تجاربي في المنبر

اشارة

اسم الكتاب: تجاربي في المنبر

المؤلف: حسيني شيرازي، محمد

تاريخ وفاة المؤلف: 1380 ش

الموضوع: تجربيات

اللغة: عربي

عدد المجلدات: 1

الناشر: موسسه المجتبي

مكان الطبع: بيروت

تاريخ الطبع: 1421 ق

الطبعة: چهارم

بسم الله الرحمن الرحيم

الذين يبلغون رسالات الله

ويخشونه

ولا يخشون أحداً إلا الله

وكفي بالله حسيبا

سورة الأحزاب: 39

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسَّلام علي محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين.

?إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ?()..

?وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ?().

اليوم عاشوراء الحسين (ع)، اليوم الذي تنهمر فيه الدموع من العيون، وتسيل الدماء من الرؤوس، وتسودُّ فيه الظهور بالسلاسل، وتتورم فيه الأقدام بالمشي والركض، وتضحي الأجسام تحت وهج الشمس، وخصوصاً في كربلاء التي أنا قاطن بها الآن فالمدينة صورة صغيرة من المحشر في الالتهاب والهيجان والاضطراب.

ولكل إنسان في هذا اليوم حالة غير اعتيادية، وتري الناس وكأن كل واحد منهم فقد أعز أعزائه، أو أعزاء متعددين، كيف لاوقد تجددت ذكري من هو أولي بهم من أنفسهم، أليس الحسين(ع) من النبي (ص) كما قال (ص): «حسين مني وأنا من حسين» () وأليس النبي (ص) أولي بالمؤمنين من أنفسهم؟ ().

وقد رأيت أن أنتهز هذه الفرصة، لخدمة المنبر الحسيني الذي هو من أقوي وسائل الحزن علي الإمام عليه السلام الذي اعتدناه في مثل هذا اليوم، امتثالاً لأوامر الرسول (ص) وآله الكرام عليهم السَّلام، وإلا فمن الشؤم الاشتغال بغير الأمور المرتبطة بالإمام الشهيد (ع) في هذا اليوم.

فهذه (تجاربي في المنبر) فقد اعتدت منذ عشر سنوات أن ألقي من فوق المنبر توجيهات حول الإسلام بشكل محاضرات علي طلبة العلوم الدينية، وطلاب العلوم الجديدة، والكسبة، كل أسبوع مرتين، وقد أفادتني هذه التجارب عدة نتائج أسجلها في هذا الكراس، ولعل اتباعها يوجب نجاح التبليغ والإرشاد لتكون تبصرة لمن يبدأ

في رقي المنابر، ويريد إرشاد الناس إلي الحقّ وإلي صراط مستقيم، والله المسؤول أن يقرنه برضاه ويجعله مرشداً للمسترشدين وهو المستعان.

كربلاء المقدسة

محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي

10 محرّم 1387ه

1 التوجه إلي الله

رأيت إبان صعودي المنبر، أن من أقوي وسائل التأثير في الناس: التوجه إلي الله سبحانه بالقلب، فإذا صعد الإنسان المنبر، وتوجه بقلبه إلي الله سبحانه وسأله أن يعصمه من الزلل، وأن يجري الحقّ علي لسانه حتي يؤثر كلامه في السامعين، كان ذلك مؤثراً كبيراً.

وهذا شيء واقعي ملموس، كيف لا، وقد وعد سبحانه بالاستجابة لمن دعاه بقوله سبحانه وتعالي: ?ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ? ().

بالإضافة إلي أنه ثبت في علم النفس: أن التوجه بالقلب يسبب انبعاث الكلمة من القلب فتصل إلي سائر القلوب، كتموج الماء بإلقاء جسم ثقيل فيه، حتي قالوا: إن الإرادة القوية تؤثر في نفس من أراد الشخص التأثير فيه ولو كان بينهما ألوف الأميال.

واللازم أن يكون التوجه ممتداً من أول المنبر إلي آخره لا أن يقتصر فيه في ابتداء المنبر، فإنه وإن كان حسناً لكن الاستمرار في التوجه له التأثير البالغ …

وليس ما ذكرناه من تأثير التوجه إليه سبحانه وتعالي في إرشاد الناس خاصاً بالمنبر، بل التأليف والتدريس وسائر الشؤون الإرشادية خاضعة لهذا الأمر أيضاً، بل وسائر شؤون الحياة إذا قرنت باسم الله، كان لذلك أقوي الأثر في الكمال والتمام.

2 التلوين بصبغة الله

تلوين المنبر بصبغة (الله) سبحانه، حتي في القصص والتاريخ وما أشبه له أثر كبير، فإن السامع إذا وُجّه إلي أكبر قوة في الكون، لا بد وأن يحس في نفسه بالخضوع والضآلة أمام عظمته.

ومثل هذه النفس يؤثر فيها الكلام أكثر فأكثر، فإن النفس المتكبرة كالحجر الذي لا يقبل نفوذ الماء، بخلاف النفس المتواضعة، فإنها كالتراب الليّن القابل للنفوذ والقبول، والكلام المرتبط بالله فإنه كالماء العذب سرعان ما يجد التربة الصالحة حتي يتغلغل في أعماقها.

