حلية الصالحين

اشارة

اسم الكتاب: حلية الصالحين

المؤلف: حسيني شيرازي، صادق

الموضوع: فقه

اللغة: عربي

عدد المجلدات: 1

الناشر: سلسله

مكان الطبع: قم

تاريخ الطبع: 1426

الطبعة: اول

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين وصلي الله علي سيّدنا محمد وآله الطاهرين، واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي قيام يوم الدين.

لقد تظافرت الروايات الشريفة في الدعوة لحضور مجالس العلماء للاستفادة من علومهم والاسترشاد بتعاليمهم الروحية والفكرية والخُلُقية؛ فعن رسول الله صلّي الله عليه وآله أنّه قال: «مجالسة العلماء عبادة». وعن أمير المؤمنين سلام الله عليه أنّه قال: «العقل ولادة، والعلم إفادة، ومجالسة العلماء زيادة».

كما حثّت الروايات علي تدوين العلم وتقييده بالكتابة، مثل قول النبي صلّي الله عليه وآله: «قيّدوا العلم» قيل: وما تقييده؟ قال: «كتابته».

ومن بين تلك المجالس المليئة بالمعارف والعبر، مجالس سماحة المرجع الديني آية الله العظمي السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظلّه، الذي طالما أتحف مستمعيه بالنكات الخفية والمعارف الدقيقة الكامنة في طيّ كلمات أهل البيت سلام الله عليهم وسيرتهم، فكانت مجالسه تُعَدُّ بحقّ منابع تربويّة كفيلة بأن ترشد المؤمنين إلي الاقتداء بأهل البيت عليهم السلام وتحثّهم في السير علي نهجهم، عقيدةً وفكراً، وأدباً وخُلُقاً.

فمن منطلق العمل بالأحاديث الشريفة الداعية إلي الاستفادة من مجالس العلماء، وحرصاً علي نشر ما حملته تلك المحاضرات من المفاهيم الإسلامية الأصيلة، باشر قسم التحقيق والترجمة في مؤسّسة الرسول الأكرم صلّي الله عليه وآله بعون الله تعالي وتوفيقه بتنقيحها بعد تتبّع مداليلها الروائية والتاريخية عبر مظانّها، ثمّ إخراجها بهذه الحلّة القشيبة. فكانت (نفحات الهداية) المجموعة الأولي التي قدّمناها للقرّاء الكرام، والتي ضمّت طائفة قيّمة من أحاديث سماحته التربوية في مناسبات مختلفة.

ونستتبع في هذا الكتاب ما أفاض به سماحته من الإرشادات التربوية والخلقية في ضوء دعاء «مكارم الأخلاق ومرضيّ الأفعال» للإمام

زين العابدين علي بن الحسين سلام الله عليهما حيث تناول سماحته (خلال الفترة من 10 ذي القعدة 1420ه حتي 27 رمضان 1422 ه) بعض فقرات هذا الدعاء الشريف بالشرح والتحليل، متوخّياً بذلك استلهام الدروس والعبر منها، وذلك من خلال محاضرات الأخلاق التي كان يلقيها كلّ يوم أربعاء من كلّ أسبوع.

وفي هذه المناسبة تجدّد المؤسّسة شكرها لكلّ الذين ساهموا في تنقيح وإخراج هذا الكتاب، بالأخصّ الإخوة: عبد الرضا افتخاري، والسيّد خلدون العسكري، وعلاء حسين. سائلين الله العليّ القدير أن يسدّدنا وإياهم ويوفّقنا لتقديم المزيد لكلّ ما يحبّه ويرضاه، وصلّي الله علي سيّدنا ونبيّنا محمد وآله الطيّبين الطاهرين.

المؤسّسة

دعاء مكارم الأخلاق

بسم الله الرحمن الرحيم اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَ بَلِّغْ بِإِيمَانِي أَكْمَلَ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْ يَقِينِي أَفْضَلَ الْيَقِينِ، وَانْتَهِ بِنِيَّتِي إِلَي أَحْسَنِ النِّيَّاتِ، وَبِعَمَلِي إِلَي أَحْسَنِ الأَعْمَالِ. اللَّهُمَّ وَفِّرْ بِلُطْفِكَ نِيَّتِي، وَصَحِّحْ بِمَا عِنْدَكَ يَقِينِي، وَاسْتَصْلِحْ بِقُدْرَتِكَ مَا فَسَدَ مِنِّي.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاكْفِنِي مَا يَشْغَلُنِي الاهْتِمَامُ بِهِ، وَاسْتَعْمِلْنِي بِمَا تَسْأَلُنِي غَداً عَنْهُ، وَاسْتَفْرِغْ أَيَّامِي فِيمَا خَلَقْتَنِي لَهُ، وَأَغْنِنِي وَأَوْسِعْ عَلَيَّ فِي رِزْقِكَ، وَلا تَفْتِنِّي بِالنَّظَرِ، وَأَعِزَّنِي وَلا تَبْتَلِيَنِّي بِالْكِبْرِ، وَعَبِّدْنِي لَكَ وَلا تُفْسِدْ عِبَادَتِي بِالْعُجْبِ، وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَي يَدِيَ الْخَيْرَ وَلا تَمْحَقْهُ بِالْمَنِّ، وَهَبْ لِي مَعَالِيَ الأَخْلَاقِ، وَاعْصِمْنِي مِنَ الْفَخْرِ.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَلا تَرْفَعْنِي فِي النَّاسِ دَرَجَةً إِلاَّ حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا، وَلا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِراً إِلاَّ أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمَتِّعْنِي بِهُدًي صَالِحٍ لا أَسْتَبْدِلُ بِهِ، وَطَرِيقَةِ حَقٍّ لا أَزِيغُ عَنْهَا، وَنِيَّةِ رُشْدٍ لا أَشُكُّ فِيهَا، وَعَمِّرْنِي مَا كَانَ عُمُرِي بِذْلَةً فِي طَاعَتِكَ، فَإِذَا كَانَ عُمُرِي مَرْتَعاً لِلشَّيْطَانِ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ مَقْتُكَ إِلَيَّ،

أَوْ يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ.

اللَّهُمَّ لا تَدَعْ خَصْلَةً تُعَابُ مِنِّي إِلاَّ أَصْلَحْتَهَا، وَلا عَائِبَةً أُوَنَّبُ بِهَا إِلاَّ حَسَّنْتَهَا، وَلا أُكْرُومَةً فِيَّ نَاقِصَةً إِلاَّ أَتْمَمْتَهَا.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَبْدِلْنِي مِنْ بِغْضَةِ أَهْلِ الشَّنَآنِ الْمَحَبَّةَ، وَمِنْ حَسَدِ أَهْلِ الْبَغْيِ الْمَوَدَّةَ، وَمِنْ ظِنَّةِ أَهْلِ الصَّلاحِ الثِّقَةَ، وَمِنْ عَدَاوَةِ الأَدْنَيْنَ الْوَلايَةَ، وَمِنْ عُقُوقِ ذَوِي الأَرْحَامِ الْمَبَرَّةَ، وَمِنْ خِذْلانِ الأَقْرَبِينَ النُّصْرَةَ، وَمِنْ حُبِّ الْمُدَارِينَ تَصْحِيحَ الْمِقَةِ، وَمِنْ رَدِّ الْمُلابِسِينَ كَرَمَ الْعِشْرَةِ، وَمِنْ مَرَارَةِ خَوْفِ الظَّالِمِينَ حَلاوَةَ الأَمَنَةِ.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلْ لِي يَداً عَلَي مَنْ ظَلَمَنِي، وَلِسَاناً عَلَي مَنْ خَاصَمَنِي، وَظَفَراً بِمَنْ عَانَدَنِي، وَهَبْ لِي مَكْراً عَلَي مَنْ كَايَدَنِي، وَقُدْرَةً عَلَي مَنِ اضْطَهَدَنِي، وَتَكْذِيباً لِمَنْ قَصَبَنِي، وَسَلامَةً مِمَّنْ تَوَعَّدَنِي، وَوَفِّقْنِي لِطَاعَةِ مَنْ سَدَّدَنِي، وَمُتَابَعَةِ مَنْ أَرْشَدَنِي.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَسَدِّدْنِي لأَنْ أُعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ، وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ، وَأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ، وَأُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ، وَأُخَالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إِلَي حُسْنِ الذِّكْرِ، وَأَنْ أَشْكُرَ الْحَسَنَةَ، وَأُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَةِ.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَحَلِّنِي بِحِلْيَةِ الصَّالِحِينَ، وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ الْمُتَّقِينَ، فِي بَسْطِ الْعَدْلِ، وَكَظْمِ الغَيْظِ، وَإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ، وَضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ، وَإِصْلاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَإِفْشَاءِ الْعَارِفَةِ، وَسَتْرِ الْعَائِبَةِ، وَلِينِ الْعَرِيكَةِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ، وَحُسْنِ السِّيرَةِ، وَسُكُونِ الرِّيحِ، وَطِيبِ الْمُخَالَقَةِ، وَالسَّبْقِ إِلَي الْفَضِيلَةِ، وَإِيثَارِ التَّفَضُّلِ، وَتَرْكِ التَّعْيِيرِ، وَالإِفْضَالِ عَلَي غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ، وَالْقَوْلِ بِالْحَقِّ وَإِنْ عَزَّ، وَاسْتِقْلالِ الْخَيْرِ وَإِنْ كَثُرَ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي، وَاسْتِكْثَارِ الشَّرِّ وَإِنْ قَلَّ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي، وَأَكْمِلْ ذَلِكَ لِي بِدَوَامِ الطَّاعَةِ، وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، وَرَفْضِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَمُسْتَعْمِلِ الرَّأْيِ الْمُخْتَرَعِ.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلْ أَوْسَعَ رِزْقِكَ عَلَيَّ إِذَا كَبِرْتُ، وَأَقْوَي قُوَّتِكَ فِيَّ إِذَا نَصِبْتُ، وَ لا تَبْتَلِيَنِّي بِالْكَسَلِ عَنْ عِبَادَتِكَ، وَلا بِالْعَمَي عَنْ سَبِيلِكَ، وَلا بِالتَّعَرُّضِ لِخِلافِ مَحَبَّتِكَ،

وَلا مُجَامَعَةِ مَنْ تَفَرَّقَ عَنْكَ، وَلا مُفَارَقَةِ مَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْكَ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَصُولُ بِكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَأَسْأَلُكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَأَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ عِنْدَ الْمَسْكَنَةِ، وَلا تَفْتِنِّي بِالاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِكَ إِذَا اضْطُرِرْتُ، وَلا بِالْخُضُوعِ لِسُؤَالِ غَيْرِكَ إِذَا افْتَقَرْتُ، وَلا بِالتَّضَرُّعِ إِلَي مَنْ دُونَكَ إِذَا رَهِبْتُ، فَأَسْتَحِقَّ بِذَلِكَ خِذْلانَكَ وَمَنْعَكَ وَإِعْرَاضَكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِي رُوعِي مِنَ التَّمَنِّي وَالتَّظَنِّي وَالْحَسَدِ ذِكْراً لِعَظَمَتِكَ، وَتَفَكُّراً فِي قُدْرَتِكَ، وَتَدْبِيراً عَلَي عَدُوِّكَ، وَمَا أَجْرَي عَلَي لِسَانِي مِنْ لَفْظَةِ فُحْشٍ أَوْ هُجْرٍ أَوْ شَتْمِ عِرْضٍ أَوْ شَهَادَةِ بَاطِلٍ أَوِ اغْتِيَابِ مُؤْمِنٍ غَائِبٍ أَوْ سَبِّ حَاضِرٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ نُطْقاً بِالْحَمْدِ لَكَ، وَإِغْرَاقاً فِي الثَّنَاءِ عَلَيْكَ، وَذَهَاباً فِي تَمْجِيدِكَ، وَشُكْراً لِنِعْمَتِكَ، وَاعْتِرَافاً بِإِحْسَانِكَ، وَإِحْصَاءً لِمِنَنِكَ.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَ لا أُظْلَمَنَّ وَأَنْتَ مُطِيقٌ لِلدَّفْعِ عَنِّي، وَلا أَظْلِمَنَّ وَأَنْتَ الْقَادِرُ عَلَي الْقَبْضِ مِنِّي، وَلا أَضِلَّنَّ وَقَدْ أَمْكَنَتْكَ هِدَايَتِي، وَلا أَفْتَقِرَنَّ وَمِنْ عِنْدِكَ وُسْعِي، وَلا أَطْغَيَنَّ وَمِنْ عِنْدِكَ وُجْدِي.

اللَّهُمَّ إِلَي مَغْفِرَتِكَ وَفَدْتُ، وَإِلَي عَفْوِكَ قَصَدْتُ، وَإِلَي تَجَاوُزِكَ اشْتَقْتُ، وَبِفَضْلِكَ وَثِقْتُ، وَلَيْسَ عِنْدِي مَا يُوجِبُ لِي مَغْفِرَتَكَ، وَلا فِي عَمَلِي مَا أَسْتَحِقُّ بِهِ عَفْوَكَ، وَمَا لِي بَعْدَ أَنْ حَكَمْتُ عَلَي نَفْسِي إِلاَّ فَضْلُكَ، فَصَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَتَفَضَّلْ عَلَيَّ.

اللَّهُمَّ وَأَنْطِقْنِي بِالْهُدَي، وَأَلْهِمْنِي التَّقْوَي، وَوَفِّقْنِي لِلَّتِي هِيَ أَزْكَي، وَاسْتَعْمِلْنِي بِمَا هُوَ أَرْضَي. اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِيَ الطَّرِيقَةَ الْمُثْلَي، وَاجْعَلْنِي عَلَي مِلَّتِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَ مَتِّعْنِي بِالاقْتِصَادِ، وَاجْعَلْنِي مِنْ أَهْلِ السَّدَادِ، وَمِنْ أَدِلَّةِ الرَّشَادِ، وَمِنْ صَالِحِ الْعِبَادِ، وَارْزُقْنِي فَوْزَ الْمَعَادِ، وَ سلامَةَ الْمِرْصَادِ.

اللَّهُمَّ خُذْ لِنَفْسِكَ مِنْ نَفْسِي مَا يُخَلِّصُهَا، وَأَبْقِ لِنَفْسِي مِنْ نَفْسِي مَا يُصْلِحُهَا، فَإِنَّ نَفْسِي هَالِكَةٌ أَوْ تَعْصِمَهَا.

اللَّهُمَّ أَنْتَ عُدَّتِي إِنْ حَزِنْتُ، وَأَنْتَ مُنْتَجَعِي إِنْ حُرِمْتُ، وَبِكَ اسْتِغَاثَتِي إِنْ كَرِثْتُ، وَعِنْدَكَ

مِمَّا فَاتَ خَلَفٌ، وَلِمَا فَسَدَ صَلاحٌ، وَفِيمَا أَنْكَرْتَ تَغْيِيرٌ، فَامْنُنْ عَلَيَّ قَبْلَ الْبَلاءِ بِالْعَافِيَةِ، وَقَبْلَ الْطَّلَبِ بِالْجِدَةِ، وَقَبْلَ الضَّلالِ بِالرَّشَادِ، وَاكْفِنِي مَئُونَةَ مَعَرَّةِ الْعِبَادِ، وَهَبْ لِي أَمْنَ يَوْمِ الْمَعَادِ، وَامْنَحْنِي حُسْنَ الإِرْشَادِ.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَ ادْرَأْ عَنِّي بِلُطْفِكَ، وَاغْذُنِي بِنِعْمَتِكَ، وَأَصْلِحْنِي بِكَرَمِكَ، وَدَاوِنِي بِصُنْعِكَ، وَأَظِلَّنِي فِي ذَرَاكَ، وَجَلِّلْنِي رِضَاكَ، وَوَفِّقْنِي إِذَا اشْتَكَلَتْ عَلَيَّ الأُمُورُ لأَهْدَاهَا، وَإِذَا تَشَابَهَتِ الأَعْمَالُ لأَزْكَاهَا، وَإِذَا تَنَاقَضَتِ الْمِلَلُ لأَرْضَاهَا.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَتَوِّجْنِي بِالْكِفَايَةِ، وَسُمْنِي حُسْنَ الْوِلايَةِ، وَهَبْ لِي صِدْقَ الْهِدَايَةِ، وَلا تَفْتِنِّي بِالسَّعَةِ، وَامْنَحْنِي حُسْنَ الدَّعَةِ، وَلا تَجْعَلْ عَيْشِي كَدّاً كَدّاً، وَلا تَرُدَّ دُعَائِي عَلَيَّ رَدّاً، فَإِنِّي لا أَجْعَلُ لَكَ ضِدّاً، وَلا أَدْعُو مَعَكَ نِدّاً.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَامْنَعْنِي مِنَ السَّرَفِ، وَحَصِّنْ رِزْقِي مِنَ التَّلَفِ، وَوَفِّرْ مَلَكَتِي بِالْبَرَكَةِ فِيهِ، وَأَصِبْ بِي سَبِيلَ الْهِدَايَةِ لِلْبِرِّ فِيمَا أُنْفِقُ مِنْهُ.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاكْفِنِي مَئُونَةَ الاكْتِسَابِ، وَارْزُقْنِي مِنْ غَيْرِ احْتِسَابٍ، فَلا أَشْتَغِلَ عَنْ عِبَادَتِكَ بِالطَّلَبِ، وَلا أَحْتَمِلَ إِصْرَ تَبِعَاتِ الْمَكْسَبِ. اللَّهُمَّ فَأَطْلِبْنِي بِقُدْرَتِكَ مَا أَطْلُبُ، وَأَجِرْنِي بِعِزَّتِكَ مِمَّا أَرْهَبُ.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَصُنْ وَجْهِي بِالْيَسَارِ، وَلا تَبْتَذِلْ جَاهِي بِالإِقْتَارِ فَأَسْتَرْزِقَ أَهْلَ رِزْقِكَ، وَأَسْتَعْطِيَ شِرَارَ خَلْقِكَ، فَأَفْتَتِنَ بِحَمْدِ مَنْ أَعْطَانِي، وأُبْتَلَي بِذَمِّ مَنْ مَنَعَنِي، وَأَنْتَ مِنْ دُونِهِمْ وَلِيُّ الإِعْطَاءِ وَالْمَنْعِ.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَارْزُقْنِي صِحَّةً فِي عِبَادَةٍ، وَفَرَاغاً فِي زَهَادَةٍ، وَعِلْماً فِي اسْتِعْمَالٍ، وَوَرَعاً فِي إِجْمَالٍ.

اللَّهُمَّ اخْتِمْ بِعَفْوِكَ أَجَلِي، وَحَقِّقْ فِي رَجَاءِ رَحْمَتِكَ أَمَلِي، وَسَهِّلْ إِلَي بُلُوغِ رِضَاكَ سُبُلِي، وَحَسِّنْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِي عَمَلِي.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَنَبِّهْنِي لِذِكْرِكَ فِي أَوْقَاتِ الْغَفْلَةِ، وَاسْتَعْمِلْنِي بِطَاعَتِكَ فِي أَيَّامِ الْمُهْلَةِ، وَانْهَجْ لِي إِلَي مَحَبَّتِكَ سَبِيلاً سَهْلَةً، أَكْمِلْ لِي بِهَا خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

اللَّهُمَّ وَصَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، كَأَفْضَلِ مَا صَلَّيْتَ

عَلَي أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ قَبْلَهُ، وَأَنْتَ مُصَلٍّ عَلَي أَحَدٍ بَعْدَهُ، وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنِي بِرَحْمَتِكَ عَذَابَ النَّارِ.

اللّهُمَّ صَلِّ عَلي محمَّدٍ وَآلهِ، وَبلِّغ بإيماني أكمَلَ الإيمانِ، وَاجْعَلْ يَقيني أفْضَلَ اليَقينِ، وَانتَهِ بِنِيَّتي إلي أحْسَنِ النِيَّاتِ، وَبِعَمَلي إلي أحْسَنِ الأعْمَال..اللّهُمَّ وَفِّرْ بِلُطْفِكَ نِيَّتي، وَصَحِّحْ بمِا عِنْدَكَ يَقِيني، وَاسْتَصْلِحْ بِقُدْرَتِكَ مَا فَسَدَ مِنّي.

? الصلاة علي محمد وآله

? الدعاء والاستعانة بالله

? أكمل الإيمان

? أحسن الأعمال

? توفّر النيّة

? تصحيح اليقين

? استصلاح الفساد

الصلاة علي محمّد وآله

يفتتح إمامنا زين العابدين سلام الله عليه دعاءه بالصلاة علي محمد وآله، بل يجعلها مفتاحاً لكلّ فقرة من فقراته كما تري وذلك للمأثور عنهم صلوات الله وسلامه عليهم أنّ الصلاة علي محمد وآله تعتبر من الأسباب الرئيسية لاستجابة الدعاء، وقد ورد ذلك في روايات متواترة عن مختلف فرق المسلمين؛ فقد روي عن النبي صلّي الله عليه وآله أنّه قال: كلّ دعاء محجوب عن الله حتي يصلَّي علي محمّد وأهل بيته.

وهذه حقيقة تكوينية واقعية وإن كانت أسرارها خفيّة بالنسبة لنا، كما في بعض الأمور الواقعية في هذا الكون والتي نؤمن بها؛ لإدراكنا لها، وإن كنّا لا نحسّها بالحواسّ، كالجاذبية مثلاً.

لقد ربط الله سبحانه وتعالي بين إجابة الدعاء وبين الصلاة علي النبي وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام.

والمظهِر لذلك ومقام إثباته الروايات المصرّحة بذلك والتي تكشف أنّ من أسباب إجابة الله تعالي للدعاء أن يُفتتح بالصلاة علي محمد وآله، كما في الحديث المتقدّم.

إذاً فهذا تعليم وإرشاد لنا من الإمام عليه السلام، وهو في الوقت نفسه وقبل أن يكون تعليماً، عمل من الإمام بالواقع الذي يعلمه ويعرفه.

الدعاء والاستعانة بالله

الدعاء والاستعانة بالله

بعد أن افتتح الإمام دعاءه بالصلاة علي محمد وآله، انتقل عليه السلام إلي مقام سؤال حوائجه من الله تعالي مبتدئاً بهذه الكلمات الأربع: (بلّغ بإيماني أكمل الإيمان) أي أنا لا أستطيع الصعود والبلوغ بإيماني إلي أكمل الإيمان من دون عونك وتسديدك يا ربّ، وأنت الكفيل بذلك فأعنّي.

الإنسان بحاجة إلي تسديد الله دوماً

مهما بلغ الإنسان من المراتب العالية سواء الدينية أو الدنيوية فهو بحاجة إلي عون الله تعالي وتسديده.

حتي الذين توفّرت فيهم ملكة العدالة بأعلي درجاتها وأصدق معانيها، واجتنبوا في مقام العمل كلَّ المحرّمات، وأتوا بكلّ الواجبات، وكان عندهم فوق ذلك كلّه ورع كامل، ليسوا بقادرين علي النهوض والارتقاء من دون أن يعينهم الله تعالي علي ذلك ويأخذ بأيديهم؛ لأنّ الشهوات المختلفة من شأنها أن تحول ولو شيئاً دون ذلك.

إنّ الإنسان محاطٌ بالشهوات شاء ذلك أم أبي، والتفت أم تغافل. فقد يتأمّل الإنسان فيلتفت إلي مختلف شهواته، وقد يغفل فلا يلتفت.

إنّ الله سبحانه وتعالي أودع فينا الشهوات لكي يختبرنا ويَميز الخبيث من الطيّب.

قد ينجح المرء في كبح بعض شهواته، كالمرتاضين الذين يحقّقون ذلك ببعض الممارسات، ولكن ماذا يفعل الإنسان حيال الشهوات التي لا تعدّ ولا تحصي؟ وإن استطاع الإنسان أن يخفف من غلواء بعضها بالترويض والتمرين فإنّ هذا وحده لا يكون كفيلاً بكبح بعضها الآخر الذي يمكن أن يثقله ويشدّه إلي الأرض؛ وإليك مثالاً واحداً علي تنوّع الشهوات وشدة ابتلاء الإنسان بها:

يقول بعض الفقهاء: إنّ الرياء قد يكون بترك الرياء!! مثلاً: قد يطيل شخص ركوعه وسجوده ويُحسن القراءة ويتظاهر بالخشوع بسبب وجود شخص آخر ملتفت إليه. فهذا هو الرياء المتعارف.

وقد يعمد إلي خلاف ذلك إذا علم أنّ الملتفت إليه إنسان ذكيّ يعرِف من حاله فيما لو أطال وحسّن من ظاهر

صلاته أنّها ليست صلاته العادية وأنّه يرائي فيها فيأتي بصلاة عاديّة لكي لا يقول عنه الناظر إنّه مراءٍ. وهذا هو المقصود من قولهم: إنّ الرياء قد يكون في ترك الرياء، أي في ترك التظاهر بالخشوع وما أشبه.

هكذا هو الحال في الشهوات فهي تحيط بنا من كلّ صوب وجانب. ولعلّ أكثر الناس يفهمون هذه الأمور جيداً وإن لم يستطيعوا التعبير عنها بشكل جيد.

إنّ مثَلنا في هذا الطريق مثَل الإنسان البدين أو الشخص الذي يحمل أثقالاً كثيرة، فهو لا يستطيع تسلّق الجبال أو القفز والوثوب بسهولة، وربّما هوي وسط الطريق.

مهما كان الإنسان ذكياً وواعياً ونشطاً، مستوعباً لأطرافه وما يحيط به، غير أنّه لا يستطيع أن يصنع شيئاً مع ما عليه من ثقل الشهوات وهو ثقل واقعي غالباً ما يحول دون الإنسان ورقيّه ما لم يُعنْه الله تعالي ويأخذ بيده، وهذا بحاجة إلي الدعاء؛ قال سبحانه وتعالي: ?قُلْ مَا يَعْبَأ ُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ?. والإمام السجّاد عليه السلام يرشدنا في هذا الدعاء ويعلّمنا أن نطلب من الله تعالي أن يأخذ بأيدينا ليبلغ بنا أكمل الإيمان.

لزوم العمل إلي جنب الدعاء

قد يجري الإنسان ألفاظ الدعاء علي لسانه فقط، فيكون دعاؤه سطحياً. وقد ينطلق الدعاء من أعماقه، وهذا أفضل من الأول بلاشكّ، ولكنّه أيضاً لا يكفي، بل لا بدّ أن يكون إلي جانب الدعاء والخشوع سعي من قبل الإنسان نفسه لتحصيل ما يطلب من الله مستفيداً مما أعدّه الله سبحانه وتعالي للعباد، فقد روي عن رسول الله صلي الله عليه وآله أنّه قال: الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر.

الأدب في الدعاء

ثمّ إنّ هاهنا نكتة مهمة تتطلّب المزيد من الالتفات، وهي أن يهتمّ الإنسان بجمال العبارة وصياغتها وصبّها في وعاء جميل؛ فإنّ الإمام لم يغفل عن هذا الجانب حتي حين يدعو الله سبحانه وتعالي، بل ثمّة نكات لغوية نجدها في كلمات الإمام سلام الله عليه ذات آفاق فوق الإدراك المتعارف، ولكنّا نشير إلي نكتة واحدة فيها وهي البلاغة والبراعة في استعمال الألفاظ؛ فالإمام لم يقل مثلاً: «وبلِّغ بإيماني أكمل الإيمان وبيقيني إلي أكمل اليقين وبنيتي إلي أكمل النيات وبعملي إلي أكمل الأعمال» بل أبدل الفعل في كلّ جملة كما أبدل صيغة التفضيل فيها، فاستعمل سلام الله عليه من الأفعال: (اجعل، انتهِ)، ومن صيغ التفضيل: (أفضل، وأحسن) ولم يقتصر علي «بلّغ» و «أكمل» في باقي الجمل.

صحيح أنّ هناك واقعيّة وراء هذه التعابير والألفاظ، ولكن في التغيير تجميل للعبارة أيضاً، والجمال في كلّ أمر محمود، كما روي عن الإمام أمير المؤمنينسلام الله عليه أنّه قال: إنّ الله جميل يحبّ الجمال.

إنّ الإمام في حالة دعاء وتضرّع ومناجاة مع الله تعالي. إنّه في حالة سؤال وطلب من الربّ الجليل، وليس في مقام الحديث مع الناس، ومع ذلك نراه لم يغفل هذا الجانب، بل أولاه الأهمية أيضاً، فهو يغيّر التعبير ويقلّل من التكرار

لملاحظة تستوجب ذلك، فلم يكرّر مثلاً كلمة «بلغ» أو «الكمال» بل استعمل المترادفات مع ملاحظة الفروق الدقيقة بينها؛ الأمر الذي يدلّ علي أنّ المطلوب من الإنسان الداعي أن يصبّ دعاءه في قوالب جميلة حينما يسأل الله تعالي.

العلاقة بين الإيمان واليقين والنية والعمل

ثمّة نقطة أخري تجدر الإشارة إليها قبل التعرّض إلي جمل هذه الفقرة والترابط فيما بينها، وهي أنّه ليس كلّ من كان قريباً من النور يمكن أن يستفيد منه، ما لم يكن أهلاً للاستفادة، كما هو الحال في القريب من البحر الفرات فإمّا أن ينهل من درره وعطاياه ويرتوي من عذب مائه أو يغرق فيه ويكون من الهالكين.

وهكذا هو الحال فيمن كانوا قريبين من أهل البيت سلام الله عليهم والذين عاشوا في عصرهم، حيث قُيّض لكثير منهم أن غنم وفاز في الدارين، حتي جاء في بعضهم المدح والدعاء عن المعصوم بينما تاه البعض الآخر في ضلالته وتردّي في غوايته رغم أنّه كان قريباً من المعصوم أو معاصراً له.

ونحن اليوم عندما نقرأ أدعيتهم عليهم السلام ونستلهم العبر من أقوالهم، فهذا يعني أنّنا قريبون منهم، وإن كنّا لا نري أشخاصهم ونعيش في غير عصرهم، أمّا من لم يطّلع علي أدعيتهم ولم ينهل من معين علومهم، فليس بمستوي أن يوفّق إلي الخير لأنه لم يتعرّف عليهم ولم يعرف قدرهم وعظمتهم التي يقصر البيان عن وصفها.

ففي هذه الفقرة من دعاء مكارم الأخلاق وحدها علي سبيل المثال لا الحصر يكمن مفتاح كلّ خير؛ فالإمام يطلب من الله تعالي من الإيمان أكمله، ومن اليقين أفضله، ومن النيّات والأعمال أحسنها، ولاشكّ أنّ هذه الخصال صنعت عظماء كأبي ذر وسلمان وحبيب بن مظاهر والشيخ المفيد والسيّد بحر العلوم والمقدّس الأردبيلي وأمثالهم.

بعد هذه المقدّمة نقول:

لعلّ هذا الترتيب الوارد

في هذه الفقرة من دعاء الإمام عليه السلام (الإيمان، اليقين، النيّة الحسنة ثمّ العمل الحسن) يبيّن نوعاً من التسبيب الخارجي الواقعي. فبنسبة درجات الإيمان يكون المجال مفتوحاً أمام النسبة المناسبة من اليقين، وبنسبة درجات اليقين يكون المجال مفتوحاً أمام النسبة المناسبة من النيّة الحسنة، وبنسبة درجات النيّة الحسنة يكون المجال مفتوحاً للنسبة المناسبة من العمل الحسن.

ومن دون اكتمال هذه الحلقات الأربع لا يتحقّق التكامل. فالإيمان وحده غير كاف بل لابدّ له من اليقين، واليقين وحده غير مجدٍ من دون النيّة الحسنة، والنيّة الحسنة لا معني لها إن لم تترجم إلي عمل حسن.

فهذه العناصر الأربعة تكمل بعضها بعضاً ويدعو بعضها لبعض. فالإيمان يدعو إلي اليقين، واليقين يدعو إلي النيّة الحسنة، والنيّة الحسنة تدعو إلي العمل الحسن. ولكن حيث إنّ هناك جواذب ومؤثّرات ضخمة وقويّة تثقل من حركة الإنسان نحو التكامل وتبطئه، اقتضي الأمر أن يُعمل الإنسان كلّ قدراته وطاقاته من أجل أن يجمع بين هذه العناصر كلّها.

ومن هنا يمكن أن نفهم موقف مسلم بن عقيل رضوان الله عليه وعدم إقدامه عندما عُرض عليه أن يفتك بابن زياد، مبيّناً ذلك بقوله: لحديث حدّثنيه الناس عن النبي صلي الله عليه وآله: أنّ الإيمان قيّد الفتك.

وعلي النقيض من ذلك ما حكاه الكتاب العزيز عن بعض الكافرين الذين لم يردعهم يقينهم عن الجحود والإنكار للحقّ، كما في قوله سبحانه: ?وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أنْفُسُهُمْ?، وهو ما يعني أنّ يقين بعض الكافرين في أمر مّا قد يفوق يقين بعض المؤمنين، ولكنّهم يجحدونه، فلا يعملون به، ومن ثمّ فلا قيمة ليقينهم هذا.

ولا ينصرف لذهن أحد منكم أنّ اليقين المشار إليه في الآية الكريمة إنّما هو مجاز. بل هي كلمة مستعملة في معناها الحقيقي،

ولكنّه يقين أبتر لا يتبعه نيّة ولا عمل، ولذلك يؤول إلي الجحود والكفر.

إنّ العلاقة بين العناصر الواردة في هذه الفقرة من الدعاء تشبه ما يصطلح عليه أهل العلم بالعلاقة بين أجزاء المركب الارتباطي؛ أي بعضها مرتبط ببعض. فإذا فُقد جزء منها فُقد الكلّ، وإذا عرض لبعضها مانع فكأنّما عرض للكلّ. فإذا وجدت في النفس نيّة صدّقتها الجوارح، ويكون التصديق هذا متناسباً مع النيّة قوّة وضعفاً.

ولتقريب المطلب أذكر هذا المثال:

أتذكر مولّدة الكهرباء القديمة في مدينة سامراء وفّقنا الله جميعاً لزيارة مشاهد الأئمة سلام الله عليهم فيها وفي غيرها وكيف أنّها كانت ضعيفة، فكان الزوّار الذين يفدون إلي سامراء لا يشاهدون حتي المنارة أثناء الليل، وكانوا يقولون عن المصابيح التي تعمل علي هذه المولّدة إنّها لا تُري إلا نفسها!!

فكلّما كانت المولّدة قوية كانت الإضاءة الصادرة منها مثلها، أمّا إذا كانت ضعيفة فلا يمكن أن نتوقّع منها إلا النور الضعيف الذي لا يكاد يبين ما حوله.

وهكذا الحال بالنسبة لانعكاس الإيمان والحالات النفسية للإنسان علي أعماله وتصرّفاته. فذو النفس الكريمة لا تبخل يده، ومن كان شجاع النفس لا يصفرّ وجهه، وصاحب اليقين لا تحطّم المشكلات أعصابه، ومن كانت نيّته خالصة لله لا يعير لمدح الناس أو ذمّهم أدني أهمّية.

ولئن خفيت عنّا بعض الآثار فإنّها لا تخفي علي الله تعالي فإنّه يعلم ما في نفوسنا، كما يعلم كلٌّ منّا ما في نفسه؛ ?بَلِ الإنْسَانُ عَلي نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ ألْقَي مَعَاذِيرَهُ?.

أكمل الإيمان

أكمل الإيمان

إنّ الإمام سلام الله عليه لم يستعمل كلمة «أبلغ» بل قال: «بلِّغ». ومن الواضح أنّ هذه الصيغة يستفاد منها معني التدرّج الذي يدلّ علي أنّ التغيّر لا يحصل دفعة واحدة وإن كانت المراتب تختلف من شخص لآخر بل الأمر كما

قال رسول الله صلي الله عليه وآله: الخير عادة.

روي عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أنّه قال: إذا صعدت روح المؤمن إلي السماء تعجّبت الملائكة وقالت: عجباً كيف نجا من دار فسد فيها خيارنا؟!.

وهذا معناه أنّ المؤمن عملة نادرة. فالفرد كلّما حاول أن يصبح إنساناً جيّداً واجهته صعوبات كثيرة تحاول أن تثنيه، وربما أثنته. وليس ذلك لضعف في عطاء الله تعالي، بل لتقصير من جانب الإنسان نفسه؛ فإنّ شهواته قد تبلغ من الكثرة والقوّة ما تتطلّب جهداً إضافياً للسيطرة عليها. ونيلُ المعنويات والتغلّب علي الشهوات يتطلّبان دائماً قوّة أكثر وعزماً أكبر مما هو مطلوب في سبيل نيل الشهوات، ولذلك تري الناس عادة ما يبلغون المقصود في تحقيق شهواتهم أكثر مما يبلغون في كسب المعنويات.

فكما أنّه لا خلاف في صعوبة الالتزام بالمعنويات، فكذلك لا خلاف في أنّه كلّما أراد الإنسان أن يحتلّ مساحة أوسع من المعنويات كلّفه ذلك جهداً أكبر، حاله في ذلك حال من يريد الحصول علي مساحة أوسع في المادّيات؛ فإنّ ذلك يتطّلب منه بذلاً أكثر. فمثلاً: تكون كلفة شراء بيت سعته ألف متر، أكثر مما هو مطلوب لبيت مساحته مئة متر فقط.

وإذا عرفنا أنّ الشهوات المحيطة بالإنسان كثيرة جدّاً، أدركنا مدي صعوبة صراعه مع المغريات التي يمكن أن تجذبه لتحول دون ارتقائه سلّم المعنويات التي من خلالها يروم الوصول إلي أكمل الإيمان. ولهذا نري المؤمنين في تفاوت بدرجات الإيمان كما جاء في قوله تعالي: ?هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ?.

رُوي عن أبي عمرو الزبيري أنّه قال: قلت للإمام الصادق عليه السلام: إنّ للإيمان درجات ومنازل يتفاضل المؤمنون فيها عند الله؟ قال: «نعم».

إنّه لفوز عظيم أن يبلّغ الله تعالي بإيماننا أكمل الإيمان ولو في آخر

ساعة من العمر، فنكون ممن حباهم الله تعالي بحسن العاقبة.

وفيما يلي نذكر نماذج من الذين سعوا للإيمان الكامل:

• صهر الأمير الميرداماد

يُنقل أنّ بنت الأمير في إحدي مدن إيران كانت عائدة إلي بيتها في وقت متأخّر من ليلة شاتية، إذ صادفت في طريقها مدرسة دينية، ففكّرت أن تلجأ إليها حتي الصباح، طلباً للأمان، ولم يكن في المدرسة في تلك الليلة إلا طالب علم أعزب ينام في إحدي الغرف وحيداً فريداً. فلما طرقت الباب فوجئ الطالب بشابّة تطلب اللجوء في المبيت عنده حتي الصباح؛ فأدخلها الطالب حينئذ حجرته علي وجل! ونامت آمنة مطمئنة حتي الصباح، ثمّ غادرت إلي بيت أبيها الأمير.

عندما سألها أبوها الأمير عن مكان مبيتها ليلة أمس حكت له القصّة. فشكّ الأمير وأرسل خلف طالب العلم ليستوضح الأمر، فتبيّن له بعد ذلك أنّ هذا الطالب منعه تقواه من أن يتكلّم معها فضلاً عن أن يدنو منها أو غير ذلك!

وعندما أراد الأمير أن يشكر الطالب اكتشف أنّ إحدي أصابعه قد أُحرقت حديثاً، فسأله عن السبب فقال: تعلم أنّي شابّ وأعزب، واتّفق أن نامت في غرفتي ابنتك وهي امرأة شابّة ولم يكن معنا أحد غيرنا، فأخذ الشيطان يوسوس لي، فخفت أن أفشل في مقاومته، فكانت في غرفتي شعلة نفطية، فبدأتُ أقرّب إصبعي من النار كلّما وسوس لي الشيطان وقديماً قيل: والجرح يُسكنه الذي هو آلم فصرتُ أسكّن ألم الشهوة بألم الاحتراق، وبقيت هكذا إلي الصباح حتي نجّاني الله من الوقوع في فخّ الشيطان وما توسوس به النفس الأمّارة بالسوء.

وعندما سمعت الفتاة ذلك قالت: هو كذلك، لأنّي كنت أشمّ رائحة شواء، ولم أكن أعلم أنّ هذا المسكين إنّما كان يشوي إصبعه!

وقيل: إنّ الأمير زوّجها إياه بعد ذلك لما رأي من

جلَده وتقواه.

وهذا الشابّ هو أحد علمائنا الأعلام الذي عرف فيما بعد ب «ميرداماد» أي صهر الأمير.

• الشيخ الأنصاري والشيخ خنفر رحمهما الله

كان الشيخ الأنصاري رحمه الله طالب علم ثمّ أصبح مدرّساً فمرجعاً عامّاً للتقليد يرجع إليه الملايين من المسلمين وتجبي إليه الأموال الكثيرة، وعندما مات لم تزد تركته علي سبعة عشر توماناً مع أنّه كان يعيل زوجة وأطفالاً وكذلك أمّه التي كانت تعيش معه، كما كان يأتيه الضيوف من كلّ مكان.

وكان يعاصر الشيخ الأنصاري عالم جليل القدر يدعي الشيخ محسن خنفر، وكان رحمه الله أكبر سنّاً منه وإن كان دونه في المنزلة العلمية.

مرض (الشيخ خنفر) أخريات أيّام حياته مرضاً ألزمه داره، فأُخبر الشيخ الأنصاري بذلك؛ فتألّم ودعا له، ولما أعوز الشيخ خنفر بعض المال أرسل له الشيخ الأنصاري كيساً من الذهب وكانت عمدة الأموال يومئذ الذهب والفضّة، وكانت تجبي في أكياس لكي يأخذ حاجته منه.

وفعلاً فإنّ الشيخ خنفر لم يكن ليأخذ أكثر من دينار وثلاثة أرباع الدينار أي مثقالاً من الذهب وثلاثة أرباع المثقال ثمّ أرجع الباقي وقال: أبلغوا شكري للشيخ مرتضي وأخبروه أنّني أخذت كفايتي!

وعندما توفّي الشيخ خنفر بعد مدّة وجيزة تبيّن أنّ ما أخذه كان فعلاً بمقدار حاجته لما تبقّي من حياته.

فإذا كانت كلّ تلك الأموال الضخمة ترد علي الشيخ الأنصاري ولكنّه لم يترك أكثر من سبعة عشر توماناً، وأنّ الشيخ خنفر قد اكتفي بما يسدّ عوزه، أفلا يعني هذا أنّهما رحمهما الله تعالي قد ارتقيا درجات رفيعة في سلّم أكمل الإيمان؟

لاشكّ أنّ هذا يتطلّب عملاً كبيراً يسبقه عزم أكيد وتوكّل علي الله، لأنّ المغريات والشهوات ليست بالقليلة، ومنها شهوة المال والاكتناز، والرئاسة والحكم، والتفوّق والغرور، والجهل والتظاهر بالعلم و …

إذاً فلنتوجّه إلي الله تعالي ونطلب منه أن

يبلّغ بإيماننا أكمل الإيمان، وأن نتعظ بالعلماء الأتقياء؛ فإنّهم لم يبلغوا تلك المرتبة الرفيعة دفعة واحدة، بل علي القاعدة هُم أيضاً طلبوا أن يبلّغ الله بإيمانهم إلي الكمال، فأعانهم الله تعالي وأخذ بأيديهم، بعد أن استوفوا شروط ذلك في الورع والتقوي والاجتهاد، فهو سبحانه باسط اليدين بالعطية.

فإذا كان الله لا يمنعنا عطاءه، وخلقنا ليرحمنا لا ليمنعنا، فلماذا لا نسعي ونهتمّ قليلاً ثمّ نضاعف سعينا لكي يشملنا فيض الله تعالي ونكون من الذين بلّغ بإيمانهم أكمل الإيمان؟ وأوّل شروط الإيمان الكامل هو الالتزام بالواجبات والكفّ عن المحرّمات.

تعلّم علوم أهل البيت عليهم السلام من شروط الإيمان الكامل

• روي عن أبي الصلت أنّه قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسي الرضا عليه السلام يقول: رحم الله عبداً أحيي أمرنا. فقلت له: كيف يحيي أمركم؟ قال عليه السلام: يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس.

وإذا كان علماء اللغة والأدب يقولون: إنّ الجمع المضاف يفيد العموم، كان معني العبارة: «يتعلم كلّ علومنا». وهذا الكلام موجّه بالدرجة الأولي لنا نحن طلاب العلم.

فكلّ من تتوفّر فيه شروط الاستطاعة يكون عليه لزاماً أن يتعلّم علوم أهل البيت سلام الله عليهم ليعلّمها الناس فيهتدوا بهديهم سلام الله عليهم.

? ينقل الشيخ شريف العلماء في بعض دروسه مناقشات السيّد مهدي بحر العلوم رحمه الله مع بعض علماء اليهود والنصاري وكيفية إفحامه لهم. فإذا لم يكن عند السيّد بحر العلوم من علوم أهل البيت سلام الله عليهم فهل كان يتمكّن أن يناقش علماء اليهود والنصاري ويفحمهم.

فلنقتدِ بأهل البيت سلام الله عليهم ولنقتفِ آثارهم، ولنعمل بالواجبات ومن أهمّها تعلّم علومهم سلام الله عليهم وتعليمها للناس؛ عسي الله تعالي أن يأخذ بأيدينا إلي أكمل الإيمان ببركة محمد وآل محمد صلوات الله وسلامه عليهم.

أحسن الأعمال

أحسن الأعمال

قال الإمام عليه السلام: وَبلِّغْ بإيماني أكمَلَ الإيمانِ، وَاجْعَلْ يَقيني أفْضَلَ اليَقينِ، وَانْتَهِ بِنِيَّتي إلي أحْسَنِ النِّيَّاتِ، وَبِعَمَلي إلي أحْسَنِ الأعْمَال.

لقد تحدّثنا في ما تقدّم عن أكمل الإيمان، وكان من المفروض أن يجري الحديث الآن عن أفضل اليقين وأحسن النيات كما يقتضيه السياق ولكن بما أنّنا سنتعرّض لموضوع النيّة واليقين عند قول الإمام في الجملة التالية: اللّهُمَّ وَفّرْ بِلُطْفِكَ نِيّتي، وَصَحِّحْ بمِا عِنْدَك يقيني، وَاسْتَصْلِحْ بقُدْرَتِكَ ما فسدَ مِنّي. لذا سنتناول الآن قوله سلام الله عليه: وبعملي إلي أحْسَنِ الأعْمال؛ لنري ماذا يقصد الإمام ويعني ب «أحسن الأعمال» التي ينبغي للمؤمن أن يطلبها

من الله تعالي وأن يجعلها غاية عمله؟

من لباب النصائح

روي الحسين بن أبي العلا قال: خرجنا إلي مكّة نيف وعشرون رجلاً، فكنت أذبح لهم في كلّ منزل شاة، فلما أردت أن أدخل علي أبي عبد الله عليه السلام قال لي: يا حسين وتذلّ المؤمنين؟! قلت: أعوذ بالله من ذلك.

فقال عليه السلام: بلغني أنّك كنت تذبح لهم في كلّ منزل شاة؟!

قلت: ما أردت إلا الله.

فقال: أما كنت تري أنّ فيهم من يحبّ أن يفعل فعالك فلا يبلغ مقدرته ذلك فتتقاصر إليه نفسه.

قلت: أستغفر الله ولا أعود.

وهذا العمل كما هو واضح لا إشكال فيه ولا شبهة، ولولا بقية الرواية لقلنا إنّه من أفضل الأعمال وأحسنها. فما أفضل إطعام المؤمنين وهم في طريق الحجّ إلي بيت الله الحرام؟! إذا كان الإطعام في حدّ ذاته عملاً مستحبّاً فكيف بإطعام المؤمنين؟ وكيف إذا كانوا في طاعة الله تعالي؟

إنّ الحسين بن أبي العلاء لم يكن إنساناً عادياً بل كان قريباً من نور الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام، وكان يريد بعمله وجه الله تعالي، كما يظهر من جوابه للإمام سلام الله عليه. وعدمُ إنكار الإمام لصنيعه والاكتفاء بعتابه يدلّ علي صدق نيّته.

لقد أراد الإمام من هذه النصيحة أن يلفت نظر الحسين بن أبي العلاء إلي ما ينبغي له وهو أن يتحرّي «أحسن الأعمال» وأن يعلم أنّ بلوغه لذلك يتطلّب وعياً دقيقاً وعوناً من الله تعالي.

فمع أنّ الإطعام الذي قام به كان عملاً حسناً، خاصّة وأنّه كان لله تعالي، ولكنّه في الوقت نفسه لم يكن أحسن الأعمال؛ كما وضّحه الإمام بقوله: أما كنت تري أنّ فيهم من يحبّ أن يفعل فعلك فلا يبلغ مقدرته ذلك فتتقاصر إليه نفسه. فربما كان في هؤلاء الذين تطعمهم من

يحبّ أن يفعل الشيء ذاته، أي يقوم هو بإطعام المجموع ولو مرّة واحدة، كما تقوم أنت بذلك، لمكان الفعل ومحبوبيّته، ولكن لم تكن لديه القدرة المالية علي ذلك، فيحسّ حينئذ بالضعف أو الضعة أو شيء من الذلّ.

لا شكّ أنّ ما كان من فعل الحسين بن أبي العلاء لم يكن من الإذلال المقصود، وإلا ردعه الإمام ونهاه. ثمّ إنّ الإمام ههنا ليس في مقام النهي عن منكرٍما بقدر ما هو بصدد الإرشاد إلي أحسن الأعمال، فكان الأولي بالمنفق هنا أن يلتفت إلي هذه النكتة الدقيقة التي أشار إليها الإمام ويعالجها بطريقة ذكية كأن لا يُظهر أنّ الإطعام كلّه منه.

وهذا يعدّ من لباب النصائح، وقل من يتحمّلها إلا من أوتي حظّاً من العلم والأخلاق. ولذلك نلاحظ أنّ الحسين بن أبي العلاء أدرك مقصود الإمام فوراً وقال: «أستغفر الله ولا أعود» أي سوف أكفّ عن الإطعام بنحو يشعر الآخرين بشيء من القصور أو الإذلال، وما أشبه.

حقّاً لولا أهل البيت سلام الله عليهم لما عُبد الله حقّ عبادته، كما روي عن الإمام الصادق سلام الله عليه: لولانا ما عُبد الله.

فلنتوقّف قليلاً ونحاسب أنفسنا قبل أن نحاسَب فقد روي عن الإمام أبي الحسن موسي بن جعفر عليهما السلام قوله: ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم؛ فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيّئاً استغفر الله منه وتاب إليه ولنعتبر بقصص المسترشدين؛ ومنها القصة التالية:

توبة أحد كتّاب بني أميّة

عَنْ عَبْد اللَّه بْن حَمَّاد عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: كَانَ لي صَديقٌ منْ كُتَّاب بَني أُمَيَّةَ فَقَالَ لي: اسْتَأْذِن لي علي أَبي عَبْد اللَّه عليه السلام. فَاسْتَأْذَنْتُ لَهُ عَلَيْه، فَأَذنَ لَهُ. فَلَمَّا أَنْ دخل سَلَّمَ وَجَلَسَ ثُمَّ قَالَ: جُعلْتُ فداكَ إنِّي

كُنْتُ في ديوان هؤلاء القَوم فَأَصَبْتُ منْ دُنياهُمْ مَالاً كَثيراً وَأَغْمَضْتُ في مَطَالبهِ فَقَالَ أَبُو عَبْد الله سلام الله عليه: لولا أنّ بني أميَّة وَجَدوا مَنْ يَكْتُبُ لَهُمْ وَيَجْبي لَهُمُ الْفَيْ ءَ ويُقَاتلُ عَنْهُمْ وَيَشْهَدُ جَمَاعَتَهُمْ لما سَلبونا حَقَّنا، وَلو تَرَكَهُمُ النَّاسُ وَمَا في أيْديهمْ ما وجدوا شَيْئاً إِلا ما وقَعَ في أيْديهمْ.

قَالَ: فَقَالَ الْفَتَي: جُعلتُ فداكَ فهل لي مَخْرَجٌ منْه؟ قَالَ: إن قُلْتُ لك تفْعلُ؟ قَالَ: أَفْعَلُ. قَالَ لَهُ: فَاخْرُجْ منْ جميع مَا اكْتَسَبْتَ في ديوانهمْ؛ فَمَنْ عَرَفْتَ منهُمْ رَدَدْتَ عَليه مالَهُ، وَمَنْ لَمْ تَعْرفْ تَصَدَّقْتَ به، وَأَنَا أَضْمَنُ لَكَ عَلَي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الجَنَّةَ.

قَالَ: فَأَطْرَقَ الْفَتَي رَأْسَهُ طَويلاً ثُمَّ قَالَ له: قَدْ فَعَلْتُ جُعلتُ فداكَ.

قَالَ ابْنُ أَبي حَمْزَةَ: فَرَجَعَ الْفَتَي مَعَنا إلي الْكُوفَة فَمَا تَرَكَ شَيْئاً عَلَي وَجْه الأَرْض إلا خَرَجَ منْهُ حَتَّي ثيابه الَّتي كَانَتْ عَلَي بَدَنه.

قَالَ: فَقَسَمْتُ لَهُ قسْمَةً وَاشْتَرَيْنَا لَهُ ثيَاباً وَبَعَثْنَا إلَيْه بنَفَقَة. قَالَ: فَمَا أَتَي عَلَيْه إلا أَشْهُرٌ قَلائلُ حَتَّي مَرضَ، فَكُنَّا نَعُودُهُ …

ومعني قول الرجل «وأغمضت في مطالبه» أي لم أتحرّ أصله أمن حلال أم حرام.

وهذا الإغماض هو أحد مصاديق الزلل التي يمكن أن يتعرّض لها كلّ إنسان، وقد يكون في العلم أيضاً كما لو احتال المدرّس ولم يعط الدرس حقّه أو لم يتثبّت فيما يلقيه علي الطلبة فيتحدّث بشيء لا يعرفه أو لا يتقنه، وهكذا الحال بالنسبة للطالب إن لم يَستوفِ المباحثة حقّها، وكذا غيره.

وهذا الفتي عندما قال له الإمام: «تخرج من كلّ مالك» أدرك أنّ هذه الكلمة حقيقة وليست مجازاً، ولذلك «أطرق رأسه طويلاً ثمّ قال: قد فعلت». وعندما رجع إلي الكوفة خرج من كلّ أمواله حتي الثياب التي كانت عليه! ولذلك اشتري له أصحاب الإمام

الصادق عليه السلام ثياباً وأعطوها له مع بعض المال لكي يعيش، ثمّ مات بعد ذلك بفترة قصيرة!

والغريب أنّ الذي جاء بالرجل إلي الإمام الصادق سلام الله عليه وصار سبباً لتوبته هو علي بن أبي حمزة البطائني، وهو من أصحاب الإمام الصادق والإمام موسي بن جعفر سلام الله عليهما ومن وكلائهما ولكنّه انحرف بعد ذلك وكان أحد الثلاثة الذين أبدعوا مذهب الوقف!

فيجدر مراجعة كتب السير؛ ففيها دواعي الاعتبار بحال أمثال هذين الرجلين، فذاك الذي كان عاملاً لبني أميّة كيف اهتدي، وهذا الذي كان من أصحاب الأئمة كيف انحرف!

إذاً علينا أن نلتفت إلي ما نعمل وأن لا يكون عملنا مصلحاً من جانب ومفسداً من جانب آخر، وعلينا أن نطرد الوساوس لأنّها من الشيطان، فلا نترك العمل الذي بدأناه بل نصلحه ونتقنه، وأن نستلهم في هذا الطريق كلّ الدروس والعبر ونستفيد من النصائح والحكم التي وصلتنا عن النبي صلي الله عليه وآله والأئمة من أهل البيت سلام الله عليهم.

وهذا الأمر بحاجة إلي قليل من الالتفات والتأمّل، فلا ندَع العمل ولا نندفع وراءه دون وعي، بل نكون كما أرادنا الله تعالي أمّة وسطاً.

وعلينا في كلّ حال أن لا نغفل عن حبائل الشيطان، الذي أجراه الله تعالي فينا مجري الدم في العروق، فلنكن منه ومن حبائله علي حذر.

ما المقصود بأحسن الأعمال؟

لقد وُجّه هذا السؤال إلي الإمام زين العابدين عليه السلام كما وُجّه إلي سائر الأئمة المعصومين سلام الله عليهم فأجاب كلّ إمام بما يتناسب وظرف السؤال وطبيعته، ولربما أجاب أحدهم صلوات الله عليهم بأكثر من إجابة حسب الموقف والمناسبة التي تقتضيه. فمثلاً هناك روايات تقول: إنّ الصلاة أحسن الأعمال، وأخري تقول: إنّ صلة الرحم أحسن الأعمال. إذاً ما المقصود حقّاً بأحسن الأعمال؟

سيّما وأنّ كلمة «أعمال» وردت بصيغة الجمع المحلّي بالألف واللام وهي صيغة تفيد العموم، فيكون المقصود منها «كلّ الأعمال».

يَجمع الفقهاء عادةً بين روايات كهذه إمّا علي المعني الإضافي أي النسبي، أو علي اعتبار درجات الحسن والتفاضل؛ لأنّ الأئمة سلام الله عليهم كانوا يجيبون أحياناً بمقتضي حال الشخص السائل، أي علي نحو ما يصطلح عليه العلماء بالقضية الخارجية.

توضيح ذلك: الإجابات المختلفة عن أحسن الأعمال في كلمات المعصومين سلام الله عليهم إمّا أن تحمل علي درجات الأفضلية المطلقة، وإمّا أن تحمل علي الأفضلية النسبية، أي إنّ العمل الفلاني أحسن عمل بالنسبة لكذا موقف أو لفلان من الناس، والعمل الآخر أحسن بالنسبة لشخص آخر أو موقف آخر. وما أكثر الموارد المشابهة لذلك في الكتب الفقهية والتي عولجت بأحد هذين النحوين.

العمل بالسنّة أحسن الأعمال

ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال: إنّ أفضل الأعمال عند الله ما عُمل بالسنّة وإن قلّ، والمقصود بالسنّة هنا معناها الأعمّ وتشمل الفريضة، لأنّ السنّة قد تطلق ويراد بها معناها الأخصّ وهي ما يقابل الفريضة كما في كثير من المستحبّات، وقد تطلق ويراد بها المعني الأعمّ فتشمل الفريضة. وهذا بحث علميّ استدلالي وله شواهد كثيرة.

فيكون معني الحديث: إنّ علي كلّ إنسان أن يعرف ما هي مسؤوليته الشرعية فيعمل بها، لأنّها هي أحسن الأعمال بالنسبة إليه.

فأفضل الأعمال بالنسبة لصاحب العيال شحيح المال هو الاكتساب الحلال للحصول علي المال والإنفاق علي من تجب عليه نفقتهم. وأفضل الأعمال لمن يري العالَم منغمساً في الضلالة أن يبادر لتعلّم علوم أهل البيت سلام الله عليهم ويعلّمها الناس، كما في صحيحة عبد السلام بن صالح الهروي المذكورة سابقاً.

وأفضل الأعمال للذي بينه وبين رحمه قطيعة أن يصلهم ويُحسن إليهم، ولا تكون صلاة

الليل مثلاً أحسن الأعمال بالنسبة إليه؛ وهو قاطع لرحمه، وإن كانت حسنة في نفسها.

عندما يقال إنّ أفضل الأعمال صلة الرحم، فمعناه أنّ علي الشخص الذي بينه وبين رحمه قطيعة أن يبادر لصلتها قبل القيام بأيّ عمل آخر، لأنّها أفضل عمل يطلبه الله تعالي منه، فهي أحسن من صلاة الليل ومن الدراسة ومن قراءة القرآن من باب الأولوية وهذا معني: أفضل الأعمال ما عُمل بالسنّة.

فهذا الحديث المرويّ عن الإمام السجّاد سلام الله عليه يعدّ قرينة ودليلاً علي أنّ التباين في الروايات المتعددة عن المعصومين سلام الله عليهم في تبيين أحسن الأعمال إنّما لأجل إختلاف القضايا الخارجيّة، وليس تبايناً حقيقيّاً.

وفيما نحن فيه حيث يعلّمنا الإمام السجّاد سلام الله عليه أن نسأل الله تعالي ونطلب منه أن ينتهي بعملنا إلي أحسن الأعمال يجب علينا أن نبحث في التزاماتنا التي ينبغي فعلها سواء كانت واجبة أو مستحبّة لمعرفة الأولوية فيها، لنضمن بعد ذاك الوصول الي أحسن الأعمال ونسعي إلي تحقيقها. فمن يحبّ شيئاً ويطلبه من الله تعالي لابدّ أن يسعي إليه، كما أنّ من يطلب معيشة أفضل يسعي نحوها؛ فمن عرف مثلاً أنّ الأجرة في مكان ما دينار وفي مكان آخر ديناران، لا يتردّد في الذهاب إلي المكان الثاني مادام يبحث عن أحسن مستويً للدخل.

نماذج عملية

• لما دخل مسلم بن عقيل رضوان الله تعالي عليه الكوفة سكن في دار سالم بن المسيب فبايعه اثنا عشر ألف رجل. فلما دخل ابن زياد الكوفة انتقل مسلم من دار سالم إلي دار هاني في جوف الليل ودخل في أمانه، وكان يبايعه الناس حتي بايعه خمسة وعشرون ألف رجل.

فعزم علي الخروج، فقال له هاني: لا تعجل. وكان شريك بن الأعور الهمداني جاء من

البصرة مع عبيد الله بن زياد فمرض فنزل دار

هاني أيّاماً، ثمّ قال لمسلم: إنّ عبيد الله يعودني وإنّي مطاوله الحديث فاخرج إليه بسيفك فاقتله، وعلامتك أن أقول اسقوني ماء، ونهاه هاني عن ذلك فلما دخل عبيد الله علي شريك وسأله عن وجعه وطال سؤاله ورأي أنّ أحداً لا يخرج فخشي أن يفوته فأخذ يقول:

ما الانتظار بسلمي أن تحيّوها حيّوا سليمي وحيّوا من يحييها

فتوهّم ابن زياد وخرج.

فلمّا خرج ابن زياد دخل مسلم والسيف في كفّه. فقال له شريك: ما منعك من قتله؟ قال: خصلتان أمّا إحداهما فكراهية هاني أن يُقتل في داره، وأمّا الأخري فحديث حدّثنيه الناس عن النبي صلّي الله عليه وآله: إنّ الإيمان قيد الفتك، فلا يفتك مؤمن.

حقّاً ما أعظم هذه الكلمات الثلاث؟! أجل إنّها ثلاث كلمات فقط، ولكن الدنيا تزول في يوم ما، وتبقي هذه الكلمات خالدة.

فكما أنّ الإنسان المقيَّد بالسلسلة لا يستطيع التصرّف بحريّة لأنّها تقيّده وتمنعه من الحركة فكذلك الإسلام يمنع الإنسان المؤمن من الفتك، فإذا فتك فذلك يعني أنّه قد تحرّر من الإسلام ولم يعد متقيّداً به.

وبهذا يكون مسلم رضوان الله عليه قد اتّخذ الموقف الأمثل الذي ينبغي له، أي عمل بما تقتضيه السنّة، فكان موقفه هذا أحسن الأعمال.

صحيح أنّ مسلماً قد فوّت فرصة سياسية ذهبية لقلب المعادلة لصالحه وصالح الإمام الحسين عليه السلام من الناحية المادّية والدنيوية وإن لم تكن كذلك حسب المفهوم الإسلامي، لأنّ سياسة الغدر بعيدة عن روح الإسلام إلاّ أنّه رضوان الله عليه لم يفوّت ما هو أعظم منها في الدارين؛ فتمسّك بما حفظه عن رسول الله صلي الله عليه وآله.

فالغلبة المادّية من خلال الغدر والفتك ليس فيها بقاء لروح الإسلام الذي هو فوق المادّيات وتوابعها،

وما عمله مسلم بن عقيل رضوان الله تعالي عليه كان عملاً بالسنّة وهو أحسن الأعمال.

• كما أنّ هناك رواية صحيحة السند، عن الحسن بن محبوب يقول: عَنْ رَجُلٍ منْ أَصْحَابنَا عَنْ أَبي الصَّبَّاح الْكِنَانيِّ قَالَ: قُلْتُ لأبي عَبْد الله عليه السلام: إنّ لنا جاراً من هَمْدَانَ يُقَالُ لَهُ الْجَعْدُ بْنُ عَبْد اللهِ وهُوَ يَجْلسُ إلَيْنَا فَنَذْكُرُ عَليّاً أَميرَ الْمُؤْمنين عليه السلام وفَضْلَهُ فَيَقَعُ فيه، أَفَتَأْذَنُ لي فيه؟ قَال: فَقَال: يَا أَبَا الصَّبَّاح أوَ كُنْتَ فَاعلاً؟ فَقُلْتُ: إي والله لَئنْ أَذنْتَ لي فيه لأرصُدنَّهُ، فَإذَا صَارَ فيهَا اقْتَحَمْتُ عَلَيْه بسَيْفي فَخَبَطْتُهُ حَتَّي أَقْتُلَهُ. قَالَ: فَقَال: يَا أَبَا الصَّبَّاحِ هَذَا الْفَتْكُ، وقَدْ نَهَي رَسُولُ الله صلّي الله عليه وآله عَن الْفَتْك، يَا أَبَا الصَّبَّاحِ إنَّ الإسلامَ قَيَّدَ الْفَتْكَ.

فالقتال والدفاع عن النفس والمبارزة في الميدان أمور مفهومة من قِبل الإسلام، أمّا الغدر فلا يجوز أبدا.ً أجل إنّ الحرب خدعة والخدعة جائزة في الحرب، ولكن الغدر غير الخدعة. فالخدعة تصحّ والحرب قائمة، أمّا أن تقتل رجلاً جاء لزيارتك أو حضر مجلسك فهذا ليس من شيم الإسلام.

ويمكن تصوّر الخدعة أثناء الحرب كخلق أجواء خاصّة في صفوف العدوّ بالصراخ وغيره، كما حدث في حرب الجمل، عندما صاح الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه بأعلي صوته والحرب محتدمة: يا محمد بن أبي بكر، انظر إذا عرقب الجمل فأدرك أختك فوارها، وكانت عائشة تقود الجيش المعادي؛ فتصوّروا أنّ عائشة إمّا سقطت وإمّا أوشكت علي السقوط، فتفرّقوا عنها وانهزم الجيش. فهذه تسمّي خدعة، أمّا الغدر فهو أن تعطي الأمان لخصمك ثمّ تفتك به، وهذا ما لا يقرّه الإسلام.

صحيح أنّ ابن زياد كان من أشرّ الناس علي أهل البيت سلام الله عليهم، ولكنه لم يأت

إلي بيت هاني بصفته محارباً بل جاء عائداً؛ ولذلك لم يبادر مسلم لقتله غيلة، وهاهنا تكمن عظمة مسلم التي يقف حتي التاريخ إجلالاً لها.

• نقل أحد تلاميذ السيّد الوالد رحمه الله قال: ذهبت يوماً إلي السيّد قبل الدرس، وقلت له: عندي سؤال مهم، وأرجو منكم أن تجيبوا عليه.

قال السيّد: تفضل، إسأل.

قلت: سيّدي، إذا علمتَ أنك ستفارق الدنيا بعد ساعة أو يوم، فماذا أنت فاعل خلال هذه المدّة القصيرة الباقية من عمرك؟

فأجابني السيّد علي الفور ودون أدني تأمّل أي علي خلاف عادته التي عُرف بها في أوساط المحيطين به، وهي أنّه لا يجيب علي أيّ سؤال بسرعة بل كان يتأمّل ولو قليلاً ثمّ يجيب؛ الأمر الذي يكشف عن أنّه كان قد فكّر سابقاً في هذا الأمر، ولذلك كان جوابه حاضراً عنده قائلاً: أعمل هذا الذي أنا مشغول به الآن - وكان جالساً يطالع كتاب الجواهر متهيّئاً لإلقاء الدرس وكان الوقت قبيل وقت إلقاء درسه كما قلنا.

فقد يكون هذا هو أفضل الأعمال بالنسبة إلي مرجع تقليد، أعني مطالعة الأحكام الشرعية والتوفّر عليها ليتسنّي له الإجابة علي أسئلة الناس واستفتاءاتهم، فضلاً عن تدريس الطلبة وتعليمهم، فهذه من الواجبات المهمّة، فيكون ما أجاب به رحمه الله هو العمل بالسنّة أي العمل بالمسؤولية وهو أفضل الأعمال كما يقول الإمام زين العابدين سلام الله عليه.

• كان محمد بن مسعود العياشي أحد علماء العامّة، ألّف كتباً عديدة تأييداً لمذهبه، وكان الشيعة يومذاك أقلّية من ناحية العدد، ولكن كان هناك شباب من علماء الشيعة الذين لم يذكرهم التاريخ والذين سيُكشف عنهم حتماً وعن دورهم في يوم القيامة- استطاعوا أن يغيّروا فكر العياشي ويحوّلوه عن مذهبه ويجعلوه شيعياً من أتباع أهل البيت سلام الله

عليهم، حتي ذكر أصحاب السير والتراجم أنّ مسعود العياشي (الأب) كان من التجّار الكبار وورث منه ابنه محمّد هذا ثلاثمئة ألف دينار أي أكثر من طنّ من الذهب أنفقها كلّها في سبيل العلم ونشر مذهب أهل البيت سلام الله عليهم.

لاشكّ أنّ الشخص الذي كان وراء تغيير عقيدة العيّاشي قد عمل بأحسن الأعمال حين استطاع أن يغيّر عالِماً ويهديه، مع أنّ العالِم لايتغيّر بسهولة، فليس هو كالإنسان العادي يتغيّر في جلسة أوجلستين، مضافاً إلي أنّ تغيير العالِم يعني تغيير العالَم، لأنّ العالِِِم اذا صلح، صلح العالم. أفلا يكون تغيير العيّاشي وأمثاله من أفضل الأعمال؟!

• كان المرحوم السيّد البروجردي رحمه الله، يدرّس الأصول في مسجد «عشق علي» عصراً، وفي أحد الأيّام وبينما السيّد يلقي الدرس من علي المنبر وجّه أحد التلاميذ الحاضرين إشكالاً علي الموضوع الذي كان يطرحه السيّد. فأجاب السيّد علي الإشكال، ولكن التلميذ استشكل مرّة أخري، وأجاب السيّد أيضاً، ولكنه احتدّ هذه المرّة في كلامه بعض الشيء، فسكت التلميذ.

يقول السيّد الخونساري: كنت قد أتممت صلاة المغرب في اليوم نفسه ولم أصلّ العشاء بعد عندما جاءني خادم السيّد البروجردي وقال لي: «يطلب منك السيّد أن تحضر عنده الآن». أسرعت الي السيّد فرأيت التأثّر بادياً عليه وكان واقفاً عند باب مكتبته متعجّلاً قدومي؛ فقال لي: لقد صدرت حدّة في كلامي مع ذلك التلميذ الذي استشكل عليّ اليوم وأريد منك أن تأخذني إليه قبل أن أصلّي المغرب والعشاء لأعتذر منه، فلم يكن ما قد صدر منّي تجاهه صحيحاً.

يقول السيّد الخونساري: قلت للسيد: ان الشيخ (التلميذ) يؤمّ جماعة المصلّين في المسجد الفلاني ثمّ يذكر بعد ذلك بعض المسائل الشرعية للناس ويجيب علي أسئلتهم، فهناك أمامنا زهاء ساعتين ريثما يذهب

الشيخ إلي بيته، فلأذهب الليلة وحدي إلي بيته وأخبره بالأمر واُرتّب معه موعداً لزيارته غداً، لكي نذهب سويّة إلي منزله.

وهكذا حدَث، فلقد أخبرت الشيخ بالأمر ليلاً، وفي الصباح الباكر ذهبت إلي حرم السيّدة المعصومة عليها السلام كما جرت عادتي علي ذلك، ثمّ رجعت الي البيت وإذا بي أري السيّد البروجردي مستقلاًّ عربته، مستعدّاً أمام بيتي ينتظرني، وكان رحمه الله كبير السنّ لايستطيع المشي بسهولة، فركبت معه العربة وانطلقنا إلي بيت الشيخ الذي ما إن سمع طرق الباب حتي أسرع إلي فتحه ورحّب بالسيّد كثيراً. كيف لا وقد كان طالباً بين يديه والسيّد يومذاك كان مرجعاً عامّاً للشيعة، وكان الشيخ من مقلّديه.

يقول السيّد الخونساري: عندما دخل السيّد أمسك بيد الشيخ وهمّ بتقبيلها لولا أنّ الشيخ سحب يده بقوّة ممتنعاً!!

قال السيّد البروجردي: اعذرني علي شدّتي في الكلام معك أمس، فما كان ينبغي لي أن أفعل ذلك!

فقال له الشيخ: أنت سيّدنا ومولانا ومرجع المسلمين وأنا أحدهم، وتوجّهك هذا إليّ يعدّ فضلاً منك عليّ.

ولكن السيّد البروجردي كرّر قوله بطلب العفو والصفح.

وهنا نسأل: اذا صدر من الإنسان شيء لم يكن أو شعر أنّه لم يكن في محلّه، ألا يجدر به العمل بما وافق السنّة؟ فإن عمل به فهو أحسن الأعمال وإلا فلا. ولو لم يكن السيّد البروجردي رحمه الله ممتلئاً بعلوم أهل البيت سلام الله عليهم لما وُفق لهذا التوفيق ببلوغ أحسن الأعمال؛ الأمر الذي يجعلنا ندرك مدي أهميّة الحديث المتقدّم المرويّ عن الإمام الرضا سلام الله عليه والذي يقول فيه: يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس.

أحسن الأعمال في ليلة عرفة ويومها والعيدين

للإمام الحسين سلام الله عليه دعاء في يوم عرفة كما هناك دعاء للإمام السجّاد وآخر للإمام الصادق سلام الله عليهما، ومن ُوفّق لقراءة هذه الأدعية

الثلاثة بتدبّر فقد نال خيراً كثيراً؛ لأنّها كنوز عظيمة في الحقيقة. وقد ذكر المرحوم الشيخ عباس القمّي صاحب كتاب مفاتيح الجنان من هذه الأدعية الثلاثة دعاء الإمام الحسين سلام الله عليه، أمّا الأدعية الأخري فقد وردت في كتب الزيارات والأدعية الأخري.

وعمدة الأعمال في يوم عرفة وليلتها ويوم العيد وليلته سواء كان عيد الأضحي أو عيد الفطر هي أن يتعلّم المرء فيها علوم أهل البيت سلام الله عليهم ويعلّمها الناس، ومن جملة علومهم تلك الأدعية التي أشرنا إليها آنفاً، كما يستحبّ في ليلة عرفة ويوم العيد أيضاً أن يضمّ إلي تلك الأدعية كما جاء في بعض الروايات قراءة زيارة الإمام الحسين سلام الله عليه لما فيها من علوم آل البيت عليهم السلام ولغناها بمعارف التوحيد والنبوّة والعدل والإمامة والمعاد، علاوة علي بيانها صفات الله الثبوتية والسلبية، وما يجوز إطلاقه علي الله وما لا يجوز. فهذه الأدعية والزيارات المرويّة عن أهل البيت سلام الله عليهم هي أوسع باب وأقوم طريق لمعرفة الله تعالي والاهتداء إلي أصول دينه الحنيف.

لذا ينبغي لنا أن نتعلّم هذه الأدعية والزيارات لكي نفهم عبرها أصول الدين وأحكامه، ولا نكتفي بالقراءة فقط. فمن عكف علي تعلّمها وتدبّر في آفاقها لابدّ وأن تتغيّر حالته نحو الأفضل ويسمو في آفاق العلم والمعرفة.

فهناك بعض الناس قد يصاب بآفة التكبّر والغرور لمجرد أنّه تعلم كلمتين أو درس مرحلتين أوطالع كتابين أو حفظ بعض المصطلحات، في حين تري مرجعاً بمستوي السيّد البروجردي رحمه الله مثلاً لايهدأ له بال قبل أن يذهب ويعتذر من تلميذه لمجرد أنّه احتدّ معه في الكلام، ويري أنّ هذا الاعتذار أوجب الأعمال عليه وأحسنها، حتي أنّه فوّت علي نفسه فضيلة أداء الصلاة في أوّل وقتها

وعدّ وقت طلب العذر مقدّماً عليها.

وهذا الاستعداد للاعتذار عند السيّد البروجردي مع مكانته العلمية والاجتماعية، لم يأت اعتباطاً بل هو نتيجة تربية وخلفية ضخمة أوجدت فيه هذه الحالة؛ فهل نحن مستعدّون إن اقتنعنا بصدور خطأ منّا في حقّ شخص ما أن نعمل الشيء نفسه الذي عمله السيّد البروجردي مع أنّنا لم نبلغ مكانته؟ أسأل الله تعالي أن يجعلنا كذلك وأن يوفّقنا ببركة أهل البيت سلام الله عليهم للتحلّي بأحسن الأعمال.

توفّر النيّة

توفّر النيّة

مهما أوتي الإنسان من الإحاطة في البلاغة والدراية إلا أنّه يبقي علي سواحل بحار معاني كلمات أهل البيت سلام الله عليهم لأنّهم أرومة اللغة وسادات الأدب والبلاغة؛ ومن الأمثلة علي ذلك كلمات الإمام السجّاد سلام الله عليه في هذا الدعاء.

ما يبدو لنا في هذا المجال أنّ الإمام السجّاد عليه السلام يمزج المعاني هنا بعضها ببعض ويُشرب بعض الألفاظ بمعاني ألفاظ أخري؛ هذا الإشراب الأدبي للفظ بمعني لفظٍ آخر يجعله قالباً وقابلاً للمعنيين معاً.

تستعمل مفردة وفر في اللغة تارة متعدية وأخري لازمة، وكلٌّ بلحاظ يختلف عن الآخر. تقول: (وفُرَ المالُ) أي كثر واتّسع، وتقول (وفِّرِ الشيء) أي كمّله واجعله وافراً. كما يستعمل التوفير بمعني الصيانة والحفظ أيضاً.

وقد استعمل الإمام هذه الكلمة بشأن النيّة لأنّ ما يطلبه الإمام من الله تعالي هو المراتب العالية من الشيء وليس أصل الشيء كما في طلبنا نحن. فإنّ الإمام يطلب هنا توفير النيّة بمعني الوصول بها إلي الكمال وثبوتها، لا بمعني إيجادها في نفسه.

إنّ الثبات علي النيّة أصعب شيء علي النفس لأنّها متذبذبة بالنسبة إلي النيّة ذبذبة غريبة، ومثاله التذبذب الذي يحصل لنا في الصلاة. فربما تبدلت نيّة بعضنا في الصلاة الواحدة أكثر من عشرين مرة! فقد يبدأ الشخص صلاته بنيّة

تنسجم وقول أمير المؤمنين سلام الله عليه: إلهي ما عبدتُك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك ولكن وجدتُك أهلاً للعبادة فعبدتك، فيبدأ تكبيرته بهذه النيّة، ولكن بمجرّد أن يُتمّ التكبير تهجم علي ذهنه الأفكار، فإذا كان خطيباً مثلاً فكّر في المجلس الذي ينتظره، وإذا كان تاجراً فكّر في تجارته وهكذا. فهل هذا هو المراد من التكبير؟! هل كبّر الخطيب ليبدأ الإعداد لمجلسه مثلاً؟ إنّ الإعداد للمجلس أمر حسن ولا بأس به، ولكن ليس أثناء الصلاة.

إنّ مسألة الثبات علي النيّة تعتبر بحدّ ذاتها مسألة صعبة جدّاً. فإنّ الإنسان مهما أوتي من توفيق وإخلاص حتي لو استمرّ عليه سبعين سنة فإنّه لا يؤمَن من تزلزل النيّة في نفسه، لأنّ الإنسان كما هو معلوم مكبّل ومشدود بغرائز وأهواء مختلفة. وقد ورد في كثير من الآيات الكريمة والأحاديث القدسية والروايات الشريفة أنّ جمهرة عظيمة وكبيرة من الناس يدخلون جهنم والعياذ بالله لعدم ثبات نياتهم؛ قال تعالي: ?مُذَبْذَبينَ بَيْنَ ذَلكَ لاَ إلَي هَؤلاَء وَلاَ الَي هَؤلاَء?.

ولذلك يطلب الإمام من الله تعالي إكمال النيّة وإبعاد النقص فيها، ويطلب كذلك صيانتها، فهي معرّضة للتأثيرات المختلفة، الأمر الذي يجدر بنا بعد انعقاد نوايانا في نفوسنا أن نطلب من الله تعالي توفيرها وصيانتها من أخطار الشيطان والشهوات وتأثيراتها المختلفة.

ولذلك فإنّ الإمام لم يقل: «وفِّر نيّتي» بل قال: وفّر بلطفك نيّتي. فهذه الباء هي باء السببية، أي ليتدخّل لطفك يا إلهي في توفّر نيتي، وإلاّ فإنّي غير مستحقّ لولا لطفك ورحمتك. فما هو المراد من اللطف هنا؟

إنّ كلّ كلمة من كلمات هذا الدعاء يعدّ كتاباً حقّاً، ولو عرضتَ هذا الدعاء وحده علي شخص لا يعرف أهل البيت وكان أديباً وعارفاً بالمعاني ومنصفاً مع نفسه

لغيّر نظرته وتحوّل إلي أهل البيت عليهم السلام!

اللطيف: صفة من صفات الله تعالي وأسمائه، وفي اللغة له عدّة معان، ومن تلك المعاني: الرفيق أي صاحب الرفق. ومن معاني اللطف: التوفيق والعصمة. وغير مستبعد أن يريد الإمام كلا المعنيَين.

فكأنّ الداعي يقول: يا إلهي أنت رفيق بعبادك (ترفق بهم) فبرفقك يا إلهي وفّر نيتي، ويا الهي أنت الموفّق والعاصم لعبادك توفّق وتعصم وِفْقَ مشيئتك، فبتوفيقك يا إلهي اعصِم نيّتي.

لقد أودع الله تعالي في الإنسان من الطاقات ما هي كفيلة بتصحيح مساره، لكنّه الإنسان كثيراً ما يضعف عن صيانة نيّته وحفظها عن الزيغ والتذبذب، فتراه يعجز عن الصعود والارتقاء بها إلي درجات الكمال العليا؛ ولذا يقول الإمام السجّاد عليه السلام: اللهم وفّر بلطفك نيّتي. أي يا إلهي خذ بيدي واصعد بنيّتي، فلا أستطيع الارتقاء من دون عونك.

النيّة إطار العمل ومانحة لونه

والنيّة إطار العمل، فالعمل لا لون له، مثل الماء الصافي الذي لم تخالطه أجزاء ترابية أو شوائب أخري. فلو كان الماء صافياً جداً وصُبّ في إناء زجاجي شفّاف، حينها لا يتمكّن الإنسان أن يبصر حدّ الماء من بعيد بسهولة، خصوصاً إذا كان ساكناً لا تموّج فيه، وذلك لأنّ الماء في الأصل لا لون فيه وإنّما يكتسب لون الإناء الذي يوضع فيه أو لون الشيء الذي يمتزج معه، أو غير ذلك.

فالعمل كالماء بصفائه، وإنّ النيّة هي ذلك الشيء الذي يمنحه لونه.

فمثلاً زيد يدرّس، ولكن المهمّ هو الهدف الذي يدرّس من أجله فإن كان إلهياً قلنا إنّ عمله إلهي، وإلا كان له لون آخر. وهكذا الحال مع كلّ عمل سواء كان تدريساً أو دراسة أو خطابة أو تأليفاً أو بناء مسجد أو أيّ عمل آخر.

• مثال آخر: شخص شتمك، ولكنّك حلمت عليه، فالحلم

شيء صعب وجميل في نفس الوقت، ولكن الأصعب من الحلم تأطيره بنية إلهية. أمّا إذا كان الدافع لاستعمالك الحلم أن تقوّي مكانتك بين الأصدقاء أو يقال عنك حليم، أو تعلن للناس من خلاله أنك قويّ الإرادة، فهذا يختلف عمّن يحلم لعلمه أنّ الله يحبّ الحلم ويدعو إليه، ولكلٍّ حساب.

لا عمل إلا بنيّة

روي عن رسول الله صلي الله عليه وآله أنّه قال: لا قول إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنيّة، ولا قول ولا عمل ولا نيّة إلا بإصابة السنّة.

وهناك أحاديث كثيرة بهذا المضمون، ذكر بعضها الحرّ العاملي رحمه الله في كتابه.

و «لا» هنا نافية للجنس؛ لأنّ اسمها مبنيّ علي الفتح، وهي تختلف في أدائها ومدلولها عن «لا» المشبّهة ب «ليس» في كون النافية للجنس تنفي جنس الشيء وهو العمل في المقام، وهذا معناه أنّ العمل واللاعمل سيّان إن لم يكن العمل مصحوباً بنيّة حسنة، وليس المقصود نفي الحقيقة والواقع الخارجي بل نفي الاعتبار. فمن واصل الدراسة لمدّة عشرين أو ثلاثين سنة حتي بلغ مرحلة الاجتهاد، إنّما يعبّر عن وجود همّةٍ صاحبُها رجل مثابر، إذاً فكيف لا يعدّ كلّ ما بذله من جهد عملاً؟! وهكذا من بذل إطعاماً أو ألقي خطاباً استوجب مدح الناس وإعجابهم، كيف يقال عمّا صدر عنه أنّه لم يكن عملاً؟ لا شكّ أنّ المقصود هو نفي الاعتبار وليس الحقيقة. وتوضيحه بمثال:

لو أنّ شخصاً ألّف كتاباً ضخماً وأتعب نفسه في تأليفه ثمّ قدّمه لعالِم والتمسه أن يكتب له تقريظاً، ولكن العالم اكتشف بعد مطالعته الكتاب أنّه لا قيمة له من الناحية العلمية والموضوعية واعتذر لصاحبه عن كتابة التقريظ قائلاً: إنّ هذا ليس بكتاب أصلاً! فماذا يُفهم؟ هل نفي الواقع المادّي الملموس للكتاب ككتاب مؤلَّف

من أوراق كتبت عليها عبارات وخطوط، أم نفي توفّر الكتاب علي الشروط التي يستحقّ بها أن يسمّي كتاباً كما ينبغي.

إذاً ما كتبه الكاتب في المثال هو كتاب، وفي الوقت نفسه ليس بكتاب. هو كتاب خارجاً وحقيقة، ولكنّه ليس كتاباً اعتباراً، أي وفق الشروط التي يعتبرها أهل الفنّ.

إذا اتّضح هذا المثال نقول: هكذا يجب أن نفهم مراد الأحاديث الشريفة التي تقول إنّه لا عمل إلا بنيّة.

والخوف كلّ الخوف أن يأتي اليوم الذي ينتشر فيه هذا اللاعمل. فلكلّ فرد منّا مئات الملايين من الأعمال في حياته، لأنّ العمل ليس منبراً أو تأليفاً أو تدريساً أو بناء حسينية فحسب، بل كلّ نظرة وكلّ نفحة، وكلّ تأمّل وتفكّر وكلّ لمسة وهمسة ولمزة وخلسة، وكلّ استماع ونجوي وتعبير، ولابدّ أن تحصي هذه الأعمال كلّها عند الله تعالي وتنشر يوم القيامة، ليكشف عن عدد هائل من اللاعمل بعدد مصاديق الأعمال المجرّدة عن النيّة الحسنة.

