات في زمن عثمان بعد ما نفاه إلي الربذة حتي قضي وحيداً غريباً، فقام بغسله ودفنه جماعة من العراق بمعيّة مالك الأشتر. انظر: رجال الطوسي ص32 باب الجيم؛ نقد الرجال للتفرشي: ج1، ص273 رقم 1061/3.

() أكرم به: من أفعال التعجّب، ويستخدم في مقام التعظيم.

() أورد الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله كلمة (منّا) علي سبيل المجاز احتراماً وتقديراً لعظيم منزلة أبي ذر واقترابه الشديد من مصداق الحقّ الأساس وهم أهل البيت الأربعة

عشر، وهم الذين حصرتهم الآية القرآنيّة الشريفة القائلة: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً فهو منهم مجازاً ومن باب التوسعة للمعني، دون أن يكون منهم علي سبيل المصداق الحقيقي والواقعي.

() ورد في كتب البلاغة أن الإنسان إذا ما كان له تعلّق بشخص، فله أن يعبّر عن ذلك بتكرار اسمه ومناداته كراراً.

() أبو الحسن علي بن الحسين بن موسي بن بابويه القمّي، توفي عام (329 أو 328) من علماء الإماميّة في فترة الغيبة الصغري، مدفون في قم المقدّسة. كان والده ممّن رأي وصاحَب الإمام الحسن بن علي العسكري عليهما الصلاة والسلام. ولعظيم وثاقته صرّح الشهيد الأوّل والشيخ البهائي والعديد من العلماء الفطاحل بأن فتاواه بمنزلة نصّ المعصوم لدي علماء الإماميّة. راجع ريحانة الأدب ج7، ص401 402.

() سورة الأنفال، الآية: 42.

() أي ضعفان من الأجر والثواب.

() عن أمير المؤمنين سلام الله عليه: لقاء أهل المعرفة عمارة القلوب ومستفاد الحكمة.

وروي أيضاً: زاحموا العلماء في مجالسهم ولو جثواً علي الركب. تحف العقول ص393.

() بحار الأنوار ج85، ص226.

() سورة الذاريات، الآية: 56.

() علل الشرائع ج1، ص20.

() علل الشرائع ج2، باب الصبر، ص87.

() نهج البلاغة ج1، ص14، الخطبة الأولي.

() سورة العنكبوت، الآية: 45.

() التهذيب ج3، ص108 (دعاء الإفتتاح الخاص بشهر رمضان المبارك).

() نفس المصدر.

() لاشكّ أنه لا ينبغي الاقتصار علي هذا التقسيم واعتباره تقسيماً نهائياً، ذلك لأنّ ثمّة أقساماً ومراتب عبادية أخري يمكن تصوّرها وتحديدها.

() مستدرك الوسائل ج3، ص109. باب جواز الصلاة في أول الوقت.

() بحار الأنوار ج67، ص186.

() محاسبة النفس للكفعمي: ص169.

() سورة النساء، الآية: 150.

() سورة النساء، الآية: 151.

() بحار الأنوار ج78، ص170، باب: فضل العافية والمرض.

() المصدر نفسه.

() مغني اللبيب ج2، ص393.

() أمالي الصدوق

ص633، المجلس الثاني والتسعون.

() بحار الأنوار ج16، ص225، باب9، مكارم أخلاقه وسيره وسننه.

() مكارم الأخلاق ص24.

() الكافي ج2، ص440، ح2.

() اللهوف في قتلي الطفوف ص193.

() سورة النساء، الآية: 40.

() التهذيب ج6، ص338، باب المكاسب.

() الحدائق الناضرة للمحقق البحراني: ج18، ص119.

() المصير: النهاية، المحل الذي ينتهي عنده مسير المياه.

() بحار الأنوار ج6، ص275، باب8، أحوال البرزخ والقبر وعذابه.

() السيّد حسين القمّي بن محمود الطباطبائي القمّي الحائري، أحد مراجع التقليد في عصره، ولد سنة (1282 ه) درس في طهران ثم سامراء علي الميرزا الشيرازي الكبير، ثم عاد إلي طهران وتتلمذ علي الميرزا محمد حسن الآشتياني، ثم هاجر إلي النجف الأشرف حيث آلت إليه المرجعيّة الدينيّة بعد = = المرحوم السيّد أبي الحسن الأصفهاني، حتي توفّي سنة (1366 ه).