مثلاً: إذا أراد الخطيب بيان قصة هارون فقد يقول: قال هارون. أو قال

الخليفة العباسي، أو ما أشبه. وقد يقول: إن الرجل العاتي علي الله، الغافل عن بأسه، المتناسي يوم الجزاء، قال كذا، أو عمل كذا..

ولو أراد بيان مد البحر وجزره، يقول: إن من قدرة الله سبحانه أن جعل الأرض في قرار متوسط بين الشمس والقمر مما يؤدي ذلك إلي المد في الماء تارة والجزر تارة أخري.

وهكذا في بيان سائر القصص والأمور يربطها بالخالق جلّت قدرته ربطاً وثيقاً فيتأثر هو ويؤثر في نفوس السامعين.

3 تهيئة النفوس لقبول الإرشاد

إن مَثَل الخطيب مثل الزارع الذي يبذر في الأرض فكما أن الزارع ما لم يهيئ الأرض للزرع، بالحرث والسقي، وما إلي ذلك، لا يأخذ النتيجة من بذره الذي بذره، كذلك الخطيب لابد له وأن يهيئ نفوس السامعين بمختلف صنوف ما يكتنف بالمطلب الذي يريد إلقائه إليهم، مثلاً إذا أراد التكلم حول المنع عن شرب الخمر، لابد وأن يذكر أضرار الخمر البدنية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية و.. ويلفت النظرة إلي لزوم حفظ الصحة للناس مما تهدمها الخمر، وهكذا.. وهذا غالباً ما يراعيه الخطباء بالنسبة إلي ذكر المصائب المصطلح عندهم ب(الكوريز) لكن اللازم مراعاته في جميع الأمور التي يريد الخطيب توجيه الناس إليها.

4 القيام العملي علي الإرشاد

أرأيت التاجر كيف يوزع الأجناس علي بائعي المفرد ثم في أول كل شهر يأخذ الثمن؟ إن مثل الخطيب بالنسبة إلي بث المطالب ونشر الوعي ينطبق علي هذا المثل تماماً.

فإذا غفل التاجر عن أخذ الثمن أو استرداد ما وزعه علي زبائنه ذهبت تجارته ورأس ماله أدراج الرياح.

وكذلك إذا وعظ الخطيب وأرشد ثم لم يسترجع من الناس ما نشره فيهم، ذهبت أتعابه أدراج الإهمال، ولم يثمر عمله.

فالخطيب بحاجة إلي الأخذ والقبض، بعد الإعطاء والبث وعملية القبض والاسترداد عملية صعبة جداً، لكنه لا بد منها إذا أراد الخطيب النجاح في مهمته.

مثلاً، قد يذكر الخطيب أضرار الخمر والقمار، ثم يمشي في طريقه مقتنعاً بالإرشاد الذي بذله. وهذا النوع لو كان مؤثراً فتأثيره ليس إلا واحداً بالمائة مثلاً أمّا إذا ذكر أضرار الخمر، ثم صار بصدد غلق حوانيت الخمور وتبديلها إلي محلات صالحة، أو توبة المقامرين، وهيّأ لذلك أسبابه ووسائله حسب القدرة كانت النتيجة أكثر من خمسين في المائة.

ومثل هذا الخطيب يحظي بتقدير واحترام الناس أكثر من الخطيب الأول، لأن

الناس يحبون العاملين أكثر من محبتهم للقائلين.

وقد جربت أنا هذا الموضوع مراراً، مثلاً: كان هناك مشروع لبناء المساجد فكنا نعقد الاجتماع الأسبوعي في أحد المساجد الخربة، وكنت ألقي الخطاب حول فضل بناء المساجد وبعد إتمام الكلام كان بعض الأصدقاء يقوم ليسجل أسماء المتبرعين، وكثيراً ما كان يجمع ما يصلح أن يكون نواة للمال الكافي للبناء.. وهكذا كانت كثيرة من محاضراتي مصبوغة بالصبغة العملية وإن اختلف المشروع الذي كنا نفيض في الكلام حوله بين بناء مسجد أو تأسيس مدرسة، أو طبع كتاب، وما إلي ذلك.

5 الاطلاع علي العلوم الإسلامية

من الضروري علي الخطيب أن يكون كامل الاطلاع علي مختلف العلوم الإسلامية، وهي:

1 علم الكلام المرتبط بالمبدأ والرسالة، والإمامة، والمعاد، وأحوال الجنة والنار ونحوها.

2 علم الفقه بمختلف أبوابه من الطهارة إلي الديّات والمسائل المستحدثة.

3 علم الأخلاق، كالذي جمع في (جامع السعادات) للنراقي قدّس سرّه.

4 علم الآداب كالذي جمع في (حلية المتقين) للمجلسي ?.

5 علم التفسير ولو بقدر أن يعرف معاني آيات القرآن الحكيم.

6 نظرة الإسلام إلي الكون والحياة والاطلاع علي مختلف العلوم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها.

7 المقارنة بين الدين الإسلامي وبين الأديان والمبادئ الأخري في شتي ميادين الحياة.