ولا عمل ولا نيّة إلا بإصابة السنّة

وهذا تتمّة الحديث، وإن لم يكن مورد بحثنا الآن، ولكن لا بأس بإشارة إليه لأهمّيته. ولعل أقرب مثال يوضّح هذا المعني قد تجسّد في أولئك الذين عادوا الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه وشهروا سيوفهم في وجهه بنيّة التقرّب إلي الله تعالي!

فكيف يُتصوّر قبول عمل من شهر سيفه في وجه الإمام علي عليه السلام وهو ميزان الأعمال يوم القيامة؟! أي بمودّة علي عليهم السلام توزن أعمال العباد ليعرف ثقلها، ويتحقّق قول الله تعالي: ?فَأمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ? فَهُوَ في عيشَةٍ راضِيَة ? وَأمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ? فأمُّهُ هاويَة?.

أيعقل أن يجعل اللهُ تعالي علياً عليه السلام ميزاناً ومعياراً لأعمال الخلائق وفيصلاً بين الحقّ والباطل، يدور الحقّ معه حيثما دار، ثمّ يرضي بمحاربته وإشهار السيف بوجهه؟!

ورغم ذلك

نري قوماً كان هذا فعلهم. ولذلك يذكر المؤرّخون أنّه عندما طُعن أحد الخوارج يوم النهروان، مشي في الرمح وهو شاهر سيفه إلي أن وصل إلي طاعنه فضربه فقتله وهو يقرأ: ?وَعَجلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَي? طه: 84. فهذا عنده نيّة وعمل ولكن عمله ونيّته لم يصيبا السنّة، فيكون عمله بذلك من مصاديق اللاعمل.

النيّة قبل العمل وحينه وبعده

يظهر من مضمون الأحاديث والروايات أنّ النيّة تؤثّر في العمل سواء كانت قبل العمل أو حينه أو بعده لا فرق، سوي أنّ فسادها بعد العمل يفسده دون أن يبطله. والفقهاء رضوان الله عليهم قد فصّلوا الأمر وقالوا: إنّ النيّة إذا كانت فاسدة حين العمل أي كان العمل لغير الله كما لو كان رياءً مثلاً فهذه النية الفاسدة تفسد العمل وتبطله، ولكنّها إن فسدت بعد العمل فهي لا تبطل العمل بل تفسده فقط. و لا يتناقض هذا الفهم مع مفهوم الروايات المتقدّمة فضلاً عن منطوقها بل هو فهم يفرّق بين البطلان الذي يعني لزوم إعادة العمل وبين الإفساد الذي يعني عدم القبول.

فلو أنّ شخصاً صدر منه الرياء أثناء الصلاة، فلا شكّ حينئذ بفساد الصلاة وبطلانها في الحالتين، الأمر الذي يستوجب الإعادة في الوقت، والقضاء خارج الوقت إن فاته.

ولكن لو فرضنا أنّ الشخص لم تكن هذه نيّته ولكنّه بعد أن أتمّ الصلاة حدّثته نفسه بالرياء والتظاهر، وعمل بذلك، فتحدّث لغيره عن صلاته وخشوعه فيها، فهنا يقول الفقهاء إنّ الصلاة وإن فسدت فهي لا تبطل، ويعنون بذلك عدم بطلانها الظاهري، وهذا المعني مساوق لعدم وجوب الإعادة أو القضاء.

أمّا الروايات التي تقول باشتراط حسن النيّة حتي بعد العمل فهي ناظرة إلي القبول، ولذلك فإنّ هذه الصلاة تساوق العدم من حيث الأجر والقبول وإن لم تستلزم الإعادة في

الدنيا لسقوط التكليف بالفراغ منها قبل حصول الخلل في النيّة. أمّا الخلل الحاصل حين العمل فهو مخلّ بالركنين الصحّة والقبول معاً، ولذلك عُدّ من رائي أثناء صلاته كمن صلّي بلا وضوء أو مستدبرَ القبلة أو مع النجاسة غير المعفوّ عنها وما أشبه، ومن ثمّ فتجب عليه الإعادة، والقضاء إن لم يُعد في الوقت، بل تجب علي ورثته قضاؤها إن لم يقضها، علي التفصيل المذكور في الكتب الفقهية.

مثال من واقع الحياة

واشتراط النيّة وصحّتها في قبول العمل من الأمور التي جرت عليها سيرة العقلاء في حياتهم العملية، والأمثلة ليست عزيزة في هذا المجال، فكثيرة هي الأمور التي قد يُتعب الإنسان نفسه عليها، ثمّ يفرّط بها ويتلفها بسهولة وربّما باندفاع لأنّه يري أنّها كانت عديمة الفائدة، وإن شكلت كمّاً ضخماً في الواقع الخارجي.

نقل لي أحد العلماء رحمه الله قال: لقد ألّفت مجموعة من الكتب خلال عشرين سنة ثمّ بدا لي بعد ذلك أنّي غير راغب فيها – من الناحية الدينية طبعاً وليس السياسية – ولا أريد بقاءها عندي، ففكّرت بطريقة للتخلّص منها، لأنّني لا أستطيع إحراقها بسبب وجود أسماء الله تعالي وآيات قرآنية وروايات للمعصومين فيها، يقول: ففكّرت أن أعطيها لشخص لكي يرميها في النهر ولكنّي خشيت أن لا يرميها في الماء أو أن يبقي منها ما قد يدركه أحد ويستخرجه، فرأيت أنّ أفضل طريقة هي أن أدفنها في حفرة أحتفرها في داخل بيتي، فاستأجرت حفّاراً ليحفر لي بئراً في موضع من البيت، وبعد أن حفر مقداراً أعطيته أجرته وطلبت منه أن ينصرف. وعندما خرج من البيت أسرعت بوضع الكتب في الحفرة وفتحت عليها الماء ثمّ أهلت التراب حتي اختفت ثمّ سوّيت ما عليها!

هكذا يفعل الله مع أعمالنا الباطلة، يقول

تعالي: ?وَقَدِمْنَا إلَي مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً?. حقّاً ما آلمه من عذاب، ذلك عذاب اليوم الآخر الذي يهون عنده كلّ أنواع العذاب في دار الدنيا، لأنّ الإنسان المؤمن سيرتاح بالموت من عذاب الدنيا وهمومها، ولكن لا راحة من العذاب الأخروي لسواه، سيّان النفسي منه والجسدي.

إنّ المفتاح بيد الإنسان وإن لم يخلُ الأمر من صعوبة ولكنّه ممكن، غايته أنّه يتطلّب إرادة وتوكّلاً علي الله تعالي. والنيّة تؤطّر العمل في كلّ حال. فهي تؤطّر الخطابة والتدريس والبذل والإطعام، وهي تؤطّر عمل المرجع والمؤلّف والمبلّغ وإمام الجماعة والقاضي، كما تؤطّر العمل في سائر المجالات.

الخلود بسبب النيّة

يقول العلاّمة المجلسي: ومن هذا يظهر سرّ أنّ أهل الجنّة يخلدون فيها بنيّاتهم، لأنّ النيّة الحسنة تستلزم طينة طيّبة، وصفات حسنة، وملكات جميلة تستحقّ الخلود بذلك؛ إذ لم يكن مانع العمل من قبله فهو بتلك الحالة مهيّأ للأعمال الحسنة والأفعال الجميلة، والكافر مهيّأ لضدّ ذلك، وبتلك الصفات الخبيثة المستلزمة لتلك النيّة الرديئة استحقّ الخلود في النار.

توضيحه: إنّ المؤمن الثابت علي الإيمان مهما مدّ الله في عمره أقام علي الطاعة فهذه نيّته، والعاصي المصرّ علي العصيان مهما عاش في الدنيا استمرّ علي عصيانه، وهذا عزمه.

أمثلة علي النيّة الحسنة

• للشيخ عباس القمّي رحمه الله كتب عديدة منها «مفاتيح الجنان» وله كتاب عميق المحتوي كتبه باللغة الفارسية وتمّت ترجمته مؤخّراً إلي اللغة العربية، أسماه «منازل الآخرة» وهو حقّاً يعبّر عن محتواه.

كان أبوه (محمد رضا) رجلاً عادياً، ومن الكسبة الأخيار، فكان ملتزماً بالحضور في مسجد الإمام الحسن العسكري سلام الله عليه المعروف في مدينة قم المقدّسة، حيث كان هناك خطيب قد تأثّر بخطابه وبوعظه وإرشاده؛ فقد كان خطيباً جيّداً، وفي نفس الوقت كان من الذين يخدمون أهل البيت سلام الله عليهم عن هذا الطريق.

أمّا الشيخ عباس القمّي فلم تكن حرفته الأصلية الخطابة بل كان مؤلفاً محققاً، ولكنّه مع ذلك كان يصعد المنبر أحياناً، وكان المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري (زعيم الحوزة العلمية) يدعوه لارتقاء المنبر في مدينة قم، كما كان السيّد حسين القمّي رحمه الله يدعوه أحياناً ليصعد المنبر في بيته في مدينة مشهد المقدّسة. وكان غالباً ما يأخذ معه كتاباً بيده ويقرأ منه، لأنّه كان يخشي الزيادة والنقيصة ويتورّع في ذلك.

كان محمد رضا يسأل ابنه «الشيخ عبّاس» مراراً: لماذا لا تزيد من معلوماتك وتصعد المنبر مثل الخطيب الفلاني الذي أحضرُ

مجلسه في مسجد الإمام العسكري سلام الله عليه، فهو خطيب جيّد يحضر منبره جمهور كثير وهو يقرأ من كتاب معه يحوي مواعظ وحكماً وحكايات مؤثّرة؟

وكان الكتاب الذي يطالع فيه ذلك الخطيب هو كتاب «منازل الآخرة» للشيخ عبّاس القمّي، ولكن الشيخ مع ذلك لم يخبر أباه أبداً أنّ هذا الخطيب إنّما يقرأ من كتاب «منازل الآخرة» وأنّه من تأليفي.

وهذه الحالة تكشف عن الإخلاص في النيّة.

• للشيخ ابن فهد الحلّي رحمه الله تأليفات كثيرة منها كتاب «عدّة الداعي» كنت سابقاً قد سمعت عن الكتاب ورأيت بعض ما نُقل عنه، ولكنّي لم أكن قد رأيت الكتاب نفسه. وعندما حصلت عليه، بعد أن جاءني به شخص في أوّل الليل، أخذت في قراءته وسهرت بذلك الليل كلّه تقريباً، فشعرت بتأثير مطالبه عليّ مع أنّي كنت قد سمعت بمعظمها، حتي إنّه يمكنني القول أنّي لم أجد شيئاً جديداً سوي جملة واحدة لا تزيد علي سطر واحد.

وكعادة طلاب العلوم الدينية الذين يبحثون دائماً عن جذور الأشياء وأسبابها، فكّرت عند نفسي عن السبب الذي يكمن وراء كلّ هذا التأثير الذي وجدته من وراء هذا الكتاب رغم أنّ معظم مطالبه لم تكن جديدة لي فلم أصل إلاّ إلي أمر واحد فقط وهو أنّ المؤلّف كتب كتابه هذا بنيّة خالصة!

لقد كان الشيخ ابن فهد الحلّي رحمه الله من الفقهاء الأتقياء وصاحب كرامات وقد نُقلت عنه أشياء نادرة وأمور مبتكرة ولعلّها فريدة.

ولقد كانت نيّته موفّرة وخالصة لدرجة أنّ عمله في كتابه هذا علي وجه الخصوص، يؤثّر في النفوس رغم مرور مئات السنين عليه!

• لما أظفر الله تعالي أمير المؤمنين سلام الله عليه: بأصحاب الجمل قال له بعض أصحابه: وددت أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليري ما

نصرك الله به علي أعدائك. فقال سلام الله عليه: أ هوي أخيك معنا؟ قال: نعم. قال: فقد شهدنا، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا، أقوامٌ في أصلاب الرجال وأرحام النساء سيرعف بهم الزمان ويقوي بهم الإيمان.

لابدّ من النيّة والتوكّل معا

إنّ النيّة هي الأساس في العمل، وهي إطار العمل كما أسلفنا، والاختيار يبقي بيد الإنسان، ولكن بما أنّه مكبّل ومشدود إلي الأرض فهو بحاجة إلي تأييد ربّاني. نضرب لذلك مثلاً:

إنّ الذين يتسلّقون الجبال يمسكون بحبل أحد طرفيه مثبّت في أعلي الجبل، فالمتسلّق منهم وإن تراه يصعد بعزيمته وجهده وفكره وأعصابه إلاّ أنّه مع ذلك لابدّ له من وجود ذلك الحبل لأنّ أدني زلّة منه قد تودي بحياته أو تهشّم عظامه، إذا ما هوي. فلا العزيمة وحدها كافية دون الحبل ولا الحبل وحده كاف دون العزيمة، لأنّ من لا عزيمة وقوّة له لا يستطيع التسلّق وإن كان هناك حبل، كما أنّ الإرادة والعزيمة غير كافيتين دون الحبل لأنّ الطريق صعب ومحفوف بالمخاطر، وأنّ أدني غفلة أو زلّة تنتهي بصاحبها إلي التحطّم والهلاك.

وهكذا الحال بالنسبة للنيّة ونجاحها، فإنّها تتطلب إرادة وعزيمة وتصميماً من العبد، وتوكّلاً منه علي الله تعالي إلي جانب ذلك. فإنّ التوكّل وحده دون إرادة واختيار من العبد لا يكفي، كما أنّ اعتماد العبد علي إرادته وحدها دون مدد من الله هو أيضاً غير مضمون النتائج.

وتلك الوسيلة التي تعين العبد علي تسلّق درجات المعرفة والكمال والفلاح، هي النيّة والتوكّل علي الله تعالي.

• كان أبو حمزة الثمالي شخصية عظيمة، ويكفي أنّ واحدة من حسناته روايته الدعاء المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي، الذي كان يدعو به الإمام زين العابدين سلام الله عليه في أسحار شهر رمضان المبارك.

روي أنّ سبطه حسيناً روي عن

أبيه، عن أبي حمزة أنّه قال: «والله إنّي لعلي ظهر بعيري بالبقيع إذ جاءني رسولٌ فقال: أجب يا أبا حمزة! فجئت وأبو عبدالله عليه السلام جالس، فقال: إنّي لأستريح إذا رأيتك.

هذه كلمة عظيمة جدّاً، فالإمام الصادق سلام الله عليه كان له أصحاب كثيرون، فلماذا كان يستريح لأبي حمزة بالخصوص؟ هل كان سلام الله عليه يستريح لشكله أو منطقه أو لسانه أو ماله أم كان يستريح لإخلاصه؟ لاشكّ أنّ إخلاص أبي حمزة هو الذي رفعه إلي هذه الدرجة العظيمة، وأنّ الإمام كان يستريح لخلوص نيّته.

لنعمل علي توفير النيّة

فلنتجاوز هذه العقبة الكؤود عقبة التذبذب في النية ولنؤطّر أعمالنا بنيّة خالصة مادمنا علي الطريق، نؤمن بالله واليوم الآخر، ونؤدّي سائر الفروض والواجبات، وندرس وندرّس العلوم الدينية ونعظ الناس ويؤلّف بعضنا الكتب لهدايتهم أو لبيان معالم الدين، لأنّنا مع الأسف نري أنّ بعض الناس بعيدون حتي عن أوليات الدين الحنيف، لذا يلزم أن نبذل جهداً متميّزاً في الوصول إلي أحسن النيّات. غاية الأمر أنّه يحتاج إلي تركيز وتصميم وتوسّل بالله تعالي واستشفاع بأهل البيت سلام الله عليهم. فإنّ العمل الخالص هو الذي لا تريد أن يمدحك عليه أحد كما أشار إليه الأئمّة المعصومون سلام الله عليهم وإن كان هذا أمراً صعب المنال ولكنّه ممكن.

بعد ساعات أو أيّام أو شهور أو سنين كلٌّ حسب أجله سننتقل إلي الدار الآخرة، حينها نتأسف لعدم استثمار حياتنا وأعمارنا في العمل بإخلاص، وأنّ عمدة همّنا كان منصبّاً في التظاهر بأعمالنا وذواتنا.

صحيح أنّه ينبغي في بعض الموارد أو يستحبّ بل قد يجب أن يُظهر الإنسان نفسه، ومثاله: أن تكتب اسمك علي الكتاب الذي تؤلّفه ليُعرف أنّه لك فيؤخذ بما فيه إن كنتَ ممن يوثق بكلامه. ولكن ليكن

كتابة اسمك من أجل التوثيق لا لكي تري نفسك وتظهر ذاتك لأجل التفاخر وما أشبه.

وهذا الأمر يتطلّب انتباهاً مستمرّاً وتوكّلاً علي الله تعالي، فربّ غفلة أدّت إلي سقوط مميت! كالذين يقودون سيّاراتهم في طرق ذات منعطفات ومزالق خطيرة تتطلب منهم انتباهاً ويقظة وحذراً لكي لا تؤدّي بهم الغفلة إلي خسارة أعمارهم أو البقاء معوقين طيلة حياتهم!

تصحيح اليقين

تصحيح اليقين

إنّ أعلي درجات العلم عند الإنسان هو اليقين. فقد يسير الإنسان علي طريق ما بهدف الوصول إلي غايته، وفي الوقت نفسه يكون شاكّاً في سلامة هذا الطريق ومدي صوابه، ومع ذلك يصل إلي مرامه ومقصوده إن استعمل الاحتياط. وقد يسير الإنسان علي الظنّ، فيكون احتمال نجاحه أكبر. ولكن مهما قوي الظنّ فإنّه لا يبلغ مرحلة اليقين، لأنّ اليقين أعلي مرتبة في العلم يمكن أن يبلغها الإنسان.

بيد أنّه حتي اليقين كثيراً ما ينكشف أنّه كان خلاف الواقع، فهناك حالات كثيرة من اليقين يتبيّن أنّ الإنسان كان مخطئاً فيها.

وهذا الانكشاف قد يكون بعد آن وقد يكون بعد مرور أشهر، وقد لا يتحقّق إلا بعد مرور سنوات - وهناك أمثلة كثيرة علي هذا الأمر - وأحياناً قد لا ينكشف زيف يقين مّا إلا في الآخرة والعياذ بالله، وهذه هي الطامّة الكبري.

اليقين بالله أفضل اليقين

روي عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أنّه قال: إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار.

فهناك من يعبد الله تعالي عبادة العبيد، حيث يدفعه خوفه من النار للامتثال، فلا يكذب ولا يظلم ولا يرتكب ما حرّم الله تعالي؛ خوفاً من نار جهنّم، ويقوم بالطاعات والواجبات للسبب نفسه، فهو يصلّي ويصوم ويتصدّق علي الفقراء لتحاشي الوقوع في العذاب. وهذه مرتبة من اليقين أيضاً وإن كان سببها الخوف، ولكنّها مقبولة علي كلّ حال، والالتزام بهذا الحدّ لا بأس به، وما أسعد الناس لو التزموا بهذا الحدّ وبهذا المقدار. ولكن إذا ما قورنت هذه الحالة وهذا المقدار بمن يعبد الله لأنّه أهل للعبادة فإنّها ستبدو ناقصة أو كالأعور في مقابل من له

عينان صحيحتان. فالأعور لا يمثّل الحالة الفضلي ولكنّه أحسن من الأعمي علي كلّ حال، ولا مناقشة في الأمثال.

وهناك من يعبد الله تعالي طلباً لثوابه وطمعاً في الجنّة التي حشوها البركة.

]وأكبر النعم في الجنّة رضوان الله تعالي؛ يقول تعالي: ?وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أكْبَرُ? بمعني أنّ علْم أهل الجنّة بأنّ الله راض عنهم يعدّ من أكبر النعم. لتوضيحٍ أكثر نقرّب الموضوع بمثال:

لو أنّك كنت تحترم شخصاً ما ولنفرض أباك وكان يكرمك ويعطيك المال بل يُعطيك من وقته واهتمامه، ولكنك لا تعلم هل هو راض عنك حقّاً، فإنّك إذ ذاك لا تشعر بالقيمة الحقيقيّة لما يقدّمه لك، ولكن إذا كنت تعلم بأنّه راض عنك فسيكون رضاه أهمّ شيء وأكبر مكسب عندك. والأب مثال في المقام وإلا فقد يكون من تحبّ صديقاً عزيزاً أو غيره.

وهكذا الحال في شعور المؤمن باللذة في الجنّة، فإنّ أكبر مكافاة له هي شعوره برضي الربّ تعالي عنه[.

ولكن تبقي هذه الحالة (العبادة طمعاً في الجنّة) أيضاً عبادة تجّار

كما عبّر عنها الإمام عليه السلام وهي أدني مرتبة من عبادة الأحرار التي لا تنبع من خوف ولا طمع بل من يقين بأنّ الله تعالي يستحقّ العبادة.

روي عن أمير المؤمنين سلام الله عليه قوله: إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك.

ولتوضيح المطلب نذكر مثالاً: إذا كان لمرجع دينٍ خادمٌ وصديقٌ ومقلّد، أما الخادم فتراه يُجدّ في عمله مخافة أن يُطرد ويُبدل بآخر إن لم يؤدّ مهمّته علي الوجه المطلوب لأنّ الهدف الذي كان يتوخّي منه لم يتحقّق. فهو يعمل بجد ولا يتخلّف عن الحضور في الأوقات المطلوبة للخدمة مخافة الطرد أو الاستغناء عنه.

أمّا الصديق فتراه يحاول أن يحبّب أو يقرّب

نفسه للمرجع أيضاً، ولكن بدافع مختلف عن الأوّل، لأنّه لا يبتغي مالاً من وراء ظهوره بالمظهر اللائق الذي يجعل المرجع يرتاح إليه. بيد أنّه هو أيضاً ربما يكون يبحث عن منفعة وإن لم تكن المنفعة مادّية بصورة مباشرة، كما لو كان يحاول أن يكسب ثقة المرجع أكثر فأكثر ليكون من مقرّبيه؛ لينال حظوة أو مكانة اجتماعية، ومن ثمّ يكون مؤثّراً في المجتمع، أو ذا كلمة مسموعة قد يستطيع من خلالها أن يحصل علي فوائد مادّية أو فئوية.

بينما المقلِّد لم يقلّد المرجع خوفاً ولا طمعاً بأيّ نفع مادّي أو اجتماعي وإنّما قلّده لأنّه رآه أهلاً لذلك. فإذا قال المرجع إنّ الصلاة كذا قال سمعاً وطاعة، وإذا قال الخمس كذا نفّذ مقالته بلا تردّد.

فطاعة المقلّد لأقوال المرجع والامتثال لأوامره نابعة من نظرته للمرجع في أنّه ممن يجب تنفيذ أقواله وامتثال أوامره فهو مرجعه المتخصص في الشؤون الشرعية، وليس خوفاً من طرده كالخادم أو الأجير ولا طمعاً في كسب الدنيا من ورائه كبعض الأصدقاء.

هكذا هو حال الأئمة عليهم السلام في علاقتهم بالله، فهم لا يعبدونه سبحانه خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنّته وإنّما رأوه أهلاً للعبادة فعبدوه.

اليقين باعث علي الطمأنينة

الإنسان الذي يؤمن بالغيب وعنده يقين بأنّ المقادير كلّها بيد الله تعالي، ينعم براحة بال دائمة وطمأنينة واستقرار؛ لأنّه يعتقد بأنّ كلّ ما يصيبه إنّما هو بقضاء من الله وقدره؛ قال تعالي: ?قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إلاّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا?. ولكن هذا لا يعني أن لا يعمل الإنسان بالشروط والأسباب الطبيعية التي أمره الله تعالي بها، مبرّراً فشله بعد ذلك بأنّه مكتوب عليه من الله سبحانه.

فلو أنّ طالباً تقاعس عن الدراسة ولم يصبح متعلماً رغم مرور السنين، فهذا لا يمكنه

القول إنّ الله عزّ وجلّ كتب عليه الجهل والتخلّف. فإنّ الله تعالي كتب أنّ طريق الرقي العلمي هو الجد والاجتهاد، ولابدّ من سلوكه للوصول إلي الهدف، ولا شكّ أنّ من لا يسلك الطريق لا يصل إلي الغاية. والشيء نفسه يصدق علي كلّ مجالات الحياة الفردية والاجتماعية، فكما أنّ الله تعالي سنّ قوانين تشريعية مثل ?كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ? وغير ذلك من الفروض والواجبات أو النواهي والمحرّمات مثل ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ? وغيرها، فكذلك هنالك لله عزّ وجلّ سنن تكوينية يستتبع التخلّف عنها شقاءً لازماً، مثل ?قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ?.

إذاً علي الإنسان أن يعمل بالأسباب الظاهرية، فإن لم يوفَّق مع ذلك يستسلم إلي تقدير الله ويردّد قوله تعالي: ?قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إلاّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا?.

من يصحّح اليقين غير الله عز ّ وجلّ؟

الظاهر من عبارات الإمام السجّاد سلام الله عليه في هذه الجملة والتي قبلها أنّه عندما طلب توفير النيّة ذكر السبب الذي يتمّ به توفّرها وهو لطف الله تعالي فقال: اللهم وفّر بلطفك نيّتي، ولكنّه عندما طلب تصحيح اليقين - وهو أهمّ ما يبني عليه الإنسان العاقل حياته - أوكل الأمر في تعيين السبب والوسيلة إلي الله تعالي نفسه، فلم يقل بلطفك أو أيّ صفة من صفاتك يا إلهي بل قال: بما عندك أي بالصفة التي تراها أنت يا إلهي؛ ولا يُتوهّم أنّ الإمام لم يذكر السبب ههنا من جهة أنّه قد لا يكون بمستوي أفهامنا فإنّه سلام الله عليه ليس بصدد التفسير والبيان، بل هو في حالة سؤال من الله تعالي ولكن ليثبّت حقيقة ويكشفها لنا وهي: أنّ موضوع تصحيح اليقين مشكل جدّاً، لأنّ الإنسان إذا كانت نيّته غير صالحة فهو يعلم بذلك، ولكن أنّي

له أن يعلم أنّ يقينه غير صحيح وهو علي يقين؟!

ولفظة «ما» الموصولة - كما نعلم - تستعمل للعاقل وغير العاقل، للمفرد والمثنّي والجمع، والمذكر والمؤنّث علي السواء، فهي أعمّ لفظة.

هل يستطيع أن يصحّح اليقينَ الخاطئ غير الله تعالي؟ إنّ الإنسان في شدةّ قوّته هو في منتهي الضعف، فكيف في ضعفه؟ ولذلك يعلّمنا الإمام صلوات الله عليه أن نتوسّل في مثل هذه الحالات إلي الله تعالي، فنقول: اللهم صحّح بما عندك يقيني، فكان اختياره سلام الله عليه لكلمة «بما عندك» في غاية الدقّة والروعة.

أي: يا إلهي أنا لا أعرف أسلوب تصحيح اليقين، فأنت الذي تصحّح لي بما عندك يقيني، لأنّ المرء عندما يكون متيقّناً بشيء فمعناه أنّه متيقّن بصحّته فكيف يصحّحه؟ أجل، إنّ الله سبحانه قادر علي أن يبدّل يقين الإنسان إن كان زائفاً إلي اليقين الصحيح.

فرُبّ شخصٍ اعتمد علي صديق له ووثق به ثقة مطلقة، فأودعه أسراره وكشف له عن أموره خاصّها وعامّها، ثمّ تبيّن له بعد ذلك أنّه كان يتجسّس عليه وينقل أخباره إلي أعدائه! والعكس بالعكس.

فمن ذا الذي يصحّح يقين الإنسان والحال هذه؟ لا شكّ لا أحد غير الله عزّ وجلّ، ولا طريق لذلك إلا الدعاء! قال تعالي: ?قُلْ مَا يَعْبَاُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ?.

إنّ الإنسان الذي لا يدعو الله تعالي لا يستحقّ العناية الإلهية، ومن لا يستحقّ العناية فليس من الحكمة أن يُعطاها. إنّ الطفل مهما كان عزيزاً عند أبويه فإنّهما لا يعطيانه صكّاً نقدياً كبيراً ليلعب به مع الصبية في الطرقات، لأنّه غير مدرك لقيمته، وقد يباغته شخص ويسرقه منه. فإذا كان الأبوان حكيمين فإنّهما لا يعطيانه الصك مهما بكي وألحّ، إذ ليس من الحكمة إعطاؤه. وهكذا الإنسان غير المستحقّ لعناية

الله تعالي، ليس من الحكمة أن يعطاها.

ولذلك نري الأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين يتضرّعون إلي الله عزّ وجلّ في دعائهم، تضرّعاً لا يبلغه سواهم، وهم الذين خلقهم الله تعالي في الذروة وطهّرهم من كلّ رجس، والروايات في هذا المجال كثيرة وما وصلنا لا يشكّل إلا نزراً يسيراً لأنّ أكثر عبادتهم عليهم السلام كانت في الخفاء، وهذا هو شأن من يعبد الله عزّ وجلّ حقّ عبادته لمّا وجده أهلاً للعبادة.

فحال الأئمّة المعصومين سلام الله عليهم مع المولي تعالي شأنه؛ هو أنّهم رأوه أهلاً للعبادة، فبالغوا في عبادته ودعائه والتضرّع إليه، وما ظهر لنا في هذا المجال عنهم صلوات الله عليهم لا يمثّل إلا القليل النادر مما لم يظهر أو لم يُنقل.

استصلاح الفساد

استصلاح الفساد

يقول الإمام سلام الله عليه بعد ذلك: واستصلح بقدرتك ما فسد منّي.

الاستفعال في اللغة وُضع في الأصل لطلب وقوع الفعل، ولكنّه قد يأتي بمعني الإفعال، كما في قول الإمام «استصلح» فهو بمعني «أصلح» وكما في دعاء التوبة المرويّ عنه عليه السلام: «يا من استصلح فاسدهم بالتوبة».

الإصلاح بحاجة إلي قدرة الله تعالي

في هذا الدعاء يطلب الإمام سلام الله عليه من الله تعالي أن يتدارك أمر الإصلاح بقدرته. وهذا الطلب يوحي أنّ هذا المجال (أي إصلاح ما فسد من الإنسان) صعب جدّاً، بحيث يتطلّب تدخّل القدرة الإلهية.

الإنسان معرَّض للفساد فقد يقع فيه وقد لا يقع، والكلام هنا عن فعلية الفساد ووقوعه، لأنّ الإمام يقول: «ما فسد منّي» لا ما يقتضي أن يفسد، وليس كلّ فاسد يمكن إصلاحه بسهولة، علماً أنّ كلمة «ما» الموصولة في قوله سلام الله عليه: (ما فسد منّي) تفيد العموم والسعة والشمول، فتشمل ما فسد من أمور الدنيا والآخرة، ومن البدن والنفس، وكذا في المسائل المالية والنفسية والاجتماعية وغيرها.

ولا يخفي أنّ الإمام هنا بصدد تعليمنا وإرشادنا، فمعني قوله سلام الله عليه هو: إنّ الإنسان لا يقوي علي إصلاح ما فسد منه دون الاعتماد علي قدرة الله تعالي وتوفيقه، فكلّ منا يمكنه أن يكون من خيار الناس، كما يمكن أن يكون من شرارهم والعياذ بالله فهؤلاء الأشرار الموجودون في المجتمع والذين بقوا كذلك حتي آخر عمرهم كانوا أناساً أيضاً، ولكنّهم لم يريدوا الصلاح، ولا استعانوا بقدرة الله تعالي لإصلاح ما فسد منهم، فاستمرّوا علي ما هم عليه.

إنّ إصلاح الفاسد بحاجة إلي الدعاء، ولذلك يقول الإمام سلام الله عليه: «واستصلح بقدرتك ما فسد منّي».

اللّهُمَّ صَلِّ عَلي محمَّدٍ وَآلهِ، وَاكْفِني مَا يَشْغَلُني الاِهْتِمَامُ بِه، وَاسْتَعْمِلْني بِِمَا تَسْأ لُني غَداً عَنْه،

وَاسْتَفْرِغْ أيّامي

فِيما خَلَقْتَني لَه.

? ما يشغل الإنسان

? العمل للآخرة

? التفرّغ لعبادة الله تعالي

ما يُشغل الإنسان

هناك أمور ومسؤوليات تقع علي عاتق الإنسان، منها ما هو كفائيّ ومنها ما هو عينيّ وهو مرادنا في البحث. فالعينيّ هو الأمر الذي لا يسقط عن الإنسان بإتيان الغير له كالصلاة والصوم والحجّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بعض أقسامه، والزكاة والخمس. لكن من العيني ما يكون الغرض منه التحقّق، فلو قام به شخصٌ سقط عمّن وجب عليه.

مثلاً: شخصٌ قدم من بلاد نائية إلي الحوزة العلمية من أجل تلقّي الدراسة، وبينا هو منغمس في الدراسة ومترقّب للامتحانات إذ يأتيه الخبر أنّ أباه قد ابتلي بمرض ما وأنّه بحاجة ماسّة إلي دواء يجب أن يبحث عنه مهما كلّف الأمر ويوصله إليه بأسرع ما يمكن، فهذا واجب عينيّ ولكن لا يشترط أن يقوم به المكلّف نفسه، بل يجوز أن يقوم به غيره نيابة عنه.

ههنا لا شك ّ أنّ هذا الأمر سيشغل بال هذا الطالب واهتمامه، لأنّه أوجبُ عليه حتي من تحصيل العلم بل من كلّ العبادات، لتزاحم الأمر بين ما يخشي عدم دركه؛ لفواته، وبين ما يمكن دركه؛ لعدم فواته. لذا يكون الواجب المطلوب منه تحقيق الأمر وإيصال الدواء المعيّن إلي أبيه علي أيّ نحو كان، حتي لو استأجر شخصاً أو التمس من صديق أن ينوب عنه بذلك، ولا يشترط أن يقوم الطالب بالبحث عن الدواء وحمله إلي أبيه بنفسه إلا إذا انحصر الطريق به، فحينها يقوم به.

في مثل هذه الحالة إذا كان الفرد حائراً لا يجد من يكلّفه للقيام بهذه المهمّة، فهو من جهة يشعر بأن ما عرض له هو أمر لابدّ من استجابته، لأنّه واجب عليه شرعاً وعرفاً وعقلاً وعاطفة، ومن جهة

أخري يري أنّه إن قام بالواجب بنفسه فسوف يتأخّر عن دراسته ربما لمدّة عام كامل. وبينما هو مهتمّ ومنشغل في هذا الأمر وخوف فواته، ومتأثّر لأنّه سيتأخّر عن دراسته فيما لو استجاب له بنفسه، يتّجه حينها إلي الله تعالي فيقول: إلهي أنت أدري بنيّتي وبحالي فاكفني هذا الأمر الذي يشغلني الاهتمام به عن أمر هو الآخر محبوب لديك، وهو تلقّي العلم الذي طويت لأجله كلّ هذه المسافات، فقيّض لي من يكفني أمر استحصال الدواء وإيصاله حتي لا أنشغل بسببه عن دراستي.

ويتّفق في الأثناء أن يحصّل الدواء وأن يلاقي شخصاً من أبناء منطقته يروم السفر إليها فيوافق علي إيصال الدواء، والأمر في كلا الحالين متعلّق بإرادة الله تعالي، ولذلك ينبغي للإنسان المؤمن أن يتوجّه بالدعاء إلي الله تعالي في هذه الحالات، وما أكثرها في الحياة وفي مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها، وعلي مستوي الفرد والجماعة، فإنّ الإنسان في الغالب مبتلي طيلة حياته بطريقين بينهما تزاحم، وكلاهما مهمّان، أحدهما يكون علي النحو الأوّل، أي الذي لابدّ للانسان أن يقوم بأدائه بنفسه كالدراسة وطلب العلم فهل يمكن أن تنيب شخصاً في الدراسة عنك ثمّ تصير عالماً؟ لا يمكن هذا بالطبع والآخر علي النحو الثاني الذي يمكن إيعازه إلي شخص آخر يقوم به بالوكالة و النيابة.

وبما أنّ الله تعالي مسبّب الأسباب، لذا يطلب منه الإمام سلام الله عليه أن يكفيه الأمر الذي يشغله بأيّ نحو شاء، حتي يتفرّغ للأمور الضرورية التي لابد من قيامه بذاته لأدائها، ولا ينشغل عنها بالأمور التي يمكن لغيره أن يقوم بها نيابة عنه أو أصالة، فضلاً عن الأمور التي لم يُخلق من أجلها ولا يُسأل عنها يوم القيامة.

فبعد أن طلب الإمام من الله

تعالي أن يكفيه ما يشغله الاهتمام به، توجّه إليه بالسؤال مباشرة أن يعينه لكي يصرف الوقت الذي حصل له بسبب ذلك في الأمور التي سيُسأل عنها يوم القيامة.

وإذا ما عرفنا أنّ الدعاء وحده لا يكفي بل لابد للإنسان من السعي نحو ما يدعو ويسأله من الله؛ لقوله تعالي: ?وَأنْ لَيْسَ للإنْسَانِ إلاّ مَا سَعَي?، كما أنّ السعي من دون الدعاء لا ينفع؛ لقوله عزّوجل: ?قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ?، إذا عرفنا ذلك تبيّن لنا أنّ علينا التفكير والسعي إلي جانب الدعاء دائماً لأن نصرف أعمارنا في ما خلقنا الله تعالي من أجله وما هو سائلنا غداً عنه.

العمل للآخرة

العمل للآخرة

يقول الإمام صلوات الله وسلامه عليه بعد ذلك: واستعملني بما تسألني غداً عنه. أي: وفّقني لأن أتفرّغ للأعمال التي ستسألني عنها غداً. ويبدأ الغد عند كلّ إنسان من ساعة موته ويستمرّ حتي الآخرة والدار التي يقول الله تعالي عنها: ?هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ?.

فلا بدّ أن تحضر جواباً حين يسألك الله سبحانه وتعالي في اليوم الآخر، ومعلوم ما هي تلك المسائل التي يجب أن تعني بها والتي ستُسأل عنها غداً. فلن تُسأل: لماذا لم تأكل الأطيب أو تلبس الأنعم أو تركب الأسرع أو تختار ما هو أغلي للعيش وأجمل؟ إني لم أر في الأدلّة الشرعية أنّا سنُسأل يوم القيامة أسئلة من هذا القبيل.

روي عن الإمام الرضا سلام الله عليه أنّه قال: لو وجدتُ شابّاً من شبّان الشيعة لا يتفقّه في دينه لضربته. وكلمة الفقه في تعابير أهل البيت سلام الله عليهم يراد بها معني أوسع وأشمل من المعني الاصطلاحي للفقه، لأنّه في الاصطلاح الأخير هو العلم الذي يعني بالأحكام العملية كالعبادات والمعاملات ونحوها أمّا في المصطلح الروائي فيقصد

به تعلّم كافّة مسائل الإسلام الذي تمثّل الأحكام العملية جزءاً منه.

كما أنّ قول الإمام (لضربته) تعبير مجازيّ، وإلا فلم يعهد أنّ أحداً من الأئمّة سلام الله عليهم ضرب أحداً لذلك، وإنّما استخدم الإمام سلام الله عليه هذا التعبير لبيان أهميّة هذا الأمر وأنّه مما يُسأل عنه العبد يوم القيامة.

سيرة النبي مما يُسأل العبد عنه يوم القيامة

ومن جملة ما يسأل عنه العبد المسلم يوم القيامة سيرة الرسول الكريم صلي الله عليه وآله ومدي الاقتداء به والعمل وفق ما أرشد إليه القرآن الكريم؛ قال الله تعالي: ?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ?.

بل من الواجبات علي كلّ مسلم أيضاً الدفاع عن سيرة رسول الله صلي الله عليه وآله إزاء الذين يكذبون عليه صلي الله عليه وآله. فما أكثر المتطاولين علي قداسته صلي الله عليه وآله من الذين يفترون الأكاذيب بحقّه، سواء كانوا من غير المسلمين أم من الذين يزعمون أنّهم مسلمون.

إنّ الاقتداء بسنّة رسول الله صلي الله عليه وآله بعد معرفة سيرته هي من أهم ما نُسأل عنها يوم القيامة؛ لأنّ الله تعالي يقول: ?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ? فكيف يتسنّي للمرء أن يقتدي ويتأسّي بالرسول صلي الله عليه وآله وهو لا يعرف سيرته وسنّته في كيفية تعامله مع أصحابه أو مواجهة أعدائه، وكيف كان يتصرّف مع المنافقين، وكيف كان مع أسرته؟ وهكذا في سائر المعاملات، فضلاً عن علاقته مع الله تعالي في عبادته؟ وهكذا في طريقة أكله وشربه ونومه ويقظته وصلاته وصيامه، وجميع فعاله وخصاله.

لاشكّ أنّ ما وصلنا من تاريخ النبي صلي الله عليه وآله وسيرته قليل جدّاً، بل لعلّي أستطيع القول إنّه لو جمعتم كلّ ما في كتب التاريخ والسير والآثار وغيرها لما حصلتم علي معشار سيرة

رسول الله صلي الله عليه وآله. لكن مع ذلك ينبغي لنا أن نصمّم علي الاقتداء به صلي الله عليه وآله في كلّ ما وصلنا مهما قلّ قياساً بما لم يصلنا.

• لقد كان رسول الله صلي الله عليه وآله قمّة في الأخلاق حتي أنّ الله تعالي مدحه في قوله عزّ وجلّ: ?وَإنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيم?.

• رغم أنّ القرآن الكريم قد صرّح في مورد واحد قد يكون استثنائياً بخيار ضرب المرأة، إلا أنّه لم يُسمع أنّ النبي صلي الله عليه وآله قد صدر منه هذا الفعل بحقّ أيّ من زوجاته التسع، مع أنّه كانت فيهن من هي من خيرة نساء العالمين كخديجة سلام الله عليها، وكان منهنّ المتوسطات في الفضل، وكان فيهن من تظاهرت عليه، علي ما صرّح به القرآن الكريم في آيات عديدة، منها قوله تعالي: ?وَإنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ? أي تشدّ إحداكما ظهرها بالثانية فتتآزران ضدّه صلّي الله عليه وآله، ?فَإنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ?. ومع كلّ ذلك لم يُنقل أنّ رسول الله صلّي الله عليه وآله استعمل الضرب مع أيّ من زوجاته ولا مرّة واحدة.

• ثَمّ كتاب لكاتب مسيحي طالعته قبل أكثر من عشرين سنة، أرّخ فيه لأعظم مئة شخصية في التاريخ علي زعمه. وذكر في المقدّمة أنّه رتّب الشخصيات حسب الأهمية، فالشخصية الأولي في كتابه هي أعظم الشخصيات في نظره علي الإطلاق. ولكن الملفت للانتباه أنّه أورد اسم السيّد المسيح بعد نبيّنا صلي الله عليه وآله! وعندما سئل عن السبب مع كونه رجلاً مسيحياً، قال: أنا لم أرتّب التسلسل حسب عقيدتي بل حسب أهميّة الأشخاص ونجاحهم، وإنّي أري أنّ محمداً أعظم من السيّد المسيح عليه السلام لأنّ محمّداً

صلي الله عليه وآله استطاع أن يبثّ في أتباعه روحاً امتدّت عبر القرون المتعاقبة، وكلّما ضعف الإسلام في الدنيا كان هناك أشخاص من أتباعه ممن اتّصلوا بتلك الروح العظيمة يقومون بتجديد الإسلام.

ولعلّ هذا يتطابق مع ما ورد في الأحاديث النبوية كما في قوله صلّي الله عليه وآله: يَحْملُ هَذَا الدِّينَ في كُلِّ قَرْن عُدُولٌ يَنْفُون عَنْهُ تَأويلَ الْمُبْطلينَ وتحْريفَ الْغَالينَ وانْتحَالَ الْجَاهلينَ كَمَا يَنْفي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَديد.

إذاً ينبغي أن يتجسّد فينا معني التأسّي الحقّ برسول الله صلي الله عليه وآله. والاجدر للمتأسّي برسول الله أن يتصرّف كما لو كان بين يدي رسول الله صلي الله عليه وآله يشهده ويراه، لا كما يحلو له وما تملي عليه شهواته أو كما توجّهه بيئته فيميل يميناً ويساراً، ولا أن يبتدع سلوكاً من عنده، بل عليه أن يطبّق سنّة رسول الله صلي الله عليه وآله بحذافيرها.

روي أنَّ جَمَاعَةً منَ الصَّحَابَة كَانُوا قَد حَرَّمُوا عَلَي أَنْفُسِهِمُ النِّسَاءَ والإفطَارَ بالنَّهَار والنَّوْمَ باللَّيْلِ. فَأَخْبَرَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ اللَّه صلّي الله عليه وآله، فَخَرَجَ إلي أَصْحَابه فَقَال: أ تَرْغَبُونَ عَنِ النّسَاء؟ إنّي آتِي النّسَاءَ وآكُلُ بِالنَّهَارِ وأَنَامُ باللَّيْلِ. فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ منّي.

لو عُرضت سيرة النبيّ صلي الله عليه وآله علي العالم بنحو موضوعي جادّ، لأقبل عليها الملايين، لأنّ الناس في الغالب غير معاندين. وأكثر المعاندين لم يكونوا كذلك إلا علي أثر غسل الدماغ الذي تعرّضوا له بسبب الكمّ الهائل من المواضيع المختلفة المدسوسة؛ ومسؤوليتنا تفرض علينا المساعدة في تطهير هذه الأدمغة من تلك الرواسب العالقة بها.

نقل لي أحد الأصدقاء قال: وجّه شخص عبر الشبكة المعلوماتية (الإنترنت) نقداً لاذعاً لبند من بنود الإسلام، وترك عنوان بريده (الإلكتروني) للردّ عليه، وكان نقده مصحوباً

بالسبّ والشتائم، فانبري له أحد المؤمنين في الردّ عليه ردّاً علمياً موضوعياً خالياً من التجريح ومستنداً إلي المصادر. يقول راوي القصة: فكتب الأول في اليوم الثاني جواباً يبيّن فيه أنّه يعتذر عما بدر منه في هذا المجال لأنّه كان قد تشوّش فكره بسبب تلك الإثارات الفاسدة، وأنه لم يكن يعرف الموضوع حقّ معرفته!

فما أكثر أمثال هؤلاء وما أعظم مسؤوليتنا في هذا المجال!

لقد أسّس السيّد البروجردي رحمه الله مركزاً إسلامياً في هامبورغ في ألمانيا، وبعث مبلّغاً دينياً هناك. فطُلب من هذا المبلّغ أن يعطيهم صورة للسيد البروجردي لعرضها من خلال التلفزيون. ففكر المبلّغ أيّ صورة ستكون مؤثّرة أكثر لو عرضت، وانتهي تفكيره إلي أن يعطيهم صورة السيّد وهو يتوضّأ؛ لما تعكس من خشوع السيّد حال تهيّئه للقاء الله تعالي في الصلاة.

يقول هذا المبلّغ: ما إن عرض هذا الفيلم الذي يصوّر وضوء السيّد البروجردي حتي أثار في نفوس المشاهدين روح الحبّ والولاء، فأسلم في اليوم نفسه عددٌ من النصاري ممن شاهدوا الفيلم.

فإذا كان هذا تأثير مشاهدة صورة وضوء السيّد البروجردي وهو بمثابة أصغر تلميذ للنبيّ الأكرم صلّي الله عليه وآله فكيف بالتأثير الذي تتركه سيرة النبي صلّي الله عليه وآله فيما لو عرضت بصدقٍ علي الناس؟!

فلنتزوّد بمعرفة السيرة الصحيحة لنبيّ الإسلام بمقدار ما أوتينا من طاقة وإمكانات، ولنسعَ لإفهام الآخرين وتنويرهم بها؛ فإنّه لو عرضت السيرة الصحيحة لنبيّ الإسلام علي العالم لغيّرت التاريخ برمّته. وما أسرع تغيّر العالم في هذا الزمان!

نسأل الله تعالي أن يستعملنا بما يسألنا غداً عنه، وأن يوفّقنا للمزيد من معرفة سيرة النبي صلي الله عليه وآله والتأسّي به.

التفرّغ لعبادة الله تعالي

التفرّغ لعبادة الله تعالي

قال الإمام سلام الله عليه بعد ذلك: واستفرغ أيّامي فيما خلقتني له.

الاستفراغ علي وزن استفعال،

والأصل في هذا الباب الطلب أو ما يقع نتيجة الطلب، ولكن تقدم أنّه قد يستعمل بمعني الثلاثيّ المجرّد، وقد ورد كثيراً هذا النحو من الاستعمال في القرآن الكريم أيضاً، ويكون معناه يا إلهي أنت تولّ هذا الأمر واكفنيه.

والاستفراغ مشتقّ من الإفراغ، فكأنّ الإمام سلام الله عليه يقول: اللهم اجعل أيّامي فارغة من كلّ أمور الدنيا لملئها بما خلقتني له. وهذا تعبير مجازيّ. فالإمام سلام الله عليه يشبّه الأيّام بالإناء الذي تفرّغه من محتوياته من أجل أن تملأه بما تحبّ.

وهذه الجملة ليست تكراراً للجملة السابقة، أي قوله سلام الله عليه: واستعملني بما تسألني غداً عنه؛ وذلك للأمور التالية:

1. اختلاف الظهور بين الجملتين.

2. ظهور واو العطف في الاثنينيّة؛ توضيحه: إذا قيل: جاء زيد وأبو عمرو، فالمتبادر أنّ شخصين جاءا أحدهما زيد والآخر أبو

عمرو، فهذا هو الاستعمال الحقيقي للواو، ولا يقال إنّ الجائي واحد إسمه زيد وكنيته أبو عمرو إلا أن يكون مجازاً وليس استعمالاً حقيقياً. وهنا أيضاً طلبان عطف الإمام فيهما الثاني علي الأوّل بالواو، فقال سلام الله عليه أوّلاً: استعملني بما تسألني غداً عنه، ثمّ عطف الطلب الثاني فقال: واستفرغ أيّامي فيما خلقتني له. وإذا كان واو العطف يفيد الاثنينيّة، أي له ظهور فيها، فالظاهر أنّ الإمام سلام الله عليه أراد هنا أمرين، فلا تكرار في البين.

3. إنّ السؤال لا يكون إلا عن الواجبات والمحرّمات، أمّا فيما عداهما فقد يكون هناك إستفسار، هذا أوّلاً، وثانياً: قوله سلام الله عليه فيما خلقتني له، أعمّ من الواجبات والمحرّمات، فيكون معني هذه الجملة كالتالي: (يا إلهي أنت خلقتني في هذه الدنيا لهدف ما، فأفرغ أيّامي له)، فيما يكون معني الجملة السابقة: (ياإلهي إنّك ستسألني يوم القيامة عن أمور، فاجعلني

في هذه الدنيا عاملاً لها ملتزماً بها).

الهدف من الخلق

إذا كان الإمام سلام الله عليه يعلّمنا أن نسأل الله تعالي أن يفرّغ أيّامنا فيما خلقنا له، فما هو الهدف الذي خلقنا الله من أجله؟

يقول الله تعالي في محكم كتابه: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ?؛ إذن الهدف من خلقنا هو عبادة الله تعالي. وعبادة الله تعالي تتحقّق من خلال الامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه. ومن المعروف لدي الفقهاء أنّ الأوامر الإلهية منها ما هو واجب الامتثال علي العبد، ويعاقب تاركه، ومنها ما هو مستحبّ، أي ندب إليه الشرع، فهو مرغوب شرعاً ولكن لا يعاقب الشارع علي تركه. وهكذا النواهي الشرعية فمنها ما يجب علي المكلَّف اجتنابها ويعاقب إن ارتكبها، وهي التي تسمّي المحرّمات، ومنها ما لا يعاقب الشرع من أتي بها وإن كانت غير مرغوبة لديه وهي التي يصطلح عليها بالمكروهات.

ومن الواجبات الشرعية الأمر بالمعروف، أي الأمر بما رغب الشرع فيه، والنهي عن المنكر، وهو ما أنكره الشرع. وهذان الواجبان من الواجبات المهمّة والعظيمة في الإسلام، ولا خلاف في أصل وجوبهما.

ولكن وقع بحث بين الفقهاء مفاده: هل المقصود بالأمر بالمعروف هو الأمر بالواجب من المعروف فقط دون المستحبّ منه؟ وهكذا النهي عن المنكر بحيث لا يجب النهي عن المنكر المكروه أيضاً، ويقتصر الوجوب علي النهي عن المنكر الحرام؟

شكّك بعض الفقهاء في إطلاق المسألة، وقالوا: إذا كان الأمر بالمستحبّ والنهي عن المكروه من باب حثّ الفرد وترغيبه في أداء العمل المستحبّ وثنيه عن العمل المكروه فقط فهما مستحبّان لاشكّ في ذلك، أمّا إذا كانا الأمر والنهي من باب بيان حكم من أحكام الله تعالي، فقد يدخلان في الوجوب.

فمثلاً: اذا كان شخص عالماً باستحباب صلاة الغفيلة أو صلاة الليل،

ولا يؤدّيهما تثاقلاً، فأمره بهما مستحبّ كما هو واضح، وهكذا نهي من كان عالماً بكراهية فعل من الأفعال، ولكن قد يجب الأمر والنهي برأي بعض الفقهاء إذا كان الآمر بالمستحبّ أو الناهي عن المكروه في موقع بيان أحكام الله تعالي وتعريفها للذين يجهلونها.

ولأصحاب هذا الرأي أدلّتهم في هذا المجال وليس هنا محلّ بحثها، ولكني ذكرتها استطراداً في بيان أنّ الهدف من خلقنا هو عبادة الله تعالي، وهذا أعمّ من أن تكون هذه العبادة امتثالاً لواجب أو مستحبّ أو انتهاء عن حرام أو مكروه، لاشتمالها علي كلّ ما أمر الله أن يؤتي به سواء كان أمراً بواجب أم مستحبّ، أو كان نهياً عن محرّم أم مكروه.

ولذلك عقّب الإمام عليه السلام بقوله: واستفرغ أيّامي فيما خلقتني له.

أفضل العبادة

روي البزنطي أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال: أفضل العبادة إدمان التفكّر في الله وفي قدرته.

لاشكّ أنّ المقصود في الرواية بالتفكّر في الله تعالي هو التفكّر في قدرته عزّ وجلّ، فإنّ التفكّر في ذاته فضلاً عن النهي عنه شرعاً لا يوصل إلي نتيجة ولا يزيد صاحبه إلا ضلالاً، وذلك لأنّ المحاط به لا يمكن أن يحيط بمحيطه كما هو الحال في المسائل المادّية، ويمكن تقريب الأمر إلي الذهن بمثال الإناء، فهل يمكن لمحتواه أن يحيط بمحيطه الخارجي؟!

إذاً المقصود بالتفكّر في الله تعالي هو التفكّر في صفاته الثبوتية والسلبية، بمعني التفكّر في عظمته تعالي.

وهذه الرواية تنسجم مع الروايات الكثيرة التي تقول: لَيسَ الْعبادةُ كَثْرةَ الصِّيام والصَّلاة وإنَّمَا الْعبادةُ الْفكْرُ في اللَّه تَعالي.

ثمّ إنّ الرواية المتقدّمة في كون «الإدمان علي التفكّر أفضل العبادة» ناظرة الي العبادات المستحبّة إذا حصل بينها تزاحم، ولا تصل النوبة الي العبادات الواجبة ومنها الصلاة المفروضة بحال. نعم

اذا حصل تزاحم بين أداء صلاة مستحبّة والتفكّر في الله فالتفكّر مقدّم لأنّه أفضل العبادات المستحبّة.

علي أنّ التفكّر لا يشترط فيه وقت كثير بل هو بحاجة إلي تركيز وتدبّر، فإذا كثر التدبّر والتركيز حصلت عند الإنسان ملكة تجعله يشعر بحضور الله تعالي دوماً، ولذلك روي أنّ أشدّ العبادة الورع.

بناء النفس والتفكّر في الله عزّ وجل

الإنسان ضعيف ولكنّه لا يشعر بضعفه فيتكبّر ويتهاون بأحكام الله تعالي، فقد يترك ما أمر الله تعالي به أو يأتي بما نهي عنه سبحانه، ولكنّه إذا أدمن التفكّر في جبروت الله وقدرته، استحضر حينها ضعف نفسه، وفي هذا مقدّمة لأن يسعي المرء في سبيل أداء التكاليف الإلهية.

وعلي قدر معرفة الانسان بالله تعالي وقدرته يكون اهتمامه بأحكام الله، فالذي لا يبالي بالقيام لأداء فريضة الصبح مثلاً، غير متفكّر في الله تعالي وقدرته، وإلاّ لشعر بحضوره ورقابته ولما استهان بأحكامه، وإلا فهل يعقل أن يشعر العبد بحضور مولاه ثمّ لا يكترث بما أراده منه؟!

إنّ التفكر في الله عزّ وجلّ يؤدّي إلي تعزيز الشعور بحضوره تعالي لدي العبد، الأمر الذي يؤدّي بدوره إلي تغيّر سلوك الانسان وحالته، فيكون الأمر كما لو وُجّه إلي إنسان عاديّ سؤال في مجال معيّن- ولنفرض الفقه أو الطبّ وكان قد حضر في المجلس رجل متخصّص في ذلك المجال، فقد يجيب الشخص علي السؤال بسرعة إذا لم يكن يعرف من الحاضر في المجلس، ولكنه ما إن يعرف الحاضر المتخصص حتي يظهر ذلك علي سلوكه فيحاول أن لا يجيب لأنّه لا يري نفسه أهلاً للإجابة علي ذلك السؤال مع علمه بحضور من هو أعلي مرتبة منه، أو يدقّق كثيراً قبل أن يجيب، ملاحظة لذلك الإنسان المتخصّص. الحالة نفسها تصدق علي انضباط الانسان إذا شعر بحضور الله

تعالي، وهذا الشعور لا يتأتّي إلا بعد الإدمان علي التفكّر في قدرة الله سبحانه وتعالي.

إذا كان الفرد يشعر بأن الله تعالي موجود قيّوم حاضر عنده علي الدوام، فإنّه لا شك سيغيّر وضعه ويدقّق في أفعاله وأقواله ويتورّع قبل الاسترسال فيها لئلاّ يصدر عنه ما يخالف أوامر الله وهو الرقيب عليه.

أمثلة من الواقع

• نقل لي أحد الخطباء: كنت ذات يوم علي المنبر وقد هيّأت نفسي للمحاضرة، وعندما شرعت بقراءة المقدّمة إذ دخل أستاذي الي المجلس، فاختلّ حينها عرضي للموضوع الذي أعددته، بسبب تهيّبي من حضور الأستاذ!

• وكان السيّد الوالد رحمه الله يحضر مجلساً لأحد الخطباء، فجاءه في أحد الأيّام وكنت حاضراً عنده وقال له: سيّدنا أنا أتشرّف بحضورك مجلسي، ولكن أري من الأفضل أن يتزامن وقت حضوركم مع نهاية المجلس حيث أكون قد دخلت في فصل قراءة التعزية!

لاشكّ أنّ الخطيب يُسرّ إذا حضر مرجع التقليد مجلسه، ولكنّه في الوقت نفسه يشعر بالتقيّد أيضاً، لأنّه قد يريد أن ينقل حديثاً أو يفسّر آية، أو يشرح مسألة فقهية أو يفصّل قضية عقائدية، فيشعر بالحرج والإرباك مخافة أن لا يكون كلامه مستدلاًّ بنحو صحيح.

النعم المادّية وسيلة اختبار ومقدّمات وجود

في الوقت الذي تعدّ فيه النعم الماديّة وسيلة لاختبار الإنسان ليُعرف أمفْرِط هو أم مفرّط، كذلك هي مقدّمات لابدّ من وجودها لكي يستطيع الانسان العيش في هذه الدنيا وأداء وظائفه الموكلة إليه، فيعبد الله عزّوجلّ ويتعلّم أحكامه ويعلّمها الناس، فيدرس ويدرّس ويعظ الناس ويؤلّف الكتب ويرتقي المنبر و … الخ

إنّ الله سبحانه وتعالي لم يخلق الانسان في هذه الدنيا من أجل الأكل والشرب وسائر اللذات الدنيوية، وإنّما خلقه تعالي من أجل اختباره بها وجعلها مقدّمات وجودية لأجل أن تمكّنه من أداء الأمور الأخري التي خلقه الله تعالي لها، لكن الشيطان يحاول دائماً أن يوقع الانسان في الإفراط أو التفريط ليفشله في الاختبار الإلهي بواسطة عرقلته عن الاستفادة منها كمقدّمات وجوديّة للعبادة، أي لا يستفيد منها بالنحو الصحيح، فيرتكب من خلالها المعاصي ويترك الطاعات.

فلننتبه جيّداً ولنحذر وساوس الشيطان ومكائده، ونتعامل مع هذه النعم علي أنّها مقدّمات لإيصالنا

إلي النعم الأخروية الخالدة التي خلقها الله لعباده المؤمنين، ولنراعِ الدقّة في قضايانا، وهذا معني ما نُقل عن الإمام الصادق سلام الله عليه أنّه قال لأصحابه: فالطفوا في حاجتي كما تلطفون في حوائجكم.

فكما أنّ أحدنا يلطف في سبيل قضاء حوائجه الدنيوية، فيفكّر في أفضل طريق ويسعي في رفع الموانع والعوائق، ويترك أعماله وأشغاله ويتحمّل أنواع المشاكل والمشاقّ في سبيل ذلك، فلنكن كذلك في الاستجابة لإمامنا التي عبّر عنها بحوائجي، والتي هي حوائجنا الأخروية.

وَأغْنِني وَأوْسِعْ عَلَيَّ في رِزْقِكَ، وَلا تَفتنّي بِالنَّظَرِ

وَأعِزَّني وَلا تَبْتَلِِيَنّي بِالْكِِبَرِ، وَعَبِّدْني لَكَ وَلا تُفْسِدْ عِبَادَتي بِالْعُجْبِ، وَأجْرِِ لِلنَّاسِ عَلَي يَدِيَ الخَيرَ وَلا تَمْحَقْهُ بِالمَنِّ، وَهَبْ لي مَعَاليَ الأخْلاَق وَاعْصِمْني مِنَ الفَخْرِ.

? الغنِي وسعة الرزق

? العزّة وعدم الابتلاء بالكبر

? العبادة وآفة العجب

? إجراء الخير بلا منّ

? معالي الأخلاق والعصمة من الفخر

الغني وسِعةُ الرزق

الغني وسِعةُ الرزق

وأغنني وأوسع عليّ في رزقك.

الغني ويقابله الفقر، قد استعملا غالباً علي لسان الأدعية والروايات لما هو الأصل فيهما، وهو غني النفس وفقرها؛ فغني النفس أصل كلّ غني وسببه، ومبعث غني كلّ حواسّ الإنسان ومعقولاته، ولا خير في غني البدن إذا لم يصاحبه غني النفس.

أمّا السعة في الرزق فهو جزئيّ أو مصداق من مصاديق الغني. ومن ثمّ فإنّ قول الإمام سلام الله عليه أوسع عليّ في رزقك في المقام هو من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ، لأنّ الغني أعمّ وأوسع.

أمّا احتمال أن يكون قوله «وأوسع عليّ» عطفاً تفسيرياً علي وأغنني، وإن صحّ في موارد أخري فإنّه قد لا يصحّ هنا كما يبدو؛ لبعده عن مقام البلاغة والأدب الرفيع لأهل البيت سلام الله عليهم؛ لأنّ الظاهر أنّ السؤال الأوّل للإمام هو في غني النفس، أمّا سؤاله الثاني فهو في سعة الرزق خاصّة. والإمام وإن

كان في مقام الدعاء، لكن من حيث إنّه إمام فهو في مقام تعليمنا أيضاً، فهو يعلّمنا أن نطلب من الله تعالي غني النفس والسعة في الرزق معاً؛ لما سيأتي أنّ الفقر ليس مطلوباً أو ممدوحاً لنفسه بل علي الإنسان أن يسعي لدفعه عن نفسه ما أمكنه ذلك، أمّا إذا كان مقدّراً له من الله عُدّ حينها أمراً محبوباً، وفي ذلك وردت الروايات التي تمدح الفقر؛ فقد روي عن رسول الله صلي الله عليه وآله أنّه قال: الفقر فقران: فقر الدنيا وفقر الآخرة، فقر الدنيا غني الآخرة، وغني الدنيا فقر الآخرة، وذاك الهلاك. وإذا كان الأمر كذلك فلا يهمّ المرء سواء كان مرزوقاً في ماله أم فقيراً ما دامت نفسه غنيّة، فهو في الحالين في معرض الامتحان والابتلاء، وكلا الامتحانين صعب سواء كان في الغني أو الفقر.

هذا مضافاً إلي أنّ كلمة الرزق استعملت هي الأخري في الروايات للأعمّ من المال.

الغني والفقر درجات

الغني والفقر موضوعان مشكّكان بحسب الإصطلاح المنطقي أي لكلّ منهما مراتب مختلفة تبدأ بالضعيفة ثمّ تزداد وصولاً إلي أعلي المراتب.

عن عبد الله بن مسعود قال: دخلت أنا وخمسة رهط من أصحابنا يوماً علي رسول الله صلي الله عليه وآله وقد أصابتنا مجاعة شديدة ولم يكن رزقنا منذ أربعة أشهر إلا الماء واللبن وورق الشجر؛ فقلنا: يا رسول الله إلي متي نحن علي هذه المجاعة الشديدة؟ فقال صلي الله عليه وآله: لا تزالون فيها ما عشتم فأحدثوا لله شكراً، فإنّي قرأت كتاب الله الذي أنزل عليّ وعلي من كان قبلي فما وجدت من يدخلون الجنّة إلا الصابرون.

فهذه مرتبة شديدة من الفقر بحيث لا يملك الفرد قوت يومه حتي في أدني مستويات المعيشة، وهناك مرتبة أضعف منها بأن

يملك الإنسان قوت يومه ولكن بمستوي دان أو بمقدار لا يكفيه كما أنّ هناك مرتبة من الفقر يكون مستوي الفرد أحسن من سابقيه لكن لا يملك قوت سنته. فهؤلاء الثلاثة يطلق علي كلّهم لفظ الفقير بالاصطلاح الشرعي وإن اختلفت مستوياتهم المعاشية. والشيء نفسه يصدق بالنسبة للغني، لأنّ الفقر والغني متقابلان كما هو واضح.

من هنا نلاحظ أنّ الإمام المعصوم مع أنّه متّصل بالله تعالي وهو مصدر الفيض والعطاء مهما أعطاه الله سبحانه من الغني في النفس فهو يطلب المزيد قائلاً: وأغنني، لأنّ الأمر لا يقف عند حدّ، فهناك مجال للمزيد، وعطاء الله تعالي ليس محدوداً أيضاً.

أجل، إنّ المعصومين سلام الله عليهم هم أكثر المخلوقات قاطبة استفاضةً لفضل الله تعالي في مختلف المجالات والميادين، حتي قرنهم الله تعالي إلي نفسه في إفاضة الفضل علي الخلق أجمعين، فقال تعالي: ?وَقَالُوا حَسبُنَا اللهُ سَيُؤْتينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ? وقال أيضاً: ?وَمَاَ نَقَمُوا إلاّ أنْ أغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ? ومع ذلك، يري الإمام المعصوم أنّه بحاجة إلي عطاء الله تعالي وإلي سؤاله المزيد واستزادته في غني النفس، وإن كان هو بالنسبة إلينا الأغني والأرقي والأعظم والأعلي والأكبر والأقدر، وذلك كلّه قد تمّ لهم صلوات الله عليهم بفضل الله تعالي. فإذا كان هذا حالهم فكيف بسائر الناس؟

نكتة لغوية

من يدقّق في كلمات أهل البيت سلام الله عليهم يكتشف الكثير من الدقائق واللطائف سواء في الأدعية أو في خطبهم ورسائلهم وفي سائر كلماتهم الأخري.

ففي هذا المجال والذي عبّر عنه سلام الله عليه بالرزق، أري من المناسب الإشارة إلي نكتة لغوية لطيفة، تتلخّص بأنّ الإمام لماذا لم يقل: «وسّع عليّ في رزقك» وقال: أوسع عليّ في رزقك؟

وفي الجواب نقول: إنّ من مبادئ علم

الصرف في صيغتي «فعِّل» و «أفعِل» أنّ كليهما يستفاد منه لتعدية الفعل اللازم، ولكن علماء الأدب يقولون: إنّ الصيغتين تختلفان في المعني.

فأصل التوسعة يستفاد من باب الإفعال (أوسع) أمّا باب التفعيل (وسّع)، فيستفاد منه التكثير والزيادة وما أشبه في الغالب.

فالمستفاد من كلمة (وسّع) يعني زيادة التوسعة. أمّا أصل تحقيق السعة إن لم تكن أو كانت ولكن لندرتها الشديدة وكأنّها لم تكن فتفيدها كلمة (أوسع).

إذا اتّضحت هذه المقدمة نفهم لماذا قال الإمام سلام الله عليه: أوسع ولم يقل: وسّع، وهو أنّه سلام الله عليه يطلب الكفاف من الله تعالي في الأمور المادّية، كما هو دأب أهل البيت سلام الله عليهم.

كما روي عن رسول اللهِ صلي الله عليه وآله أنّه قال: إِنَّ مَاقَلَّ وكَفَي خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وأَلْهَي، اللَّهُمَّ ارْزُقْ مُحَمَّداً وآلَ مُحَمَّدٍ الكَفَاف.

أما ما ورد في أدعية أُخري من السؤال بصيغة (وسّع)، فقد يشير إلي أنّ المعصوم سلام الله عليه كان يطلب السعة في الرزق لأجل أن يستفيد منه لخدمة الدين وسائر الأمور الخيرية، كصلة الرحم ومساعدة الفقراء وما أشبه.

إنّ هناك موارد يدعو فيها الإمام المعصوم ويكون في مقام الدعاء من قبل نفسه فقط، وهناك موارد يكون الإمام بصدد تعليمنا وإرشادنا أيضاً من قبيل تعليم الأئمة سلام الله عليهم المباشر لبعض أصحابهم، كقولهم سلام الله عليهم مثلاً: (قل بعد كلّ فريضة) وما أشبه، كما هو الحال في بعض الزيارات. فثمّة زيارات أدّاها الإمام المعصوم للإمام الذي سبقه كزيارة الإمام السجّاد لأبيه الإمام الحسين سلام الله عليهما أو زيارة الإمام الصادق لجدّه الإمام أميرالمؤمنين أو الإمام الحسين سلام الله عليهم، وهناك زيارات علّموها بعض أصحابهم، فنقرأ في رواية أنّ الإمام سلام الله عليه قال لأحدهم: زر بهذه

الزيارة، وأمثال ذلك.

نكتتان بلاغيّتان

هناك نكتتان بلاغيتان في قول الإمام، الأوّل قوله: وأوسع عليّ، فإنّ حرف الجرّ «علي» يستعمل للضرر إلا لنكتة بلاغية، فكأنّ الإمام أشربه وضمّنه معني الفوقية. فهو يصوّر نزول الرزق من الله تعالي وانصبابه علي الإنسان وإحاطته به، كالرحمة التي مُثِّل لها بالمطر النازل من السماء حين يغمر الانسان الذي يقف تحته، وحيث إنّ سعة الرزق صادرة من الله تعالي فقد ضُمّنت وأشربت معني الفوقية، ولذلك قال الإمام سلام الله عليه: وأوسع عليّ.

أمّا النكتة الأخري فهي: لِم استعمل الإمام حرف الجر «في» فقال: وأوسع علي في رزقك ولم يقل: من رزقك، كما في أدعية أُخري؟

الجواب: حرف الجر (مِن) إمّا تبعيضية أو بيانية. فلو رفعنا «في» ووضعنا «مِن» مكانها، فإمّا أن يكون المعني «أوسع عليّ بعض رزقك» أو «أوسع عليّ رزقك» لأنّ وجود (من) في الحالة الثانية يكون وجوداً لمحيّاً أو لجمال التعبير، أمّا من حيث المعني فوجوده وعدمه سواء.

أمّا مع وجود (في) فكأنّ الرزق جُعل ظرفاً ووعاء يعيش فيه الإنسان، والإمام سلام الله عليه يطلب من الله تعالي أن يوسّعه عليه، فلو كان متراً مربّعاً مثلاً يجعله مترين، ولو كان ثلاثة يجعله عشرين وهكذا. وهذا أبلغ مما لو قال: «من رزقك».

وهكذا يتبيّن لنا أنّ الأئمة سلام الله عليهم مع أنّهم كانوا منصرفين كُلّ الانصراف إلي الله سبحانه وتعالي، خاصّة عند مناجاتهم معه، نراهم في الوقت نفسه لا تفوتهم هذه الدقائق البلاغية، دون أن تصرفهم عن توجّههم إلي الله عزّ وجلّ. وكيف لا يكونون كذلك وهُم أمراء الكلام وأرباب البلاغة، كما أنّ شعورهم بحضور الله تعالي لا يختلف ولا يتخلّف، إلا أنّنا بحاجة إلي تأمّل وتفكّر من أجل الالتفات إلي هذه الدقائق والتدبّر في

مضامينها.

دواعي الفقر

تطالعنا روايات كثيرة تمدح الفقر وأُخري تذمّه، وإن كان هذا يبدو تناقضاً أو تعارضاً للوهلة الأولي، إلا أنّه بلاشكّ لا تناقض ولا تعارض في البين لأنّ الموارد تختلف.

فهناك كثير من الآيات والروايات التي تحثّ وتندب وأحياناً توجب وتفرض علي الإنسان السعي والعمل من أجل الحصول علي الرزق، وأن يعمل الناس ليكسبوا أرزاقهم، كلّ حسب سعته ومقدرته، الأمر الذي يكشف أنّ الفقر في أصله مذموم، لأنّ السعي والعمل يوجبان تحديد الفقر أو طرده.

أمّا إذا بذل الفرد كلّ ما بوسعه ولكنّه مع ذلك لم يغنَ، إمّا لضعف مواهبه وإمكاناته أو لأمور أُخري مقدّرة أبقته فقيراً، فهذا الفقر ليس مذموماً البتّة، وهو مورد الروايات التي يُفهم منها المدح.

أمّا إذا قصّر الفرد في السعي ولم يخرج إلي العمل وبقي فقيراً لذلك، فهذا هو الفقر المذموم، الذي قيل عنه أنّه: سوادٌ في الدارين، ولهذا قال رسول الله صلي الله عليه وآله: ملعون من ألقي كَلّه علي الناس. وهناك رواية أُخري فيها توكيد: ملعون ملعون من ألقي كَلّه …

نُقل أنّ أحد العلماء مرّ بفقير مفترشٍ الأرض يستعطي الناس، فقال له: مدّ يدك لأعطيك مقداراً من المال، فمدّ الشخص يده واستلم المال. فقال له العالِم: مدّ يدك الأخري واستلم مقداراً آخر، ومدّ الشخص يده الأخري واستلم المال. ثمّ قال له العالِم: هناك مقدار آخر، مُدّ إحدي رجليك لأناوله لك. وهكذا فعل المستعطي. ومرة أُخري طلب العالِم منه أن يمدّ رجله الأخري وأعطاه مقداراً آخر. وأخيراً قال له: قم وقف علي قدميك وتقدّم نحوي لأُناولك آخر ما تبقّي من المال. وهكذا كان. وهنا توجّه العالِم إليه وقال له: إذا كانت يدك اليمني سالمة ويدك اليسري كذلك، وهكذا قدماك وبدنك، فلماذا تستعطي إذاً؟

اذهب وكدّ في طلب الرزق!

قال الإمام الباقر سلام الله عليه: سأل موسي عليه السلام ربّه: أيّ عبادك أبغض إليك؟ فقال: جيفة بالليل بطّال بالنهار.

ويمكن أن يكون لهذا الحديث مصاديق متعدّدة المراتب فليس الأمر دائراً بين الوجود والعدم فقد يكون من المصاديق من هو كلّ الليل جيفة وكلّ النهار بطّال، فلا تأمّل عنده ولا استغفار ولا تفكّر في الليل، ولا كسب ولا عمل ولا جهاد في النهار، وهذا أبغض المراتب. ومنهم من هو بعض الليل جيفة وبعض النهار بطّال.

إنّ الراحة مطلوبة للإنسان سواء في الليل أو في النهار، كما في الحديث النبويّ الشريف: وإنّ لنفسك عليك حقّاً. وهذه الراحة بالمقدار المطلوب لا تعدّ من البطالة أصلاً بل هي مطلوبة للتقوّي بها علي العمل والعبادة. أمّا ما عدي ذلك فلا ينبغي للإنسان أن يضيِّع حتي دقيقة واحدة من حياته.

عَنْ زُرَارَةَ قَال: إنَّ رَجُلاً أَتَي أَبَا عَبْدِ الله الصادق عليه السلام فَقَال: إنِّي لا أُحْسنُ أَنْ أَعْمَلَ عَمَلاً بيَدي ولا أُحْسنُ أَنْ أَتَّجرَ وأَنَا مُحَارَفٌ مُحْتَاجٌ. فَقَال: اعْمَلْ فَاحْمِلْ عَلي رَأسك (أي اعمل حمّالاً) واسْتَغْنِ عَنِ النَّاسِ.

فالفقير الذي لا يعمل وهو قادر علي العمل هو الذي يقال عن فقره أنّه: (سواد في الدارين) أمّا أولئك الذين لا يتكاسلون ولا يتقاعسون عن الجدّ والاجتهاد والسعي والعمل، وهم مع ذلك فقراء فأولئك المقرّبون عند الله تعالي ويدخلون الجنّة قبل الأغنياء في يوم القيامة.

روي أنّ النبي صلي الله عليه وآله دعا فقال: اللهم إنّي أعوذ بك من الكفر والفقر. فقال رجل: أيعدلان؟ قال صلي الله عليه وآله: نعم.

إذاً الفقر في نفسه مذموم لدرجة أنّ النبي صلي الله عليه وآله يتعوّذ منه ويقرنه بالكفر في دعاء واحد، ومنه يظهر أنّ الفقر قد

يؤدّي إلي الكفر، كما في الحديث النبويّ الشريف: كاد الفقر أن يكون كفراً.

لابدّ من السعي والتوكّل معاً

قد يقال: لماذا قال الإمام سلام الله عليه: «رزقك»، ولم يقل: «رزقي»؟

نقول: الرزق مصدر، والمصدر قد يضاف إلي فاعله وقد يضاف إلي مورده. فإن قلنا «رزقك» فمعناه الرزق النازل منك، أي من الله تعالي، وإن قلنا «رزقي» فمعناه الرزق الواصل إليّ.

وهنا علاقة تضايف، فإذا قلنا «رزقي» فلا بدّ أن يتصوّر مَن صدر عنه الرزق وهو الله تعالي، وإن قلنا «رزقك» فلا بدّ أيضاً من تصوّر من ينزل الرزق إليه، وهو العبد. ولذلك نلاحظ ورود التعبيرين كليهما في الأدعية.

وعندما يرد تعبير (رزقك) فإنّما يراد الإلفات إلي أنّ الله تعالي هو مصدر الرزق وهو الذي بيده كلّ شيء، فيلحّ العبد في الدعاء ويطلب من الله أن يوسّع رزقه إن كان العبد مقتراً، وأمّا عندما يرد لفظ «رزقي» فإنّما يشير إلي الحصّة الخاصّة بالمرزوق، وقد يكون في ذلك لمح إلي وجوب السعي والجدّ والاجتهاد؛ لأنّ طلب الرزق كسائر الأمور لا بدّ له من الركنين معاً: السعي؛ استناداً لقوله تعالي: ?وَأنْ لَيْسَ للانْسَانِ إلاّ مَا سَعَي? والدعاء والتوكّل علي الله؛ لقوله تعالي: ?قُلْ مَايَعْبَأ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ?.

لاشكّ أنّ الدعاء وحده لا يكفي بل لا بدّ من السعي معه، كما أنّ السعي وحده غير مضمون النتائج، فلا بدّ من السعي والدعاء معاً، كما أمر الله تعالي بهما.

أجل، إذا سعي الإنسان في رزقه ولم يكن بطّالاً، حينها سيجعل له الرحمن من أمره يسراً، ما دام في طاعته دون أن يمدّ عينيه إلي ما متّع الله غيره بنعم الحياة الدنيا والمال الوفير، ولا يتحسّر ولا يأسي بل يرضي بما قدّر الله تعالي وكتب له، وإن أبطأ عنه بالإجابة

يذعن ويسلّم؛ لعلم الله تعالي بعواقب الأمور، ممتثلاً لقوله تعالي: ?لِكَيْلا تَأسَوْا عَلَي مَا فَاتَكُمْ?.

وخلاصة القول: إنّ غني النفس هو الأساس، ومن حاز عليه في مراتبه العليا فقد حصل علي كلّ شيء، وانفتح له باب كلّ خير في الدنيا والآخرة، وإن كان هذا الأمر بالغ الصعوبة إلا أنّه ممكن تحقّقه.

العزّة وعدم الابتلاء بالكبر

العزّة وعدم الابتلاء بالكبر

إنّ العزّة والكبر هما من حالات النفس الإنسانية التي تظهر علي جوارح الإنسان في سلوكه. وإظهار الكبر يسمي تكبّراً، كما في اللغة. والكبر والتكبّر مذمومان، أمّا العزّة فمحمودة ويقابلها الذلّ وهو مذموم أيضاً.

والعزيز من أعزّه الله تعالي، ولذلك يقول الإمام سلام الله عليه: «وأعزّني». أي إلهي أطلب العزّة منك.

العزّة والذلّة مسألتان دقيقتان كبقية المسائل النفسية، فما هو ملاكهما؟ هل يُعدّ أخذ المال من الغير مثلاً عزّة أم ذلّة؟ إنّ الملاك لكليهما يكمن في الموضع الذي يضع الإنسان فيه نفسه؛ فإمّا أن يكون مورد عزّة وقد يكون مورد ذلّة، فليس بوسعنا أن نحكم دوماً علي عمل ما بأنّه مصداق للعزّة أو الذلّة ما لم نعرف نيّة المرء فيه. فإن كانت لله تعالي فهي عزّة، وإن كانت لغير الله كانت ذلّة. فالعبودية لغير الله ذلّة ما دونها ذلّة، أمّا العبودية لله تعالي فهي أعظم عزّة، فإنّ الذليل من لم يكن عبداً لله تعالي.

روي عن عامر الشعبي أنّه قال: «تكلّم أمير المؤمنين سلام الله عليه بتسع كلمات ارتجلهن ارتجالاً، فقأن عيون البلاغة وأيتمن جواهر الحكمة، وقطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهنّ، ثلاث منها في المناجاة، وثلاث منها في الحكمة، وثلاث منها في الأدب، فأمّا اللاتي في المناجاة فقال: إلهي كفي لي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفي بي فخراً أن تكون لي ربّاً.

وفي هذا دلالة علي أنّ

العزّة كلّ العزّة في عبوديّة المرء لمالك الملك، والارتباط الحقّ بالله عزّوجلّ.

العزّة والدخول تحت القدرة

روي عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أيضاً أنّه قال: كلّ عزيز داخل تحت القدرة فذليل.

فمن كان محكوماً لقدرة الغرائز في نفسه فقد شمله الذلّ وإن كان يتظاهر بالعزّة، وما العزّة التي يتسمّي بها إلا قشرة ظاهرية ولكنّه في الحقيقة ذليل لأنّه أسير شهواته، لا فرق في ذلك بين شهوة المال أو البطن أو الفرج أو حبّ الظهور أو غيرها من الشهوات.

أمّا الذي لا يري القدرة إلا قدرة الله تعالي، فهذا له العزّة بعينها، وهكذا ما يرتبط بالله تعالي كأهل البيت سلام الله عليهم؛ لأنّه يقود إلي عبودية الله تعالي، بل هكذا الأمر أيضاً فيمن يقوم بتلبية حاجاته المادّية كالأكل والسكن، فيما إذا كان منطلقه إلهياً سواءً كان ذلك من باب الوجوب، أي استجابة لأمر إلهي يُعاقِب علي تركه، أو الاستحباب، أي الاستجابة لأمر يحبّه الله مطلقاً ويسعي من خلاله الي مرضاة الله تعالي، أمّا الاستجابة للشيطان والنفس الأمّارة بالسوء فلا يمكن أن تكون عزّة أبداً، لأنّها ليست ترفّعاً بل هي انحطاط وذلّة! لما ورد في الحديث: من تواضع لغنيّ لأجل غناه ذهب ثلثا دينه.

إذاً، النيّة هي التي تمنح العمل هويّته، ولذلك ورد في الحديث الشريف: إنّما الأعمال بالنيات.

أمّا إذا تواضع المرء لغنيّ لغرض أن يوجّهه ويرشده لأن يبذل ماله وجاهه في أمور الخير، فهذا ليس مصداقاً للذلّة بل هو عزّة أيضاً، وقد يجب إذا كان من باب مقدّمات الوجود، كما عبّر عن ذلك الفقهاء رضوان الله تعالي عليهم.

هيهات منّا الذلّة

من يكن قريباً من أهل البيت سلام الله عليهم وتوجّهاتهم يدرك أنّ مواقفهم كلّها عزيزة لأنّها في طاعة الله تعالي أبداً، فموقف الإمام الحسن سلام الله عليه كان يمثّل عين العزّة مع أنّه أغمد سيفه

ولم يخرج كما خرج أخوه الإمام الحسين سلام الله عليه، وقد أخطأ كُلَّ الخطأ من خاطب الإمام الحسن سلام الله عليه بقوله: «يا مذلّ المؤمنين»؛ لأنّ الامام سلام الله عليه كان يتأسّي بجدّه رسول الله صلي الله عليه وآله حين كتب المعاهدة بينه وبين المشركين حتي اضطرّ فيها إلي كتابة اسمه الشريف دون وصفه الكريم.

والإمام الحسين سلام الله عليه أيضاً وأهل بيته وأصحابه تعرّضوا إلي أنواع الأذي النفسي، وتعرّضوا للسبّ والشتم و … ومع ذلك يقول الإمام الحسين سلام الله عليه: قد ركز (أي يزيد) بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة. وهذا معناه أنّ كلّ ما تعرّض له الإمام سلام الله عليه وأصحابه لم يكن ذلّة بل كان عزّة.

فلو بايع الإمام سلام الله عليه عامِل يزيد علي المدينة باعتباره نائب يزيد، لما عرّض نفسه للقتل ولا جري علي أهل بيته ما جري، ولأغدق عليه الكثير من الأموال والأمور الدنيوية، ولكن الإمام كان يري أنّ هذه البيعة بحدّ ذاتها ذلّة، لانصبابها في سخط الله تعالي وغضبه، فتحمّل هو وأهل بيته وأصحابه ما تحمّلوا ولم يرضوا بالذلّ.

لقد رضي الإمام سلام الله عليه أن يعلوَ صدره الشريف شخصٌ دنيء مثل شمر ولم ير ذلك ذلاًّ، بل كان يراه عين العزّ مادام في طاعة الله تعالي، علي العكس من الرضوخ ليزيد، فكان الإمام سلام الله عليه يراه عين الذلّة، وإن كانت فيها دنيا، والذلّة بعيدة بذاتها عن أهل البيت سلام الله عليهم، ولذلك قال الإمام: هيهات منّا الذلّة. أي بعيدة عنّا.

إذاً لا يمكن أن نحكم علي عمل واحد أو عملين متشابهين صدرا في موقفين بأنّهما عزّة في الموقفين أو ذلّة فيهما دائماً، بل ينبغي معرفة خصوصيات كلّ

منهما.

لقد كان موقف الإمام الحسن تمهيداً لنهضة الإمام الحسين عليهما السلام، فكانت معاهدة الإمام الحسن سلام الله عليه عزّة كما كانت ثورة الإمام الحسين سلام الله عليه ونهضته عزّة، لأنّ منطلقهما كان واحداً وإن اختلفا ظاهراً.