() آية الله السيّد محمد هادي الميلاني التبريزي، أحد أكبر مراجع الشيعة، كان مقيماً في مدينة مشهد المقدّسة، وتوفي فيها سنة (1395 ه) كان رحمه الله مشهوراً بحدّة الفهم وقوّة الذاكرة.

() الميرزا الأصفهاني، هو أحد مؤسّسي مدرسة التفكيك، درس أوّلاً في النجف الأشرف ثم اشتغل بالتدريس فيها، ثم سافر إلي مشهد المقدّسة، ليقيم فيها ويعلن مخالفته الشديدة للفلسفة حتي سري ذلك إلي كيان الحوزة العلمية في مشهد المقدّسة إلي يومنا هذا.

() أنظر أمالي الصدوق ص409، ح11، المجلس53.

() العثرة: السقطة المفاجئة، ويقال للحرب والجهاد عثرة، لكثرة السقوط. (المنجد مادّة: ع ث ر)

() الصرعة: السقطة القاتلة التي لا قيام منها.

() ولاّه الحاكم الأمويّ عبد الملك بن مروان مكّة والمدينة والطائف والعراقَين البصرة والكوفة أسّس مدينة واسط، شرق الكوفة عند دجلة، وكان باتفاق المؤرّخين طاغية دموياً يضرب به المثل. كما كان عدوّاً لأتباع أهل = = البيت سلام الله عليهم وقتل منهم ما

لا يحصي. الأعلام للزرگلي: ج2، ص168.

() مدينة المعاجز للبحراني ج5 ص307 ح65 الباب6، من معاجز الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد سلام الله عليهما.

() يبعث علي النسيان.

() الدجّال بمعني الكذّاب، وأصل الكلمة سرياني (أزجل) وعُرّبت فأصبحت: دجّال.

() الفقر غالباً ما يؤدّي إلي ضيق الصدر، ونسيان المرء لنفسه ولواجباته. ومن هنا عبّر عنه صلي الله عليه وآله بكون الفقر منسياً، أو أن بالفقر يُنسي الفقير، إذ عادة ما يكون الفقير منسيّاً في الوسط الاجتماعي، فتراه يعجز عن تقديم الخير لهم، بعد أن فقد العلاقة الطبيعية معهم.

() شَحَّ بالشيء: بخل به ومنعه.

() الصحيح من السيرة للعاملي: ج3، ص33، من أهداف الإسراء والمعراج.

() الطرائف لابن طاووس: ص505.

() السفسطائيون: جماعة ظهرت في اليونان من أهل الرأي في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد، ولم يكن همّهم إماطة اللثام عن الحقائق بقدر اهتمامهم علي تعليم تلامذتهم فنّ من الجدل والمناظرة، ليتمكّنوا في مختلف المواقع والحالات ولاسيّما في الحوارات السياسية من التغلّب علي خصومهم، بعيداً عن كونهم علي صواب أو علي خطأ.

() إقبال الأعمال ص637.

() وسائل الشيعة ج12، ص8، باب وجوب عشرة الناس حتي العامة.

()، وقال صلّي الله عليه وآله: «من أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقي سلاحه ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن». التهذيب ج6، ص136، باب أصناف من يجب جهاده.

() الكني والالقاب للشيخ عباس القمّي: ج3، ص 144.

() إنّ مفردة (ظن) تعتبر من الأضداد في اللغة. ورغم أنّ الظنّ من حيث المعني يخالف اليقين، إلا أنّه في هذه الجملة قد يعطي معني اليقين، أي أنّ عمر كان يقصد القول بأنّ الإمام سكران علي وجه اليقين، والعياذ بالله.

() انظر الكافي ج1، ص496، باب مولد أبي جعفر محمد بن علي.

()

وقد نقل أنّ المرحوم الشيخ الأنصاري أورد العبارة المذكورة في معرض إجابته علي قول أحدهم: أن يكون المرء عالماً فذاك أمر مشكل، وأن يكون المرء إنساناً فذاك من المحال، فأكّد الشيخ بأنّ هذا الرأي يجانب الصواب، بدليل أنّ كثيراً من الناس قد حقّقوا معني الإنسانيّة في أنفسهم، فإن كان هذا الأمر محالاً، فكيف تسنّي لهم ذلك؟

() لاشكّ أنّ الأنبياء والأئمّة سلام الله عليهم مستثنون من هذه القاعدة، وهم خارجون تخصّصاً، لأنّهم يرتبطون بالعلم الإلهي مباشرة.