8 معرفة تاريخ الرسول الأعظم (ص) والأئمة الطاهرين ? بنحو حيّ لا بصورة باهتة.

9 معرفة تاريخ الإسلام حضارة وثقافة، وتقدماً، وتمدناً وقضايا المسلمين مع غيرهم.

10 الاطلاع علي الأحاديث الواردة عن أهل البيت ?، ومن جملتها (نهج البلاغة) و(الصحيفة السجادية) و(الروايات الواردة في الطب) إلي غير ذلك.

ومن الممكن أن يصعب علي الإنسان الإلمام بمثل هذه الكثرة من العلوم؟ ولكن اللازم أن يعرف الخطيب أن النجاح الكامل يتوقف علي الاستيعاب، وأن النجاح المتوسط يحتاج إلي التوسط في هذه العلوم أما المبتدئ فلا بد له أن يخطط

للسير علي هذا المنهج.

6 الاطلاع علي الأحداث الحاضرة

الناس جبلوا علي حب الاطلاع علي ما يدور فيما حولهم كما جبلوا علي حبّ الاطلاع علي أخبار الماضين، وعلي استطلاع المستقبل. ولذا كلما كان الخطيب أعرف بالأمور التي تجري في البلاد كان أقرب إلي التأثير في النفوس.

أرأيت لو وقعت حرب في البلاد المجاورة مما تهم البلاد ثم صعد الخطيب المنبر ولم يشر إليها من قريب أو بعيد، كيف يبقي فراغ في نفسك وتلهف إلي معرفة تلك الحرب؟

وبالأخص إذا كانت الحوادث مما يهم المسلمين، وقد كثرت الوسائل للاستطلاع في هذا الزمان حتي إنه لا يحتاج الخطيب لمعرفة الحوادث اليومية إلي أكثر من أن يفتح أذنه ليسمع، أو يفتح عينه ليبصر.. نعم يجب أن يتخذ الخطيب بالنصيحة القائلة (كلما يسمع لا يقال) فينتخب من الأحداث ما يلائم المستويات.

7 تحاشي التكرار

هل سمعت قصة مكررة؟ إن الإنسان يمل القصة إذا سمعها مرتين فكيف إذا سمعها مرات. إذاً فاللازم علي الخطيب مراعاة هذه الجهة المهمة، فلا يكرر المواضيع في عدة منابر إذا كان المستمع للمنبر الثاني هو المستمع للمنبر الأوّل.

وقد كنت أتحري هذا الموضوع في محاضراتي الأسبوعية أدقّ تحرٍّ حتي لا يتكرر كلاماً واحداً ولو بعد سنوات، نعم لو رأي الخطيب ضرورة التكرار فعليه أن يصوغ المطلب صياغة جديدة.

فإن التكرار بالإضافة إلي أنه يدل علي إفلاس الخطيب من المعلومات الجديدة، فإنه يسبب انفضاض الناس من حوله، وقلة تأثيره في النفوس، فعلي الخطيب الذي يروم الترقي والصعود أن يحتفظ دائماً بجديته في تنويع المنابر وشحنها بما هو جديد ومفيد، وقد علمنا القرآن الحكيم هذا الأسلوب فإنه لم يكرر قصة واحدة بالرغم من الإلمام بها مرات ومرات ففي كل مرة نجد فيها جديداً غير مذكور في المرة السابقة.

8 تصوير المواقف

هناك قاعدة تقول صورة واحدة خير من ألف كتاب وتصوير الموقف خير من ألف كلام، وعلي هذه القاعدة يتمكن أن يؤثر الخطيب في سامعيه. فقد يقول إن الحسين (ع) قتل في كربلاء، وقد يصور مقتله بأن يصفه ببراعة كأن السامع ينظر إلي ذلك الموقف الفجيع، والتصوير يحتاج إلي (الوصفيات) بأن يعتاد الخطيب علي وصف المواقف، وذلك بالتمرين مرات ومرات.

وحيث أن التأثير يتبع الترغيب والترهيب وإثارة العواطف، كان اللازم علي الخطيب أن يُمرن نفسه علي مزاولة هذه الأمور بمختلف الأساليب والكيفيات.

فإذا تمكن الخطيب من توصيف المواقف وصفاً دقيقاً بدون بتر أو تكبير أو تصغير أو تزييد للموقف علي واقعه تمكن من التأثير الكامل في نفوس السامعين وتوجيههم إلي حيث ما يريد من التقرب إلي الله تعالي.

9 تحليل الأمور

التحليل الموضوعي من الأمور المهمة التي يجب علي الخطيب أن يعرفها كمال المعرفة، وإلاّ فكثيراً ما يكون المطلب الذي لا يدرس ولا يحلل موجباً للنفرة والسأم، بدل الإرشاد والتأثير.