أبو ذر مثالاً علي عزّة النفس

روي أنّه بعث عثمان بن عفان إلي أبي ذرّ بِصرّة علي يد عبد له وقال له: إن قبلها فأنت حرّ. فلم يقبلها؛ فقال: إقبلها فإنّ فيها عتقي. فقال: إن كان فيها عتقك، فإنّ فيها رقّي، وأنا قطعت علائق الدنيا لئلاّ أكون عبداً لغير الله.

أمثلة علي المفهوم الخاطئ للعزّة

أعرف شخصاً كان من أهل العلم في بداية شبابه، ولكنّه ترك طلب العلم واتّجه إلي عمل آخر، لأنّه كان من أقرباء أحد مراجع التقليد في عصره. ولم يكن علي خلاف معه، بل كان من مقلّديه ومن المعتقدين بأعلميته وعدالته وكان يدرس عنده ولكنّه كان يقول - كما نقل لي بعض أبنائه -: إنّ عزّة النفس تمنعني من استلام الراتب الشهري من هذا المرجع، فكيف يكون هو المعيل لي وهو ابن عمي؟!

لقد غيّر الرجل طريقه في الحياة، وكان من الممكن أن يصبح مجتهداً في يوم ما أو مرجعاً يهتدي بعلمه الألوف، أو علي الأقلّ خطيباً أو مدرّساً أو مبلّغاً أو رجل دين علي مستوي قرية يهتدي بواسطته العشرات من الناس؛ روي عن رسول الله صلي الله عليه وآله أنّه قال: ياعليّ نوم العالم أفضل من عبادة العابد الجاهل …

فالابتعاد عن فكر أهل البيت سلام الله عليهم وعدم الفهم الصحيح لمعني العزّة والذلّة وفق مدرستهم سلام الله عليهم قد يُخسر الإنسان الكثير إن لم يُخسره آخرته.

إنّ العزّة ليست في ترفّع الإنسان عن أقربائه وعشيرته، بل هي العبودية المطلقة لله تعالي ومعرفة ما هي الواجبات وما هي المستحبّات والعمل بهما، وما هي المحرّمات وما هي المكروهات والابتعاد عنهما؛ لأنّ الذلّة تتحقّق في الإتيان بما يُسخط الله تعالي.

والعزّة بعد ذلك كالطاقة إن لم تؤطّرها بالإطار الصحيح تنقلب وبالاً عليك، فإنّك لو أطّرت الطاقة الكهربية بالإطار

الصحيح ووظّفتها بالشكل المناسب استفدت منها في مختلف أنحاء الحياة، أمّا إذا لم تضعها في إطارها الصحيح وأهملت كيفية استخدامها فقد تقتلك.

وآفة العزّة الكبر لأنّ فيها ميلاً واقتضاءً قويّاً لذلك ما لم تُضبَط، ولذلك عقّب الإمام زين العابدين سلام الله عليه في دعائه بقوله: ولا تبتلِيَنّي بالكبر.

كما أنّ العزّة فرض علي المؤمن، كما في روايات مستفيضة بل متواترة منها: ما روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق سلام الله عليه أنّه قال: إنّ الله عزّ وجلّ فوّض إلي المؤمن أموره كُلّها ولم يفوّض إليه أن يُذلّ نفسه، ألم تسمع لقول الله عزّوجلّ: ?وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ? فالمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً. يُعزّه الله بالإيمان والإسلام.

فالمؤمن لا ينبغي له أن يذلّ نفسه من أجل متاع الدنيا وزخرفها، ومن كان خاضعاً لهواه أو لقوّة أخري من أجل بلوغ شيء ما ظنّاً منه أنّه العزّة، ينبغي له أن يخرج نفسه من هذه الحالة لئلا ينخدع، وليعلم أنّها الذلّة بعينها.

وهكذا هو حال من يتجاوز الحدود التي فرضها الله تعالي، يظنّ نفسه عزيزاً لكنّه الذليل ولا يعلم، فتراه مثلاً يفتخر بأنّه ضرب فلاناً لأنّه قال له قولاً أغاظه، مع أنّ الإنسان لا يحقّ له أن يضرب شخصاً لمجرّد أنّه تكلّم عليه، ولكنّ لهيب النفس غير المؤطّرة بالتواضع لله تعالي أشدّ من لهيب الشمس!! فإذا كانت الزيادة في لهيب الشمس قد تودي بحياة بعض الناس، فقد يموت شخص وهو في الخمسين من عمره بسببها، وكان مقدّراً له أن يعيش سبعين لولا إصابته بها، فإنّ اللهيب المنبعث عن النفس البشرية قد يؤدّي إلي إتلاف ملايين السنوات من عمر الإنسان في نار الآخرة.

حاجة العقل لنور الوحي

إنّ العقل مخلوق محدود، وخالقه وحده الذي

يعلم حاجاته وأنه لكي ينمو ويسمو يحتاج إلي المدد منه تعالي، والاستنارة بمن بعثهم سبحانه سواء بعثة مباشرة كالأنبياء عليهم السلام أو بعثة غير مباشرة وهم الأئمة المعصومون سلام الله عليهم ومن هنا نري الإمام زين العابدين سلام الله عليه في هذا الدعاء وفي غيره من الأدعية يعلّمنا ويدعو بنفسه طالباً من الله تعالي أن يعزّه، لأنّ الشعور بالافتقار إلي الله تعالي هو قمّة العزّة ورأس الغني، وليس يكفي أن يكون الشخص رئيساً قويّاً مطاعاً أو تاجراً ناجحاً أو مدرّساً مشهوراً أو خطيباً مفوّهاً، ما لم يشعر من أعماقه بأنّه محتاج إلي الله تعالي. فإن لم يشعر الإنسان بذلك فهو لا يعدو أن يكون ذليل المنصب أو المال أو العلم أو الأدب أو المكانة الاجتماعية، لأنّه بلاشك يكون داخلاً تحت قدرة إحدي هذه الأمور أو غيرها.

ولا تبتلِيَنّي بالكبر

الابتلاء قد يكون بمعني الاختبار، وقد يكون بمعني المحنة والبليّة، ولا يختلف المعنييان كثيراً؛ لأنّ أحد المعنيين سبب والآخر مسبّب.

هناك حالات كثيرة يتصوّر الإنسان فيها أنّه يتصرّف بدافع العزّة مع أنّه كِبر في الحقيقة.

أذكر الحادثة التالية توضيحاً لذلك:

كنّا مجموعة من الطلبة ندرس عند أحد الأساتذة، فدار في أحد الأيّام نقاش علميّ بين الأستاذ وأحد التلاميذ توفّيا كلاهما رحمهما الله تعالي واشتدّ النقاش، فاحتدّ الأستاذ وغضب، فتفوّه بكلمة غير مناسبة بحقّ الطالب. وإذا بالطالب يطوي كتابه ويقول للأستاذ: ما دمتُ هكذا في نظرك فإنّي سأودّع الدراسة إلي الأبد.

وبالفعل ترك هذا الرجل الدراسة بسبب كلمة غير مناسبة صدرت من أستاذه بحقّه. فهل هذا التصرّف يعبّر عن عزّة أم كبر؟ لا شكّ أنّه من الكبر، وإلا فكيف يمكن لمن يعتقد بأهمّية الدراسة وطلب العلم وأفضليّته أن يتصرّف هكذا ويتّخذ قراراً بهذه الخطورة،

فيغيّر مسيرة حياته العلمية بسبب حدّة أو كلمة قاسية؟!

كلّنا معرَّضون لمواقف من هذا القبيل، ولذا ينبغي لنا أن نأخذ مفاهيم العزّة من أهلها ومصداقها الأعلي أهل البيت سلام الله عليهم لئلا تضيع حياتنا الآخرة بسبب موقف تافه والعياذ بالله.

الاعتبار بما جري لعلماء السوء

لقد كان بلعم بن باعورا عالماً بلغ مرحلة من العلم بحيث قال عنه الله تعالي: ?الَّذي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا? والجمع المضاف (آياتنا) ظاهر في العموم كما يقول علماء الفقه والأصول، وإن كان ربما العموم هنا نسبيّاً.

ولكن الله تعالي يقول عنه في الآية نفسها: ?فَانْسَلَخَ مِنْهَا?. وهذا تشبيه بلاغيّ عظيم أي الآيات ويعني بها العلوم صارت بالنسبة له كالقشرة أو الجلد، أرأيت كيف يُسلخ جلد الشاة؟!

ثمّ يقول الله تعالي عنه بعد ذلك: ?فَأتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ?. وهذا معناه أن بلعم بن باعورا هو الذي بدأ الانحراف ثمّ زاده الشيطان في ذلك لابتعاده عن الله تعالي، وهذا مصداق قوله صلي الله عليه وآله: من ازداد علماً، ولم يزدد هدي لم يزدد من الله إلا بعداً.

فإذا كانت هذه عاقبة ابن باعورا رغم علمه، بسبب كبره أو ما اعتبره خطأً عزّة، وليست كذلك، فكيف سيكون حالنا إن زللنا نحن، لا سمح الله؟!

فما دمنا ندرس وندرّس ونخطب ونؤلّف ونقوم بالوعظ، والناس يستمعون إلينا ويتعلّمون منّا، وقد يمدحوننا، فنحن معرَّضون لهذا الابتلاء، وكما في الحديث الشريف: … فإنّ المفتي علي شفير جهنم. فأقلّ غفلة يمكن أن تودي بنا، لا سمح الله، وينتهي كلّ شيء.

وهذا لا يعني ترك طلب العلم أو التبليغ، ولكن الأمر يتطلّب وعياً عميقاً مع الدعاء والاستعانة بالله تعالي ليجعلنا الله قادرين علي التمييز بين ما هو لله وما هو لغير الله عموماً، فنأخذ بما هو لله تعالي ونذر ما هو لغيره.

كما علينا

أن نفرّق بين العزّة والكبر، فنسأل الله تعالي أن يمنحنا الأوّل ويجنّبنا الثاني.

العجب آفة العبادة

العجب آفة العبادة

من يتدبّر في دعاء الامام سلام الله عليه يري أنّه يسأل الله سبحانه وتعالي روح الفضائل ويطلب منه أيضاً أن يقيه ويحفظه مما يفسدها، لأنّ لكلّ فضيلة آفة تفسدها، فقد قرأنا في الجمل السابقة قول الإمام سلام الله عليه: وأوسع عليّ في رزقك ولا تفتنّي بالنظر أو بالبطر، لأنّهما من آفات سعة الرزق، وكذلك قوله سلام الله عليه: وأعزّني ولا تبتلِيَنّي بالكِبر لأنّ الكبر آفة العزّة؛ حيث يتكلّف الإنسان فيه الشموخ علي غيره بلا موجب، والكبر في النفس كما أنّ التكبر في المظهر والسلوك. وسَيمرّ قول الإمام سلام الله عليه: وأجرِ للناس علي يدي الخير ولا تمحقه بالمنّ؛ لأنّ المنّ آفة عمل الخير للناس، وأيضا قوله سلام الله عليه: وهب لي معالي الأخلاق واعصمني من الفخر فإنّه آفة معالي الأخلاق. أمّا هنا فيقول عليه السلام: وعبّدني لك ولا تُفسد عبادتي بالعجب؛ لأنّ العبادة فضيلة بل هي أمّ الفضائل وأرومتها، ولكن آفتها العجب، ولذلك عندما يطلبها الإمام من الله يطلب معها أن يقيه العجب.

إذاً في هذه الجملة أيضاً يطلب الإمام طلبين من الله تعالي وهما التعبيد والوقاية من العجب الذي يفسده.

معني التعبيد

لم يرد استعمال لفظة (التعبيد) في الأدعية التي وصلتنا علي كثرتها إلا نادراً، وربما لم يرد في القرآن الكريم إلاّ مرّة واحدة وذلك في قوله تعالي حكاية عن موسي علي نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام مخاطباً فرعون: ?وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أنْ عَبَّدْتَ بَنِي إسْرَائِيلَ?.

إنّ فرعون اتّخذ بني إسرائيل عبيداً وجعل يعاملهم معاملة السيّد الظالم المتجبّر لعبيده، ثمّ أخذ يمنّ علي موسي عليه السلام في تربيته له ويقول له - كما حكاه القرآن الكريم -: ? … ألَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ

سِنِينَ?، فردّ عليه موسي عليه السلام بالقول: ?وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أنْ عَبَّدْتَ بَنِي إسْرَائِيلَ?. أي لِم حرمتَ أهلي من تربيتي وهدّدت قومي فاضطُرّت أمّي إلي إلقائي في البحر، فإنّ وقوعي بين يديك وتربيتك إيايّ إنّما كانت بسبب تعبيدك لبني إسرائيل وخوفهم منك ومن بطشك، فهذه ليست منّة بل هي جناية لأنّها نتيجة تعبيد وإخافة وبطش وإرهاب، فما وجه المنّة بذلك؟

فيكون معني قول الإمام سلام الله عليه: عبّدني لك: اتّخذني، أو اجعلني عبداً، والمعني الثاني أدقّ من باب مناسبة الحكم والموضوع كما يقول الفقهاء لأنّ الاتّخاذ نوع خصوصية وامتياز كما في قوله تعالي: ?وَاتَّخَذَ َاللهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً? أي خصّه بهذه الفضيلة.

لكن قد يثار سؤال، وهو: أليس الخلق كلّهم عباد الله، وأنّ الله مالك الملك، كما نقرأ في قوله تعالي: ?قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ?؟ إذاً لماذا يطلب الإمام من الله أن يجعله عبداً له؟

بعبارة أخري: إذا كانت عبوديتنا لله تعالي تكوينية قهرية؛ لانقطاعنا إليه سبحانه في الخلقة دون سواه، فما معني طلب جعلنا عبيداً له؟

نقول: المقصود هنا هو القيام بما تقتضيه العبودية من العبد والإتيان بما ينبغي له، وهذا الأمر يتطلّب سعياً ودعاءً، ولذلك نري الإمام سلام الله عليه وهو القمّة في العبودية لله يطلب ذلك منه تعالي ويقول: «وعبّدني لك» أي يا إلهي امنحني التوفيق بفضلك لأن أكون عبداً لك حقّ المعني.

هب أنّ أحداً منّا عمل ما في وسعه وطاقته في عبادة الله تعالي، وقام بكلّ ما ينبغي له من فروض العبودية، من قيام بالواجبات والمستحبّات وترك للمحرّمات والمكروهات، بل عمل بوصيّة النبي صلي الله عليه وآله للصحابيّ الجليل أبي ذرّ حيث يقول صلي الله عليه وآله: يا أباذرّ ليكن لك

في كلّ شيء نيّة صالحة حتي في النوم والأكل ومفادها أن يسعي العبد لأن يجعل كلّ أعماله حتي تلك التي لا يمكن الاستغناء عنها عبادة لله سبحانه وتعالي، فهل يكون قد وفّي حقّ الله تعالي في العبادة وبلغ ما يليق بمقامه؟

كلاّ، لا يبلغ العبد مع ذلك حتي كنسبة القطرة إلي البحر المحيط، وهذا ما ندركه نحن بمستوانا، ناهيك عن المقدار والمستوي الذي لا نشعر به ولا ندركه!

فيكون معني عبارة الإمام السجّاد سلام الله عليه في قوله: وعبّدني لك هو: إلهي إنّ عبادتي هذه ليست بمستوي عبوديتك وهو منزّه عن المستوي لكن إجعلها وكأنّها بذلك المقام؛ فضلاً منك.

روي عن الإمام الباقر سلام الله عليه أنّه قال: دخلت علي أبي عليه السلام في أحد الأيّام فرأيته وقد اصفرّ لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء ودبرت جبهته وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء فبكيت رحمة له، فإذا هو يفكّر، فالتفت إليّ بعد هنيئة من دخولي، فقال: يا بنيّ أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فأعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً ثمّ تركها من يده تضجّراً وقال: من يقوي علي عبادة عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

العبادة الصحيحة ما كانت مرضيّة عند الله تعالي

نستنتج مما تقدم أنّ القيام بالعبادة لا يكفي ما لم يعتبرها المعبود كذلك، أي تكون عنده عبادة، فلا يكفي أن يقول المرء أنا أعبد الله، بل المهمّ أن يقبل المعبود عبادته.

صحيح أنّ التكليف يسقط عن العبد وتبرأ ذمّته إذا قام بالعبادة وكانت جامعة للشرائط والأجزاء التكليفية وفاقدة للموانع والقواطع التكليفية، ولكنّ القبول شيء آخر قد وضّحه الفقهاء بمثال وقد ذكره المرحوم الميرزا النائيني

رحمه الله في شرح مسألة أصولية وعبّر عنها «اللعب بالعبادة».

وتوضيحه: إذا قال مولي لعبده: ائتني بكأس ماء، فامتثل العبد وجاء بالماء إلي المولي ولكنّه في الطريق إليه كان يرقص ويضحك ويستهزئ بالمولي أو يقوم بحركات لا تليق بشأنه، فإنّ المولي إذا كان حكيماً يقول: إنّ هذا العبد قد أتي بالتكليف لكنّه خرق مقام العبودية، فلا يعاقبه علي عدم الامتثال له في جلْب الماء ولكنّه لا يقبله منه، لأنّه لا يعدّه من المتقرّبين إليه؛ والإمام سلام الله عليه يعلّمنا في هذا الدعاء أن نطلب من الله تعالي أن يقبل عبادتنا لأنّنا لا نعلم إن كنّا قد أدّيناها بما يليق ومقام قدسه تعالي أم اقتصرنا علي إسقاط التكليف وإبراء الذمّة، حسب. ومن ثمّ نسأله تعالي ونقول له: وعبّدني لك أي اجعلني اللهم عبداً مقبول العبوديّة عندك.

آفة العجب

وآفة العبادة العجب، ولذلك نري الإمام سلام الله عليه يقرن دعاءه وسؤاله من الله عزّ وجلّ أن يعبّده له، بأن لا يفسد عبادته بالعجب. فالإنسان وإن بلغ القمّة الشامخة في العبادة، يكون أيضاً معرّضاً للمزالق أو ما عُبّر عنه بالزحاليف.

ثمة مسألة شرعية موجودة في الرسائل العملية ومشهورة بين الفقهاء وهي أنّ الرياء أثناء العبادة مبطل لها، وبعد العبادة مفسد لها وليس مبطلاً، فإنّ العبد إذا رائي في أثناء صلاته فإنّها تبطل ويجب عليه قضاؤها وإلاّ حوسب يوم القيامة علي عدم الإتيان بها. وهذا أمر يقرّه العقلاء أيضاً، أمّا لو رائي بعد صلاته، فإنّه لا تجب عليه الإعادة أو القضاء لكن لا تُحسب له بصلاة ولا تُدرج في قائمة حسناته.

أمّا العُجب فالمشهور بين الفقهاء حسب الروايات أنّه ليس مبطلاً للعبادة وإن كان أثناء العمل العباديّ وإن كان هناك رأي يقول بأنّه كالرياء

من هذه الناحية أي يبطل العمل إذا كان مقروناً به، أي واقعاً في أثنائه ولكنّه يُفسد العبادة علي كلّ حال، أي لا يثاب المكلّف عليها وإن لم يحاسَب لعدم تركها، فالعبادة التي يُعجب بها صاحبها غير باطلة حسب مشهور الفقهاء ولكنّها فاسدة، وما كان فاسداً فلا يؤجَر عليه صاحبه وإن أتي به.

إنّ العجب لا يقتصر علي إفساده للعبادة فقط بل يفسد كلّ شيء، فهو يفسد العلم والتقدّم والصحّة والأخلاق. فالعالم إذا كان عنده عجب بعلمه يكون قد غفل عن نكات دقيقة قد تفوته بسبب غروره وإعجابه بعلمه، وهكذا المعجب بصحّته قد يصاب بأمراض يحسب نفسه بعيداً عنها، والشيء نفسه يصدق بالنسبة للمعجب بأخلاقه. أمّا العبادة فيفسدها ويُذهب ثوابها.

إنّ الدنيا كلّها لا تساوي شيئاً من دون العبادة، فإذا فسدت العبادة فماذا يبقي للإنسان بعد ذلك؟ فقد ورد في الروايات أنّ الدنيا كلّها لا تساوي عند الله جناح بعوضة.

فكم سيعيش الإنسان في هذه الدنيا؟ حتي لو فرضنا أنّه عاش مئات السنين بل آلاف السنين وأكثر وهو يرفل بالصحّة والعلم وغير ذلك من مباهج الدنيا، فإنّه سيرحل عنها إلي الآخرة، فإلي أين سيولّي وجهه في الآخرة إن لم تكن عنده عبادة حقّة أو كانت عبادته فاسدة بالعجب، لاسمح الله.

ولهذا نري التركيز علي بيان ضرر العجب في العبادة خاصّة في لسان الأدعية والروايات الشريفة بل أشار لذلك القرآن الكريم في قوله تعالي: ?وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ? وقوله تعالي: ?كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً?.

فالعجب في العبادة أمر يردّه الإنسان ولا يري له موجباً إذا التفت إلي نفسه أدني التفاتة أوتأمَّل ولو قليلاً؛ فما الذي يغري العبد لأن يعجب في عباداته؟ هل يعجب بصلاته وصومه وزكاته

وصدقاته أم يعجب بصحّته التي بسببها استطاع أن يعبد الله تعالي أم بعقله الذي به عرف الله تعالي وأدرك وجوب طاعته وعبادته، وكلّ تلك الوسائل وغيرها التي مكّنته من أداء العبادة إنّما هي من الله تعالي.

فهل يحقّ لنا بعد ذلك أن نمنّ علي الله تعالي في عباداتنا أو أن نعجب بها وهو الذي هدانا للإيمان إن كنّا صادقين. فإذا كان كلّ شيء من الله، أفلا يكون عجب المرء بعبادته لله تعالي إسفافاً وأمراً مثيراً للعجَب إذا تأمّل المرء قليلاً أدرك ذلك بسرعة، ولكنّ الشهوات هي التي لا تدع الإنسان يلتفت إلي هذه الحقائق.

هذا من جهة جهلنا وضعفنا وعجزنا، ناهيك إذا نظرنا إلي القضية من جهة العظمة ومقام الربوبية ولسنا ببالغين حقّ قدرها، وما يصدر عنا حين نعبّر عنهما فبمقدارنا وبمستوي ألفاظنا وتصوّراتنا فقط. وإلاّ فإنّ الله تعالي هو الذي يمنحنا الأموال ثمّ يطلب منّا إقراضه، ويعدنا بأنّه سيضاعفها لنا أضعافاً كثيرة؛ كما في قوله تعالي: ?مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ?.

إذاً جدير بأن نسخّر كلّ العقل فينا لعبادته حقّاً، لأنّه قد يمرّ علي الإنسان والعياذ بالله عشرات السنين وهو غافل غير ملتفت؛ ومن ثمّ فهو يحتاج إلي المراقبة والدعاء، فيرشده الإمام سلام الله عليه بأن يتوجّه إلي الله تعالي بالقول: وعبّدني لك ولا تُفسد عبادتي بالعجب.

الإفساد، واختيار الإنسان

قد يتبادر سؤال إلي الذهن وهو: لماذا يقول الإمام سلام الله عليه في دعائه: ولا تُفسد عبادتي بالعجب. فمن الذي يفسد العبادة؛ أيفسدها الله سبحانه، أم الإنسان يفسدها باختياره؟

الجواب: إنّ معني قول الإمام هو: اللهم لا تتركني وتخلّيني وشأني فيستحوذني العجب وتَفسُد عبادتي. ومثاله من واقع الحياة كالشخص النازل من جبل ذي منحدرات شديدة فإنّه يكون

معرّضاً للهويّ، إلا إذا كان هناك حبل ذو مقابض يمسك بها، فإنّه بحاجة إلي وجود هذه الأداة لئلا يزلّ ويسقط، فيقول لمن بيده الطرف الأعلي من الحبل: لا تسقطني في الوادي؛ ففي يدك نجاتي وحياتي ما دمت أنا متمسّكاً في الطرف الآخر. فهكذا الحال بالنسبة للإفساد والإضلال عندما ينسب إلي الله تعالي، فإنّ العبد هو الذي ينفلت عن قبضة الطرف الثاني للهداية فيفسد ويضلّ، حينها يُخلّي بينه وبين نفسه، لعلمه تعالي بعدم جدوي الصلاح والهداية فيه. قال تعالي: ?وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ?، ولذلك كان علي الإنسان أن يُلحّ علي الله تعالي دائماً في أن يهيّئ له أسباب الهداية وأن لا يدعه وشأنه وإلا فإنّه هالك لا محالة.

ولكن ينبغي أن يعلم أيضاً أنّ الله تعالي لا يفعل شيئاً عبثاً، فهو لا يوفّر أسباب النجاة والهداية والصلاح أو يمنعها عن أحد دون حكمة.

إنّ الله تعالي يمتنع عليه العبث سبحانه فهو الحكيم، والحكيم يضع الشيء في موضعه، فإذا كان العقلاء يدركون ذلك ولا يتخطّونه في حياتهم أو يحاولون أن لا يتخطّوه، فكيف بالله عزّوجلّ وهو سيّد الحكماء؟!

لو جاء إنسان عادّي إلي فقيه مثلاً وسأله مسألة شرعية، فالفقيه يكتفي بإعطائه الحكم الشرعي، كأن يقول له: إنّه واجب أو مستحبّ أو حرام أو مكروه، ولكن إذا كان السائل من أهل الفضل فربما أضاف في جوابه أنّه هناك رواية صحيحة السند عمل بها الفقهاء، ودلالتها تامّة تقول كذا وكذا.

فإذا كنا ندرك هذا في مستوانا ونحاول أن نتصرّف بحكمة ونعطي كلاًّ ما يناسبه، فهل نتوقّع أن لا يعاملنا الله بالحكمة فيأخذ بيد من لا يستحقّ العناية، ويتخلّي عمّن يستحقّها؛ حاشاه سبحانه وتعالي عن ذلك.

لله الحجّة البالغة

روي أنّه:

يجاء يوم القيامة بالرجل الحسن الذي قد افتتن بحسنه فيقول: يا ربّ حسّنت خَلْقي حتي لقيت من النساء ما لقيت. فيجاء بيوسف عليه السلام فيقال: أنت أحسن أو هذا، قد حسّناه فلم يفتتن؟ ويجاء بصاحب البلاء الذي قد أصابه الفتنة في بلائه فيقول: يا ربّ شددت عليّ البلاء حتي افتتنت. فيجاء بأيّوب عليه السلام فيقال: أبليّتك أشدّ أو بلية هذا، فقد ابتلي فلم يفتتن؟.

وروي عن مسعدة بن زياد أنّه قال: سمعت جعفر بن محمد عليه السلام وقد سئل عن قوله تعالي: ?قل فلله الحجّة البالغة? فقال: إنّ الله تعالي يقول للعبد يوم القيامة: عبدي! أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم. قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً. قال له: أفلا تعلمت حتي تعمل؟ فيخصمه، وذلك الحجّة البالغة.

وهاتان الحالتان ليستا من باب الحصر بل هما مثالان وإلاّ فإنّ الشيء نفسه يصدق علي كلّ فرد تشغله مسألة ما عن العبادة سواء كانت مسألة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها.

والأمر بعد ذلك بحاجة إلي دعاء وتوسّل إلي الله تعالي، مساوقة مع العزم والتصميم في السعي لنبذ الشيطان ووساوسه.

فإذا حصل أنّ أحداً ما يريد قراءة دعاء كدعاء كميل في ليلة الجمعة مثلاً ويغالبه النعاس أو ذهنه مشغول بأمر ما، فيتردّد: أيكون الترك أفضل أم قراءة الدعاء مع حال اشتغال الذهن واللهو عن التوجّه بعمق إلي مضامين الدعاء؟ هذا سؤال وُجّه لكثير من الفقهاء ومنهم السيّد الوالد رحمه الله فكان يقول: عدم الترك أفضل في كلّ حال؛ لأنّنا إذا قلنا بترك الدعاء في مثل هذه الحالة فإنّ النفس ستبحث عن الأعذار في غيره من أسباب العبادة مهما كانت تلك الأعذار ضعيفة واهية، أمّا إذا عوّدت نفسك علي

الدعاء فسيأتي التوجّه تباعاً.

ثلاث فوائد

وأقرب ما يمكن أن نستفيده من عبارة الإمام سلام الله عليه: وعبّدني لك ولا تفسد عبادتي بالعجب ثلاثة معانٍ.

الأول: تَقَبَّلني عبداً، أي اجعلني أعبدك وفق ما يسّرتني له من الطاعة، واعتبر عبادتي في مستوي ساحة قبولك ورضاك.

الثاني: تقبّلها منّي بغناك عنّي.

الثالث: اجعلني مشغولاً بعبادتك عن العجب بعبادتي لك.

ولمزيد من التوضيح نذكر المثال التالي:

إذا كان أحد الملوك يملك مئة من العبيد فهل هؤلاء كلّهم في مستوي واحد من حيث ارتباطهم بالملك؟ كلاّ بالطبع، فبعضهم يعمل في البناء، وبعضهم يقوم بالخدمة داخل القصر، وبعض يكون واسطة بين الملك ووزرائه، إذاً فالمستويات تختلف، ولكن المهمّ أن يكون عمل العبد مقبولاً لدي الملك وأن لا يزلّ فيطرده.

عبادة الله فخر وشرف

هَب أنّ شخصاً ما كان خادماً للملك، ألا تراه يفتخر علي الآخرين لأنّه قريب من مصدر القوّة أو المال أو الوجاهة؟ فكيف إذا كان عبداً لله تعالي؟ لا شكّ أنّ مثل هذا الإنسان لا تهمّه الدنيا ولا يخشي في الله لومة لائم، وحقّ له ذلك.

جاء رجل للإمام الصادق سلام الله عليه وقال: إنّي أري من هو شديد الحال مضيّقاً عليه العيش، وأري نفسي في سعة من هذه الدنيا لا أمدّ يدي إلي شي ء إلا رأيت فيه ما أحبّ، وقد أري من هو أفضل منّي قد صرف ذلك عنه، فقد خشيت أن يكون ذلك استدراجاً من الله لي بخطيئتي؟ فقال الإمام سلام الله عليه: أمّا مع الحمد فلا و الله.

إجراء الخير بلا منّ

إجراء الخير بلا منّ

يقول الإمام سلام الله عليه: «وأجر للناس علي يديّ الخير ولا تمحقه بالمنّ»

يستفاد من كلمة «أجرِ» مضمونان:

المضمون الأوّل: أنّ الإمام ينسب فعل الخير الذي يفعله الإنسان إلي الله تعالي؛ حيث يُفهم ذلك من صيغة الطلب «أجرِ». وهذا معناه أنّ الإنسان المباشر بفعل الخير هو وسيلة أمّا الفاعل الحقيقي للخير فهو الله تعالي؛ إلاّ أنّ هذه الوسيلة مختارة وغير مجبرة علي فعل الخير وتركه ?قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا? إذ لولا الاختيار لبطل الثواب والعقاب.

المضمون الثاني: أنّ مادّة هذه الكلمة، (أجر) وهي: الجريان، هي علي وزن فَعلان، وكما هو معروف في كتب اللغة فإنّ هذا الوزن يدلّ علي الاستمرار وعدم الانقطاع، كما في وصف الله سبحانه للحياة الآخرة بأنّها هي الحيَوان، في قوله تعالي: ?وَإنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ? فاستعمل صيغة فَعَلان (حيوان) أي الحياة المستمرّة المتواصلة التي لا انقطاع لها.

كذلك هنا الإمام يقول: «أجر» ولم يقل «أصدر منّي الخير»، لأنّ أصدر، لا يحمل

ما يحمله (أجر) من طلب دوام صدور الخير وليس مجرّد صدوره.

الإسلام يريد الخير لجميع الناس

الكلمة الثانية، من هذه الفقرة هي قوله سلام الله عليه: (للناس). وهذا معناه أنّ الإمام يطلب من الله تعالي أن يجري علي يديه الخير لجميع الناس وليس للمؤمنين أو المسلمين وحدهم بل لكلّ الناس مؤمنين ومسلمين وغيرهم بل حتي لغير المعتقدين بدين أصلاً. هكذا يسأل الإمام من الله تعالي، ويرشدنا أنّه ينبغي لنا أن نسأل الله تعالي في أن يجري الخير علي أيدينا لكلّ الناس.

وهذه هي نظرة الإسلام إلي عباد الله تعالي، ففي الحديث الشريف: الْجِيرَانُ ثَلاثَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ: حَقُّ الإِسْلامِ، وَحَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الْقَرَابَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ حَقَّانِ: حَقُّ الإِسْلامِ وَحَقُّ الْجِوَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ: الْكَافِرُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ.

هذه هي أخلاق الإسلام، مضافاً إلي ما تحمله هذه النظرة من كسب للإسلام.

وكما أنّ الله سبحانه وتعالي يعطي النعم للمؤمن والكافر، والمتديّن وغير المتديّن كذلك الإمام يسأل الله تعالي أن يجري علي يديه الخير لجميع الناس دون تمييز.

هكذا كان أهل البيت سلام الله عليهم، يجري الخير علي يديهم لجميع الناس. روي أنّ الإمام الصادق سلام الله عليه كان يأخذ معه الخبز والتمر والحنطة في منتصف الليل يوزّعها علي فقراء المدينة وهم نيام فيضعها تحت رؤوسهم؛ فيقال له هؤلاء غير موالين لكم. فيقول سلام الله عليه: لو كانوا موالين لنا لواسيناهم بالدُقّة.

علي يدي أو علي يديّ

في بعض الموارد من كلام أهل البيت سلام الله عليهم وردت كلمة «يديّ» بتشديد الياء، وهي تفيد التثنية، كما وردت في بعضها الآخر بلفظ المفرد أي دون تشديد الياء، ولا فرق بينهما سوي من جهة زيادة التأكيد؛ لأنّ اليد كما هو معلوم في البلاغة قد ترد بمعني هذا العضو الخاصّ، وقد ترد للتعبير عن القدرة والمكنة، ولذلك ورد استعمال «يدي»

أي الجارحة الواحدة، و «يديّ» أي كلتاهما، لبيان أنّ الأخيرة تفيد التوكيد أي كلّ القدرة أو كلّ العطاء، كما نقرأ في الدعاء: يا باسط اليدين بالعطية أي تعطي كلّ الفضل، وإلاّ فإنّ الله تعالي منزّه عن أن تكون له يد ماديّة فضلاً عن اثنتين، وإنّما كان استعمال صيغة المثني (يديّ) كناية عن مطلق العطاء من مطلق القدرة، وهكذا في هذا الدعاء إذا قلنا وأجرِ للناس علي يدي الخير فهو طلب صدور الخير منّا للناس علي الدوام، أمّا قوله سلام الله عليه: وأجرِ للناس علي يديّ الخير فهو يعني طلب التوفيق لصدور الخير والبذل الدائم بمطلق الطاقة التي يُتوفّر عليها، أي هو المبالغة في الإعطاء.

المنّ يمحق عمل الخير

ثمّ إنّ الإمام سلام الله عليه بعد أن يسأل الله تعالي أن يجري علي يديه الخير للناس، يسأله قائلاً: ولا تمحقه بالمنّ. أي، إلهي أنت إذ وفّقتني وأجريت للناس علي يدي الخير لا تمحقه بالمنّ، فاحفظني من الشيطان ولا تكلني إلي نفسي، فإني لا أستطيع النجاح مستقلاًّ عنك.

أمّا المحق فهو الإبطال والمحو والإحباط. وقد ورد استعمال الإبطال وأريد منه المحق أكثر، مثل قوله تعالي: ?لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَي? أمّا المحق فقد ورد قليلاً ومنه قوله تعالي: ?يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ? وقوله تعالي: ?وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ?، وهنا أيضاً قال الإمام سلام الله عليه في دعائه: «ولا تمحقه بالمن» لأنّ المنّة تحبط عمل الخير وتبطله كما في هذه الرواية:

دَخَلَ رَجُلٌ عَلَي الإمام مُحَمَّد الجواد سلام الله عليه وَهُوَ مَسْرُورٌ. فَقَالَ: مَا لي أَرَاكَ مَسْرُوراً؟ قَالَ: يَا ابْنَ رَسُول اللَّه سَمعْتُ أَبَاكَ يَقُولُ: أَحَقُّ يَوْم بأَنْ يُسَرَّ الْعَبْدُ فيه يَوْمٌ يَرْزُقُهُ اللَّهُ صَدَقَاتٍ وَمَبَرَّات وَسَدَّ خَلاَّت منْ إِخْوَان لَهُ مُؤْمنينَ وَإنَّهُ قَصَدَني الْيَوْمَ

عَشَرَةٌ منْ إخْوَاني الْمُؤْمنينَ الْفُقَرَاء لَهُمْ عِيَالاتٌ فَقَصَدُوني منْ بَلَد كَذَا وَكَذَا فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحد منْهُمْ، فَلهَذَا سُرُوري. فَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ: لَعَمْري إِنَّكَ حَقيقٌ بأَنْ تُسَرَّ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَحْبَطْتَهُ أَوْ لَمْ تُحْبطْهُ فيمَا بَعْدُ. قَالَ الرَّجُلُ: وَكَيْفَ أَحْبَطْتُهُ وَأَنَا منْ شِيعَتِكُمْ الْخُلَّصِ؟ قَالَ: هَاهْ قَدْ أَبْطَلْتَ برَّكَ بإِخْوَانكَ وَصَدَقَاتكَ. قَالَ: وَكَيْفَ ذَلكَ يَا ابْنَ رَسُول اللَّه؟ قَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ: اقْرَأ قَوْلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تُبْطلُوا صَدَقاتكُمْ بالْمَنّ وَالأَذي قَالَ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ مَا مَنَنْتُ عَلَي الْقَوْمِ الَّذِينَ تَصَدَّقْتُ عَلَيْهِمْ وَلا آذَيْتُهُمْ. قَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتكُمْ بالْمَنِّ وَالأَذي، وَلَمْ يَقُلْ لا تُبْطلُوا بالْمَنّ عَلَي مَنْ تَتَصَدَّقُونَ عَلَيْه وَبالأَذَي لمَنْ تَتَصَدَّقُونَ عَلَيْه وَهُوَ كُلُّ أَذي.

يستفاد من هذا الحديث أنّه إذا ذكَر المتفضّل علي أحد فضله حتي في غيابه عُدّ ذلك من مصاديق المنّة، لذا يشير الحديث الي أنّ الشخص إذا صنع خيراً لأحد ثمّ ذكره في مجلس، فإنّ الخبر حتماً سيصل إليه عاجلاً أو آجلاً فيتأذّي، ولم يقيَّد الأذي بأن يكون مباشراً كما لو يقول المانّ: أنا الذي أعطيتك المال بعد أن لم يكن عندك، أو أن يكون بصورة غير مباشرة كالإيحاء مثلاً، وهذا امتحان صعب جدّاً يتطلّب الاستعانة بالله تعالي حتي يجتازه المرء بنجاح.

قصّة فيها عبرة

كان هناك رجل حاجّ أعرفه جيداً يعيش في إحدي المدن المقدّسة، فقد صادف أن نزل في مدينته رجل زائر من بلد آخر جاء هو وعائلته، وكانوا قد نزلوا فيها لأوّل مرّة لأداء الزيارة ولا يعرفون فيها أحداً، فذهبوا يبحثون عن مكان في الفنادق والمنازل التي يؤجّرها أصحابها، فلم يحصلوا علي

مكان بسبب كثرة الزوار، فاضطرّوا للجلوس في مكان ما، فلمّا رآهم ذلك الرجل الحاج وهوكما أعرفه كان يعمل الخير ما وسعه لأيّ شخص سواء كان يعرفه أم لا علي هذه الصورة جالسين علي الأرض، سألهم: لماذا أنتم جالسون هنا؟ قالوا له: نحن مسافرون جئنا للزيارة، ولكنا لم نعثر علي مكان ننزل فيه، فاضطررنا للجلوس هنا عسي أن يمرّ بنا شخص فيرشدنا إلي مكان ما نأوي إليه.

عندها قال لهم الحاجّ: تعالوا معي إلي بيتي، ففرحوا بذلك؛ وأضمروا أن يعطوه الأجرة المناسبة آخر الأمر لأنّهم كانوا أناساً متمكّنين ماديّاً فأنزلهم الحاجّ في بيته منزلاً كريماً، حتي أقاموا عنده عشرة أيّام، كان يقدّم لهم خلالها كلّ متطلّبات كرم الضيافة بما فيها الطعام، ولما شارفوا علي الرحيل بعد انتهاء مدّة زيارتهم، عرضوا عليه مبلغاً من المال لخدماته لهم، ففوجئوا أنّه لا يقبل علي عمله هذا أجوراً أو شيئاً من هذا القبيل، قائلاً لهم: إنّكم لم تكونوا ضيوفي بل ضيوف الإمام سلام الله عليه وإنّ الأجر الذي سأحصل عليه منه يفوق ما تعطونه لي مهما بلغ. وعندما لاحظوا إصراره علي رفض أخذ المال ودّعوه شاكرين وانصرفوا.

وبعد مرور بضع سنوات حدثت للحاجّ (المضيّف) مشكلة سياسية في نفس البلد الذي قدم منه ذلك الزائر (الضيف) ليزجّ بالحاجّ في السجن، وكان من المحتمل أن يصدر بحقّه حكم الإعدام، وحينما كان يتعرّض للاستجواب لعدّة أيّام، جاءه في آخر استجواب يمارس معه شخص يظهر من الرتب العسكرية التي يحملها علي كتفه أنّه رجل رفيع المنصب في الدولة بصفة محقّق قضائي. فلمّا رآه سأله: ألستَ فلانا؟ قال بلي. ثمّ شرع بتوجيه الأسئلة عليه؛ من قبيل: ألستَ تسكن البلد الفلاني؟ وكان الحاجّ يجيب: لقد سألتموني من قبل

والمعلومات مدوّنة عندكم، فقد أدليت بكلّ إفادتي. وأخيراً سأله المحقّق: أليس بيتك في المكان الفلاني؟ قال: نعم. ثمّ نظر المحقّق إليه نظرة خاصّة وقال: ألم تعرفني؟ قال: لا. قال: دقّق فيّ جيّداً، ثمّ رفع قبّعته من علي رأسه. فقال الحاجّ: كأنّي رأيتك ولكن لا أتذكّر أين، فقال الرجل: لقد كنت وعائلتي عشرة أيّام ضيوفاً في بيتك أكرمتنا كثيراً دون مقابل. قال الحاجّ بعد تذكّره ما كان قد نسيه: إنّما فعلته لله.

وهنا قال له: ها هو حكمك بيدي، وعقوبتك تصل حتي الإعدام، ولكنّي أمزّق الورقة أمامك وأقول لك: تفضّل واخرج فليس عليك شيء!

يتّضح من هذه القضيّة وغيرها مما سلف من آثار فِعل البر والإحسان أنّ الخير الذي يفعله الإنسان لغيره إنّما يعود في الحقيقة لنفسه بل هو مسجّل له منذ البداية، ولكن انكشاف هذا الأمر يحتاج إلي وقت، غايته أنّ النتائج قد لا تظهر كلّها في هذه الحياة الدنيا بل قد يراها الإنسان في الآخرة، فإذا كان عند الإنسان بصيرة والتفات وكان معتبِراً بقصص الآخرين سهُل عليه الأمر وبادر إلي عمل الخير للناس، مهما كلف الأمر.

معالي الأخلاق والعصمة من الفخر

معالي الأخلاق والعصمة من الفخر

لا شكّ أنّ لمعالي الأخلاق والعصمة من الفخر مراتب. وهذا يعني أنّ سؤال الإمام المعصوم من الله تعالي بأن يهبه معالي الأخلاق لا ينافي العصمة، ومما لا شكّ فيه أنّ كلّ ما لدي المعصوم سلام الله عليه حتي العصمة هو لطف من الله سبحانه وتعالي، ومن ثمّ فإنّ الإمام ليس بصدد تعليمنا الدعاء فحسب بل يتوجّه إلي الله أيضاً ويسأله أن يهبه معالي الأخلاق والعصمة من الفخر، غايته أنّ الإمام سلام الله عليه يسأل مراتبهما العليا.

صحيح أنّ مراتب الإمام في معالي الأخلاق عالية جداً بل لا يقاس به أحد البتّة، ولكن

الصحيح أيضاً أنّ هذا لا يتنافي وطلب الأئمة صلوات الله عليهم المزيد من المراتب الأكثر علوّاً وإن بلغوا ما لم يبلغه أحد من العالمين حتي حازوا أعلي مرتبة من بين خلق الله عزّ وجلّ من الأوّلين والآخرين، وهذا مطلب معمّق وتفصيله يتطلّب بحثاً مستقلاًّ.

وقفات مع مفردات الدعاء

نقف الآن وقفات سريعة مع كلمات هذه الجملة من الدعاء: هب لي معالي الأخلاق واعصمني من الفخر. فنقول:

«هب» من الهبة وهي غير العطاء، وقد وردت مادّة الهبة واشتقاقاتها في القرآن كثيراً، ومن ذلك قوله تعالي: ?فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً?، وقوله سبحانه ?رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّة َأعْيُنٍ? فما هو معني الهبة؟ يقول الفقهاء: الهبة عقد فائدته تمليك عين بلا عوض.

فإذا كان هذا معني الهبة فإنّ الإمام سلام الله عليه يطلب من الله أن يهبه معالي الأخلاق وليس يعطيها له فقط؛ لأنّ الإعطاء أعمّ من التمليك؛ فإنّ الإمام سلام الله عليه عندما يقول: (هب لي)، فمعناه يا ربّ، ملّكني معالي الأخلاق واجعلها ملكاً وملَكة لي، ومالك الشيء سيّده.

إذاً، يكون معني هب لي معالي الأخلاق: ملّكني إياها، لا أن تكون عارية، فتكون مثلاً عندي فترة الغني، فإذا صرت فقيراً زالت عني، أو تكون عندي زمن الراحة أو الصحّة وإذا ضقت أو مرضت ذهبتْ عنّي، كلاّ، بل اجعل اللهم معالي الأخلاق مملوكة لي.

هذا ما ندركه نحن علي قصور فهمنا، أمّا ما يقصده الإمام المعصوم سلام الله عليه - وهو في مقام الطلب من الله تعالي - فلا شكّ أنّه أعمق بكثير مما يدركه أمثالنا.

فالهبة تعني التمليك بلا عوض. وهذا هو الحقّ في كلّ ما نطلب من الله وما يتفضّل به سبحانه علينا، فكلّ ذلك بلا عوض، ولا يستثني من ذلك أحد

حتي المعصومون سلام الله عليهم، وإلا فما عسي أن يكون العوض الذي يقدّمه العبد الفقير لله الغني؟ هل هي العبادة وهي بدورها من نِعم الله سبحانه وأفضاله. وما فرضها عليهم إلاّ لعلمه تعالي بافتقارهم إليها في الوصول إلي أرفع مراتب الإنسانية. وهكذا الحال بالنسبة للإمام السجّاد سلام الله عليه رغم عصمته وشرف مقامه من بين كلّ مخلوقات الله عزّ وجلّ، ولكن مع ذلك لا يمكنه القيام بما يعوّض به الله تعالي. فإذا قام بالعبادة فإنّما هي بفضل الله ونعمته.

ثمّ إنّ الهبة والعطية بمعني واحد في الخطّ العام ولكن الاختلاف في أنّ العطية يمكن أن تعطي لكلّ أحد، أمّا الهبة فبمقتضي لزوم القبول قد ينتزع منها معني قابلية التملّك مادامت العين قائمة، ولذلك فهي لا تشمل سوي العاقل لحضور ملكة القبول والردّ لديه؛ ومن هنا فنحن لا نهب الماء للقطة العطشي بل نعطيه لها، وهكذا الطعام الذي نقدّمه للطير مثلاً، ذلك أنّ الهبة بحاجة إلي قبول وهو بحاجة إلي عقل، وهذا لا يكون إلا في الإنسان.

الفرق بين معالي الأخلاق ومحاسنها

بعد اتضاح معني الهبة وأنّها تمليك بلا عوض، قد يُسأل: ما هو الشيء الذي يدعو الإمام فيه ربّه أن يملّكه إياه؟ أهو المال أم البيت؟ أم الزوجة والأولاد أم الرئاسة؟ الجواب: لا هذا ولا ذاك، بل إنّ الإمام يسأل الله تعالي أن يهبه معالي الأخلاق. فما هو المقصود بهاتين الكلمتين؟

«المعالي» في اللغة العربية جمع «معلاة» علي وزن «مرماة»، و «المعلاة» مصدر ميمي مع تاء التأنيث (للمبالغة)، أي أصله «معلي» وهو بمعني العلوّ، وقد أُلحقت به كلّ هذه الإضافات والتحويرات للمبالغة والتوكيد. فالعلوّ معلوم ولكن «معلي» مصدر ميميّ يفيد توكيد الصفة، لحقته تاء التأنيث كما قلنا للتوكيد أيضاً، فصارت معلاة، ثمّ

جاءت بصيغة الجمع (معالي) زيادة في التوكيد. علي أنّ استعمال المصدر بنفسه يفيد التوكيد كما هو معروف في اللغة. فالخُلق يوصف بأنّه عالٍ، فإن قيل «علوّ»، كان ذلك مبالغة وتأكيداً، ومثاله إذا أريد وصف زيد بأنّه عادل ولكن أريد التأكيد علي وجود هذه الصفة فيه أو الإشارة إلي أنّه يمثّل المراتب العليا من العدالة أو أنّه عادل حقّاً، قيل: زيد عدل، فيؤتي بالمصدر بدل اسم الفاعل، وكذلك بدل اسم المفعول لغرض التأكيد.

إذاً استعمال المصدر هنا توكيد، ثمّ المصدر الميميّ توكيد ثانٍ ثمّ لحوقه بالتاء توكيد ثالث، وصيغة الجمع توكيد رابع للأخلاق العالية.

أي أنّ الإمام يسأل الله تعالي من الاخلاق أعلي مراتبها.

وهناك توكيد خامس استعمله الإمام سلام الله عليه، وهو صيغة الجمع المضاف؛ لأنّه كما يقال: ظاهر في العموم. أي كلّ معالي الأخلاق.

ثمّ تأكيد آخر وهو الفرق الموجود بين معنيي كلمتي معالي الأخلاق ومحاسن الأخلاق. فالمفهوم الموجود في كلمة معالي الأخلاق غير موجود في محاسن الأخلاق؛ ولذلك ورد في الحديث أنّ رسول الله

صلي الله عليه وآله قال: إنّما بعثت لاتمم مكارم الأخلاق أي معالي الأخلاق؛ وذلك لأنّ الخُلق قد يكون سيّئاً وقد يكون حسناً، فالجبن مثلاً خلق سيّئ والشجاعة خلق حسن، والبخل خلق سيّئ والكرم خلق حسن، والجزع خلق سيّئ والصبر خلق حسن، وهكذا.

فالكرم مثلاً هو ندي الكفّ أي هو سبوغ الإحسان، وهكذا بالنسبة لبقية الأخلاق الحسنة، أمّا مكارم الأخلاق فهي أعلي من ذلك لأنّها تعود للنفس وتربيتها وحملها علي ملازمة الخلق الحسن؛ فإنّ النفس التي لا تتحلّي بمكارم الأخلاق قد لا تلتزم بالخلق الحسن إذا لم يوافق شهواتها وغرائزها، فالخلق الحسن ينسجم مع طبيعة صاحبه، أي يوافق غرائزه وشهواته عادة، أمّا مكارم الأخلاق فتعني الالتزام

بكلّ الخصال الحسنة، حتي عندما لا تتوافق مع الشهوات والغرائز، وخير مثال يوضّح ذلك البشاشة وعدم العبوس، فربّ شخص اتّصف بهذا الخلق أي يكون بشوشاً لأنّه يحبّ أن يكون محبوباً وممدوحاً في المجتمع، فتراه يتحلّي بهذه الخصلة لكي يحقّق رغبة من رغباته وهي المحبوبية، وهكذا الحال بالنسبة للشجاعة وغيرها. أمّا مكارم الأخلاق فلا تناغم بينها وبين الميول والرغبات بل هي عمليه ترويض للنفس وتعويدها علي فعل الخير كيفما كان، فتقول للفرد مثلاً: سلّم علي من سبّك، وهذا أمر صعب لأنّه لا يوافق رغبة الفرد وشهوته، ولذلك قد تجد ثلّة من بين كلّ ألف صائم ومصلّ وحاجّ من هو كذلك؛ ممّا يعني أنّ مكارم الأخلاق تعني إجبار النفس وترويضها علي التحلّي بالخصال الحسنة وإن كانت منافية لإرادتها ومضادّة لطبيعتها.

لذلك فإنّ الإمام سلام الله عليه يطلب في هذا الدعاء من الله أن يمنحه معالي الأخلاق أي مكارمها، ولذلك سمّي هذا الدعاء ب (دعاء مكارم الأخلاق) وليس محاسن الأخلاق.

وتأكيد آخر يكشف الفرق بين معالي الأخلاق ومحاسنها هو أنّ الإمام سلام الله عليه قدّم كلمة المعالي فقال: (معالي الأخلاق)، ولم يقل: الأخلاق العالية، أي قدّم الوصف علي الموصوف.

اللّهُمَّ صَلِّ عَلي محمَّدٍ وَآلهِ

وَلا تَرْفَعْني في النَّاسِ دَرَجَةً إلاَّ حَطَطْتني عِنْدَ نَفْسي مِثْلَها

وَلا تُحْدِثْ لي عِزّاً ظَاهِراً إلاَّ أحْدَثتَ لي ذِلَّة بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسي بِقَدَرِهَا

? بين الرفعة والعزّة والحطّ والذلّة

? العزّة الظاهرة والذلّة الباطنة

? أهمّية التوازن في النفس الإنسانية

بين الرفعة والعزّة والحطّ والذلة

لا بأس أن نذكّر بأنّ الإمام سلام الله عليه معصوم وأنّ مقام العصمة أعلي مقام يمكن أن يصله بشر، والمعصومون هم من اختارهم الله تعالي واصطفاهم ووفّقهم لبلوغ هذا المقام وهذه المنزلة، ولكن مع ذلك كلّه فإنّه حتي المعصوم ليس مستثنيً من

السير التكاملي، لأنّ العصمة وإن كانت بالنسبة لنا تمثّل أعلي مرحلة للتكامل، ولكنّها ليست كذلك بالنسبة للمعصوم، بل هو قابل للمزيد من التكامل؛ ومن هنا نستطيع أن نفهم أدعية الأئمّة المعصومين ومنها هذا الدعاء فإنّهم سلام الله عليهم إنّما يدعون الله تعالي ويطلبون منه المزيد، إضافة إلي كونهم في مقام تعليم العباد كيفية مخاطبة الربّ الجليل.

يتوجّه الإمام السجّاد سلام الله عليه في هذه الفقرة من الدعاء إلي الله تعالي ويطلب منه مطلبين هما في الغالب متلازمان. يقول الإمام: ولا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها، فما هو المقصود من الارتفاع في الناس؟ قد يُحسن الإنسان تعامله مع الناس أو يتظاهر بحسن الخلق أو يُظهر علمه، فترتفع درجته عندهم، وقد ترتفع درجته بسبب جوده وكرمه، إلا أنّ الإنسان عموماً إذا ما ارتفعت منزلته بين الناس تولَّدت في نفسه حالة من الغرور تجعله ينسي كلّ ما كان عليه سابقاً وربّما يغفل عمّا سيؤول إليه لاحقاً، فيختلّ توازنه ويهوي من حيث ارتفع؛ ولذلك ينبغي لنا أن نسأل الله تعالي بأن يصغّرنا في نفوسنا كلّما كبرنا في أعين الناس، كما يعلّمنا الإمام سلام الله عليه.

إنّ العبارات الواردة في الدعاء دقيقة جداً، فلفظة «درجة» وردت نكرة، ويقول العلماء إنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم، ومعناه: أيّ درجة أرتفع بها في الناس، فبقدرها ياربّ أنزلني عند نفسي. أي اجعلني أري نفسي نازلةً بالدرجة ذاتها، لئلاّ أصاب بالغرور ولكي أسعي للارتفاع دائماً ولا تغرّني نظرة الناس إليّ؛ لأنّني إذا اغتررت بتقييمهم وإطرائهم أو نظرتهم إليّ، تراجعتُ أو توقّفت عن الرفعة علي أقلّ تقدير.

وهذه الفقرة تدعو الإنسان للتأمّل، فما يراه من الاحترام والارتفاع في الناس قد يزول يوماً ما،

فيجدر أن لا يغترّ به ولا يرتّب عليه أثراً، لأنّ المهمّ هو أن يتسامي الإنسان في الباطن كما في الظاهر مثلما يراه الناس. ومن كان يعظّم نفسه لتعظيم الناس له تحكّم الناس في أمره، مع أنّ الإنسان المتّزن هو الذي يكون أمره بيده، والمتحكّم في نفسه يربّيها ويرفع درجتها بحسب إيمانه وتقواه، ومثل هذا الإنسان قطعاً يكون صادقاً مع نفسه، فاهماً لها، رافعاً من درجتها، سائراً بها نحو الكمال؛ ويبقي الإنسان مع هذا كلّه مفتقراً إلي الله تعالي ليعينه علي نفسه ويقيه من الزلاّت، ولذلك يعلّمه الإمام سلام الله عليه كيف يستمدّ العون منه في قوله: «إلهي ولا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها».

العزّة الظاهرة والذلّة الباطنة

العزّة الظاهرة والذلّة الباطنة

يقول الإمام سلام الله عليه بعد ذلك: ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلاّ أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها.

كمقدمة نعرض أنّه قد يكون شخصٌ عزيزاً ظاهراً، ولكنّه ذليلٌ صاغرٌ أمام الشهوات. فيزيد بن معاوية مثال واضح للذلّ الحقيقي رغم ما كان يتمتّع به من هيبة الحكومة التي انتزعها من الناس بالقوّة، ورغم العزّة الظاهريّة، أمّا الإمام الحسين سلام الله عليه فكان مثال العزّة والكرامة الحقيقية. فهو سلام الله عليه لم يرضخ لطاغوت زمانه، الأمر الذي أدّي إلي أن رُضّ جسدُه الشريف بالخيل بعد قتله، وسبي نساؤه وعياله.

ولا تناقض بين قول الإمام الحسين سلام الله عليه: هيهات منّا الذلّة وبين قول الإمام الرضا سلام الله عليه عندما يصف يوم عاشوراء وما جري فيه علي جدّه الإمام الحسين سلام الله عليه: وأذلّ عزيزنا، لأنّ كلاًّ من القولين ناظر إلي جهة، فإنّ عبارة الإمام الرضا سلام الله عليه ناظرة إلي الذلّة الظاهرية التي تحمّلها آل البيت سلام الله عليهم في

سبيل الله تعالي. أمّا عبارة الإمام الحسين فناظرة إلي الذلّة الحقيقية، المنتفية عن أهل البيت؛ ولذلك نقرأ في زيارة الإمام الحسين سلام الله عليه: لا ذليل واللهُ معزُّك ولا مغلوب واللهُ ناصرك. فكيف يكون ذليلاً من أعزّه الله؟ وكيف يكون مغلوباً من نصره الله؟ لقد تحدّي الإمام الحسين أكبر طاغوت علي وجه الأرض وتحمّل هو وأهل بيته كلّ المصائب والهوان الظاهري ولم يتنازل عن مبادئه؛ لأنّه كان يري في ذلك الذلّة الحقيقية؛ ولذلك قال: يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون. فالنزول لرأي يزيد كان من وجهة نظر الإمام هو الذلّ الحقيقي، أمّا ما تعرّض له من الهوان الظاهري وسبي وتشريد أهله فإنّه العزّة الحقيقية ما دامت في رفض الظلم والوقوف في وجهه؛ ابتغاءً لمرضاة الله تعالي.

أمّا الذلّة الباطنة التي وردت في الدعاء، فالمقصود منها تواضع النفس وليس ضعتها، فإنّ العزّة الظاهرة قد تضرّ بالإنسان وتخلّ في توازنه، فيتصوّر نفسه أعظم من غيره، فإذا صار كذلك فقد تأسّر، بنظرة النّاس.

الله وليّ كلّ نعمة

توجد في هذه الفقرة من الدعاء أربعة مطالب هي: الرفعة في الناس والحطّة في النفس، والعزّ في الظاهر والذلّ في الباطن.

وكلّ هذه الأمور ينسبها الإمام إلي الله تعالي، فلا يقول الإمام: إلهي إذا ارتفعت في الناس أو إذا رفعني الناس، بل يقول: إلهي (لاترفعني)، (إلاّ حططتني)، (لا تحدث لي عزّاً)، (إلاّ أحدثت لي ذلّة)، وهذا معناه: ياإلهي أنت الذي تعزّ وأنت الذي تذلّ، وأنت الذي ترفع وأنت الذي تضع.

حقّاً، لولا أهل البيت سلام الله عليهم لما عرفنا كيف نتكلّم مع الله عزّ وجلّ.

ولكنّ أهل البيت علّمونا أنّ الأسباب كلّها من الله سبحانه وتعالي، فإنّ رفعة الفرد بين الناس قد تكون بسبب ذكائه ومعرفته في كيفية التعامل

مع الناس عادةً لترتفع درجته، وقد تكون بسبب المال الذي يبذله، وقد تعود لأسباب أخري، ولكن كلّ ما يمكن أن يكون سبباً لحصول رفعة الشخص في الناس فهو من الله، قال تعالي: ?وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله?؛ ولذلك نري أنّ الإمام السجّاد ينسب الأمر إلي الله وليس إلي الفرد ولا إلي الناس؛ محاكياً قول الله تعالي: ?قُل اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ ممَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إنَّكَ عَلَي كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ?.

وكذا الحال مع الصفة المقابلة، أي استصغار النفس وتواضعها، أمام نعم الله تعالي؛ فإنّ الأمر وإن كان يعود في الظاهر إلي الفرد - لأنّ الذي يتمتّع بهذه الصفة يكون متحكّماً هو بنفسه والمالك لزمام أمورها بدل أن يتحكّم بها الآخرون - ولكنّه هو الآخر غير متمكّن من دون توفيق الله وتسديده وتهيئة أسباب الرشاد إليه. إذاً فالباعث الحقيقي للقوّة علي الفعل هو الله عزّوجلّ وليس الفرد.

أهمية التوازن في النفس الإنسانية

أهمية التوازن في النفس الإنسانية

إنّ النفس الإنسانية دقيقة جدّاً وسريعة التأثر إلي درجة كبيرة، فهي كالنابض الذي يهبط لأدني ضغط ويرتفع بارتفاعه بسرعة. مثاله: لو تبسّمتَ في وجه شخصٍ ما، فسوف تنبسط أساريره ويتعامل معك باتّزان، ثمّ لو عبّست في وجهه بعد ذلك، تراه يفقد وعيه ويختلّ توازنه ولا تعود معاملته لك كما كانت آنفاً، ولا يعذرك أو يحتمل وجود سبب ما لعبوسك.

ولكي يكون الإنسان مالكاً لزمام نفسه متّزناً لا يتأثّر لأدني سبب ولا يفقد توازنه بسرعة، فإنّه يحتاج إلي تسديد إلهيّ، والإمام السجّاد يطلب من الله تعالي في هذا الدعاء أن يمنحه التوازن بأعلي مستوياته؛ ولذلك يقول: ولا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها أي درجة بدرجة حتي

لا يحصل عندي أدني اختلال.

والتوازن في النفس مهمّ جدّاً، كما هو مهمّ في كلّ شيء؛ وكما أنّ أدني اختلال في توازن الأشياء قد يؤدّي إلي تحطّمها أو خرابها، فكذلك الحال مع النفس.

فالطائرة التي تحلّق في الفضاء ربما ساهم في توازنها اجتماع آلاف العوامل علي نحو الأمر الارتباطي - علي حدّ تعبير الفقهاء-. فما أكثر الأجزاء والعوامل والشروط التي لابدّ من توافرها، وما أكثر الموانع والمُخلاّت التي لابدّ من رفعها، حتي تستطيع أن تحلّق هكذا في الفضاء ولا تهوي، ولو اختلّ جزء واحد من تلك الأجزاء أو حصل مانع ما فربما تفقد الطائرة توازنها وتسقط.

والخرج الذي يوضع علي ظهر الدوابّ لحمل البضائع، فإنّه ينبغي أن يوازن بين طرفيه، فلو وُضع في أحد الطرفين ما زنته عشرة كيلوغرام، فإنّه ينبغي أن يعادل في الطرف الآخر بالوزن نفسه، وإلاّ مال الطرف الأثقل وسقط الخرج. وهكذا الحال بالنسبة لكلّ شيء.

فكلّ هذا يشير إلي أهميّة التوازن في الأمور التكوينية، وهذا ما يلمسه عامّة الناس عادة ويدركونه بسهولة.

فكذلك التوازن مطلوب في النفس وباقي الأمور المعنوية، بل هو أهمّ، لأنّ فقدان التوازن في المادّيات قد يؤدّي إلي تلف الأبدان، أمّا في المعنويات فيؤدّي إلي تلف النفوس، وبالتالي خسارة الدنيا والآخرة.

وإذا كان بدن الإنسان بحاجة إلي توازن يحفظ سلامته من أيّ اختلال قد يؤدّي إلي تلف في الكبد أو المخّ أو أيّ عضو من أعضائه الأخري، فإنّ الأمر مع النفس آكد؛ لأنّه بالنفوس تحيا الأبدان وليس العكس، وبالنفوس يصل الناس للتكامل والرقيّ وليس بالأبدان.

ولذلك يطلب الإمام من الله تعالي أن يمنحه هذا التوازن فيقول: يا إلهي بمقدار ما ترفعني في الناس، احططني بالمقدار نفسه عند نفسي. وبمقدار ما تحدث لي عزّاً ظاهرا،ً أحدث

لي عند نفسي ذلّة باطنة لئلاّ يحصل عندي أدني اختلال، ولكي أحظي باتّزان يحفظني من الهويّ والانزلاق. فإنّ هذا التعادل والتوازن الموجود في العبارات ليس من باب البلاغة وجمال التعبير فقط وإن كانت البلاغة لا تخلو منها كلمات أهل البيت سلام الله عليهم وإنّما هو الدقّة المقصودة أيضاً؛ لأنّ أدني اختلال في توازن النفس قد يؤدّي بها إلي الهلكة أخيراً.

ضرورة السعي والدعاء

معلوم أنّ الأسباب كلّها بيد الله تعالي، ولذلك نسب الإمام سلام الله عليه الرفعة في الناس، والحطّة في النفس، والعزّ الظاهر، والذلّة الباطنة كلّها إلي الله تعالي علي نحو الحقيقة، ولكن حيث إنّ الدعاء صادر من الإمام المعصوم فهو يلفت نظرنا إلي الأدواء التي قد تصاب بها النفس وسبل علاجها عبر الأدوية التي تناسبها. فالإمام هنا يخبرنا أنّ الرفعة التي تحصل للإنسان بين الناس قد تصيبه بالغرور ولابدّ له من أن يوازنها بأن لا يستعظم نفسه بل يستصغرها ويطلب من الله أن يعينه علي ذلك.

فلو قيل: إذا كان الأمر بيد الإنسان فلماذا يطلب ذلك من الله تعالي؟ وإذا كان بيد الله فما هو دور الإنسان في ذلك؟

نقول: صحيح أنّ الأسباب كلّها بيد الله ولكنّه تعالي لا يسهّلها لمن لا يطلبها بسعيه، كما لا يمكن أن ينالها الساعي بسعيه فقط لولا عناية الله تعالي له والتي تستلزم عدم فتور الإنسان بدعائه، ولذلك اقتضي الأمر المولويّ بالإجابة من خلال السعي والدعاء معاً.

إننا نؤمن ?إنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ? ولكن هذا لا يعني أن يجلس الإنسان في بيته ويكتفي بالدعاء في طلب الرزق من الله تعالي؟

صحيح أنّ الله هو الرزاق، ولكن لابدّ للإنسان أن يعمل في سبيل تحصيل الرزق، أمّا الذي لا يسعي فلا شيء له؛

لأنّ الله تعالي يقول: ?وَأنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إلاّ مَا سَعَي?.

لقد خلقنا الله في هذه الحياة الدنيا ليختبرنا ويبلونا سواء في سعينا لتحصيل الرزق المادّي أو الرزق المعنوي، فعلينا أن نبذل ما منحنا الله تعالي من طاقات للاستفادة منها في كلّ المجالات المباحة.

وصحيح أيضاً أنّ الإمام سلام الله عليه يعلّمنا أن نطلب الموازنة من الله تعالي فنسأله أن يحطّنا في أنفسنا مثلاً، أو أن يحدث لنا ذلّة باطنة كلّما رُفعنا في أعين الناس وأعززنا، ولكن مفتاح هذا الأمر بأيدينا أيضاً، وما لم نصمّم علي أن نكون كذلك فإنّ الله تعالي لا يعيننا، كما أنّنا لا نستطيع بلوغ الأمر من دون إرادة الله.

ولذلك ينبغي للعبد أن يتوجّه بالدعاء إلي الله تعالي وأن يتضرّع إليه؛ قال تعالي: ?قُلْ مَا يَعْبَأ بِكُمْ رَبّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ?، وفي الدعاء أيضاً: ولا ينجّي منك إلا التضرّع إليك.

ومن هنا يتّضح أنّ في الدعاء حثّاً للتوجّه علي الخصال الحميدة والاجتناب عن الخصال الذميمة، كما أنّ فيه إلفاتاً إلي أنّ كلّ الأمور هي بيد الله تعالي ويجب الاستعانة به والتضرّع إليه.

التأسّي بالناجحين

قبل سنوات دُعيت للصلاة علي جنازة أحد التجّار المؤمنين كنت قد شاهدته وعايشته كان شخصاً عادياً وكان يحظي باحترام جميع الطبقات بدءًا بالعلماء ورئيس الحكومة وانتهاءً بعامّة الناس؛ حتي أنّني أحببت أن أسأله مرّة - وكنت في داره - عمّا إذا كان هناك سرّ ينطوي عليه فرزقه الله هذه المحبّة والاحترام في قلوب الناس، فامتنعت وصرفت النظر، غير أنّ المعروف عنه أنّه كان رجلاً متديّناً، مؤدّباً، يشهد صلاة الجماعة ويتحلّي بكثير من الفضائل.

نقل لي بعض من يعرف تاريخه قائلاً: إنّه كان في شبابه حمّالاً ولكنّه كان يتحلّي بالأخلاق والذكاء والجدّ، فترقّي وضعه المالي تدريجياً

حتي أصبح تاجراً وصاحب نعمة، واستمرّ علي أخلاقه وتواضعه حتي بعد أن تغيّر وضعه وتحسّن، فجمع إلي جانب المال حسن الخلق والدين فكسب بذلك احترام الناس لدرجة كبيرة، حتي أنّي عندما حضرت مجلس الفاتحة الذي أُقيم علي روحه شاهدت حضوراً كثيفاً من مختلف الطبقات علماء وموظفين وكسبة وتجّاراً وشيوخاً وشباباً.

ما يلفت النظر أنّ الرجل لم يكن من العلماء ولا من الزهّاد ولا من المتميّزين في شيء سوي أنّه كان تاجراً متديّناً عاديّاً.

نقَل لي بعض أصدقائه القدامي عن أحواله فقال: كان هذا الرجل يحتفظ حتي آخر حياته بالوسيلة التي كان يحمل بها البضائع علي ظهره أيّام كان حمّالاً، ليس هذا فحسب بل كان ينظر إليها كلّ يوم قبل مغادرة البيت ويخاطب نفسه قائلاً: لقد كنتَ حمّالاً فلا تنسَ!

فهذا الرجل كان يحفظ توازنه بهذا العمل، لأنّ الله وفّقه لأن يكون مصداقاً لما ورد في دعاء الإمام السجّاد سلام الله عليه: ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي بمثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلّة باطنة بقدرها.

وهذا الأمر وإن كان صعباً في الواقع إلاّ أنّ التوفيق الإلهي يهوّنه؛ فالإنسان بحاجة إلي توفيق من الله تعالي، وحريّ بالإنسان علاوة علي ذلك أن يتذكّر دائماً أصله، ومم خُلق، ?ألَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَي?.

إنّ الإنسان إذا تأمّل في هذه الآية الشريفة وحدها وتدبّر فيها كفته ليتذكّر واقعه وحقيقته، ودعته للتواضع والسعي للعمل بمضمون ما ورد في هذه الفقرة من دعاء مكارم الأخلاق.

قال الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه: مسكين ابن آدم … تؤلمه البقّة وتقتله الشرقة، وتنته العرقة.

فكم هو ضعيف هذا الإنسان. وإذا كان ضعيفاً إلي هذه الدرجة فما الذي يدعوه للتكبّر؟ هل الثروة والمال

والسلطة والجاه أم البدن القويّ، وهذه كلّها قد تزول في لحظة.

لقد نُقل عن السيّد البروجردي رحمه الله أنّه نذر نذراً شرعياً في أيّام شبابه إن صدرت منه إهانة لأحد فإنّه يصوم سنة كاملة. وقيل إنّه صام لذلك سنة أو سنتين. هذا الأمر ليس يسيراً، خاصّة بالنسبة لشخص كالسيّد البروجردي فإنّه لم يكن شخصاً عادياً منزوياً بل كان رجلاً كثير الاحتكاك بالناس، يؤمّ المصلين ويلتقيهم في المسجد ويلقي الدروس علي الطلاب ويستمع لمشكلات الناس ويفتيهم، ومن ثمّ فإنّ نجاحه في مهمّة ضبط نفسه في هذا المجال، وعدم صدور ما عزم علي اجتنابه إلاّ نادراً، إنّما يشير إلي علوّ همّته وتوفيق الله تعالي له.

فعلينا أن ننتهز الفرص لتربية أنفسنا وتزكيتها بالعزم والمثابرة بعد التوكّل علي الله تعالي.

من الضروري الإشارة والتنبيه إلي أمر وهو أنّ كثيراً من الناس يُتعب نفسه كثيراً لغرض تزكيتها وتربيتها في المواظبة علي المستحبّات ولكنّه قد يغفل عن أمور هي من الواجبات، فلا يلتفت إليها؛ مع أنّ الالتزام بعمل الواجبات والانتهاء عن المحرّمات مقدَّم علي العمل بالمستحبّات؛ ولذلك ورد في الحديث عن الامام أمير المؤمنين سلام الله عليه: لا قرب بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض.

فمثلاً: هناك بعض الناس يتصّور أنّ ابنه أو بنته أو أخته أو من هو أصغر منه من أرحامه، عبد بل ملك له، يحقّ له أن يتصرّف تجاهه كيفما شاء، ولعلّ كثيراً من الملتزمين أيضاً هكذا حاله.

عن إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ وهو من أصحاب الإمام الصادق سلام الله عليه قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: رُبَّمَا ضَرَبْتُ الْغُلامَ فِي بَعْضِ مَا يَحْرُمُ. فَقَالَ: وكَمْ تَضْرِبُهُ؟ فَقُلْتُ: رُبَّمَا ضَرَبْتُهُ مِئَةً. فَقَال: مِئَةً مِئَةً؟ فَأَعَادَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَال: حَدَّ الزِّنَي؟ اتَّقِ اللَّهَ. فَقُلْتُ:

جُعِلْتُ فِدَاكَ فَكَمْ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَضْرِبَهُ؟ فَقَالَ: وَاحِداً. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَوْ عَلِمَ أَنِّي لا أَضْرِبُهُ إِلاَّ وَاحِداً مَا تَرَكَ لِي شَيْئاً إِلاَّ أَفْسَدَهُ. فَقَال: فَاثْنَتَيْنِ. فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ هَذَا هُوَ هَلاكِي إِذاً. قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أُمَاكِسُهُ حَتَّي بَلَغَ خَمْسَةً، ثُمَّ غَضِبَ فَقَالَ: يَا إِسْحَاقُ إِنْ كُنْتَ تَدْرِي حَدَّ مَا أَجْرَمَ فَأَقِمِ الْحَدَّ فِيهِ ولا تَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ.

إذاً ينبغي لنا أوّلاً أن نعرف حدود الواجب والحرام لنمتثل الأول ونجتنب الثاني، وبعد ذلك نسعي لعمل المستحبّ؛ لأنّه لا يقال لنا يوم القيامة: لماذا لم تؤدِّ المستحبّ الفلاني، ولكنا سنُسأل عن أداء الواجبات وترك المحرّمات. ولئن تذرّع أحدنا أنّه لم يكن يعلم، قيل له: فلِم لَم تتعلم؟

اللّهُمَّ صَلِّ عَلي محمَّدٍ وَآلهِ وَمَتِّعْني بِهُديً صَالحٍ لاَ أسْتَبدِلُ بِهِ

وَطَريقَةِ حَقٍّ لا أزيغُ عَنْها وَنِيَّةِ رُشْدٍ لا أشُكُّ فيهَا …

? الهدي الصالح وعدم الاستبدال

? الطريق الحقّ وعدم الزيغ

? نيّة الرشد والثبات عليها

الهدي الصالح وعدم الاستبدال

الهدي في اللغة يُذكّر ويؤنّث فتقول هديً صالح وهديً صالحة، وورد بالصيغتين في فصيح الكلام، وربما جاء هنا مذكّراً مراعاة لنكتة أدبية كما لو يكون مراعاةً للنسق الذي يقتضيه الترتيب.

أمّا قوله سلام الله عليه (صالح) فهو:

• إمّا باعتبار أنّ للهداية مراتب. فيكون المراد من «الهدي الصالح»: تلك المرتبة من الهداية التي تكون صالحة للداعي، أو المرتبة التي يستحقِّها؛ لأنّه لا شكّ أنّ للبشر حتي المؤمنين منهم بل الأخيار والأبرار مراتب من الهداية، ولكن لا يصحّ للإنسان أن يقتصر علي المرتبة الدنيا من الهداية، بل عليه أن يسعي لأن يجعله الله تعالي أهلاً لبلوغ مراتبها العليا. أمّا من لا يكون مستحقّاً لها، فإنّ الله سبحانه وتعالي لايمنحها إيّاه؛ لأنّه غير أهل لها، فلا تصلح له، ومن ثمّ لا يستطيع

الإنسان الصعود أعلي من المرتبة التي هو أهل لها.

• وإمّا أن يكون المراد من (الصالح) وصفاً توضيحياً أو تفسيرياً ل (هدي)، أو احترازياً - حسب الاصطلاح العلمي -.

أمّا قوله سلام الله عليه (لا أستبدل به) فهو صفة ثانية ل (هديً)، ومعناه: اللهم وهذا الهدي الصالح الذي سألتك أن تمتّعني به، فاجعله مستمرّاً دائماً معي، وليس كالوديعة التي تبقي عند الإنسان مدّة من الزمن ثمّ تُستردّ بعد ذلك. فلا يكفي أن يتمتّع الإنسان بالهدي والصلاح في بعض أوقات حياته ما لم تختتم حياته وهو كذلك، ولا يستبدل الضلالة بالهدي.

إنّ همّ الشيطان وجهده منصبّان علي هذه النقطة، وهي دفع الإنسان لأن يبدل الهدي بالضلالة، والخير بالشرّ، والصلاح بالفساد، وما أكثر من ينجح في إغوائهم!

قال الله تعالي: ?وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ?.

وقال أيضاً: ?وَقَلِيلٌ مَا هُمْ?.

والقليل هو ما يقابل الكثير، فيكون المعني أنّ كثيراً من الناس غير شاكرين.

طريق الحقّ وعدم الزيغ

الحقّ والصالح مفهومان لمصداق واحد، فهما في الذهن معنيان لكن الوجود الخارجي لهما واحد؛ فيكون قوله: طريقة حقّ من باب العطف التفسيري والتوضيحي لقوله سلام الله عليه: هدي صالح. بيد أنّه يمكن أن يكون المراد بالهدي الدين والعقيدة، وأن يكون المراد بالطريقة العادات والسنن؛ فيكون معني قوله سلام الله عليه متّعني بهدي صالح لا أستبدل به الثبات علي الإيمان والمعتقد؛ لأنّه قد لا يبقي الفرد المسلم - والعياذ بالله - علي الإيمان والإسلام بل يستبدل بالإيمان غيره ويرتدّ عن دينه، وما أكثر الذين ارتدّوا عن الإيمان والمعتقد. فمن يقرأ التاريخ يجد أنّ كثيراً من الناس قد ارتدّوا ورجعوا عن الإسلام حتي في زمن النبي صلّي الله عليه وآله، فهؤلاء لم يتمتّعوا بهدي صالح دائم بل استبدلوا الكفر به، كما كان هناك

أقوام بقوا مع الإمام أمير المؤمنينعليه السلام حتي السنين الأخيرة من عمره الشريف، ولكنّهم شهروا سيوفهم في وجهه في السنتين الأخيرتين من حياته المباركة، كالخوارج الذين مرقوا عن الإسلام وارتدّوا عن إيمانهم وزاغوا عنه وانحرفوا.

ثمّة من يزعم أنّه ملتزم طريق الحقّ، ولكن تراه يتوفّر علي عادات وتقاليد باطلة لا تتناسب مع زعمه، فمثل هذا لا يتمتّع بطريقة حقّ، وخير مثال علي ذلك ما نراه في تقاليد الزواج؛ فبعض الآباء يزوّج ابنته البالغة الرشيدة من دون أن يستشيرها. وإن أعلمها بالأمر، فلا يكون إلاّ بعد عقده وإبرامه حتي لا يبقي لها خيار بعده. وهذا خلاف السنّة، أمّا إذا تسرّع وأعطي كلمة ثمّ جعلها ترضي بعد ذلك فلا إشكال، ولكن لابدّ من رضاها علي كلّ حال.

ممّا ينقل في هذا الصدد أنّ رجلاً كان كلّما تقدّم إليه أحد في طلب ابنته للزواج رفضه، حتي تقدّم إليه أحد الأشخاص فوافق عليه، فقال ذلك الشخص له: هل أري أنّك أعطيتني كلاماً عليها وانتهي كلّ شيء؟ قال الأب: نعم. قال الخاطب: هلاّ تسأل البنت؟ قال: هذا لا يعنيها، إنّما أمرها يعود إليّ!

ولا تقتصر الطرق الباطلة علي المحرّمات والواجبات بل تصدق في المستحبّات والمكروهات أيضاً؛ ولذلك ينبغي للمسلم أن يكون علي طريقة حقّ فيهما أيضاً؛ ومثاله: البدء بالتحيّة والسلام، فتري بعض الأشخاص لا يسلّم علي أحد أبداً، وإذا سلّم عليه أحد اكتفي بالردّ عليه متكلّفاً، أمّا هو فلا يبدأ أحداً بالسلام ترفّعاً واستكباراً!!

إذن يمكن أن يكون المراد من قول الإمام سلام الله عليه هدي صالح: الإيمان الصالح، والمراد من «طريقة حقّ»: السنن الصحيحة، كما يمكن أن يكون الثاني عطفاً تفسيرياً للأوّل.

وعلي كلّ حال، فإنّ المهمّ في الأمر هو الثبات علي الهدي الصالح

وطريق الحقّ؛ ولذلك قال الإمام سلام الله عليه: وطريقة حقّ لا أزيغ عنها. فما أكثر الذين كانوا علي طريقة الحقّ ولكنّهم لم يستمرّوا عليها؛ إمّا نتيجة مشكلات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية أو تأثّراً بغيرهم. وفي كلّ الأحوال لا ضمان لأيّ أحد بالثبات علي طريقة الحقّ إلاّ بالدعاء والاستعانة بالله تعالي والسعي أيضاً؛ فالأمر بحاجةٍ إلي دعاء وخشوع وتضرّع، إضافة إلي السعي والجدّ.

ما يلفت النظر أنّ الإمام سلام الله عليه كان في الفقرات السابقة من الدعاء يعزي تغيّر الحالات كلّها لله تعالي، مثل قوله: ولا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلاّ أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها إلا أنّه سلام الله عليه في هذه الفقرة من الدعاء نسب الجانب السلبيّ (أي الاستبدال والزيغ والشكّ) للإنسان نفسه، فقال: ومتّعني بهدي صالح لا أستبدل به، وطريقة حقّ لا أزيغ عنها، ونيّة رشد لا أشكّ فيها، فما هو السبب في ذلك؟

إنّ الله تعالي هو مسبّب الأسباب كلّها؛ ولذلك فكلّ فعل يصدر من الإنسان يكون منسوباً إلي الله تعالي من هذه الجهة؛ قال الله سبحانه: ?وَإنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ. قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ?. ومن ثمّ فإنّ نسبة فعل الخير وما يصيب الإنسان من حسنات، إلي الله تعالي، وإن كان بفعل الإنسان وإرادته فإنّما هو من جهة التوفيق الإلهي، فلولاه لما كان الخير يصيب الإنسان مطلقاً، ولكن حيث إنّ الإنسان هو الذي يهيّئ السبب باختياره، وإنّ الله يغيّر حال الإنسان تبعاً لاختياره، فإنّ صدور الشرّ وما يصيب الإنسان من سيئة ينسب للإنسان نفسه؛ لأنّ الله تعالي

يخلّيه وهوي نفسه في حبّ الشرّ وإتيانه. قال تعالي: ?مَا أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِك? ومن هنا نفهم معني نسبة الضلالة إلي الله في قوله تعالي: ?وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ? ونسبتها إلي الإنسان في آيات أخري، في حين نُسبت الهداية إلي الله تعالي وحده كما في قوله تعالي: ?إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ?، والسبب كما قلنا يعود للإنسان الذي جعله الله تعالي مختاراً ليختار أحد الطريقين، قال تعالي: ?وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن?. فرغم أنّ الله تعالي قد منح الإنسان حقّ الاختيار، إلاّ أنّه نسب تيسير الخير والشرّ معاً إليه سبحانه؛ كما أنّ الأب الذي يعطي ابنه نقوداً وينصحه أن يصرفها في سبيل الخير ويحذّره من طرق الشرّ، ثمّ يخيّره ولكن الابن لا يعمل بوصيّة الأب ونصْحه، فينفق النقود في طريق الشرّ، فإنّ الأب لا يكون مسؤولاً عن تصرّف الابن، ومع ذلك يقول له: أنا المسبّب لما عملته لأنّني مكّنتك وخيّرتك.

إنّ الله تعالي مكّن الإنسان من فعل الخير أو الشرّ، ومنحه حقّ الاختيار، وفي الوقت نفسه شجّعه علي فعل الخير والإقلاع عن الشر، كما دعاه للتوبة، فأرسل إليه الأنبياء والكتب، وجعل الأئمة الذين يهدونه ويعلّمونه، وكان من جملة تعاليمهم هو الدعاء إلي الله تعالي وطلب الثبات منه.

نية الرشد والثبات عليها

نية الرشد والثبات عليها

لقد طلب الإمام سلام الله عليه من الله تعالي الهدي الصالح وهو الإيمان والمعتقد الحقّ، وعدم الاستبدال به، وطلب الطريقة الحقّة وهي العادة والسنّة الصحيحة، وعدم الزيغ عنها. ثمّ طلب نيّة الرشد وهي إطارهما، فربما تكون الظروف والأجواء بحيث يكون الهدي الصالح وطريقة الحقّ هما الغالبان، فينضمّ إليهما أغلب الناس كما حدث أثناء فتح مكّة حيث قال

تعالي: ?إذَا جَاءَ نَصْرُ الله ِ وَالْفَتْحُ وَرَأيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللهِ أفْوَاجاً?، لأنّ الدخول في الإيمان سهل والكفّة الدنيوية الراجحة بيد أهل الحقّ، ففي مثل هذه الحالة لا تعرف حقيقة النوايا، لدي تلك الأفواج، خلافاً للاطمئنان الحاصل من صدق نوايا أولئك الذين أسلموا في مكّة المكرّمة عندما كانت بيد المشركين رغم تعرّضهم لشتّي صنوف العذاب؛ ولذلك يقول الله تعالي: ?لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْح وَقَاتَلَ?.