() سورة آل عمران، الآية: 164.

() إقبال الأعمال ص657.

() سورة آل عمران، الآية: 159.

() نهج البلاغة الكلمة333، ص533.

() مجموعة ورّام ج1، ص89.

() انظر: تفسير مجمع البيان للطبرسي: ج5، ص33، تفسير سورة التوبة، الآية 26.

() انظر: الخرائج والجرائح للراوندي: ج1، ص162، ح252.

() الكافي ج8، ص127.

() سورة النساء، الآية: 165.

() البرنس: قلنسوة طويلة، وكان النسّاك يلبسونها في صدر الإسلام. لسان العرب لأبن منظور: ج6، ص26، «مادّة برنس».

() الكافي ج2، ص314، ح8.

() لا يحكم بالفسق لارتكاب أيّ ذنب كان، ولكن يقال فاسق لمن يتعمّد عدم الاهتمام بأحكام دينه.

() بحار الأنوار ج96، ص316.

() سورة طه، الآية: 7.

() تحف العقول ص301، وصيّته عليه السلام لعبد الله بن جندب.

() سورة الرعد، الآية: 31.

() بحار الأنوار ج93، ص356، باب46.

() للحبس حدود، والحبس هنا بمعني عجز الشيطان عن قصدنا، إن لم تقصده النفس والشهوة، وإلا فهو عاجز عن القيام بأيّ عمل. فالإنسان بذاته هو الذي يرتكب المعصية في شهر رمضان وغيره بسبب غلبة الشهوة والنفس الأمّارة بالسوء.

() الخصال ص209، ج31.

() إنّ القول بنوع هذا الوحي أمر جدير بالتحقيق، أكان وحياً خاصّة بهذا العابد، أم هو نوع الوحي الطبيعي الذي كان يحدث في فترات ما قبل الإسلام.

() الكافي ج2، ص73،

ح3، باب الاعتراف بالتقصير.

() وسائل الشيعة الحر العاملي: ج1، ص8.

() سورة ابراهيم، الآية: 34.

() الكافي ج2، ص429، ح4، باب من يهمّ بالحسنة أو السيئة.

() سورة هود، الآية: 114.

() لقد رأي زملاء الشيخ الأنصاري رحمه الله إمام الزمان عجل الله تعالي فرجه الشريف جالساً إلي جانب الشيخ، ولكنّهم لم يتعرفوا إليه بادئ الأمر، ثمّ حينما أمرهم بأن يتعاملوا كتعامل الشيخ الأنصاري، وأنه هو الذي سيبادر إلي زيارتهم … لم يتنبهوا إلي حقيقة القصد من هذا الوعد وشخص الإمام، إلا بعد مغادرته دكّان الشيخ وافتقادهم إياه، رغم أنّهم قد خرجوا للبحث عنه …

() بحار الأنوار ج8، ص284.

() الوصيّة من العقود الجائزة ولا تنضوي تحت قاعدة (أوفوا بالعقود)، لاسيّما كون الموصي علي قيد الحياة، أي أنّ للفرد أن يغيّر وصيّته مراراً.

() بحار الأنوار ج2، ص89، باب14: من يجوز أخذ العلم منه.

() أبو بحر، أبو القاسم، الحسين بن روح، من متكلّمي الشيعة في العهد العباسي، ينسب له كتاب التأديب وهو ثالث النواب الخاصّين للإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف في زمن الغيبة الصغري. وقد اتّهمه العباسيون بالتعاون مع القرامطة وسجنوه طيلة الأعوام (312 317 ه) وتوفّي في بغداد عام (326 ه). راجع ريحانة الأدب للتبريزي: ج2، ص337 338.

() أبو جعفر، محمد بن علي المعروف بابن أبي العزاقر، من أهل شلمغان من قري واسط، توفّي سنة (322 ه). كان مرجعاً للشيعة في بادئ الأمر، ولكنّه أعلن معارضته لنيابة الحسين بن روح، وكان ذلك بين أعوام (304 311 ه) واستمرّ علي تلك الحال حتي ادعي النبوّة والألوهيّة. سافر إلي بغداد والموصل وجمع له مؤيّدين، سمّوا فيما بعد بالعزاقريّة أو الشلمغانيّة. أعدم الشلمغاني بأمر الحاكم العباسي، ثمّ صلب جسده وأحرق. راجع ريحانة

الأدب ج3، ص235 236.