مثلاً: إنّك إذا ذكرت أن الرسول (ص) أمر بقتل عدد من اليهود في واقعة كذا. ارتدت بعض النفوس حائرة! أليس الرسول رحمة للعالمين؟ فما باله يقتل هذا العدد من الناس؟

أما إذا حللّت الموقف، ببيان أن الرسول (ص) كيف عاشرهم بالأخلاق والموعظة الحسنة وجعلهم في ذمة الإسلام وتحت رعايته، وضمن لهم حقوقهم وحريتهم، لكن بعضهم قد تآمروا عليه(ص) وعلي المسلمين، وذكر نفسية اليهود وأنهم كيف جروا الويلات علي البشر منذ ظهورهم بين الأمم، وإنهم كانوا رأس المؤامرات ضد الإسلام، وضد البشرية التي يريد الرسول (ص) توجيهها إلي كل سعادة وخير، وهكذا.. انتظر السامع بكل لهفة أن يسمع منك كلمة الرسول(ص) في هذا الأمر والأسباب التي جعلته يتخذ هذا الموقف.

لكن يجب أن يكون التحليل

بقدر واعتدال، فالإفراط فيه، بتحشية ما يخالف الواقع، والإتيان بالفلسفات الخيالية، يوجب الابتعاد عن الواقع وعن التأثير معاً. فإن كلاً من الإفراط والتفريط مضر يورث عدم فهم المواقف التاريخية بالصورة الصحيحة مما يؤدي إلي الانطباعات السلبية والاستنتاجات الفاسدة.

10 التناسق بين المطلب

من اللازم علي الخطيب التوجه التام إلي ملاحظة تناسق المطالب بعضها مع بعض، فإذا بدأ مثلاً بذكر فضيلة من الفضائل فاللازم أن تكون هي محور كلامه من أوله إلي آخره. لا أن يذكر في مجلس واحد كل شيء مما يدور في خلده ويجري علي لسانه، كما يطير الطائر من غصن إلي غصن فإن ذلك يسبب تشويش ذهن السامع مما يقلل أثره.

نعم، قد يكون الروح العام للموضوع الذي يريد الخطيب إلقائه، سائراً في عدة مواضيع فإنه لا بد وأن يأتي بتلك المواضيع، وهذا ليس خروجاً عن القاعدة المتقدمة وإنما هو جمع المطالب تحت نطاق عام.

مثلاً قد يريد الخطيب بيان الاجتناب عن المحرمات، فإنه عليه حينئذ أن يذكر (الخمر) و(القمار) و(الربا) مثلاً، وهي بخلاف ما إذا أراد بيان أضرار الخمر، فإن عليه أن لا ينتقل إلي موضوع آخر.

وإذا لم يلتفت الخطيب إلي هذه الخصوصية، فكثيراً ما يقع في شبه مناقضات يصعب التخلص منها.

مثلاً: إذا تكلم حول عفو الله سبحانه، وحول عقابه، من دون توضيح كثيراً ما يتبادر إلي الذهن المناقضة بين الأمرين، وعليه فاللازم علي الخطيب اتخاذ الحذر التام في إتيانه بالمطالب المختلفة ولو فرض وحدة الروح السائدة علي جميع تلك المطالب.

11 رعاية المستويات المختلفة

يحضر مجلس الخطيب غالباً أناس من مختلف المستويات، فهناك العالم والجاهل، والرجل والمرأة والكبير والصغير والناضج وغير الناضج والمتدين والضعيف الإيمان، والذي يروق له القديم والذي يروق له الجديد، وهكذا، فعلي الخطيب أن يهتم غاية الاهتمام بإلقاء المطالب المناسبة لهذه المستويات المختلفة، لئلا يسبب إبعاد الناس عن الحق عوض تقريبهم إليه، ولا ينفرهم عن الحقيقة.

وكثيراً ما يحضر المجلس فردان يليق بكل واحد كلام غير الكلام اللائق بالآخر. فمثلاً: إذا كان المستمع جباناً بخيلاً أو مصراً

علي المعاصي، ناسبه الترغيب في الشجاعة والكرم والتخويف من عذاب الله تعالي، وإذا كان متهوراً أو مسرفاً في الإنفاق أو زاهداً خائفاً أكثر من رجائه، ناسبه الترغيب في الاحتياط والحذر والإمساك والتبشير بالثواب. فكيف ينبغي للخطيب أن يتكلم وهو يري في مجلسه الصنفين؟

ولقد كنت في مجالسي ألاقي صعوبة كبيرة في إلقاء الكلام علي مختلف المستويات التي أعلم بحضورهم.

12 رعاية مبدأ الأهم والمهم

من اللازم علي الخطيب أن يكون كالطبيب الماهر الذي يلاحظ في علاجه المرض (أولاً) ثم عند تعدد المرض يلاحظ تقديم الأهم فالأهم (ثانياً).

أرأيت إذا راجع الطبيب جماعة من المصابين بالحمي، كان اللازم أن يصف الطبيب لهم أدوية الحمي، أما إذا وصف لهم أدوية اليرقان كان مثالاً للإستهزاء؟ وكذلك إذا راجعه إنسان مصاب بالسرطان وبالحكة الجلدية كان اللازم عليه تقديم علاج السرطان علي علاج الحكة؟

وهذا ينبغي للخطيب إذا ارتقي المنبر وتحدث حول الربا في مجلس فيه من يشرب الخمر، كان تكلمه في غير موضوع الخمر وحرمته، كلاماً فارغاً، وإنما اللازم عليه التكلم حول الخمر، وإذا صعد المنبر في أناس مقامرين وغير مبالين بالنظافة كان اللازم تقديم التنفير عن القمار، علي الترغيب في النظافة، وهكذا..