كيف نحصّن نيّاتنا؟

أسند الإمام سلام الله عليه طلبه هذا بطلب آخر يؤمّن علي المعتقد فقال: نيّة رشد لا أشكّ فيها، والشك في النيّة مسألة مهمّة جداً تتطلّب انتباهاً كبيراً من الإنسان؛ لأنّ الشيطان يركّز كلّ جهوده عليها من أجل أن يزلّ الإنسان ويحرفه عن الهدي الصالح والطريقة الحقّة. ولكي ندرك أبعاد حملة الشيطان علينا، فلنتأمّل في الآية التالية فهي تحكي عزم إبليس وإصراره علي إغواء البشر، وهو يقسم لله تعالي، علي ذلك؛ كما حكاه القرآن الكريم: ?ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ? أي لا أدعهم يصلون إليك بل أقف في طريقهم، فكلّما أتوك من جهة واجهتهم منها حتّي أصرفهم عنك، ومن لا تنفع معه المصارحة أي الإتيان من أمام أتيته من خلف، أي ألبست له الحقّ بالباطل، أو قلت له: انظر إلي فلان وفلان ارتكب كذا وهو أعظم منك شأناً أو أحسن منك حالاً ومعاشاً.

فلنكن علي حذر من ألاعيب الشيطان الرجيم وأساليبه، ونطلب من الله تعالي نيّة الرشد والثبات عليها.

في مقابل هذا، جعل الله تعالي لنا العروة الوثقي إن تمسّكنا بها لم نزِغ ولم ننحرف أبداً، ذلكم هو القرآن الكريم وعترة النبي صلّي الله عليه وآله، فهما السنام

الأمثل والمعيار الحقّ الذي نعرف من خلالهما - أي بتمسكنا والتزامنا بهما وعدم الابتعاد عنهما - عدم انحرافنا عن الطريقة الحقّة وعدم استبدالنا شيئاً بالهدي الصالح والطريقة الحقّة، فلا نشكّ في نيّاتنا البتّة.

قال رسول الله صلّي الله عليه وآله: أيّها الناس إنّي تارك فيكم الثقلين، قالوا: يا رسول الله و ما الثقلان؟ قال: كتاب الله و عترتي أهل بيتي، فإنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض كإصبعيّ هاتين - وجمع بين سبّابتيه - ولا أقول كهاتين - وجمع سبّابته والوسطي - فتفضل هذه علي هذه.

فههنا نكتة جديرة بالتأمّل، وهي أنّ الناس - عادةً - إذا أرادوا وصف شيئين بأنّهما لن يفترقا مثّلا لهما بجمع السبّابة والوسطي، ولكنّا نلاحظ أنّ الرسول صلّي الله عليه وآله جمع بين سبّابتيه، فلماذا فعل ذلك؟

لقد أراد صلّي الله عليه وآله أن يبيّن إضافة إلي أنّهما لن يفترقا أنّهما عدلان، وبما أنّ الوسطي أطول من السبابة قليلاً فلم يجمع بينهما، بل جمع صلّي الله عليه وآله بين سبّابتيه، الأمر الذي يدلّ علي أن القرآن الكريم وأهل البيت سلام الله عليهم عِدْلان.

أهل البيت هم المعيار لمعرفة الحقّ

قال رسول الله صلّي الله عليه وآله: عليّ مع الحقّ والحقّ مع علي، يدور معه حيثما دار. إنّ إخبار رسول الله صلّي الله عليه وآله بأنّ عليّاً مع الحق، يلزم منه أنّ الحقّ معه أيضاً؛ هذا ما يفيده قياس المساواة، فلو كان عمرو مع زيد، فهذا يعني أنّ زيداً مع عمرو أيضاً، ولكن الرسول صلّي الله عليه وآله أراد بذلك التأكيد ومزيد الإلفات.

هنا أيضاً نكتة أخري جديرة بالالتفات، وهي أنّ الرسول صلّي الله عليه وآله قال: يدور معه حيثما دار ولم يقل: يدور حوله. وذلك

في بيان لكشف العلاقة بينه سلام الله عليه وبين الحقّ كعلاقة القميص بمتقمّصه، فكيف أنّ القميص يدور حيثما دار لابسه، كذلك الحقّ مع أمير المؤمنين عليه السلام. وبهذا أراد النبي صلّي الله عليه وآله أن يقول: إنّ عليّاً هو ميزان الحقّ ومعياره؛ ولذلك فإنّ الحقّ يدور مع علي، وليس العكس. فهذه نكات بليغة ينبغي لنا أن نتوقّف عندها، لعلّنا نكتشف بعض مضامينها الرائعة؛ حيث المتبادر إلي فهمنا من خلال هذا الحديث هو أنّ الأشخاص مهما عظموا لا يمكن أن يكونوا معياراً للحقّ أبداً، باستثناء أهل البيت سلام الله عليهم.

فأهل البيت سلام الله عليهم هم العروة الوثقي التي لا انفصام لها، ولا يشاركهم في ذلك غيرهم بالغاً ما بلغ، لأنّهم الأئمّة المعصومون، وقد جعلهم النبي صلّي الله عليه وآله عدلاً للقرآن، ومعياراً لمعرفة الحقّ، فالآخرون يعرضون علي هذا المعيار، ليعرفوا إن كانوا علي حقّ أم لا، أمّا أهل البيت صلوات الله عليهم فلا يعرضون علي أحد؛ لا يقاس بآل محمّد من هذه الأمّة أحد.

دخل الحارث الهمداني علي أميرالمؤمنين عليه السلام في نفر من الشيعة وقال: نال الدهر يا أمير المؤمنين منّي، وزادني أواراً وغليلاً اختصام أصحابك ببابك، قال سلام الله عليه: وفيم خصومتهم؟ قال: فيك وفي الثلاثة من قبلك، فمن مفرط منهم غالٍ، ومقتصد تال، ومن متردّد مرتاب، لا يدري أيقدم أم يحجم! قال سلام الله عليه: قدك فإنّك امرؤ ملبوس عليك؛ إنّ دين الله لا يعرف بالرجال بل بآية الحق، فاعرف الحقّ تعرف أهله.

وهذه كلمة يخضع لها التاريخ ويجدر أن يقف لها حتي أعداء الإمام سلام الله عليه إجلالاً، فما أبلغها وأغناها، إنّ حياة كلّ إنسان واعٍ من بدايتها إلي نهايتها رهينة هذه الكلمة الخالدة.

فمن

عرف الحقّ وهو ما صرّح به الرسول صلّي الله عليه وآله في حديثه المتواتر: إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً لا يتزلزل إيمانه بعد ذلك وإن تغيّر زيد من الناس أو عمرو، أو رأي رجالاً انحرفوا وكانوا قبل ذلك صالحين قضوا أعمارهم في الصلاح ثمّ انحرفوا في آخر ساعة من حياتهم.

فإن لم نتّخذ أهل البيت سلام الله عليهم ملاكاً وعروة فلا ضامن لنا من الاستبدال، لأنّ عدوّنا متخصّص في الإغراء والإغواء، ومتفرّغ لنا ولا شغل له غير ذلك، ولا مشكلة عنده تلهيه عنّا، وهو يجري من ابن آدم مجري الدم في عروقه.

ولكن الله الحكيم قد جعل لنا أئمّة أهل البيت سلام الله عليهم وأمرنا بالاعتصام والتقوّي بهم علي الشيطان وتسويلاته.

فلنتمسّك بهم ونزن مواقفنا بمعاييرهم، لنضمن استقامتنا وثباتنا، ونؤوب إلي الحقّ والهدي أبداً.

لقد التحق بالإمام الحسين منذ اليوم الأوّل لخروجه من مكّة تجاه العراق، جموع غفيرة من الناس، وكان هؤلاء الذين التحقوا به جميعهم مسلمين، مصلّين صائمين، بل عرّضوا أنفسهم للخطر؛ لإيمانهم بإمامة الحسين، ولكن كم بقي منهم في اليوم العاشر؟

ذكرت المقاتل أنّه لم يبقَ مع الإمام سوي اثنين وسبعين، فيما انهزم الباقون. وهذا معناه أنّه هرب أكثر الذين جاءوا مع الإمام الحسين عليه السلام. وهذا نوع من الاستبدال والزيغ. إذن ما الضمانة في أن لا نزيغ ولا نستبدل بالهدي الضلال؟

لا ضمانة إلا الدعاء والسؤال من الله بنبيّه وأهل بيته سلام الله عليهم، مع المواظبة من قبل أنفسنا نحن أيضاً.

قد يخدع الشيطان الإنسان بأهون شيء فيبتاع منه دينه. إنّ كلّ شيء يمكن أن نُخدع به في هذه الدنيا لا يستحقّ أن نساوم به علي ديننا، فإنّ الدنيا كلها لا تساوي عند

الله جناح بعوضة، ولا فرق بين المليار والفلس الواحد من المال الحرام إلا في الحجم.

روي أنّ معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتي يروي أنّ هذه الآية ?ومِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلي ما فِي قَلْبِهِ وهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ وَ إِذا تَوَلَّي سَعي فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ويُهْلِكَ الْحَرْثَ والنَّسْلَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ? نزلت في علي عليه السلام، وأن الآية الثانية ?ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاةِ اللَّهِ? نزلت في ابن ملجم، فلم يقبل، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل أربعمائة فقبل. ولكن مهما كان المبلغ الذي أخذه سمرة فهو خسر علي كلّ حال.

لقد مات أبو ذر رحمه الله وهو جائع بينما كان يمكنه أن يخلّف الملايين كما خلّف صاحبه عثمان بن عفان.

لقد كان أبو ذر وعثمان يحضران معاً محاضر رسول الله صلي الله عليه وآله طيلة عشرين عاماً ويصلّيان معاً خلف رسول الله صلّي الله عليه وآله، وشاهداه معاً تأتيه الأموال ولكن أبا ذر يموت جوعاً، والآخر يخلّف ما سمعت. فالنبي الأكرم عندما أوشك أن يدعي قال لعلي: يا علي أنت قاضي ديني. فمات صلّي الله عليه وآله مديناً ليهودي قد رهن عنده درعه صلّي الله عليه وآله؛ وهكذا كان أبو ذر في متابعته لسيرة رسول الله صلّي الله عليه وآله لم يستبدل به كما فعل غيره. نسأل الله تعالي الثبات علي الهدي والحقّ والرشد.

اللّهُمَّ لا تَدَعْ لي خَصْلَةً تُعَابُ مِنّي إلاَّ أصْلَحْتَها، وَلاَ عَائِبَةً أؤنّبُ عَلَيهَا إلاَّ حَسَّنْتَهَا، وَلاَ أكْرُومَةً فِيَّ نَاقِصَةً إلاَّ أتمَمْتَها.

? الحذر من كلّ أنواع العيوب وإصلاحها

? الفرق بين العيب والعائبة والنقص

?

الورع وترويض النفس

الحذر من كلّّ أنواع العيوب وإصلاحها

الحذر من كلّّ أنواع العيوب وإصلاحها

قد تكون في الإنسان خصلة ولكنّه لا يعلم بوجودها، وقد يعلم بها ولكنّه لا يعلم أنّها عيب يوجب التعيير، وقد يعلم بها ويعلم أنّها عيب ولكنّه قاصر عن إصلاح نفسه والتخلّص منها، وقد يكون مقصّراً.

والمثال علي ما تقدّم هو الجهل، فإنّ الإنسان يعاب عليه. ولكن قد يكون جهله عن قصور، لأنّه لم يسعه أن يتعلّم، وقد يكون مقصّراً، كما لو أمكنه التعلّم ولكنّه تلكّأ عن الأمر؛ فعلي أيّ من هذه الحالات يعاب؟ الجواب: يعاب عليها كلّها؛ لأنّ الإنسان لا يعاب علي التقصير فقط، بل قد يعاب علي القصور أيضاً، كما أنّه لا يعاب علي شيء يعلم أنّه عيب فقط، بل قد يعاب علي شيء لا يعلم بوجوده، ولذلك يقول الإمام: لا تدع خصلة تُعاب منّي. والمقصود أيّة خصلة، لأنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم كما هو معلوم.

وقد يكون العيب شرعياً كارتكاب الحرام والمكروه، أو عرفياً أو أخلاقياً مثل العجلة وعدم التأنّي، والغضب، والتكاسل وما أشبه، فالمفهوم يشملها جميعاً، ومن ثمّ تكون مشمولة للدعاء والطلب من الله بأن يصلحها مهما كان نوعها وفي أية حالة كانت. فإنّ الإمام لم يقل: (تعيبها منّي) بل قال: تُعاب منّي. وصيغة المبنيّ للمجهول تعطي سعة من ناحية الفاعل، فيكون معني قول الإمام: اللهم أصلح أيّة خصلة تُعاب منّي، سواء كان التعييب شرعياً أم عرفياً، وفي أية حالة اتّصفتُ بها، سواء أكنت جاهلاً بها وبكونها عيباً أم لا.

العيوب العرفية من منافيات العدالة

ورد في صحيحة عبد الله بن يعفور، أنّ الإمام الصادق سلام الله عليه فسّر العدالة بقوله: والساتر لجميع عيوبه.

وعندما يأتي الفقهاء المشهور منهم إلي تعريف العادل يقولون: أن يكون تاركاً للمحرّمات ولمنافيات المروءة.

فترك المحرّمات واضح، أمّا تركه لمنافيات المروءة فقد استفادوه من

مضمون قول الإمام سلام الله عليه: أن يكون ساتراً لعيوبه، ففهموا أنّ مراد الإمام ليس العيوب الشرعية فقط، بل العيوب العرفية أيضاً، ولذا قالوا إنّ العادل هو الذي يترك المحرّمات ومنافيات المروءة أيضاً.

لقد اعتبر الشرع العيوب العرفية نقائص، وأوصي بالتخلّص منها. وخير مثال علي ذلك رفضه للباس الشهرة، وأورد الفقهاء هذه المسألة في كتاب الصلاة في باب لباس المصلّي، وفي مواضع أخري أيضاً.

ومن الفقهاء من أفتي بحرمة بعض المستحبّات إذا صارت مدعاة للسخرية من عاملها. وهذه مسألة مختلف فيها طبعاً، ولا تشمل الواجبات والمحرّمات؛ لأنّ أحكام الله تعالي لا تتغيّر بسبب سخرية الناس. أمّا المستحبّ الذي قد يقال بتركه في حال حصول السخرية فإنّ ذلك لا يعدّ تغييراً لحكم الله تعالي وتعطيلاً له، بل إنّه يُترك من باب استلزامه لإرتكاب حرام، وهو تعريض النفس للسخرية والإهانة؛ فإن ذلك حرامٌ، فإذا دار الأمر بين المستحبّ والحرام فلا شكّ يكون ترك الحرام مقدّماً علي الإتيان بالمستحبّ؛ إذ لا إلزام في المستحبّ، بينما هناك إلزام بترك الحرام.

الحذر من القصور ومن الجهل المركّب

قد تكون عند الفرد خصلة أو خصال يعاب عليها شرعاً أو عرفاً ولكنّه لا يعلم بوجودها أو بأنّها معيبة، وهذا من الجهل، ويعدّ صاحبها قاصراً؛ فربّما ينتبه المرء بعد خمسين سنة أو أقلّ أو أكثر إلي أنّه كان مبتلي بخصلة معيبة طيلة العقود الماضية من عمره، فيندم ويتألّم، وحقّ له ذلك، لأنّ القصور والجهل بالعيب ليس مانعاً من الحسرة والندامة.

فمثلاً لو أنّ شخصاً حجز علي السفر بالطائرة وأُخبر أنّها تقلع في ساعة كالتاسعة، وظنّ أنّها التاسعة مساءً، ولم يذهب إلي المطار حتي العصر، رغم أنّه لم يكن قد تأخّر بسبب أمر مهمّ شغله، بل لأنّه كان يتصوّر أنّ ساعة الإقلاع هي

التاسعة بعد الظهر، وعندما ذهب إلي المطار تبيّن له أنّ الطائرة قد أقلعت بالفعل في التاسعة صباحاً، وأنّ من أخبره بساعة الإقلاع غفل أن يذكر له أنّ الإقلاع يكون في التاسعة صباحاً بل قال له التاسعة وحسب، فظنّها مساءً. فهل هذا الشخص لا يلوم نفسه ولا يتألّم، خاصّة لو فاته موعد مهمّ أو مسألة مهمّة بسبب جهله وغفلته؟ لاشكّ أنّه سيتألّم ويري أنّه كان عليه التأكّد قبل ذلك.

إذاً علينا أن ننتبه جيّداً ونحذر من الوقوع في الجهل والغفلة والقصور فضلاً عن التقصير، ونشعر بأهمّية النصيحة والنقد البنّاء الموجّه لنا، ونشكر من يدلّينا علي عيوبنا لإصلاحها، ونكون طيّعين مع الناس في تعاملنا معهم لنشجّعهم علي أن يهدوا إلينا عيوبنا.

ولنا في علمائنا أسوة

كان الشيخ محمد طه نجف قد فقد بصره أواخر عمره، وله قصّة أذكرها باختصار؛ لأنّ علي طالب العلم بل علي الإنسان المؤمن عموماً - أن يستلهم الدروس من قصص هؤلاء الأعاظم، وينظر هل سيتّخذ الموقف المشابه لمواقفهم إن عرضت له حالة مماثلة أم لا. يقول الشيخ:

بدَرَ في ذهني يوماً تساؤل مفاده: كيف أضمن أن يكون كلّ ما أقوم به من أعمال مطابقاً للموازين الشرعية الواقعية؟ حيث كنت أخشي مثلاً أنّي قد أعطيت ما لزيد لعمرو، أو حكمت بوقفية ملك وحرمت أصحابه الشرعيين منه أو العكس، فستطول حسرتي، فماذا ينبغي لي أن أعمل لكي أتخلّص من هذا الهمّ، وفكّرت مع من أطرح هذه القضية، هل أطرحها علي بعض العلماء الموجودين في النجف الأشرف، ولكنّي أجبت نفسي بالقول إنّ أيّاً منهم لا يشفي غليلي لأنّه مثلي يعرف نفس الأدلّة المتداولة التي أعرفها وهي الكتاب والسنّة والعقل والإجماع، ولو طرحت إشكالي علي أيّ منهم لأجابني بالجواب الذي أعرفه أيضاً، وهو:

إنّ الواجب استفراغ الجهد وإنّ أحكامنا ظاهريّة، وهكذا.

هذا مع العلم أنّ الشيخ كان حينذاك مرجعاً للتقليد والفتوي والحلّ والفصل وقبض الأموال ودفعها ونصب المتولّين في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلي غير ذلك. ولاشكّ أنّه كان يراعي في تلك الأعمال كلّ الموازين الشرعية التي يعرفها وكان محتاطاً فيها، وكانت صحيحة حسب ما تقوده الأدلّة، ولكنّه رغم ذلك كان يخشي أن ينكشف له بعد الموت أنّ بعضها كان باطلاً بسبب قصوره، وإن كان معذوراً لأنّه لم يكن مقصّراً في استفراغ الجهد للوصول إلي وظيفته الشرعية وتكليفه كمرجع. يقول الشيخ:

فقرّرت التوسّل بالإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، ومرّت مدّة طويلة لم تنقطع توسّلاتي بالإمام سلام الله عليه ولكنّي لم أحصل علي نتيجة أو جواب، ولو بصورة غير مباشرة، كأن يحصل في داخلي نور أو ألتفت إلي شيء أو أحدٍ فأفهم أنّ أعمالي صحيحة فأطمئنّ، أو ليست صحيحة فأتوقّف، ولكنّي لم أقطع الأمل من الإمام فتوسّلت للمرة الثانية والثالثة والعاشرة والعشرين والخمسين والمئة … ولا نتيجة!

فقلت مع نفسي: لعلّ هناك مصلحة في التأخير؛ فلا ينبغي أن أيأس بل اللازم أن أواصل الدعاء والإلحاح في الطلب، وبقيت علي ذلك زماناً حتي أصِبت بلَوعة. وفي أحد الأيّام وعندما كنت علي عادتي في روضة الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه عند ضريحه المقدّس، خاطبته عاتباً: سيدي لقد طال توسّلي بكم ولم تجيبوني، وأنا لم أطلب منكم المال لأنّي تعلّمت من رواياتكم أنّ من يريد شيئاً فعليه أن يطلبه من مظانّه، وعلي طالب المال أن يتاجر، كما أنّي لم أطلب العلم الظاهري، فإنّي أعرف جوابكم لمسألتي حسب العلم الظاهري، وهو أنّ عليك أن تذهب وتتعلّم حتي تزداد علماً، ولم أطلب منكم شفاء مرض

في بدني، لترشدوني إلي طبيب يعالجني أو تمنّوا علي بالشفاء، سوي أنّ لي حاجة لا يستطيع قضاءها إلا أنتم أهل البيت، فلقد أفنيت عمري علي أعتابكم أدرس أحاديثكم، واليوم وقد مرّت عليّ ثلاث سنوات أطلب فيها منكم جواباً لسؤالي لأعرف هل أنا مرضيٌّ عندكم؟ ولم أحصل علي جواب منكم؟!

تأثّرت كثيراً حتي لقد أصابتني حمّي شديدة وعدت إلي البيت ولم أستطع تناول العشاء، وكنت ما زلت رغم إحساسي بالعارضة والإعياء، أعيش حالة التضرّع والتوسل إلي الله تعالي وكان دعائي يخرج من القلب وليس من اللسان، حتي غلبني النوم، فرأيت في عالم الرؤيا الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه وقال لي: أطلب حاجتك من ابني المهدي عجّل الله تعالي فرجه الشريف.

فاستيقظت وتذكّرت أنّه كان ينبغي لي من البداية أن أتوجّه بحاجتي إلي الإمام المهدي عجّل الله تعالي فرجه الشريف لأنّه إمام عصرنا، فتوجّهت إليه بالزيارة والدعاء، ولم تمرّ عليّ ثلاثة أيّام حتي حضر عندي شخص ظننت بعد ذهابه أنّه إمامي الحجّة عجّل الله تعالي فرجه الشريف، سألني أسئلة فأجبته عليها والقصّة مفصّلة إلي أن التفت إليّ وقال: أنت مرضيّ عندنا.

صحيح أنّ الشيخ كان معذوراً لأنّه لم يكن مقصّراً، ولكن هل يُعطي المعذور ما يُعطي البصير العارف المطيع الممتثل من الدرجات؟

فإذا كان الشيخ طه نجف قد بلغ درجة بحيث تشرّف بلقاء الإمام عجّل الله تعالي فرجه الشريف وسمع منه هذا الكلام، فعلينا أن نراجع أنفسنا مخافة أن نكون مبتلين بخصال نعاب عليها فتحول بيننا وبين درجة القرب من الإمام المهدي عجّل الله تعالي فرجه الشريف.

فربّ خصال معيبة فينا ولا نعلم بها أو نعلم بوجودها ولكنّا لا نعلم أنّها معيبة، نسأل الله تعالي أن يخلّصنا منها، وأن نكون -

قبل ذلك - أهلاً لإجابة الدعاء؛ لأن هناك شروطاً كثيرة لابدّ أن تتوفّر في الداعي حتي يكون أهلاً لأن تستجاب دعوته، وقد عدّ السيّد ابن طاووس ستة عشر شرطاً لاستجابة الدعاء؛ فربّ شخص لا توجد مصلحة في إجابة دعوته، الأمر الذي أفصح عنه الإمام الحجّة عجّل الله تعالي فرجه الشريف فيما ورد عنه في دعاء الافتتاح من قوله: ولعلّ الذي أبطأ عنّي هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور.

لنكسب رضا إمامنا عجّل الله تعالي فرجه الشريف

ويلزم أن نعمل ونسعي لكسب رضا إمامنا المهدي المنتظر عجّل الله تعالي فرجه الشريف وأن نكون من الممتثلين لأوامره في عصر غيبته أيضاً؛ لأنّ أوامره هي أوامر آبائه الطاهرين وأوامر جدّه الرسول الكريم صلّي الله عليه وآله وأوامر الله تعالي.

صحيح أنّ القيام بالطاعات والانتهاء عن المعاصي والصبر عليها ليس بالأمر السهل دائماً، ولكن من دون ذلك لا يتحقّق رضا الإمام عجّل الله تعالي فرجه الشريف ولا تستجاب الدعوات.

فلابدّ للمؤمن أن يخصّص وقتاً من كلّ يوم للاستغفار ومحاسبة النفس؛ لئلاّ يتعدّي حالة القصور إلي التقصير والعياذ بالله؛ فقد تصدر من الإنسان معصية ولكنّه لا يلتفت إليها وتفوته إمّا لحسن ظنّه بنفسه أو لكثرة مشاغله أو إنسائه الشيطان فهذا ديدن الشيطان، فكيف يقدر الإنسان أن يقاوم إن لم يحاسب نفسه كلَّ يوم، كما أوصي بذلك الأئمة الأطهار سلام الله عليهم. فثمّة روايات مستفيضة في هذا الباب، منها ما روي عن الإمام أبي الحسن الماضي سلام الله عليه: ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم …

فلابدّ للمؤمن أن يكون يقظاً حذراً دائماً ويسعي لرفع الحواجز عن حوله، وأن يكون دعاؤه من الأعماق، وليس من الذين يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم أو الذين يقرأون القرآن والقرآن يلعنهم.

أو من الذين

يغمضون أعينهم في كسب المال ولا يعيرون اهتماماً في كيفية كسبه كما كان حال ذلك الذي قال للإمام: … وأغمضت …

فعلينا أن نكون يقظين حذرين ناشدين رضا الإمام الحجّة عجّل الله تعالي فرجه الشريف، وعلينا التأسّي بعلمائنا الأبرار رضوان الله عليهم في هذا المجال.

كان الميرزا حسين الخليلي والسيّد إسماعيل الصدر رحمهما الله من تلاميذ المجدد الشيرازي رضوان الله عليه، وكلاهما بلغا مقام المرجعية الدينية، وكانا أيّام درسهما علي السيّد المجدّد زميلين يتباحثان معاً. واتّفق في إحدي الليالي أن بات السيّد الصدر عند الشيخ الخليلي، فأيقظه الشيخ ساعتين قبل الفجر ودعاه للذهاب إلي حرم الإمامين العسكريّين سلام الله عليهما، قال السيّد الصدر: ولكن باب الصحن مسدود في مثل هذا الوقت. فقال الشيخ: لا عليك، سيفتحونها عندما نصل.

وبعد أن أدّيا نوافل الليل في الروضة المقدّسة، قال الشيخ: لنذهب إلي السرداب المقدّس لزيارة الإمام الحجّة عجّل الله تعالي فرجه الشريف ثمّ نعود بعد الأذان إلي الروضة المقدّسة لأداء فريضة الصبح.

قال السيّد في جوابه: لكن السرداب مغلق الآن. فأجابه الشيخ: لا بأس نزور الإمام من عند الشباك المطلّ علي السرداب، والموجود في صحن الإمام الهادي سلام الله عليه.

وبالفعل ذهبا عند الشبّاك وشرعا بزيارة الإمام المنتظر عجّل الله تعالي فرجه الشريف، وكانت أضوية السرداب مطفأة، ولم تكن المصابيح الكهربائية موجودة في ذلك الزمان، بل كانت المصابيح النفطية أو الشموع.

يقول السيّد الصدر: لقد لاحظت أثناء زيارتي نوراً لا يشبه نور المصابيح متنقّلاً في السرداب؛ ففركت عيني لاحتمال أن يكون قد غشيني نعاس أو خيال وما أشبه، إلاّ أنّي كنت متأكّداً من رؤيتي للنور وهو يتحرّك داخل السرداب، وكان ضوءه أنور من ضوء المصابيح.

يقول السيّد: أخبرت الشيخ بذلك فقال: هذا النور هو

الذي أيقظني وهو الذي يأتي بي كلّ ليلة إلي هذا المكان.

الفرق بين العيب والعائبة والنقص

في هذه الفقرات الثلاث نري أنّ الإمام السجّاد سلام الله عليه يسأل الله تعالي ثلاث حاجات، ولكنّه في سؤاله عن كلّ حاجة يستعمل كلمة غير التي يستعملها في السؤال عن الحاجة الأُخري، فمع أنّ الإمام يطلب من الله تعالي في هذه الفقرات إصلاح الحال وما تنطوي عليه النفس من نقائص، وتغييرها إلي ما هو أحسن، ولكنّه يعبّر عن النقص الأوّل بالخصلة المعيبة ويطلب من الله تعالي إصلاحها، ويعبّر عن النقص الثاني بالعائبة التي يؤنّب بسببها ويسأل الله تعالي تحسينها، ويعبّر عن النقص الثالث بنقصان الأكرومة ويطلب من الله تعالي إتمامها.

فالخصلة التي تعاب بحاجة إلي إصلاح، والعائبة التي يؤنّب بسببها المرء ويلام تحتاج إلي تحسين، والأكرومة الناقصة تتطلّب إتماماً.

ولا شكّ أنّ الألفاظ التي استعملها الإمام تنطوي علي بلاغة عالية وعلي عالم من المعاني والمفاهيم.

يمكن تقريب المطلب عبر أمثلة:

شخص سيّئ الخلق، كالعبوس المتجهّم.

شخص حسن الخلق ولكنّه خارج عن حدّ الاعتدال، ككثير المزاح والهزل.

شخص حسن الخلق مع بعض الناس دون بعض.

فهذه ثلاث حالات.

أمّا الشخص الأوّل (سيّئ الخلق) فهو بحاجة إلي إصلاح؛ لأنّ سوء الخلق فساد، والفساد يتطلّب إصلاحاً.

وأمّا الشخص الثاني (المبتلي بالإفراط رغم وجود الفضيلة عنده) فهو بحاجة إلي تحسين وضعه وحاله، لأنّ الإفراط عيب وليس فساداً لكي يُقلع بالمرّة؛ بل عنده فضيلة ولكن علق بها بعض الشوائب؛ فلابدّ من تحسينها وتشذيبها فقط.

وأمّا الشخص الثالث (الحسِن الخلق مع بعض دون بعض، أو الذي يمارس الفضيلة أحياناً دون أُخري)، فهو ينطوي علي أكرومة ولكنّها ناقصة؛ فيقتضي إتمامها. ومثالها: الشخص يكون حسن الخلق في المجتمع ولكنّه ليس كذلك مع أهله، أو العكس، فمثل هذا الإنسان ليس سيّئ الخلق مطلقاً

ليكون محتاجاً إلي الإصلاح، ولا حسن الخلق مع إفراط ليحتاجَ إلي تحسين، ولكنّه لا يتوفّر علي بعض الفضائل وإن كان يتوفّر علي بعض آخر، أو يتوفّر عليها ولكن ليس دائماً، أو مع بعض الناس دون بعض، فهو لذلك بحاجة إلي إتمام ما ينقصه.

وهكذا يتّضح أنّه كما ينبغي التدبّر في آيات القرآن الكريم، بل قد يجب من باب مقدّمة الوجود - حسب الاصطلاح الأصولي - فكذلك ينبغي وقد يجب التدبّر في أدعية المعصومين عليهم السلام ومواعظهم وأحاديثهم وآثارهم؛ فإنّ التدبّر فيها يكشف عن دقائق ونفائس في طيّ كلماتهم تنير حياتنا.

خذ مثلاً كلمة (عائبة) وهي مؤنّث (عائب) والشيء العائب يحتاج إلي تحسين وترميم؛ كالسفينة إذا خرقت وأصبحت معيبة فإن لم ترمّم نفذ إليها الماء تدريجياً وآل أمرها إلي الغرق، كما نقرأ ذلك في قصّة موسي والخضر عليهما السلام في قوله تعالي حكاية عنهما:

?أمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأرَدْتُ أنْ أعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأخُذُ كُلَّ سَفِينِةٍ غَصْباً?.

وهكذا الحال مع النفس الإنسانية إذا كان فيها عيب وخلل يلام عليه الإنسان، فلابدّ من ترميمها وإزالة ذلك الخلل والعيب؛ ولذلك يقول الإمام سلام الله عليه: ولا عائبة اُؤنّب بها إلاّ حسّنتها.

وإذا كان الأئمّة المعصومون سلام الله عليهم وهم في أعظم مقام يمكن أن يبلغه مخلوق، يطلبون من الله دائماً أن يعينهم علي التكامل، فما أحوجنا لأن نتوسّل بالله تعالي في الإطار نفسه، فإنّ الإنسان كلّه نقص وافتقار لله تعالي، ومن ثمّ فهو مدين لله تعالي ويجب عليه أن يتوجّه إليه بالشكر علي كلّ النعم سواء في الأُمور المادّية أو المعنوية. حتّي نعمة الشكر علي ما أنعم عليه، فإنّها تستوجب شكراً، ولذلك لا يتوقّف شكر الإنسان لله تعالي عند

حدّ.

لقد أنعم الله تعالي علي الإنسان بالنعم المادّية لكي يستطيع أن يزكّي نفسه، ومنحه القوي لكي يكتسب المعالي والفضائل.

الورع وترويض النفس

الورع وترويض النفس

يظهر من الروايات أنّ النبيّ صلي الله عليه وآله كان يستقبل شهر رمضان كلّ عام بخطبة، ولعلّ أشهر تلك الخطب فيه وأجمعها هي تلك التي يتوجّه الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه في آخرها بالسؤال منه صلي الله عليه وآله قائلاً: ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟

وكان رسول الله صلي الله عليه وآله قد ذكر أُموراً عديدة في خطبته الشريفة ممّا ينبغي للصائم عملها في شهر رمضان، وحثّ المؤمنين عليها، ولكنّه لم يأت علي ذكر أيّ واحدة منها في جوابه للإمام، بل أجابه صلي الله عليه وآله قائلاً: الورع عن محارم الله.

ولكن هل يحصل الورع عند الإنسان بمجرّد أن يرغب به؟

بالطبع لا، لأنّ هناك موانع كثيرة تقف في طريقه، كالشيطان والشهوات والنفس الأمّارة بالسوء، إذاً لابدّ من ترويض النفس وتمرينها للتغلّب علي كلّ الصعوبات والموانع التي تصادفه في كلّ مجالات الحياة لعدم صمود استعدادات الإنسان من دون ممارسة وتمرين.

صفة المتّقين

لقد وصف الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه المتّقين بقوله: فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون. فرغم أنّهم لم يشاهدوا الجنّة أو النار بأعينهم الباصرة ولكنّهم ممتلئون يقيناً بوجودهما، فتري أحدهم يحلم ويصفح عمّن سبّه أو ظلمه لأنّه يعلم أنّه سينال بذلك درجة في الجنّة، فهو سعيد منعّم حتّي في هذه الحالة، لأنّه كمن يري الجنّة ودرجة المحسنين فيها بعين البصيرة وإن لم يرها بالعين الباصرة.

إنّ الورع هو الذي يبلغ بالإنسان إلي هذا المقام، ولكن هل يتحقّق هذا دون سعي وعمل؟ إنّ القرآن الكريم صريح في قوله تعالي: ?وَأنْ لَيْسَ للإنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَي?. إنّ الله تعالي هو الذي يفيض علي الإنسان وهو الذي يعطيه ولكن

ذلك لا يتمّ إلاّ مع السعي والتمرين من قِبل الإنسان نفسه فضلاً عن الدعاء.

لو أنّ شخصاً تثق به أخبرك أنّه مستعدّ لتعويضك عن كلّ ما ستنفقه من أموالك في مجال الخير بل يزيدك عليه شيئاً، فهل تتأخّر عن الإنفاق أم ستبسط يدك؟ لا شكّ أنّك لا تتأخّر عن الإنفاق لأنّك تعلم أنّ هناك من وعدك أنّه سيعوّضك عن كلّ ما ستخسره من أموال، وما ذلك إلاّ لأنّك تشاهد الشخص الذي تثق به عياناً، وتري أمواله وإمكاناته وتحسّ بعلاقتك المباشرة معه. فهكذا يكون المتّقون في تعاملهم مع الله تعالي؛ لذلك تري الإنسان المتّقي لا يقول لماذا عمل معي فلان كذا مع أنّي خدَمته، بل لا يفكّر في ذلك، لأنّه يؤمن بقوله تعالي: ?إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ? بل تراه يتّهم نفسه دائماً، فقد روي عن أمير المؤمنين سلام الله عليه قوله: المؤمنون لأنفسهم متّهمون أي أنّ المؤمن يتّهم نفسه ويراها مقصّرة دائماً، وما دام الأمر كذلك تراه لا يتألّم ولا يقلق لمجرد أنّ شخصاً ما لم يردّ عليه إحسانه، وأمّا حاله مع سخط الله تعالي فتراه يحتاط حتّي في قول كلمة واحدة ويحذر من أن تصبح له عاملاً إلي مؤاخذة الله عزّوجلّ.

نقل لي سجين سابق: أنّه كان جالساً مع زملائه في السجن لتناول وجبة إفطار الصباح، إذ نودي باسم أحدهم للذهاب إلي المحكمة، وصادف أثناء النداء باسمه أنّه كان يحمل كوب الشاي بيده، فبدأت يده ترتعش خوفاً حتّي فرغ كلّ ما في الكوب من الشاي، ثمّ سقط الكوب من يده إلي الأرض! كلّ ذلك لخوفه من المثول أمام محكمة المخلوق، بعد يقينه بوقوعها.

وهكذا ينبغي أن يكون حال المتّقين في استقرار يقينهم بمحكمة الخالق، فما أعظمها وأعظم أهوالها.

من يري الجنّة لا يبالي بالصعاب

نقل أحدُ مراجع التقليد من أرحامنا أنّه أيّام دراسته وقبل أن يتصدّي للمرجعية، عن أحوال السيّد أبي الحسن الإصفهاني أيّام مرجعيته، قال: كنت قد كتبت استفتاءً للسيّد أبي الحسن ولم أشأ أن أُزاحمه لأخذ الجواب منه في الأوقات التي يكون فيها مشغولاً إمّا بالتدريس أو اللقاءات العامّة والخاصّة. فقرّرت أن أذهب إليه قبيل صلاة الفجر؛ لعلمي أنّه يكون مستيقظاً في ذلك الوقت؛ لأنّه كان يصلّي صلاة الصبح جماعة في روضة أمير المؤمنين سلام الله عليه، فذهبت قبل أذان الفجر بزهاء ساعة إلي بيته فرأيت المصباح مضاءً فطرقت الباب، وعندما خرج الخادم سألته فيما إذا كان السيّد مستيقظاً؟ فردّ بالإيجاب، فطلبت منه أن يخبر السيّد أنّ فلاناً عند الباب. فمكثت هنيهة حتي عاد الخادم واصطحبني إلي داخل الدار، فرأيت السيّد والرسائل متناثرة بين يديه يجيب عليها، ففي بعضها استفتاءات، وفي بعضها الآخر حاجات يطلب أصحابها قضاءها.

فقلت للسيّد: أرسلت لكم منذ أيّام رسالة أستفتيكم فيها عن جملة مسائل كذا وكذا.

فقلّب السيّد الرسائل حتّي استخرج رسالتي ثمّ قال لي: عندما عدت إلي البيت كان بعض الأشخاص - كالعادة - ينتظرونني لقضاء بعض الحوائج أو للإجابة علي أسئلتهم، وبعد أن خرجوا رأيت أن أنتهي من الإجابة علي هذه الرسائل قبل تناول العشاء، فبقي الطعام علي الموقد الذي تراه أمامك علي نار هادئة والرسائل لم أستوفِ تمامها بعد والوقت قريب من الفجر ومنها رسالتك هذه. ثمّ تناول رسالتي فأجاب عليها.

فلا شكّ أنّ السيّد أبا الحسن الإصفهاني لم يكن آنذاك شابّاً بل كان شيخاً قد ضعفت قواه، وكان هذا الجهد المتواصل والبقاء دون عشاء حتّي الفجر لا يخلو من أثر سلبيّ علي صحّته، ولكن عندما يكون الإنسان كمن قد رأي الجنّة

فهو فيها منعّم، تكون روحه كبيرة تقوي علي تحمّل الصعاب، وهكذا عندما يكون الإنسان كمن قد رأي النار فهو فيها معذّب، تراه يحتاط في أُموره كثيراً؛ حذراً من الوقوع في ما من شأنه أن يسخط الله تعالي.

لننتهز الفرص من أجل بناء أنفسنا

لينتهز كلّ منّا جميع الفرص - لا سيّما أيّام شهر رمضان - من أجل بناء نفسه، فإنّه لا حدّ لبناء النفس، ولا يتصوّر أحد أنّه سيصل الحدّ الذي يتوقّف عنده جهاد النفس وبناؤها، ولقد ذكرنا في بداية البحث أنّ الإمام السجّاد سلام الله عليه يطلب في هذه الفقرة من الله تعالي ثلاث خصال في سبيل بناء النفس وتكاملها؛ فإنّه لا حدّ للتكامل والرقيّ أبداً حتّي عند المعصوم، مع أنّ العصمة هي أعلي درجات الرقي بالنسبة لسائر الناس

- ولن يبلغوها لأنّها خاصّة بأُولئك الذين اصطفاهم الله لبلوغ هذا المقام-

ولكن هذا لا يعني التوقّف عن بناء النفس وتكميلها، فما أحري بالإنسان أن يسعي لبلوغ منزلة فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون.

بالسعي والتمرين يمكن أن يصل الإنسان إلي مرتبة فهم والجنّة كمن قد رآها، لأنّ هذا الأمر لا يتحقّق دفعة واحدة بل يتطلّب الممارسة والمواظبة من أجل الصعود درجة درجة؛ فإنّ الله تعالي جعل عالم الدنيا عالم الأسباب، فلا يمكن أن ينام الشخص ليلاً ثمّ يستيقظ صباحاً وقد تحوّل تحوّلاً كاملاً دفعة واحدة من الصفر حتّي بلوغ تلك المرتبة.

قد تحصل عند الإنسان حالة من التغيّر بسبب حالات خاصّة أو ظرف طارئ أو نتيجة التحرّز والاحتياط أو التأثّر بموعظة سمعها من خطيب أو وصايا قرأها لأهل البيت سلام الله عليهم، وربما اجتمعت عوامل عدّة في خلق هذا التغيير عند الإنسان، فيشعر أنّ

قلبه قد تنوّر بعض الشيء، فينعكس هذا علي سلوكه ومشاعره نحو الأفضل، ولكن هذه الحالة قد لا تستمرّ معه أبدا،ً وسرعان ما تبدأ بالذوبان كقطعة الثلج التي تذوب تدريجياً، وإذا به بعد أسبوع مثلاً يعود إلي سابق وضعه وحاله، وما ذلك إلاّ لفقدانه المموّن الذي يمدّه بالرصيد الذي يستمدّ منه الفيض بإستمرار، أمّا إذا لم يفقده فإنّه سيبقي علي تلك الحالة بل يزداد تصلّباً وتماسكاً فيها - كقطعة الثلج التي تحفظ في المجمّدة - وشهر رمضان خير مموّن للإنسان في هذا المجال، فلنستثمر أيّامه ولياليه وساعاته ومناسباته وأدعيته العظيمة. فلنقرأ في كلّ ليلة مثلاً مقاطع من دعاء أبي حمزة الثمالي بتأمّل وتدبّر، متمعّنين عند كلّ مفردة أو جملة أو فقرة منه؛ لأنّ قراءة الدعاء والمواظبة عليها تخلق هي الأُخري ارتكازاً وحالة في النفس تساهم مع التأمّل والتدبّر في بعض فقراته في البلوغ بالداعي نحو مرحلة (فهم والجنّة كمن قد رآها)، وتعين العبد علي أداء أفضل الأعمال في هذا الشهر وهو (الورع عن محارم الله).

وكان رسول الله صلي الله عليه وآله قد نبّه المسلمين في خطبته التي استقبل فيها شهر رمضان المبارك علي استثمار هذا الشهر استثماراً حقيقياً، ومن جملة ما قاله صلي الله عليه وآله: أيّها الناس إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم. وهذا معناه أنّ كلّ عمل نقوم به مهما كان صغيراً فإنّه يرهن أنفسنا. فالنظرة، والكلمة، وكلّ عمل يصدر عنّا يجعلنا رهائن، ولا نستطيع أن نفكّ أنفسنا منها إلاّ بالاستغفار.

ولا يشترط أن تكون الأعمال التي نقترفها كبيرة لكي نصبح رهائن لها، بل كلّ عمل كفيل بأن يرهن صاحبه مهما كان صغيراً؛ قال تعالي: ?فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ? وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ

ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ?. فمن القطرات يتكوّن ماء المطر ومن القطرات يتكوّن السيل العرم الذي يقلع الأشجار ويجرف البيوت.

إنّ الإنسان مسؤول عن كلّ صغيرة وكبيرة، كما ورد في الحديث الشريف: ألا وإنّ الله عزّ وجلّ سائلكم عن أعمالكم، حتي مسّ أحدكم ثوب أخيه بإصبعيه فلعلك تضع إصبعك علي الثوب تريد معرفة نوعه أو لغاية أُخري، ولا يكون صديقك راضياً بذلك، فإنّك إن فعلت ذلك ستسأل عنه يوم القيامة.

وفي الحديث أيضاً: لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه. يقول العلماء: إنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم، وبما أن جملة «مال امرئ مسلم» نكرة، وعبارة «لا يحلّ» نفيٌ، إذاً تكون جملة «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه» مفيدة للعموم، ويندرج تحتها أيضاً المورد المذكور في الحديث المتقدّم (حتي مسّ أحدكم ثوب أخيه) وإن كان في مستواه الأدني وليس الأعلي، كالسرقة والعياذ بالله.

أي أنّ الإنسان سيسأل يوم القيامة حتّي عن النفخة ينفخها، كما لو نفخ في وجه إنسان يتأذّي من ذلك فإنّه سيعاقب عليه، وعكسه لو نفخ في نار قدر إطعام المشاركين في عزاء الإمام الحسين سلام الله عليه مساهمة منه في تعظيم شعائر الله تعالي فإنّه سيثاب علي ذلك.

وهكذا تجد الإنسان الورع يحتاط في كلّ أعماله؛ لأنّه هو والجنّة كمن قد رآها فهو فيها منعّم، وهو والنار كمن قد رآها فهو فيها معذّب.

الورع واجب في كلّ حال

ثمّ إنّ الورع واجب دائماً وليس في شهر رمضان فقط، وهو واجب علي كلّ مكلّف.

أمّا كيف صار الورع واجباً فجوابه: لمّا كان ترك المحرّمات واجباً مطلقاً، وكان الورع - وهو تحصيل ملكة ترك المحرّمات - مقدّمة وجودية له، والمقدّمة الوجودية للواجب المطلق واجبة (من باب إذا وجب شيء وجبت

مقدّمته)، إذاً يكون الورع واجباً علي المكلّف.

وهذا من قبيل ما ورد في عبارات الفقهاء: «يجب علي كلّ مكلّف أن يكون في عباداته ومعاملاته مجتهداً أو مقلِّداً أو محتاطاً»، فإنّه أيضاً وجوب نشأ من نفس الطريق وهو كونه مقدّمة وجودية للواجب المطلق.

ثمّ إنّ الورع لا يأتي من فراغ وهكذا اعتباطاً، كما تقدّم، ولا يكفي الدعاء أيضاً في حصوله بل لابدّ من أن يسعي الإنسان لتحصيله عبر الممارسة والمواظبة والاستفادة من المناسبات التي وفّرها الله تعالي للإنسان المؤمن كمناسبة شهر رمضان المبارك مثلاً، فلنحاول أن نختار في كلّ يوم من هذا الشهر الفضيل وهكذا في سائر شهور السنة إحدي الإرشادات الدينية، ونعزم ونصمّم علي تطبيقها، فإنّ الأمر بحاجة إلي عزيمة، وكما ورد عن الإمام الرضا سلام الله عليه: فإنّما هي عزمة والتاء في قوله «عزمة» للمبالغة وليست للتأنيث.

وروي عن الإمام أبي الحسن الماضي عليه السلام أنّه قال: ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم.

وعبارة (كلّ يوم) غير مختصّة بشهر رمضان كما هو واضح، ولكن لنفعل ذلك في شهر رمضان علي الأقلّ أو لنبدأ منه.

ولقد روي في هذا المجال أيضاً عن النبيّ صلي الله عليه وآله أنّه قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، ووبّخوها قبل أن توبّخوا.

حذار ألاّ ننتصح بما ننصح

ولنحذر نحن - أهل العلم خاصّة - أن نكون يوم القيامة مصداقاً لما ورد في الحديث الشريف: أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثمّ خالفه إلي غيره.

ولو لم ترد هذه الرواية أمكننا إدراك ذلك الأمر بالتأمّل، كما يفترض بنا الاهتداء والاقتداء بأقوال وأفعال الأئمّة سلام الله عليهم الذين يعلّموننا ما هو الخطأ وما هو الصواب، ويمكننا القول إنّ هذا ممّا يمكن استفادته حتّي من عموم رواياتهم الأُخر.

حقّاً

ما أعظم حسرة الإنسان وهو يري نفسه متردّياً خاسراً؛ لعدم استرشاده بالنصح الذي قدّمه لغيره، في حين يري أنّ من نصحه قد أخذ بنصحه ونجا وفاز يوم القيامة.

إنّ الطريق إلي فهُم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون طويل جدّاً، لكن هذا لا يعفينا من المسؤولية أبداً، بل علينا أن نسير فيه دوماً، ولقد وعد الله تعالي عباده الساعين والمتوكّلين عليه بالتوفيق، وهو تعالي صادق الوعد، فلنترفّع عن صغائر الأُمور ونضاعف من اهتمامنا بأُمور الآخرة عسي الله تعالي أن يأخذ بأيدينا ببركة أهل البيت سلام الله عليهم ويجعلنا من المستفيدين من شهر رمضان المبارك لكي نري أنفسنا بعد انصرامه وقد تغيّرنا نحو الأفضل، وازددنا ورعاً وتقوي واقتراباً من حال الذين هم والجنّة كمن قد رآها …

اللّهُمَّ صَلِّ عَلي محمَّدٍ وَآلهِ، وَأبْدِلْني مِنْ بِغْضَةِ أهْلِ الشَّنَئانِ المحبَّةَ، وَمِنْ حَسَدِ أهْلِ البَغْيِ الموَدَّةَ، وَمِنْ ظِنَّةِ أهْلِ الصَّلاحِ الثقَةَ، وَمِنْ عَداوَةِ الأدْنَينِ الْوِلايَةَ، وَمِنْ عُقُوقِ ذَوِي الأرْحَامِ المبرَّةَ، وَمِنْ خِذْلانِ الأقْرَبينَ النُّصْرَةَ، وَمِنْ حُبِّ المُدارِينَ تَصْحِيحَ المِقَةِ، وَمِنْ رَدِّ المُلابِسينَ كَرَمَ العِشْرَةِ، وَمِنْ مَرَارَةِ خَوْفِ الظَّالمِينَ حَلاوَةَ الأمَنَةِ.

? إبدال الشنآن والبغي إلي المحبّة والمودّة

? إبدال الظنّة والعداوة إلي الثقة والولاية

? إبدال العقوق والخذلان وتطوير المداراة

? طلب فنّ المعاشرة، والأمن من الظالمين

إبدال الشنآن والبغي إلي المحبّة والمودّة

إبدال الشنآن والبغي إلي المحبّة والمودّة

هذه فقرة أُخري من دعاء مكارم الأخلاق يفتتحها الإمام السجّاد سلام الله عليه بالصلاة علي النبي وآله الأطهار سلام الله عليهم، ثمّ يطلب من الله تعالي تسعة مطالب في تسع جمل نتناول في هذا الفصل المطلبين الأوّلين منها، حيث يقول الإمام: وأبدلني من بغضة أهل الشنآن المحبّة ومن حسد أهل البغي المودّة.

ما المقصود بالشنآن، ومن هم أهل الشنآن؟

البغض والعداوة وسوء الخُلُق أمور مذمومة، ولكلّ منها معني، فقد يكون الشخص مبغضاً ولكنّه ليس معادياً، وقد يجمع الخصلتين ولكن من دون سوء خُلُق، وقد يجمع سوء الخُلُق إلي البغض والعداوة، ولذا فُسّر الشنآن لغةً بالبغض والعداوة مع سوء الخُلُق؛ كما فسّروا قوله تعالي: ?إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ?.

وقد يكون الإنسان نفسه محفّزاً لمن يشنأه نتيجة أعماله السيئة، فيكون من مصاديق قوله تعالي: ?وَمَا أصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِك?، وقد يبتلي الشخص بأهل الشنآن من غير أن يكون جالباً لهم بسوء خلق وغير ذلك، ومثاله: لو رُزق بجمال أو حسن خُلُق أو ذهن وقّاد أو نعم أُخري، فيشنأه أهل الشنآن لذلك.

عندما نتأمّل في دعاء الإمام السجّاد سلام الله عليه نجد أنّه عدل عن استعمال كلمة الشانئ أو الشانئين إلي «أهل الشنآن»، ولابدّ أن نتدبّر قليلاً لمعرفة السبب. فتارة يكون الشنآن عفوياً، وتارة يكون بمنزلة الحرفة عند بعض الناس، كما أنّ للعلم والتجارة وغيرهما أهلاً بحيث يصدق عليهم أنّهم علماء أو تجّار، ولا يصدق علي من تعلّم مسألة أو بعض المسائل الشرعية أنّه من أهل العلم، أو من ربح في صفقة واحدة أو صفقتين اتّفاقاً، أنّه من أهل التجارة؛ إذ لا يقال للشخص أنّه من أهل العلم مثلاً ما لم يكن جنّد نفسه للدراسة حتّي عدّت كالحرفة له.

لذلك يطلب الإمام سلام الله عليه من الله

تعالي أن يبدله المحبّة ليس فقط من بغضة أيٍّ كان ولا أيّ شانئ، بل يطلب من الله تعالي أن يبدله من بغضة أهل الشنآن الذين طبيعتهم وشغلهم وديدنهم الشنآن.

كيف نتعامل مع أهل الشنآن؟

ماذا بوسعكم أن تفعلوا للتخلّص من أُناس هذه شيمتهم؟ إلاّ أن يتوجّه الإنسان إلي الله تعالي بالدعاء ويقول له كما علّمنا الإمام السجّاد سلام الله عليه: اللهمّ وأبدلني من بغضة أهل الشنآن المحبّة.

يُنقل أنّ شخصاً مرض وأوشك علي الموت فقال لابنه: اذهب وادعُ لي فلاناً وفلاناً - وسمّي له بعض الأشخاص - وعندما حضروه التفت إليهم وهو مسجّيً علي فراش الموت قائلاً: إنّ لكم جميعاً عليّ حقوقاً وأرجو أن تحلّلوني منها، فإنّي قد أُفارقكم الساعة.

تعجّب القوم وسألوه مستغربين: لا نعرف لنا عليك حقوقاً، فهلاّ عرّفتنا بها.

قال: دعوكم من هذا وتفضّلوا عليّ بالعفو لأنّي أُوشك علي الموت.

ولكنّهم أصرّوا علي معرفة حقوقهم. ولمّا رأي إصرارهم التفت إلي الأوّل وقال: أتذكر حينما احترق بستانك واتّهمتَ فلاناً من الناس وحكم عليه القاضي، أنا الذي حرقتها وليس ذلك المسكين.

وزاد فضول الشخص لمعرفة تفاصيل القضية، فالتمسه أن لا يبخل بسردها عليه. فقال له: لقد دار نقاش محتدم في أحد الأيّام بينك وبين زيد، فهدّدك بحرق نخيلك، وكنتُ أسمع كلامكما فجئت في منتصف الليل وقمت أنا بإحراقها، وحيث إنّ زيداً كان قد هدّدك أُلبست في حقّه التهمة وأُودع السجن.

ثمّ التفت إلي الثاني وقال له: إنّ المشكلة التي نزلت بك في يوم كذا أنا افتعلتها. وهكذا أخذ يعدّد لهم مكايده واحدة بعد الأُخري.

إنّ الدعاء والتوجّه إلي الله تعالي هو الكفيل بأن يخلّص الإنسان من شرور أشخاص كهذا، لأنّ كثيراً من الناس لا يدرون من الذي يتربّص بهم ليوقعهم في حفر المشاكل والمصائب.

هذا في حين

إنّ دعاءً صغيراً - قد لا يستغرق دقائق - يتوجّه به الإنسان إلي الله تعالي كفيل بأن ينجيه من الوقوع في مشاكل قد تدوم عقوداً ولا يعرف كيف الخلاص منها. وفي يوم القيامة يدرك الإنسان أنّه لو كان قد دعا ربّه بذلك الدعاء لما ابتلي هذه المدّة الطويلة، ولكن ماذا يجدي وقد ذهبت السنوات من عمره سديً، ولات حين مندم.

دعم الدعاء بالعمل

الدعاء والعمل يكمل أحدهما الآخر ولا ينفع أحدهما من دون الثاني إلاّ إذا كان الإنسان عاجزاً إلاّ عن الدعاء؛ قال تعالي: ?وَأنْ لَيْسَ للإنْسَانِ إلاّ مَا سَعَي?.

وقال أيضاً: ?قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ?.

وفي هذا المجال إبدال بغضة أهل الشنآن بالمحبّة كما في غيره من المجالات، ينبغي للإنسان بمقدار علمه أن يسعي إلي جانب الدعاء، لكي يبدل أهل الشنآن إلي محبّين؛ كما في قوله تعالي: ?اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ?.

ففي هذه الآية الكريمة نكتة لطيفة يمكن استفادتها من كلمة «ادفع»؛ لأنّ الدفع في اللغة كالوقاية من المرض،كما أنّ الرفع كالعلاج منه. فمثلاً إذا دخل لصّ داراً فإنّه عند محاولة إخراجه يكون هذا سعياً لرفع السرقة، وأمّا إذا اُقفلت الأبواب بوجه اللصّ قبل دخوله الدار فهذا يعني دفع السرقة قبل وقوعها والحؤول دون دخول اللصّ إلي الدّار.

وفي المقام يرشدنا الله تعالي إلي دفع السيّئة (أي الحيلولة دون وقوعها) بالتي هي أحسن منها كفعل الخير والصلة وما أشبه.

أمّا النتيجة من الدفع بالتي هي أحسن، فقد أشارت إليها الآية نفسها في قوله تعالي: ?فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ?، أي أنّه سيحبّك بقلبه ويدرأ عنك بجوارحه وطاقاته.

ولا يخفي أنّ الإحسان إلي المسيئين يحتاج إلي عزيمة قوية؛ ولذلك عبّرت

الآية نفسها عن هذه الخصلة بقوله تعالي: ?وَمّا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم?.

وبقدر ما يكون الصبر علي الإساءة تكون النتيجة مُرضية، وإنّ هذا التوفيق الإلهي وإن كان يحتاج إلي حظّ عظيم إلاّ أنّ مفتاحه بيد الإنسان نفسه.

الاقتداء بعلمائنا الأعلام

في تاريخ علمائنا الأبرار فضلاً عن سيرة أهل البيت سلام الله عليهم الكثير من القصص التي يمكن للإنسان أن يستضيء بها.

لقد ذُكر في أحوال الخواجه نصير الدين الطوسي رحمه الله (صاحب كتاب تجريد الاعتقاد) أنّ شخصاً كتب له رسالة وجّه له فيها سبّاً لاذعاً، كما تجاوز عليه بقوله (ياكذا)، فأجابه الشيخ وكان عالماً ووزيراً مقتدراً: وأمّا قولك أنّني كذا فهذا غير صحيح لأنّ الكذا يمشي علي أربع وأنا أمشي علي اثنين، والكذا فصله «نابح» وأنا فصلي «ناطق»!

لنراجع أنفسنا ونري هل نستطيع أن نكون هكذا في الخُلُق الرفيع الذي تحلّي به هذا الشيخ العالم الذي لم يكن عاجزاً - لا من حيث قوّة القلم والبيان ولا من حيث السلطة - أن يقابله بأشدّ من قوله؟ ولكنّه تلميذ مدرسة أهل البيت الذي تعلّم منهم الصبر والأخلاق الرفيعة.

كما نقل لي أحد الأشخاص - وكان هو الواسطة بين السيّد أبي الحسن الإصفهاني قدّس سرّه وشخص آخر لا أعرفه كان يكيل السباب والشتائم للسيّد، أي كان شانئاً له - قال:

في أحد الأيّام قلت للسيّد أبي الحسن الإصفهاني - وكان قد بلغه أمر الرجل-: ماذا نصنع معه؟ قال: أنت صديقه، فلا بأس أن تغتنم إحدي المناسبات لنذهب معاً إلي زيارته.

فقلت له: سيّدنا أتزوره؟

قال: نعم.

فسررت كثيراً لذلك لأنّي كنت أُحبّ أن تحلّ المشكلة، لأنّ ذلك الشخص كان صديقاً لي وكان شخصية اجتماعية أيضاً، فكنت أستاء كثيراً من تصرّفاته تلك، خصوصاً

وأنّ السيّد كان مرجعي في التقليد، فضلاً عن العلاقة به.

وامتثالاً لطلب السيّد في زيارته كنت كلّما ذكرت اسم السيّد عنده لأُقنعه بزيارته له، كان يردّ ولا يدع مجالاً لذلك الحديث، حتّي مرض في أحد الأيّام، فأخبرت السيّد الإصفهاني بالأمر، وقلت له: إنّها فرصة مناسبة. وجئت للرجل وقلت له: أنت مريض والناس يعودونك، فربما يعودك السيّد أبو الحسن الإصفهاني.

فإذا به يلتفت إليّ قائلاً: بعد أن بلغه منّي ما بلغ، لا أظنّه يفعل!

قلت: أنت تعرف السيّد فهو يزور الجميع، ويعود المرضي.

ثمّ التفتُّ إليه أخري وقلت: هب أنّ السيّد جاء لعيادتك، ماذا أنت صانع؟

قال: أستقبله بما يكره، ولا أقوم له!!

قلت له: افرض أنّه ليس من وصايا الإسلام الأكيدة احترام المؤمن، ولنفرض أنّك لا تلتفت إلي أنّه عالم دين، ومن سلالة البيت النبوي الطاهر، ولكن هل يسوغ لك أن تخدش حرمة شخص جاء لزيارتك وحلّ ضيفاً عليك، وأنت رجل عربيّ؟!

فتأمّل هنيهة، ثمّ قال: إذاً لا أُكلّمه، ولا أقوم احتراماً له!

فذهبت إلي السيّد وأخبرته بالأمر، وجئنا سويّة لعيادة الرجل، وحينما دخلنا تظاهر أنّه لا يستطيع القيام من شدّة المرض، مع أنّه كان يستطيع! وأخذ يتثاقل في جواب السيّد ولا يجيب إلا بقدر الضرورة، ولكن السيّد ظلّ يلاطفه ويسأل أحواله وهو يجيب بكلّ برودة.

واستمرّ السيّد يلاطفه بأخلاقه الحسنة حتي انجلت الغبرة عن صدره، بحيث عندما همّ السيّد بالمغادرة قام الرجل لمشايعته إلي الباب!

وسألته بعد ذلك: كيف وجدتَ السيّد؟ قال: بعد إمام الزمان عجّل الله تعالي فرجه الشريف لا شخص أفضل منه علي الإطلاق!

وهكذا صار هذا الشخص وليّاً حميماً للسيّد بعد أن كان عدوّاً لدوداً؛ لأنّ السيّد قدّس سرّه عمل بقول الله تعالي: ? اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ

عَدَاوَةٌ كَأنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ?.

أهل البغي وكيفية التعامل معهم

يقول الإمام سلام الله عليه بعد ذلك: ومن حسد أهل البغي المودّة.

البغي أصله من الحسد، ثمّ سمّي الظلم بغياً؛ لأنّ الحاسد يظلم المحسود، والحسد منشأه القلب، ولكن لا يحاسب عليه الإنسان إلا إذا انعكس أثره علي الجوارح؛ ولذلك ورد في حديث الرفع المروي عن رسول الله صلّي الله عليه وآله: رُفع عن أمّتي تسع … والحسد والطيرة و … ما لم ينطق بشفة ولا لسان.

وأمّا قوله سلام الله عليه: أهل البغي فيعني من ديدنهم البغي، كما تقدّم في قوله عن أهل الشنآن.

وأمّا المودّة فهي المحبّة الظاهرة؛ فقد يحبّ الإنسان شخصاً ولكنّه لا يظهر هذا الحبّ فهذا لا يسمّي مودّة، أمّا إذا كان يحبّه ومع ذلك يظهر ذلك الحبّ فهذه هي المودّة.

وفي هذا الدعاء يطلب الإمام من الله تعالي أن يخلّصه ليس من حسد الباغي العادي فقط بل من حسد أهل البغي أي من بني أمره علي البغي، ويبدل حسده ليس إلي محبّة فقط بل إلي مودّة أيضاً وهي الحبّ مع إظهاره.

هنا أيضاً لا يكفي الدعاء وحده بل لابدّ للمؤمن أن يسعي بعمله لتجنّب أهل البغي وتبديل حسدهم إلي مودّة؛ فإنّ الإمام سلام الله عليه يطلب من الله تعالي أن يخلّصه من السلبيات الموجودة في المجتمع ويلفت نظر المؤمنين إليها أيضاً.

أمّا كيف نتصرّف مع أهل البغي، فلنا في أئمّة الهدي صلوات الله عليهم قدوة، فلنقتدِ بأئمّتنا وعلمائنا من بعدهم؛ لأنّ ردّ الصاع بصاعين سهل إذا كانت لدي الشخص المقدرة، ولكنّ الصبر أصلح وأجدر أن يعمل به، وإن كان أصعب.

لا شكّ أنّ بلوغ هذه الدرجة العالية يحتاج إلي رياضة نفسية مستمرّة. لذا علينا بالمواظبة علي قراءة هذه الأدعية بإمعان وتدبّر، والسعي للعمل بما

توجّهنا إليه، والطلب من الله تعالي أن يوفّقنا في ذلك.

إنّ الإمام المعصوم يطلب من الله تعالي حاجات، ويعلّمنا أيضاً - نحن المسلمين - كيف ندعو الله تعالي ونطلبها، ومن هذه الحاجات ما هي دنيوية، ومنها ما هي أُخروية؛ إذ الدنيا والآخرة عالمان متشابكان كتشابك أصابع اليدين، فلا ينال الإنسان الجنّة إلا بعمله في هذه الحياة الدنيا.

إنّ الإمام السجّاد سلام الله عليه يسأل الله تعالي أن ينجّيه من أُمور قد حدّدها، وأن يبدلها إلي أضدادها أو نقائضها. فالإمام سلام الله عليه لم يطلب من ربّه الكريم أن ينجّيه من البغضة والحسد والظنّة والعداوة فقط، وإنّما يرتجي منه سبحانه أن يبدّل تلك الخصال عند أهلها إلي نقائضها وأضدادها بأرفعها وأسماها. يقول الإمام سلام الله عليه: ومن حسد أهل البغي المودّة.

إنّ من أهمّ الأمور التي يطلبها الإمام من ربّه تغيير حالة حاسده وإبدال حسده إلي مودّة، فالحاسد بطبيعته يتربّص الدوائر بمحسوده ويتحيّن له الفرص للبغي وإلحاق شتّي أنواع الأذي به.

وكان يمكن للإمام أن يقول: (ومن حسد الباغين) ولكنّه عدل إلي عبارة أهل البغي، لأنّ الباغي قد يصدق حتّي علي من صدر منه البغي مرّة أو مرّتين، أمّا أهل البغي فهم الذين ديدنهم الظلم وشيمتهم البغي وعادتهم إيذاء الآخرين. وهذا معناه أنّ الإمام يطلب من الله تعالي أن يعالج له أصعب الحالات السلبية التي قد يبتلي بها الناس عادة.

إنّ الإمام يطلب من الله تعالي أن يبدّل هذه الحالة التي تمثّل أدني درجات السلبية إلي المودّة وهي أعلي درجات الحبّ والتي تعتبر الخصلة المناقضة لحسد أهل البغي.

إبدال الظنّة والعداوة إلي الثقة والولاية

إبدال الظنّة والعداوة إلي الثقة والولاية

يقول الإمام السجّاد سلام الله عليه بعد ذلك: ومن ظنّة أهل الصلاح الثقة، والظنّة - بكسر الظاء -: التهمة.

وههنا لابدّ من وقفة أيضاً؛

تارةً يتّهم الإنسانَ شخصٌ فاسق ويظنّ به سوءاً فهذه حالة عادية؛ لأنّ من طبيعة الفسّاق أن يظنّوا بالناس السوء.

وتارةً يكون المتّهِمون للإنسان والظانّون به سوءاً هم أُناس عاديون أي ليسوا فسّاقاً ولا علي درجة مشهودة من الصلاح والفضل، وهذه الحالة قد تهون أيضاً.

ولكن ماذا لو أنّ التهمة وظنّة السوء صدرت تجاه الإنسان من أناس صالحين؟ لا شكّ أنّ الأمر يختلف في هذه الحالة.

فكيف إذا كان المتّهِم للإنسان من وصفهم الإمام بأهل الصلاح، أي شيمتهم الصلاح؟ هنا تكون الطامّة الكبري؛ وذلك لأنّ أهل الصلاح لا يتّهمون أحداً جزافاً، ولا يتسرّعون في إصدار الأحكام بلا رويّة، بل يحتاطون في أُمورهم كثيراً ويحملون أفعال الناس علي محامل حسنة ما استطاعوا، لتقيّدهم بالشرع وأحكامه، وعملهم بما روي من أنّه احمل فعل أخيك علي سبعين محملاً.

وكما أنّهم لا يتّهمون أحداً جزافاً، كذلك فهم لا يثقون بأحد سراعاً، بل إنّهم يرجعون إلي مقاييسهم الشرعية والعرفية، ولهذا لو اتّهم أهل الصلاح أحداً ما، حصل الظنّ بأنّ هناك سبباً وراء ذلك.

ثمّ إنّ الإمام سلام الله عليه لا يكتفي بطلبه من الله تعالي أن يدفع عنه تهمة من يُحسَب لتهمهم حساب وهم الذين دأبوا علي الصلاح حتّي عُرفوا بأهل الصلاح بل يطلب إبدالها إلي الثقة وحسن الظنّ.

كما نلاحظ أيضاً وجود الفاصلة الكبيرة والبون الشاسع بين الظنّة والثقة، حيث يطلب الإمام من الله تعالي استبدال الظنّة بالثقة.

إبدال عداوة الأدنين إلي الولاية

فإذا انتقلنا إلي الجملة الثالثة من هذا المقطع من الدعاء نري أنّ الإمام سلام الله عليه يعلّمنا أيضاً أن ندعو الله تعالي ونطلب منه أحسن الطلبات وأعلاها بعد التخلّص من أسوأ الحالات وأدناها فيقول: ومن عداوة الأدنين الولاية أي أبدلني من عداوة هؤلاء القوم ولاية ومحبّة.

فلفظة الأدنين جمع

الأدني وهو اسم التفضيل من الدناءة والدنوّ؛ ذلك أنّ الشخص قد يكون قريباً ظرفيّاً فيقال عنه دانٍ، ويجمع علي «أدنين»، وقد يكون إنساناً سيّئاً أي فيه دناءة وحقارة؛ فيقال عنه دنيء.

ولا ريب أنّ الإمام سلام الله عليه يقصد المعني الثاني في قوله: أدنين، لأنّه سيشير إلي ذلك المعني الذي يكون المعني فيه ظرفيّاً في قوله بعد ذلك: ومن خذلان الأقربين.

والتفضيل - في اسم التفضيل - يكون في اللغة بواسطة أحد ثلاثة أنحاء: هي حرف الجر «من» و «الإضافة» و «أل» التعريف، فيكون مقيّداً في الحالتين الأُوليين، ومطلقاً في الحالة الثالثة. فلو قلنا: (زيد أدني من عمرو) فهذا لا يعني بالضرورة أنّه الأدني مطلقاً، فقد يكون الأرفع بالنسبة لغيره ولكنّه أدني من عمروٍ خاصّة، وهكذا إذا قلنا: (زيد أدني ثقيف) فإنّه لا يعني أيضاً أن يكون الأدني مطلقاً، وإن توسّعت نسبة دناءته، حتّي بلغت تقاس بقوم، ولكنّه قد لا يكون كذلك بالنسبة لقوم آخرين.

أمّا إذا قلنا: (الأدني) كما في عبارة الدعاء فإنّ التفضيل هنا يفيد الإطلاق، أي يكون زيد أدني من كلّ ما يُتصوّر؛ لعدم تقييده بشخص ما أو بقوم أو مكان أو زمان أو غير ذلك.

إذا اتّضح هذا نقول: إنّ الإمام سلام الله عليه في هذه الجملة أيضاً لم يكتفِ بطلبه من الله تعالي أن يخلّصه من العداوة فقط، بل يطلب تبديلها إلي محبّة، بل قمّة المحبّة وهي الولاية - كما سنبيّن لاحقاً - كما أنّ الإمام لم يكتف بطلب ذلك الاستبدال علي المستويات العادية بل ترقّي إلي طلب إبدال أشدّ الحالات سوءاً بأفضل الحالات حسناً.

بيان ذلك: إذا كان الشخص الدنيء يبحث عن المشاكل عادة ويسبّب بطبعه متاعب للآخرين، فإنّ الأدني يكون أشدّ كلَباً، لذا

فالإمام سلام الله عليه يعلّمنا كيف نطلب من الله تعالي أن يبدّل هذه العداوة - التي هي ليست عداوة كلّ أحد ولا عداوة الداني فقط. ولا حتّي عداوة من هو أدني بالنسبة لقومه بل عداوة الأدني مطلقاً - إلي محبّة بل إلي ولاية.

معني الولاية في الدعاء

إنّ الولاية غير الصداقة والصداقة غير الصحبة، فتارةً يكون الشخص صاحباً لك أو رفيقاً وزميلاً، وتارةً يكون صديقاً، والصداقة أعلي درجة من الصحبة، لأنّ الصديق من صدَقَك، ولا يشترط في الصاحب والرفيق ذلك؛ عن سعيد بن الحسن قال: قال أبو جعفر عليه السلام: أيجيء أحدكم إلي أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟ فقلت: ما أعرف ذلك فينا. فقال أبو جعفر عليه السلام: فلا شيء إذاً. قلت: فالهلاك إذاً. فقال: إنّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد.

وأعلي من الصداقة المودّة، وأعلي منها الولاية - بفتح الواو - لأنّ الولاية ليست صرف المحبّة حسب، بل المحبّة المقرونة بالصداقة والمودّة، وإظهارها مع الانصياع التامّ لمن تتولاّه.

أمّا الولاية - بالكسر - فهي الحكومة، علي أي مستوي كان، فإذا قبلتَ ولاية أحد عليك فهذا معناه أنّك قبلت أن يكون رئيساً أو قائداً لك؛ ومن ذلك قوله تعالي: ?وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ … ?.

الخلاصة: إنّ الإمام في هذا المقطع من الدعاء يطلب من الله تعالي أن يبدّل عداوة الأدنين - وهي أشدّ العداوة - إلي الولاية وهي أعلي المحبّة.

ضرورة التدبّر في كلمات الدعاء

ثمّة نقطة ينبغي الالتفات إليها، وهي أنّ هذه الأدعية المرويّة عن الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم ليست دعوة منهم لترك الأُمور علي الله تعالي يعالجها بطريقة إعجازية دون أن يحرّك الداعي نفسه باتّجاه معالجتها؛ بل الأمر علي العكس من ذلك، فإنّ هذه الأدعية تنهض بدور بيان السلبيات الموجودة في المجتمع لكي يعيها المتديّنون ويسعوا لتلافيها.

أذكر مسألة تنفعنا في إيضاح المطلب، وهي: أنّ هناك بحثاً ونقاشاً بين العلماء في قضية الأوامر غير الاختيارية التي يكلّف الله بها عباده وكيفية توجيهها. ومثال تلك الأوامر قول الله تعالي في كتابه المجيد خطاباً لنبيّه

الكريم صلي الله عليه وآله: ?قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي?، فإنّ منطوق هذه الآية يبيّن أنّ الله تعالي يأمر المسلمين بمودّة آل البيت النبوي الطاهر، والسؤال هو: إذا كانت المودّة تعني المحبّة مع إظهارها، وإذا كان الإظهار أمراً اختيارياً، فإنّ المحبّة نفسها ليست فعلاً اختيارياً بل هي مناط قلبيّ، لأنّك إذا كنت لا تحبّ أحداً فلا معني لأن تؤمر بحُبّه إذاً فما هو معني ووجه هذا الأمر مع أنّ التكاليف لا تتعلّق بالأُمور غير الاختيارية؟

يجيب العلماء علي هذا السؤال بقولهم: إذا كان المسبّب غير اختياريّ وكان السبب اختيارياً، فإنّ الأمر بالمسبَّب يعني الأمر بالسبب، والمودّة - في المقام - كذلك فإنّها وإن كانت أمراً غير اختياري لأنّ الإنسان إذا رأي خيراً من أحد تعلّق به قلبه دون اختياره، كما هو الحال في البغض أيضاً فإنّ الإنسان إذا رأي شرّاً من أحد أبغضه، إلاّ أنّ أسباب الحبّ والبغض اختيارية يمكن أن يتوفّر عليها الإنسان.

فيكون معني الأمر الإلهي بحبّ أهل البيت سلام الله عليهم هو العمل بما من شأنه أن يؤدّي بالإنسان إلي حبّهم، كقراءة فضائلهم والاطّلاع علي سيرتهم العطرة؛ لأنّ الإنسان إذا عرف أهل البيت سلام الله عليهم فإنّه لا يمكنه أن لا يحبّهم إلاّ أن يكون سقيم الفطرة فينكر ذلك رغم وقوفه علي عظمتهم، كما قال الله تعالي واصفاً منكري آياته: ?وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أنْفُسُهُمْ? فإنّهم متيقّنون من صحّتها في قلوبهم وهذا أمر غير اختياريّ، ولكنّهم لا يُظهرون ذلك جحوداً.

ويمكن أن نضرب مثلاً آخر وهو الهلال في شهر رمضان المبارك، فإنّ المكلّف مأمور بأن يصوم لرؤيته ويفطر لرؤيته؛ لذلك إمّا أن يستهلّ بنفسه أو يسأل مرجع تقليده مثلاً حتّي يحصل له

اليقين أو الظنّ بأنّ الهلال قد هلّ فيعمل بوظيفته؛ فاليقين أو الظنّ الحاصل ليس أمراً اختيارياً ولكن الأسباب التي أدّت إليه اختيارية؛ ولذلك يتوجّه إليها الأمر.

بيد أنّ نفس أمر القرآن الكريم، يكفي سبباً لحصول المحبّة بذي قربي النبي صلي الله عليه وآله.

قضية الدعاء والطلب من الله تعالي تشبه المثالين اللذين تقدّما - أي الأمر بالحبّ في المثال الأوّل، والظنّ أو اليقين في المثال الثاني - فكما أنّ الأمر بهما يعني الأمر بتهيئة مقدّماتهما، فكذلك عندما يعلّمنا المعصومون أن نطلب أُموراً من الله تعالي فإنّ في ذلك دعوة لنا لكي نعمل في ذلك الاتّجاه، وإلاّ لا معني لأن تطلب من الله شيئاً وأنت تعمل علي خلافه لأنك بذلك تحول دون تحقيقه، وليس معني الدعاء أن يحقّق الله المطالب كلّها بطريقة إعجازية.

فعندما يدعو الإنسان ربّه لأن يجنّبه عداوة الأدنين، فعليه أيضاً أن يتجنّب ما من شأنه أن يثير تلك العداوة. ففي المجتمع عادة يوجد أُناس دنيئون ديدنهم إيذاء الآخرين، فعلي العاقل أن لا يجعل نفسه عرضة لإيذائهم، وأن لا يعمل ما من شأنه أن يثير عداوتهم.

إذاً مفهوم الدعاء في قول الإمام سلام الله عليه: وأبدلني … من عداوة الأدنين الولاية يُظهر إضافة إلي عنصر الطلب من الله تعالي وجوب أن يضمّ إليه العمل علي تجنّب الخصال السيّئة من قبل الداعي نفسه.

وهكذا الأمر بالنسبة لقوله سلام الله عليه: ومن ظنّة أهل الصلاح الثقة، فإنّ الأحاديث الشريفة وتعاليم النبي صلي الله عليه وآله والأئمّة المعصومين من آله سلام الله عليهم تدعو الإنسان المسلم وتحثّه للعمل علي اتّقاء مواضع التّهم عامّة، فكيف بظنّة أهل الصلاح.

فقد روي أنّ رسول الله صلي الله عليه وآله كان مع إحدي نسائه، فمرّ به رجل

فدعاه صلي الله عليه وآله، فجاء، فقال: يا فلان، هذه زوجتي فلانة. فقال: يارسول الله من كنت أظنّ به فلم أكن أظنّ بك. فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: إنّ الشيطان يجري من الإنسان مجري الدم.

ربما لم يكن هذا الشخص متّهِماً للنبيّ صلي الله عليه وآله، وربما كان من المنافقين الذين يتربّصون بالنبيّ، فقطع صلي الله عليه وآله الطريق عليه بذلك؛ ليعلّمه ويعلّمنا كيف نتّقي مواضع التّهم.

إذاً لا يكفي أن يقول المرء: «اللهمّ جنّبني مواضع التّهم» أو «أبدلني من ظنّة أهل الصلاح»، وهو لا يتّقي مواضع التّهم، وإنّما عليه أن يسعي بعمله لتجنّب توجّه التّهمة إليه من أبسط الناس فضلاً عن تهمة أهل الصلاح، الذين لا يتّهمون أحداً جزافاً، وإذا فعلوا فإنّ تهمتهم لا يقدر علي إزالتها أو مسحها إلاّ الله، بمعني أن يحاول الإنسان ما أمكنه تجنّب كلّ ما من شأنه أن يسبّب تهمة أهل الصلاح له، وإذا ما صدر منه ما يجعل أهل الصلاح يظنّون به أو يتّهمونه يسرع بالطلب من الله تعالي أن يبدّل ذلك الظنّ إلي ثقة، بحوله وقوّته.

ما أعظم الذين وثقهم المعصومون صلوات الله عليهم

لابدّ أن يكون للصلاح أهل يحملونه ويعملون به، ولابدّ أن يكون لأهل الصلاح رأس وذروة وسنام يستضيئون به ويستزيدون، ولا أجدر من أئمّة أهل البيت النبويّ المعصومين سلام الله عليهم، فهم خيرة أهل الصلاح وأئمّتهم وقادتهم وعظماؤهم، فلو أُطلقت هذه الكلمة (أهل الصلاح) فالمصداق الحقيقي لها والأولي بها هم سلام الله عليهم.

كما أنّ هناك جملة ممّن حاز علي ثقتهم صلوات الله عليهم سواء كانوا علي مستوي أفراد أو جماعات. فمن الذين حازوا هذا الشرف، عائلة كبيرة من الأشعريين عاصروا الأئمّة منذ الإمام السجّاد أو الباقر سلام الله عليهما حتّي صاحب الأمر

عجّل الله تعالي فرجه الشريف، والعشرات منهم كانوا من أصحاب الأئمّة والعديد منهم جيّدون بل جيّدون جدّاً، منهم زكريا بن آدم المدفون في المقبرة القريبة من مرقد السيّدة فاطمة المعصومة ومن عبّر عنه الإمام المعصوم عليه السلام بقوله: المأمون علي الدين والدنيا.

فما أعظم مقام هذا الشخص! ففرق بين أن يقول هذه الكلمة شخص عادي بحقّ آخر وبين أن تصدر من إمام معصوم يعرف خفايا الأمور وظواهرها، ونحن نعتقد استناداً إلي الروايات سواء بالأدلّة المطابقية أو التضمّنية أو الالتزامية أنّ الإمام المعصوم هو نفس النبيّ صلي الله عليه وآله باستثناء النبوّة؛ قال تعالي: ?وَأنْفُسَنَا وَأنْفُسَكُمْ?.

صحيح أنّ درجاتهم تختلف ولكنّهم نور واحد ومن طينة واحدة، لا يتخلّف عن ذلك أيّ منهم.

فحينما ينعت الإمام صلوات الله عليه زكريا بن إبراهيم بأنّه مأمون علي الدين والدنيا أو يصف «العمري» وابنه بأنّهما ثقتان فإنّه يريد التصريح بنزاهتهم ووثاقتهم، وهذه مرتبة عظيمة.

ينقل أنّ الشيخ البهائي رحمه الله سئل: أيّهما أفضل؛ زكريا بن آدم أم الشيخ الصدوق؟ فأجاب الشيخ البهائي: زكريا بن آدم. هذا رغم قلّة ما وصلنا منه عن الأئمّة وكثرة ما وصلنا من الشيخ الصدوق من كتب ملأت أدراج المكتبات وبيوت الشيعة، وقد لا أُبالغ إن قلت بأنّه لا توجد عبادة نؤدّيها ولا كثير من الأحكام والإرشادات والأدعية والزيارات والأخلاق والآداب إلاّ وقد وصلنا جزء منها عن طريق الشيخ الصدوق؛ فكم هو جليلٌ إذاً.

لكن الشيخ البهائي مع ذلك قال: إنّ زكريا أعظم من الشيخ الصدوق، وبرّره بأنّ الإمام المعصوم قال عنه بأنّه: المأمون علي الدين والدنيا ولم يرد مثل ذلك بحقّ الشيخ الصدوق.

يقال: فرأي الشيخ البهائي في منامه الشيخ الصدوق وهو يعاتبه قائلاً: لو قال الذي قلته غيرك لعذر، أمّا

أنت العالم فكيف تقول ذلك؟ فقال الشيخ البهائي: ما قلت الذي قلت إلاّ لقول المعصوم في زكريا. فقال: ولكنّي لم أكن معاصراً للمعصوم لتستظهر تزكيته لي، فالمقارنة غير صحيحة. فتوقّف الشيخ البهائي بعد ذلك عن هذه المفاضلة.

ولكن شاهدنا أنّ تزكية المعصوم لشخص يوجب الاطمئنان الكامل به وبعظمة منزلته.

وعلي أيّة حال، فإنّ بإمكان الإنسان أن يكسب ثقة أهل البيت سلام الله عليهم حتّي في هذا الزمن، فهذا ليس بالمستحيل ولا بالصعب جدّاً، ولعلّه في هذا الزمان أسهل من زمن زكريا بن آدم، لا أقول إنّه ليس صعباً أبداً، ولكنّي أُريد القول إنّه ممكن تحقيقه ولكنّه يتطلّب الجدّ والإرادة.

قد يستطيع الإنسان أن يحوز علي ثقة الناس العاديين ولكن حصوله علي ثقة الإمام المعصوم ليس بتلك السهولة؛ لأنّ الإمام يعرف خفايا الإنسان وما يظهره.

المعصومون يشهدوننا

يحكي أنّ أحد الأشخاص كان ذا التزام دينيّ ظاهريّ ذهب لزيارة الإمام الرضا سلام الله عليه لطلب الحوائج منه. وكانت حوائجه كثيرة إلاّ أنّ أيّاً منها لم يتحقّق. يقول الشخص نفسه: ولكنّي قبيل خروجي من الروضة المباركة طلبت من الإمام سلام الله عليه أن يبيّن لي منزلتي عنده، وإذا بشخص يناديني باسمي الحقيقي الذي كنت أُخفيه عن سائر الناس ولا يعرفه إلاّ الخواص جدّاً، فاستغربت من ذلك، ثمّ إنّه أنبأني بأنّ منزلتي ومقامي كذا وكذا ويبدو أنّه كان مقاماً بائساً.