() (الشياطين مغلولة): أمالي الصدوق ص93، المجلس العشرون.

() عيون أخبار الرضا سلام الله عليه للصدوق: ج2، ص266، ح53.

() الخصال الصدوق ص113 ح91.

() أبو الحسن، علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، من علماء ومحدّثي الإماميّة، ومن مشايخ الكليني في الحديث، وقد روي عنه الشيخ الصدوق بواسطة أحمد بن علي ولده من تصانيفه: اختيار القرآن؛ الأنبياء؛ التفسير؛ التوحيد والشرك؛ المناقب؛ قرب الإسناد. توفي سنة (307 ه). راجع ريحانة الأدب ج4، ص488.

() أبو جعفر، محمد بن يعقوب بن اسحق الكليني الرازي، المعروف بثقة الإسلام، توفي سنة (329 ه) من أهالي كلين؛ قرية قرب حسن آباد من توابع الرّي حيث مدفن أبيه فيها ومورد اهتمام المؤمنين وزيارتهم. هو رأس المحدّثين الإماميّة، ثقة عدل ثبت، وهو أحد المحمّدين الثلاثة ومؤلف كتاب الكافي من كتب الشيعة الأربعة، ويعدّ الكليني أوّل محدّث إمامي اهتمّ = = واختصّ بجمع ونظم وتبويب الروايات والأحاديث الدينيّة الشريفة. راجع ريحانة الأدب ج5، ص70 82.

() الشيخ مرتضي الأنصاري، قمّة رفيعة في الفقه والزهد والتقوي، ولد في يوم عيد الغدير سنة (1214 ه) في مدينة دزفول. بدت عليه ملامح النبوغ والعبقرية منذ نعومة أظفاره. هاجر إلي العراق حيث العتبات المقدسة كان عمره آنئذ ثمانية عشر عاماً لطلب العلم، ثمّ توجّه لزيارة مرقد الإمام علي الرضا سلام الله عليه في خراسان عام (1240 ه) ومكث فيها ست سنين. وتتلمذ في مدن مشهد وإصفهان وكاشان ويزد علي الحكيم الربّاني الملاّ هادي السبزواري والملاّ أحمد النراقي. ثم عاد إلي النجف الأشرف عام (1249 ه) حيث أصبح المرجع الأعلي في النجف الأشرف لمدة خمسة عشر عاماً.

وقيل إنّ السلطان العثماني سأل واليه في العراق عن أحوال الشيخ الأنصاري، فأجابه قائلاً:

والله، هو الفاروق الأعظم … بينما نقل عن السفير البريطاني في العراق أنّه قال: والله إنّه الشيخ الأنصاري إما أن يكون السيد المسيح أو أحد حوارييه.

توفّي الشيخ الأعظم وأوحد زمانه في ليلة الثامن عشر من جمادي الثانية عام (1281 ه) والتحق بالرفيق الأعلي ودُفن إلي جوار مرقد مولانا ومولاه الإمام علي سلام الله عليه. راجع (زندگاني وشخصيت شيخ أنصاري وآشنايي با متون درسي حوزه¬هاي علميه ايران: شيعة، شافعي، حنفي بالفارسية ص226).

() سورة آل عمران، الآية: 97.

() الكافي ج2، ص69، ح8.

() تجدها في شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد: ج11، ص145، خطبة رقم 216.

() أبو الحسن، محمد بن الحسين بن موسي الرضي العلوي الحسيني الموسوي، = = المشهور بالسيد والشريف الرضي (359 406 ه) أديب وشاعر وفقيه ونابغة زمانه، هو أخو السيد المرتضي علم الهدي. قالوا عنه في (يتيمة الدهر) للثعالبي و(رجال الكشي) إنّه يعود في النسب إلي الإمام موسي بن جعفر سلام الله عليهما. وعرف علي أنّه أنبه شعراء العرب، ويصفه أرباب التراجم بأنّه نابغة زمانه، له تصانيف عدّة، ولكن (نهج البلاغة) أشهرها علي الاطلاق.