13 الاطلاع الشمولي

لقد تبين من جملة من البنود السابقة، كما يتبين من بعض البنود الآتية لزوم كون الخطيب عارفاً بالأوضاع والأحوال.

فلا يكفي أن يحفظ الخطيب الحكم والمواعظ والقصص ثم يلقيها كما هي علي الناس بدون مراعاة الأحوال والمزايا الاجتماعية وإلاّ كان فاشلاً، ولم يؤثر كلامه.

ففي أحد محاضراتي ذكرت قصة عن أحد رؤساء الأديان المزيفة في معرض بيان أن الرئيس الديني حتي المزيف من الأديان لابد وأن يتصف بصفات جيدة. وبعد إتمام المجلس جاءني أحد الأصدقاء، يقول: لقد زدت في الطين بلة.

قلت: وكيف ذلك؟

قال:.. من الصدفة أن كان لي ضيف معي في المجلس من أتباع هذا الدين الذي ذكرتموه فزاده كلامك تمسكاً بمذهبه، فإنه أخذ القصة علي أنك مدحت رئيس دينه، ولذا عملتُ حتي أرجعته عن عقيدته.

14 عدم توهين الخطيب نفسه

من اللازم علي الخطيب عدم توهين نفسه، بما يسقط أثر كلامه، فإنه كثيراً ما يطلب بعض الناس من الخطيب أن يذكر أمراً، بينما يوجب ذكره وهناً وتنفيراً، مثلاً قد يطلب فقير من الخطيب أن يجمع له المال من فوق المنبر فيأتمر بأمر الفقير، وذلك قد يوهن منبره، وقد يوجب انفضاض الناس من حوله، ولا أريد بهذا منع الخطباء من جمع المال للفقراء بل أريد أن أقول: إن لكل شيء طريق والذي ينبغي للخطيب، هو أن يلاحظ أي الأمرين أهم؟ هل جمع المال للفقير من فوق المنبر!! أم الإبقاء علي عواطف المستمعين حوله حتي يؤثر كلامه فيهم.

15 الخطيب الشجاع

والشجاعة الكافية، من ضروريات الخطيب، وهي وإن كانت في الغالب موهبة، لكن من الممكن تحصيلها بالتذكر والتفكر، ومطالعة أحوال الشجعان وغير ذلك. أما أن يخاف الخطيب من تاركي المعروف أو فاعلي المنكر فذلك مما يسبب فشله، إذ الناس اعتادوا حب المصلحين الذين لا يخافون في الله لومة لائم، لاالمنساقين مع شهوات الناس ورغباتهم، ولا يمضي زمان، إلاّ ويعرف الجبان المداهن انفضاض الناس من حوله.

16 الاطلاع علي علم النفس

ومن الأمور اللازمة علي الخطيب الإلمام بشيء من (علم النفس) ليتمكن من الوصول إلي دخائل القلوب، ويساعده ذلك في إيصال الحق إلي الناس والتأثير فيهم، وإن شئت قلت: ينبغي له أن يتحري الأقرب فالأقرب إلي التأثير.. فإن الردع والإغراء، قد يأتي بكلامٍ دون كلام، كما قد يأتي بصب الكلام الواحد في قالب دون قالب.

ومن ذلك ما يحكي أن أميراً طلب من معبّر أن يفسر له رؤياه (وقد رأي أن أسنانه قد سقطت بأجمعها)؟

فقال المعبّر: يموت أقرباء الأمير كلهم، فأمر الأمير بضربه وسجنه، بينما طلب الأمير التعبير من معبّر آخر؟ فقال له المعبّر: إن عمر الأمير أطول من عمر سائر أقربائه، فأمر بإكرامه وأجازه بالجائزة.

ومن ذلك أيضاً ما يحكي أن (هارون) الخليفة العباسي صمم علي أن يكتب إلي الآفاق بالمنع عن ذكر الإمام علي عليه السلام بالخلافة حسداً وعناداً.. وكلما أراد العلماء، والعقلاء صرفه عن هذه الفكرة لم يتمكنوا.. حتي جاء أحدهم فقال له: أيها الخليفة إذا جاء بنو تيم وقالوا: منا أبو بكر، وجاء بنو عديّ وقالوا منّا عمر. وجاء بنو مرّة وقالوا: منّا عثمان، ثم سألكم سائل من منكم يا بني هاشم؟ فماذا كنت تجيبه أيها الخليفة؟.. ففكر هارون مليّاً، ثم رجع عن تصميمه.