ويقال إنّ شخصاً كان في زيارة للإمام الرضا سلام الله عليه فبدر إلي ذهنه هذا السؤال: إذا كان ردّ السلام واجباً فهل الإمام يردّ جواب كلّ زائر يسلّم عليه منفرداً أم يجيب بجواب واحد للجميع كأن يقول: عليكم السلام جميعاً؟ فظهر له الإمام في عالم المكاشفة وهو يردّ سلام كلّ مسلِّم باستقلال، ومنهم الشخص الذي

بدر إلي ذهنه هذا التساؤل. وهذا معناه أنّ الأئمّة يشهدوننا ويعرفون عن كلّ منّا كلّ شيء، فقد روي عنهم سلام الله عليهم قولهم: نحن صنائع الله.

وإنّ الأئمّة صلوات الله وسلامه عليهم لا يثقون بأحد هكذا اعتباطاً، كما لا يتّهمون أحداً جزافاً ألبتّة لأنّهم أهل الصلاح بل قادة أهل الصلاح.

بمقدور كلّ مؤمن أن يحوز ثقة المعصوم

إذاً بمقدور كلّ مؤمن أن يحوز علي ثقة أهل البيت سلام الله عليهم، شرط أن لا يقصّر. فمن عرف عظمتهم وقدّم ما في وسعه في سبيلهم، وهو سبيل الله تعالي، كسب ثقتهم حتّي يصل إلي مرتبة أمثال زكريا بن آدم وغيره؛ لأنّ الله تعالي لم يحصر مقاماً ما غير مقام العصمة لأحد دون آخر.

فلنسعَ لكسب ثقة الإمام المعصوم، ولنتنافس في ذلك خاصّة في الأشهر الحرم؛ لأنّ كلّ عمل حسن فيها فهو أفضل منه في غيرها، وكلّ عمل قبيح في غيرها فهو فيها أكثر قبحاً.

إبدال العقوق والخذلان، وتطوير المداراة

إبدال العقوق والخذلان، وتطوير المداراة

العقوق - لغةً - من العقّ وهو الشقّ والقطع والحفرة الواسعة في الأرض، وأطلق «عاقّ الوالدين» علي الولد الذي يؤذي والديه بشقّ عصا طاعتهما أو لايصلهما، فينشقّان عنه بسبب سوء موقفه تجاههما. فالعقوق يستعمل في الوالدين، كما تستعمل القطيعة في الأرحام غالباً؛ لكن هنا اُطلق العقوق تجاه الأرحام: ومن عقوق ذوي الأرحام.

إنّ الحالة الغالبة بين الأرحام هي أن يعقّ بعضهم بعضاً، بسبب المشاكل والتوقّعات أو اختلاف الأذواق أو تضارب المصالح الشخصية، فتحصل بينهم هوّة وهذه الهوّة قد تزداد بمرور الزمن، وهذا في الأرحام شيء غير نادر، اللهمّ إلاّ أن يسارع ذوو الأرحام في معالجة ذلك والسعي في إصلاح ذات البين.

والعلاج في العقوق – كما هو في جميع البلايا - له ركنان، الأوّل: الدعاء، والثاني: السعي. فعلي الإنسان - كما قلنا مراراً - أن يسعي ويدعو، لا أن يدعو دون سعي، أو يسعي دون دعاء.

إنّ الإمام السجّاد سلام الله عليه يسأل من الله تعالي - ونحن ينبغي أن نقتدي به لأنّه إمامنا المفترض الطاعة - أن يبدّل عقوق ذوي أرحامه بالمبرّة، أي: ياربّ لا تجعلني ممّن يعملون ما من شأنه حصول القطيعة.

ومعلوم أنّ المبرّة تعني الصلة وهي الطرف الضدّ للعقوق تماماً.

ولن يتسنّي ذلك بسهولة ما لم يسع الفرد إلي دفع أو رفع وإزالة المشاكل التي توجب العقوق والشقاق. فلا ينبغي أن نقع في الغفلة أو التغافل عن أُولي أرحامنا بداعي سوء الظنّ أو النظر في المصالح المادّية البحتة، أو تتقطع سبل التواصل معهم بسبب الخجل أو ما أشبه.

وعمدة القول في معني هذا الطلب هو أن يتوسّل المرء بربّه ليعافيه عن الابتلاء بعقوق ذوي الأرحام، لما فيه من التفكّك الأُسري والاجتماعي، فضلاً عن سخط الله تعالي.

نصرة الأقربين

ثمّ يدعو الإمام بالنصّ التالي: ومن خذلان الأقربين النصرة. ومعلوم أنّ الأقربين أعمّ اصطلاحاً من أُولي الرحم، ولذلك يطلق علي مَن يعيش الإنسان معهم بصورة أشمل وأوسع، كالجيران وطلبة المدرسة، وزملاء العمل، فأفراد هذه الأصناف قد يعيش بعضهم مع بعض ويقترب بعضهم من بعض حتّي تصل درجات التأثير المتبادل فيما بينهم حدّاً كبيراً.

وقد يكون هؤلاء الأقربون أُولي رحم أي نسبيّين أو غرباء لا رابطة بينهم، أو أنّهم قرابة من حيث السبب.

والخذلان عادة يصدر من هؤلاء الأقربين تجاه بعضهم، كأن لا يتساعدون لحلّ مشكلة ما قد أصابت أحدهم، نظراً إلي أنّ ديدن الناس غالباً الاجتماع حول ذي الثروة أو النفوذ، ويكونون منفضّين عن الفقير باستثناء بعض من هو مثله أو أدون منه. والإمام سلام الله عليه يحرّضنا بدعائه هذا علي أن نطلب من ربّنا الكريم أن يبدل خذلان الأقربين بمحبّتهم لنا ليتحقّق عنصر تبادل المنفعة بيننا.

إذاً، فهنا قضيّتان مهمّتان: قضية الدعاء، وقضية السعي نحو تفعيل مضمونه؛ بمعني أنّ الفرد كما يحبّ أن ينصره الأقربون عند حاجته إليهم، كذلك عليه أن يضع في حسبانه تقديم النصرة لهم عند الضرورة وغيرها، لدفع أكبر نسبة

ممكنة من احتمالات الخذلان عند الحاجة، فهو إذا خذل قريبه حين يحتاجه، فليتوقّع خذلان قريبه له كذلك.

مداراة الناس

يقول الإمام سلام الله عليه: ومن حبّ المدارين تصحيح المقة. أي المحبّة.

لقد حثّ الإسلام علي مبدأ المداراة بين الناس وجعل للمدارين جزاءً موفورا. حتي جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلي الله عليه وآله أنّه قال: من مات مدارياً، مات شهيدا ً. والمتواتر عن السيرة النبوية الشريفة أنّ رسول الله صلّي الله عليه وآله - وهو سيّد الأخلاق الحميدة، الذي وصفه الله تعالي في كتابه بقوله: ?وَإنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ? - كان يعامل الناس معاملة هي الغاية في الحكمة والطيبة حتّي ليظنّ كلّ منهم أنّه أحبّ الناس إلي النبي فكان بذلك المصداق الأكمل للمداراة.

فإن كان المرء لا يحبّ أحداً، فلا يلزمه أن يظهر هذا الإحساس له أو يبديه في وجهه، وهذا من الأُمور المستحبّة، حتّي ورد في النبويّ الشريف أنّ نصف العقل مداراة الرجال. فيعاملهم معاملة يتصوّرون أنّه يحبّهم، وهذا ليس من النفاق في شيء، بل هو من مقتضيات العقل وأُصول الأخلاق الرفيعة؛ إذ لا شكّ في وجود الاختلاف والتفاوت في الأذواق والأساليب والتوجّهات بين الناس، ولكن ليس من الضروري أن يظهر المرء كلّ ما في قلبه للآخرين، بل من الضروري أن يبدي احترامه لأذواقهم وأساليبهم وتوجّهاتهم وآرائهم، كما يمكنه أن يعكس وجهة نظره ورأيه أو طبيعة ذوقه وما يرتئيه من أُسلوب بالصورة المناسبة والحكيمة، لكي لا يقع الشقاق والفُرقة.

وهذا النصّ من الدعاء الشريف يشير إلي أهميّة طلب المرء من ربّه أن يساعده في تحويل المودّة الظاهرية التي نعبّر عنها بالمداراة من قبل الناس له إلي حبّ باطني حقيقي يضاعف الترابط الاجتماعي ويكرّس العلاقة الطيبة بينه وبين

باقي أفراد المجتمع.

وبذلك يُفهم من سياق النصّ وكأنّ الإمام سلام الله عليه يقول: إلهي، اجعل من الحبّ الظاهري الذي يبدو بسبب مداراة الناس لي، حبّاً واقعياً في قلوبهم.

الاستفادة من بلاغة المعصومين عليهم السلام

وهنا تجدر الإشارة إلي أهمية وضرورة الاستفادة من بلاغة الأئمّة عليهم الصلاة والسلام، لنتعلّم من أساليبهم الحكيمة ما يعود علينا بالفائدة والنجاح في التواصل مع الآخرين.

فمن البلاغة مثلاً عدم التكرار في الكلام، أي أنّ المعني الواحد إذا كان بحاجة إلي التكريس والتكرار، فمن الأجدر أن لا يُكرّر اللفظ نفسه، بل يُذكر في قوالب لفظية مختلفة، لكي يكسبه جمالاً علي جمالٍ، ويجعله أكثر وقعاً في نفس المخاطَب.

وهذا الجمال يشمل فيما يشمل جمال الألفاظ وحسن التعبير وبلاغة البيان، كما يعلم سلام الله عليه أنّ العبد ملزم بمعرفة موقعه وحقيقته كمخلوق تجاه خالقه. ورغم أنّ الله غنيّ عن ألفاظه، إلاّ أنّ الإنسان ينبغي أن ينتخب الأجمل والأروع والأبلغ في الكلام.

ولذلك؛ فإنّ الإمام سلام الله عليه لم يكرّر عبارته تلك ولم يقل: «من حبّ المدارين تصحيح المحبّة»، بل استخدم لفظة (المقة) لتكريس جمال الأُسلوب في مناجاته مع الله تعالي.

لنتعلّم من القرآن ومن أهل البيت

ونحن من جانبنا ينبغي أن نتعلّم من القرآن الكريم ومن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام جمال التعبير، لأنّ اللفظ بمثابة الإناء، والمعني محتواه. فإذا كان الإناء جميلاً ومحتواه أيضاً، كان ذلك مدعاةً إلي القبول والإقبال، أمّا إذا كان الإناء غير جميل، فلن تكون ثمّة ضمانة في تقبّل المحتويات وإن كانت علي شيءٍ من الجمال في نفسها. وعلي ذلك؛ فإنّ للتعبير الجميل مدخلية في استساغة المعني، حتّي في حال المناجاة مع الربّ العظيم تبارك وتعالي، لأنّه جميل يحبّ الجمال.

طلب فنّ المعاشرة، والأمن من الظالمين

طلب فنّ المعاشرة، والأمن من الظالمين

يقول الإمام سلام الله عليه بعد ذلك: ومن ردّ الملابسين كرم العشرة.

في هذه العبارة يعيد الإمام الكرّة نفسها في استخدام الأُسلوب الأمثل من ذكر الكلمات الأبلغ في التعبير. فالملابسون هم المعاشرون أنفسهم، ولكنّ الإمام لم يقل: (ومن ردّ المعاشرين كرم العشرة) أو (من ردّ الملابسين كرم الملابسة) مع أنّ الملابسة هي المعاشرة أو كناية عنها. وذلك لإمكان أن تصل المعاشرة بين الناس حتّي يكون مستوي القرب فيما بينهم كقرب الإنسان من لباسه. وبسبب هذا التقارب والاقتراب تنكشف النواقص والمساوئ في الأخلاق والفعال، ولذلك تكثر المخاوف من حصول الخلاف فيما بينهم، وذلك لأنّ ديدن الملابسين الخلاف.

من هنا، يجدر بالإنسان أن يطلب من ربّه الكريم أن يحول بينه وبين وصول الخلافات وردود الأفعال التي تسيء إلي عشرته مع الملابسين له، ويحرص علي أن تكون العلاقة بينه وبين القريبين منه والملابسين له علاقة طيّبة وكريمة لا علاقة تتبّع العثرات لإبدائها في النقد الهدّام أو الاغتياب والانتقاص أو الحسد، فالعشرة لها كرامة، أو هكذا ينبغي أن تكون؛ وكأنّ الإمام سلام الله عليه يريد أن يقول: فامنحهم ياربّ هذا الكرم، لئلاّ يردّوا عليّ ما يزعمون أنّها من نواقصي.

وهنا – كما سبق في

نظائره – يلزم أن يعمل الإنسان أمرين:

الأوّل: أن يبادر هو قبل أيٍّ كان إلي أن يكون فرداً كريماً في معاشرته للآخرين، فلا يردّ عليهم باللؤم وسوء الأدب، وإنّما يعاملهم بالحسني ما استطاع.

الثاني: أن يطلب من ربّه التكرّم عليه بأن يساعده علي تحويل ردّ الملابسين – المعاشرين - له، ويبدل صدودهم بعشرة كريمة؛ ملؤها السماحة والإنصاف والعقلانية.

الأمن من الظالمين

ثمّ يطلب الإمام الأمن والاستقرار مناجياً ربّه تبارك وتعالي فيقول: ومن مرارة خوف الظالمين حلاوة الأمنة.

ومعلوم أنّ للخوف مرارة أشدّ وقعاً من مرارة الآلام البدنية التي تُخلّ بنوم المريض، فيهجر لها نومه وتسلبه راحته، ولكنّها رغم ذلك تبقي آلاماً بدنية فقط بينما الخوف ذو مرارة وآلام تمسّ الروح والبدن معاً. جاء في الحديث الشريف: نعمتان مجهولتان: الصحّة والأمان ممّا يعني لزوم أن يستشعر الفرد نعمة الأمن وهو ينعم في ظلّه ويطلب من ربّه أن لا يبتليه بظلم الظالمين، فيضطرّه إلي مكابدة مرارة الخوف منهم.

قد يكون الشعور بالخوف حالة إيجابية وبنّاءة إذا تعلّق بوقوع العقاب من طرف العادل، و ذلك لأنّ الإنسان المحكوم إذا قدّر له العيش تحت مظلّة حاكم أو رئيس عادل، فإنّه سيحدّث نفسه أنّ من الخطأ الخوف، لأنّ العقوبة التي يمارسها الحاكم العادل إطارها التشريع وغايتها الإصلاح، وإلاّ فإنّ الحاكم العادل رجل مأمون الجانب لا يبتغي لنفسه نفعاً جرّاء حكمه؛ بينما الحاكم الظالم أو ربّ العمل الظالم أو المعلّم الظالم أو البائع الظالم أو غيرهم يختلف حاله عن ذلك بكثير، إذ لا يُعلم سبب ظلمه أو مقداره أو زمنه مادام يصبّ في نفع الظالم نفسه. لذلك يطلب المرء من ربّه أن لا يبتليه بهذا البلاء وأن يجعله بمأمن من جميع الظالمين.

قصّة فيها عبرة

ممّا ينقل في هذا المجال أنّه في إحدي البلدان عزم رئيسها علي إرسال قاضٍ إلي إحدي المناطق، إلاّ أنّ حاكم تلك المنطقة سرعان ما قام بقتله، وحتّي يتبيّن للرئيس السبب في ذلك، قام بإرسال قاضٍ آخر، ولكنّ الحاكم ألحقه بالقاضي الذي سبقه. وهذا الأمر أدّي ببعض القضاة إلي الامتناع عن التوجّه إلي ممارسة القضاء في تلك المنطقة. غير أنّ أحدهم، بعد فترةٍ

تبرّع بقبول المنصب لقاء أجرٍ باهض جدّاً، مدّعياً أنّه سيعمل في سبيل الكشف عن أسباب مقتل القاضيين اللذين سبقاه، ومن ثمّ يُعلم رئيسه ليقضي علي الحاكم وفي الوقت نفسه يكسب ثقة الرئيس بعلمه وعمله لكي يضمن لنفسه بعد ذلك منصباً أرفع وأجراً أعلي. وحين توجّه إلي تلك المنطقة أخذ القاضي بمسامرة ومجالسة حاكمها في محاولة منه ليعرف أسباب قتله القاضيين السابقين، ولما اطمأنّ له الحاكم بعدما أخذ بمجامع عقله وقلبه، قال له: إنّه لم يقتل القاضي الأوّل إلاّ بعد أن رأي في منامه ذات مرّة أنّه عدوّ لدود له، وحينما استيقظ مرعوباً، أمر بقتله فوراً. أمّا القاضي الثاني فرأي فيه رؤيا وكأنّه حلّ مكانه حاكماً، ففزع، ولذا ألحقه بصاحبه.

فلما سمع القاضي الثالث هذا الكلام لم يجد بدّاً حينها إلاّ الهروب والعودة إلي رئيسه، فأخبره مؤكّداً له بأنّه ربما يتمكّن من ضبط كلّ شيء من ذلك الحاكم، سوي رؤياه، فإنه لا يقدر أن يتحكّم فيها وقد يري رؤيا لهذا الثالث ويلحقه بسلفيه.

إذاً ليس كلّ خوف له مرارة. أمّا الخوف من الظالم فإنّ له مرارة شديدة، لأنّه لا يُعلم ماذا سيصدر عنه، ولأي سبب سيعاقب، وكيف ومتي سيعاقب ويعتدي. ولا يكفي أن يحتاط المرء في تجنّب ما نهي عنه، ما لم يسأل الله عزّ وجلّ أن يحرسه بعينه التي لا تنام، ويرعاه في الشدّة والرخاء.

فالإمام بعد أن يطلب من ربّه أن يبدله عن عقوق أرحامه بمبرّتهم، وعن ردّ الملابسين بكرم العشرة، وعن بغضة أهل الشنآن بالمحبّة، طلب من الله تعالي أن يبدل مرارة خوفه من الظالم إلي شعور بالأمان، أي عدم العيش تحت ظلّ الظالم.

انظروا إلي دقّة التعابير في دعاء الإمام سلام الله عليه: فإنّ ظاهر عبارة

الإمام تدعو إلي تغيير حالة أُولئك يعني الأرحام والملابسين وأهل الشنآن و … سوي الظالم، فإمّا أن لا يراني ويسوؤني، أو اجعلني اللهمّ في مكان وزمان بعيدين عن الظالم، لأنّ وجود الظالم يعني وجود الخوف من ظلمه.

الدعاء دعوة للتغيير وتحصيل ملكة العدالة

ومقطع الدعاء هذا يتضمّن بين طيّاته أن علي الإنسان أن يهجر الظلم ويمتنع عنه تجاه نفسه أوّلاً، وتجاه الآخرين ثانياً، فينبغي أن يعي مدي لزوم تحصيل ملكة العدالة في نفسه، وهو واجبٌ عقلي أيضاً.

فإذا أراد الفرد عدم ارتكاب المعصية، فاللازم أن يخالف هواه، ومن أولويات ذلك أن يخلق وينمّي ملكة العدالة في نفسه.

ولعلّ من أحسن الفرص أمام الإنسان لتنمية هذه الملكة، وتقويتها هي الأشهر الحرم ذات الفضيلة علي باقي الشهور، فكما يمكن للراغب أن يستثمر هذه الأشهر في مضاعفة ثواب الصلاة والصيام والصدقة، كذلك يمكنه أن يستثمرها في الارتقاء بمستوي أخلاقه الحميدة وحسن سلوكه الذي يجرّ صاحبه جرّاً إلي الجنّة، وفي الحديث: ما وضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخُلُق …

لا شكّ أنّ حسن الخلق الذي هو أحد أركان ملكة العدالة كما يلزم أن يكون داخل نطاق الأُسرة كذلك يلزم في خارجها، ولا شكّ أنّ استدامته ليس بالأمر السهل، تبعاً لوجود الموانع الصعبة والشديدة والتي منها وساوس الشيطان، والنفس الأمّارة بالسوء التي ترهق الإنسان. ويتيسّر ذلك بالعزم والإستعانة بالعلي القدير.

إنّ من لم يطرد الشيطان، ولم يبذل قصاري جهده في ذلك وعجز عن كبح جماح نفسه الأمّارة بالسوء فإنه يخسر دنياه وآخرته، فكثيرٌ من هؤلاء الطغاة والظلمة الذين حكموا تعسّفاً ماتوا من فرط شهوات أنفسهم الأمّارة بالسوء، فترون القليل منهم قد عمّر، فلم تدع لهم شهواتهم وتكالبهم علي الدنيا مجالاً للعمر في الدنيا طويلاً، وقد ورد

في الروايات أنّ الذي يأكل أكثر من حاجته، يُصاب بكذا وكذا، فعن النبي صلي الله عليه وآله: إيّاكم والبطنة، فإنّها مفسدة للبدن، ومورثة للسقم، ومكسلة عن العبادة.

إنّ الأنبياء والرسل عليهم السلام، وعلي مقدّمتهم رسول الله صلي الله عليه وآله وكذلك أئمّة أهل البيت عليهم السلام كانوا أعرف الناس بالدعاء والتضرّع إلي الله تقدّست أسماؤه، وكانوا أكثر الناس سعياً لتكريس معاني الدعاء، فكانوا يتحمّلون المشاقّ والجوع والأذي والقتل من أعدائهم بل حتي من أقاربهم وأصدقائهم ومن بعض أتباعهم! وكم سعي رسول الله صلي الله عليه وآله وجاهد وعاني ودعا إلي جانب ذلك، لكي يرسم للإنسانية النموذج الربّاني الأمثل.

فمن اللازم علي المؤمن أن يجعل من الدعاء عاملاً مهمّاً في شحذ همّته وإقدامه علي ما ينبغي له أن يقوم به من الطاعات، وما ينتهي عنه من المحرّمات، إذ الدعاء عامل دفع إلي عمل الخير من جانب، وعامل كبح للشهوات من جانب آخر.

اللهُمَّ صَلّ عَلي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ

وَاجْعَلْ لي يَداً عَلي مَنْ ظَلَمَني،

وَ لِسَاناً عَلي مَنْ خَاصَمَني، وَظَفَراً بمَنْ عَانَدَني، وَ هَبْ لي مَكْراً عَلي مَنْ كايَدَني، وَقُدْرَةً عَلي مَن اضْطَهَدَني، وَتَكْذيباً لمنْ قَصَبَني، وَسَلامَةً ممَّنْ تَوَعَّدَني، وَ وَفّقْني لطاعَة مَنْ سَدَّدَني وَمُتابَعَة مَنْ أرشَدَني.

? دفع الظلم والمخاصمة

? الظفر بالمعاندين والمكر علي الكائدين

? القدرة علي المضطهِدين

? تكذيب القاصبين

? السلامة من المتوعّدين

? طاعة المسدّد ومتابعة المرشد

دفع الظلم والمخاصمة

يقول الإمام السجّاد سلام الله عليه: اللهُمَّ صَلّ عَلي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَاجْعَلْ لي يَداً عَلي مَنْ ظَلَمَني، وَ لِسَاناً عَلي مَنْ خَاصَمَني.

مقدّمة يحسن بيان الفرق بين الظلم والمخاصمة، ونذكر في المقام أمرين:

الأوّل: إنّ الظلم عادةً يكون من طرف واحد، أمّا المخاصمة فغالباً ما تكون من طرفين، ويجوز أن يخاصم الإنسان غيره من دون أن يعاديه.

الثاني:

إذا كان الظلم صادراً من الطرفين لم يكن إذاً من موارد الدعاء، إذ لا معني لأن يطلب أحد الظالمين من الله تعالي أن يهبه القدرة علي الظالم الآخر؛ لأنّ الله تعالي لا يحبّ الظالمين.

وهذا المعني غير متصوّر بالنسبة للإمام المعصوم الذي لا يرتكب ذنباً فكيف بالظلم وهو ذنب عظيم، فضلاً عن أن يطلب من الله تعالي مثل هذا الطلب، وهو يعلم أنّ الله تعالي لا ينصر ظالماً علي ظالم بوسيلة الدعاء، بل إنّ كلا الظالمَين في النّار، كما ورد: القاتل والمقتول في النار وفي الحديث عن النبي صلّي الله عليه وآله: … قيل: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: لأنّه أراد قتلاً.

بعد هذه المقدّمة نقول: إنّ الإمام سلام الله عليه طلب من الله تعالي أن يمنحه القوّة لدفع الظلم عنه – وهو ما يصدر عادةً من طرف واحد وهو الظالم – وكنّي عن القوّة هنا باليد، وحيث إنّ المخاصمة تكون بين طرفين يحاول كلّ منهما إفحام الآخر، فإنّ الإمام يطلب من الله تعالي في هذه الحالة أن يمنحه القوّة التي تجعله متفوّقاً علي خصمه وهي قوّة الردّ التي عبّر عنها باللسان.

الظفر بالمعاندين والمكر بالكائدين

الظفر بالمعاندين والمكر بالكائدين

ينبغي الالتفات بدءاً إلي نقطة مهمّة هي: أنّه ليس كلّ إنسان منحرف عن الحقّ يكون معانداً؛ إنّما المعاند هو الذي عرف الحقّ فزاغ عنه مصرّاً. قال تعالي: ?وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً? الأمر الذي استوجب خلودهم في النار، كما نقرأ في دعاء أمير المؤمنين سلام الله عليه الذي رواه كميل رحمه الله: وأن تخلّد فيها المعاندين.

إنّ كثيراً من المنحرفين عن منهج أهل البيت سلام الله عليهم قد غرّر بهم وغسلت أدمغتهم الدعايات المضلّلة والكاذبة لوعّاظ السلاطين ومن حذا حذوهم فمنعت

أبصارهم من رؤية الحقّ، لذلك نسمع عن كثيرين منهم ما إن اطّلعوا علي الحقيقة حتّي سارعوا إلي الأخذ بالهدي. وما أكثر القصص في هذا المجال والتي تنتهي بالمستبصر بترديد قول الله تعالي: ?اللهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ?.

وما أكثر الذين بلغوا من بين هؤلاء المستبصرين مراحل عالية في الإيمان والقرب من الله تعالي، حتّي تفوّقوا علي كثير من غيرهم، وأفضل مثال علي ذلك بعض شهداء كربلاء الذين يقف الملايين أمام قبورهم إجلالاً وإكراماً يفادونهم قائلين: «بأبي أنتم وأُمّي»، وما ذاك إلاّ لأنّهم لم يكونوا معاندين، وما إن انكشفت لهم الحقيقة حتّي مالوا إليها وساروا معها حتّي الشهادة، فاستحقّوا بها الفوز العظيم الذي حظي به سائر شهداء كربلاء.

أمّا المعاند فهو الذي لا يرضخ للحقّ رغم معرفته به؛ قال تعالي في وصف علماء اليهود المعاندين – الذين يعرفون الرسول صلّي الله عليه وآله ومع ذلك ينكرونه -: ?يَعْرِفُونَهُ كمَا يَعْرِفُونَ أبْنَاءَهُم?.

أمام أشخاص كهؤلاء ليسوا منحرفين فقط بل معاندين لا تجدي معهم الموعظة يطلب الإمام السجّاد سلام الله عليه من الله تعالي أن يُظفره بهم وينصره عليهم؛ فيقول: وظفراً بمن عاندني.

المكر علي الكائدين

هاهنا أيضاً ثلاث نقاط ينبغي الالتفات إليها:

النقطة الأُولي: إنّ الإمام سلام الله عليه في الموارد التالية غيّر عبارة الطلب، فبعد أن كان طلبه في الموارد الثلاثة المتقدّمة بعبارة: اجعل لي عدل عنها إلي عبارة: هب لي. ولعلّ هذا يعود للاختلاف في نوع المطلوب؛ لأنّ الأُمور الثلاثة السابقة كانت تحتاج إلي عمل خارجي، ولذلك عبّر عنها الإمام سلام الله عليه بقوله: اجعل لي أمّا هنا فإنّ المكر وما بعده يتطلّب الفهم والفكر، ولذلك قال الإمام سلام الله عليه: هب لي.

النقطة الثانية: إنّ المكر يختلف في الاستعمال العرفي عن معناه

اللغوي، فالمكر في اللغة يعني: التدبير علي العدوّ، أي أنّ الماكر يُنزل المكروه بالممكور به من حيث لا يعلم، بمعني تقدير ضرر الغير من غير أن يعلم به.

وهو غير الحيلة، التي تُستعمل في نفع الغير أيضاً.

ومكر الله كما في قوله تعالي: ?وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ? عبارة عن إيصال الجزاء الي الماكر واستدراجه من دون أن يعلم.

فنسبة المكر لله تعالي تأتي من باب الازدواج في الكلام كما في قوله تعالي: ?فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه? فالأول عدوان والثاني ليس بعدوان ولكنّه سمّي به ليُعلم أنّه عقاب عليه وجزاء به.

من هذا نستخلص أنّ المكر الذي يطلبه الإمام سلام الله عليه من ربّه تعالي يتحدّد في استيهابه حسن التدبير في مواجهة الكائدين له حتي يسقطوا هُمْ في شرّ فعالهم فلا ينالوا سوي الخسران المبين.

النقطة الثالثة: صحيح أنّ من معاني المكر التدبير علي العدوّ في محاولة إيقاعه في المشكلة، ويجوز في الحرب المكر والخدعة، كما روي عن النبيّ صلّي الله عليه وآله: أنّه قال: الحرب خدعة، ولكن استعمال المكر والخدعة لا يعني اللجوء إلي الكذب والفتك، لأنّهما من سيّئ الأعمال، فإنّ الكذب من أعظم الكبائر، كما أن الإيمان قيّد الفتك.

فمثال الخدعة في الحرب أنّ الشخص يقوم بعمل من شأنه أن يوحي لخصمه بأمر ما وهو يَنوي خلافه، وقد يُحاول تضليل عدوّه قبل الحرب أو في أثنائها يبتغي بذلك تقليل الخسائر أو تعجيل النصر أو ما أشبه، التي يدعو إليها العقل ويحبّها الله تعالي، كما ورد من فعل النبي صلّي الله عليه وآله في كتب السير، أنّه سار قبل غزوة بدر في خلاف الجهة التي كان يتوقّعها الناس يريد صلّي الله عليه وآله بذلك تضليل العدو ولئلاّ يشعر

به الجواسيس، فتبقي المبادرة بيده من دون ظلم أحد، ولكن لا يجوز أن يُمنح العدوّ الأمان ليسلّم نفسه فإذا سلّم نفسه بادروا لقتله غيلة أو صبراً؛ لأنّ هذا يعدّ فتكاً؛ والإسلام لا يرضي به.

أمّا مخادعة العدو يُراد ستر المذهب عنه، فهذا مطلوب علي كلّ حال، كما روي عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أنّه قال: فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك.

القدرة علي المضطهدين

يقول الإمام بعد ذلك: وقدرة علي من اضطهدني، وقبل بيان المعني العام لهذه الجملة ننوّه إلي أنّ كلمة «اضطهاد» مشتقّة من لفظة «ضهد» وهي في الأصل «اضتهاد» ثمّ أُبدلت تاؤها طاءً، لأنّها من المواضع التي تبدل فيها التاء إلي طاء في اللغة العربية تخلّصاً من الثقل وصعوبة التلفّظ بالتاء التي تأتي بعد الضاد في الكلمة.

والاضطهاد في اللغة هو ظلمٌ خاص، وهو الظلم الذي يقع علي الإنسان بسبب عقيدته، ثمّ توسّع استعماله من باب المجاز فصار يشمل كلّ ظلم.

فكأنّ الإمام سلام الله عليه يقول: إلهي، هب لي القدرة علي من يريد ظلمي بسبب عقيدتي وتوجّهاتي الحقّة، لئلاّ يتمكّن من ذلك.

والملفت للانتباه هنا أنّ الإمام عندما طلب من الله تعالي العون مقابل الظلم قال: اجعل لي يداً علي من ظلمني فاستعمل كلمة «يد» للتعبير عن القوّة والقدرة. ولكنّه هاهنا – في مقابل الاضطهاد، وهو الظلم الواقع علي المرء بسبب العقيدة والمبدأ – استعمل لفظة القدرة نفسها، فقال: وقدرة علي من اضطهدني، ولا شكّ أنّ وراء هذا الاختلاف تكمن معانٍ دقيقة، حريّ بأهل العلم الوقوف عندها والتأمّل فيها.

تكذيب القاصبين

يقول الإمام سلام الله عليه بعد ذلك: وتكذيباً لمن قصبني أي أعاب عليّ.

من الواضح أنّه لا يخلو أيّ إنسان من عيب؛ لأنّ الله تعالي خلق الدنيا هكذا، لكي يمتحن بها العباد. فإذا كان الإنسان غنيّاً أُصيب بعيوب كالكبر والغرور والبخل وغير ذلك، وإن كان فقيراً ابتلي بالعيوب التي يسبّبها الفقر، وربما انتقصه بعض الناس بسبب الفقر نفسه وعدوّه عيباً فيه، وهكذا هو الإنسان في كلّ حالاته. وبما أنّ بعض الناس لا يكفّون ألسنتهم عن أحد، لذلك يطلب الإمام السجّاد سلام الله عليه من الله تعالي أن يهبه إمكانية تكذيب من

يُعيّر وينتقص من غير حق.

السلامة من المتوعّدين

السلامة من المتوعّدين

الوعد إمّا أن يكون في خير كما لو وعد الإنسان ابنه: إذا نجحتَ في الامتحان فسأعطيك جائزة، وإمّا أن يكون في الشرّ وهو الوعيد ومنه التوعّد، وهو الذي يطلب الإمام سلام الله عليه من الله تعالي أن يسلّمه منه.

عظة أخلاقية

لقد طلب الإمام سلام الله عليه في دعائه من الله تعالي أن يخلّصه من شرور الظالمين والمخاصمين والكائدين والمعاندين والمضطهدين والقاصبين والمتوعّدين، ولكن ينبغي أن نذكر أنّ هناك عدواً أعدي منهم كلّهم، ولو تمكّن هذا العدوّ من الإنسان ألحق به عذاباً لا يزول أبداً، وذلك العدو هو النفس الأمّارة بالسوء. أتدرون ماذا تصنع النفس بالإنسان إن هو مكّنها من عقله؟ سوف تقوده إلي نار سجّرها جبّارها لغضبه.

إنّ الله تعالي خلق الخلق ليرحمهم؛ فقال عزّ من قائل: ?إلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ? أي ليرحمهم، إلاّ أنّ الإنسان بتصرّفاته واتّباع هوي نفسه الأمّارة بالسوء يجلب غضب الله عزّوجلّ. فلابدّ إذا من التفكير بصورة جادّة لهذه المشكلة.

إنّ الدعاء جزء مهمّ من العلاج، غير أنّ الجزء الأهمّ فيه يتمثّل في قوله تعالي: ?وَأنْ لَيْسَ لِلإنْسانِ إلاّ مَا سَعَي?. فلابدّ من الاستعانة بالرياضة الروحية المشروعة، فعن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه: وإنّما هي نفسي أروّضها بالتقوي وفي الحديث الشريف أيضاً: ليس منّا من لم يحاسب نفسه كلّ يوم …

وروي أنّه بينا موسي بن عمران عليه السلام يعظ أصحابه إذ قام رجل فشقّ قميصه فأوحي الله عزّوجلّ إليه: ياموسي قل له: لا تشقّ قميصك ولكن اشرح لي من قلبك.

فلنفكّر قليلاً من أجل ضبط ما قد يصدر من هذه النفس التي أودعها الله فينا ليختبرنا أندسّها أم نزكّيها، قال تعالي: ?قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا? ويكون الناس بعد

ذلك كما قال تعالي: ?هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله?. فَرُبّ أخوين عاشا معاً في محيط واحد ولكن اختلفا في الدرجات اختلافاً شاسعاً. ومن الأمثلة علي ذلك: محمّد بن الفرج الرخجي، وأخوه عمر الرخجي. فلقد كان محمد الرخجي من أوثق أصحاب الإمامين الجواد والهادي عليهما السلام، ولعله الآن في روضة الخلد مع الذين فيها يحبرون، بينما صار أخوه عمر بن الفرج الرخجي في حصب جهنّم مع الذين فيها يصطرخون، لأنّه كان من أشدّ أعداء أهل البيت سلام الله عليهم. وقد تجد إنساناً آل أمره إلي أن يكون من أهل التابوت بينما ابنه في زمرة الأبرار المؤمنين. يقول أمير المؤمنين سلام الله عليه في حقّ محمّد بن أبي بكر: محمّد ابني من صلب أبي بكر.

لابدّ من ترويض النفس

إنّ النفس لا تتغيّر نحو الأفضل أو الأسوأ دفعةً واحدة، وإنما بالتدريج؛ فعن أميرالمؤمنين سلام الله عليه أنّه قال: النفس مجبولة علي سوء الأدب، والعبد مأمور بملازمة حسن الأدب، والنفس تجري بطبعها في ميدان المخالفة، والعبد يجهد بردّها عن سوء المطالبة، فمتي أطلق عنانها فهو شريك في فسادها، ومن أعان نفسه في هوي نفسه فقد أشرك نفسه في قتل نفسه. ولذا شدّد علي ترويض النفس حتي لا تتمادي في غيّها، فقال سلام الله عليه: مَنْ لَمْ يَسُسْ نَفْسَهُ أضَاعَها أي كما تخدعكم خادعوها وجرّعوها الخير رويداً رويداً، ابتداءً بالأسهل فالأسهل وهكذا. فمثلاً لو لم يكن الشخص من أهل صلاة الليل فلا يفرض علي نفسه أداءها بمستحبّاتها كلّها في أوّل الأمر، بل ليكتف بأقلّ ما تطاوعه به نفسه أوّلاً ثمّ يزيد شيئاً فشيئاً لئلاّ تفلت بعد ذلك؛ فإنّ من لم يرفق بمطيّته في السير، لا هو يصل إلي غايته ولا وسيلة تبقي له. عن

النبيّ صلّي الله عليه وآله: المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقي. فعلينا التدرّج بالنفس، والاستنارة بكلمات المعصومين سلام الله عليهم وسيرتهم لئلاّ تنعطف بنا أنفسنا فنزيغ.

ورد في رسالة الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه إلي واليه علي البصرة عثمان بن حنيف: ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه … ألا وإنّكم لا تقدرون علي ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد. فلنحاول الاقتداء بأئمّتنا ما أمكننا ذلك، وإن عجزت أنفسنا عن بلوغ ما هم عليه صلوات الله عليهم فلا يبقي لنا سوي الورع والإجتهاد والعفّة والسداد، عسي أن نفوز بمرضاة الله تعالي.

روي عن أبي جعفر الباقر سلام الله عليه أنّ امرأة ادّعت علي أبيه (علي بن الحسين سلام الله عليهما) عند والي المدينة أنّ لها عليه أربعمائة دينار. فقال الوالي: ألك بيّنة؟ قالت: لا ولكن خذ يمينه. فقال والي المدينة يا علي، إمّا أن تحلف وإمّا أن تعطيها. فقال لي: يا بنيّ قم فأعطها أربعمئة دينار. فقلت: يا أبه جعلت فداك، ألست محقّاً؟ فقال: بلي يابنيّ، ولكنّي اُجلّ الله تعالي أن أحلف به يمين صبر.

علينا أن نقتدي بالأئمّة سلام الله عليهم ونتّخذ سبيل التسامح والعفو ونغفر لإخواننا ونعذرهم؛ فإنّ بروز المشكلات بين الإخوة والمتعاشرين كالأرحام والزملاء والزوجين والأساتذة والتلاميذ والأصدقاء أمر طبيعي يولّده القرب والاحتكاك؛ فلذا لا ينبغي تضخيمها بل ينبغي التسامح بشأنها، واللازم الاقتداء بأئمّتنا الذين كانوا المثل الأعلي في الأخلاق الفاضلة، ولا يتأتّي هذا كلّه إلاّ بالترويض والتدرّج مع النفس كما قلنا.

كما ينبغي لنا أن ننتهز كلّ الفرص والمناسبات التي منّ الله تعالي بها علينا، مثل شهر رمضان المبارك، والأيّام التي نحن مقبلون عليها من أيّام شهر ذي الحجّة

الحرام لاسيّما العشر الأُول منه، ففي الحديث عن النبي صلّي الله عليه وآله: ما من أيّام العمل الصالح فيها أحبّ إلي الله عزّ وجلّ من أيّام العشر. والتي تكرّر ذكرها في القرآن الكريم في قوله تعالي: ?أيّامٌ مَعْلُومَاتٌ? و ?أيّامٌ مَعْدُودَات?. فهذه الفرص نادرة فلنغتنمها ونأخذ بزمام أنفسنا بأيّة نسبة استطعنا.

فلنتأمّل في هذه العبائر من دعاء الإمام ونتصوّر أنّ مصاديقها الأجلي هي نفس الإنسان، ولنطلب من الله تعالي أن يهبنا القدرة علي أنفسنا لكي نوفّق ونكون من الذين اتّخذوا طريق التدرّج في الصعود والرقيّ بلوغاً إلي أعلي الدرجات ببركة محمّد وآله الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

طاعة المسدّد ومتابعة المرشد

صحيح أنّه يمكن التوسّع في هاتين الكلمتين وأشباههما في استعمال إحداها مكان الأخري مجازاً، مثل جعل كلمة الطاعة مكان المتابعة أو العكس، وكذا بالنسبة للتسديد والإرشاد؛ ولكن إذا أخذنا بنظر الاعتبار مجيء هذه الكلمات معاً في سياق واحد فإنّ الدقّة تقتضي اختلاف معانيها، خاصّة وأنّ الأئمّة الأطهار سلام الله عليهم هم أُمراء الكلام وأسياد البلاغة وأرومة الفصاحة، وما يسردونه من نظم كلامهم لابدّ وأن يكون موافقاً لفصيح الكلام وفنونه. ومن يراجع كتب اللغة يجد فرقاً واضحاً في استعمال هذه الكلمات وفق معانيها.

فمن موارد الطاعة إستعمالها في الامتثال بلا تأمّل، والعكس صحيح، فالامتثال دون تأمّل يعني الطاعة بعينها، أمّا المتابعة فتعني دوام الامتثال. في الحديث المرويّ عن رسول الله صلّي الله عليه وآله أنّه قال: إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهويً متّبعاً، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك أمر العامّة.

الفرق بين السداد والرشد

أمّا الفرق بين السداد والرشد فالظاهر من الرجوع إلي كتب اللغة أنّ السداد يعني التوجيه نحو الصواب كما في دعاء الافتتاح للإمام الحجّة بن الحسن

عجّل الله تعالي فرجه: وأنت مسدّد للصواب بمنّك.

إذاً فالمراد من المسدّد في دعاء الإمام زين العابدين سلام الله عليه هو الدالّ علي الصواب الذي لا يعاب عليه.

أمّا الرشد فهو الأمر الذي لا زيغ فيه ولا غواية وهو أقرب إلي الحقّ منه إلي الهداية، لأنّ الهدي بيان طريق الرشد ليسلك دون طريق الغي. هذا إذا أُطلق. فإذا قيّد استعمل في غيره؛ كما في قوله تعالي: ?وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ. كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَإنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَي عَذَابِ السَّعِيرِ?. فإنّ أصحاب الأفكار الباطلة يهدون إلي الباطل، أمّا الرشد فلا يستعمل إلاّ في الموارد التي تنعدم فيها نسبة الزيغ والغوي. ولذا فمتابعة المرشد هو سبيل نحو الصلاح والرشد والصواب، وحقّ من يعمل عليه أن ينجو، وحقّ من يعمل علي خلافه أن يهلك.

إنّ الإمام يطلب من الله تعالي أن يجعله مطيعاً لمن يسدّده لا يناقشه فيما يصوّبه اليه، متابعاً لمن يرشده لا يعصيه فيما يدلّه عليه، مثله كمثل طاعة المريض للطبيب الثقة الحاذق فيما إذا أشار عليه بتناول الدواء أو اجتناب بعض الأُمور لأنّه مطمئنّ إلي أنّه إنّما يسدّده إلي ما ينفعه، ويرشده لما يصلحه.

والملفت للنظر هنا أنّ الإمام سلام الله عليه لم يستعمل صيغة المضارع في الجملتين بل استعمل صيغة الماضي فقال: طاعة من سدّدني ومتابعة من أرشدني. ولا شكّ أنّ وراء ذلك نكتة خاصّة تتلخّص في أن يوفّقه لامتثال أمر المسدّد والمرشد سواء عرف المصلحة فيما يأمرانه أم لا.

وإنّ المصداق الحقيقي والواقعي لهذه الجملة. هم أهل البيت سلام الله عليهم. فلا يوجد أحد علي مرّ التاريخ تبع أهل البيت ثمّ ضلّ بل لا يوجد أحد تبع أهل البيت سلام الله عليهم ولم يتبيّن له وجه

الحقّ. إنّهم صلوات الله عليهم يرشدوننا إلي الصواب ويسدّدوننا لما فيه الصلاح.

اللهُمَّ صَلّ عَلي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَحَلّني بحِلْيَةِ الصّالحِينَ، وَألْبِسْني زينَةَ المتَّقينَ في بَسْطِ الْعَدْلِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَإطْفَاءِ النَّائِرَةِ، وَضَمِّ أهْلِ الْفُرْقَةِ، وَإصْلاحِ ذَاتِ الْبَينِ، وَإفْشاءِ العَارِفَةِ، وَسَترِ العَائبَةِ، وَلينِ العَريكَةِ، وَخَفْضِ الجَناحِ، وَحُسْنِ السِّيرَةِ، وَسُكُون الرِّيحِ وَطيبِ المُخالقَةِ، وَالسَّبْقِ إلي الْفَضيلَةِ، وَقَوْلِ الحَقِّ وَإنْ عَزَّ، وَاسْتِقْلالِ الخَيرِ؛ وَإنْ كَثُرَ مِنْ قَوْلي وَفِعْلي، وَاسْتِكْثارِ الشَّرِ؛ وَإنْ قَلَّ مِنْ قَوْلي وَفِعْلي، وَأكْمِلْ ذَلكَ لي بِدَوامِ الطَّاعَة …

? بسط العدل، وكظم الغيظ، وإطفاء النائرةِ

? ضمّ أهل الفُرقة، وإصلاح ذات البين

? إفشاء العارفة، وستر العائبة

? لين العريكة

? خفض الجناح، وحسن السيرة

? طيب المخالقة، والسبق إلي الفضيلة

? قول الحق وإن عَزَّ

? استِقلال الخير، واستِكثار الشر

? دوام الطاعة

بَسْط الْعَدْل، وَكَظْم الْغَيْظ، وَإطْفَاء النَّائرَة

بَسْط الْعَدْل، وَكَظْم الْغَيْظ، وَإطْفَاء النَّائرَة

قد يحسّ الإنسان بحاجته واضطراره بعمق وشدّة، فيكون طلبه حين يدعو الله تعالي طلباً حقيقياً ويدعوه من أعماقه، وقد لا يحسّ بهما بمثل تلك الشدّة، فيكون طلبه حينئذ طلباً عاديّاً، أي ليس صادراً من الأعماق.

فالمبتلي بمرض خطير أو ألم شديد مثلاً إذا دعا الله تعالي وطلب منه الشفاء، يكون دعاؤه بكلّ وجوده لأنّه يحسّ بالاحتياج، وكذلك الذي يعاني من تثاقل الديون عليه أو زحمة الهموم، فهذا أيضاً عندما يدعو الله تعالي ويلتمس منه الخلاص في قضاء ديونه وإجلاء همّه فإنّما يدعو عن إحساس بالاحتياج فيكون دعاؤه حقيقياً، لصدوره من أعماقه.

فلو فرضنا شخصين كلّ منهما مدين لغيره بالمال، ولكن المدين الأوّل لم يواجه من دائنه أيّ ضغط عليه، بخلاف الثاني، حيث دائنه يهدّده إن لم يسدّد المبلغ حتّي غد، وربما يضطرّه لأن يرفع ضدّه شكوي تؤدّي به إلي السجن، فكلا الشخصين يدعو ويقول: «اللهم اقضِ عنّي الدَّين». ولكن دعاء الثاني أعمق لأنّه يصدر

عن الإحساس بالحاجة أكثر ولا حيلة له في قضائها إلاّ عن طريق الدعاء، فيلحّ في الدعاء والطلب.

والإلحاح في الطلب من أسباب استجابة الدعاء، كما أنّ المستفاد من الروايات بل صريح بعضها أنّه كلّما كان الدعاء صادراً من أعماق القلب كان أقرب إلي الإجابة. فلنحاول أن نروّض أنفسنا إذاً علي حالة الإحساس بالاحتياج دائماً؛ ليكون دعاؤنا صادراً من أعماق القلب، فيكون أقرب إلي الإجابة.

حلية الصالحين وزينة المتّقين

يقول الإمام: وحلّني بحلية الصالحين وألبسني زينة المتّقين.

الحلية كلّ ما يُتحلّي به لإظهار جمال الشيء، فما هي حلية الصالحين؟ وما هو لباس المتّقين؟ لاشكّ أنّه لا يراد به ما يستر البدن، بل المقصود من لباس المتّقين التقوي نفسها. وكما أنّ اللباس المادّي يستر البدن ويغطّي عيوبه، فإنّ لباس المتّقين يستر الشهوات والقبائح في نفس الإنسان والتي تمثّل مركز المشكلات له. إنّ المتّقي إنسان كبقية الناس له شهوات، إلا أنّه يعيش في عملية تجاذب دائم بينها وبين عقله، بيد أنّ غيره تكون شهواته وقبائحه ظاهرة، والسوء بادٍ في عينيه وعلي لسانه وعمله، أمّا المتّقي فشهواته وسوءاته مستورة، قد سترها بلباس متين ورصين ليس رثّاً ولا وسخاً ولا ممزّقاً بل كلّه زينة وتقوي.

ولعلّ الإمام سلام الله عليه أشار إلي هذا المعني توافقاً لما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالي: ?وَلِبَاسُ التَّقْوَي ذَلِكَ خَيْرٌ?.

ثمّ يستطرد الإمام سلام الله عليه لبيان مفردات حلية الصالحين وزينة المتّقين فيعدّد مجموعة من الصفات، كلّ منها ينطوي علي عالم من المعاني التي لا يستوعبها أمثالنا إلاّ بمقدار، الأمر الذي يحتّم علي أهل العلم المتابعة والتأمّل والتدقيق في ما تنطوي عليه هذه الكلمات السامية. وأوّل طرق التدقيق هذه تكمن في تتبّع آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة والتدبّر فيها، بحثاً عن

الموارد التي استعملت فيها لتكون الاستفادة أعمق.

بسط العدل

البسط في اللغة مقابل القبض؛ قال الله تعالي: ?وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَي عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ?.

روي عن الإمام الصادق سلام الله عليه أنّه سئل عن تفسير قوله تعالي: ?وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ? ففتح كفّه وفرّج بين أصابعه وقال: لا تفعل هكذا. ثمّ ضمّ أصابعه بعضها إلي بعض وقال: بل اجعلها هكذا، فلا تقبض أصابعك إلي كفّك حتّي لا يخرج منها شيء ولا تفتح كفّيك وتفرج بين أصابعك حتّي لا يبقي لك فيها شيء، فلا إفراط ولا تفريط، بل حدّ وسط، فما وقع من كفّك أو خرج فدعه يخرج، وما بقي فيه فدعه يبقي لك ولا تفرّط به.

وهذا يعني أنّ الشارع قد نهي في الإنفاق المادّي عن كلّ البسط في بعض الموارد التي يتعقّبها ضرر وإخلال، ولذلك عدّه من التفريط، بينما في الفضائل والقيم حسّن الشارع كلّ أنواع البسط ومدحها، ولذلك نري الإمام هنا مع البسط كلّ البسط، فقال: في بسط العدل. أي مطلقاً؛ لأنّ العدل ليس فيه إفراط بل كلّه ممدوح مأجور فعله، ومن ثمّ فعلي الإنسان أن يسعي لبسط العدل ونشره مهما وسعه.

والعدل يعني وضع الشيء في موضعه، فالله سبحانه وتعالي قد سنّ العدل في الأمور التكوينية والتشريعية علي حدّ سواء، وما من شيء قد قام في السماوات والأرضين إلاّ بعدل بارئه سبحانه وتعالي.

إنّ العدل قائم في الأُمور التكوينية كلّها، ففي الحديث: بالعدل قامت السماوات والأرض. فهذه الشمس الهائلة والأرض والنجوم والوجود كلّه يجري بتمام العدل، فلا إفراط ولا تفريط ولو بمقدار أنملة واحدة، وهكذا الأمر لو نظرنا الي أبداننا نجد ملايين الخلايا كلّها تسير بالعدل. ومعروف في الطبّ القديم والحديث أنّ الإنسان إذا كان

متوازن المزاج لا يمرض؛ لمتانة القوّة الدفاعية فيه، وعدم المقتضي لإصابته بمرض. علاوة علي ما تقدّم فإنّ في العدل تتجلّي زينة المتقين بأبهي صورها؛ لذلك عُدّ من مفرداتها.

فعلي المؤمنين أن يبسطوا العدل، وأن يبدأوا بأنفسهم حتي يصلوا بعدلهم إلي من سواهم قولاً وعملاً. روي عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أنّه قال: سياسة العدل ثلاث: رقّة في حزم، واستقصاء في عدل، وإفضال في قصد. وفي حديث آخر: العدل أساس به قوام العالم. أمّا إذا جانب المؤمن العدل وصار فعله لا يطابق قوله، فأوّل من يزهد فيه أهله خصوصاً إذا كان من أهل العلم، فقد روي عن النبي صلي الله عليه وآله أنّه قال: أزهد الناس في العالِم بنوه ثمّ قرابته. طبعاً المراد من العالم هذا غير ما نحن فيه، إلاّ أنّ الشاهد في كلمة الزهد خاصة. لهذا تري أهل البيت سلام الله عليهم قد اعتنوا أبلغ العناية في بسط العدل من خلال مطابقة الأعمال للأقوال، فتجد من كان قريباً منهم مشدوداً في السعي نحو ما يرشدون إليه؛ لما يري من صدقهم ومطابقة سيرتهم العملية والقولية ووفرة سعيهم لله تعالي.

كظم الغيظ وحدوده

ومن مفردات حلية الصالحين وزينة المتّقين أيضاً كظم الغيظ، ففي النفس شهوات لها ألسنة من لهب تستعر نيرانها بمجرّد أن تثار بأدني إثارة. فلو قال شخص لغير المتّقي كلمات وظنّها لا تناسبه فإنّ أثر الغيظ وألسنة نار الغضب تظهر علي وجهه ولسانه وتصرّفاته، أمّا المتّقي فيستر غيظه ويكظمه بلباس التقوي.

إذا قيل لزيد من الناس: لِمَ لَم تكظم غيظك؟ يقول: لكلّ شيء حدود، فكم أصبر، وإلي متي أكظم غيظي؟

صحيح أنّ لكلّ شيء حدوداً، ولكن من الذي يعيّن الحدود؟ هل نحن الذين نعيّن الحدود وفق ما تمليه

علينا غرائزنا، فنضيّقها ونوسّعها كيفما نشاء، أم الأئمّة المعصومون عليهم السلام؟

أليس الإمام السجّاد إمامنا؟ أوليس المفترض أن يقتدي كلّ مأموم بإمامه؟ إذاً فلنصمّم علي أن نقتدي به ونتعلّم منه حدود كظم الغيظ من خلال سيرته سلام الله عليه لكيلا نقع في المحذور.

روي: إنّ قوماً كانوا عند علي بن الحسين عليهما السلام فاستعجل خادماً بشواء في التنور، فأقبل به مسرعاً، فسقط السفود من يده علي ولدٍ للإمام فأصاب رأسه فقتله، فوثب علي بن الحسين عليه السلام، فلما رأي ابنه ميتاً، قال للغلام: أنت حرّ لوجه الله تعالي، أما إنّك لم تتعمّده. ثمّ أخذ في جهاز ابنه.

حقّاً، ما أسعد الناس لو ولي حكمهم هؤلاء الأطهار، وكم كانوا سيتعلّمون منهم.

أوليست هذه القصّة أعظم من جبال الدنيا ذهباً، لأنّ جبل الذهب ينفد ويفني أمّا مضامين هذه القصّة ودورها في بناء الذات فلا تنفد ولا تفني.

ولننظر إلي أنفسنا ونتفحّصها هل نحن مقتدون بهم سلام الله عليهم؟ أو نقول: إلي متي نكظم غيظنا؟ ونحن مختلفون مع بعضنا علي مبلغ من المال أو علي مشكلة صغيرة أو شيء تافه.

إنّ هذه السفاسف التي يختلف عليها الناس غالباً لا سوق لها في حوزة الأتقياء من أهل الآخرة بل لا اعتبار لها عندهم، ولنعلم أنّ من لا يكظم غيظه تتحطّم أعصابه ويسوء خلقه أكثر من غيره ممّن يكظم غيظه، فيخسر بذلك ثواب الدنيا والآخرة، أمّا كظم الغيظ ففيه ربح الدنيا والآخرة وهو أمر ممكن وإن كان لا يخلو من صعوبة.

إطفاء النائرة

العداء نقيض الولاء وقد يكون في الباطل أو الحقّ، والذي عناه الإمام في دعائه هو عداء الباطل، فإنّ غير المتّقي إذا عاداه أحد، فلا يخلو أن يكون هذا العداء إمّا باطلاً أو حقّاً، فتراه إمّا

أن يردّ العداء بمثله، وإمّا أن يسكت في أحسن الأحوال. أمّا المتّقي الذي يرسم الإمام السجّاد سلام الله عليه لنا صورته فهو لا يكتفي بالسكوت علي من اعتدي عليه، بل يحاول إرضاءه، لأنّه يسعي جاهداً أن لا يدخل شخص مسلم بسببه النار، فيحاول إطفاء نائرته مسارعاً بإسداء الخير إليه.

روي عن محمد بن جعفر وغيره، أنّه قال: وقف علي الإمام عليّ بن الحسين سلام الله عليهما رجل من أهل بيته فأسمعه وشتمه، فلم يكلّمه، فلما انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحبّ أن تبلغوا معي إليه حتي تسمعوا ردّي عليه.

قال: فقالوا له: نفعل، ولقد كنا نحبّ أن تقول له ونقول.

قال: فأخذ نعليه ومشي وهو يقول: ?وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ والْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? فعلمنا أنّه لا يقول له شيئاً.

قال: فخرج حتي أتي منزل الرجل فصرخ به. فقال: قولوا له: هذا عليّ بن الحسين.

قال: فخرج إلينا متوثّباً للشرّ وهو لا يشكّ أنّه إنّما جاءه مكافئاً له علي بعض ما كان منه. فقال له علي بن الحسين عليهما السلام: يا أخي إنّك كنت قد وقفت عليّ آنفاً فقلت وقلت، فإن كنتَ قلتَ ما فيَّ فأستغفرُ الله منه، وإن كنتَ قلتَ ما ليس فيَّ فغفر اللهُ لك.

قال: فقبّل الرجل ما بين عينيه، وقال: بل قلتُ فيك ما ليس فيك، وأنا أحقّ به!

فهل هذا التصرّف من قِبل الإمام أفضل أم ردّه بمثل باطله أو معالجة الأمر من خلال السكوت عليه؟ خصوصاً وأنّ تركه دون الأخذ بيده يبقيه علي ما هو عليه حتي يموت ناصبياً ويدخل نار جهنّم.

لا تقل وما شأني به فليدخل جهنّم، فهذا لا يعدّ اقتداءً بالإمامعليه السلام.

إذاً فلنسأل الله تعالي أن يثبّتنا علي الاقتداء

بمن اصطفاهم علي خلقه محمّد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ونسأله أن يلبسنا زينة المتّقين، فندعو ونعمل ونطبّق ونبدأ بأنفسنا أوّلاً.

ضََمّ أهْل الْفُرْقَة، وَإصْلاح ذَات البَين

ضََمّ أهْل الْفُرْقَة، وَإصْلاح ذَات البَين

الفرقة تعني الانفصال، فالناس إذا كانوا مجتمعين علي أمر فلا توجد فرقة فيما بينهم، أمّا إذا اعتزل بعضهم بعضاً وصار بعضهم منفصلاً عن بعض فهذا يعني حدوث فرقة بينهم.

ويطلق أهل الفرقة علي من ديدنه الافتراق، أمّا من حليته الصلاح وزينته التقوي فإنّه يحاول أن يجمع ويضمّ إليه جميع أهل الفرقة حتي يعيدهم إلي صفّ الحقّ، والإمام سلام الله عليه يطلب من الله تعالي ويعلّمنا بدوره أن نطلب منه سبحانه الإعانة في هذا الأمر وهو ضمّ أُولئك الذين يفصلون أنفسهم عن الآخرين متّبعين أهواءهم. هذه الخصلة الأولي.

أمّا الخصلة الثانية التي يطلبها الإمام فهي إصلاح ذات البين، فممّا يعنيه البين هو الصلة والحال التي عليها أفراد المجتمع، وهو نقيض الفرقة. فإصلاح ذات البين يعني: صيانة الألفة والمحبّة من خلال إدامتهما ومعالجة أيّ شرخ ممكن حدوثه قبل اتّساعه مهما كان حجمه سواء بين الإخوة، أو الزوج والزوجة، أو الأصدقاء، أو بين الأُستاذ وتلميذه، أو الأب وابنه أو غير ذلك.

أمّا الذات ففسّرت بالحقيقة. فالمعني إصلاح حقيقة البين. وقال بعض الأُدباء: إنّ «ذات» كلمة زائدة ككثير من الكلمات التي تزاد في التعابير اللغوية، خاصّة في اللغة العربية لغرض التأكيد وغيره.

هل هما خصلتان أم خصلة واحدة؟

وهل تعود هاتان الجملتان إلي خصلة واحدة؟

يقول اللغويون وبتبعهم الأصوليّون: إنّ الأصل في الواو هو المغايرةُ، إلا إذا كانت هناك قرينة علي وحدة الأمرين. فمثلاً: لو قيل: جاء زيد وأبو عمر، فالمتبادر للذهن أنّ شخصين جاءا، وليس المقصود أنّ الجائي واحد وهو زيد الذي كنيته أبو عمرو. نعم قد تأتي الواو لبيان المعطوف عليه نفسه بتعبير آخر، ولكن الأمر بحاجة إلي قرينة.

إذاً يقتضي أن يكون «ضمّ أهل الفرقة» و «إصلاح ذات البين» أمرين متغايرين، ولكن هذا لا يمنع أن يكون

بينهما عموم وخصوص من وجه، لكن بعض العلماء قالوا: إنّ «ضمّ أهل الفرقة» يتناول الدائرة الواسعة أي المجتمع، أمّا «إصلاح ذات البين» فالمقصود به الدائرة الأصغر وهي الأُسرة والعشيرة والأقرباء، وهذا له وجه لا بأس به في نفسه، وقد يستوحي ذلك من كلمة «فرقة» و «بين».

وعلي كلّ حال، فإنّ من الأُمور التي ينبغي للإنسان المؤمن أن يعني بها في المجتمع، أي علي الصعيد العامّ والواسع، أن يكون ديدنه الحيلولة دون حدوث الفرقة والاختلاف، كما عليه أن يسعي أيضاً من أجل الإصلاح علي صعيد العلاقات الاجتماعية الصغري كالعلاقات بين الإخوة والأقارب والزملاء، فهاتان الخصلتان ضمّ أهل الفرقة، وإصلاح ذات البين تعدّان من حلية الصالحين وزينة المتّقين.

ضمّ بالحقّ وتفريق الباطل

هنا قد يتبادر إلي الذهن سؤال، وهو: هل الإمام السجّاد سلام الله عليه يدعو للاجتماع وعدم الفرقة دائماً من دون نظر إلي الحقّ والباطل؟ حاشا أن يكون الإمام يريد ذلك؛ لأنّ الإمام السجّاد عدل القرآن، والقرآن يقول: ?كَانَ النَّاسُ اُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ? وهذا معناه أنّ الناس كانوا مجتمعين علي الضلال والباطل، فبعث الله تعالي الرسل ليمزّقوا وحدة الباطل فيهم ببيّنات الوحي والتنزيل. أجل، الوحدة من الفضائل ولكن إذا كانت في إطار الحقّ والفضيلة لا في إطار الباطل والرذيلة.

ثمّة عبارة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام بحقّ أهل الشام يجدر الوقوف عندها - كما هو الحال مع كلّ كلمات المعصومين سلام الله عليهم - يقول مخاطباً فيها أهل العراق: … والله لقد خشيت أن يدال هؤلاء القوم

- يعني أهل الشام - عليكم، بإصلاحهم في أرضهم، وفسادكم في أرضكم، وأدائهم الأمانة لمعاوية، وخيانتكم، وبطاعتهم له، ومعصيتكم لي، واجتماعهم علي باطلهم، وتفرّقكم عن حقّكم … فلا يقال للإمام سلام الله

عليه ما دام الاجتماع أمراً حسناً فلماذا يلامون عليه؟ فالاجتماع في نفسه مطلوب، إلاّ أنّه ينبغي أن تكون الغاية حقّة. والتوجّه للباطل إذا كان من فرد واحد فهو ضلالة واحدة، فإذا اتّجه اثنان إلي الباطل فهذه ضلالتان، وهكذا كلّما زيد اجتماع أهل الباطل زاد عدد الضالّين، فأين هو الحسن فيه. فضمّ أهل الفرقة ممدوح ومطلوب إذا كان إلي جهة الحقّ، لأنّ الاجتماع علي الحقّ ضروريّ، ولو حاد فرد واحد عنه فعلي المؤمن أن يسعي لإرجاعه وضمّه ثانية.

ولنمثّل بمثال في هذا المجال من سيرة أهل البيت سلام الله عليهم حيث يروي أنّ هناك رسالة مهمّة من الإمام السجّاد سلام الله عليه بعث بها إلي الزهري مرويّة في كتب الخاصّة والعامّة، يقول الإمام عليه السلام فيها: وأن تُسأل عما أخذت بإعانتك علي ظلم الظَلَمَة … جعلوك قطباً أداروا بك رحي مظالمهم وجسراً يعبرون عليك الي بلاياهم. فعمل الإمام هنا في الحقيقة ضمٌّ لأهل الفرقة، وإن كان في ظاهره تفريقاً ومنعاً عن الانضمام؛ لأنّه تفريق للباطل ومنع عن الانضمام إليه.

ولنا في الإمام الحسين سلام الله عليه مثل آخر، فإنّ علماء السوء قالوا عنه إنّه شقّ عصا المسلمين، لأنّ يزيد كان حاكماً مسلماً وكان المسلمون يمارسون حياتهم وطقوسهم الدينية ولا وجود لخلاف فيما بينهم ولكن الحسين سلام الله عليه بزعمهم هو الذي أوجد الخلاف!! ونقول: إنّ هذا الخلاف والافتراق الذي أوجده الإمام الحسين سلام الله عليه هو من أهمّ الواجبات بل كان أهمّ الواجبات في زمانه سلام الله عليه فإنّ الافتراق عن حكومة الحقّ كحكومة الإمام أمير المؤمنين والإمام الحسن سلام الله عليهما هو الضلال الذي يجب السعي لضمّ أهل الفرقة عنه، أمّا إحداث الفرقة في صفوف أهل الباطل

فهو من الفضائل والواجبات.

لقد كان صفوان الجمّال من خيرة أصحاب الإمام الكاظم سلام الله عليه، فأكري جماله لهارون العبّاسي لسفر الحجّ، فبلغ ذلك الإمام عليه السلام فقال له كلمة عظيمة؛ قال: كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً. ولاشكّ أنّ هذا تقريظ عظيم من الإمام ممّا يكشف عن منزلة صفوان، ولكن الإمام استنكر عليه إكراءه جماله لهارون. فقال صفوان: يابن رسول الله، هذا يريدها للحجّ. فقال له الإمام: أتحبّ بقاءهم حتي يخرج كراك؟ قلت: نعم. قال عليه السلام: فمن أحبّ بقاءَهم فهو منهم.

هذا والإمام كان يعلم أنّ هارون سيعرف السبب، وبالفعل جاء هارون في اليوم الثاني فاعتذر له صفوان بأنّه باعها كلّها.

بل الأمر قد يتعدّي ذلك حتي إلي بناء مسجد، فقد روي عن الإمام الصادق سلام الله عليه قوله: لا تعنهم علي بناء مسجد هذا والإمام يعلم عظمة المسجد والصلاة فيه، ولكنّه يعلم كذلك أنّهم سيتّخذون منه شعاراً لتقوية ظلمهم من خلال إشعار الناس بأنّهم أهل تقوي وصلاح؛ فيلتفّون حولهم ويدينون لهم، والدين منهم براء، وإلاّ فإنّ الإمام الصادق سلام الله عليه هو القائل: من بني مسجداً بني الله له بيتاً في الجنّة شريطة أن يكون مسجداً قد أُسّس علي التقوي والصلاح، لا علي الظلم والفساد.

بين الصلاح والإصلاح

تقدّم أنّ ضمّ أهل الفرقة يقع في الدائرة العامّة من المجتمع، أمّا إصلاح ذات البين فالمقصود به الدائرة الأصغر كالعائلة والعشيرة.

وربّ سائل يسأل عن الإصلاح الذي ورد في الدعاء والفرق بينه وبين الصلاح الذي عناه الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه في إحدي وصاياه: أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوي الله، ونظم أموركم، وصلاح ذات بينكم فإنّي سمعت جدّكما صلّي الله عليه وآله، يقول: صلاح

ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام أي المستحبّة.

هنا نكتة بلاغية وهي أنّه وردت في بعض النصوص عبارة «إصلاح ذات البين» فيما وردت في بعض آخر منها عبارة «صلاح ذات البين» والمؤدّي واحد؛ إنّ الإصلاح إمّا أنّه نتيجة الصلاح لأنّك إذا رفعت الفساد وأصلحت بين اثنين، فإنّ نتيجته هو الصلاح أو يراد به دفع الفساد قبل وقوعه، كما لو أحسست أنّ خلافاً ما سيحدث بين زيد وعمرو فبادرت إلي عمل ما من شأنه الحيلولة دون وقوعه، فيطلق علي عملك هذا صلاحاً وليس إصلاحاً لأنّه لم يكن فساد في البين لتصلحه وإنّما حُلت دون وقوعه، بينما الإصلاح أمر يعقب الإحداث دائماً، لغاية العلاج فيه، والذي بين الصلاح والإصلاح كالذي بين الوقاية والعلاج.

للإمام الحسن سلام الله عليه جملة عظيمة تنفعنا في مجال «إصلاح ذات البين»، يقول الإمام لجنادة: واعلم أنّه تطلب الدنيا والموت يطلبك. فلو آمن الإنسان بهذه الكلمة وكانت حاضرة عنده دوماً لسهل عليه السعي في طلب الفضائل، ولأمن علي نفسه الصراع من أجل ركام الدنيا، لأنّه يعلم أنّ كلّ ما يطلبه من الدنيا لا محالة زائل، فإنّ ذكر الموت وحده كفيل بأن يحدّ من شهوات النّفس.

حذار من التسويف

جاءني شخص وسألني عن الحجّ، قال: كنت مستطيعاً منذ عشرة أعوام ولم أحجّ، ولكنّي كتبت في وصيتي أن يحجّ أولادي بالنيابة عنّي، فقلت له: إنّ التسويف في الفرائض يعدُّ من الكبائر، إلي أن اقتنع بأن يحجّ بنفسه، وإن استلزم أن يقترض في ذلك، وإن كان هو مستطيعاً كما تبيّن لي، وبعد أن أبدي استعداده وكان في شهر ذي القعدة انصرف.

وبعد أسبوع أتوا لأذهب الي الصلاة علي جنازته، وعندما وصلت المكان كان أبناؤه موجودين، وقالوا لي: لم يكن به شيء

ولكن أُصيب بسكتة قلبية. فأخبرت أكبر أولاده أنّ عليهم أن ينفّذوا ما كتبه لهم في وصيّته التي أخبرني عنها قبل موته بأسبوع، وذلك بأن يبعثوا شخصاً خلال هذه السنة أي في غضون أيّام أو أسابيع لكي يحجّ نيابة عنه، فهذا يعدّ من أوجب الواجبات.

إنّ علي الإنسان أن يضع الموت نصب عينيه دائماً، فإذا فعل ذلك خفّت حدّة شهواته واستطاع أن يعمل علي ضمّ أهل الفرقة وإصلاح ذات البين بنحو أحسن، ولا يكترث للأعذار غير الصحيحة.

ورد في الحديث الشريف: … فإنّك لا تدري ما اسمك غداً.

إفْشاء العَارِفَة، وسَتر العائبَة

إفْشاء العَارِفَة، وسَتر العائبَة

يطلب إمامنا زين العابدين وسيد الساجدين سلام الله عليه في طيّ دعائه هذا الذي نستنير به والموسوم بدعاء مكارم الأخلاق أن يحلّيه الله تعالي بحلية الصالحين ويلبسه زينة المتقين، والتي من جملة مصاديقها ما قد سلف بيانه، فيقول تتميماً لمبتغاه: وإفشاء العارفة، وستْر العائبة، ولين العريكة.

الإفشاء: النشر والإذاعة والإظهار. والعارفة: المعروف، والتاء فيها باعتبار الخصلة؛ فإفشاء العارفة يعني نشر المعروف.

أمّا العائبة وهي مؤنث العائب، والتأنيث فيها باعتبار الخصلة فهي ضدّ العارفة والمعروف. وأمّا السَّتر فالإخفاء؛ فيكون معني إفشاء العارفة: نشر المعروف وعدم إخفائه، ومعني ستر العائبة: إخفاء المنكر وعدم إظهاره. وهاتان الخصلتان من صفات الله تعالي؛ ففي الدعاء المرويّ عن الإمام الصادق سلام الله عليه: يا من أظهر الجميل وستر القبيح.

أمّا كيف يكون إفشاء العارفة وستر العائبة؟ الجواب:

أولاً: بالعمل بالمعروف، والانتهاء عن المنكر؛ فإنّ العمل بالمعروف يُعدّ أصدق مصاديق إظهاره، كما أنّ الانتهاء عن المنكر يعدّ كذلك من مصاديق إماتته وإخفائه. فالواجب إذاً يحتمّ علي المؤمن أن يلبس رداء المعروف واجبه ومندوبه، وينزع رداء المنكر محرّمه ومكروهه.

ثانياً: أن نذكر الذين يعملون المعروف ونمدحهم، فنقول مثلاً: فلان وقور وفلان مخلص وهكذا.

فهذا يعدّ نشراً للعارفة، وأن نستر علي الذين زلّوا ولا نشيع ذكر ما عملوا من المنكرات.

ثالثاً: أن لا ننسي معروف الآخرين إلينا ونذكره، وننسي معروفنا إليهم فلا نذكره؛ روي عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أنّه قال: إذا صنع اليك معروف فاذكره، إذا صنعت معروفاً فانسه. أي إذا أحسن إليك شخص ما، فمن إفشاء العارفة أن تذكر لغيرك أنّ فلاناً قد أحسن إليك. أمّا إذا أحسنت إلي غيرك، فليس من العارفة أن تذكر ذلك أينما حللت وارتحلت لتقول مثلاً: «لولاي لكان وضع فلان كذا وكذا» لأنّ هذا يعدّ من العائبة.

الاقتداء بسيرة العلماء

لقد كان السيّد محمد تقي الخونساري رحمه الله مرجعاً للتقليد في مدينة قم يوم دخلها السيّد البروجردي وكلاهما كانا من تلامذة المرحوم الآخوند (صاحب الكفاية) رحمه الله.

ففي إحدي الزيارات المتبادلة بينهما قال السيّد الخونساري للسيد البروجردي: كنت أحضر درسكم في النجف الأشرف، فأنت أستاذي.

وربما كانت المدّة التي تتلمذ فيها السيّد الخونساري عند السيّد البروجردي رحمه الله قصيرة جدّاً، ولكن السيّد الخونساري كان يري أنّ من إفشاء العارفة وأداء حقّ التعليم أن يذكر ذلك ويبيّنه، وإن كان مرجعاً للتقليد. الأمر الذي يبيّن أنّ إفشاء العارفة بحاجة إلي عزم وإيثار وإيمان وتوكّل علي الله تعالي؛ فإنّ النفس لا تدع الإنسان عادة يتنازل أمام أصدقائه ومعارفه.

ففي مثل هذه الحالة، وبعد أن ذكر السيّد الخونساري ذلك، ترون ماذا سيكون موقف السيّد البروجردي تجاه ما أعلنه السيّد الخونساري؟ هل يؤيّد كلامه وهو يعلم أنّه ليس من العارفة أن يذكر الإنسان إحسانه إلي غيره؟ أم ينكر الحقيقة، وذلك لا يصحّ أيضاً.

لقد بادر السيّد البروجردي إلي حلّ وسط، فجعل نفسه كمن لا يتذكّر أي أعطي انطباعاً لذلك، دون أن يقع في

الكذب تخلّصاً من حراجة الموقف. ولكن السيّد الخونساري أعاد الكلام ثانية وأكّده.

فقال السيّد البروجردي: لعلّي لا أتذكّر.

فتبسّم السيّد الخونساري وقال: يحقّ لك أن تنسي لأنّ كثيرين من أمثالي درسوا عندكم؛ ولذا من الطبيعي أن لا تتذكّروني، أمّا أنا فمن حقّي أن لا أنسي لأنّي قلّما رأيت أستاذاً مثلكم، ولذلك لا أنساكم.

كما ينبغي لنا أن نتحلّي بحلية الصالحين في إفشاء العارفة، كذلك الحال في ستر العائبة وإخفاء عيوب الآخرين فضلاً عن عيوب أنفسنا.

الإسلام وستر العائبة

فمن يراجع الأحكام الجنائية في الإسلام يلاحظ بوضوح تأكيد الإسلام لهذا المبدأ، في حين لا تجد هذا في القوانين الوضعية أبداً.

تحكي الروايات الشريفة في موارد عديدة أنّ أشخاصاً كانوا يأتون إلي النبي الأكرم صلي الله عليه وآله ليعترفوا بذنوب قد تستوجب إقامة الحدّ عليهم كالزنا مثلاً، وعلي الرغم من أنّ إقرار العقلاء علي أنفسهم حجّة، أي نافذ ومقبول، إلاّ أن الإسلام لا يكتفي بإقرار المذنب علي نفسه مرّة واحدة دائماً، بل ثمّة موارد يُحتاج فيها الي تكرار الإقرار أربع مرّات. ولهذا كان النبي صلي الله عليه وآله لا يعيرهم اهتمامه، كأن يُعرض بوجهه الشريف عنهم أو ما شابه ذلك؛ لكي يمهل المذنب ويدفعه علي التراجع مادام في الأمر فسحة، ولم يكمل نصاب شهادته علي نفسه.

فقد روي أنّ ماعز بن مالك جاء الي رسول الله صلي الله عليه وآله فقال: يا رسول الله إنّي زنيت، فأعرض عنه، ثمّ جاء من شقّه الأيمن، فقال: يا رسول الله إنّي قد زنيت، فأعرض عنه، ثمّ جاءه فقال: إني قد زنيت، ثمّ جاءه فقال: إني قد زنيت، قال ذلك أربع مرّات.

وروي أنّه صلي الله عليه وآله قال له: لعلك قبّلت، أو غمزت أو نظرت؛ كلّ ذلك محاولة منه

صلي الله عليه وآله للستر علي المعترف ودفعه للتراجع والاكتفاء بالتوبة، مما يدلّ علي أنّ الإسلام وتعاليم النبي وأهل بيته سلام الله عليهم هي ستر المعايب لا إفشاؤها ونشرها.

كما روي أيضاً أنّ رجلاً جاء للإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أيّام حكومته الظاهرية وطلب منه أن يطهّره من زنا قد ارتكبه، فقال الإمام: … أيعجز أحدكم اذا قارف هذه السيّئة أن يستر علي نفسه كما ستر الله عليه.

إنّ المجتمع الذي تسري فيه روح ستر العائبة وإفشاء العارفة لهو حقيق بأن ينعم بالطمأنينة والسعادة.

ومن عبر القصص

كان السيّد أحمد الروحانيّ القمّي خطيباً واعظاً يرتقي المنبر، سمعت منه بعض القصص الغنيّة بالمواعظ والعبر، وقد حكي مرّة فقال:

اتّصل بي في أحد الأيّام شخص أعرفه وطلب منّي حضور تشييع جنازة أحد المؤمنين، فاعتذرت منه وقلت له: إنّني لا أعرف المتوفّي

وربما كانت لديه التزامات أخري كان يراها أهمّ، وإلا فإنّ تشييع المؤمن أمر قد حثّت عليه الروايات كثيراً، ولا يشترط فيه معرفة المتوفّي فقال لي: ولكنّه إنسان مؤمن، فأرجو أن تحاول حضور تشييعه وإن لم تعرفه.

يقول: فوافقت، ولمّا حضرت التشييع لفت انتباهي شخص من المشيّعين يبكي بكاءً مرّاً دفعني لأن أسأله: هل أنت ابن المرحوم؟

فقال: لا.

قلت: فمن أقربائه؟

قال: لا.

قلت: إذاً فلما هذا البكاء عليه، وما هو السبب.

قال: لذلك قصّة سأحدثك عنها بعد انتهاء التشييع.

وبعد انتهاء التشييع قال: كنت رجلاً فقيراً ومعيلاً وأخجل أن أمدّ يدي إلي أحد، ولم يكن المال الذي أكسبه يكفي لمعيشتي وعائلتي، فقد كنت أستأجر لهم غرفة في مكان متواضع وبأجرة رخيصة، وعندما يطالبني المؤجّر بالزيادة، اضطرّ لنقل عائلتي إلي مكان آخر، وهكذا أغيّر مكاني كلّ مدّة، فمكثت علي هذه الحال أعاني من صعوبة الحياة وضنك العيش حتي اتّفق

في أحد الأيّام أن التقيت بهذا الرجل، ولكن أيّ لقاء.

صادف أن دخلتُ إحدي المساجد في أحد الأيّام لأداء الصلاة، وكانت الجماعة منعقدة والصفوف متراصّة، ولم أجد مكاناً بين الصفوف، فوقفت وحدي خلف آخر صفّ، وإذا بهذا الرجل الذي فرغنا من تشييع جنازته قد جاء ولم أكن أعرفه قبل ذلك فوقف بجانبي، وقبل أن يكبّر تكبيرة الإحرام أفرغ بعض الأشاء من جيبه ووضعها أمامه لعلّه كان يلتزم ببعض الآداب من عدم حمل بعض الأشياء أثناء الصلاة ثم التحق بالجماعة، وفي أثناء الركوع لفت انتباهي أنّ في الأشياء التي وضعها أمامه خاتماً من ذهب.

وفجأة بدر إلي ذهني فكرة سرقته، مع أنّي لم أكن قد تجرّأت يوماً للسرقة قبل ذلك - وكنت في ذلك اليوم أمرّ في أسوأ حالاتي الماديّة، حتي أنّه لم يكن عندي ما أبتاع به طعاماً لعائلتي.

فبقيت متردّداً لحظات أحدّث نفسي وتحدّثني، وأجذبها وتجذبني، أأسرقه أم لا؟

وأخيراً جذبتني نفسي فطاوعتها علي السرقة وبدأت أخطّط للأمر وأراقب الرجل؛ هل هو منتبه للأشياء التي وضعها أمامه، أم هو غارق في الصلاة ليس ملتفتاً إلي غيرها؟ فرأيته كأنّه غارق في صلاته، فقرّرت أن أسرق الخاتم في حال السجود لأنّ المسافة بين موضعَي سجودنا لم تكن بعيدة، فكان لا يتطلّب منّي الأمر سوي أن أضع يدي علي الخاتم قبل أن يرفع هو رأسه، ثمّ أسحبه في خفّة وأضعه في جيبي وأواصل صلاتي لئلاّ ألفت انتباهه، ثمّ أغادر بمجرّد أن تنتهي الصلاة.

ولكنّي لم أجرؤ علي القيام بذلك في سجود الرّكعات الأولي حتي بلغنا السجدة الأخيرة من الركعة الأخيرة وفي تلك اللحظة قرّرت أخيراً أن أقوم بالمجازفة مهما كلّف الأمر.

وفعلاً وضعت يدي علي الخاتم وسحبتُهُ، ثمّ وضعتُ يدي علي رجلي، إلا

أنّني كنت متوجّساً خيفة من احتمال أن يكون قد شعر بي، فصرت أرقبه باختلاس وريبة، فرأيته وكأنّه غير منتبه، فضلاً عن عدم إبدائه لأيّ ردة فعل، خصوصاً وأنّنا لازلنا في الصلاة، ولكن مع ذلك بدأت دقّات قلبي تتسارع وبدأت أفكّر كيف أفرّ بالخاتم إذا انتهت الصلاة.

وبينما الأفكار تصارعني، نفذ الي سمعي صوت الإمام قائلاً: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ولما هممتُ بالقيام وضعَ الرجل يده علي يدي وقال لي: الخاتم لك! ولكن قل لي: لماذا فعلت هذا؟ وعندما سمعته يقول لي: "الخاتم لك" اطمأننت قليلاً وهدأ قلبي.

قلت له: صدّقني إنّها المرّة الأولي وإنّي لم أسرق قبلها في حياتي قطّ.

فقال: هذا بادٍ عليك لأنّ وجهك قد اصفرّ ويديك ترتعشان وبدنك يرتجف، فأخبرني عن شأنك؟

فقلت له: أنا رجل معيل وقد أضرّ بي الفقر، حتي بلغ بي الحال أن لا أقدر علي تأمين قوت أهلي.

فقال لي: الخاتم لك خذه، ولكن إيّاك أن تبيعه بثمن بخس. فأنا رجل غنيّ وجديد عهد بالزواج، وقد اشتريت هذا الخاتم لأقدّمه هدية لزوجتي، ولكن لا بأس سأشتري لها غيره، ولكنّي أنصحك أوّلاً أن لا تفرّط به وتعرف قدره لئلا يغشّوك. وثانياً إذا أردت بيعه فحين تذهب إلي بائع الذهب ربما ينكر أن يكون هذا الخاتم لك، واذا ما حصل هذا ولكي تتخلّص من مساءلته قل له: إنّ فلاناً وذكَر لي اسمه يعرفني.

وكان الأمر كما أخبرني بالفعل، فعندما أعطيته بائع الذهب أخذ ينظر إليه وينظر إليّ مستغرباً ثمّ قال: من أين أتيت بهذا الخاتم، قلت: هو خاتمي. قال: ليس خاتمك، قلت: إن كنت تشتريه فادفع لي ثمنه وإلا فادفعه لي لكي أنصرف. قال: لا أدفع ثمنه ولا أسلّمه لك إلا في مركز الشرطة! فقلت

له: إنّ فلاناً يعرفني ويعرف أنّ هذا الخاتم لي.

ولكنّه لم يقتنع وطلب منّي أن أحضره لكي يستبين الأمر.

وبالفعل حضر الرجل وشهد لي عنده بأنه يعرفني وأنّ الخاتم خاتمي، فأعطاني بائع الذهب حينها ثمنه وكان كثيراً وخلّي سبيلي.

ولكن هذا الرجل صاحب الخاتم لحقني وقال: ماذا ستصنع إذا نفد ثمن الخاتم؟

فلم أحر جواباً.

فاقترح عليّ أن أشتري به بيتاً صغيراً في منطقة مناسبة، لكي أسكن في قسمٍ منه، وأؤجّر القسم الآخر، لكي يكون لي عائدٌ مستمرّ، ولو قليل، من إجارته.

فوافقت، وظلّ هو يبحث معي حتي وجد لي منزلاً بنفسه، فاشتريناه وكان كما اقترح.