() عزّ الدين أبو حامد، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد، (586 656 ه) أديب ومؤرّخ وفقيه ومن كبار المعتزلة، ورغم أنّه شافعي في الفروع ومعتزلي في الأصول، إلا أنه يعتبر من محبّي أهل البيت سلام الله عليهم ومقرّاً بأحقيّة الإمام علي سلام الله عليه. وقد نسب بعضهم نسبته إلي أهل السنّة كنسبة عمر بن عبد العزيز إلي الأمويين. طبعت موسوعته (شرح نهج البلاغة) مراراً في مصر وإيران ولبنان والعديد من البلاد الإسلاميّة. كان إبان حياته مورد عناية ابن العلقمي، روي عنه العلامة الحلي بطريق

أبيه؛ سديد الدين يوسف، راجع ريحانة الأدب ج7، ص333 336؛ أعلام الزركلي ج3، ص289.

() راجع شرح نهج البلاغة ج11، ص153، ضمن شرح الخطبة رقم 216.

() شرح نهج البلاغة ج11، ص153، ضمن شرح الخطبة رقم 216.

() سورة التكاثر، الآية: 12.

() نهج البلاغة الخطبة رقم212.

() عباس بن محمد رضا بن أبي القاسم القمّي؛ المحدّث الإمامي، ولد في مدينة قم المقدّسة وتعلّم فيها العلوم الحوزويّة. قصد النجف الأشرف سنة (1316ه) ولازم فيها الحاج الميرزا حسين النوري ودرس عليه الفقه والأصول والتفسير والحديث والكلام، وأجازه، وعاد إلي قم عند وفاة الميرزا سنة (1320 ه) وانشغل بالتأليف والتحقيق. وله: مفاتيح الجنان وسفينة البحار؛ ومدينة الحكم والآثار؛ ومنازل الآخرة؛ ومنتهي الآمال في مصائب النبي والآل؛ وتصانيف أخري. راجع ريحانة الأدب ج4، ص487 488.

() الملا عباس التربتي، ولد سنة (1251 ه) في قرية كاريزك من نواحي تربت حيدرية (في محافظة خراسان). كان عالماً صالحاً وصاحب مقام علميّ وعمليّ، قضي حياته في قمّة الزهد والتقوي حتي توفي عام (1322 ه).

() حسين علي الراشد. ولد عام (1284 ه) في مدينة تربت حيدريّة في قرية كاريزك في أسرة روحانيّة. يممّ شطر مدينة مشهد المقدّسة مع والده لمواصلة = = دراسته الدينية عام (1300 ه) وتتلمذ علي الأديب النيشابوري والحاج الشيخ محمد النهاوندي والحاج حسين القمي. كانت خطابته الأولي في مدينة شيراز. فسبق جميع زملائه الخطباء المنبريين في مدّة حياته. ثمّ سافر إلي طهران حيث انشغل بالتأليف والوعظ والإرشاد، حتي منع من ارتقاء المنبر سنة (1320 ه ش) وتوفي سنة (1358 ه ش) عن عمر يناهز الخامسة والسبعين بعد إصابته بسكتة دماغيّة.

() أحد مساجد الروضة الرضوية المقدّسة.

() بحار الأنوار ج5، ص303، باب: مَنْ رُفع عنه القلم،

ح13.

() الكافي ج2، ص287، باب الاستغفار من الذنوب.

() ديوان الإمام علي سلام الله عليه ص210.

() روي في بحار الأنوار أنّ رجلاً قصد النبي صلي الله عليه وآله ليعلّمه مبادئ الإسلام، فأحاله النبي صلّي الله عليه وآله علي أحد أصحابه ليعلّمه القرآن، = = فكان أوّل ما علّمه سورة الزلزلة المباركة، وحينما بلغ قوله تعالي: فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره قال الرجل: يكفيني، وقام مغادراً، فقيل له: بقي الكثير ممّا تتعلّمه، فقال: لقد تعلّمت ما جئت لأتعلّمه واتضحت لي الحقيقة. فقال النبي الأكرم يصف هذا الرجل الذي استوعب في لحظة واحدة ما كان يتوقع أن يستغرق تعلّمه سنين: «انصرف الرجل وهو فقيه». بحار الأنوار ج89، ص107، باب: فصل التدبر في القرآن.

() سورة القدر، الآية: 3.

() أمالي الصدوق ص649، المجلس الثالث والتسعون.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.