17 حسن الابتداء والختام

ومن الأمور اللازمة علي الخطيب (حسن الابتداء)، و(حسن الخاتمة) و(التلخيص) فلا يبدأ الكلام بما لا يؤثر ولا يروق. فإن ذلك موجب لانصراف ذهن السامع عن المنبر إلي أفكاره الشخصية، فلايستمع إلي المنبر.. كما أنه لو ختم المنبر بما لا يروق ذهبت أتعابه أدراج الرياح إذ الناس عادة إنما يقومون عن المجلس وأذهانهم مشغولة بآخر كلام سمعوه حسناً أو سيئاً.

وقد ذكر علماء البلاغة في اشتراط بلاغة الكلام اشتماله علي هذين الأمرين.

أمّا التلخيص فهو أن يذكر الخطيب في أول مجلسه.. وفي آخر مجلسه موجز المنبر، فإن ذكر الموجز أولاً يجمع فكر السامع حتي أنه إذا غفل السامع عن بعض المنبر، لا يكون محروماً عن موجز الكلام، كما أن ذكر الموجز أخيراً يوجب ذهن المستمع إلي المنبر من أوله إلي آخره حتي أنه لو كان في بعض المنبر ذاهلاً لم يقم إلاّ عن فائدة عامة.

ولذا تري (وسائل الإعلام) تذكر الموجز في الأخبار أولاً وأخيراً، ومن هنا يضع المؤلفون للفصل والمقالة عنواناً وإنما يكتفون بالذكر أولاً فقط، لأن الكتابة أولاً تغني عن الكتابة في خاتمة الفصل، لإمكان رجوع المطالع بعد تمام المطالعة إلي العنوان.

18 كثرة المستمعين

ومن الأمور المهمة لنجاح الخطيب أن يواظب علي كثرة المستمعين إذ قلة المستمع توجب:

أولاً: ملالة المتكلم.

ثانياً: عدم اهتمام السامع بكلامه حيث الناس جبلوا علي الإقبال علي من كان الإقبال عليه كثيراً ولذا اعتاد التجار علي التعامل مع التاجر الذي يكثر المشترين منه، فإنهم يأخذون هذه العلامة قرينة للجودة في الأجناس أو الانخفاض في الأسعار.

ثالثاً: كسل صاحب المجلس عن عقد المجلس في المستقبل أو عن دعوة هذا الخطيب لقلة الحضور.

وأي منبر يفقد أحد هذه الأركان الثلاثة: نشاط المتكلم أو السامع أو صاحب المجلس فهو منبر فاشل بقدر ما يفقده.

وأما طريق تكثير الناس فب:

أ: قوة المطالب والبحوث، وحسن الإلقاء، واختيار الوقت المناسب، كما سيأتي.

ب: تشويق الخطيب لصاحب المجلس، بأن يدعو الناس، وأن يهيئ للسامعين أسباب الرفاه والراحة والسهولة في المجلس.

ج: تشويق الخطيب للسامعين بصورة أو بأخري بأن يحضروا أصدقائهم معهم إلي المجلس ويستصحبوا أولادهم وأقربائهم.

19 اختيار الوقت المناسب

الوقت غير المناسب، يسبب فشل المنبر.

فعلي الخطيب أن لا يصعد المنبر في الوقت الذي لا يناسب مثل شدة الحر، أو شدة البرد أو قرب منتصف الليل مثلاً وكذا في حال اضطراب الناس، لاشتغالهم بأمرهم، كحرب، أو جنازة، أو استقبال، أو عزاء، أو عرس، وما إلي ذلك إلاّ لأمرٍ أهم.. فإن الوقت إذا لم يكن مناسباً، كان كلام الخطيب ثقلاً علي الناس، وأجدر بمثله أن يفشل بل كثيراً ما يسبب الإساءة إلي سمعة المنبر.

ومن الوقت غير المناسب، القراءة بعد خطباء متعددين عند سأم الناس وملالتهم، ووقت الصَّلاة ووقت الطعام.

20 الاختصار

من اللازم علي الخطيب أن يختصر في المنبر مهما أمكن فإذا كانت رغبة الناس ساعة. قرأ لهم ثلاثة أرباع الساعة مثلاً وهكذا. ولا أقصد بهذا الإيجاز المخل، بل إبقاء شوق المستمع إلي المنبر، فإن إبقائه شوق المستمع ينفع من جهة تحفظه علي المطالب التي ذكرها الخطيب، ومن جهة رغبته في الاستماع إلي منبر آخر.

وقد جربت أنا هذا الموضوع في محاضراتي، فإذا تجاوز الوقت عن حده المعتاد تظهر آثار الملل في نفس السامع، حتي ولو كانت المطالب جذابة وجميلة، وبالعكس إذا بقي شيئاً من التشوق في نفوسهم، فإنهم كانوا ينفضون من المجلس نشطين راغبين للحضور في مجلس آخر.

21 عدم قبول المنابر المتعددة

من المهم علي الخطيب عدم قبول المنابر المتعددة، فإن التقوية في الكيفية، والتقليل من الكمية، أحسن للخطيب صحة وسمعة وإقبالاً للناس عليه. وبالعكس التكثير في الكمية يؤذي الصحة ويهدم السمعة ويقلل من إقبال الناس عليه.