ومرّت عليّ السنوات بعد ذلك وقد خفّ ثقل الماضي ولم يعد يقلقني ضنك العيش بتلك الصورة، فهلاّ يحقّ لي إذاً أن أبكيه من كلّ قلبي، كيف لا، وهو الذي ستر عليّ ولم يحدّث أحداً بصنيعه هذا.

اُنظروا كيف أنّ ستر العائبة من قبل هذا الرجل التاجر أخذت بيد إنسان كان علي شفير السقوط، فربما لو كان هذا الرجل قد صاح به ونهره وأذاع به أثناء سرقته الخاتم لسقطت شخصيته وانهارت كرامته ولم يبال بعدها بما سيؤول إليه أمره؛ لسقوطه عن أعين الناس، ولتحوّل من إنسان بسيط إلي سارق محترف يضرّ نفسه والمجتمع.

لين العريكة

لين العريكة

العريكة: تعني النفس والخلق، والمستفاد من استعمالاتها في الروايات طبيعة المعاشرة مع الآخرين؛ لأنّ العرك هو الدلك والتحمّل؛ يقال: عرك الأديم أي دلك الجلد.

وحسب هذا الدعاء وكذلك من وجهة نظر الإسلام ومنطق أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، فإنّ المطلوب من الإنسان المؤمن أن يكون ليّن العريكة، أي سلس الخُلق في المعاشرة مع الناس.

وهذه الفضيلة في بني آدم إمّا أن تكون بالطبع، أي ما جُبل عليه الانسان، وإمّا بالتطبّع، أي بالأخذ والاكتساب، أو ما عُبّر عنه

في بعض الروايات بالنيّة، أي أن يروّض ويحمّل الإنسان نفسه عليها ويتصنّعها حتي يكتسبها.

فمن لم يكن لديه نيّة الوصول إلي خصلة لين العريكة أو كان في الدرجات النازلة من التقوي والصلاح في النفس فهو كالصخرة التي يصعب التأثير فيها، أمّا من توفّر علي نيّة الوصول إلي تلك الخصلة أو من كان في الدرجات العليا من التقوي والصلاح فهو من هذه الجهة كالماء يأخذ شكل كلّ شيء يحتويه.

لاشك أن الذي له نفسٌ شديدة العريكة كالصخر، يصعب عليه تحويلها إلي نفس ليّنة قادرة علي تحقيق المعالي ولكن يمكنه تحمّلها والتغلّب عليها بالرياضة والتطبّع ليتّصف بالفضائل في الأقوال والأفعال، في السرّاء والضرّاء، والشباب والشيوخة، والسفر والحضر، مع الأهل والجيران والأصدقاء بل حتي مع الأعداء.

فصقل الذات قضية صعبة للغاية، غير أنّه لا بدّ للمؤمن من ذلك، ولا بديل له عن إنجاز هذه المهمّة الضرورية؛ لأنّ كلّ إنسان تواجهه في الحياة عقبات وصعوبات قد يشيب الطفل من بعضها، ولكن لا بدّ له من تجاوزها لئلاّ يتحسّر علي عدم التحمل في يوم لا ينفع فيه حسرة ولا ندم.

ألم الحسرة علي تفويت الفرصة

لقد روي أنّ الحسرة تعمّ جميع الخلق في يوم القيامة بمن فيهم المؤمنون؛ لأنّهم سيتحسّرون علي عدم مضاعفة جهودهم في الإكثار من العمل الصالح في الحياة الدنيا ليزدادوا إلي أجرهم أجراً، لذا فإنّ واحداً من مسمّيات يوم القيامة هو يوم الحسرة والندامة.

وليست الحسرة في الآخرة كما هي في الدنيا؛ لأنّ حسرات الدنيا يمكن تداركها بالسعي ومضاعفة الجهد، أمّا حسرات الإنسان في يوم القيامة فلا يمكن تداركها؛ لانقطاع العمل بحلول الأجل.

فإذا كانت الحسرة علي تفويت الفرصة تؤذي الإنسان في الحياة الدنيا فكيف به في يوم القيامة الذي وصفه الله تعالي بقوله: ?يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ

مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إلاَّ مَنْ أتَي اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ?؟

نقل أحد العلماء وكان في مجلس حضره بعض الفقهاء ومراجع التقليد:

كنت جالساً في صحن مرقد أمير المؤمنين سلام الله عليه مع رفيق لي كان مرجعاً دينياً كبيراً حينذاك، وقد توفّاه الله تعالي وكنّا نتداول بعض البحوث العلمية، إذ مرّ من أمامنا سقّاء يوزّع الماء، وكان رجلاً كبير السنّ يحمل جرّة الماء بصعوبة.

فقال لي صاحبي المرجع: هل تري هذا السقّاء؟ لقد كنّا معاً زميلين في الدراسة قبل ثلاثين عاماً، وكان يمتاز بالذكاء، ولكنّه توقّف عن مواصلة الدراسة بسبب ضغوط الحياة، فلم يقاوم، فترك الدرس واتّخذ مهنة السقاية للزائرين بدلاً عنه، لعلّه يحرز جانباً من تكاليف معيشته.

ثمّ قال الناقل:

فاصطحبني ذلك المرجع ونهضنا إليه لنسأله عن حاله، فقال لنا بعد أن تذكّر زميله: إنّني أتحسّر وأتأسف ليلي مع نهاري علي قلّة صبري وعدم تحمّلي بضع سنوات من الصعوبة حتي استبدلت الأدني بالذي هو خير.

فالحسرة في الدنيا تنتهي خلال سنة أو سنوات وربما تداركها الانسان، ونادراً ما تستغرق العمر كلّه، ولكن حسرة الدار الآخرة لا تنتهي؛ لفوات تداركها؛ فتكون أبدية ولا حيلة للإنسان حينها في التخلّص منها.

رسول الله ألينهم عريكة

لقد كان رسول الله صلي الله عليه وآله هو القمّة في كلّ الفضائل والأخلاق، وقد وصفه ربّ العرش بقوله تعالي: ?وَإنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظيمٍ? وقال تعالي أيضاً: ?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ?، وقال في وصفه الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه: وألينهم عريكة.

ولقد نقل التاريخ آثاراً كثيرة، تروي لنا عظمة النبي صلي الله عليه وآله وتبيّن مدي لين عريكته، منها:

ما جري بينه صلي الله عليه وآله وبين زوجته عائشة، فرغم أنّها تصغره بسنين كثيرة، وهو

رسول الله الذي لا ينطق عن الهوي، والذي وصفه الله تعالي من فوق عرشه العظيم بأنّه «علي خلق عظيم»، تروي عائشة أنّه: حدث نوع من الخلاف بينها وبين رسول الله صلي الله عليه وآله فحاكمتْه الي أبيها، وحينما اجتمعوا بادرتْه بالقول: «أقصد يا رسول الله» أي أعدل. ولكن رسول الله صلي الله عليه وآله لم يردّ علي إساءتها تلك ولو بأبسط ردّ، وتحمّل منها ما تحمّل.

وثمّة حادثة أخري تعكس هذه الخلّة الكريمة لنبيّنا الأعظم صلي الله عليه وآله عُرفت فيما بعد بقضيّة القطيفة الحمراء، فقد روي أنّه في غزوة بدر فقدت قطيفة حمراء من الغنائم فزعم رجل من الأصحاب أنّ رسول الله صلي الله عليه وآله أخذها. فأنزل الله تعالي هذه الآية: ?وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أنْ يَغُلَّ?. فجاء رجل فقال: إنّ فلاناً قد غلّ قطيفة واحتفرها هنالك، فأمر رسول الله صلي الله عليه وآله بحفر ذلك الموضع فأخرج القطيفة. وبرّأ الله تعالي رسوله الكريم.

فمن لين عريكته صلي الله عليه وآله ستره للغالّ لتلك القطيفة وعدم تعريفه للنّاس فضلاً عن عدم أخذه بما اتُّهِم به كذباً وزوراً.

الخلاصة: حريّ بنا أن ندعو الله سبحانه وتعالي بأن يمنحنا هذه الخصلة، ولا ينبغي أن يتخيّل بأن الانسان إذا كان ليّن العريكة أُكِل، أمّا إذا كان صلباً جلب احترام الناس وهيبتهم له؛ بل العكس فإنّ لين العريكة في محلّه هو الذي يجلب القوّة والإحترام، كما أن المؤمنين إذا تحلّوا بهذه الخصلة أمكنهم أيضاً أن يكونوا دعاة للدين بصورة عملية ويكونوا خير مصداق للحديث الشريف المرويّ عن الإمام الصادق سلام الله عليه: كونوا دعاة للناس بالخير بغير ألسنتكم.

إنّ الدعوة العملية قد لا تكون سريعة الاستجابة، ولكنّها ستكون عميقة التأثير توتي أكلها

ولو بعد حين، كما أن التوفّر علي خصلة لين العريكة قد يكون أمراً صعباً ويحتاج الي ترويض، ولكنّها إذا توفّرت فإنّها تكون من أقوي أسباب التأثير في المجتمع.

خَفْضُ الجَناحِ، وَحُسْنُ السّيرة

خَفْضُ الجَناحِ، وَحُسْنُ السّيرة

يطلق الجناح لغة علي الميل والكنف. فمن لا يملك مالاً فليس له كنف مال، والجاهل ليس له كنف علم.

إنّ ما يستفيده الطائر من جناحيه متوفّر لدي الإنسان أيضاً ولكن بصفة أخري. فكما أنّ الجناح يعدّ مصدر قوّة ووسيلة يستعين بها الطير علي الطيران، فكذلك الإنسان ومن باب المجاز يكون له جناح متمثّلاً بقواه التي يستعين بها علي الخوض في أمور الحياة. فالعلم والمال والعضلات والذكاء والعشيرة وغيرها، كلّها تعدّ أجنحة يستطيع الإنسان التحليق بها في حياته؛ فمن طريق هذه الأجنحة يعي الإنسان الأشياء ويبيع ويشتري ويبطش أو يعفو، ويحفظ من المعلومات ويستنتج من التحاليل أو يكون مرهوب الجانب.

ولاشكّ أنّ العلم الذي يتمتّع به الإنسان إنّما هو نعمة تكرّم الله تعالي بها عليه كسائر المواهب والقدرات، لذا يجدر به أن يحسن التصرّف بهذه النعمة كما في غيرها، فيكون ذلك في رضا الله تعالي.

إنّ الإمام زين العابدين سلام الله عليه يسأل الله تعالي في هذا المقطع أموراً تعدّ هي الأخري من حلية الصالحين وزينة المتّقين، منها خفض الجناح، حيث يدعو الله تعالي أن يمكّنه من الإمساك بجناحه والسيطرة عليه وخفضه عند مواضع رضاه سبحانه وتعالي؛ فلا يتكبّر الإنسان بعلمه علي الناس، فيخفض جناح علمه لمن سواه، وكذلك الأمر بالنسبة لسائر الأجنحة، فلا يبطر بماله وجاهه، ولا يطغي بقوّته البدنية، ولا يسيء استخدام ذكائه، ولا يتعصّب لعشيرته وذوي قرابته، كما لا يستميلهم في الباطل علي خصمه.

ولابدّ للمؤمنين أن يقتفوا أثر الإمام سلام الله عليه لأنّه الأسوة والقدوة لهم فيسعوا في

التحلّي بهذه الخصلة بمعونة الله تعالي.

خفض الجناح نيّة وسجيّة

إنّ خفض الجناح لدي الإنسان يُعدّ من مصاديق الخلق الحسن الذي ينبغي أن يكون عليه، لكي يكون بواسطته أهلاً لأن يشقّ طريقه في الحياة بقليل من الصعوبة، وهذا يوجب محبوبيّته عند الناس أيضاً، وإنّه خفض الجناح أمر صعب جدّاً، إلا أنّه ممكن تحقيقه.

روي عن إسحاق بن عمّار عن الإمام الباقر سلام الله عليه أنّه قال: إنّ الخُلق منحة يمنحها الله خلقه، فمنه سجيّة ومنه نيّة.

قال إسحاق: فقلت: فأيّهما أفضل؟

قال: صاحب السجيّة هو مجبول لا يستطيع غيره، وصاحب النيّة يصبر علي الطاعة تصبّراً فهو أفضلهما.

فبدءاً، يكشف الإمام الباقر سلام الله عليه أنّ الخلق الحسن ومنه التواضع والصدق وخفض الجناح نعمة قد تكرّم الله بها علي خلقه.

ثمّ يؤكّد أنّ هذه الأخلاق تكون علي نحوين:

الأوّل: السجيّة، أي طبيعة متأصّلة في ذات الإنسان بفعل عامل التربية والأجواء التي يعيش فيها، كأن يكون الجوّ المنزلي أو العام جوّاً أخلاقياً طيّباً، فينمو الإنسان في ظلّه، فيتطبّع بالأخلاق الطيّبة. وهذا يكون من السهل عليه الالتزام بالأخلاق الفاضلة، بل قد يصعب عليه خلافها.

الثاني: النيّة، أي الإرادة والقصد إلي الفعل الحسن والخلق الحسن؛ بمعني أنّ الشخص بحاجة إلي إرادة وتصميم ليشقّ طريقه في الحياة. فالذي ترعرع في أجواء غير حميدة أخلاقاً، تراه يعاني كثيراً لكي يلتزم بالأخلاق الفاضلة والسلوك الطيّب. وهذه المعاناة، إنّما تقف وراء تحمّلها نيّة صادقة وإرادة قاهرة لتجاوز الحالة أو الطبيعة السيّئة التي يعيشها المرء مع نفسه أو مع غيره.

ولذلك فإنّ صاحب الطبيعة أو السجيّة الحميدة لا يستطيع التخلّي عنها بسهولة، أي من الصعب عليه أن يستبدل بها غيرها، فلا يتكبّر مثلاً، لأنّه مجبول علي التواضع، ولا يسرق لأنّ الأمانة تسري في عروقه.

أمّا صاحب النيّة

فتجده يكابد ويقسو علي نفسه ليصبّرها علي الطاعة والخلق الحسن. فعندما يحاول أن يكون متواضعاً ذا خلق حسن يجد في نفسه امتناعاً عن ذلك، حينئذ تراه يصبّرها جهاداً ليرقي بمستواها حتي تأخذ طابعاً جديداً ومسلكاً طيّباً عبر إرادة صلبة. فكان والحال هذه صاحب النيّة المكافح أفضل درجة وأرفع منزلة.

إمكان التغيير رغم صعوبته

أمّا الذي يبدي عجزه عن إحداث التغيير في نفسه وسلوكه نحو الأحسن، بذريعة الرواسب العالقة في ذاته، فغير صائب في ذلك لأنّ عملية التغيير ممكنة وإن كانت صعبة. والأمثلة علي ذلك.

من المعروف وجود التنافر بين رئة الإنسان وبين الدخان الداخل فيها يفوق التنافر الذي بينه وبين أعضاء أخري من بدن الإنسان بما فيها العين؛ وذلك بسبب حساسية الرئة ولطافتها ورقّتها من جهة، ولكونها العضو المهمّ في عمليّة التنفّس من جهة أخري. ولكننا مع ذلك نلاحظ أن كثيراً من الناس يقومون بإدخال كميات كثيرة من الدخان إلي رئاتهم عبر السجائر بشوق ورغبة، بل أن بعضهم يشتاق إلي السجائر أكثر من شوقه إلي ألذّ الأطعمة، فكيف بلغوا هذه الحالة؟

لاشكّ أنّ هذه الحالة لم تحصل دفعة واحدة بل حصلت بالتدريج، ولاشك أنّ الرئة قاومت الأمر بردّ فعل شديد في المرّة الأولي، ولكن شيئاً فشيئاً بدأت المقاومة تخفّ، حتي تبدّلت إلي شوق ورغبة.

ينقل أنّ طبيباً قال لأحد المدمنين علي التدخين: إنّ الدخان يُنقص من عمرك إلي حدّ النصف، فإذا كان عمرك سيبلغ المئة عام دون تناولك السجائر فإنّه سيتدنّي إلي الخمسين معها. فقال الرجل: إنّ خمسين سنة مع السيجارة أفضل عندي من مئة سنة بدونها! وكان الرجل صادقاً في كلامه؛ لما يحسّ من ضعف في نفسه عن ممارسة إرادته التي دفنها بنفسه.

وعلي كلّ حال فإنّ إمكانيّة أن يبدّل الإنسان طبعه

بإرادته لا يخلو من صعوبة ولكنّه يمكن تجاوزها مع العزم والإصرار، وهكذا الأمر في ترك التدخين فهو الآخر بحاجة إلي نيّة صادقة وعزم شديد، بل هكذا هو الحال في التحلّي بالأخلاق الفاضلة عموماً، ومنها خفض الجناح.

الأئمة سلام الله عليهم أفضل قدوة

يروي عن الإمام محمد الباقر سلام الله عليه أنّه لقي في طريق عودته من الشام إلي المدينة نصرانياً ديرانياً فسأله النصراني: أأنت من علمائها أي المدينة أم من جهّالها.

ورغم أنّ الإمام الباقر لا يمكن أن يُقاس به أحد، إلا أنّه اختار جواباً هو الغاية في الحكمة، والقمّة في التواضع وخفض الجناح.

قال الإمام: لستُ من جهّالها.

فعدم ادّعائه سلام الله عليه العلم في معرض جوابه، بل التلميح له من خلال نفي الجهل عنه، يعتبر القمّة في الخلق الرفيع والتواضع رسمه لنا سلام الله عليه.

تأسّي العلماء

إن الكثير من علمائنا عملهم هكذا في مواجهة من يسيء إليهم؛ متأسّين في ذلك بسادة الخلق أهل البيت سلام الله عليهم الذين كانت من أولويّاتهم وقبل كلّ شيء هداية الناس.

يُنقل عن هؤلاء العلماء، أنّ أحدهم لما أتمّ تأليف موسوعة فقهيّة له، في النجف الأشرف بعد جهد جهيد، جاءه أحد المدرّسين فقال له: إنّ الشيخ الأنصاري رحمه الله قد رفع المستوي العلمي في النجف بكتبه القيّمة، وأنت قد أخفضته بكتابك هذا.

وكان بإمكان مؤلف ذلك الكتاب أن يطرد هذا الرجل وينهره ويهينه من خلال استفادته من مكانته المرجعية أو مواجهته مواجهة علمية يبطل فيها زعمه في ادعائه. إلا أنّه لم يختر لا هذا ولا ذاك، بل قال له بكلّ أدب وتواضع وخفض جناح: وكيف تقارنني بالشيخ الأنصاري، أين أنا من الشيخ، حبّذا لو تدوّن ملاحظاتك علي الكتاب، لأكون شاكراً لك.

فلم يسع الرجل حينها سوي الاعتذار إلي ذلك المرجع وطلب الصفح عنه لما بدر منه من تحامل عليه، بالإضافة إلي أنّه حدث في ذلك الرجل بسبب هذا التواضع وخفض الجناح تغيّر كليّ تجاه ذلك المرجع.

بنود خفض الجناح

لا ينحصر التواضع في كلمات معدودة أو سطور بقدر ما هو حياة عملية يعيشها المرء في أكثر أوقاته؛ وقد أشار الإمام الصادق سلام الله عليه إلي أربعة بنود فيه، في قوله:

1. من التواضع أن ترضي بالمجلس دون المجلس فلا يتوقّع الإنسان أن تكون له الصدارة دائماً في كلّ مجلس؛ وإن كان مستواه العلمي أو السياسي أو الاقتصادي أو غير ذلك أعلي مرتبة من غيره، بل يجلس بما إنتهي به ولا يتعقّب أسباب ذلك، بل يقبل به تواضعاً، فلا يعتبر نفسه أرفع مكاناً من الآخرين، إذ الناس مهما تفاوتت مستوياتهم المادّية، تبقي لهم كراماتهم

ومشاعرهم الإنسانية، فلا موجب للمساس بها عبر التكبّر وتصعير الخدّ لا سمح الله.

ينقل عن أحدهم أنّه تعوّد سنين طويلة علي الوقوف في الصف الأول لأداء صلاته خلف إمام الجماعة، وكأنّ ذلك المشهد صار جزءاً لا يتجزّأ من صلاته. وذات يوم جاء كعادته لأداء صلاة الجماعة فرأي المسجد مكتظّاً بالمصلّين ولا مجال له للوقوف سوي في الصفّ الأخير، فاستاء أيّما استياء! واضطرّ للصلاة في الصفّ الأخير.

ولكن وهو في أثناء صلاته كأنّ نوراً قد أضاء في قلبه وكان هذا بمثابة فرصة ذهبيّة لهدايته من قبل الله تعالي حين تنبّه لنفسه وللغرور الذي أصابه بإصراره علي أداء الصلاة في الصفّ الأوّل، فرأي نفسه بعد ذلك مجبراً علي إعادة كلّ صلاة كان قد صلاّها في الصفّ الأوّل، احتياطاً خوفاً من أن تكون باطلة لما شابها من الرياء والتكبّر.

2. وأن تسلّم علي من تلقي أي لا فرق بين من تعرفه ومن لا تعرفه، الكبير والصغير، العالم والجاهل، الغنيّ والفقير؛ لما لذلك من أثر في إبراز أجمل صور التواضع في الإنسان؛ لأنّ إبداء السلام تستلزم كبح الذات وتأديبها وإيقافها دون انطلاقها نحو الكبر وتصوّر الأفضليّة.

3. وأن تترك المراء وإن كنت محقّاً. والمقصود بالمراء الجدال غير المثمر الذي لا يراد عبره التوصل إلي النتيجة المطلوبة، بقدر ما يريد المرائي أن يظهر أنه الأفهم وأنّ رأيه هو الصحيح، فالذات ونصرتها هي الهدف. وهذا مذموم في الإسلام.

يُنقل أنّ الشيخ البهائي رحمه الله وكان المرجع الديني الأعلي في إيران قبل حوالي أربعمائة عام زار النجف الأشرف والتقي هناك المقدّس الأردبيلي رحمه الله الذي كان معروفاً بأعلميّته وكراماته ومدي اقتدائه بأهل البيت عليهم الصلاة والسلام فدار أثناء لقائهما حوار علميّ بينهما، شوهد خلاله المقدّس الأردبيلي يتقطّع

في الجواب، مما ترك انطباعاً لدي الحاضرين بأعلمية الشيخ البهائي بما قدّمه من أدلّة وآراء. وفي اليوم التالي عندما ذهب الرجلان إلي مقبرة وادي السلام لقراءة سورة الفاتحة علي أرواح المؤمنين ذكر المقدّس الأردبيلي ضعف أدلّة الشيخ البهائي التي قدّمها يوم أمس بالنقض والتحليل، حتي اقتنع الشيخ البهائي بصحّة آراء المقدّس الأردبيلي، وعندما سأله الشيخ البهائي عمّا إذا كان قد عكف ليلة أمس في البحث عن الأدلّة الأكثر عمقاً؟ أجابه المقدّس الأردبيلي بأنّه كان علي اطّلاع بها ولكن منزلته أي منزلة الشيخ البهائي كضيف فضلاً عن شهرته العلمية ومكانته الدينية، منعت المقدّس الأردبيلي من الردّ ومن كشف ضعف أدلّة الشيخ أو خطأ رأيه علي مرأي من الناس، أما هنا، فلا يوجد ذلك المحذور، مما يصحّح إثبات رأيه العلمي ونحو ذلك.

وهذه الأخلاق الحميدة وخفض الجناح هو الذي أبقي اسم المقدّس الأردبيلي والشيخ البهائي وأمثالهما من علمائنا رغم مرور مئات السنين علي وفاتهم.

4. وأن لا تحبّ أن تحمد علي التقوي. ولعلّ هذه الخصلة هي الأصعب من بين الخصال، إذ الحبّ وعدمه لهما مقدّمات كثيرة، فإنّ الحبّ عاطفة، وهذا ما لا يمكن السيطرة عليه بسهولة قياساً بإمكانية السيطرة علي الجوارح والحواسّ. فعندما تكون مثلاً عالماً فقيهاً أو خطيباً بارعاً ولا تحبّ أن تُمدح علي هذه المميزات، فذلك من الصعوبة بمكان، لذا ينبغي للإنسان أن يروّض نفسه علي عدم حبّ هذا المديح، فلا يستاء إذا لم يؤدّ الناس له ما دأبوا عليه من مدحٍ لذلك.

فبمثل هذا التواضع وخفض الجناح يبقي ذكر المرء مدي الدهر، فقد كان في زمن المقدّس الأردبيلي الكثير من الأثرياء، ولكن التأريخ لم يأت لهم بذكر، لأنّهم اعتمدوا في حياتهم علي ثرواتهم فقط، فذهبوا كما ذهبت

ثرواتهم كهشيم تذروه الرياح، وبقي تراث المتّقين المتواضعين مدرسة معطاء لمن يريد أن ينهل من معينها.

حسن السيرة وقوّة الشخصية

ومن جملة ما يطلبه الإمام السجّاد سلام الله عليه من الله تبارك وتعالي من الأخلاق الحميدة التي تعدّ من حلية الصالحين وزينة المتّقين: حسن السيرة وسكون الريح. يقول عليه السلام: وحسنِ السيرة وسُكونِ الرّيح.

وحسن السيرة إنّما يتحقّق بحسن السريرة. فإذا كان باطن المرء طيّباً طاهراً كان ظاهره كذلك فالسريرة الطيّبة تنعكس علي شخصية الفرد وتصرّفاته، والعكس بالعكس، حتي أنّ الإنسان ليلمسها في نفسه ويراها رأي العين.

فمن كانت سريرته طيّبة، لا تصدر عنه تصرّفات تنمّ عن الكبر والغضب والعنف، سواء كان ذلك من خلال العين أو اللسان أو سائر جوارحه، حين تعامله مع أسرته، أو ما يحيط به من أفراد المجتمع علي مختلف أطيافهم وأصنافهم. قال أمير المؤمنين سلام الله عليه: طوبي لمن ذلّ في نفسه، وطاب كسبه، وصلحت سريرته (سيرته)، وحسنت خليقته، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من لسانه.

وبما أنّ قضية حسن السيرة مهمّة ومصيرية في حياة الفرد، لذا فمن الجدير بالإنسان المؤمن أن يدعو الله تعالي لينعم عليه بهذه الصفة الخيّرة، ويكون دعاؤه دعاء المضطرّ، فيدعو من كلّ قلبه وبكلّ صدق وثقة ليحصل علي ما يريد.

سكون الريح

تعدّدت الشروح والبيانات لعبارة «سكون الريح» لكنّ الأرجح أنّ كلمة «سكون» تعني الثبات. أمّا كلمة «الريح» فهي استعارة للتعبير عن شخصية الإنسان، فيكون معني سكون الريح، ثبات الشخصية وعدم تزعزعها، كما قال سبحانه وتعالي: ?وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ? أي تزول قوّة شخصيتكم ويتفتّت كيانكم.

إنّ حسن السيرة وسكون الريح من صفات الصالحين وحلية المتّقين، فالتصرّف اللائق وقوّة الشخصية، والاتّزان في المواقف والسلوك تأخذ بالإنسان نحو التقوي والصلاح. فلا تجدون صالحاً تقيّاً يميل مع الرياح أينما تميل، كأن يعتنق اليوم مذهباً وغداً يؤمن بآخر، أو يدافع عن جهة

أو شخص ما دون أن يزن موقفه وفق موازين التقوي والصلاح المذكورة في كتاب الله وسيرة النبي وآل بيته عليهم الصلاة والسلام. هذا بينما ضعيف الإيمان يتحرّك وفق هواه والأجواء، فبدافع حبّ المال وطلب الجاه يمدح هذا أو ذاك، فلا يري شخصه ولا يهتمّ لكرامته بقدر اهتمامه بمن حوله، وشدّة حرصه علي تحصيل المكاسب الآنية الزائلة، فهو لا يهتمّ فيما إذا كان هذا الموقف حقّاً أم باطلاً، لأنّه لا يجد متّسعاً تحت وطأة ميوله وهوي نفسه لاحترام هذه القاعدة الشرعية والإنسانية لأنّ نفسه قد استولت علي شخصيته وكرامته حتي أعمته عن الرؤية الصحيحة، تلك الرؤية التي يجب عليه أن يري من خلالها الواقع بمنظار الصلاح والتقوي.

مثال علي الذين يميلون مع الريح

لعلّكم كُلُّكم قد وصل إلي سمعكم إسم (شبث بن ربعي)، هذا الشخص الذي يُعدّ من النماذج الأبرز للشخصية المتزلزلة، حيث يُنقل عنه أنّه قد بدّل معتقده قرابة خمس أو ستّ مرّات أو أكثر من ذلك!! فهو الذي كان يقاتل في ركاب الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، وكان يوصف بالذكاء الانتفاعي، أو ما يُطلق عليه بالواقعية النفعيّة، أي يتصرّف وفق ما يمليه عليه الواقع وما يدرّه عليه بغضّ النظر عن مدي حسنه أو بشاعته. فقد روي أنّ أمير المؤمنين سلام الله عليه اختاره من بين عشرات الآلاف من جنوده بمعيّة بشر بن عمرو وسعيد بن قيس للتفاوض والمحاججة مع معاوية؛ لعلّه يؤوب الي الطاعة في اتّباع أمر الله سبحانه، وذلك قُبيل واقعة صفين. كما أنّه كان من الذين كتبوا للإمام الحسين سلام الله عليه الكتب التي تطلب منه أن يقدم إلي الكوفة، بعد أن أعلن ورفاقه نقض بيعة يزيد بن معاوية.

ولكنّه حيث كان ميّالاً مع كلّ ريح، فقد انتهي

به الأمر للاشتراك بمباشرة ذبح سيد الشهداء سلام الله عليه، فضلاً عن قتاله والتأليب عليه، فكان مثال العالم الضالّ المتذبذب، الذي كان قد مدح أمير المؤمنين يوماً، وذمّه يوماً، وكاتب الإمام الحسين يوماً، وقتله يوم عاشوراء وهو يعلم أنّه ابن رسول الله صلي الله عليه وآله ووصيّه، حتي أنّه كان من أمره أن بني

مسجداً عرف باسمه قد أسّس بنيانه علي شفا جرف هار فانهار به في نار جهنّم. ففي مرسلة صفوان عن أبي عبد الله قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام نهي بالكوفة عن الصلاة في خمسة مساجد … ومسجد شبث بن ربعي …

وعن سالم عن أبي جعفر قال: جدّدت أربعة مساجد بالكوفة فرحاً لقتل الحسين … ومسجد شبث بن ربعي.

ومن قبله كان أبو هريرة نموذجاً بيّناً لعدم الثبات في المعتقد وانعدام الشخصية، فهذا الرجل الذي يصفونه بأنّه من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله، ويتردّد اسمه كثيراً في كتب العامّة وأعلامهم وكأنّه حامل لواء الإسلام والمدافع عن حياضه، ينقل عنه التاريخ، أنّه قال: الصلاة خلف عليّ أتمّ، وسماط معاوية أدسم، والوقوف علي التلّ أسلم! أي أنّه كان يصلّي خلف عليّ، ويأكل عند معاوية، وإذا نشبت الحرب تنحّي ووقف متفرّجاً علي بعد!

الكذب والفجور

روي عن رسول الله صلي الله عليه وآله أنّه قال: إيّاكم والكذب، فإنّ الكذب يهدي إلي الفجور، والفجور يهدي إلي النار؛ لأنّ الكذب ليس مجرد مخالفة المعتقد، وإنّما هو مخالفة الواقع أيضاً.

قال الله سبحانه وتعالي بشأن المنافقين: ?إذَا جَاءَكَ المُنَافقُون قَالُوا نَشهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعلَمُ إنَّكَ لَرَسولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إنَّ المنَافِقِينَ لَكَاذِبُون? فقولهم «إنّك لرسول الله» إنّما هو خلاف ما يضمرون؛ لكونهم كافرين بالله قبل إنكارهم الرسالة، فلسانهم ينطق بما

لا يعتقدون، كذلك كان أبو هريرة ومثله شبث بن ربعي، الذي كان يكذب حتي في قتاله إلي جانب أمير المؤمنين سلام الله عليه، لأنّ قتاله كان نابعاً عن قلب متزلزل مضطرب، فكان شأنهما ومن شاكلهما في ذلك مصداقاً لقوله تعالي: ?مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إلَي هَؤلاَءِ وَلاَ إلَي هَؤلاَء?.

لذا يجدر بالإنسان أن يهتمّ كلّ الاهتمام بحسن سريرته كما يهتمّ بحسن سيرته لأنّه مهما حاول التظاهر بالصلاح فإنّه لا محالة سينكشف إن كانت سريرته طالحة، وإذ ذاك يكون الغرم عليه أفدح وأفظع.

الاعتبار بقصص الماضين

كانَ عَلي عَهْدِ رَسُول اللَّه صلي الله عليه وآله مُؤْمنٌ فَقيرٌ شَديدُ الْحَاجَة منْ أَهْل الصُّفَّة وكَان مُلازماً لرَسُول الله صلي الله عليه وآله عنْدَ مَوَاقيت الصَّلاة كُلِّها لا يَفْقدُهُ في شَيْ ء منْها وكَان رَسُولُ الله صلي الله عليه وآله يَرقُّ لَهُ ويَنْظُرُ إلَي حَاجَته وغُرْبَته فَيَقُولُ: يَا سَعْدُ لَوْ قَدْ جَاءَني شَيْ ءٌ لأَغْنيْتُكَ.

فَأَبْطَأَ ذَلكَ عَلَي رَسُول الله صلي الله عليه وآله فَاشْتَدَّ غَمُّ رَسُول الله صلي الله عليه وآله لسَعْد، فَعَلمَ اللهُ سُبْحَانَهُ مَا دَخَلَ عَلَي رَسُول الله منْ غَمِّه لسَعْد، فَأَهْبَطَ عَلَيْه جَبْرَئيلَ عليه السلام ومَعَهُ درْهَمَان، فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ قَدْ عَلمَ مَا قَدْ دَخَلَكَ منَ الْغَمِّ لِسَعْد، أَفَتُحبُّ أَنْ تُغْنيَهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ: فَهَاكَ هَذَيْن الدِّرْهَمَيْن فَأَعْطهمَا إيَّاهُ ومُرْهُ أَنْ يَتَّجرَ بهمَا.

فَأَخَذَ رَسُولُ الله صلي الله عليه وآله ثُمَّ خَرَجَ إِلَي صَلاةِ الظُّهْر وسَعْدٌ قَائمٌ عَلَي بَاب حُجُرَات رَسُول الله صلي الله عليه وآله يَنْتَظرُهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ الله صلي الله عليه وآله قَالَ: يَا سَعْدُ أَ تُحْسِنُ التِّجَارَةَ؟ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: والله مَا أَصْبَحْتُ أَمْلكُ مَالاً أَتَّجِرُ به. فَأَعْطَاهُ النَّبيُّ صلي الله عليه وآله الدِّرْهَمَيْنِ وقَالَ

لَهُ: اتَّجِرْ بهمَا وتَصَرَّفْ لِرِزْقِ الله.

فَأَخَذَهُمَا سَعْدٌ وَ مَضَي مَعَ النَّبِيِّ صلي الله عليه وآله حَتَّي صَلَّي مَعَهُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلي الله عليه وآله: قُمْ فَاطْلُبِ الرِّزْقَ فَقَدْ كُنْتُ بِحَالكَ مُغْتَمّاً يَا سَعْدُ.

فَأَقْبَلَ سَعْدٌ لاَ يَشْتَرِي بدِرْهَمٍ شَيْئاً إلاَّ بَاعَهُ بدرْهَمَيْنِ وَلا يَشْتَري شَيْئاً بدرْهَمَيْن إلاّ بَاعَهُ بأَرْبَعَة دَرَاهمَ. فَأَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَي سَعْد، فَكَثُرَ مَتَاعُهُ وَمَالُهُ وَعَظُمَتْ تجَارَتُهُ، فَاتَّخَذَ عَلَي بَاب الْمَسْجد مَوْضعاً وَجَلَسَ فيه فَجَمَعَ تِجَارَتَهُ إلَيْه، وَكَانَ رَسُولُ الله صلي الله عليه وآله إذَا أَقَامَ بلالٌ للصَّلاة يَخْرُجُ وسَعْدٌ مَشْغُولٌ بالدُّنْيَا لَمْ يَتَطَهَّرْ وَلَمْ يَتَهَيَّأْ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ قَبْلَ أَنْ يَتَشَاغَلَ بِالدُّنْيَا، فَكَانَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وآله يَقُولُ: يَا سَعْدُ شَغَلَتْكَ الدُّنْيَا عَن الصَّلاة؟ فَكَانَ يَقُولُ: مَا أَصْنَعُ؟ أُضَيِّعُ مَالي؟ هَذَا رَجُلٌ قَدْ بعْتُهُ فَأُريدُ أَنْ أَسْتَوْفِيَ منْهُ، وَهَذَا رَجُلٌ قَد اشْتَرَيْتُ منْهُ فَأُريدُ أَنْ أُوفيَهُ.

فَدَخَلَ رَسُولَ الله صلي الله عليه وآله منْ أَمْر سَعْد غَمٌّ أَشَدُّ منْ غَمِّه بفَقْره. فَهَبَطَ عَلَيْه جَبْرَئِيلُ عليه السلام فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللهَ قَدْ عَلِمَ غَمَّكَ بسَعْد، فَأَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ حَالُهُ الأُولَي أَوْ حَالُهُ هَذِهِ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلي الله عليه وآله: يَا جَبْرَئيلُ بَلْ حَالُهُ الأُولَي. قَدْ أَذْهَبَتْ دُنْيَاهُ بآخرَته.

فَقَالَ لَهُ جَبْرَئيلُ عليه السلام: إنَّ حُبَّ الدُّنْيَا وَالأمْوَال فتْنَةٌ وَمَشْغَلَةٌ عَن الآخرَة، قُلْ لسَعْدٍ: يَرُدُّ عَلَيْكَ الدِّرْهَمَيْنِ اللَّذَيْن دَفَعْتَهُمَا إلَيْه، فَإنَّ أَمْرَهُ سَيَصيرُ إلَي الْحَالَة الَّتي كَانَ عَلَيْهَا أَوَّلاً.

فَخَرَجَ النَّبيُّ صلي الله عليه وآله فَمَرَّ بسَعْد، فَقَالَ لَهُ: يَا سَعْدُ أَ مَا تُريدُ أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ الدِّرْهَمَيْن اللَّذَيْن أَعْطَيْتُكَهُمَا؟ فَقَالَ سَعْدٌ: بَلَي وَمائَتَيْن.

فَقَالَ لَهُ صلي الله عليه وآله: لَسْتُ أُريدُ مِنْكَ يَا سَعْدُ إلاَّ الدِّرْهَمَيْن.

فَأَعْطَاهُ سَعْدٌ درْهَمَيْن، فَأَدْبَرَتِ الدُّنْيَا عَلَي سَعْدٍ

حَتَّي ذَهَبَ مَا كَانَ جَمَعَ وَ عَادَ إلَي حَاله الَّتي كَانَ عَلَيْها.

عوامل انكشاف السريرة

وهكذا يتّضح أنّ من الممكن انكشاف السريرة عبر عوامل وحالات عديدة، كالمال والشهرة والعلم والذرية والمنصب والغضب والأمانة. وعليه فإنّ تأكّد المرء من ما تنطوي عليه سريرته ومدي معرفته بمقدار حسنها أو قبحها يمكنّه من انتخاب السلوك المناسب لسيرته بين الناس لتحاشي أيّ خسارة أو فضيحة من جهة، وضمان أكبر قدر ممكن من الثقة والاعتداد بنفسه من جهة أخري.

فحريّ بالإنسان المؤمن أن يجاهد نفسه حقّ الجهاد لتحسين سريرته وصقلها وفق الالتزام بالأوامر والنواهي الشرعية، لكي يعلم حقيقتها وما ترمي إليه، فيتفادي السقوط، ويضمن النجاح.

مثال لحسن السيرة

لقد وعي المقدّس الأردبيلي مرجع الشيعة في زمانه هذه الحقيقة فطبّقها مبتدئاً بنفسه، حتي أنّه نقل عن حسن سريرته وسيرته ما يقف له الإنسان متعجّباً؛ إذ قيل إنّه كان ذات يوم يمشي في صحن مرقد الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، فسأله أحد الزائرين دون علمه بمن يكون عمّا إذا كان يعرف محلاًّ خاصّاً بغسل الملابس، فقال له المقدّس الأردبيلي: أنا أغسلها لك بنفسي! ضارباً بذلك كلّ ما يمكن أن يكون عذراً قد يحول ما بين الإنسان وبين أداء الخدمة للمؤمنين والزائرين، الأمر الذي يكشف عن حقيقة السريرة الطاهرة لهذا الرجل النادر المثال، فقام بغسل ملابس الرجل الزائر، وعاد إليه بها في الوقت المحدد لتسليمها، فشاهده بعض من يعرفه، فقال للزائر: هل تعرف من غسل ملابسك؟ إنّه المرجع الأعلي! فأخذ الرجل يبدي كلّ الاعتذار، فردّه المقدس الأردبيلي قائلاً: إنّما أنت صاحب الفضل عليّ، لأنّك من زوّار أمير المؤمنين عليه السلام.

يُنقل أنّ الإمام، كان قد كافأه بأن كان يرحّب به في أيّ وقت أراد الزيارة حيث كانت الأبواب تفتح له دون مفتاح. وما أعظم ذلك من قدسيّة وفضل.

طيب المخالقة والسبق إلي الفضيلة

طيب المخالقة والسبق إلي الفضيلة

لاشكّ أنّ الإنسان المؤمن يطمح لأن يكون من عباد الله الصالحين والمتّقين، ولكن لابدّ لذلك من مقدّمات ومراحل تكون كفيلة بذلك. هذه المقدّمات أشار إليها الإمام السجّاد في هذا المقطع من الدعاء، من جملته قوله: وطيب المخالقة والسبق إلي الفضيلة، فقد عدّهما سلام الله عليه مقدّمتين من مقدّمات تحقّق التقوي والصلاح في الإنسان.

طيب المخالقة

لم أرَ في قصائد شعراء العرب أو كلمات فصحائهم أنّهم أضافوا عبارة «الطيب» إلي «المخالقة» كما فعل الإمام سلام الله عليه في هذه الجملة. فهذا التعبير يعكس أدباً وبلاغةً رفيعتين للغاية. ولو تدبّر أدباء العرب في هذه الجملة وغاصوا في بحورها لأخرجوا من بديع معانيها وجمال الذوق فيها الكثير. ولعلّ كلّ من له أدني إلمامة بالأدب يمكنه أن يكتشف بعض كنوز ما قاله الإمام سلام الله عليه.

إنّ كلمة «طيب» تستعمل في الغالب بمعني المستحسن المرغوب فيه، وهي نعت يشير إلي معني حقيقي ذاتيّ غالباً، كما يُستعمل في الأمور التي هي خارج كذلك، فيطلق مثلاً علي الأكل اللذيذ: بأنّه طعام طيّب؛ حيث أُضيفت إليه بعض المقبّلات ذات النكهة الطيّبة مع الطهي الجيّد، كما يطلق علي المسك والعنبر أنّهما من الطيب.

إنّ موارد الاستعمال لهذه الكلمة، سواء في القرآن الكريم الذي هو القمّة في البلاغة جمالاً ودقّة أو في السُّنة المطهّرة المرويّة عن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام أو في قصائد فطاحل الشعراء مثل البحتري وأبي تمام والمتنبّي ومن سبقهم كامرئ القيس وغيرهم، غالباً ما تكون في أحد موردين:

الأوّل: في الأمر الذاتي كما في المسك وسائر الأنواع الطبيعية حيث تسمّي طيباً.

الثاني: في الأمر الخارجي كما في الأطعمة الطيبة بسبب ممازجتها بما يجعلها كذلك.

أمّا استعمالها لإرادة معني جديد عبر إضافتها إلي كلمة أخري للخروج بمعني ثالث

يوحي بذاتية الأمر، فلعلّه مما تفرّد به الإمام السجّاد سلام الله عليه في هذا الدعاء، حين جمع بين الطيب والمخالقة، فلم يقل: (حسن المخالقة) مثلاً، لأنّ ذلك كان سيدلّل علي رغبته في أن يكرمه الله تعالي بحالة خارجية، قد يكون باطنها غير ظاهرها، ولذلك قال: «طيب المخالقة» ليتعزّز طلبه من ربّه تبارك وتعالي بحالة داخلية يتكافأ فيها الباطن مع الظاهر.

ولعلّ من النكات الخاصّة بهذا الاستخدام، أنّه صلوات الله عليه أراد أن يضمّن كلمته أو يشربها معنيً آخر، حيث يأتي بتعبير واسع ثمّ يربطه بكلمة ما، ليستخرج من هذا الربط معني جديداً.

أمّا المخالقة فتعني لغةً: التعامل الخلقي أي المعاشرة، فمن المخالقة مثلاً إجابة الدعوة إلي الطعام وغيره من الأمور الحسنة والتكلّم مع الناس والإصغاء إليهم، والتعامل بالحسني معهم عموماً، فهي إذاً أمرٌ أكثر ما يرتبط بالحواسّ الخمس؛ العين والأنف واللسان والأذن والبشرة، ولذلك قيل في المخالقة: المخالطة والاستيناس.

فتارة ينظر المرء إلي أخيه بعين المحبّة وأخري بعين الغضب، وقد يصغي إليه وقد يسمعه فقط، وقد يصافحه بحرارة، وقد يقدّم يده إليه ببرودة ليجامله وهكذا.

فهذه جملة من مصاديق المخالقة ذات العلاقة بالجانب الحسّي من الإنسان والذي يطلق عليه اسم المخالطة أو المعاشرة، ولعلّ ما نسبته تسع وتسعون بالمئة من مصاديق المعاشرة باعتبار أن المعاشرة أعمّ من المخالقة مرتبط بهذا الجانب.

فإذا قرنت المخالقة مع الطيب حصلت صورة جديدة تؤدّي إلي تصوّر الصدق في العلاقة بين الإنسان ومن حوله، وكأنّ هذه العلاقة طيّبة ذاتاً ومنذ البداية وأنّها من الصميم. فالكلمة الصادرة عبر طيب المخالقة توحي بأنّها قد خرجت من القلب، ولا يراد بها المجاملة وحسب، وتعرف علي أنّها كلمة صدق وليست مراوغة يراد بها المكيدة والخداع، وكذلك الأمر بالنسبة لجميع

مصاديق المخالقة. فطيب المخالقة تعني إحراز الصدق وإبرازه في التعامل مع الناس.

فلنغرس طيب المخالقة في نفوسنا، ونرقَ بعلائقنا عبر صفاء ذواتنا ونقاء سرائرنا وسلامة قلوبنا من الكدورة. وليس شيء أبلغ وأنزه يمكن أن يحققه الإنسان في ميدان التعامل الاجتماعي أكثر من هذا الأمر.

أهل البيت سلام الله عليهم وطيب المخالقة

يشهد المخالف والمؤالف أنّ أهل البيت سلام الله عليهم كانوا يتمتّعون بأعلي مستويات طيب المخالقة في علاقاتهم مع الناس، مؤثرين لهم علي أنفسهم، وأنّهم كانوا صادقين في سلوكهم هذا ومتّسمين به في كلّ المواقف وفي مختلف الظروف؛ سواء كانوا، كباراً أو صغاراً، ظاهرين أو مستترين، قائمين بالأمر أو مقصيّين عن الحكم. فالإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه هو نفسه في زمن النبيّ المصطفي صلي الله عليه وآله، وهو نفسه في الخمسة والعشرين عاماً بعد النبي، وكذلك في أيّام حكمه سلام الله عليه، لم يتغيّر في خلقه شيء.

لقد روي العامّة والخاصّة بل غير المسلمين أيضاً، قصّة شراء الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه قميصين أعطي أفضلهما خادمه قنبراً، مع أنّه كان يرأس أكبر حكومة علي وجه الأرض، ويرتقي المنبر، ويلتقي كبار الرجال من مختلف الديانات والمذاهب والأقوام.

ولم يكن يتصرّف سلام الله عليه ذلك التصرّف إلا لأنّ خُلقه من سنخ خُلق الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله، فقالها سلام الله عليه مدويّة: إنّ الله عزّ وجلّ قد فرض علي أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعَفة الناس كيلا يتبيّغ (أي يهيج) بالفقير فقره.

ومن هنا نفهم قول رسول الله صلي الله عليه وآله نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد.

روي الفتّال النيسابوري أنّ أمير المؤمنين سلام الله عليه أتي سوق الكرابيس، فاذا هو … فقال: يا غلام عندك ثوبان بخمسة دراهم؟ قال: نعم، عندي ثوبان. فأخذ

ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين. فقال: يا قنبر، خذ الذي بثلاثة دراهم …

طيب المخالقة تنفع صاحبها

وهناك قضية يلزم الانتباه لها، وهي أنّ المخالقة الحسنة إن لم تكن نابعة من داخل الإنسان، فإنّه سيبتلي بالتعرّض للضغوط النفسية الشديدة، جرّاء تصنّعه وتذبذبه، الأمر الذي يؤدّي بالتالي إلي عجزه في المحافظة علي سلامته وصحّته، بينما إذا كان الفرد مؤمناً صادقاً بمخالقته أي كان طيّب المخالقة فإنّه سوف ينطلق الي آفاق الحياة بكلّ أمن وسلامة.

إنّ من مميزات طيب المخالقة أنّها تساعد الإنسان علي مقاومة المشاكل، والصمود بوجه المشاكسين والمغالطين والمعاندين والوصول إلي برّ الأمان رغم كلّ الظروف.

ولقد رأيت شخصين لكلّ منهما قصّة، قد ابتلي كلّ منهما بمشكلة مالية، فكان الأوّل مختلفاً مع شخص علي نسبة حصّته من أرض يتنازعان فيها، فكان يدّعي أنّ نسبته 80% في حين كان خصمه لا يقرّ له بأكثر من 40% وكان لكلّ منهما أدلّته وشواهده، فكان الأوّل يتظاهر بحسن المخالقة ويقول: رغم ثقتي بكسبي للدعوي فيما لو ترافعنا للمحكمة إلا أنّي لا أقوم بذلك لأنّ الترافع ليس من شأني، كما أنّي لا أريد تعريض غريمي للهزيمة القضائية. ولكنّه بعد فترة وجيزة أصيب علي أثر هذا الخلاف بانهيار أعصابه، ما أدّي إلي إصابته بالسكتة القلبية ومات علي أثرها، وما ذلك إلاّ لأنّه كان يتصنّع ويتظاهر بحسن السلوك وعدم الاكتراث، ولم تكن حسن مخالقته نابعة من الداخل حتي أجهد نفسه وأتلف أعصابه.

أمّا الشخص الثاني الذي له قصّة مشابهة، فكان مثالاً حقيقياً لمن لا يكترث بالنواحي المادّية، وكان طيّب المخالقة مع الناس، وذلك لأنّه عندما أُخبر بأن بيته قد صودر، لم يكترث؛ وقال: إنّ الأمر ليس من شأنه أن يقلقني بالمستوي الذي يمكن أن يسوء فيه خلقي مع

الناس، بل لا يمكنه أن يؤخّرني حتي عن موعد نومي الليلة.

ولعلّ من عمدة الأسباب في تفاوت سلوك الشخصين المذكورين، هو أنّ أحدهما لم يكلّف نفسه عناء ترويض ذاته وتأديبها وتعويدها علي الصلاح الحقيقي، بينما الثاني كما بدا من سلوكه كان أكبر همّه صقل شخصيته من خلال تهذيب نفسه بالقدر الذي يجعلها طيّعة لأمر بارئها سبحانه وتعالي. إذاً فطيب المخالقة ينتفع بها صاحبها قبل أيّ شخص آخر، سواء في الدنيا أو في الآخرة.

فإذا كان لدي المرء لسان حسن، أو نظرة إيجابية، أو مصافحة حارّة، أو ظنّ حسن، أو عمل صالح فإنّ هذه وغيرها من مظاهر طيب المخالقة ستعود عليه بالنفع أوّلاً، وستشمل غيره أيضاً بمنافعها ومردوداتها الإيجابية.

السبق إلي الفضيلة

من روائع البلاغة في تعبير الإمام السجّاد سلام الله عليه أنّه ضمّ الي طيب المخالقة، السبق إلي الفضيلة. أي بعد أن يتأكّد الإنسان من طيبه الداخلي وحسنه الذاتي، يمكنه أن يتقدّم خطوة نحو الأمام ليشرع في إعمال الفضائل، ثمّ يسمو إلي مرحلة التسابق أو السبق فيها.

فالمرء إذا كان طيّباً في داخله فإنّه لا يتوقع الفضل والإحسان من الآخرين بقدر ما يكون دَيدَنُه الإسراع في عمل الخير وإنجاز الصالحات. فيزور قبل أن يزار، ويحاسب نفسه قبل أن يُحاسب غيره، ويبدأ بالسلام قبل أن يضطرّ إلي ردّه، ويَحترم قبل أن يُحترم، إلي غير ذلك من شواهد الإسراع في الخيرات وطيب التعامل.

وبالنسبة إلي ما ذكر من الابتدار في السلام، فقد أكّدت الروايات بأنّه من المستحبّ أن يبدأ الإنسان بالسلام علي كلّ من يلقاه بل حتي علي زوجته وأطفاله عند دخوله البيت، كما في قوله صلي الله عليه وآله: إنّ أولي الناس بالله وبرسوله من بدأ بالسلام وقوله صلي الله عليه وآله: وإذا

دخل أحدكم بيته فليسلّم فإنّه ينزل البركة وتؤنسه الملائكة.

ولطالما رأيت السيّد المرحوم والدي يبدؤنا بالسلام وكنت من ضمن الصبية، وعندما مضي بي العمر، تأكّدت بأنّ من وراء ابتداره بالسلام علي من هم أدون منه قناعة تامّة لديه، بأنّه يحرز بذلك كثيراً من الفضل والدرجة وتربية الذات، فضلاً عن تعليم الآخرين هذا السلوك الحسن.

قول الحقّ وإن عزّ

قول الحقّ وإن عزّ

واحدة من أهمّ مصاديق حلية الصالحين وزينة المتقين التي يطلبها الإمام زين العابدين سلام الله عليه من الله سبحانه وتعالي، قول الحق، وإن قلّ ناصروه وكثر مناوئوه وتبعته المخاطر والصعوبات.

ملاحظتان في البدء

قبل أن نشرع في بيان ذلك لا بدّ من تأكيد نقطتين هامّتين في الموضوع، هما:

1. إنّ قول الحقّ يعدّ من أهمّ أسس الصلاح والتقوي للفرد المسلم، يؤيّد ذلك ما صدر عن أهل البيت سلام الله عليهم من القول بالحقّ دائماً، ولولاه لما كنّا اليوم مسلمين ولما بقي للإسلام والإيمان من أثر، خصوصاً في ظلّ محاولات الحكّام الظلمة، الهادفة إلي محو الدين وطمس أهمّ معالمه ورموزه.

2. لقد أمرنا الدين الحنيف مراراً وتكراراً أن نسأل الله سبحانه وتعالي التوفيق للصلاح والتقوي، وأن نشفع سؤالنا هذا بالعمل والتطبيق؛ قال تعالي: ?قُلْ مَا يَعبَأ بكم رَبي لَولاَ دعَاؤكم? في إطار التحريض علي الدعاء وإدراك أهميته. وقال أيضاً: ?وَأنْ لَيْسَ لِلإنْسَان إلاَّ مَا سَعَي? حيث ينبغي أن يكون السلوك الصالح مصدّقاً لما يلهج به في الدعاء.

لماذا القول وليس العمل؟

قد يتبادر إلي الذهن هذا السؤال وهو أنه: لماذا قال الإمام في هذا الدعاء: «قول الحقّ» ولم يقل: العمل بالحقّ؟

إنّ لمعاريض كلام أهل بيت النبوّة عليهم الصلاة والسلام جوانب عديدة وآفاقاً مديدة، وما غاب عنّا أكثر مما نستحضره، إلا أنّ ما يمكن قوله بهذا الصدد هو أنّ المجتمع الإسلامي كما هو بحاجة إلي فعل ليصدق عليه أنّه مجتمع إسلامي، كذلك هو بحاجة إلي قول وتصريح بالموقف الحقّ وبحزم.

أمّا إذا اقتصرت حياة الفرد علي الجلوس في الدار دون أن يتكلّم بما يطلبه الحق منه، وتبعه الآخرون من أفراد المجتمع في الإحجام عن القول والتصريح أدّي ذلك إلي عدم العمل أيضاً، فعند ذلك لن يتحقّق الهدف المتمثّل ببناء مجتمع الصلاح والتقوي في المجتمع الإسلامي أبداً.

نعم قد جرت العادة في القرآن الكريم والأحاديث والروايات الشريفة علي حثّ الإنسان علي العمل أكثر من القول، نظراً لأنّ العمل هو

الركيزة الأساسية في الإنسان؛ فإنّ تلفّظ الفرد بشهادة لا إله إلا الله أسهل عليه ملايين المرّات من العمل وفق شروطها؛ إذ العمل بهذه الشهادة يستوجب في كثير من الأحيان تقديم التضحيات الجسيمة وتحمّل المصاعب والمشكلات الكبيرة.

ولكي يهون الأمر في سبيل ذلك فلابدّ من نظرة إلي من نصّبهم الله تعالي قدوة، لتؤنس وحشتنا بعظيم رزئهم، وتشحذ هممنا بجميل صبرهم، فلقد كان الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه نموذجاً أوحد في العمل بمقتضي شرائط التوحيد، الأمر الذي كلّفه أن يقصي عن الحكم مدّة خمسة وعشرين عاماً، وهو الأعلم والأفضل والأتقي والأقضي من بين الناس بعد رسول الله صلي الله عليه وآله.

وكذلك كان شأن الكثير من عظماء الإسلام ممّن شايعه واقتدي به مثل الصحابيّ الجليل أبي ذر الغفاري رضوان الله تعالي عليه الذي التزم وعمل بشهادة التوحيد ما أمكنه جهده؛ فمات بسبب ذلك نفياً وغربة ووحدة وجوعاً، بعد أن كابد الفاقة والجوع قبل ذلك فترات طويلة.

إذاً المجتمع الصالح، بحاجة إلي القول كما هو بحاجة إلي العمل، ولعلّ الإمام استعمل هنا كلمة (قول) لإرادة هذا الأمر، وإن كان ثمّة تناوب في الاستعمال بين هاتين الكلمتين، حيث قد تُطلق إحداهما ويراد بها الأخري، كقولهم: قال بيده هكذا أي عمل هكذا، إلا أنّ الذي هو ثابتٌ أنّه لا يكفي من أجل صلاح المجتمع، العمل بالحقّ وحده، بل لابدّ من الدعوة إليه، والتصريح به.

ما هو الحقّ؟

ذكروا للحقّ معاني، ففي اللغة: هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، واصطلاحاً: الحكم المطابق للواقع؛ ويطلق علي الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها علي ذلك. وعندما نقرأ القرآن الكريم وأحاديث أهل البيت سلام الله عليهم نجد لهذه الكلمة معاني متشابكة ومتداخلة، وكلّ معني له خصوصيته، والجامع لكلّ معانيه

هو وقوع الشيء في موقعه الذي هو أولي به. ويشخّص الحقّ في الفتوي الفقيه، وفي البناء المهندس، وفي الصحّة الطبيب، وتشخيصه في التاريخ والسيرة من اختصاص المؤرّخ، وهكذا.

أفضل الحق

إن أفضل الحقّ عندما يكون إظهاره والعمل بمقتضاه عزيزاً.

أمّا كيف يعزّ قول الحق؟

إذا قلّ الشيء النافع وندر أصبح عزيزاً، فمثلاً الماء الذي تتوقّف عليه الحياة، وجُعل منه كلّ شيءٍ حيّ، يصبح عزيزاً إذا ما ندر أو حيل بينه وبين طالبه. أمّا إذا كان متوفراً فلا يسمي عزيزاً رغم نفعه وأهميّته، وهذا يعني أنّ الشيء العزيز هو النافع النادر.

والقول بالحقّ أمر حسنٌ جدّاً ونافعٌ، ولكن ما يجعله حلية للصالحين وزينة للمتقين هو عندما يكون إظهاره والعمل به عزيزاً ونادراً، بسبب المخاوف والمخاطر، كالتعذيب والحرمان والاعتقال وسائر الصنوف الأخري التي يستخدمها الظالم لإرهاب من يجترئ علي قول الحقّ بوجهه.

إنّ التاريخ يتشرّف بأولئك الذين صدعوا بالحقّ بعد أن عزّ وغاب قائله فضلاً عن فاعله، وأصدق من قال الحقّ في عزّته، هم محمد وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين ومنهم السيّدة الصديقة فاطمة الزهراء سلام الله عليها حيث كانت أوّل المقدمين في قول الحقّ بعد وفاة أبيها رسول الله صلي الله عليه وآله حين ظهر الباطل فأصبح الحقّ عزيزاً، فكان أوّل ما قامت به عليها الصلاة والسلام هو فضحها للمؤامرة أو قل المؤامرات التي حيكت ضد الإسلام لاستهداف أصوله وصميمه، حتي تسنّي بفضل قولها الحقّ أن حافظت علي جوهر الدين من الدمار التامّ، وأبقت للمسلمين ما يتمسّكون به، وإلا لنجح الشياطين في إرجاع الناس إلي الجاهلية الأولي.

ومن هنا نفهم وندرك عمق تصريح النبي الأكرم صلي الله عليه وآله حينما أجاب عن أفضل الجهاد، فقال: أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر؛

فقول الحقّ بوجه الظلمة يعدّ جهاداً بل أفضل الجهاد، الأمر الذي يشير إلي مدي أهميّته وخطورته، فضلاً عن ندرة المتصدّي له.

وهذا الحديث الشريف ورد بلفظ عند إمام جائر أيضاً، وهذا يستدعي التأمّل أيضا؛ فكلمة (سلطان) ذات مفهوم أو استعمال أوسع من كلمة (إمام). ففي الاصطلاح الإسلامي إذا جار الحاكم الكافر سمّي سلطاناً جائراً، أمّا إذا جار الحاكم المسلم، فيسمّي إماماً جائراً.

والجهاد ضدّ إمام الجور بقول كلمة الحقّ بوجهه، أفضل من الجهاد ضد سلطان الجور؛ لأنّ ما يضعف الإسلام ويؤدّي إلي تآكله من الصميم وفي نفوس المستضعفين من المسلمين ويدفع بغيرهم إلي الإعراض عنه، هو ما يقترفه إمام الجور، مثل يزيد بن معاوية لعنهما الله، الذي حكم باسم القرآن والرسول صلي الله عليه وآله، وكان في الوقت نفسه من أعدي أعدائهما، حتي أنّه اختطّ خطّاً في الجريمة والتجاوز علي مقدّسات الدين ورموزه، لا تزال مظاهره تؤذي بدن الدين والأمّة، ظاهرة في كلّ من تقمّصها من بين الحكّام الذين توالوا بعده وهم يحملون معاول التحريف بالدين والتنكيل بالأمّة كلّما تهيّأت الظروف لهم.

ومن هنا أكّدت الأحاديث الشريفة بأن ظالمي محمد وآل محمد صلي الله عليه وآله لو كانوا قد امتنعوا عن الظلم والاضطهاد، وفسحوا المجال لأمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام بممارسة دوره بعد رسول الله صلي الله عليه وآله، لما بقي علي وجه الأرض كافر، لأنّ الإسلام الذي يطبّقه عليّ بن أبي طالب ويحكم هو به هو الإسلام الحقّ وإنّما هو ضياء ورحمة للعالمين، وكلّ من لم يكن جاهلاً أو معانداً، فمن طبيعته أن يبحث عن الضياء ليهتدي به.

إنّ كلمة الحقّ كثيراً ما تؤدّي بقائلها إلي المشكلات وحتي القتل، كما فعلت مع الشاعر الصنديد دعبل الخزاعي. فما قاله

في إمام الجور هارون العبّاسي كان وحده يكفي في تعريض حياته للخطر، فاضطرّ إلي التشرّد والتخفّي بين البلدان، بسبب قوله:

قبران في طوس خير الناس كلهم

وقبر شرّهم، هذا من العبرِ

لا ينفع الرجس من قرب الزكي ولا

علي الزكيّ بقرب الرجس من ضررِ

حتي قال في مناسبة: أحمل خشبتي علي كتفي منذ خمسين سنة، لست أجد أحداً يصلبني عليها.

وفي الزهراء قدوة

روي أصحاب الحديث ومن مختلف الطرق إسرار رسول الله صلي الله عليه وآله إلي بضعته الصدّيقة الطاهرة سلام الله عليها حين دنت وفاته وقوله لها: ليس أحد من نساء المسلمين أعظم رزية منك.

وليس سبب هذه الرزية كما تشهد بذلك الوقائع التاريخية كافّة سوي قولها كلمة الحقّ في باكورة الخيانة الكبري التي أفرزتها السقيفة، وبعد أن علم مناوئوها باستعدادها وإصرارها علي قول كلمة الحقّ وعدم اكتراثها بمن يتنازل أو ينهزم؛ خوفاً أو طمعاً بمن صيّر نفسه إماماً للمسلمين وهو الذي صرّح بنفسه في أكثر من مناسبة «وُلّيتكم ولست بخيركم»، ناهيك عن صنوه وقرينه الذي كشف عوراته للناس عندما أعلن سرّاً وجهراً بأنّ جميع الناس بمن فيهم النساء أفقه منه، وهو الذي أصدر حكم الإعدام الجماعي ضدّ كلّ من كان طوله يقلّ عن خمسة أشبار.

تري، لماذا رزئت الصديقة الزهراء سلام الله عليها وهي سيّدة نساء المسلمين والعالمين، بل كيف ولماذا تكون رزيّتها الأعظم من بين سائر النساء المسلمات؟

ذلك لأنّها تحمّلت مسؤولية الحفاظ علي الإسلام مع زوجها الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، عملاً بوصية أبيها صلي الله عليه وآله وذلك عبر كلمة الحقّ التي قرعت بها سمع حشود المسلمين الذين قلبوا لوصيّ المصطفي ظهر المجنّ، حتي أنّها اضطرّت سلام الله عليها إلي مصارحة عدوّها بالحرف الواحد حين قالت له: والله لأدعونّ الله

عليك في كلّ صلاة.

ما أعظم رزيّتها سلام الله عليها وهي تتخطّي الرقاب لتدلي بخطبتها، وما أعظمها من كلمة حقّ عند إمام جائر، قد صدرت ممّن يغضب الله لغضبها ويرضي الله لرضاها، لترسم لنا بذلك خطّ الإسلام الأبيّ، وتقول للتاريخ والأجيال: هذا هو الإسلام الأصيل الذي بُعث به أبي صلي الله عليه وآله.

فالتوفيق لقول الحقّ إن عزّ وندر، يعدّ من علامات التقوي وزينتها والصلاح وحليته، كما قال الإمام السجّاد سلام الله عليه، ويتحقّق ذلك بالطبع ضمن شروط وحالات حدّدتها كتب الفقه في مظانّها.

والمعرضون عن إظهار قول الحقّ حين يحقّ بوجه الجبابرة والطغاة، لا يُعدّون من الصالحين والمتّقين، وإن كانوا يصلّون ويصومون، لأنّهم بإعراضهم يداهنون الظالمين الجائرين الذين لا يهمّهم صلاة من صلّي أو صوم من صام، بقدر اهتمامهم بالطاعة وإبداء الصمت والتسليم لهم من قبل رعاياهم.

إنّ مولاتنا فاطمة الزهراء سلام الله عليها آلت علي نفسها إلاّ قول الحقّ بوجه إمام الجور بل أئمّة الجور، وإن كان يستجلب لها الظلم من قِبلهم وسلبها راحة العيش. والأمر هكذا قد تمّ فعلاً بعدما أنهت خطبتها حتي وصل الحال بهم أن صنعوا ما صنعوا، مما يعرفه الكُلّ.

فالتمسّك بقول الحقّ هو من أساس التقوي والصلاح، خصوصاً حينما يقلّ ناصروه ويكثر مناوئوه ويعزّ قائله ويكثر الصامت عنه.

استقلال الخير واستكثار الشرّ

استقلال الخير واستكثار الشرّ

من المسائل التربوية الأساسية هي أن يستقلّ الإنسان الخير الصادر عنه، وأن يستحضر هذا المعني دائماً ويلقّن به نفسه باستمرار، وأن يلاحظ اللوازم التي أدّت إلي صدور فعل الخير منه، فلا يعتبر سهمه في إنجازه.

وحريّ بالإنسان المؤمن أن يوكل تقييم ما أنجزه إلي الله عزّوجلّ، لقوله تعالي: ?ألَم تَرَ إِلَي الَّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً?.

ليس المقصود من استقلال الخير

احتقاره، بل أن يجد الإنسان نفسه أنّه لا يستغني عن الاستمرار في فعل الخير والمواصلة وإن كثر فعله له، لئلا يري أنّه أتمّ الواجب وزاده.

إنّ الإنسان إذا أصابه هاجس الاستكثار لما فعل من الخير؛ أدّي ذلك إلي الغرور. حتي أنّ بعض الناس يغترّ لمجرّد عمل بعض الصالحات، ولذلك فعلي الإنسان أن يعرف بأنّ استقلاله للخير هو بمعني إيجاده الدافع في نفسه نحو إدامة العمل الصالح والإكثار منه.

ففي طلب الإمام سلام الله عليه، نري نقاطاً جوهرية؛ وهي:

1. طلب المدد الإلهي.

2. الكشف عن الطبيعة الإنسانيّة الخاصّة، في هذا الصدد.

3. قدرة الإنسان علي تحقيق هذه المهمّة.

4. استقلال الخير، قولاً أو فعلاً، في داخل نفوسنا.

كما إنّ استكثار قليل الشرّ واستعظامه يعني إيجاد الرادع الذي يحول دون ممارسة المزيد من الأخطاء، فضلاً عن عدم التجرّؤ علي الله عزّ وجلّ عبر استصغار السيّئات والتغافل عنها.

إضافة إلي أنّه ينبغي للعبد أن يراقب الله سبحانه وتعالي في المعصية، بغضّ النظر عن كمّية المعصية ونوعيّتها؛ فلعلّه يؤوب الي رشده ويستعظم في نفسه خطاياه وإن قلّت وصغرت.

فإنّك قد تمزح مزحة بسيطة أو غير مقصودة، أو قد تمسّ بيدك عباءة شخص مّا محاولاً إبعاد شيءٍ عنه، فينزعج لذلك؛ ففي مثل هذه الحالات أيضاً يجب عليك أن تستكثر خطأك وتستعظمه وإن كان غير مقصود.

وهذا الحثّ علي متابعة مثل هذه الملاحظات كفيلٌ بأن يصنع من الإنسان موجوداً رهيف الحسّ يشعر بالمسؤولية الدائمة عما يبدر منه من تصرّفات وإن كانت صغيرة أو قليلة، فيتنبّه؛ بينما الغفلة عن الصغائر وعدم الاكتراث بها وإهمالها يمكن أن يُحوّلها إلي كتل كبيرة كما هو الحال في كرة الثلج التي تبدأ حين تدحرجها من قمّة المرتفع بحبات أو ذرات بسيطة من الثلج لتفاجئ من

هم في الأسفل بوجودها الضخم ولذا يجب أن يتنبّه الفرد إلي أنّ عدم استصغار قليل الشرّ بحدّ ذاته يعتبر إصراراً عليه، وهو ما ورد التحذير عنه في كثير من الروايات باعتباره تجرّياً علي الله سبحانه وتعالي، والعياذ بالله.

بين الاستقلال والاستكثار

إنّ للمؤمن مع نفسه حالات يمكن من خلالها أن يعلم مدي ارتباطه بالله عزوجل.

مثلاً: لو قُدّر للإنسان أن يصلّي صلاة الليل في ليلة باردة، فذاك فعل خير متميّز يستحقّ عليه جزيل الثواب، ولكي يتعوّد علي ذلك ويستمرّ به، عليه أن يستقلّه ويري أن القسط الأوفر منه هو توفيق الله سبحانه وتعالي، ثمّ نعمه الكثيرة التي هيّأت له إمكانية الأداء.

وكذلك الحال لو بدأ بالسلام علي أخيه المسلم أو صام صوماً استحبابياً إلي غير ذلك من الصالحات، فلا ينبغي له استكثاره أبداً.

لا ينبغي الاستهانة بأية سيّئة، مهما كان حجمها وبعدها، فإنّه لو شاء الله عزّ إسمه، لأخذ الفرد علي ذلك وأذاقه وبال أمره، لأنّ الخطيئة بغضّ النظر عن حجمها وطبيعتها، هي بمثابة التحدّي والجرأة علي الله عزّ وجلّ، من خلال الاستخفاف بتشريعه، وكأنّ الإنسان لدي ممارسته الذنب يريد أن يثبت بطريق باطل وجوده بإزاء وجود الله وجبروته وأوحديّته في حقّ التشريع وفرض الإرادة وبسط المشيئة.

فما هي قيمة الإنسان الذليل الفقير حين يضع نفسه بإزاء خالقه العزيز الغني، كي يسوّغ لنفسه بأن يرتكب ما يرتكب من الخطايا والذنوب، ثمّ لا يستكثرها ويصرّ عليها مستكبراً جذلاً وكأنّه قد بلغ الجبال طولاً وخرق الأرض قوّةً، وأنّي له التناوش وهو الكائن الضعيف لولا عقله الذي زيّنه به البارئ تبارك وتعالي، وأوجب عليه إعماله لمعرفة قيمته من خلال الاطلاع علي خبايا نفسه، وليتسنّي له معرفة ربّه تعالي.

لهذا وغيره يجدر بالإنسان أن يكون حذراً للغاية

في موقفه من الخطأ، فيحصي علي نفسه كلّ زلّةٍ وهفوة، ضمن برنامج دقيق يقضي بمحاسبة النفس، لئلاّ يتّسع عليه الخرق.

روي أنّ النبي صلي الله عليه وآله نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: ائتوا بحطب. فقالوا: يا رسول الله، نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب. قال: فليأت كلّ انسان بما قدر عليه. فجاؤوا به حتي رموا بين يديه، بعضه علي بعض.

فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: هكذا تجتمع الذنوب. ثمّ قال: إيّاكم والمحقّرات من الذنوب، فإنّ لكلّ شيء طالباً، ألا وإنّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيءٍ أحصيناه في إمام مبين.

وبما أنّ الإنسان مبتليً بالنفس الأمّارة بالسوء فضلاً عن وسوسة الشيطان اللعين، فإنّه يغفل عن الواجب من محاسبة النفس.

ولأجل ذلك، فهو بحاجة إلي تصميم قاطع، تبعاً لأهمية الموضوع.

ويلزم أن نعلم جميع الواجبات الملقاة علي عواتقنا وبالأخصّ تلك التي لا نعيرها أهمية بسبب جهلنا أو تجاهلنا لها والعمل بمقتضاها، مثل واجب أداء حقوق الجار وما ينبغي له علينا من العلاقة الطيبة وتفقد أوضاعه والدعاء له، كما كانت تفعل السيّدة الصديقة فاطمة الزهراء سلام الله عليها حيث رُوي أنّه رآها ولدها الإمام الحسن المجتبي عليه الصلاة والسلام في مصلاّها تعبد ربّها وتدعو للجيران حتي طال بها المقام إلي الفجر، فسألها عن سبب اهتمامها الكثير بالجيران وعدم ذكرها لنفسها أو أفراد أسرتها فأجابته قائلة: الجار ثمّّ الدار.

فالكثير من الواجبات المنسية يتوقّع من الإنسان الاهتمام بها لكي لا يفاجأ يوم القيامة بكتاب يحوي كلّ ما غاب عنه أو غيّبه عامداً بنفسه فيتضاعف لديه الإحساس بالندم والحسرة، وقد صوّرت الآية القرآنية هذه الحقيقة: ?وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحتَسِبُونَ? حين يري الناس أنفسهم صفر اليدين بسبب ما

نسوا من الواجبات أو تناسوه، أو بما استكثروا من فعل الخيرات، حين ألحقوا أعمالهم بالمنّ والأذي، فحبطت أعمالهم وهم لا يشعرون، غافلين أنّ ما كانوا قد فعلوه من الخير إنّما هو بهداية الله تعالي وتوفيقه، فهو الذي زوّدهم بنعمه الجزيلة، وهو الذي هداهم ومهّد لهم السبل وسهّل عليهم فعل الخير.

ولقد نقل لنا التاريخ ما قام به أهل بيت نبيّنا صلي الله عليه وآله في هذا الإطار لنتّخذه نبراساً تسير وفقه حياتنا الإيمانية، منها ما روي عن الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: أنّه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتي مجلت يده، ويتصدّق بالأجرة، ويشدّ علي بطنه حجراً، ولم يعتبر ما قام به شيئاً.

كما روي عن الإمام الحسين صلوات الله عليه حين قصده فقير، فقدّم له أربعة آلاف دينار ما يعادل عشرة كيلوات من الذهب واعتذر له من وراء الباب علي أنّه لو كان باستطاعته تقديم الأكثر لفعل.

وكذلك روي عن الإمام السجّاد وأولاده الميامين سلام الله عليهم هذا السلوك. وهؤلاء هم أئمّتنا الذين يجب أن نقتدي بهم، وهكذا كان علماؤنا رضوان الله تعالي عليهم، فقد كانوا علي مستويً رفيعٍ للغاية من الأدب مع ربّهم، مما يشير إلي وعيهم وإدراكهم حقيقة الحياة ودورهم فيها، فكانوا يستقلّون الخير المنبعث منهم ويستكثرون الشرّ الصادر عنهم ويقدّمون خدمتهم للآخرين علي طبق من الإخلاص، ولا يلحقون بما قدّموا منّاً ولا أذيً ولا عجباً ولا رياءً، كما كانت عبادتهم الغاية في الكثرة واليقين، ومع ذلك لم يستكثروها، فكانوا النموذج المثالي لذلك.

استقلال الخير

يطلب الإمام زين العابدين سلام الله عليه من الله سبحانه وتعالي، ويعلّمنا أيضاً أن نطلب منه عزّ وجلّ أن يخلق في نفوسنا حالة استقلال ما يصدر منّا

من الخير، فلا نستكثره فنتوقّف عنده، وإنّما نستعينه تبارك وتعالي ليجعل فينا حالة الإصرار علي الأعمال والأقوال الصالحة، لنكون بمثابة شعلة دائمة التوهّج، عميمة النور وكذلك نطلب من الله سبحانه، أن يجعل في ذواتنا حالة استكثار الأعمال والأقوال الطالحة التي ربما تصدر لا سمح الله منّا.

وهذا الشعور ينبع من إدراك الإنسان بأنّ ما قدّمه ويقدّمه من الصالحات قليل، لعدم تناسبه مع ما ينبغي له من السموّ في فعل الخير والصلاح.

والإنسان إذا ما استطاع السير في طريق استقلال الخير واستكثار الشرّ، فإنّه سيصل إلي واقع آخر، وهو شعوره بالتقصير والعبودية في آن واحد أمام ربّه العزيز فيزداد تعلّقه بربّه ليرتقي الي مراتب من السموّ والكرامة الحقيقية، كما تحقّق ذلك للأولياء والصالحين ممّن أنعم الله عليهم وأكرمهم بكرامة القرب منه.

استكثار الشرّ

أمّا المطلب الثاني الوارد في الدعاء، فهو الطلب من الله تعالي أن يخلق فينا الشعور باستكثار الأعمال والأقوال الشرّيرة وإن كانت ضئيلة، ليكون هذا الشعور رادعاً يحول دون تمادينا في باطل الحياة الذي يؤول بالإنسان إلي عقاب الله وعذابه الشديد.

فالإنسان حينما يطلب من الله سبحانه وتعالي أن يعطيه ملكة استكثار الشرّ وإن قَلّ، يكون قد سلك شيئاً طريق استقباح كلّ شرّ، وهذا ما يؤدّي به تدريجاً إلي الامتناع عن كلّ شرّ وإن قلّ وصغر.

ولعل هذه الحالة النورانية هي التي بلغت ببعض الأولياء والصالحين إلي طيّ المسافات بعد تجشّم العقبات ليبلغوا عند عتبات العصمة التي تمثّل الذروة فيما يمكن للإنسان من غير النبي والأئمّة أن يبلغها، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخري، فإنّ مرتكب الشرّ والجريرة ينبغي أن يعلم بأنّه إنّما يسيء لما استخلفه الله عليه، باعتبار أنّ الله سبحانه وتعالي هو المالك الحقيقي لكلّ شيء ?إنَّا للهِ وَإنَّا

إلَيْهِ رَاجِعُون?. فنفس الإنسان وكيانه ووجوده ملك صرف لله تعالي وحده، وهذا الملك صائر وراجع إليه دون سواه، وعليه؛ فابن آدم مدعوّ إلي مراجعة نفسه ومحاكمتها علي ما ارتكبته من شرّ فيما لا تملك؛ إذ ارتكاب الشرّ يعني جملةً وتفصيلاً تجاوزاً وانتهاكاً لحرمة الخالق وسلطته علي مخلوقاته، والتي في ضمنها الإنسان نفسه، وسائر ما يحيط به.

لذلك فإنّ الذنب مهما تضاءل في نظر صاحبه، فهو كبير في مقياس العبوديّة فضلاً عن أنّه يعدّ استخفافاً يجرّ إلي استسهال التجرّي علي العصيان، وبالتالي يري الإنسان نفسه أداة طيّعة لمختلف حالات الإجرام والمعاصي.

فالمفترض بالإنسان أن يقطع الطريق علي وساوس نفسه وما يملي لها الشيطان، لئلا يقع فيما لا يحمد عقباه، فيستشعر فداحة ما يصدر عنه من الأخطاء التي منعه الشارع المقدس عن الوقوع فيها.

هل يصدر الشرّ من الإمام ليستكثره؟!

لقد ثبت بالأدلّة النقلية والعقلية القطعية عصمة أئمة آل البيت عليهم الصلاة والسلام ومنهم الإمام زين العابدين سلام الله عليه، ومما لا شك فيه عدم صدور الشرّ من الإمام، والإمام السجّاد سلام الله عليه شأنه شأن سائر أهل البيت صلوات الله عليهم لا يصدر عنه ترك الأولي، فضلاً عن ارتكابه الشرّ والعياذ بالله.

فطلبه سلام الله عليه من الله تعالي أن يدفعه عن استكثار الشرّ، وأن يجعل فيه حالة استقباح الباطل وكرهه له، ينبغي النظر إليه بملاحظة سائر الجهات أي: بمنظار أوسع.

فمن تلك الجهات هي أنّ الإمام يهدف إلي إرشاد وتوجيه المؤمنين إلي أن يطلبوا من الله ذلك، وكأنّه في هذا المقام يوحي إلي قارئي هذا الدعاء بضرورة الانتباه وتمييز الحالات النفسية في ذات كلّ إنسان لدي قيامه بعمل الخير أو الشرّ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

ومن تلك الجهات أنّ الإمام يخاطب الربّ بلسان المخلوق الذي لا

تنفكّ عنه لوازم المخلوقية، ومنها العجز، فإنّ المعصوم وإن كان أعلي من غيره بفاصلة غير متصوّرة، ولكن هذه الفاصلة تبقي دون الفاصلة اللامحدودة بين الخالق والمخلوق. فمن لوازم المخلوق العجز والمرض، والإرهاق والتعب، لذلك فإنّ المعصوم مع تلك الطوارئ التي تعرض عليه كإنسان يجد نفسه قاصراً تجاه أداء حقّ العبوديّة لله تعالي وإن كان معذوراً.

لقد جاء في رواية سماعة أنّ الإمام الصادق سلام الله عليه قد حال المرض بينه وبين الصوم لمدّة ثلاث رمضانات متتالية لم يصم فيهنّ ثمّ أدرك رمضاناً، قد عافاه الله فيه، فصامه وتصدّق بدل كلّ يوم ممّا مضي بمدّ من الطعام. فكأنّه سلام الله عليه يشعر في مثل هذه الحالة بالتقصير وإن رُفع عنه التكليف بسبب مرضه.

وإذا أردنا أن نضرب لذلك مثلاً، نقول:

إذا سيطرت عليك رغبة قويّة لرؤية إمام العصر؛ الحجّة المنتظر عجّل الله تعالي فرجه ولو لدقيقة واحدة، ثمّ بحثت عن وسيلة تحقّق ذلك، فقيل لك: إنّ وسيلة ذلك هي أن تعمد إلي أنواع خاصّة من العبادة، بواسطتها يستجيب الله تعالي لطلبك في رؤية الإمام، وفعلاً بدأت تلك العبادة والأعمال، ولكنك لم توفّق لرؤيته عجل الله تعالي فرجه الشريف، فأعدت الكرّة، واستغرق منك الأمر أشهراً وسنين مديدة، ولم تفتر فيها عزيمتك أو تخمد رغبتك، ثمّ صادف أن ابتليت بمرض عضال أقعدك عن القيام ورأيت نفسك مجبراً علي ملازمة فراش المرض دون أن تستطيع حتي تحريك ساقيك. وفي تلك الأثناء، ظهر لك من كنت تتمنّي رؤيته ولو لدقيقة واحدة وكنت علي يقين بأنّ هذه الرؤية ستضمن لك سعادة الدارين الدنيا والآخرة فأردت أن تُظهر له مقدار حبّك وإجلالك له والتعبير عن مدي شوقك إليه، فعزمت علي القيام، فعجزت، وأردت أن تجمع

قدميك مستجمعاً كلّ قواك احتراماً له، فلم تقدر، إذ ذاك تبادر بالاعتذار إليه، معتبراً قصورك هذا تقصيراً بحقّه وبرفيع منزلته، للعجز من جانبك، الأمر الذي من شأنه أن يقرّبك إلي وليّ الله الأعظم أرواحنا فداه.

فالمعصوم لا يخرج عن كونه إنساناً، علم الله ما سيكون عليه من النزاهة والإخلاص والتقوي، فزاده من فضله ضمن قوانين كتبها سبحانه وتعالي، كما كتب علي نفسه الرحمة لخلقه من قبل.

وليس أعظم من نعمة العصمة التي أنعم الله تعالي بها علي الإنسان، فأصبح نبيّاً أو وصيّاً وإماماً، ولذلك فهي نعمة العصمة تستوجب المزيد من الخضوع له تبارك وتعالي، كما تستوجب علي المعصوم تحمّل عدم قدرة الإنسان علي استيعاب الفاصلة اللامحدودة بين المخلوق وعظمة الخالق وعدم وجود عبادة قادرة علي تقليل تلك الفاصلة.

ومن مصاديق ما كان المعصوم يعتبره شرّاً رغم العذر الشرعي له هو ما ورد في خبر سماعة عن الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه.

دوام الطاعة

يوضّح الإمام السجّاد سلام الله عليه بقوله: وأكمل ذلك لي بدوام الطاعة. أنّ كمال استقلال الخير واستكثار الشرّ يتوقّف علي دوام الطاعة، فلا يتوقّف ابن آدم عند حدّ من الحدود في كدحه إلي ربّه عزّوجلّ، بل يسأل ربّه ثمّ يعزم علي العمل الطاعة بصورة دائمة، وإن كانت قليلة، فقد ورد في الأثر: قليل تدوم عليه أرجي من كثير مملول، والمرء إذا تعوّد فعل الخير وإن قلّ، تاق الي أكثَرَ منه، لما سيشعر بذلك من اللذة، وبما سيتكرّس لديه من الرغبة في الحصول علي الجزاء الأوفي.

قصّة الابتلاء وعبرة الإجابة

نقل لي من أثق به عن أحد العلماء أنّه كان بصدد تأليف كتاب في الدفاع عن مقام أهل البيت عليهم الصلاة والسلام وإثبات حقّهم، فانشغل بجمع المصادر، حتي أوقفته الحاجة إلي أحد الكتب المهمة، فبحث عنه بحثاً كثيراً، لكن دون أن يوفّق للعثور عليه، فرأي أن يذهب إلي مرقد أمير المؤمنين سلام الله عليه وأن يتوسّل به ليهيّئ له وسيلة العثور عليه، وطال توسّله أشهراً، وهو خلال ذلك لم يكلّ عن البحث عنه في المكتبات.

قال العالِم: وذات يوم كنت قرب ضريح أمير المؤمنين صلوات الله عليه، واضعاً عباءتي علي رأسي وكانت هذه الهيئة منه لئلاّ يشغله شيء عن توجّهه منشغلاً بالدعاء إلي الله تعالي والتوسّل بالإمام ليرشدني إلي ضالّتي، سمعتُ صوت رجل قرويّ قريب منّي يكثر الإلحاح علي الإمام في أن يجيبه لما يريد، وقد ضمّن كلامه كلمات حادّة وفيها تهديده بعزمه علي عدم زيارة الإمام أبداً إذا لم يُجبه.

قال: فتأثّرت لذلك كثيراً، وهالني هذا الأسلوب الفضّ في التحدّث مع سيّد الأوصياء وأمير المؤمنين سلام الله عليه، وأردت أن أعاتب الرجل وأؤنّبه عما بدر منه، ولكنّي أحجمت عن ذلك وقلت

في نفسي إنّ الإمام أعرف بلسان الرجل.

قال: بعد أيام قلائل وبينما كنت عند الضريح مستمرّاً في توسّلي بالإمام إذ سمعت الرجل نفسه وقد بدت علي كلامه أمارات السرور، وهو يضفي للإمام عبارات المدح والثناء بأسلوبه الخاص، وكأنّ الإمام قد قضي له بإذن الله حاجته. فتأثّرت في نفسي من سرعة الإجابة لهذا الرجل القرويّ في شأن من شؤون الدنيا، بينما أتعرّض للإهمال في ما نويت فيه الدفاع عن حقّ أهل البيت.

فقلت ذلك لأمير المؤمنين، لكن ندمت بعده، وعدت إلي البيت غارقاً في التفكّر ولم أعد أشتهي تناول الطعام وقد هجرني النوم.

وحين الصباح جلست إلي أوراقي لكي أكتب شيئاً، والضجر يملأني، جاءني ابني ليقول لي: بأن رجلاً كان جاراً لنا قديماً حيث كنا نسكن في منطقة أخري يريد رؤيتي. فقلت له بأن يسمح له بالصعود إلي غرفتي.

وحينما استقرّ به المكان قال لي: إنّ سبب زيارتي لكم هو أنّنا انتقلنا من المحلّ الذي كنّا وإيّاكم فيه، إلي بيت آخر، وحين انشغالنا بتنظيف البيت رفعتُ ولدي إلي أحد الرفوف لينظّفه، فوجد فيه كتاباً قديماً، فنزل به وأنا لا أعرف القراءة والكتابة، فرأيت أن آمره بوضعه في مسجد المنطقة ليستفيد منه الآخرون، ولكنني غيّرت رأيي حينما تذكّرتك وقرّرت أن آتيك به. فبحثت عنك، إلي أن وجدت دارك، وها هو الكتاب.

قال: فتناولت منه الكتاب وفتحته، فإذا نفس الكتاب الذي استغرقت في البحث عنه أشهراً، فأسقط في يدي، وتأكّدت من أنّ الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه إستجاب لطلبي، ولكن بعد مدة.

والسبب في تأخير الإجابة، رغم قدرة الإمام بإذن الله تعالي عليها فوراً، هو الإمتحان أحياناً، قال الله تعالي: ?أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون? بمعني أنّ لكلّ

امرئ امتحانه وبلاءه ليثبت جدارته ويرفع من منزلته عبر الاستمرار في الطاعة والإلحاح في الدعاء الذي هو عبارة عن وسيلة لتقوية علاقة العبد بخالقه من جهة، ولكي يشمل الله سبحانه عبده بمزيد من العناية والرحمة من جهة أخري: ?قُلْ مَا يَعْبَأ بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُم?.

إغتنام الفرص

من الضروري اغتنام الفرص الحسنة للاستزادة من العبادة والطاعة، لاسيما أيّام شهر رجب الأصبّ وشهر شعبان المعظّم وشهر رمضان المبارك، ليكرّس فيها الإنسان ما يملك من قوّة ليعي العبادة ويقوم بأدائها حق الأداء بالإضافة إلي مواصلة مهمّة محاسبة النفس، كما أمرت بذلك الأحاديث والروايات الشريفة التي نقلها كبار علمائنا في كتبهم؛ فقد ورد عن أهل البيت صلوات الله عليهم أنّ الله يجزي عامل الصالحات والمحاسب لنفسه من الجزاء - خاصّة في هذه الأشهر المباركة، ومنها شهر رجب الأصبّ الذي تُصبُّ فيه الرحمة والبركة علي رؤوس العباد صبّاً ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشرٍ.

والورع عن محارم الله من الأمور الموصي بها في هذه الأشهر خاصّة، الأمر الذي يستلزم معرفة المحرمات أوّلاً. وبالورع تقلّ نسبة الحسرة في يوم القيامة بعد ما يُري ما يناله المتّقون مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر. وهذا كلّه يكون بالخروج من الامتحان الإلهي بنجاح.

اللهُمَّ صَلّ عَلي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلْ أوْسَعَ رِزْقِكَ عَلَيَّ إذا كَبرْتُ، وَأقْوَي قُوَّتكَ فيَّ إذا نَصَبْتُ، وَلاَ تَبْتَلِيَنّي بِالْكَسَلِ عَنْ عِبَادَتكَ وَلاَ الْعَمَي عَنْ سَبِيلِكَ، وَلاَ بالتَّعَرُّضِ لخِلاَفِ محَبَّتِكَ وَلا مُجَامَعَةِ مَنْ تَفَرَّقَ عَنْكَ، وَلا مُفَارَقَةَ مَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْكَ …

? أوسع الرزق وأقوي القوّة

? الابتلاء بالكسل عن العبادة والعمي عن سبيل الله

? عدم التعرّض لخلاف محبّة الله

أوسع الرزق وأقوي القوّة

أوسع الرزق وأقوي القوّة

يسأل الإمام من الله تعالي سعة الرزق حين الكبر، وأقوي القوّة حين النصب. ولاشكّ أنّ رزق الإنسان علي الله في تمام عمره بل كلّ مخلوق رزقه علي الله تعالي؛ ?وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الأرض إلاَّ عَلَي اللهِ رِزْقُهَا?.

والرزق قد يكون موسّعاً وقد يكون مضيّقاً. وحيث إنّ قوي الإنسان تضعف في

الكبر عادة، الأمر الذي يؤدّي الي ضعفه عن الحركة والنشاط كما كان أيّام شبابه، لذلك فإنّه غالباً ما يحتاج إلي من يعينه ويأخذ بيده للقيام بأكثر أموره ومنها الحصول علي رزقه. فإذا كان الرزق واسعاً كانت الحاجة إلي المساعدين أقلّ، والعكس بالعكس، وليس كلّ إنسان يتمكّن من تحصيل من يساعده في تمام شئونه، حال شيخوخته. لذلك تري الإمام سلام الله عليه يخاطب ربّه الجليل ويطلب منه أن يجعل أوسع رزقه له أيّام كبره وشيخوخته ليكفيه مُؤنه ولا يكله إلي غيره، لأنّه أحوج ما يكون لسعة الرزق في تلك الفترة؛ لضعفه عادة وصعوبة تحصيل من يقدّم له العون بلا منّة أو أذي.

بحث في الرزق

هنا ملاحظتان:

الأولي: إنّ الرزق قد يكون بالمعني الأخصّ وهو الرزق المادّي، وقد يكون بالمعني الأعمّ وهو ما يشمله ويشمل الرزق المعنوي أيضاً، ولعلّه هنا يُراد به المعني الثاني، أي الأعمّ.

الثانية: إنّ الإمام أضاف الرزق إلي الله تعالي، فقال: «أوسع رزقك» وإن كان يصحّ نسبته إلي نفسه أيضاً باعتبار آخر، أي الحصّة التي قسم له منها فإنّ الرزق يصدر عن الله تعالي ثمّ يصير إلي العبد، ولذلك يصحّ التعبير «رزقك يا إلهي وقوّتك» وأيضاً: «رزقي»، ويراد به «الرزق الذي أنت منحتنيه يا إلهي» لمناسبة دخول ياء المتكلّم هنا كما ورد في بعض الأدعية.

إذاً لماذا عدَل الإمام في هذا الدعاء إلي التعبير الأوّل وهو «رزقك»؟

ما يمكن استفادته في المقام أمران:

الأول: استبطان الشكر في هذا التعبير. أي أنّه اُشرب معني الشكر من خلال الاعتراف بأنّ الرزق إنّما هو من عند الله تعالي دون سواه. فتارة يطلب العبد من مولاه أن يوسّع عليه ما قسم له من الرزق فيقول: أوسع عليّ في رزقي. أي الرزق الذي قسمته لي،

وتارة يقول له: أوسع عليّ من رزقك. ولاشكّ أنّ المصداق في التعبيرين واحد؛ لكن في التعبير الثاني لحاظ الصدور. فقوله «رزقك» يكون مشرباً بذلك المفهوم وإن لم يرد في اللفظ فلم يقل: «رزقي الصادر منك» بل ارتقي وقال: «رزقك» ليؤكّد علي اللحاظ الثاني، وهو جهة الصدور، ويصرف الذهن عن اللحاظ الأوّل وهو جهة الوصول.

الثاني: إنّ هذه الإضافة إلي الله سبحانه تعني اعترافاً من قبل الداعي بأنّه لا حقّ له علي ربّه، بل الله هو المبتدئ بالإنعام، كما أنّها تشير من ناحية أخري إلي سعة الرزق عندما تنسب إلي الخالق سبحانه؛ فإنّ الرزق إذ لوحظ من حيث نسبته إلي الله تعالي فسيأخذ آفاقاً واسعة لاتحدّها الحدود لأنّه سيشمل كلَّ المخلوقات، وحيث إنّ الحديث عن أوسع الرزق فناسبه قوله سلام الله عليه: (من أوسع رزقك).

يقول أهل اللغة إنّ الرزق مصدر مضاف، وإن المضاف يتّسع ويضيق بسعة المضاف إليه وضيقه. فإذا اُضيف إلي العبد فيكون بقدر ما قسم الله له، ولكن إذا أضيف إلي الله تعالي كان بعدد ما لا يحدّ ويحصي.

نكته أدبية

أمّا استخدامه صلوات الله وسلامه عليه لمفردة (عليَّ) عوضاً عن كلمة (إليَّ) في قوله: «أوسع رزقك عليّ..» فإنّما يشير إلي أدب بالغ يهدف الإمام من ذكره أن الإنسان المؤمن يحسّ بالصغر أمام عظمة الله عزّوجلّ، فهو سلام الله عليه يصوّر للداعي حالة الرزق وهو ينزل من العالي وهو الله تعالي إلي الداني وهم خلقه، فيكون مثله كالشلال الذي ينزل علي من يقف تحته ويغمره. فاستفادة الداعي من كلمة (عليّ) لدي مخاطبة ربه الجليل يوحي: بأنّك يا إلهي وحدك العالي، وما يصدر عنك إنّما يصدر من علوّ مكانك وشرافة قدسك، إلي دنوّ مكاني وضعة نفسي، فأنا عبدك

الذي لا يملك لنفسه سوي ما يهبط عليه من فضلك، فضاعف يا إلهي من رزقك عليّ إذا ما تضاعفتْ حاجتي حين الكبر.

القوّة والنصَب

يقول الإمام سلام الله عليه أيضاً: «وأقوي قوّتك فيّ إذا نصبت».

النصب: التعب والإعياء، وهو أعمّ من التعب الناشئ عن مزاولة بعض الأعمال، فقد ينتج التعب عن تقدّم الإنسان في السنّ أو التعرض لمصاعب الحياة، وقد يكون نتيجة الفقر سيّما إذا كان المبتلي به عزيز النفس يصعب عليه الاقتراض فضلاً عن الاستعطاء، بل قد يتوسّع مفهوم النصب ليشمل ضعف النفس أو ما ينتج عنها، الأمر الذي يُقعد الإنسان ويعيقه عن الحركة والنشاط؛ باعتبار أنّ قوّة الإنسان الحقيقية تكمن في قوّة النفس، والعلاقة بينهما طردية. فتمتّع النفس بالقوّة والنشاط يعني تمتّع سائر بدن الإنسان بهما، والعكس بالعكس. وقد رأينا نماذج كثيرة من أنّ الوازع النفسي يعمل علي تنشيط المُقعد من الناس، وكيف أن التثبط النفسي يُقعد عن الحركة صاحب البدن السليم النشط.

فمثلاً لو أنّ شخصاً كان مرهقاً لأنّه لم ينم منذ يومين ولاشكّ أنّ النوم أحبّ إليه من أي شيء في تلك الحالة وكان علي وشك أن ينام إذ طرق باب داره شخص عزيز عليه لم يره منذ فترة طويلة وكان يتمني رؤيته، أتري كيف يزول عنه إحساس التعب والإعياء، وربما يجلس للحديث معه حتي الصباح دون أن يحسّ حتي بمرور الوقت، وهذا إنّما يدلّ علي أنّ العامل النفسي تغلّب علي العامل البدنيّ.

وفي هذه الجملة من الدعاء يطلب الإمام السجّاد سلام الله عليه من الله سبحانه، ويعلّمنا أيضاً أن نطلب منه أن يرزقنا أقوي القوّة حين النصب والإعياء.

ولعلّ من جملة ما يقصده الإمام في طلبه هذا هو أن يُحدث اللهُ تعالي في نفس الداعي التوازن

في كلّ أبعاده المادّية والمعنويّة، بمعني أنّه متي ما حلّ فيه النصب النفسي وما يتبعه من تعب جسميّ، أسعفته القوّة الربانية لتعيد له توازنه، فيبقي إنساناً متعادل الجوانب، سواء علي صعيد المشاعر والأحاسيس أو الأقوال والأفعال.

فقد ورد في الحديث عن الصادق سلام الله عليه، في ذكر المؤمن وصفاته المتميّزة، ومنها صفة عالية لا يمكن للإنسان الاتصاف بها مالم تكن له خلفيّة إيمانيّة كثيرة؛ يقول سلام الله عليه: وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره.

هذا الحديث الشريف هو في سياق بيان مسؤولية الإنسان في إحراز قوّة روحية تكفل له مقاومة المصائب وإن تكاثرت وتوالت عليه، فلا ينهزم ولا ينكسر ولا يجزع في أوّل اختبار له. فالدنيا دار بلاء وتعرّض للنوائب والمصائب، فالمطلوب منه الصلابة والاستقامة والوقوف بوجهها عبر ما أعدّ من قوّة نفسية تؤهّله لإنجاز مهمّته في الحياة وإثبات جدارته وأهليّته ليكون حقّاً خليفةً لله في أرضه، وليكون النموذج الأمثل الذي يستحقّ الأجر والثواب في الآخرة.

وخير مصداق لهذه الحقيقة ما نقل عن الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه في يوم عاشوراء حين تداكّت عليه المصائب والرزايا بكلّ صورها، حيث وصفه عبد الله بن عمّار بقوله: ما رأيت مكثوراً قطّ قد قُتل ولده وأهل بيته أربط جأشاً منه.

فالإمام الحسين سلام الله عليه كان في يوم عاشوراء حتي الساعات الأخيرة من المعركة طبيعيّ المظهر، لا يعبأ بحقد الأعداء وتكالبهم عليه، فكان يقاوم ما قد حلّ به من المصائب الكبري والرزايا العظمي التي لم تكن قد نزلت بأحد غيره، فكان قدوة للمؤمنين في الثقة بالله تعالي.

الخلاصة: إنّ التغلّب علي المتاعب والمصائب لا يتأتّي إلا بممارسة الرياضة النفسية من خلال الورع والاجتهاد، ولعلّ من مفاتيح تلك الرياضة الأدعية المأثورة عن أهل

البيت سلام الله عليهم والتي تمثّل في الحقيقة أعظم كنز لمن أراد الاستفادة منها في تقوية نفسه لمواجهة ما يمكن أن يصدر عنها من سوء بسبب وساوس الشيطان ومصائب الحياة الدنيا ورزاياها.

الابتلاء بالكسل عن العبادة والعمي عن سبيل الله

الابتلاء بالكسل عن العبادة والعمي عن سبيل الله

أصل الابتلاء في اللغة من «بلِيَ، يَبْلَي، بَلَيً … الثوب وبلاءً، إذا صار خَلِقاً، فهو، بالٍ، أي خَلِقٌ، رثٌّ.

والبلوي والبلوة والبليّة جمعها بلايا: المصيبة والغمّ؛ كأنّه يبلي الجسم. والابتلاء: الاختبار بها.

أمّا بلا يبلو (من باب نصر ينصر) فهو بمعني الاختبار، ويكون في الخير والشر؛ قال تعالي: ?وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً?.

وقيل: الابتلاء: هو الاختبار مع شدّة؛ لأنّ أهل اللغة يقولون: إنّ الزيادة في المباني تدلّ علي زيادة في المعاني.

وقيل أيضاً: إنّ هناك علاقة بين البلي (من بلي يبلي) والبلاء (من بلا يبلو) لأنّ هناك ترابطاً في المعني بين الكلمات التي تتألّف مصادرها من ذات الحروف، وإن كانت من أبواب مختلفة ولها معانٍ مختلفة.

ومن ثمّ فإنّه يمكن أن يكون هناك تناسب بين البلاء والبلي، فكأنّ الإنسان الذي يقع عليه البلاء يبلي جسمه، وقد تبلي نفسه أيضاً إن لم يصبر، ومن ثمّ فإنّ ضغط البلاء يجعله خلِقاً بالياً، فكما أنّ الثوب إذا استعمل باستمرار بلي، كذلك الإنسان الذي يعرّض للبلاء يبلي، إلاّ إذا كان مستعيناً بالله تعالي، فكثرة الضغط لا تثنيه ولا تبليه بل تزيده صلابة وقوّة، تماماً كالذهب كلّما تعرّض للنار إزداد جلاءً، بينما غيره يسودّ.

وهكذا هو حال الانسان إذا تعرّض للبلاء يُكشف عن معدنه، فإن كان غير مؤمن بالله بلي، وإن كان مؤمناً زاد إشراقاً.

الكسل عن العبادة

إنّ من مصاديق الكسل كثرة النوم والقعود عن أداء الواجبات في العبادة بالمعني الخاصّ والعامّ وسيطرة حالة الاتكالية التي من لوازمها انعدام الطموح، والرغبة عن التقدم والانطلاق لما أعدّ الله تعالي من نعيم الآخرة لعباده الصالحين.

ومع أنّ الله تعالي يقول في محكم تنزيله: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُون? بمعني أنّ الهدف من خلق الإنسان هو أن يعبد الله سبحانه، إلا

أنّ أغلب الناس يكسلون عن أداء حقّ العبادة التي خلقوا لأجلها، فتري كثيراً منهم نشطاً في سائر مجالات حياته، ولكن ما إن يصل وقت العبادة حتي يغلب عليه الكسل والنعاس وكأنّه لم ينم منذ ساعات كثيرة، وإذا شرع بالعبادة لا يفكّر إلا في سرعة إتمامها والتفرّغ منها لينشغل بأمور أخري، فتكون بذلك عنده أقلّ حظّاً من كلّ اهتماماته. والأمرّ من ذلك أنّه حتي هذا المقدار القليل من الوقت الذي يخصّصه للعبادة ينشغل خلالها بالتفكير في أموره الدنيوية.

روي عن النبي صلي الله عليه وآله أنّه أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: أما أنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.

وأكثر الناس مبتلي بهذه الحالة. ولذلك فإنّ الإمام السجّاد سلام الله عليه يلفت أنظارنا في هذا الدعاء إلي هذه المسألة لكي نستعين بالله تعالي في التخلّص منها.

أليس من العجب أن يفكّر الإنسان في الأيّام الباقية من عمره القصير، ولا يفكّر في مستقبله الحقيقي الذي ينتظره في الآخرة.

الاقتداء برسول الله في الاهتمام بالعبادة

إنّ الله تعالي عندما يخاطب نبيّه الكريم في مجال طلب العلم يقول له: ?وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً?؛ فحتي الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله بحاجة إلي الاستزادة في العلم، مع أنّه أعلم خلق الله تعالي، ولكن عندما يصل الدور إلي الخُلق الرفيع نراه تعالي يخاطبه بالقول: ?وَإنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ?. مما يدلّل علي أنّ النبي صلي الله عليه وآله قد بلغ القمّة في الخُلق، حتي روي أنّه ما صافح النبي صلي الله عليه وآله رجلاً قط فنزع يده حتي يكون هو الذي ينزع يده منه.

وكذلك صلي الله عليه وآله قمّة في الخلق مع الناس، في كلّ الحالات ومع كلّ الاشخاص، يستوي عنده الفقير والغنيّ والشيخ والشابّ والرجل والمرأة والرئيس والمرؤوس، ولم

يكن عنده استثناء إلا في حالة واحدة فقط ولم يُعرف له استثناء غيرها وهي حالة العبادة، فقد روي عنه أصحابه قالوا: إذا حضرت الصلاة فكأنّه لم يعرفنا ولم نعرفه شغلاً بالله عن كلّ شيء.

فأين نحن من عبادة رسول الله صلي الله عليه وآله؟ فحريّ بنا أن نقتدي به؛ قال سبحانه وتعالي: ?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ?.

الاستعداد للبلاء

الإنسان عموماً عرضة للبلاء والامتحان، سواء كان في المال أو الجمال أو العلم أو القوّة أو أضدادها؛ لذا ينبغي لكل فرد أن لا يغيب عن ذهنه أمران:

الأوّل: ليعلم أنّ البلاء كما يكون في الشرّ كذلك يكون في الخير؛ قال تعالي: ?وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتنَةً?. ولا يغرنّه تقلّب الفاسقين فيما يحوزونه من الثروات والأموال وغير ذلك من مباهج الحياة الدنيا.

فلو تذكّر قوله تعالي: ?وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّ مَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ? لاستكان وما راعه الأمر بتاتاً. ثمّ ليعلم أنّ الخير ليس في كثرة الأموال والأولاد بالضرورة، بل الخير في كثرة العلم والحلم والقرب من الله تعالي.

الثاني: أن يعلم أنّه لا بديل من الامتحان والبلاء لإثبات الجدارة واستحقاق مزيد الأجر والثواب، وإلا كيف يتسنّي معرفة الفرد فيما يدّعيه من الإيمان والعبوديّة والإخلاص وهو لم يُختبر بعد؛ قال تعالي: ?أَحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ?.

لا ينبغي للإنسان التوقّع بأن يكون بمأمن من الامتحان، ولكن ليرجو ألاّ يكون عرضة لمضلاّته؛ ولذا روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: لا يقولنّ أحدكم اللهمّ إني أعوذ بك من الفتنة؛ لأنّه ليس أحد إلا وهو مشتمل علي فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن.

العمي عن سبيل الله

ههنا كلمتان لا بأس بالوقوف عندهما، هما: سبيل الله، والعمي.

أمّا سبيل الله فهو ليس إلاّ الوسيلة التي تقرّب العبد إلي الله تعالي من أداء الواجبات والورع عن المحرّمات، والحثّ علي تعلّمها وتعليمها قولاً وعملاً. ويُبيّنه القرآن الكريم وأهل البيت عليهم الصلاة والسلام.

وأمّا العمي فلاشكّ أنّ المقصود به عمي البصيرة وليس البصر، وكما أنّ الإنسان قد يصاب بعمي البصر، فيسقط هنا ويتعثّر

هناك، ولمعذوريته لا يعاب عليه، ولكن العيب، كلّ العيب فيمن له عينان ويري بهما ومع ذلك يتعمّد إغماضهما فيصطدم ويهوي، فمن يعيش حياته قاصراً في بصيرته، لا يدرك طيلة حياته سوي ما يحيط به، فمثل هذا لا يؤاخذ إلا بما سمح به عقله؛ لقاعدة «قبح العقاب بلا بيان» فهو يحاسب بمستوي ما أدركه عقله، خلافاً لمن يعيش طيلة حياته مقصّراً لايسعي لإنماء بصيرته وإحيائها بالعلوم والمعارف. فالطامّة الكبري؛ أن يكون للفرد عقل ومرشد خارجي يهديانه سواء السبيل ولكنّه يعرض عنهما فيتعمّد سلوك طريق الغيّ والضلال، فهذا يكون قد أعمي بصيرته عن عَمد وإصرار، ولذلك سيحاسب حساباً عسيراً.

أهل البيت سلام الله عليهم هم سبيل الله تعالي

ولما كان أهل البيت سلام الله عليهم هم الحبل الذي أمرنا الله تعالي بالتمسّك به وهم سبيل الله وبابه الذي منه يؤتي. كان اللازم درك هذا المعني وهو أنّ القرب منهم بحاجة إلي السنخية اللازمة بين التابع والمتبوع، وبين القائد والمقود.

لاشكّ أنّ رؤية الناس للأئمّة سلام الله عليهم في أزمنتهم كانت سبباً لسهولة الاغتراف من سلسبيل معينهم، لكن الأمر اختلف كلَّ الاختلاف في زمن الغيبة الكبري، فصار من يريد رؤية الإمام المهدي سلام الله عليه بحاجة إلي مزيد من البصيرة والوعي ما يرفع من التزامه الديني والأخلاقي.

إنّ المطلوب من الفرد في علاقه ومحبّته لإمام العصر والزمان عجّل الله تعالي فرجه الشريف أن يسعي لإيجاد السنخية بين طبيعته الأخلاقية وسلوكه اليومي وبين رغبة الإمام، ليرتقي إلي مستوي مشايعته حقّ المشايعة.

عدم التعرض لخلاف محبة الله

عدم التعرض لخلاف محبة الله

(ولا بالتعرّض لخلاف محبّتك)

هذه الفقرة من الدعاء هي الأخري تحمل مطالب كثيرة بحاجة إلي التعمّق والتدبّر، ومن تلك المطالب الاستعارة للحروف وبما ينسجم مع المقصد، حيث إنّ للحروف في العربية معاني ومداليل خاصّة، وإنّ استخدامه صلوات الله وسلامه عليه للكلمات والحروف هو في غاية الحكمة بما يترتّب عليه من بلاغة، وهذا هو ديدن أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين مع الناس، فما بالك حين يتحدّثون مع الربّ العظيم.

قال: ولا بالتعرّض لخلاف محبّتك.

ولم يقل: للتعرّض لخلاف باستخدام اللام في الكلمتين.

أو: بالتعرّض بالخلاف أو بخلاف باستخدام الباء في الكلمتين.

كما لم يقل: للتعرّض بخلاف باستبدال موقع الباء واللام في الكلمتين.

فلكلّ من حرفي الجر (الباء واللام) في موقعه خصوصيّته في مقصوده سلام الله عليه. ولو جاء الاستخدام بأيّ من الموارد الأخري التي عرضناها آنفاً لكان نقصاً بلاغياً ومعنوياً واضحاً، ولكنّه سلام الله عليه استخدم باء التعدية واللام علي أروع ما

يكون الاستخدام.

إنّ أمامنا مفردات ثلاث ارتكز عليها متن هذه الجملة من الدعاء، هي: التعرّض والخلاف والمحبّة، نذكر معانيها علي نحو الإجمال:

في معني التعرض

التعرّض هو التصدّي للأمر وطلبه، كما جاء في الدعاء المرويّ عن الإمام الصادق سلام الله عليه: إلهي، تعرّض لك في هذا الليل المتعرّضون»، أي أن من كانت له حاجة أخذ في التضرّع والدعاء طلباً للرحمة الإلهية والعناية الربانية.

والتعرّض يختلف معنيً حسب متعلّقه، فقد جاء في بعض الأدعية أيضاً: وتنجيني من تعرّض السلاطين أي أسألك اللهم أن تجعلني بعيداً عن تصدّيهم وطلبهم لي، فأكون في منأيً عن خطرهم؛ فإنّ السلاطين عادةً يفتكون بمن يشكّون بولائه لهم فكيف بمن يعلن عداءه لهم، علي العكس من الأنبياء والأولياء حيث لا يري منهم إلا الكفّ والإحسان، وإن كان قد أُسيء إليهم، لأنّ من شيمتهم العفو والكرم.

والشواهد علي ذلك كثيرة، منها ما كان من رسول الله صلي الله عليه وآله مع الرجل الذي أراد الفتك به صلي الله عليه وآله حينما مكّن الله تعالي رسوله منه وعفا عنه.

وكذلك حينما عفا النبي صلي الله عليه وآله عن عتاة قريش الذين آذوه وحاربوه طيلة أكثر من عشرين سنة.

وكذلك فعل أمير المؤمنين سلام الله عليه حينما عفا عن الجماعة من أصحاب الجمل، حينما فرّوا واختبأوا في دار عبدالله بن خلف بمعية عائشة بعد أن مكّنه الله عزّ وجلّ منهم وهزم جيشهم.

في معني الخلاف

لم يستخدم الإمام كلمة (ضدّ) أو (نقيض) بل استخدم كلمة «خلاف» باعتبار أنّ من الجدير بالعبد أن يطلب من الله تعالي أن يجنّبه مطلق ما من شأنه أن يعرّضه لسخطه وبغضه.

فالضدّ أمرٌ وجوديّ كالسّواد ضدّه البياض، ولا يجتمعان، لكن قد يرتفعان فيما كان لهما ثالث لا كالليل والنهار اللذين لا ثالث لهما فيكون الشيء لا أسود ولا أبيض بل لون آخر، والنقيض أمرٌ عدميّ كالحركة وعدم الحركة، والنقيضان لا يجتمعان أبداً، ولا

يرتفعان أبداً، وأمّا الخلاف فهو أمرٌ وجودي كالحلاوة، خلاف البياض، لكن يجتمع معه.

إنّ الإمام لا يطلب من الله تبارك وتعالي أن لا يبتليه بضد محبّته فحسب، أي ببغضه والعياذ بالله ولا بنقيضها أي بعدم المحبّة، بل يطلب منه تعالي أن لا يبتليه حتي بخلاف محبّته أي بما قد يجتمع مع كرهه أو بغضه؛ وذلك لكي يحرز محبّة الله الكاملة والشاملة، وأن لا يصدر عنه ما يكون مخالفاً لتلك المحبّة بأيّ حال من الأحوال.

في إحدي زيارات الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه نلاحظ أنّ الإمام الصادق سلام الله عليه الذي تروي عنه الزيارة بعد أن يسلّم علي الإمام يتوجّه باللعن علي أعدائه، ولكن نلاحظ اختلافاً في صيغة اللعن، فهو سلام الله عليه عندما يخاطبه يقول: لعن الله من خالفك، وهذا يكشف عن نقطة في غاية الأهمية وهي أنّ الذي يخالف الإمام المعصوم يستحقّ اللعن، أمّا غير المعصوم فلا، مهما علت منزلته وعظمت مكانته؛ وما ذلك إلا لأنّ المعصوم لا يخالف إرادة الله ومحبّته أبداً، ومن ثمّ فإنّ مخالفة المعصوم تعدّ مخالفة لله تعالي. ولذلك عندما نخاطب غير المعصوم كعليّ الأكبر عليه السلام نقول: لعن الله من قتلك، ولكن لا نقول: لعن الله من خالفك.

فالإمام هنا يطلب من الله أن لا يبتليه بالتعرّض لمخالفته.

إنّ في كلمات المعصومين سلام الله عليهم نكات دقيقة بحاجة إلي التدبّر من أجل الوصول إلي بعض أسرارها التي لا يدركها كلّها إلا من كان قريباً منهم وعلي نهجهم.

في معني حبّ الله تعالي

ثمّ إنّ الإمام لم يقل: لا تبتليني بالتعرّض لخلافك، بل قال: لخلاف محبّتك. وهذا يكشف عن مستوي أرفع في الأدب وأصدق في العبودية للربّ الجليل؛ فإنّه يمكننا أن نتصوّر شخصاً ما يكنّ المحبّة لشخص آخر

ويعمل علي أن لا يخالفه في كلّ ما يطلبه منه، ولكن ليس بالضرورة أن يتطابق معه في كلّ ما يحبّ، أمّا الإمام سلام الله عليه فإنّه يطلب من الله أن يجنّبه من الابتلاء حتي بالتعرّض لخلاف ما يُحبّه تعالي.

ومن الواضح أنّ ما يحبّه الله تعالي من عبده هو الامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه، وبعبارة: القيام بالواجبات الشرعية واجتناب المحرّمات الشرعية، ويعضدهما بالسعي لأداء المستحبّات وترك المكروهات أيضاً، شريطة أن لا تؤثّر علي العمل بالواجبات وترك المحرّمات، فإنّه لا قربة بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض.

فكما أنّك إذا كنت عازماً علي مرافقة شخصٍ تجلّه وتريد كسب ودّه في سفرٍ أو غيره، ولم تكن تعرف ما يحبّ وما يكره، فلا شكّ أنك ستسأل العارفين والمطّلعين علي ميوله، ثمّ تعمد إلي متابعته بكلّ حيطة وحذر لئلاّ يصدر عنك تجاهه ما لا يحبّ، فتتعرّض لخلاف محبّته.

فكذلك لابدّ من معرفة الأمور التي يحبّها الله تعالي لكي يُؤتي بها، والأمور التي يكرهها لكي تُتجنّب فلا يُتعرّض لخلاف محبّته، والطريق لهذه المعرفة ينحصر بالقرآن الكريم والنبيّ صلي الله عليه وآله وعترته الطاهرة، فلقد أوضح لنا رسول الله صلي الله عليه وآله الطريق عندما قال: إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي.

فالآيات القرآنية والأحاديث والروايات الشريفة قد جمعت كلّ المعارف الإلهية والأحكام الشرعية الكفيلة بقيادة الإنسان إلي طريق المحبة الإلهية والنأي عن طريق السخط والمقت الإلهي.

ثلاثة مقترحات في شهر رمضان المبارك

لعلّ من الفرص الجيّدة للسعي نحو بناء النفس كي تبغي المحبّة الإلهية، هو شهر رمضان المبارك الذي أعدّه الله تعالي لابن آدم كي يعيد فيه حساباته مع نفسه والآخرين.

وهو الشهر الذي بشّر به رسول الله صلي الله عليه وآله المسلمين كافّة في قوله:

قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة.

ففي هذا الشهر الكريم تكبّل الشياطين؛ ولذلك قال رسول الله صلي الله عليه وآله: فإنّ الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهرالعظيم.

ولكي نضمن كون مسيرتنا علي طريق المحبّة الإلهية ونستفيد من فيوضات شهر الله، شهر الطاعة والغفران شهر رمضان الكريم أقترح عليكم، ثلاثة أمور:

1. محاسبة النفس في كلّ يوم من هذا الشهر، ليعرف الفرد ما له و ما عليه، وما ينبغي له أن يستمرّ به من سلوك أو يتركه، وليمرّن وجدانه علي أن يكون حكماً منصفاً وقاضياً عادلاً علي ما يصدر عنه خلال اليوم والليلة، مستغفراً عن السيئات، وشاكراً لله وطالباً منه الاستزادة في الحسنات.

2. المواظبة علي قراءة خطبة النبي المصطفي صلي الله عليه وآله الخاصّة بشهر رمضان بتأمّل وتدبّر، لتعرف الغاية التي يقصدها الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله من كلّ كلمة من كلماتها.

3. محاولة الالتزام بجميع بنود الخطبة ولو لمرّة واحدة خلال شهر رمضان المبارك.

فمن لم يكن عاملاً بهذه الأمور الثلاثة فليعقد العزم من الآن علي العمل بها، ومن كان عاملاً بها فليسع للمزيد؛ قال تعالي: ?وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًي?.

وإذا كانت بعض بنود الخطبة خارجة عن تكليفنا فليس شرطاً أن يكون الالتزام بها حرفياً، بل لنتأسَّ بها في موارد مشابهة، مثلاً: التعامل مع ملك اليمين، فإذا كان النبي صلّي الله عليه وآله يأمرنا في هذه الخطبة الشريفة بأن نحسن إليهم، وليس منا من يملك عبداً أو أمة في هذا العصر، فهذا لا يعني عدم الالتزام بهذه الفقرة من الخطبة بل يمكن تطبيقها في موارد الذين أمرهم بأيدينا كالزوجة والأولاد والتلاميذ والأجراء و …

المعرفة شرط

لاشك أنّ معرفة الأحكام الشرعية، لاسيما الواجبات والمحرّمات، والالتزام بحدودها، تجنّب

الفرد الخسارة الكبري في الآخرة، ولابدّ من أن تكون المعرفة صحيحة ولا يكفي مجرد تصوّر كونها كذلك؛ قال تعالي: ?قُلْ هَلْ نُنبِئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً?.

ولاشكّ أنّ مثل هؤلاء ربما كانوا يصلّون ويصومون ويحجّون ويزكّون ويقاتلون ويُقتلون ويعانون ويعذَّبون؛ ظنّاً منهم أنّهم إنّما يفعلون ذلك علي طريق محبّة الله تعالي، حتّي ينكشف لهم يوم القيامة الخلاف؛ لعدم إقرانهم ذلك بما أمروا به من مودّة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم فافتقدوا بذلك أهمّ ركيزة في الوصول إلي الله تعالي، قال أمير المؤمنين سلام الله عليه: إنّ ل (لا إله إلا الله) شروطاً، وإنّي وذرّيتي من شروطها. فبذلك يساق هؤلاء إلي جهنّم مع أولئك الذين ربّما لم يصلّوا أو يصوماً حتي يوماً واحداً من حياتهم؛ فيجدون أنفسهم قرناء مع أناس لم يحرموا أنفسهم شيئاً من ملاذّ الدنيا وعاشوا عيشة المعرضين عن العبادة، وهذا الأمر يضاعف منهم الإحساس بالندم والحسرة، وهذا ما يعكسه التعبير القرآني الذي استعمل أقوي صيغ التفضيل (وهو أفعل التفضيل المعرّف بالألف واللام) فقال: الأخسرين.

وما أكثر الأمثلة علي الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً، فمن الأمثلة التاريخية البارزة علي ذلك الخوارج الذين خرجوا علي الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه وكانوا يسعون لقتله، زاعمين التقرّب بذلك إلي الله تعالي.

فيا له من ضلال ما بعده ضلال، يقتلون من حبّه ايمان وبغضه كفر بنصّ رسول الله صلي الله عليه وآله بنيّة التقرّب إلي الله تعالي.

إذاً، ما لم يتعلّم الإنسان فرائض الله تعالي من خلال المصادر التي أشار إليها النبي الأكرم صلي الله عليه وآله: القرآن وعترته، فإنّه سيتعرّض لخلاف محبّة الله تعالي؟

وقال سبحانه وتعالي: ?قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ?. واتّباع النبي صلي الله عليه وآله يعني اتّباع ما أمر الله تعالي، لأنّه صلي الله عليه وآله عالم به عن طريق الوحي ?وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي * إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَي?.

الحسبان نوعان

ثمّ إنّ ههنا ملاحظة جديرة بالالتفات، وهي أنّ العبد إذا قام بالفعل وكان يحسبه حسناً، أو امتنع عن أداء فعل وكان يحسبه سيّئاً، ثمّ بان له العكس لكلا الحسبانين، فكيف سيحاسبه الله تعالي علي ذلك؟

والجواب: إنّ الجهل قد يكون عن قصور، وقد يكون عن تقصير. ففي الحالة الأولي لا يعاقب الله تعالي الإنسان علي ما بدر منه بسبب جهله للأمر وقصوره عن إدراك الواقع، أمّا في الحالة الثانية أي إذا كان جهل الإنسان ناتجاً عن تقصيره، فإنّه سيكون مستحقّاً للعقوبة.

فابن ملجم مثلاً لم يصل إلي هذه الدركة الدنيئة دفعة واحدة، إلاّ بعد أن سقط بحسبانه أنّه يعمل حُسناً حتي صار يعتقد أنّ قتل إمام الحقّ، حقٌ بل واجبٌ عليه، فحقّ عليه قوله تعالي: ?وَالَّذِينَ كَفَرُوا أعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّي إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ?.

العلم وحده لا يكفي

كما أنّ العمل من دون علم يوقع صاحبه ويرديه كما في قوله تعالي: ?وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ? فكذلك لاينفع الإنسان العلم من دون العمل؛ قال سبحانه وتعالي: ?يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُون?.

ثمّ إنّ العلم يعتبر سلاحاً ذا حدّين أي يمكن استخدامه في الخير وفي الشرّ علي السواء، ما لم يستند إلي الورع؛ قال تعالي: ?إنَّمَا يَخْشَي اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ?. وقال تعالي: ?لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأنْتُمْ تَعْلَمُون?.

ولو كان العلم وحده مجدياً لكان الشيطان الرجيم أرفع مستوي وأكثر فضيلة من جميع المكلّفين من الجنّ والإنس، لأنّه بلاشكّ علي اطلاع دقيق بكلّ الواجبات والمحرّمات الإلهية، ولله در الشاعر حين قال:

لو

كان للعلم من غير التقي شرفٌ لكان أشرفَ خلق الله إبليس

إذاً لابدّ للعلم من سلوك يصدّقه، ليؤتي أكله وينهض بصاحبه، فيكون ما تعلّمه علماً نافعاً حقّاً.

زكاة العلم تعليمه

هذا ولا ينبغي للمرء أن يؤطّر طموحه وكدحه بإطار العلم والعمل فحسب، بل ينبغي أن يحلّق إلي أسمي الغايات وأشرفها من خلال تزكية علمه، فيبادر إلي تعليمه للآخرين ويبيّن لهم ما ينبغي لهم القيام به من واجبات، وما ينبغي لهم الانتهاء عنه من المحرّمات، فيشركهم في علمه، ليحقّق خصلة أخلاقية فاضلة كريمة وهي حبّه للعلم ونشره بين الناس، وقد ورد في الرواية الشريفة: إنّ الله لم يأخذ علي الجهّال عهداً بطلب العلم حتي أخذ علي العلماء عهداً ببذل العلم للجهال لكي تتمّ الحجة علي الناس جميعاً.

إذاً فقد اتّضحت أركان محبّة الله تعالي علماً وعملاً وتعليماً؛ وإذا اقترنت هذه المفردات بمحاسبة النفس ومراقبتها الدائمة، يكون المرء حينئذ قد قطع الطريق علي الشيطان واتّجه بنفسه ليزداد قرباً نحو المحبّة الإلهية.

اللهُمَّ اجْعَلْني أصُولُ بكَ عِِنْدَ الضَّرُورَةِِ، وَأسْألكَ عِنْدَ الحاجَةِ، وَأتَضَرَّعُ إلَيْكَ عِنْدَ المَسْكَنَةِ، وَلاَ تَفْتِنيّ بِالاِسْتِعَانةِ بغَيرِكَ إذَا اضْطَرَرْتُ، وَلاَ بِالخُضُوعِ لِسُؤالِ غَيرِكَ إذَا افْتَقَرْتُ، وَلاَ بالتَّضَرُّعِ إلي مَنْ دُونكَ إذا رَهِبْتُ، فَأسْتَحِقَّ بذَلِكَ خِذْلانكَ وَمَنْعَكَ وَإعْراضَكَ يا أرْحَمَ الرَّاحمِينَ.

? الصولة بالله تعالي

? السؤال من الله تعالي

? التضرّع إلي الله تعالي

الصولة بالله، والسؤال من الله، والتضرّع إليه

اشارة

يطلب الإمام سلام الله عليه في الجملة الأولي من هذا المقطع من دعائه أن يوفّقه الله تعالي لثلاثة أمور وهي:

أن تكون صولته به عند الضرورة، وسؤاله إيّاه عند الحاجة، وتضرّعه إليه عند المسكنة، أي: يا ربّ، عندما أكون مضطرّاً فلتكن صولتي بك لا بغيرك، وعندما أكون محتاجاً فليكن سؤالي موجّهاً لك لا لسواك، وعندما تواجهني مسكنة يكون تضرّعي إليك دون خلقك.

1. الصولة بالله تعالي

1. الصولة بالله تعالي

ونبدأ بالوقوف علي الطلب الأوّل وهو الصولة عند الضرورة. فالضرورة هي التي يكون الإنسان فيها في منتهي الحاجة والشدّة والضيق، فليس كلّ سوء يكون ضرورة للمبتلي ليتخلّص منه، ولا تستعمل كلمة الضرورة إلا حينما يشعر المرء بأنّه قد بلغ منتهاه في الحاجة والشدّة والضيق، ولذلك فالإنسان في حال الإضطرار يكون في منتهي ضعفه.

أمّا الصولة فهي تعبير عن أوج القدرة والتمكّن لدي الإنسان تجاه ما يواجهه؛ لذلك فإنّ ورود لفظ الصولة في الكلام ينقل أذهاننا إلي تصوّر الحرب والقتال، لاسيّما عندما يبلغ المقاتل ذروة القوّة والغلبة والتوفّر علي مقوّمات السيطرة في تسيير مجريات القتال ضد عدوّه الذي لا يسعفه الصمود تجاهه ولا يكون أمام ذاك العدوّ سوي الهزيمة الساحقة، ففي مثل هذه الحالة يكون الطرف الأوّل صائلاً علي الطرف الثاني.

والإمام يعلّم الإنسان المؤمن في هذه الجملة من الدعاء أن يطمح إلي السمو بمستواه فيسأل ربّه الكبير ليس فقط أن يخلّصه من الوضع الاضطراري الهالك الذي يعيش فيه، بل يتفضّل عليه بأن يبدله غاية القوّة فيصول بقدرته سبحانه وتعالي. وما دام المؤمن يعلم بأنّ الله معه، فلم لا يصمّم علي الاستعانة به ليصول بقدرته تعالي وينزل الهزيمة الساحقة بما يواجهه من اضطرار.

أمّا قوله سلام الله عليه «بِكَ» فمعناه أنّ علي المؤمن أن يعلم عند الاضطرار وتلاطم

أمواج البلاء وهجومها عليه، أن الله جلّ جلاله هو الجهة الوحيدة التي يجب أن يركن إليها لخلاصه، لأنّه تعالي إله كلّ شيء والقادر علي كلّ شيء، وهو الذي لا تداني قوّته قوّة.

النموذج العملي للصولة

ومن المثال علي الصولة عند الضرورة ما تجسّد في سيرة النبي الأكرم صلي الله عليه وآله، حينما لقي ما لقيه من المشركين قبل الهجرة وبعدها حتي قال: «ما أوذي نبي مثلما أوذيت» ولكنّ صولته بالله تعالي عند الضرورات واشتداد الخطب كانت تهوّن عليه الأمر.

فلقد هاجم المشركون نبيّ الله صلي الله عليه وآله من مختلف الجوانب، تارة بالترهيب عبر كيل الأذي وشنّهم الحروب عليه، وأخري بالترغيب حين اقترحوا عليه أن يعطوه المال الوفير حتي يكون الأغني من بينهم، أو يزوّجوه الأجمل من نسائهم، بل بلغ بهم الحدّ أن عرضوا عليه أن يترأس عليهم، كلّ ذلك مقابل أن يتنازل عمّا يدعو إليه من أمر التوحيد والنبوّة، فلا يسفّه أحلامهم ولا ينكر عليهم ما تشبّثوا من عبادة آبائهم وأجدادهم من قبل، بل وصل بهم الأمر أن اقترحوا عليه بعد أن علموا إصراره أن يعبدوا ربّه يوماً ويعبد آلهتهم يوماً آخر.

ثمّ لمّا يئسوا عن تركه لأداء مهمّته الرسالية، عرضوا عليه أن يزيل ما يحيط بمكّة من جبال لتكثر الطرق المؤدّية إليها، وأن يُجري لهم الأنهار فلا يعتمدوا علي الآبار المالحة، ثمّ تحدّوه خطلاً منهم أن يحيي آباءهم وأجدادهم.

ولكنّه صلّي الله عليه وآله قاوم كلّ صور الترهيب والترغيب، فصبر علي ما ألحقوا به من الأذي، وردّ كلّ عروضهم وإغراءاتهم، كما رفض أن يأتيهم بأيّ من المعاجز التي اقترحوها عليه لعلمه بأنّهم لا يبحثون في حقيقة أمرهم عن دليل أو حجّة، فلطالما جرت علي يديه صلّي الله عليه وآله

المعاجز مراراً وتكراراً أمام أعينهم، بل هم قد أيقنوا بنبوّته ولكنّهم جحدوها كبراً وحسداً وظلماً.

فصال صلي الله عليه وآله بالله عزّ وجلّ، رافضاً كلّ إغراءاتهم فضلاً عن إرهابهم، وتحزّباتهم ضدّه، قائلاً لهم بمحضر عمّه أبي طالب عليه السلام: «يا عمّ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري علي أن أترك هذا الأمر حتي يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته».

فأفحمهم صلي الله عليه وآله بموقفه النابع أساساً من الاعتماد علي الله تعالي والصولة به.

وهكذا كان أمير المؤمنين سلام الله عليه، الذي لاقي الأمرّين لاسيّما بعد شهادة أخيه المصطفي صلي الله عليه وآله، إلي أن استشهد هو أيضاً مظلوماً مهضوماً.

ورغم ذلك لم يهن ولم ينكل ولم تبد عليه أمارات الضعف أو الذلّة والخوف، بل استقام متوكّلاً علي الله تعالي صائلاً به.

وكذلك الإمام الحسين علييه السلام حين استفرد به العدوّ بعد استشهاد جميع أصحابه وأهل بيته، إذ وُصف بأنّه كان رابط الجأش نيّر الوجه، علي ما كان به من قتل ولده وأهل بيته وأصحابه، وكأنّه ينتظر بشوق كثير لحظة العروج إلي الرب الجليل ومغادرة هذه الدنيا الدّنية. فلم تظهر عليه أدني علامات الذلّ والجبن أو الارتباك والانكسار، حاشاه، بل كانت الرجال لتشدّ عليه، فيشدّ عليها بسيفه، فتنكشف عنه انكشاف المعزي إذا شدّ فيها السبع فينهزمون بين يديه كأنّهم جراد منتشر كما تقول الروايات لأنّه عليه السلام كان يصول بالله تعالي علي أعدائه.

فكان صلوات الله وسلامه عليه، بالرغم مما تعرّض إليه من مصائب يقول: «هوَّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله» مع أنه كان يملك من العواطف ما يملكها غيره، بل أكثر وأنقي، فلم يكن سلام الله عليه قاسياً، حاشاه، بل كان يتألّم كثيراً علي ما

ينزل من المصاب علي أهل بيته وأصحابه، ولكنّ صولته بالله تعالي هي التي جعلته كما وصفوه رابط الجأش مشرق الوجه، شجاع القلب، صابراً، لا تهدّه المصائب؛ فسلام علي جدّه وأبيه وأمّه وأخيه، وسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً فيشفع لمحبّيه جعلنا الله منهم إن شاء الله تعالي.

الدعاء وحده لا يكفي

حقيقةً هذه الدرجات رفيعة جدّاً، وإذا أردنا أن نرتقيها شيئاً فشيئاً، فلنقتف أثر من نتشرف بكونهم أئمّتنا وقادتنا، ولا ريب أنّ عملية الرقيّ لا تتحقّق بالدعاء وحده، بل هي بحاجة إلي عزم وإصرار في السعي والاستقامة. وبهذا الصدد نقل الإمام الصادق عن آبائه سلام الله عليهم أنه:

«مرّ موسي عليه السلام برجل رافع يده يدعو، فغاب في حاجته سبعة أيّام ثمّ رجع إليه وهو رافع يده، فقال: يا ربّ، هذا عبدك رافع يديه إليك يسألك حاجة، ويسألك المغفرة منذ سبعة أيّام، لا تستجيب له، قال: فأوحي الله إليه: يا موسي، لو دعاني حتي تسقط يداه أو تنقطع يداه أو ينقطع لسانه لم أستجب له حتي يأتيني من الباب الذي أمرته».

وهذا يدلّ علي أنّ استجابة الدعاء لا تتحقّق ما لم يأتِ العبد من حيث أمره ربُّه، لا من حيث يريده هو ويرتئيه. ومن جملة أوامره سبحانه وتعالي أنّه قد خلق الأسباب وهدي للسير وفقها والالتزام بها، فلا يصحّ أن يحجم المريض عن مراجعة الطبيب مثلاً، أو يكسل القويّ عن الكسب وطلب الرزق ويكتفي كلّ منهما بالدعاء. فهناك الكثير من الآيات والروايات التي حثّت علي السعي، وعدم الاكتفاء بالدعاء، ومنها ما يحدّد نوع العمل الذي ينبغي أن يُعمل، ف: الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر.

كما أنّ هناك من الأسباب ما يتعلق بتربية النفس وتزكيتها مقدّمة لإستجابة الدعاء؛ فلا

يمكن وصول الطالب إلي مرحلة الاجتهاد من دون دراسة، ولا ينبغي له انتظار حدوث المعجزة.

والتزكية وحدها لا توفّر رغيف الخبز، ولا تيسّر الزّواج، كما الدعاء وحده لا يكفي، إنّما الله تعالي يحبّ من عبده أن يكون إلي جنب ذلك ساعياً ومتوكّلاً عليه، ليكرمه بأياديه.

فهذا رسول الله صلي الله عليه وآله وهو أحبّ الخلق إلي الله تعالي لم يكتفِ بمجرّد تحمّل الأذي الذي ألحقه به كفّار قريش، أو الدعاء لهم، وإنّما راح يواصل نشْر الدين في أوساطهم حتي استخلص من بينهم ثلّة من المؤمنين جمعهم إليه وكوّن بهم حكومته الإلهية.

2. السؤال من الله تعالي

إنّ من له حاجة لابدّ أن يرجع إلي من بيده قضاؤها. فالذي يصاب بمرض لا يراجع مهندساً بل طبيباً مختصّاً، ومن أراد بناء دار فلا تنفعه مراجعة الخبّاز. ومن كان جائعاً لا يشبعه الخيّاط، وهكذا.

والإمام سلام الله عليه في هذا الشطر من الدعاء يعلّمنا أن نسأل حوائجنا كلّها من الله تعالي؛ لأنّه مصدر العطاء ومسبّب الأسباب، الذي يملك حوائج خلقه كافّة ?بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَي كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?.

3. التضرّع إلي الله تعالي

وهكذا ينبغي للعبد إذا نزلت به مسكنة أن يتضرّع إلي لله، ولذلك يقول الإمام: وأتضرّع إليك عند المسكنة.

أمّا المسكنة فهي درجة فوق الحاجة ولذلك قُرنت بالتضرّع وهو المبالغة بالإلحاح والتوسّل في السؤال. فقد يكون الإنسان محتاجاً ويطلب ما يسدّ حاجته أو فقيراً ويسأل عمّا يعينه، أمّا إذا كانت الحاجة ملحّة وشديدة، كمن كان مشرفاً علي الموت من شدّة الجوع، فإنّه يتضرّع في سؤاله ويتذلّل بين يدي مسؤوله حتي يستجيب له.

ولقد عُدّ المسكين أسوأ حالاً من الفقير؛ لأنّ الفقر قد أسكنه، أي قعد به، لأنّ حاجته شديدة وقدرته علي استحصال ما يريد ضعيفة؛ ولذا قيل: إنّ الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا. أي إذا ذُكرا معاً اختلف معناهما، لأنّ المسكين أسوأ حالاً من الفقير، أمّا إذا ذُكر أحدهما فقد يكون بمعني الآخر، أي يكون لكليهما معني واحد.

وهذه الجملة من الدعاء تحرّض الفرد علي أن يكون بالغ الطلب من الله تعالي كلّما زاد فقراً ومسكنة، ولا ينبغي لشدّة وطأتهما أن تفقداه ذكر ربّه، كما هو ديدن كثير من الناس.

فالإنسان المؤمن دائم السعي لمضاعفة إيمانه، ويري في الحاجة والمسكنة والاضطرار عوامل دفع وإلجاء أكبر للاستعانة بالله تعالي، ويقول: اللهم اجعلني أصول بك عند الضرورة وأسألك عند الحاجة وأتضرّع

إليك عند المسكنة، نسأل الله تعالي أن يوفّقنا لمراضيه، إنّه سميعٌ مجيب.

الفهارس

الفهارس

1. آيات القرآن الكريم.

2. الأحاديث والروايات الشريفة.

3. المصادر.

4. محتويات الكتاب.

فهرس الآيات

الآية ورقمها السورة رقم الصفحة

البقرة

يعرِفونه كما يعرِفون أبناءهم (146) 246

إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجِعون (156) 336

ولكم فِي القصاصِ حياة يا أولِي الألبابِ (179) 233

كتِب عليكم الصِّيام (183) 72

فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه (194) 248

أيّام معدودات (203) 256

ومِن النّاسِ من يعجِبك قوله فِي الحياةِ الدّنيا (204) 177

ومِن النّاسِ من يشرِي نفسه ابتِغاء مرضاةِ اللّهِ (207) 177

كان النّاس امّةً واحِدةً فبعث الله النّبِيين مبشِّرِين ومنذِرِين (213) 271

لا تبطِلوا صدقاتِكم بِالمنِّ والأذي (264) 136

يمحق الله الرِّبا ويربِي الصّدقاتِ (276) 136

آل عمران

قلِ اللّهمّ مالِك الملكِ تؤتِي الملك من تشاء (26) 123، 153

قل إن كنتم تحِبّون الله فاتّبِعونِي يحبِبكم الله(31) 72، 369

ومكروا ومكر الله والله خير الماكِرِين (54) 247

وأنفسنا وأنفسكم (61) 225

لِم تلبِسون الحقّ بِالباطِلِ وتكتمون الحقّ وأنتم تعلمون (71) 371

واعتصموا بحبل الله جميعاً (103) 358

والكاظِمِين الغيظ والعافِين عنِ النّاسِ واللّه يحِبّ المحسِنِين (134) 268

ويمحق الكافِرِين (141) 136

وما كان لِنبِيٍّ أن يغلّ (161) 291

هم درجات عِند اللهِ (163) 26، 353

ولا يحسبنّ الّذِين كفروا أنّ ما نملِي لهم خير لأنفسِهِم (178) 357

فبِما رحمةٍ مِن اللهِ لِنت لهم ولو كنت فظّاً غلِيظ القلبِ لانفضّوا مِن حولِك (159) 290

النساء

وآتيتم إحداهن قنطارا (20) 326

ألم تر إِلي الّذِين يزكّون أنفسهم بلِ الله يزكِّي من يشاء (49) 329

وإن تصِبهم حسنة يقولوا هذِهِ مِن عِندِ اللهِ وإن تصِبهم سيِّئة (78) 169

ما أصابك مِن حسنةٍ فمِن اللهِ وما أصابك مِن سيِّئةٍ فمِن نفسِك (79) 169، 208

واتّخذ الله إبراهِيم خلِيلاً (125) 123

مذبذبين بين ذلك لا إلي هؤلاء ولا الي هؤلاء (143) 52، 306

المائدة

حرمت عليكم الميتة والدم ئلحم الخنزير (3) 72

ومن يتولّ الله ورسوله (56) 220

الأنعام

ولو ردّوا لعادوا لما نهوا

عنه وإنّهم لكاذبون (28) 253

الله أعلم حيث يجعل رِسالته (124) 245، 246

وكذلك نولّي بعض الظالمين بعضاً (129) 244

قل فلله الحجّة البالغة (149) 130

وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم (153) 358

الأعراف

ثمّ لآتِينّهم مِن بين أيدِيهِم ومِن خلفِهِم وعن أيمانِهِم (17) 171

ولِباس التّقوي ذلِك خير (26) 263

الّذي آتيناه آياتِنا … فأتبعه الشّيطان (175) 119

الأنفال

ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب رِيحكم (46) 303

التوبة

ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم (25) 127

قل لن يصِيبنا إلاّ ما كتب الله لنا (51) 71، 72

وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله مِن فضلِهِ ورسوله (59) 101

ورِضوان مِن اللهِ أكبر (72) 69

وما نقموا إلاّ أن أغناهم الله ورسوله مِن فضلِهِ (74) 101

هود

وما مِن دابّةٍ في الأرض إلاّ علي اللهِ رِزقها (6) 347

إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم (119) 30، 252

النحل

وما بِكم مِن نِعمةٍ فمِن الله (53) 153

الإسراء

إن أحسنتم أحسنتم لأنفسِكم (7) 197

ولا تجعل يدك مغلولةً إلي عنقِك ولا تبسطها كلّ البسطِ (29) 263، 264

الكهف

أمّا السّفِينة فكانت لِمساكِين يعملون فِي البحرِ فأردت أن أعِيبها (79) 193

قل هل ننبِئكم بِالأخسرِين أعمالاً الّذِين ضلّ سعيهم (103 104) 368

مريم

فهب لِي مِن لدنك ولِيّاً (5) 142

?ويزِيد الله الّذِين اهتدوا هدًي (76) 367

طه

وعجلت إليك ربِّ لِترضي (84) 57

وقل ربِّ زِدنِي عِلماً (114) 355

الأنبياء

ونبلوكم بِالشّرِ والخيرِ فِتنةً (35) 353، 356

الحجّ

ومِن النّاسِ من يجادِل فِي اللهِ بِغيرِ عِلمٍ ويتّبِع كلّ شيطانٍ مرِيدٍ (3) 257، 370

كتِب عليهِ أنّه من تولاّه فإنه يضِلّه (4) 257

أيّام معلومات (28) 256

النور

والّذِين كفروا أعمالهم كسرابٍ بِقِيعةٍ يحسبه الظّمآن ماءً (39) 370

ومن لم يجعلِ الله له نوراً فما له مِن نورٍ (40) 129

الفرقان

وقدِمنا إلي ما عمِلوا مِن عملٍ فجعلناه هباءً منثوراً (23) 59

ربّنا هب لنا مِن أزواجِنا وذرِّيّاتِنا قرّة أعينٍ

(74) 142

قل ما يعبأ بِكم ربِّي لولا دعاؤكم (77) 19، 74، 81، 109، 158، 210، 320

الشعراء

ألم نربِّك فِينا ولِيداً ولبِثت فِينا مِن عمرِك سِنِين (18) 122

وتِلك نِعمة تمنّها عليّ أن عبّدت بنِي إسرائِيل (22) 122

يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتي الله بِقلبٍ سلِيم (88 89) 289

النمل

وجحدوا بِها واستيقنتها أنفسهم (14) 23، 222، 245

القصص

إنّك لا تهدِي من أحببت ولكِنّ الله يهدِي من يشاء (56) 170

العنكبوت

أحسِب النّاس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون (2) 357

وإنّ الدّار الآخِرة لهِي الحيوان (64) 133

الأحزاب

لقد كان لكم في رسولِ اللهِ اسوة حسنة (21) 84، 85، 356

إنّ الله وملائِكته يصلّون علي النّبي يا أيّها الّذين آمنوا (56) 14

سبأ

وقلِيل مِن عِبادِي الشّكور (13) 166

فاطر

إنّما يخشي الله مِن عِبادِهِ العلماء (28) 371

ص

وقلِيل ما هم (24) 166

الزمر

ومن يضلِلِ الله فما له مِن هادٍ (23) 170

وبدا لهم مِن اللهِ ما لم يكونوا يحتسِبون (47) 333

فصّلت

اِدفع بِالّتِي هِي أحسن فإذا الّذِي بينك وبينه عداوة كأنّه ولِيّ حمِيم (34) 210 213

ومّا يلقّاها إلاّ الّذِين صبروا وما يلقّاها إلاّ ذو حظٍّ عظِيم (35) 211

الشوري

قل لا أسألكم عليهِ أجراً إلاّ المودّة فِي القربي (23) 221

الزخرف

قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين (81) 337

الفتح

يد اللهِ فوق أيدِيهِم (10) 135

الحجرات

يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم (17) 128

الذاريات

وما خلقت الجِنّ والإنس إلاّ لِيعبدونِ (56) 90، 354

إنّ الله هو الرّزّاق ذو القوّةِ المتِين (58) 158

النجم

وما ينطق عن الهوي. إن هو إلاّ وحي يوحي (3 4) 369

وأن ليس للانسانِ إلاّ ما سعي (39) 81، 109، 158، 196، 210، 252، 320

الحديد

لا يستوِي مِنكم من أنفق مِن قبلِ الفتح وقاتل (10) 172

من ذا الّذِي يقرِض الله قرضاً حسناً

فيضاعِفه له (11) 128

كمثلِ غيثٍ أعجب الكفّار نباته ثمّ يهِيج فتراه مصفرّاً (20) 127

لِكيلا تأسوا علي ما فاتكم (23) 109

الحشر

لو أنزلنا هذا القرآن علي جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله (21) 337

الصف

يا أيّها الّذين آمنوا لِم تقولون ما لا تفعلون (2و 3) 15، 370

المنافقون

إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول اللهِ والله يعلم إنّك لرسوله (1) 306

وللهِ العِزّة ولِرسولِهِ ولِلمؤمِنِين (8) 117

التحريم

فإنّ الله هو مولاه وجِبرِيل وصالِح المؤمِنِين والملائِكة بعد ذلِك ظهِير (4) 86

الملك

بِيدِهِ الملك وهو علي كلِّ شيءٍ قدِير (1) 381

القلم

وإنّك لعلي خلقٍ عظِيم (4) 85، 231، 290، 355

القيامة

بلِ الإنسان علي نفسِهِ بصِيرة ولو ألقي معاذِيره (14 15) 24

ألم يك نطفةً مِن منِيٍّ يمني (37) 160

البلد

وهديناه النّجدين (10) 170

الشمس

قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها (10) 133، 253

الليل

فأمّا من أعطي واتّقي. وصدّق بالحسني. فسنيسّره لليسري (5 10) 170

الزلزلة

فمن يعمل مِثقال ذرّةٍ خيراً يره. ومن يعمل (7 8) 201

القارعة

فأمّا من ثقلت موازِينه. فهو في عيشةٍ راضِية (6 8) 57

الكوثر

إنّ شانِئك هو الأبتر (3) 207

النصر

إذا جاء نصر الله ِ والفتح ورأيت النّاس يدخلون في دِينِ اللهِ أفواجاً (1 2) 171

فهرس الأحاديث

أهوي أخيك معنا؟ 63

ائتوا بحطب 332

إتّق الله في نفسك ونازع الشيطان قيادك. 65، 162

أَحَقُّ يَوْم بأَنْ يُسَرَّ الْعَبْدُ فيه يَوْمٌ يَرْزُقُهُ اللَّهُ صَدَقَاتٍ وَمَبَرَّات 137

احمل فعل أخيك علي سبعين محملاً 218

أدائهم الأمانة لمعاوية وخيانتكم، وبطاعتهم له ومعصيتكم لي 271

إذا حضرت الصلاة فكأنّه لم يعرفنا ولم نعرفه شغلاً بالله 356

إذا دخل أحدكم بيته فليسلّم فإنّه ينزل البركة وتؤنسه الملائكة 317

إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهويً متّبعاً … فعليك بنفسك ودع عنك 257

إذا صعدت روح المؤمن إلي السماء تعجّبت الملائكة 25

إذا صنع اليك معروف فاذكره، إذا صنعت

معروفاً فانسه 278

إذا ظهرت البدع فعلي العالم أن يظهر علمه، فإن لم يفعل 29

إذا كان ليلة الجمعة نزل من السماء ملائكة بعدد الذرّ … 14

أذلّ عزيزنا 151

أزهد الناس في العالِم بنوه 265

اسْتَغْنِ عَنِ النَّاسِ 107

أشدّ العبادة الورع 93

أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه 203

اعلم أنّه تطلب الدنيا والموت يطلبك 275

اعْمَلْ فَاحْمِلْ عَلي رَأسك 107

أفضل الأعمال الحبّ في الله والبغض في الله 39

أفضل الأعمال الصلاة علي محمد وآله، وسقي الماء، وحبّ علي 39

أفضل الأعمال الصلاة لأوّل وقتها 39

آفضل الآعمال بعد الصلاة إدخال السرور في قلب المؤمن 39

أفضل الأعمال ما عُمل بالسنّة 41

افضل الجهاد كلمة حقّ عند إمام(سلطان) جائر 323

أفضل العبادة إدمان التفكّر في الله وفي قدرته 92

أفضل مايوضع في الميزان يوم القيامة الصلاة علي محمد وأهل بيته 14

أكرم عشيرتك فإنّهم جناحك الذي به تطير 293

ألا وإنّ الله سائلكم عن أعمالكم حتي مسّ أحدكم ثوب أخيه 201

ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه 254

ألا وإنّكم لا تقدرون علي ذلك ولكن أعينوني 255

إلهي كفي لي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفي بي فخراً 112

إلهي ما عبدتُك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك ولكن 52،70

إلهي، تعرّض لك في هذا الليل المتعرّضون 362

ألينهم عريكة 290

أما أنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه 355

أما كنت تري أن فيهم من تتقاصر نفسه 34، 35

أمّا مع الحمد فلا و الله 132

إنّ أفضل الأعمال عند الله ما عُمل بالسنّة وإن قلّ 40

إنّ الإيمان قيد الفتك، فلا يفتك مؤمن 42

إنّ الشيطان ليجري من ابن آدم مجري الدم 176، 224

إنّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد 220

إنّ الله تعالي يقول للعبد يوم القيامة: عبدي! أكنت عالماً؟ 131

إنّ الله جميل يحبّ

الجمال 20

إنّ الله أكرم من أن يقبل الطرفين ويدع الوسط إذ كانت الصلاة علي محمد وآله 14

إِنَّ اللَّهَ قَالَ: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتكُمْ بالْمَنِّ وَالأَذي، وَلَمْ يَقُلْ لا تُبْطلُوا بالْمَنّ عَلَي 137

إنّ الله قد فرض علي أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعَفة الناس كيلا يتبيّغ 314

إنّ الله فوّض إلي المؤمن أموره كُلّها ولم يفوّض إليه أن يُذل 117

إنّ الله لم يأخذ علي الجهّال عهداً بطلب العلم حتي أخذ علي العلماء عهداً 372

إنّ الله يغضب لغضبك ويرضي لرضاك 327

إنّ أمير المؤمنين نهي بالكوفة عن الصلاة في خمسة مساجد … 305

إنّ أولي الناس بالله وبرسوله من بدأ بالسلام 317

أن تترك المراء وإن كنت محقّاً 300

إن قُلْتُ لك تفْعلُ؟ 36

إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة 68

إنّ ل (لا إله إلا الله) شروطاً، وإنّي وذرّيتي من شروطها 368

إنّ لله عزّ وجلّ لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه 262

إِنَّ مَاقَلَّ وكَفَي خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وأَلْهَي 103

إنّ من السنّة أن تصلّي علي محمّد وعلي أهل بيته في كلّ جمعة ألف مرّة 14

أن يعرفوه بالستر والعفاف والكفّ عن البطن والفرج 182

أن يكون ساتراً لعيوبه 182

أنت حرّ لوجه الله تعالي، أما إنّك لم تتعمّده 266

أنت مرضيّ عندنا 187

إنّما الأعمال بالنيات 113

إنّما بعثت لاتمم مكارم الأخلاق 145

إنّما سألتك كم ترجو؟ 246

إنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض كإصبعيّ 173

إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا 366

إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً 175

إنّي لأستريح إذا رأيتك 64

أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوي الله 274

إيّاكم والبطنة، فإنّها مفسدة للبدن، ومورثة للسقم 240

إيّاكم والكذب، فإنّ الكذب

يهدي إلي الفجور 305

إيّاكم والمحقّرات من الذنوب، فإنّ لكلّ شيء طالباً 332

أيجيء أحدكم إلي أخيه فيدخل يده في كيسه؟ 220

أيعجز أحدكم اذا قارف هذه السيّئة أن يستر علي نفسه 281

الإيمان قيّد الفتك 22، 248

أيّها الناس إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم 201

أيّها الناس إنّي تارك فيكم الثقلين 173

بالعدل قامت السماوات والأرض 264

بل اجعلها هكذا، فلا تقبض أصابعك إلي كفّك … فلا إفراط ولا 264

بل قولوا اللهم صلّ علي محمد وعلي آل محمد. 14

بلغني أنّك كنت تذبح لهم في كلّ منزل شاة 34

بلي يابنيّ، ولكنّي اُجلّ الله تعالي أن أحلف به يمين صبر 255

تحبّ بقاءهم حتي يخرج كراك؟ 273

الجار ثم الدار 333

جدّدت أربعة مساجد بالكوفة فرحاً لقتل الحسين 305

جعلوك قطباً أداروا بك رحي مظالمهم 273

الْجِيرَانُ ثَلاثَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ … وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ حَقَّانِ 134

جيفة بالليل بطّال بالنهار 107

حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، ووبّخوها قبل أن توبّخوا 203

الحرب خدعة 248

الخُلق منحة يمنحها الله خلقه، فمنه سجيّة ومنه نيّة 294

الخير عادة 25

خيرك إلينا نازل وشرّنا إليك صاعد 337

الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر 19، 380

دين الله لا يعرف بالرجال بل بآية الحق، فاعرف الحقّ 175

رحم الله عبداً أحيي أمرنا 31

الرضا بمكروه القضاء من أعلي درجات اليقين 71

رُفع عن أمّتي تسع … والحسد والطيرة و 214

الساتر لجميع عيوبه 182

سوادٌ في الدارين 106

سياسة العدل ثلاث: رقّة في حزم، واستقصاء في عدل 265

صاحب السجيّة هو مجبول لا يستطيع غيره 295

صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام 274

طوبي لمن ذلّ في نفسه، وطاب كسبه، وصلحت سريرته 302

العدل أساس به قوام العالم 265

علي حبّه ايمان وبغضه كفر 369

علي مع الحق والحق مع علي، اللهم أدر الحق معه حيثما دار

324

علي مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيثما دار 57، 174

العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عني فعنّي يؤدّيان … فإنهما الثقتان المأمونان 226

غرمت علي زرعك هذا؟ 246

فَاخْرُجْ منْ جميع مَا اكْتَسَبْتَ في ديوانهمْ … وَأَنَا أَضْمَنُ لَكَ الجَنَّةَ 36

فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك 249

فالطفوا في حاجتي كما تلطفون في حوائجكم 96

فإنّ الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهرالعظيم 366

فإنّك امرؤ ملبوس عليك؛ إن 175

فإنّك لا تدري ما اسمك غداً 276

فإنّما هي عزمة 203

الفقر فقران: فقر الدنيا وفقر الآخرة … وذاك الهلاك 100

فكم ترجو أن تربح؟ س 246

فليأت كلّ انسان بما قدر عليه 332

فمن أحبّ بقاءَهم فهو منهم 273

فهم والجنّة كمن قد رآها 196، 199، 200، 201، 204

فوالذي فلق الحبّة ويرأ النسمة إنّه لعهد النبي إليّ أن لا يحبّني الا مؤمن 369

فيهم من يحبّ أن يفعل فعالك فلا يبلغ مقدرته ذلك فتتقاصر 34، 35

القاتل والمقتول في النار 244

قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة 366

قد ركز بين اثنتين 114

قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحبّ أن تبلغوا معي إليه حتي تسمعوا ردّي عليه 267

قليل تدوم عليه أرجي من كثير مملول 340

قولوا اللهمّ صلّ علي محمد وآل محمد كما صلّيت علي إبراهيم وآل إبراهيم 14

كاد الفقر أن يكون كفرا 108

كشف لي عن برهوت فرأيت شيبويه وحبتر يعذّبان في جوف تابوت 253

كلّ دعاء محجوب عن الله حتي يصلَّي علي محمّد وأهل بيته 13

كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً 273

كلّ عزيز داخل تحت القدرة فذليل 112

كونوا دعاة للناس بالخير بغير ألسنتكم 292

لا تزالون فيها ما عشتم فأحدثوا لله شكرا 101

لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء 14، 15

لا تعنهم علي بناء مسجد

274

لا ذليل واللهُ معزُّك ولا مغلوب واللهُ ناصرك 152

لا قرب بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض 161، 365

لا قول إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنيّة، ولا قول ولا عمل ولا نيّة إلا بإصابة السنّة 55

لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه 201

لا يقاس بآل محمّد من هذه الأمّة أحد 175

لا يقولنّ أحدكم اللهمّ إني أعوذ بك من الفتنة؛ لأنّه ليس أحد إلا 357

لستُ من جهّالها 297

لعلك قبّلت، أو غمزت أو نظرت 281

لَعَمْري إِنَّكَ حَقيقٌ بأَنْ تُسَرَّ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَحْبَطْتَهُ 137

لعن الله من خالفك 364

لعن الله من قتلك 364

اللهم اجعلني من أهل الجنّة التي حشوها البركة 69

اللَّهُمَّ ارْزُقْ مُحَمَّداً وآلَ مُحَمَّدٍ الكَفَاف 103

اللهم إنّي أعوذ بك من الكفر والفقر 108

اللهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون 381

لو كانوا موالين لنا لواسيناهم بالدُقّة 135

لو وجدتُ شابّاً من شبّان الشيعة لا يتفقّه في دينه لضربته 83

لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري 378

لولا أنّ بني أميَّة وَجَدوا مَنْ يَكْتُبُ لَهُمْ لما سَلبونا حَقَّنا 36

لولانا ما عُبد الله 35

ليس أحد من نساء المسلمين أعظم رزية منك 325

لَيسَ الْعبادةُ كَثْرةَ الصِّيام والصَّلاة وإنَّمَا الْعبادةُ الْفكْرُ في اللَّه 93

ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم 36، 188، 203،252

المؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً 117

المؤمنون لأنفسهم متّهمون 197

ما أفضل الأعمال في هذا الشهر 195

ما انتصر الله من ظالم إلاّ بظالم وذلك قول الله عزّ وجلّ 244

ما أوذي نبي مثلما أوذيت 377

مَا لي أَرَاكَ مَسْرُوراً؟ 137

ما من أيّام العمل الصالح فيها أحبّ إلي الله من أيّام العشر 256

ما من شيء يُعبَد الله به يوم الجمعة أحبّ إليّ من الصلاة علي محمّد وآل محمّد 14

ما وضع في

ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخُلُق 239

المأمون علي الدين والدنيا 225، 226

محمّد ابني من صلب أبي بكر 253

مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش 232

مرّ موسي 379

مسكين ابن آدم … تؤلمه البقّة وتقتله الشرقة، وتنته العرقة 160

المفتي علي شفير جهنم 120

ملعون ملعون من ألقي كَلّه … 106

ملعون من ألقي كَلّه علي الناس 106

من ازداد علماً، ولم يزدد هدي لم يزدد من الله إلا بعداً 120

من أعان ظالماً سلّطه الله عليه 244

من التواضع أن ترضي بالمجلس دون المجلس 299

من بني مسجداً بني الله له بيتاً في الجنّة 274

من تواضع لغنيّ لأجل غناه ذهب ثلثا دينه 113

مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ منّي 87

من صلّي صلاةً ولم يصلّ فيها عليّ وعلي أهل بيتي لم تقبل منه 15

من كانت له إلي الله عزّ وجلّ حاجة فليبدأ بالصلاة علي محمد وآله 14

مَنْ لَمْ يَسُسْ نَفْسَهُ أضَاعَها 254

من لم يقدر علي ما يكفّر به ذنوبه فليكثر من الصلاة علي محمد 14

من مات مدارياً، مات شهيدا 231

من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومنّ من أساء به الظنّ 224

من يقوي علي عبادة عليّ بن أبي طالب عليه السلام 124

من ينجيك منّي يا غورث 363

المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقي 254

نحن الحبل 358

نحن السبيل فمن أبي فهذه السبل فقد كفر 358

نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد 315

نحن صنائع الله 228

نعمتان مجهولتان: الصحّة والأمان 236

النفس مجبولة علي سوء الأدب … ومن أعان نفسه في هوي نفسه فقد 254

هَاهْ قَدْ أَبْطَلْتَ برَّكَ بإِخْوَانكَ وَصَدَقَاتكَ 137

هكذا تجتمع الذنوب 332

هوَّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله 379

هيهات منّا الذلّة 114، 151

والله لأدعونّ الله عليك في كلّ صلاة 326

والله لقد خشيت أن يدال

هؤلاء القوم 271

وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره 351

وأن تخلّد فيها المعاندين 245

وأن تسلّم علي من تلقي 300

وأن لا تحبّ أن تحمد علي التقوي 301

وإنّ لنفسك عليك حقّاً 107

وأنت مسدّد للصواب بمنّك 257

وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من لسانه 302

وإنّما هي نفسي أروّضها بالتقوي 252

وتنجيني من تعرّض السلاطين 362

الورع عن محارم الله 195، 200

وصلّ اللهم علي الدليل إليك 126

وفيم خصومتهم؟ 175

وكَمْ تَضْرِبُهُ؟ 162

ولا أقول كهاتين 173

ولا ينجّي منك إلا التضرّع إليك 158

ولعلّ الذي أبطأ عنّي هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور 109، 188

ولقد شهدنا في عسكرنا هذا، أقوامٌ في أصلاب الرجال وأرحام النساء 63

يَا أَبَا الصَّبَّاحِ هَذَا الْفَتْكُ، وقَدْ نَهَي رَسُولُ الله عَن الْفَتْك 43

يا أباذرّ ليكن لك في كلّ شيء نيّة صالحة حتي في النوم والأكل 123

يا أخي إنّك كنت قد قلتَ ما فيَّ فأستغفرُ الله منه 268

يَا إِسْحَاقُ إِنْ كُنْتَ تَدْرِي حَدَّ مَا أَجْرَمَ فَأَقِمِ الْحَدَّ فِيهِ ولا تَعَدَّ 162

يا باسط اليدين بالعطية 36، 136

يا بنيّ قم فأعطها أربعمئة دينار 255

يا حسين وتذلّ المؤمنين 33

يا علي إنّ الدنيا لو عدلت عند الله تبارك وتعالي جناح بعوضة 127

يا علي أنت قاضي ديني 177

يا فلان، هذه زوجتي فلانة 224

يا محمد بن أبي بكر، انظر إذا عرقب الجمل فأدرك أختك فوارها 44

يا من استصلح فاسدهم بالتوبة 75

يا من أظهر الجميل وستر القبيح 277

يا موسي، لو دعاني حتي تسقط يداه أو تنقطع يداه أو ينقطع 380

يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون 152

ياعليّ نوم العالم أفضل من عبادة العابد الجاهل … 116

ياموسي قل له: لا تشقّ قميصك ولكن اشرح لي من قلبك 253

يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس 31، 48

يجاء يوم القيامة بالرجل الحسن الذي قد افتتن بحسنه 130

يَحْملُ

هَذَا الدِّينَ في كُلِّ قَرْن عُدُولٌ يَنْفُون عَنْهُ تَأويلَ الْمُبْطلينَ 86

يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم 189

فهرس المصادر

القرآن الكريم

نهج البلاغة

الصحيفة السجادية

أ

الآحاد والمثاني أبو بكر أحمد بن عمرو الضحّاك الشيباني/ ت287 ه/ ط. دار الحرية الرياض.

إحياء علوم الدين أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الشافعي الطوسي/ ت505 ه/ ط. لجنة نشر الثقافة الإسلامية مصر.

الإختصاص أبو عبدالله محمد بن النعمان العكبري البغدادي، الشيخ المفيد/ ت413 ه/ ط. مؤسّسة النشر الإسلامي قم.

الأربعين في إمامة الأئمة الطاهرين محمد طاهر بن محمد حسين الشيرازي/ ت1098 ه/ ط. مطبعة الأمير قم.

الإرشاد في معرفة حجج الله علي العباد أبو عبدالله محمد بن النعمان العكبري، (الشيخ المفيد) ت413 ه/ ط. مطبعة دار المفيد قم.

أسد الغابة في معرفة الصحابة عزّ الدين أبو الحسن علي إبن أبي الكرم الشيباني، ابن الأثير/ ت630 ه/ ط. انتشارات إسماعيليان طهران.

أضواء علي السنّة المحمّدية محمود أبو رية/ معاصر/ ط. دار الكتاب الإسلامي قم.

إعلام الوري بأعلام الهدي أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي/ ت548 ه/ ط. مؤسّسة آل البيت? لإحياء التراث قم.

إقبال الأعمال السيد رضي الدين علي بن موسي بن جعفر بن طاووس/ ت664 ه/ ط. مكتب الاعلام الإسلامي قم.

الأمالي أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي/ ت460 ه/ ط. دار الثقافة قم.

أمالي المفيد أبو عبدالله محمد بن النعمان العكبري، الشيخ المفيد/ ت413 ه/ ط. مؤسّسة النشر الإسلامي قم.

الإمامة والسياسة أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري/ ت276 ه/ ط. انتشارات الشريف الرضي قم.

ب

بحار الأنوار محمد باقر بن محمد تقي المجلسي/ ت1111 ه/ ط. مؤسّسة الوفاء بيروت.

البلد الأمين إبراهيم بن علي الكفعمي/ ت905 ه/

بيت الأحزان الشيخ عبّاس بن محمد رضا القمّي/ ت1359 ه/ ط. دار الحكمة قم.

ت

تاريخ ابن خلدون عبدالرحمن بن

محمد بن خلدون الحضرمي المالكي/ ت 808 ه/ ط. دار إحياء التراث العربي بيروت.

تاريخ أسماء الثقات عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين/ ت385 ه/ ط. دار السلفية كويت.

تاريخ بغداد أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي/ ت463 ه/ ط. دار الكتب العلمية بيروت.

تاريخ مدينة دمشق أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبدالله الشافعي، إبن عساكر/ ت571 ه/ ط. دار الفكر بيروت.

تاريخ الطبري أبو جعفر محمد بن جرير الطبري/ ت310/ ط. مؤسّسة الأعلمي بيروت.

تحف العقول أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرّاني/ من أعلام القرن الرابع الهجري/ ط. مؤسّسة النشر الإسلامي قم.

التحقيق في أحاديث الخلاف أبو الفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد، إبن الجوزي/ ت597 ه/ ط. دار الكتب العلمية بيروت.

تذكرة الفقهاء الحسن بن يوسف بن المطهر، العلاّمة الحلّي/ ت726 ه/ ط. مؤسّسة آل البيت? لإحياء التراث قم.

تفسير العيّاشي أبو النظر محمد بن مسعود بن عيّاش السلمي السمرقندي العيّاشي/ ت القرن الرابع الهجري/ ط. المكتبة العلمية الإسلامية طهران.

تفسير القرطبي أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي/ ت671 ه/ ط. دار إحياء التراث العربي بيروت.

تفسير القمّي أبو الحسن علي بن إبراهيم القمّي/ ت329/ ط. مؤسّسة دار الكتاب قم.

التفسير الكبير «مفاتيح الغيب» فخر الدين محمدبن عمر الرازي/ ت606 ه/ ط. إحياء التراث العربي بيروت.

تفسير مجمع البيان أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي/ ت560 ه/ ط. مؤسّسة الأعلمي بيروت.

التمحيص أبو علي محمد بن همام الإسكافي/ ت336 ه/ ط. مدرسة الإمام المهدي? قم.

تهذيب الأحكام أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي/ ت460 ه/ ط. دار الكتب الإسلامية طهران.

تهذيب الكمال جمال الدين أبو الحجّاج يوسف المزّي/ ت 742 ه/ ط. مؤسّسة الرسالة بيروت.