ولا يظن الخطيب أن التكثير في المجالس أنفع في التأثير، أو أجدي في المال.. فإن نظرة واحدة إلي الخطباء بأنواعهم الأربعة: (المكثر المجيد، والمقل المجيد، والمكثر العادي، والمقل العادي). كافية في إدراك هذه الحقيقة، حتي أن الناس أرغب إلي المقل المجيد، من المكثر المجيد، ويشهد لذلك ما قالوا: من أن (العزة) تتوقف علي قلة الوجود وكثرة الاحتياج، حتي أن كثير الوجود لا عزة له في نظر الناس وإن كان في قمة الاحتياج إليه كالماء، والهواء، فإنهما لايطلق عليهما (عزيز) مع كثرة الاحتياج إليهما، وإنما لا يطلق عليهما هذه اللفظة لكثرة وجودها.

22 عدم إطلاق الكلام

علي الخطيب أن يلاحظ الاطلاق والتقييد في الكلام، ولايحسب أن السامعين علماء، يكتفون بالإشارة والاطلاق..

فإذا حبذ إلي الناس الإيثار، ذكر وجوب تقديم نفقة العائلة، وإذا حثهم علي الزهد ذكرهم بأن للبدن حقاً يسأل عنه الإنسان يوم القيامة، وإذا حثهم علي إطعام المسكين بيّن لهم لزوم عدم الإطعام فيما إذا سبب ذلك كسلاً وترهلاً عند الفقير مما يوقفه عن العمل.

فقد نقل إلي أحد الأصدقاء هذه القصة الطريفة، قال: ذهبت زوجتي إلي الحمام وبعد رجوعها ذكرت أنها تعارفت مع امرأة في الحمام ذكرت أن لها زوجين، زوجاً غنياً، وزوجاً فقيراً، ولما استغربت السامعة كلام المرأة ذكرت أنها سمعت من متكلم قوله سبحانه: ?وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ? () فزعمت أنه كما يحق للرجل زوجتان «كذلك يحق للمرأة زوجان»!!

وهنا يأتي دور (اللباقة) حيث أن اللازم علي الخطيب أن يخرج من المأزق، فإنه إن

(قيد) اتهم بتوضيح الواضحات وإن (أطلق) كان مخافة عدم الوضوح للسامع.

23 المنبر المنزه

أما لزوم الصدق في الكلام، والإخلاص في القراءة، والكف عن ذكر المطالب غير اللائقة وعن ذكر الروايات الضعيفة أو المنامات البعيدة أو التواريخ غير الثابتة أو ما أشبه فهذه من الأمور الواضحة التي لا تحتاج إلي التفصيل.

24 حفظ الصحة

ومن الأمور اللازمة علي الخطيب (حفظ صحته وسلامته البدنية) وهذا مما لا يراعيه بعض الخطباء، إما حرصاً علي الإرشاد حرصاً زائداً، وإما عدم المعرفة بكيفية الإلقاء المتوازن، وإما تحشية للمنبر بما لا يفيد. مثل قراءة القصائد الطويلة جداً أول المنبر مما قد لايفيد السامع، وهي في نفس الوقت مما تتعب الخطيب تعباً بالغاً، وليتذكر مثل هذا الخطيب قوله (ص):

«المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقي» ().

25 الفصاحة والبلاغة

ومن الأمور المهمة جداً مراعاة الفصاحة في الكلام والبلاغة في الأداء والتكلم بكل اتزان، مع رعاية الفواصل بين الجمل، والمطالب والكلمات، فلا يسرع ولا يبطئ في القراءة، وإذا أراد تجربة منبره قرأه في «أداة تسجيل» ثم يسمعه ليري بنفسه كيف كان يتكلم؟ وإذا حصل الخطيب علي ملكة البلاغة والهدوء فوق المنبر كان كلامه أكثر تأثيراً في النفوس.

26 التمرين والممارسة

ومن اللازم علي الخطيب أن يتمرن علي الخطابة عند أساتذة المنبر مدة مديدة ليبينوا له أغلاطه ونقاط الضعف في كلامه وفي إلقائه، وفي سائر الشؤون المربوطة بالمنبر، فإن الخطيب الذي لم ير الأساتذة، حكمه حكم الطبيب الذي لم ير إلا الكتب، فكما أن مثل هذا الطبيب لا يعتمد عليه، كذلك مثل هذا الخطيب لا ينبغي الاعتماد عليه، ومثله خليق بالفشل.

27 رعاية حركات البدن

بعض الخطباء لا يضعون بنظر الاعتبار حركاتهم، فوق المنبر سواء الحركات الجسدية بالتململ، أو حركات الرأس واليد والرجل أو حركات العين والفم، وما أشبه. وفي بعض الأحيان يتولد من عدم التحفظ حركات منكرة توجب الشين، وأحياناً تسبب تشويش بال المستمع، أو ازدرائه بالمتكلم، فلا يتأثر بكلامه، ومن الممكن تدارك مثل هذه الحركات بضبط النفس أولاً، والسؤال من الأستاذ، أو المستمع الملتفت عن نقاط الضعف في حركاته ثانياً.