ث

ثواب

الأعمال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الشيخ الصدوق/ ت 381 ه/ ط. منشورات الرضي قم.

ج

الجامع الصغير جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي/ ت911 ه/ ط. دار الفكر بيروت.

جامع المقاصد علي بن الحسين الكركي/ ت940 ه/ ط. مؤسّسة آل البيت? لإحياء التراث قم.

الجواهر السنية في الأحاديث القدسيّة محمد بن الحسن بن علي بن الحسين الحرّ العاملي/ ت1104 ه/ ط. مكتبة المفيد قم.

جواهر العقدين في فضل الشرفين نور الدين أبو الحسن علي بن جمال الدين السمهودي/ ت911 ه/ ط. دار المعارف بغداد.

جواهر الكلام محمدحسن بن باقر بن عبدالرحيم الجواهري/ ت1266 ه/ ط. دار الكتب الإسلامية طهران.

ح

الحدائق الناضرة يوسف بن أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني/ ت1186 ه/ ط. مؤسّسة النشر الإسلامي قم.

خ

الخصال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابوية القمّي، الشيخ الصدوق/ ت 381 ه/ ط. مؤسّسة النشر الإسلامي قم.

د

الدراية في تخريج أحاديث الهداية أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني/ ت852 ه/ ط. دار المعرفة بيروت.

الدعوات أبو الحسن سعيد بن هبة الله، المعروف بقطب الدين الراوندي/ ت573 ه/ ط. مدرسة الإمام المهدي ? قم.

ر

رجال الخاقاني أبو الحسن علي بن حسن بن عبّاس بن سالم الخاقاني/ ت 1334 ه/ ط. مكتب الإعلام الإسلامي قم.

رجال الكشي «إختيار معرفة الرجال» لشيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي/ ت460 ه/ ط. مؤسّسة آل البيت? قم.

رسالة في العدالة للشهيد الثاني زين الدين بن علي بن أحمد الجبعي العاملي/ ت 965 ه/

روضة الواعظين أبو علي محمد بن أحمد بن علي الفتّال النيسابوري/ ت 508 ه/ ط. منشورات الرضي قم.

س

سنن الدارقطني علي بن عمر بن أحمد البغدادي الدارقطني/ ت385 ه/ ط. دار

الكتب العلمية بيروت.

ش

شجرة طوبي محمد مهدي بن عبدالهادي المازندراني الحائري/ ت 1385 ه/ ط. المطبعة الحيدرية النجف الأشرف.

شرح نهج البلاغة عزّ الدين عبدالحميد بن أبي الحديد المعتزلي/ ت656 ه/ ط. دار إحياء الكتب العربية مصر.

الشفا بتعريف حقوق المصطفي? أبو الفضل عياض بن موسي القاضي اليحصبي/ ت 544 ه/ ط. دار الفكر بيروت.

ص

الصواعق المحرقة شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي/ ت 973 ه/ ط. مكتبة القاهرة مصر.

ع

عدّة الداعي أحمد بن محمد بن محمد بن فهد الأسدي الحلّي/ ت 841 ه/ ط. مكتبة الوجداني قم.

علل الدارقطني علي بن عمر بن أحمد البغدادي/ ت385 ه/ ط. دار طيبة الرياض.

عوالي اللئالي العزيزية محمد بن علي بن إبراهيم الاحسائي، إبن أبي جمهور/ ت 880 ه/ ط. مطبعة سيد الشهداء قم.

عيون أخبار الرضا? أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابوية القمّي، الشيخ الصدوق/ ت 381 ه/ ط. مؤسّسة الأعلمي بيروت.

عيون الحكم والمواعظ كافي الدين أبو الحسن علي بن محمد الليثي الواسطي/ من أعلام القرن السادس الهجري/ ط. دار الحديث قم.

غ

غرر الحكم ودرر الكلم أبو الفتح عبدالواحد بن محمد بن عبدالواحد الآمدي/ ت 550 ه/ ط. مكتب الإعلام الإسلامي قم.

ف

فرحة الغري السيد غياث الدين عبدالكريم بن طاووس/ ت 693 ه/ ط. مركز الغدير للدراسات الإسلامية قم.

الفضائل أبو الفضل سديد الدين شاذان بن جبرائيل بن إسماعيل إبن أبي طالب القمّي، إبن شاذان/ ت 660 ه/ ط. المكتبة الحيدرية النجف الأشرف.

فضائل الأشهر الثلاثة محمد بن علي بن الحسين بن موسي بن بابوية القمّي، الشيخ الصدوق/ ت 381 ه/ ط. دار المحجّة البيضاء بيروت.

فقه الرضا? المنسوب للإمام علي بن موسي الرضا?، ط. مؤسّسة آل البيت? لإحياء التراث قم.

فقه القرآن أبوالحسن سعيد بن هبة

الله، المعروف بقطب الدين الراوندي/ ت 573 ه/ ط. مطبعة الولاية قم.

فوائد الأصول محمد علي الكاظمي الخراساني/ ت 1355 ه/ ط. مؤسّسة النشر الإسلامي قم.

فيض القدير في شرح الجامع الصغير محمد عبدالرؤوف المنادي الشافعي/ ت 1331 ه/ ط. دار الكتب العلمية بيروت.

ق

قرب الإسناد أبو العبّاس عبدالله بن جعفر الحميري البغدادي/ ت 300 ه/ ط. مؤسّسة آل البيت? لإحياء التراث قم.

ك

الكافي أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني/ ت328 ه/ ط. دار الكتب الإسلامية طهران.

كامل الزيارات أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولوية القمّي/ ت368 ه/ ط. مؤسّسة نشر الفقاهة قم.

كشف الغمّة عن جميع الأمّة عبدالوهاب بن أحمد الشعراني/ ت973ه/ ط. المطبعة الميمنية مصر.

كشف الغمّة في معرفة الأئمه أبو الحسن علي بن عيسي بن أبي الفتح الإربلي/ ت693 ه/ ط. دار الأضواء بيروت.

كشف اللثام بهاء الدين محمد بن الحسن بن محمد الأصفهاني، الفاضل الهندي/ ت1137ه/ ط. مؤسّسة النشر الإسلامي قم.

كنز العمّال علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي/ ت975ه/ ط. مؤسّسة الرسالة بيروت.

كنز الفوائد أبو الفتح محمد بن الكراجكي/ ت449ه/ ط. مكتبة المصطفوي قم.

ل

لسان العرب أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري/ ت711ه/ ط. دار إحياء التراث العربي بيروت.

اللهوف في قتلي الطفوف علي بن موسي بن طاووس الحسيني/ ت664ه/ ط. أنوار الهدي قم.

م

مجمع الزوائد نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي/ ت807 ه/ ط. دار الكتب العلمية بيروت.

المحاسن أبو جعفر أحمد بن محمد بن خالد البرقي/ ت274 ه/ ط. دار الكتب الإسلامية طهران.

مدينة المعاجز السيد هاشم بن سلمان البحراني/ ت1107ه/ ط. مؤسّسة المعارف الإسلامية قم.

المزار الكبير محمد بن جعفر بن علي بن جعفر المشهدي/ ت610ه/ ط. مؤسّسة النشر الإسلامي قم.

مستدرك

سفينة البحار علي بن محمد بن إسماعيل النمازي/ ت1405ه/ ط. مؤسّسة النشر الإسلامي قم.

مستدرك الوسائل ميرزا حسين بن محمد تقي بن علي محمد النوري الطبرسي/ ت1320ه/ ط. مؤسّسة آل البيت? لإحياء التراث قم.

مسكّن الفؤاد زين الدين علي بن أحمد الجبعي العاملي، الشهيد الثاني/ ت965ه/ ط. مؤسّسة آل البيت? لإحياء التراث قم.

مشكاة الأنوار أبو الفضل علي بن رضي الدين الطبرسي/ ت548 ه/ ط. دار الحديث قم.

مصباح الكفعمي تقي الدين إبراهيم بن علي الكفعمي/ ت905ه/ ط. دار الرضي قم.

معجم الفروق اللغويّة الحسن بن عبدالله بن سهل بن مهران البغدادي، أبو هلال العسكري/ ت395 ه/ ط. مؤسّسة النشر الإسلامي قم.

معجم المؤلفين د. عمر رضا كحالة/ معاصر/ ط. دار إحياء التراث العربي بيروت.

مفاتيح الجنان الشيخ عبّاس بن محمد رضا القمّي/ ت1359ه/

مقاتل الطالبيين علي بن الحسين بن محمد القرشي الأموي الأصفهاني/ ت356ه/ ط. مؤسّسة دار الكتاب قم.

المقنع محمد بن علي بن الحسين بن بابوية القمّي، الشيخ الصدوق/ ت381ه/ ط. موسّسة الإمام الهادي قم.

مكارم الأخلاق رضي الدين أبو نصر الحسن بن الفضل الطبرسي/ ت548ه/ ط. منشورات الشريف الرضي قم.

مكاشفة القلوب أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي/ ت505ه/ ط. مصطفي إبراهيم تاج القاهرة.

من لا يحضره الفقيه أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابوية القمّي، الشيخ الصدوق/ ت381ه/ ط. مؤسّسة النشر الإسلامي قم.

منازل الآخرة عبّاس بن محمد رضا القمّي/ ت1359ه/ ط. مؤسّسة النشر الإسلامي قم.

ميزان الحكمة محمد الري شهري/ معاصر/ ط. دار الحديث قم.

ن

نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية أبو محمد جمال الدين عبدالله يوسف الزيلعي/ ت762ه/ ط. دار الحديث القاهرة.

نيل الأوطار محمد بن علي بن محمد الشوكاني/ ت1255ه/ ط. دار الجيل بيروت.

و

وسائل الشيعة محمد بن الحسن العاملي/ ت1104ه/ ط.

مؤسّسة آل البيت? لإحياء التراث قم.

ي

ينابيع المودّة سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي/ 1294ه/ ط. دار الاسوة قم.

پي نوشتها

() بحار الأنوار: 1 / 204 ح24 باب4، مذاكرة العلم ومجالسة العلماء.

() كنز الفوائد: 13 الفصل الأوّل، مختصر الكلام في أنّ للحوادث أوّلاً.

() مستدرك سفينة البحار: 9 / 28 باب فضل كتابة الحديث وروايته.

() وهو أحد أدعية الصحيفة السجّادية (الدعاء رقم20) التي ينتهي سندها إلي الإمام زين العابدين سلام الله عليه، والتي تحتوي علي أكثر من خمسين دعاءً منها هذا الدعاء. لقد تضمّنت هذه الصحيفة من الكنوز ما بلغت من العظمة حتي عُبّر عنها بأخت القرآن، وإنجيل أهل البيت سلام الله عليهم، وزبور آل محمد صلّي الله عليه وآله.

() نقله جمهرة من علماء العامّة، منهم السيوطي في الجامع الصغير: 1 / 656 ح 4266، والمتقي الهندي في كنز العمال: 2 / 78 ح 3215 وغيرهما.

() وردت في فضل الصلوات علي محمد وآله روايات كثيرة، فقد روي عن الإمام الباقر سلام الله عليه أنّه قال: ما من شيء يُعبَد الله به يوم الجمعة أحبّ إليّ من الصلاة علي محمّد وآل محمّد. (الحدائق الناضرة: 10/ 198).

وعن الإمام الصادق سلام الله عليه أنّه قال: إذا كان ليلة الجمعة نزل من السماء ملائكة بعدد الذرّ في أيديهم أقلام من الذهب وقراطيس الفضة لا يكتبون إلي ليلة السبت إلا الصلاة علي محمد وعلي آل محمد، فأكثروا منها. ثمّ قال: إنّ من السنّة أن تصلّي علي محمّد وعلي أهل بيته في كلّ جمعة ألف مرّة وفي سائر الأيّام مئة مرّة. (تذكرة الفقهاء: 4/ 103).

وعنه سلام الله عليه أيضاً: أفضل ما يوضع في الميزان يوم القيامة الصلاة علي محمد وعلي أهل بيته. (قرب الإسناد: ص14

ح45).

وعن الإمام الرضا سلام الله عليه أنّه قال: من لم يقدر علي ما يكفّر به ذنوبه فليكثر من الصلاة علي محمد وآله فإنّها تهدم الذنوب هدماً. (الحدائق الناضرة: 8/ 471).

كما ورد استحباب الصلوات علي محمد وآله في أوّل الدعاء ووسطه وآخره؛ فعن الإمام الصادق سلام الله عليه أنّه قال: من كانت له إلي الله عزّ وجلّ حاجة فليبدأ بالصلاة علي محمد وآله ثمّ يسأل حاجته ثمّ يختم بالصلاة علي محمد وآل محمد، فإنّ الله عزّ وجلّ أكرم من أن يقبل الطرفين ويدع الوسط إذ كانت الصلاة علي محمد وآله لا تحجب عنه. (الوسائل: 7/ 95 ح11 الباب 36، استحباب الصلاة علي محمد وآله في أوّل الدعاء ووسطه وآخره).

ومع أنّ النبي الأكرم صلي الله عليه وآله قد بيّن بنفسه الشريفة كيفية الصلاة عليه، وذلك بُعيد نزول قوله تعالي: ?إنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلي النَّبي يا أيُّها الّذينَ آمَنُوا صَلّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيماً? (سورة الأحزاب، الآية: 56) حين سأله المسلمون: يا رسول الله قد علّمتنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: قولوا اللهمّ صلّ علي محمد وآل محمد كما صلّيت علي إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد (ذكره العامّة في صحاحهم ومسانيدهم كافّة، فراجع).

كما أكّد صلي الله عليه وآله عليهم بعد ذلك بعدم بترها، أي الاكتفاء بالصلاة عليه منفرداً دون ذكر الآل؛ قال صلي الله عليه وآله: لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء. فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال: تقولون اللهم صلّ علي محمد وتسكتون، بل قولوا اللهم صلّ علي محمد وعلي آل محمد. (ذكره ابن حجر في صواعقه: 146 في الآيات النازلة في أهل البيت سلام الله عليهم الآية الثانية، والقندوزي في ينابيعه: 1/ 37 رقم14 علي ما

رواه السمهودي في جواهر العقدين: 2/ 155، والشعراني في كشف الغمة: 1/ 219، وغيرهم فراجع). =

= وقال صلّي الله عليه وآله: من صلّي صلاةً ولم يصلّ فيها عليّ وعلي أهل بيتي لم تقبل منه. (ذكره الدارقطني في علله: 6/ 197 ح1066 وسننه أيضاً: 1/ 355 ح6 وابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية: 1/ 158 ح189، وابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف: 1/ 402 الحديث الثالث، والزيلعي في نصب الراية: 1/ 427، والشوكاني في نيل الأوطار: 2/ 322 باب ما جاء في الصلاة علي رسول الله صلي الله عليه وآله وغيرهم).

وحذّرهم صلي الله عليه وآله من احتجاب دعاء العبد عن الله تعالي ما لم يصلّ فيه علي محمّد وأهل بيته. (راجع ما ذكره السيوطي في الجامع الصغير: 1/ 656، ح4266، والمناوي في شرحه فيض القدير: 3/ 725، ح4266، والمتقي الهندي في كنز العمال: 2/ 78، ح 3215 والقاضي عياض في الشفاء بتعريف حقوق المصطفي صلي الله عليه وآله: 2/ 65 والهيثمي في مجمع الزوائد: 10/ 160 وغيرهم فراجع).

رغم هذا كلّه إلا أنّك تجد قسماً من المسلمين وللأسف الشديد لا يؤدّون الصلاة علي النبي وآله هكذا كاملةً تامّة، كما أرشدهم لها صلي الله عليه وآله، ويصرّون علي مخالفة أمره، فيؤدّونها بتراء، في حين يروون عنه صلي الله عليه وآله حديث النهي عن الصلاة البتراء فيقولون: قال صلي الله عليه وسلّم (!): لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء.

فليتدبّروا قول الله تعالي: ??يَا أيُّها الّذينَ آمَنوا لِمَ تَقُولُون ما لا تَفْعَلُون? كَبُرَ مقْتاً عِندَ اللهِ أن تَقُولوا ما لا تَفْعَلُون? (سورة الصفّ، الآية: 2 3).

«المؤسّسة»

() سورة الفرقان، الآية: 77.

() الدعوات: ص19 ح11.

() الكافي: 6 / 438، باب

التجمل وإظهار النعمة.

() راجع مقاتل الطالبيين: 65.

() سورة النمل، الآية: 14.

() ما لا يمكن التفكيك بين أجزائه في الامتثال. مثاله: الصلاة؛ خلافاً لأجزاء المركّب غير الارتباطي كالحقوق المختلفة في ذمّة الشخص، فسقوط بعضها بالأداء يبرئ ذمّته في المورد.

() سورة القيامة، الآية: 14 و15.

() عدّة الداعي: 193.

() عيون الحكم والمواعظ: 136 الفصل الحادي عشر من الباب الأوّل.

() سورة آل عمران، الآية: 163.

() راجع الكافي: 2 / 40 ح1 باب السبق إلي الإيمان.

() الأمر الذي يظهر مدي اطمئنانها إليه لكونه طالباً في مدرسة دينية، وهذا يكشف عن عظم مسؤولية علماء وطلبة العلوم الدينية، لأنّ الناس يضعون فيهم كامل ثقتهم ولا يحتملون صدور الخطيئة منهم.

() هو الشيخ مرتضي بن الشيخ محمد أمين بن الشيخ مرتضي بن الشيخ شمس الدين التستري، الدزفولي، الأنصاري (1214 - 1281 ه). يرجع نسبه الي الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري. فقيه، أصولي. وُلد بدزفول، وتوفّي بالنجف الأشرف في 18 جمادي الثانية. من آثاره: كتاب في أصول الفقه ويعرف بالرسائل، كتاب في المتاجرة ويعرف بالمكاسب، كتاب في الطهارة، كتاب في الصلاة، كتاب في النكاح، إلي غير ذلك.

() هذه القصّة موجودة في «أعيان الشيعة» وفي «أعلام الشيعة»، وتعود إلي أيام الشيخ الأنصاري رحمه الله أي لما قبل زهاء مئة وأربعين سنة.

() قد يحتَّم علي الإنسان أحياناً أن يُظهِر علمه ولا يجوز له السكوت؛ عملاً بتكليفه الشرعي، خصوصاً إذا ما استشرت البدع في الناس وطغي الباطل ومحق الدين؛ فقد روي عن الصادقين عليهما السلام أنّهما قالا: إذا ظهرت البدع فعلي العالم أن يظهر علمه، فإن لم يفعل سُلب نور الإيمان (وسائل الشيعة: 16/ 271، ح9، باب40 وجوب إظهار العلم عند ظهور البدع) ولا كلام في

هذا، ولكن ما أكثر الحالات التي ليس فيها وجوب ولكن الفرد لا يستطيع أن يملك نفسه عن التحدّث رغبةً في إظهار ما يملك من معلومات؟!

() انظر مصباح الكفعمي: 647 فصل 46.

أقول: إنّ هذه الكلمات قد عبّرت عن كرم الله تعالي بما لم أره في غيرها من الكلمات. فإن اليد تمثّل رمزاً لإظهار جملة من مصاديق القدرة عند الإنسان، ففيها مثلاً تتجلّي قدرته في المنع والإعطاء، والبطش والكفّ وغير ذلك، والأدعية والخطابات الدينية لمّا كانت موجّهة للبشر فهي تراعي وتحاكي حالاتهم وأفهامهم؛ فكأنّ المعني في عبارة: يا باسط اليدين بالعطية أن كلّ قدرة الله تعالي هي في الإعطاء، المراد منه غايته لا مبدأه وكما قيل عن المعاني في المقام: «خذ الغايات واترك المبادي».

() قال تعالي: ?إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم? أي ليرحمهم.

() أبو الصلت، عبد السلام بن صالح الهروي نسبة إلي هراة من مدن أفغانستان خادم الإمام الرضا سلام الله عليه ومن الرواة الثقات، وثّقه عامة رجاليي الشيعة وبعض رجاليّي العامّة، منهم: عمر بن شاهين في كتابه تاريخ أسماء الثقات: 156 رقم 876 وما رواه البغدادي في تاريخه من توثيق يحيي بن معين لأبي الصلت. تاريخ بغداد: 11/ 50، ضمن ترجمة الهرويّ، كذلك في تهذيب الكمال: 18/ 73 رقم 3421 في ترجمته.

() عيون أخبار الرضا: 2/275 ح69 باب28.

() هو الشيخ محمد شريف المازندراني المتوفي سنة 1245 ه. أستاذ الشيخ الأنصاري، وقد أدرك السيد مهدي بحر العلوم رضوان الله عليه. كان يحضر درسه أكثر من ألف طالب. جواهر الكلام: 1 / 9.

() المحاسن: 2 / 359، ح 80.

الرواية صحيحة إن اعتبرنا الحسين بن أبي العلاء ثقة، كما ليس بالبعيد، وإن كان محلّ كلام بين علماء الرجال،

ولكنّه بلا شك من خيرة أصحاب الإمامين الباقر والصادق سلام الله عليهما.

() من المعروف عن الأئمّة سلام الله عليهم أنّهم لا يذكرون النصائح الحسّاسة لعامّة الناس أو إلي الذين لا يتحمّلونها، الأمر الذي يفرض علينا نحن الشيعة وأهل العلم خاصّة أن ننتبه أكثر من غيرنا ونتأمّل في كلمات المعصومين سلام الله عليهم.

() الكافي: 1 / 193 ح 6، باب أنّ الأئمة ولاة الأمر.

() كما في الحديث: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا. الوسائل: 16/ 99 ح 9، باب96.

() الكافي: 2 / 453 ح 2، باب محاسبة العمل.

() مدينة المعاجز: 5 / 307 ح 65.

() انظر عوالي اللآلي: 1/ 273 ح97.

() روي أنّ رجلا جاء إلي رسول الله صلي الله عليه وآله فقال: أخبرني ما أفضل الأعمال؟ فقال: =

= الإيمان بالله. (فقه الرضا: 376). وروي عن النبي صلي الله عليه وآله أنّه قال: أفضل الأعمال الصلاة لأوّل وقتها. (جامع المقاصد: 2 / 25). وروي أيضاً: أفضل الأعمال الحبّ في الله والبغض في الله. (مشكاة الأنوار: 222).

وأيضاً: أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس. مسكّن الفؤاد: 47.

وروي عن الإمام الحسين بن علي عليهما السلام أنّه قال: صحّ عندي قول النبي صلي الله عليه وآله: أفضل الأعمال بعد الصلاة إدخال السرور في قلب المؤمن بما لا إثم فيه. (بحار الأنوار: 44/ 194، باب26، ح7). وروي أيضاً: أفضل الأعمال الصلاة علي محمد وآله، وسقي الماء، وحبّ علي بن أبي طالب عليه السلام. (مستدرك سفينة البحار: 4 / 21).

() وهي عبارة عن ثبوت وصف أو حكم علي شخص خاصّ بحيث لا يتعدّي ذلك الوصف إلي غيره وإن كان مماثلاً له في الأوصاف؛ إذ المناط فيها هو أن يكون الحكم وارداً علي الأشخاص

لا علي العنوان الثابت في القضية الحقيقية.

() الكافي: 1 / 70 ح7، باب الأخذ بالسنّة.

() راجع ص30 -31 من الكتاب (موضوع: أكمل الإيمان).

() راجع مقاتل الطالبيين: 64.

() تهذيب الأحكام: 10/ 214 ح50، باب15 القضاء في قتيل الزحام.

() بحار الأنوار: 32 / 182، باب وقعة الجمل.

() آية الله العظمي السيد مهدي الحسيني الشيرازي قدّس سرّه.

() محمد بن مسعود العياشي من علماء الطائفة المعروفين، عاش في بغداد وتوفّي عام 320 ه، وكان ممن عاصر الشيخ الكليني فيكون بذلك من المعاصرين لفترة الغيبة الصغري حتي قريب انصرامها عام 329 ه حيث بدأت الغيبة الكبري.

() تزعّم الحوزة العلمية في مدينة قم المقدّسة بعد رحيل مؤسّسها المرحوم الشيخ عبدالكريم الحائري، ولعلّ العشرات بل المئات من الأفاضل الموجودين الآن في قم حضروا درسه أو التقوه، وهذه القصّة التي وقعت إبان مرجعيته العامّة للشيعة مدوّنة في تاريخه، ونُقلت عنه كثيراً، ومن الذين نقلوها مراراً السيد مصطفي الخونساري رحمه الله، الذي كان ملازماً له.

() أحد المساجد المعروفة في قم المقدّسة.

() كان هذا استدراكاً من سماحته بمناسبة أنّ حديث سماحته هذا كان قد صادف ليلة عرفة.

() لأنّ أداء الصلاة في أوّل وقتها مستحبّ وليس واجباً، ووقت الصلاة موّسع لايحاسب علي فواتها إن أدركه الأجل خلال الوقت، أما تقديم الاعتذار والاستحلال من العباد فهو واجب فوريّ يحاسَب المرء علي تركه إن لم يؤدّه وأدركه الموت. فلو مات الإنسان في أول الوقت ولم يصلّ الفريضة التي حلّ وقتها لايقال له لِم لَم تؤدّها؟ لأنّ الله سبحانه قد وسّع من وقت الصلاة، ولم يحصر وقت أدائها في أوّل الوقت، بل جعل لها الفضيلة في أدائها، ولايحاسَب المكلف علي الصلاة إلا إذا تركها عامداً حتي فات وقتها إلي

غيرها، أما حقّ الناس، فإن مات عنه، حوسب عليه.

() منازل الآخرة: 31.

() سورة النساء، الآية: 143.

() انظر لسان العرب: 9/ 316، مادة لطف.

() الكافي: 1/ 70، ح9، كتاب فضل العلم.

() وسائل الشيعة: 1/ 33 54، أبواب مقدّمة العبادات من كتاب الطهارة.

() المتقدم آنفاً.

() إشارة لما جاء في زيارة أميرالمؤمنين سلام الله عليه حين يقف الزائر علي باب السلام فيقول: السلام … علي ميزان الأعمال، انظر المزار: 184.

() سورة القارعة، الآية: 6 8.

() قال رسول الله صلّي الله عليه وآله: علي مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيثما دار، شرح نهج البلاغة: 18 / 72.

() شرح النهج: 2/ 282.

() سورة الفرقان، الآية: 23.

() بحار الأنوار: 67/ 198، باب 53 النيّة و شرائطها و مراتبها.

() ابحثوا عن كتب الأدعية المؤلّفة عبر مئات السنين، ربّما تجدونها بالمئات. وإنّني رأيت العشرات منها ما بين مطبوع ومخطوط، ولكنّ الملاحظ أنّ كتاب «مفاتيح الجنان» هو الوحيد الذي أصبح معروفاً لدرجة ربّما لا يعلم كثير من سواد الشيعة بوجود كتاب في الأدعية غيره!

() بحار الأنوار: 32/ 345، باب4 إحتجاجه عليه السلام علي أهل البصرة.

() أدرك أبو حمزة (واسمه ثابت بن دينار) أربعة من الأئمة المعصومين سلام الله عليهم، فقد عاصر الإمام زين العابدين والإمام الباقر والإمام الصادق والإمام الكاظم سلام الله عليهم، وهناك خلاف في كونه أدرك الإمام الحسن والإمام الحسين سلام الله عليهما. والمتيقّن أنّه أدرك أربعة من ذرية الحسين سلام الله عليه (أعني السجّاد والباقر والصادق والكاظم سلام الله عليهم). وهناك قول بأنّه أدرك الإمام الرضا سلام الله عليه أيضاً، لأنّ هناك روايات تقول بأنّه كان أيّام الإمام زين العابدين سلام الله عليه شابّاً وأيّام الإمام الكاظم سلام الله

عليه شيخاً كبيراً.

وكان لأبي حمزة الثمالي أولاد من خيرة أصحاب الأئمة، فكانوا خيرة الأولاد ومن خيرة آباء، وهم محمد وعلي وهما ثقتان، وكان عنده ابن يسمّي حسيناً، وسبط بهذا الاسم أيضاً، ولكن اختلف علماء الرجال هل حسين هذا هو ابنه أو سبطه أم هما اثنان؛ قال العلامة المجلسي وجماعة إنّهما شخصان أحدهما ابنه والآخر ابن بنته، وكلاهما ثقتان.

() رجال الكشي: 33، ح61.

() روي عن أميرالمؤمنين سلام الله عليه أنّه قال: إتّق الله في نفسك ونازع الشيطان قيادك واصرف الي الآخرة وجهك، واجعل لله جدّك. (غرر الحكم ودررالكلم: 269 رقم 5840).

() فلو لم يكن الشيخ الطوسي أو الشيخ المفيد أو المحقق الحلّي مثلاً يذكرون أسماءهم علي مؤلّفاتهم وكتبهم فتُعرف أنّها لهم لما اعتُمِد عليها ولا حصل الاطمئنان بها والرجوع إليها.

() كما لو تزوّج شخص بامرأة بعد البحث والسؤال ثمّ تبيّن له أنّ الواقع يخالف ما قيل له؛ أو تلميذ يثق بأستاذ ثمّ يتبين له بعد ذلك أنّه لم يكن لائقاً، أو العكس، أو شخص يتعب نفسه سنين طويلة في جمع ثروة كبيرة، ثمّ يبدو له أن يحوّلها إلي عملة قويّة كالدولار مثلاً = = ويتبيّن له بعد فترة أنّ تلك العملة التي استلمها كانت مزوّرة، أو سجّلت في السوق هبوطاً مريعاً بحيث ذهبت بأرباح سنين طويلة من التعب والعناء في التجارة والكسب.

أعرف شخصين كانا صديقين لسنوات طويلة وكان كلّ منهما يثق بالآخر تمام الثقة، ولكنّهما اختلفا بعد ذلك عندما كبر سنّهما حتي انتهي بهما الأمر إلي أن اشتكي كلّ منهما علي الآخر واستمرّا علي الشكوي وصرفا الأموال ولم يتصالحا أو يصلا إلي نتيجة إلي أن ماتا. قال لي أحدهما مندهشاً ذات مرّة: إنّني أعرف فلاناً (يعني

صاحبه) منذ أربعين سنة وكنت أثق به كثيراً، فكيف تصرّف معي هكذا؟! وكان يتساءل: هل كانت ثقتي به كلّ هذه المدّة في غير محلّها؟

() بحار الأنوار: 67 / 196، باب النيّة وشرائطها ومراتبها.

() كما في الدعاء: اللهم اجعلني من أهل الجنّة التي حشوها البركة (وسائل الشيعة: 7 / 398. الدعاء بعد صلاة النافلة في يوم الجمعة). و «حشوها البركة» أي ملؤها وكلّ ما في داخلها بركة، فما من شيء فيها إلا وهو مبارك، والبركة تعني النعمة الدائمة ولا توجد نعمة دائمة في الدنيا لأنّها لا محالة تنتهي بموت الإنسان مهما طال به العمر. أمّا الجنّة فنعيمها دائم.

() سورة التوبة، الآية: 72.

() منازل الآخرة: 31.

() سورة التوبة، الآية: 51. وروي عن الامام زين العابدين سلام الله عليه أنّه قال: الرضا بمكروه القضاء من أعلي درجات اليقين. التمحيص: 60 ح131.

() سورة البقرة، الآية: 183.

() سورة المائدة، الآية: 3.

() سورة آل عمران، الآية: 31.

() أعرف شخصين كانا صديقين حميمين توفّي أحدهما والآخر أخبرني بما كان منه من إساءة الظنّ بالأوّل في حياته بسبب بعض القرائن وصرّح له بذلك أيضاً، لأنّه كان يزعم أنّه متيقّن من الأمر، وبعد موته انكشف له أنّ ظنه كان خاطئاً وأنّ صديقه كان بريئاً! فتألّم كثيراً لذلك، ولقد رأيته يبكي بحرقة، وعندما سألته عن السبب؟ قال لي: أنا لا أبكي لموته ولكن لما صارحته به من فقدان ثقتي به، مع أنّ الأمر كان خلاف الواقع. فمثل هذا الشخص يبقي معذّباً إذا كان صاحب وجدان وضمير حيّ.

() سورة الفرقان، الآية: 77.

() الصحيفة السجّادية، دعاء 13 في التوبة.

() أي وضع نفسه مكان السائل ليبيّن فداحة الأمر لنا.

() سورة النجم، الآية: 39.

() سورة الفرقان، الآية: 77.

() بحار

الأنوار: 75 / 346، باب26 مواعظ الرضا عليه السلام، ح4.

() سورة الأحزاب، الآية: 21.

() لقد رأيت أخيراً كتاباً لأحد المستشرقين مترجماً في إحدي البلاد الإسلامية، وكانت الترجمة مطبوعة عدّة طبعات حتي أنّ النسخة التي حصلت عليها كانت من الطبعة السابعة أو الثامنة! يختلق الكاتب علي رسول الله صلي الله عليه وآله أموراً ما تُنبئ عن استمرار النفَس اللاأخلاقي الذي كال التهم لأنبياء الله ورسله من قبل، مع أنّ كلّ كتب التاريخ بما فيها كتب المنصفين من المستشرقين تشهد أنّ رسول الله صلي الله عليه وآله هو أطهر إنسان خلقه الله. فمن الذي يجب أن يتصدّي للردّ علي مثل هذه التخرّصات، خصوصاً وهي تحدث في بلد إسلامي وتشجِّع عليه، حتي أنّها طبعت هذا الكتاب وفي مدينة واحدة من مدنها أكثر من سبع طبعات.

() سورة القلم، الآية: 4.

() سورة التحريم، الآية: 4.

() وسائل الشيعة: 11/ 150، باب11 وجوب الرجوع في القضاء … رقم 33458.

() وسائل الشيعة: 20 / 21، باب2 كراهة العزوبة وترك التزويج، ح24921.

() سورة الذاريات، الآية: 56.

() هو أحمد بن محمد بن أبي نصر، من أصحاب الإمام الكاظم والإمام الرضا سلام الله عليهما وقيل: إنّه أدرك الإمام الجواد سلام الله عليه أيضاً. وهو أحد ثلاثة أشخاص ثانيهما محمد بن عمير، والثالث صفوان بن يحيي، انعقد إجماع الفقهاء علي العمل برواياتهم.

() بحار الأنوار: 68/ 321. روي الكليني رحمه الله في الكافي رواية بسندين معتبرين عن البزنطي، في سلسلتها عبارة «عن بعض رجاله» وهذا معناه أنّ أحد الرواة مجهول، ولكن الشيخ الطوسي رضوان الله عليه ذكر أنّ إجماع الطائفة جري علي العمل بما رواه البزنطي إلا ما خرج بدليل. وهناك روايات كثيرة بهذا المضمون ولكن إن قلنا

إنّ بعضها غير معتبر سنداً فهذه الرواية معتبرة سنداً؛ لما تقدّم.

() قال المجلسيّ رحمه الله: وفي قدرته عطف تفسيري لقوله في الله فإنّ التفكّر في ذات الله وكنه صفاته ممنوع. (بحار الأنوار: 68/ 321 ح3، باب80 المنكر والإعتبار والاتّعاظ).

() وسائل الشيعة: 15 / 197 باب5 استحباب التفكر، رقم 20265.

() الكافي: 2/ 77، ح5، باب الورع.

() إشارة الي آية الله العظمي السيّد ميرزا مهديّ الحسيني الشيرازي قدّس سرّه.

() الكافي: 2/ 222، باب الكتمان.

() روضة الواعظين: 454.

() مكارم الأخلاق: 446، في موعظة رسول الله صلي الله عليه وآله لابن مسعود.

() سورة التوبة، الآِية: 59.

() سورة التوبة، الآية: 74.

() كما ذكر ذلك وفصّله الشيخ الرضي(رضي الله عنه) في شرحه علي الكافية، وورد البحث في كتب اللغة إجمالاً.

() الكافي: 140 /2 باب الكفاف.

مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وآله بِرَاعِي إِبِلٍ، فَبَعَثَ يَسْتَسْقِيهِ، فَقَال: أَمَّا مَا فِي ضُرُوعِهَا فَصَبُوحُ الْحَيِّ، وأَمَّا مَا فِي آنِيَتِنَا فَغَبُوقُهُمْ. فَقَال رَسُولُ اللَّه صلي الله عليه وآله: اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ ووُلْدَهُ. ثُمَّ مَرَّ بِرَاعِي غَنَمٍ فَبَعَثَ إِلَيْهِ يَسْتَسْقِيهِ فَحَلَبَ لَهُ مَا فِي ضُرُوعِهَا وأَكْفَأَ ما فِي إِنَائِهِ فِي إِنَاءِ رَسُولِ اللَّه صلي الله عليه وآله وبَعَثَ إِلَيْهِ بِشَاةٍ وقَال: هَذَا ما عِنْدنا وإِنْ أَحْبَبْت أَن نَزِيدكَ زِدناك؟ فَقَال: رَسُولُ اللَّه صلي الله عليه وآله: اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ الْكَفَاف. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يا رَسُولَ اللَّهِ دَعَوْتَ لِلَّذِي رَدَّكَ بِدُعَاءٍ عَامَّتُنَا نُحِبُّهُ، ودَعَوْتَ لِلَّذِي أَسْعَفَكَ بِحَاجَتِكَ بِدُعَاءٍ كُلُّنَا نَكْرَهُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلي الله عليه وآله: إِنَّ مَا قَلَّ وكَفَي خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وأَلْهَي، اللَّهُمَّ ارْزُقْ مُحَمَّداً وآلَ مُحَمَّدٍ الكَفَاف.

() إذا تمعّنتم في كلمات الزيارة التي يزورها الإمام خاصّة وتلك التي يعلّمها الأصحاب والشيعة لرأيتم بعض

الفرق، فمثلاً توجد في زيارة أنصار الإمام الحسين سلام الله عليه في آخر زيارة الإمام الحسين سلام الله عليه المعروفة بزيارة «وارث» عبارة: بأبي أنتم وأمّي، يخاطب بها أنصار الإمام الحسين سلام الله عليه. ولو نظرتم إلي سند هذه الزيارة لرأيتم أنّها الزيارة التي علّمها الإمام الصادق سلام الله عليه صفوان وقال له: زر بهذه الزيارة (يعني زيارة وارث). أما الإمام الصادق سلام الله عليه وهو إبن المعصوم فلا ينبغي أن يخاطب غير المعصوم مهما عظم قدره بقوله: بأبي أنت وأمّي، إذن فهو سلام الله عليه قد زار جدّه الحسين سلام الله عليه بزيارة أُخري. وهذه من النكات اللطيفة.

() تهذيب الأحكام: 6/ 327 ح902، باب93 المكاسب.

() من لا يحضره الفقيه: 2/ 68 ح1741، باب فضل الصدقة.

() بحار الأنوار: 13/ 354، ح52، باب4 بعثة موسي وهارون عليهما السلام.

() تذكرة الفقهاء: 20/ 297.

() الكافي: 5/ 77، باب ما يجب من الإقتداء بالأئمة.

() ميزان الحكمة: 3/ 3220.

() عوالي اللآلئ: 2 / 71، ح184.

() سورة النجم، الآية: 39.

() سورة الفرقان، الآية: 77.

() كما في دعاء الإمام الحجّة بن الحسن عجّل الله تعالي فرجه الشريف المستحبّ قراءته في ليالي شهر رمضان المبارك، والمعروف بدعاء الافتتاح، من قوله: ولعلّ الذي أبطأ عنّي هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور. (إقبال الأعمال: 1/ 139).

() سورة الحديد، الآية: 23.

() الخصال للصدوق: 420، ح14، باب التسعة.

() تحف العقول: 215.

() الجواهر السنية: 79.

() بحار الأنوار: 67/ 210، باب53 النيّة وشرائطها.

() بحار الأنوار: 44: 23 الباب 18 / ح 7.

() اللهوف في قتلي الطفوف: 42.

() شجرة طوبي: 75.

() مكارم الأخلاق: 441.

() الكافي: 5/ 63، باب كراهة التعرّض لما لا يطيق.

() كان رجلاً علي دين موسي عليه السلام

وكان عنده اسم الله الأعظم، إذا دعا الله تعالي به أجابه، فمال إلي فرعون، فأخذ منه الإسم الأعظم. انظر تفسير مجمع البيان: 4/ 394 مورد الآية 175 من سورة الأعراف.

() سورة الأعراف، الآية: 175.

() بحار الأنوار: 2/ 37 ح50، باب9 استعمال العلم والإخلاص.

() رسالة في العدالة: 268.

() سورة الشعراء، الآية: 22.

() سورة الشعراء، الآية: 18.

() سورة النساء، الآية: 125.

() سورة آل عمران، الآية: 26.

() مكارم الأخلاق: 464، وصاياه صلي الله عليه وآله لأبي ذر.

() بحار الأنوار: 46/ 75، ح65، باب مكارم أخلاق الإمام السجاد وعبادته صلوات الله وسلامه عليه.

() ورد في دعاء الصباح للإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه: وصلّ اللهم علي الدليل إليك في =

= الليل الأليل والثابت القدم علي زحاليفها في الزمن الأول يعني به الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله. (مفاتيح الجنان دعاء الصباح).

() روي عن الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله أنّه قال: يا علي إنّ الدنيا لو عدلت عند الله تبارك وتعالي جناح بعوضة لما سقي الكافر منها شربة من ماء. من لا يحضره الفقيه: 4/ 362.

() سورة التوبة، الآية: 25.

() سورة الحديد، الآية: 20.

() إشارة الي قوله تعالي: ?يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين? الحجرات: 17.

() سورة الحديد، الآية: 11.

() سورة النور، الآية: 40.

() بحار الأنوار: 7/ 285، باب13 ما يحتجّ الله به علي العباد.

() سورة الأنعام، الآية: 149.

() الأمالي للمفيد: 227 ح6 مجلس 26.

() بحار الأنوار: 68 / 54، ح86، باب61.

() سورة العنكبوت، الآية: 64.

() مستدرك الوسائل: 8 / 424، ح14، باب وجوب كفّ الأذي عن الجار.

() روي عَنْ مُعَلَّي بْنِ خُنَيْس قَالَ: خَرَجَ أَبُو

عَبْد اللَّه عليه السلام في لَيْلَة قَدْ رُشَّتْ وَهُوَ يُريدُ ظُلَّةَ بَني سَاعدَةَ فَاتَّبَعْتُهُ فَإذَا هُوَ قَدْ سَقَطَ منْهُ شَيْ ءٌ. فَقَالَ: بسْم اللَّهِ اللَّهُمَّ رُدَّ عَلَيْنَا. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فسَلَّمْتُ عَلَيْه، قَالَ فَقَالَ: مُعَلًّي! قُلْتُ: نَعَمْ، جُعلْتُ فدَاكَ. فَقَالَ لي: الْتَمسْ بيَدكَ فَمَا وَجَدْتَ منْ شَيْ ء فَادْفَعْهُ إلَيَّ. فَإذَا أَنَا بخُبْزٍ مُنْتَشر كَثِير فَجَعَلْتُ أَدْفَعُ إلَيْه مَا وَجَدْتُ، فَإذَا أَنَا بجراب أَعْجزُ عَنْ حَمْله منْ خُبْز، فَقُلْتُ: جُعلْتُ فدَاكَ أَحْملُهُ عَلَي رَأْسي؟ فَقَالَ: لا أَنَا أَوْلَي به منْكَ وَلَكن امْض مَعي. قَالَ: فَأَتَيْنَا ظُلَّةَ بَني سَاعدَةَ فَإذَا نَحْنُ بقَوْم نيَام فَجَعَلَ يَدُسُّ الرَّغيفَ وَالرَّغيفَيْن حَتَّي أَتَي عَلَي آخرهمْ ثُمَّ انْصَرَفْنَا. فَقُلْتُ: جُعلْتُ فدَاكَ يَعْرفُ هَؤُلاء الْحَقَّ؟ فَقَالَ: لَوْ عَرَفُوهُ لَوَاسَيْنَاهُمْ بالدُّقَّة. وَالدُّقَّةُ هِيَ الْمِلْحُ. (الكافي: 4/ 9، باب صدقة الليل).

() ومن ذلك قول الله تعالي: ?يَدُ اللهِ فَوْق أيْدِيهِمْ? (سورة الفتح، الآية: 10) والمقصود قدرة الله تعالي وسلطته ومكنته وكذلك فضله ونعمته لأن الله تعالي ليس له يد كأيدينا أو غير ذلك من الأعضاء.

() انظر مصباح الكفعمي: 647 فصل46، من أدعية ليلة الجمعة.

() سورة البقرة، الآية: 264.

() سورة البقرة، الآية: 276.

() سورة آل عمران، الآية: 141.

() سورة آل عمران، الآية: 141.

() مستدرك الوسائل: 7/ 234، باب34 عدم جواز المنّ في الصدقة.

() سورة مريم، الآية: 5.

() سورة الفرقان، الآية: 74.

() فقولهم: «عقد» يعني أنّها ليست إيقاعاً، والفرق بين العقد والإيقاع أنّ الأول لا يتقوّم إلا بطرفين؛ إيجاب وقبول. فالواهب يقول: وهبت، والذي تنتقل إليه الهبة يقول: قبلت، خلافاً للإيقاع فإنّه لا يُشتَرط فيه القبول. وخرج بقولهم: بلا عوض مثل البيع فإنّه تمليك بعوض، فلو قال الواهب: وهبتك كذا، وسكت، دون أن يضيف عبارة (بلا عوض)، فلا يقدح

ذلك في العقد؛ لأنّ مقتضي الهبة أن يكون بلا عوض، وإلا لم يكن هبة. فذِكر هذا القيد في التعريف إنّما هو علي نحو الإقتضاء وليس العلية التامّة، أي أنّ الهبة بطبعها تقتضي أن تكون بلا عوض.

() يقال والشيء بالشيء يذكر: إنّ مَلِكاً قال لرجل وكان زاهداً مبتعداً عنه: لماذا لا تأتيني وأنت عبدي؟ عجب الزاهد وقال: كيف أصبحتُ عبداً لك؟! قال الملك: ألستَ من رعاياي. قال الزاهد: وكيف أكون عبداً لك وأنت عبد عبدي؟ قال الملك مستغرباً غاضباً: وكيف ذلك؟! قال: أنت عبد الهوي وأنا سيّد الهوي، فأنت عبد لعبدي!

() مستدرك الوسائل: 11 / 187، الباب 6، الحديث 2.

() بحار الأنوار: 44 /283 باب 34.

() البلد الأمين: 284 أدعية شهر شعبان.

() اللهوف في قتلي الطفوف: 97.

() سورة النحل، الآية: 53.

() سورة آل عمران، الآية: 26.

() سورة الذاريات، الآية: 58.

() سورة النجم، الآية: 39.

() سورة الفرقان، الآية: 77.

() من لا يحضره الفقيه: 1: 487 باب دعاء قنوت الوتر …

() سورة القيامة، الآية: 37.

() نهج البلاغة: 550 رقم 419 الحكم القصار.

() وسائل الشيعة: 4 / 286 الباب 61 ح 5176.

() الكافي: باب النوادر: 260.

() سورة سبأ، الآية: 13.

() سورة ص، الآية: 24.

() سورة النساء، الآية: 78.

() سورة النساء، الآية: 79.

() سورة الزمر، الآية: 23.

() سورة القصص، الآية: 56.

() سورة البلد، الآية: 10.

() قال تعالي: ?فأمّا من أعطي واتّقي ? وصدّق بالحسني ? فسنيسّره لليسري ? وأمّا من بخل واستغني ? وكذّب بالحسني ? فسنيسّره للعسري? سورة الليل، الآية: 5 10.

() سورة النصر، الآية: 1.

() كان رسول الله صلّي الله عليه وآله يذهب بشخصه الكريم إلي القبائل والوفود الذين كانوا يأتون إلي مكّة في موسم الحج - وكان

الحجّ موجوداً قبل الإسلام ولكن الإسلام خلّصه من الطقوس الوثنية - فكان صلّي الله عليه وآله يعرض عليهم الإسلام فكان بعضهم يرفض =

= وقسم قليل يقبل دعوته، وكان بعضهم يسيء الأدب مع النبي صلّي الله عليه وآله وربما لا يدعه يتكّلم.

تصوّر كم كان الأمر صعباً في البداية، وكم كان يعني الدخول في الإسلام؛ وهذا يعني أنّ الهدي الصالح والطريقة الحقّة التي كان عليها غالب المسلمين الأوائل، أعني تلك الثلّة المؤمنة منهم، لم تكن تقليداً أو من باب «حشر مع الناس عيد» بل كان إطارها النيّة الصادقة والعقيدة الراشدة.

() سورة الحديد، الآية: 10.

() سورة الأعراف، الآية: 17.

() تفسيرالقمي: 1 / 180.

() بحار الأنوار: 33/ 368، باب23، ح606.

() نهج البلاغة: 46 الخطبة 2 بعد انصرافه من صفّين.

() أي حسبك.

() الأمالي للمفيد: 3 ح 3، المجلس الأوّل.

() قال رسول الله صلي الله عليه وآله: إنّ الشيطان ليجري من ابن آدم مجري الدم … (مستدرك الوسائل: 16/ 220 ح 16، باب93 صحّة التوبة في آخر العمر).

() شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 73.

() قال المسعودي: في أيّام عثمان اقتني الصحابة الضياع والمال، فكان له لعثمان يوم قُتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القري وحنين وغيرهما مائتا ألف دينار، وخلّف إبلاً وخيلاً كثيرة. تاريخ ابن خلدون: 1 / 204.

() بحار الأنوار: 38 / 74، باب 60.

() قال ابن يعفور: قلت لأبي عبد الله (الصادق) عليه السلام: بما يعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتي يقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال: أن يعرفوه بالستر والعفاف والكفّ عن البطن والفرج واليد واللسان، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار من شرب الخمر والزنا والربا

وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك، والساتر لجميع عيوبه. (بحار الأنوار: 85 / 38)

() فقد حرّم معظم الفقهاء رضوان الله عليهم علي المؤمن الخروج بلباس الشهرة إلي المحالّ العامّة= = وهو اللباس الذي يوجب أن يعيّره الناس بسببه، ومن لم يحرِّمه منهم عدَّه مكروهاً. ومما يؤكّد حرمة الشهرة روايات عديدة عن المعصومين سلام الله عليهم منها رواية عن الإمام الصادق عليه السلام؛ حيث يقول: الشهرة خيرها وشرُّها في النار (الكافي: 6 / 444 باب كراهية الشهرة، ح 3).

() فقد ورد عن الإمام الصادق سلام الله عليه: أحبّ إخواني إليّ من أهدي إليّ عيوبي. تحف العقول: 366.

() أحد كبار فقهاء الشيعة ومراجع التقليد في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، تلمّذ علي الشيخ الأنصاري ومن بعده تلمّذ هو ومجموعة زملاء له - منهم الآخوند الخراساني- علي المجدّد الشيرازي، وصاروا كلّهم مراجع تقليد، وبقي الشيخ محمد طه نجف مرجعاً أعلي للتقليد حتي وفاته ثمّ انتقلت المرجعية بعده إلي الآخوند الخراساني.

() الكافي: 2 / 453 باب محاسبة العمل ح 2.

() الكافي: 614 باب ترتيل القرآن. والترقوتان هما العظمان المكتنفان بالحلقوم.

() روي عن رسول الله صلّي الله عليه وآله أنّه قال: ربّ تال للقرآن والقرآن يلعنه. مستدرك وسائل الشيعة: 4 / 249 باب 7 ح 2.

() عن علي بن أبي حمزة قال كان لي صديق من كتاب بني أمية فقال لي استأذن لي علي أبي عبد الله سلام الله عليه فاستأذنت له فلما دخل سلّم وجلس ثمّ قال: جعلت فداك إني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً وأغمضت في مطالبه، فقال أبو عبد الله سلام الله عليه: لولا أنّ بني أميّة وجدوا من يكتب لهم

ويجبي لهم الفي ء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقّنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلا ما وقع في أيديهم … بحار الأنوار: 138 / 47 باب 5. مرّ تفصيل القصّة في صفحة 36.

() يقول علماء الأخلاق: إنّ كلّ فضيلة هي وسط بين رذيلتين هما الإفراط والتفريط. فالكرم وسط بين البخل والإسراف، والشجاعة وسط بين الجبن والتهوّر، وهكذا. وكلّ شيء جاوز حدّه انقلب إلي ضدّه. ومثال ذلك وضع الملح في الطعام فإنّ زيادة الكمية نقصٌ كما نقصانها. فالفضائل مطلوبة، ولكن ضمن حدودها، فإن تجاوزتها انقلبت إلي أضدادها.

() سورة الكهف، الآية: 79.

() وهو أنّه سؤال العارف الذي يعرف الشيء ولكنّه يسأل ليفهمه الناس.

ويلاحظ أنّ الإمام لم يقل: «ما أفضل هذه الأعمال؟» بل قال: ما أفضل الأعمال؟ أي أعمّ ممّا ذكره النبي صلي الله عليه وآله في الخطبة، فإنّ الجمع المحلّي ب «أل» ظاهر في العموم.

() راجع الأمالي للصدوق: 153 ح 4 المجلس العشرون (تمام الخطبة).

() نهج البلاغة: 203 رقم 193.

() سورة النجم، الآية: 39.

() سورة الإسراء، الآية: 7.

() عيون الحكم والمواعظ: 66 الفصل الأوّل مما أوّله الألف واللام.

() الأمالي للصدوق: 153 ح 4 المجلس العشرون.

() سورة الزلزلة، الآية: 7 - 8.

() راجع ثواب الأعمال: 280 - 295 (ضمن خطبة طويلة).

() فقه القرآن: 2 / 33 باب المكاسب المباحة.

() بحار الأنوار: 68 / 259، باب73 رقم 3.

() الكافي: 2/ 453 ح2 باب محاسبة النفس.

() الفضائل لابن شاذان: 154 ضمن حديث طويل.

() مستدرك الوسائل: 1/ 125 ح 10، باب18، تأكّد استحباب الجدّ والإجتهاد.

() سورة الكوثر، الآية: 3.

() سورة النساء، الآية: 79.

() سورة النجم، الآية: 39.

() سورة الفرقان، الآية: 77.

() سورة فصّلت، الآية: 34.

() سورة

فصلّت، الآية: 35.

() تحف العقول: 50.

() وربما لوحظ المعنيان في كلمة (دنيا)، لأنّ الدنيا تلي الآخرة، فهي أقرب بالنسبة لنا من الآخرة، فيقال إنّها دنيا أي دانية قريبة بالنسبة لنا، وإنّها دنيئة المنزلة أيضاً قياساً إلي سموّ الآخرة ورفعتها، فمن هذا الباب سمّيت (دنيا)..

() الكافي: 2 / 173 ح 13 باب حق المؤمن علي أخيه وأداء حقّه.

() سورة المائدة، الآية: 56.

() سورة الشوري، الآية: 23.

() سورة النمل، الآية: 14.

() نُقل عن شخص أنّه كتب رسالة جوابية لشخص دنيء ضمّنها عبارة تغيظه، فكانت النتيجة أن ألحق به ذلك الدنيء أضراراً كبيرة، وعندما سئل الشخص: لماذا كتبت تلك العبارة؟ أجاب: أردت أن أُغيظه لأنّي كنت أعرف أنّه يتأذّي منها كثيراً فتعمّدت إيذاءه!

فمثل هذا الشخص لم يعمل ما من شأنه أن يجنّبه عداوة الأدنين.

() نهج البلاغة: 4/ 41 رقم 159. وفيه عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومنّ من أساء به الظنّ.

() الكافي: 8/ 113، حديث آدم مع الشجرة.

() في مدينة قم المقدّسة.

() انظر الاختصاص للمفيد: 87.

() سورة آل عمران، الآية: 61.

() روي عن أبي محمد عليه السلام، أنّه قال لأبي علي حين سأله عن العمري وابنه: العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عني فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان. الكافي: 1 / 329 ح1 باب في تسمية من رآه الإمام.

() انظر: نهج البلاغة: 385 رقم 28 من كتاب له عليه السلام إلي معاوية جواباً. وفيه قوله عليه السلام: فإنا صنائع ربّنا، والناس بعد صنائع لنا …

() الدعوات: ص220.

() سورة القلم، الآية: 4.

() الكافي: 2/ 117 ح 5، باب المداراة، وفيه عن رسول الله

صلي الله عليه وآله أنّه قال: مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش.

() مما يُذكر في هذا المجال: أنّ فصحاء العرب وبلغاءهم اجتمعوا في الجاهلية ليصوغوا جملة تكون رادعة للقتل والتناحر، وبعد نقاش ومداولة طويلة، أقرّوا عبارة (القتل أنفي للقتل) بعد أن أُعجبوا بها كلّ الإعجاب من حيث اللفظ وقلّة عدد الحروف وعمق المعني، ولكنّ الله عزّ وجلّ أنزل علي رسوله الكريم صلي الله عليه وآله آية القصاص التي قال فيها: ?وَلَكُمْ فِي الْقَصَاصِ حَيَاةٌ يَا أولِي الألْبَابِ? (سورة البقرة، الآية: 179) فأمر النبيُّ صلي الله عليه وآله أصحابَه أن تكتب هذه العبارة من الآية ?فِي الْقَصَاصِ حَيَاةٌ? وتعلّق علي جدار الكعبة إلي جانب عبارة كفّار قريش التي كانت معلّقة في المكان نفسه، وجاء فصحاء القوم فرأوا الآية، ورأوا أنّ لفظها أبلغ وأجزل، ومعناها أتمّ وأجمل من عبارتهم فرفعوا لوحتهم، وذلك لأنّهم لاحظوا أنّه لا تكرار في الآية فضلاً عن عمق المعني المؤدّي بكلمة (القصاص) وأرجحيّتها علي كلمة (القتل)، وفضلاً عن وجود كلمة (الحياة) ومعطياتها التي تفتقر إليها عبارتهم، ممّا جعلهم يرضخون لبداعة الأُسلوب القرآني وإعجازه.

() شجرة طوبي: 2 / 368 المجلس الخامس والأربعون.

() كشف اللثام: 2 / 533.

() مستدرك الوسائل: 16/ 210 ح 6، باب1 كراهة كثرة الأكل.

() صحيح أنّ الله تعالي قد يسلّط ظالماً علي ظالم في بعض الموارد ليري الظالم ظلمه من خلال ظالمه، مصداقاً لقول رسول الله صلّي الله عليه وآله: من أعان ظالماً سلّطه الله عليه. الخرائج والجرائح: 3/ 1058. ولكن هذا لا يعني كرامة له من الله أو استجابة لدعائه بل يكون من قبيل قول الإمام الصادق عليه السلام: «ما انتصر الله من ظالم إلاّ بظالم وذلك قول

الله عزّ وجلّ: (وكذلك نولّي بعض الظالمين بعضاً) الكافي: 2 / 334 ح19 والآية 129 من سورة الأنعام.

() الوسائل: 11/ 113 ح1 باب تحريم قتال المسلمين علي غير سنّة- كتاب الجهاد.

() سورة النمل، الآية: 14.

() روي أن رجلا من نسل عمر بن الخطاب كان يشتم علي بن أبي طالب عليه السلام إذا =

= رأي موسي بن جعفر عليه السلام، ويؤذيه إذا لقيه. فقال له بعض مواليه وشيعته: دعنا نقتله، فقال: لا، ثمّ مضي راكباً حتي قصده في مزرعة له فوطأها بحماره، فصاح لا تدس زرعنا، فلم يصغ إليه، وأقبل حتي نزل عنده فجلس معه وجعل يضاحكه، وقال له: كم غرمت علي زرعك هذا؟ قال: مائة درهم. قال: فكم ترجو أن تربح؟ قال: لا أدري. قال: إنّما سألتك كم ترجو؟ قال: مائة أخري. قال: فأخرج ثلاثمائة دينار فوهبها له. فقام فقبّل رأسه، فلما دخل المسجد بعد ذلك وثب العمري فسلّم عليه وجعل يقول: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) سورة الأنعام، الآية: 124. فوثب أصحابه عليه وقالوا: ما هذا؟ فشاتمهم، وكان بعد ذلك كلما دخل موسي خرج يسلّم عليه ويقوم له. فقال موسي لمن قال ذلك القول: أيّما كان خيراً، ما أردتم أو ما أردت؟ مقاتل الطالبيين: 332.

() مثل زهير بن القين، الذي ذُكر في كتب السير أنّه كان عثماني الهوي، أي من الذين يطالبون إمام الهدي علي بن أبي طالب بدم عثمان، غير أنّ التاريخ أثبت أنّه لم يكن معانداً للحقّ، وأنّ انحرافه لم يكن عن تقصير بل كان عن قصور. ومثله الحرّ بن يزيد الرياحي الذي كان في جيش يزيد ووقف أمامَ أبي عبد الله الحسين عليه السلام حتي أورده أرض كربلاء.

() سورة البقرة، الآية:

146.

() سورة آل عمران، الآية: 54.

() راجع الفروق اللغويّة: 206 207 رقم 814 و 815 الفرق بين الحيلة والمكر.

() سورة البقرة، الآية: 194.

() راجع لسان العرب: 5/ 183 مادّة مكر.

() من لا يحضره الفقيه: 4/ 378 رقم 5794 من ألفاظ رسول الله صلي الله عليه وآله التي لم يسبق إليها.

() أعلام الوري: 225.

() مستدرك الوسائل: 9/ 24 رقم 9، باب102 وجوب حفظ اللسان.

() قال ابن مالك في ألفيّته: طا، ت «افتعال» رُدّ إثر «مطبقِ»

أي إذا جاء تاء الافتعال بعد حرف من حروف الإطباق كالضاد مثلاً، وجب إبداله طاءً. انظر شرح ابن عقيل: 2 / 581 – 582 في إبدال حرف التاء طا.

() سوي أولئك الذين عصمهم الله وجعلهم حججاً علي عباده.

() سورة هود، الآية: 119.

() سورة النجم، الآية: 39.

() نهج البلاغة: 416 من كتاب له سلام الله عليه إلي عثمان بن حنيف.

() الكافي: 2 / 453.

() منتهي الآمال: 2/ 555.

() سورة الشمس، الآية: 10.

() سورة آل عمران، الآية: 163.

() قال جابر بن عبد الله: قلت لأمير المؤمنين عليه السلام …: يا مولاي، لمن تكلّم، ولمن تخاطب وليس أري أحداً؟ فقال: يا جابر، كشف لي عن برهوت فرأيت شيبويه وحبتر وهما يعذّبان في جوف تابوت في برهوت، فنادياني: يا أبا الحسن، يا أمير المؤمنين، ردّنا إلي الدنيا نقرّ بفضلك، ونقرّ بالولاية لك. فقلت: لا والله، لا فعلت، لا والله، لا كان ذلك أبداً، ثمّ قرأ قوله تعالي: ?ولو رُدّوا لعادوا لما نُهوا عنه وإنّهم لكاذبون?. بحار الأنوار: 27/ 306، ح11، باب7.

() شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6 / 53 رقم 67 من كلام له سلام الله عليه لما قلّد محمد بن أبي بكر مصر.

() محاسبة

النفس: 11.

() غرر الحكم: 239 رقم 4827 الإدبار عن نفسك الأمّارة بالسوء.

() منية المريد: 200 رقم 17 إيصاء الطالب بالرفق.

() نهج البلاغة: 416 420 رقم 45.

() الكافي: 7/ 435، باب كراهة اليمين.

() الأشهر الحرم: ذو القعدة، ذو الحجة، محرّم، ورجب.

() يعني: عشر ذي الحجّة. إقبال الأعمال: 317.

() سورة الحج، الآية: 28.

() سورة البقرة، الآية: 203.

() مصباح الشريعة الإمام الصادق سلام الله عليه: 19

() الفروق اللغوية: 109، رقم 429.

() سورة الحج، الآية: 3 4.

() فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: إنّ لله عزّ وجلّ لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه، فإذا دعوت فأقبل بقلبك، ثمّ استيقن بالإجابة. الكافي: 2 / 473 ح1، باب الإقبال علي الدعاء.

() سورة الأعراف، الآية: 26.

() سورة الإسراء، الآية: 29. وهذا تعبير أدبيّ رفيع فيه إشارة إلي أنّ عنق الإنسان مساوٍ لحياته كما جاء أيضاً في قوله تعالي: ?فكّ رقبة? (سورة البلد، الآية: 13) والمقصود تحرير إنسان فكأنّ البخيل عندما يريد أن ينفق كمن يراد قطع عنقه، وهذا يعني أنّ البخيل يجعل المال كلّ حياته.

() تفسير العياشي: 2/ 289 مورد الآية

عن ابن سنان عن أبي عبد الله سلام الله عليه في قوله تعالي: ?ولا تجعل يدك مغلولة إلي عنقك? قال: فضمّ يده وقال: هكذا، فقال: ?ولا تبسطها كلّ البسط? وبسط راحته وقال: هكذا.

() عوالي اللآلي: 4/ 103.

() عيون الحكم والمواعظ: 284.

() بحار الأنوار: 75/ 83 ح87، باب16.

() دعائم الإسلام: 1/ 82.

() السفود: حديدتان يوضع بينهما اللحم ويسدّان من أسفلهما ثمّ يوضعان في التنور لكي يستوي اللحم ويشوي.

() مسكّن الفؤاد: 61.

() سورة آل عمران، الآية: 134.

() الإرشاد: 145، باب ذكر طرف من أخبار علي بن الحسين عليهما السلام.

() سورة البقرة،

الآية: 213.

() الغارات: 2 / 487.

() هو من علماء العامّة المعروفين ومن التابعين، وكان ممّن يحضر عند الإمام السجّاد سلام الله عليه.

يجلّه العامّة كثيراً ويذكرونه بعبارات المدح والإطراء، فيقولون مثلاً: لقي من أصحاب رسول الله صلّي الله عليه وآله كذا، وروي عنهم الحديث، ويقولون: كتب عمر بن عبد العزيز إلي الآفاق: أنّه لا يوجد من هو أعلم من الزهري، ومن كان طالباً للدين فليأخذه من الزهري و …

أمّا نحن الإمامية فرأيُنا فيه مختلف، ونعتقد أنّ حضوره عند الإمام السجّاد سلام الله عليه كان من أجل العلم فقط - لا العمل - كما تنبئ عن ذلك سيرته، وفي الحديث: «من إزداد علماً ولم يزدد هديً، لم يزدد من الله إلاّ بعداً» (مجموعة ورّام: 1/ 220 باب ما جاء في أهل العلم المغترّين)، وروي عن أبي عبد الله سلام الله عليه أنّه قال: «يُغفَر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد» (الكافي: 1/ 47 ح1 باب لزوم الحجّة علي العالم). فقد روي أصحابنا أنّ الزهري هذا كان ملازماً لقصر عبد الملك بن مروان وبني مروان عشرات السنين، وأنّه كان يذمّ أمير المؤمنينعليه السلام!

وإذا كان الجهلة يُعذَرون في ذلك، فإنّ الزهري العالم لا يعذر البتّة، وليس اشتغاله بتعليم وتأديب أبناء حكّام الجور بنافع له - فقد ذكروا أنّه كان معلّماً لأولادهم وأنّه كان يعلّمهم أحكام الصوم والصلاة - لأنّه كان يصبّ في تقوية حكم الظالمين.

() فمن كتب الخاصّة «بحار الأنوار» نقلاً عن «تحف العقول»، كما رواها عدّة من محدّثي العامّة في كتبهم. وهي رسالة مهمّة جدّاً تستحقّ تأليف كتاب في شرح كلّ كلمة منها. رواها العامّة لأهميّتها فلم يشأوا أن تخلو كتبهم من رسالة بهذه الأهميّة،

ولكنّهم مع الأسف لم يذكروا أنّها من الإمام السجّاد عليه السلام بل قالوا: كتب إليه بعض الصالحين، أو أخ في الدين، وابن عساكر يروي أنّها لأبي حازم الأعرج. وأبو حازم الأعرج هو من موالي أمير المؤمنين سلام الله عليه وصحابيّ جليل من أصحاب الإمام السجاد عليه السلام، وفوق هذا فإنّه الثقة الصالح علي ما في كتبهم لترجمته.

() تحف العقول: 275.

() انظر رجال الكشي: 441 ترجمة صفوان بن مهران الجمال.

() الفصول المهمّة: 2/ 240، ح2، باب 10.

() تهذيب الاحكام: 3/ 264 ح68، باب25 فضل المساجد والصلاة فيها.

() نهج البلاغة: 421 رقم 47 من وصية له سلام الله عليه للحسن والحسين سلام الله عليهما.

() ولكن قبل ذلك لا بأس بالإشارة إلي أنّ السابع من شهر صفر هو يوم شهادة الإمام الحسن سلام الله عليه كما ذكر ذلك جمهرة من أعاظم علماء الشيعة - وهناك قول آخر هو أنّ شهادته كانت في آخر صفر، وهناك أقوال أُخري أيضاً - ولكنّي لم أعثر في كتب المتقدّمين كالكليني والطوسي والكفعمي وغيرهم أنّ ولادة الإمام الكاظم سلام الله عليه كانت في السابع من صفر، نعم ذكر ذلك بعض المتأخّرين وهو ضعيفٌ.

() كفاية الأثر: 226 باب ما جاء عن الحسن سلام الله عليه.

() عدة الداعي: 84.

() تهذيب الأحكام: 3/ 84 ح12.

() مستدرك الوسائل: 12/ 361 ح15 باب تحريم كفر المعروف.

() ولا يخفي أنّ هذا التظاهر بعدم التذكّر إنّما هو من باب التواضع للمؤمن ومحاولة عدم خدش كرامته، فلا يندرج تحت كتمان الحقّ كما حكي عن أنس بن مالك حين استشهده أمير المؤمنين عليه السلام علي جملة من البدريين بخصوص ما سمعه من رسول الله صلي الله عليه وآله في غدير خم، فقال:

كبرت سنّي ونسيت. فقال له الإمام: إن كنت كاذباً فضربك الله بيضاء لا تواريها عمامة. (الغدير: 1/ 192 نظر في حديث إصابة الدعوة).

() جواهر الكلام 41/ 280 ثبوت الزنا بالإقرار أو البيّنة وتعريف الشهادة.

() من لا يحضره الفقيه: 4/ 31 رقم 5017 كتاب الحدود الزنا واللواط.

() روي عن الإمام الباقر سلام الله عليه أنّه قال: (إنّ الخلق منحة يمنحها الله خلقه فمنه سجيّة ومنه نيّة). وسائل الشيعة: 12/ 151، ح15917، باب104 استحباب حسن الخلق مع الناس.

() كما في الخبر: «إنّ أهل الجنّة لا يتحسّرون علي شيء فاتهم من الدنيا كتحسّرهم علي ساعة مرّت من غير ذكر الله». مستدرك الوسائل: 5/ 288 رقم 5878، باب2 كراهة ترك ذكر الله تعالي.

() سورة الشعراء، الآية: 88 89.

() سورة القلم، الآية: 4.

() سورة آل عمران، الآية: 159.

() الأمالي للطوسي: 340 ح695.

() المراجعات: 326، تاريخ بغداد: 11/ 239 رقم 5985، كنز العمّال: 13/ 696 رقم 37782. كما نقل الغزالي في كتاب احياء علوم الدين: 2/ 35 آداب النكاح، وكتاب مكاشفة القلوب له أيضاً: 238 باب 94، قولها: أنت الذي تزعم أنك نبيّ الله.

() سورة آل عمران، الآية: 161.

() مستدرك سفينة البحار: 8/ 9 باب السرقة والغلول وحدّهما.

() الكافي: 2/ 105 ح10، باب الصدق وأداء الأمانة.

() روي عن أمير المؤمنين سلام الله عليه أنّه قال في وصيّته لابنه الإمام الحسن سلام الله عليه: وأكرم عشيرتك فإنّهم جناحك الذي به تطير. نهج البلاغة: 3/ 37 رقم 31 ذيل الوصيّة.

() وسائل الشيعة: 12/ 151/ ح15917، باب104 استحباب حسن الخلق مع الناس.

() دلائل الإمامة: 233 ح26، الخبر في باب ذكر معجزاته سلام الله عليه.

() وكان تأليف ذلك الكتاب قد استغرق سنوات طويلة اضطرّ خلالها

مؤلّفه إلي مراجعة أحد مصادره وهو كتاب جواهر الكلام في ظروف بالغة الصعوبة بسبب احتياجه لهذا الكتاب الذي يستعرض آراء العلماء في كلّ مسألة مع بيان أدلّتها، وحيث إنّ صاحب النسخة اليتيمة في ذلك الوقت لم يكن علي استعداد لأسباب تخصّه لأنْ يعيرها للمؤلف ليأخذها إلي بيته، كما لم يكن بمقدور المؤلف الدخول إلي بيت الرجل تحاشياً للإحراج، الأمر الذي اضطرّهُ إلي التوافق معه علي الاستفادة من الكتاب عند باب البيت داخل الزقاق، رغم الإحراج والتعب الكبيرين اللذين كانا يتسبّبان له.

() راجع الكافي: 2/ 122 ح6، باب التواضع.

() نهج البلاغة: 4/ 29 رقم 123.

() سورة الأنفال، الآية: 46.

() وسائل الشيعة 5/ 250، أبواب أحكام المساجد، باب 43، ح3.

() الكافي: 3/ 490، ح2، باب مساجد الكوفة.

() شذرات الذهب: 1/ 64. وقد أفاد الأستاذ محمود أبو رية في كتابيه (شيخ المضيرة) و (أضواء علي السنّة المحمدية) حين سلّط الضوء علي سيرة هذا الرجل معتمداً في بحثه علي جملة من مصادرهم المعتبرة في التاريخ والسيرة. فمن أراد الاستزادة فليراجع.

() مستدرك الوسائل: 9/ 86 ح 14 باب تحريم الكذب.

() سورة المنافقون، الآية: 1.

() سورة النساء، الآية: 143.

() الكافي: 5/ 312، ح38، باب النوادر.

() ويمكن أن تطلق علي الأعيان أيضاً كما في المرويّ عن طاووس حين أشرف علي عليّ بن الحسين سلام الله عليه وهو ساجد في الحجر فقال: رجل صالح من بيت طيّب. (لسان العرب: 1/ 564 مادة طيب).

() أصول الكافي: 1/ 410 ح3 باب سيرة الإمام بنفسه والمطعم والملبس إذا ولي الأمر.

() كنز العمال: 12/ 104 ح34201. ورواه عن أمير المؤمنين سلام الله عليه السيد هاشم البحراني في غاية المرام: 7/ 158.

() روضة الواعظين: 107. وروي نحوه ابن

الأثير في أسد الغابة: 4/ 24 من ترجمة أمير المؤمنين سلام الله عليه، كما جاء في زهده وعدله.

() مستدرك الوسائل: 8/ 356، ح3، باب31 استحباب الإبتداء بالسلام.

() علل الشرائع: 2/ 582 ح23، باب نوادر العلل.

() آية الله العظمي السيد ميرزا مهدي الحسيني الشيرازي قدس سره.

() سورة الفرقان، الآية: 77.

() سورة النجم، الآية: 39.

() انظر الفروق اللغوية: 193 رقم 773 الفرق بين الحقّ والصدق.

() عوالي اللآلي: 1/ 432 ح131.

() لقوله صلي الله عليه وآله في علي سلام الله عليه: «علي مع الحق والحق مع علي، اللهم أدر الحق معه حيثما دار».

هذا الحديث مما اتفق عليه المخالف والمؤالف. رواه ابن طاووس في الطرائف: 102 وابن عساكر في تاريخ دمشق: 30/ 63 وغيرهما.

() ويقصد قبر الإمام علي الرضا سلام الله عليه وقبر هارون العباسي القريبين من بعضهما.

() الغدير: 2 / 369.

() الآحاد والمثاني: 369 ح2970.

() انظر كنز العمّال: 5/ 636 رقم 14118 والقرطبي في تفسيره: 3/ 262 من تفسير الآية 253 من سورة البقرة، وهو مشهور. كما يذكر الرواة أنّه قال: «والله لوددت أنّي كنت شجرة في جانب الطريق مرّ علي جمل فاخذني فادخلني فاه فلاكني ثمّ ازدردني ثمّ أخرجني بعراً ولم أكن بشراً». منهم المتقي الهندي في كنز العمّال: 12/ 528 رقم 35699 والمصنّف لابن أبي شيبة: 8/ 144 رقم 7 وغيرهم.

() روي أنّه لمّا أراد أن يمنع المغالاة في مهور النساء تصدّت له إحدي المسلمات فقالت: يابن الخطّاب! الله يعطينا وأنت تمنع. وتلت هذه الآية: ?وآتيتم إحداهن قنطاراً? فقال: كلّ الناس أفقه من عمر. (راجع الرازي في تفسيره الكبير: 9/ 13 مورد الآية 20 من سورة النساء).

() انظر كتاب سليم بن قيس: 248، وفيه: أنّ عمر

بن الخطاب بعث إلي واليه علي البصرة أبي موسي الأشعري حبلاً طوله خمسة أشبار وقال له: «أعرض من قبلك من أهل البصرة، فمن وجدته من الموالي ومن أسلم من الأعاجم قد بلغ خمسة أشبار، فقدّمه فاضرب عنقه» ثمّ إنّ الأشعري راجع عمر وخوّفه من تفرّق الناس عنه … فكفّ عمر عن ذلك.

() بيت الأحزان: 84 في امتناع علي سلام الله عليه بيعة أبي بكر، والامامة والسياسة: 1/ 31 في اباية علي سلام الله عليه بيعة ابي بكر.

() روي الهيثمي في مجمع الزوائد: 9/ 203، والدولابي في الذرية الطاهرة: 119، والطبراني في معجمه الكبير: 1/ 108 ح182، وابن الأثير في أسد الغابة: 5/ 522. وغيرهم فضلاً عن الخاصة ما تواتر عن رسول الله صلي الله عليه وآله من قوله لبضعته الزهراء سلام الله عليها: إنّ الله يغضب لغضبك ويرضي لرضاك.

() سورة النساء، الآية: 49.

() الكافي: 2/ 288 ح3 باب استصغار الذنب.

() كشف الغطاء: 2/ 309. محاكاةً لما روي عن النبيّ الأكرم صلي الله عليه وآله في حقّ الجار أنّه قال: «مازال جبرائيل يوصيني بالجار حتي ظننت أنّه سيورثه» (روضة الواعظين للنيسابوري: 387).

() سورة الزمر، الآية: 47.

() راجع الأربعين للقمّي الشيرازي: 417.

() مناقب آل أبي طالب: 3/ 222.

() سورة البقرة، الآية: 156.

() قد يقال إنّ طلب الإمام هذا من قبيل القضية الشرطية، التي تكون صادقة حتي مع عدم صدق الطرفين الشرط والمشروط وقد ورد في القرآن الكريم نماذج عديدة لذلك؛ قال سبحانه وتعالي: ?قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين? (سورة الزخرف، الآية: 81) والحال أنّه لا ولدَ لله تعالي، ولا النبي بعابدٍ لذلك الولد. أو قوله تعالي: ?لو أنزلنا هذا القرآن علي جبل لرأيته خاشعاً

متصدعاً من خشية الله? (سورة الحشر، الآية: 21) بينما لم يحمّل الله الجبل مسؤولية وأمانة حمل القرآن، ولم يتصدّع الجبل. ولكن المهمّ في الأمر هو وجود قضية شرطية وهي قضية مجرّدة تسبح في آفاق الذهن، ولا وجود لمصداق خارجي لها.ّ

فمثل هذه العبارة إن صدرت عن معصوم فإنما تدلّ علي نوع من التوجّه الاكثر إلي الله تعالي، الغرض منها طلب المزيد من القرب إليه سبحانه، لما يشعر به المعصوم من قصور لأداء الأعمال والعبادات اللائقة بالربّ العزيز.

ويمكن أن يقال أيضاً: إنّ الإمام لم يقيّد تعبيراته بالتقصير. يقول سلام الله عليه ضمن دعاء آخر: «خيرك إلينا نازل وشرّنا إليك صاعد» (الصحيفة السجادية، ضمن دعائه في أسحار كلّ ليلة من شهر رمضان) وإن كان يمكن توجيه العبارة كالتالي: أي عجزنا عن أداء حقّ عبادتك، إليك صاعد، فما يصدر منك هو الخير، وما يصدر عنّا هو العجز، الذي يعبّر عنه الإمام بكلمة الشرّ.

() تهذيب الأحكام: 4/ 251، ح21، باب 60 من أسلم في شهر رمضان وحكم من بلغ الحلم فيه ومن مات وقد صام بعضه أو لم يصم منه شيئاً.

() نهج البلاغة: 4/ 68، رقم 278.

() سورة العنكبوت، الآية: 2.

() سورة الفرقان، الآية: 77.

() روي عن أبي عبد الله سلام الله عليه أنّه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: … وسمّي شهر رجب الأصبّ، لأن الرحمة تصبّ علي أمّتي فيه صبّاً. (الحدائق الناضرة: 13/ 453).

() سورة هود، الآية: 6.

() الكافي: 2/ 89 ح6، باب الصبر.

() مثير الأحزان لابن نما الحلي: 54.

() انظر لسان العرب لابن منظور: 14/ 85 (مادّة بلا).

() سورة الأنبياء، الآية: 35.

() سورة الذاريات، الآية: 56.

() مستدرك الوسائل: 5/ 417، ح3، باب كراهة العبث في

الصلاة.

() سورة طه، الآية: 114.

() سورة القلم، الآية: 4.

() الكافي: 2/ 182 ح15، باب المصافحة.

() عوالي اللآلي: 1/ 324 ح61.

() سورة الأحزاب، الآية: 21.

() سورة الأنبياء، الآية: 35.

() سورة آل عمران، الآية: 178.

() سورة العنكبوت، الآية: 2.

() نهج البلاغة: 4/ 20 رقم 93.

() روي عن أبي حفص الصائغ أنّه سمع الامام الصادق سلام الله عليه يقول في قوله تعالي: ?واعتصموا بحبل الله جميعاً? سورة آل عمران، الآية: 103، قال: نحن الحبل. عنه مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 2/ 273.

() روي عن الامام الباقر سلام الله عليه في قوله تعالي: ?وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله? قال: نحن السبيل فمن أبي فهذه السبل فقد كفر. تفسير القمّي: 1/ 221 تفسير الآية 153 من سورة الانعام.

() ولطالما عرفنا من يذهب نفسه بكاءً وتضرّعاً دون أن يتشرّف بلقاء الإمام سلام الله عليه، بينما سمعنا كثيراً عن أشخاص نالوا شرف الرؤية، بل وزيارته لهم بشخصه الكريم والتحدّث معهم طويلاً ولمرّات عديدة، دون أن يخوضوا أعمالاً عبادته خاصّة، ولم يكن ليحدث ذلك لولا وجود السنخية بين أنفسهم وبين شخص الإمام وطبيعة لقائه والتشرف برؤيته، واكتساب شحنات الإيمان من فيضه.

() انظر مصباح المتهجد: 152 رقم 37 نافلة الليل.

() البلد الأمين: 143، أدعية الساعات للأئمة الاثني عشر سلام الله عليهم.

() نزل رسول الله صلي الله عليه وآله في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة علي شفير واد، فأقبل سيل فحال بيينه و بين أصحابه … فقال رجل من المشركين لقومه: أنا أقتل محمداً؛ فجاء وشدّ علي رسول الله صلي الله عليه وآله بالسيف، ثمّ قال: من ينجيك منّي يا محمد؟ فقال: ربّي وربّك. فنسفه جبرئيل عليه

السلام عن فرسه. فسقط علي ظهره. فقام رسول الله صلي الله عليه وآله وأخذ السيف وجلس علي صدره، وقال: من ينجيك منّي يا غورث؟ فقال: جودك وكرمك يا محمد. فتركه، فقام وهو يقول: والله لأنت خير منّي واكرم. الكافي: 8/ 127 ح97.

() راجع تاريخ الطبري: 3/ 543، وغيره من كتب السير والتواريخ.

() انظر فرحة الغريّ: 82 زيارة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

() من لا يحضره الفقيه: 2/ 596، زيارة عليّ بن الحسين عليهما السلام المقتول بكربلاء.

() وسائل الشيعة: 4/ 286، ح7، باب 61 جواز التطوّع بالنافلة أداءً وقضاءً لمن عليه فريضة، واستحباب الابتداء بالفريضة.

() وسائل الشيعة: 27/ 33، باب5، رقم33144. هذا الحديث متواتر يرويه العامّة والخاصّة.

() فضائل الأشهر الثلاثة: 77، ح61.

() المصدر السابق: 77، ح61.

() سورة مريم، الآية: 76.

() سورة الكهف، الآية: 103 104.

() ينابيع المودّة: 1/ 89، رقم 35.

() فإنّ أفعل التفضيل له ثلاث صيغ: الأولي الإضافة، والثانية مع (من) والثالثة مع (أل) وهي أقواها لأنّها مطلقة فيما تكون في الحالتين الأخريين مقيّدة بمتعلّق الإضافة أو (مِن).

() روي الطبراني بإسناده عن عمران بن الحصين، أنّ رسول الله صلي الله عليه وآله قال لعلي عليه السلام: لا يحبّك الا مؤمن، ولا يبغضك الا منافق. الاوسط: 2/ 337. وري مسلم بسنده عن زِر قال: قال علي عليه السلام: والذي فلق الحبّة ويرأ النسمة إنّه لعهد النبي الأمّي صلي الله عليه وآله إليّ أن لا يحبّني الا مؤمن، ولا يبغضني إلاّ منافق. صحيح مسلم: 1/ 61، الي غير ذلك من مصادر العامّة والخاصّة.

() سورة آل عمران، الآية: 31.

() سورة النجم، الآية: 3 4.

() سورة النور، الآية: 39.

() سورة الحج، الآية: 3.

() سورة الصف، الآية: 2 3.

() سورة

فاطر، الآية: 28.

() سورة آل عمران، الآية: 71.

() استعارة من قول النبي صلي الله عليه وآله: زكاة العلم تعليمه من لا يعلمه. عدّة الداعي: 63.

() الكافي: 1/ 41 ح1 باب بذل العلم.

() لم ترد مفردة صولة في النصوص الأدبية إلا قليلاً، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلي قلّة حصول مصداقها، رغم كثرة الحروب وكثرة الدواوين التي تؤرّخ لها، فيما ورد التعبير بالجولة والسجال وغيرها كتعبير عن اشتداد نار الحرب.

() كشف الغمّة في معرفة الأئمّة: 346.

أقول: مع علمه صلي الله عليه وآله بأنّ من كانوا قبله من الأنبياء والرسل، منهم مَن نُشر بالمناشير أو ألقي في النار، ومنهم من أُلقي في غيابة الجبّ إلا أنّه صلوات الله عليه وعلي آله قد امتاز عليهم وعلي أوصيائهم جميعاً فيما تعرّض له هو وأهل بيته صلوات الله عليهم من بعده.

() راجع بحار الأنوار: 16/ 402 باب 12 باب نادر في اللطائف في فضل نبيّنا صلي الله عليه وآله في الفضائل والمعجزات علي الأنبياء عليهم السلام.

() الغدير: 7/ 359 رقم11 سيدنا أبو طالب وقريش.

() انظر مثير الأحزان لابن نما: 54. من أخبار المقصد الثاني في وصف موقف النزال وما يقرب من تلك الحال.

() عوالم الإمام الحسن سلام الله عليه: 289.

() الجواهر السنية: 70.

() نصّ حديث النبيّ الأكرم صلي الله عليه وآله. انظر كتاب الدعوات.

() كما في قوله صلي الله عليه وآله: اللهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون. راجع الصحيح من السيرة للسيد العاملي: 251، آية النهي عن الاستغفار للمشرك.

() سورة الملك، الآية: 1.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.