وقد كان أحد مشاهير الخطباء يتمرّن، فيقرأ أمام المرآة ليضبط نفسه ويعدل حركاته.. وإني رأيت ذلك الخطيب فرأيته في كمال الوقار والسكينة، مما يزيده في النفوس هيبة وتأثيراً.

28 التدرج

التدرج في الموضوع من المطلب الضعيف إلي القوي من الأمور المهمة التي يجب أن يلتفت إليها الخطيب، فإن النفس تشتاق إلي الأقوي وربما عكس الخطيب هذا الأمر فأسقط كلامه عن التأثير، مثلاً: إذا أراد أن يقص أتعاب الأنبياء ومعاناتهم في تبليغ رسالة السماء، كان اللازم عليه أن يبدأ بالأقل منهم تعباً ومعاناةً إلي الأكثر بأسلوب صحيح.

وقد رأيت خطيباً نقل أولاً أتعاب النبي نوح (ع)، ثم أتعاب نبي الإسلام (ص) ولم يتمكن من أن يرسم صورة أتعاب النبي (ص) كما رسم أتعاب نوح (ع) فصار ذلك سبب تقليل السامعين من أهمية أتعاب النبي (ص) في قبال أتعاب نوح (ع)، ورسمت الأسئلة علي الشفاه فكيف قال النبي (ص): «وما أوذي نبي بمثل ما أوذيت» ()؟

29 الاتصاف بالصفات الجميلة

وإذا أراد الخطيب تأثير كلامه في المجتمع، يلزم أن يكون متصفاً بالصفات الجميلة، فإن الناس لا ينظرون إلي الأقوال بمقدار نظرهم إلي الأعمال، فإذا قال الخطيب: (اصدقوا) وسُمع منه الكذب، ضرب الناس كلامه عرض الحائط. قال سبحانه: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ? كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاتَفْعَلُونَ? ().

وقد اعتقد بعض العلماء أن الواقع هو المؤثر حتي وإن لم يعلم الناس بالواقع فإذا قال الخطيب للناس: «تزهدوا» ولم يكن هو زاهد في الواقع لم يؤثر كلامه، وإن زعم الناس أنه زاهد.

وقد استدلوا لذلك بأن الموعظة إذا خرجت من القلب دخلت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان، وبأقوال علماء النفس: من تموج الأفكار من الأذهان.. كما أن جماعة من الحكماء قالوا: إن الصفات الواقعية هي المؤثرة، حتي ولو لم يتكلم الإنسان بها، فالزاهد يوجب زهادة الناس تلقائياً بتأثير تموجاته الروحية، وإن لم يأمر

الناس بالزهد.

30 المنبر التربوي

المنبر علي قسمين:

الأول: المنبر العادي.

الثاني: المنبر المربي.

وعلي الخطيب أن يهتم لأن يكون منبره مربياً، لأنه هو المفيد الناجح، والغالب أن يكون من شروط (المربي) اتصاف المتكلم بالصفات الحسنة، وهدوء المنبر، وغزارة المادة، وكون المنبر موجهاً لا مبعثراً، وكون المطالب بالغة تصل إلي القلوب، إلي غيرها من الصفات.

وفي الحقيقة: إن مثل هذا عادة يدرك ولا يوصف، ويتمكن الخطيب من تحصيله بطول الممارسة للمنبر، وطول الملاحظة والاستفادة من تجاربه عند الأساتذة.. كما أن المنبر العادي لا يحتاج إلي شيء كثير، والغالب أنه ليس أكثر من ضجيج فارغ، وبعثرة في الكلام، وتفرق وتشتت في المطالب والمواضيع.

31 عدم جرح العواطف

ومن الأمور المهمة في التأثير: عدم جرح العواطف، بأن يكون المنبر ودياً ليناً.

أما المنبر المشتمل علي التشهير والسباب والطعن وما أشبه، فجدير بأن لا يؤثر.

أرأيت أنك إذا خاشنت مع شارب الخمر، قائلاً له: لماذا تشرب الخمر فعليك اللعنة من الله والعذاب الأليم؟ كان كلامك يؤدي إلي معاندته في شرب الخمر، ويزدري بك ويصوب إليك سهام النقد والعداء..

أما إذا قلت له وأنت تتغافل عن أنه يشرب الخمر لقد اعتاد بعض الناس شرب الخمر، وذلك مضر بصحتهم، مناف لدينهم و.. كان جديراً بأن يسمع الكلام ويقلع عن الشرب ويكنّ في نفسه لك التقدير والاحترام.

نعم بعض المواقع يحتاج الخطيب إلي نوع من التغليظ، ولكن الغالب تأثير اللين..

ولذا ورد في القرآن الكريم قوله سبحانه: ?ادْعُ إِلَي سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ?().

وقال سبحانه: ?فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً?().

32 الساعات التي يستهلكها الخطيب

ليتنبه الخطيب أن ساعات أعمار المستمعين التي يستهلكها في خطابه، من أثمن الأشياء، وربما بلغت العدد الهائل، فلينظر ماذا يعطي للناس في مقابل ما يأخذ من هذه الأعمار الهائلة.

مثلاً: إذا كان عدد المستمعين عشرة آلاف، كانت عشرة آلاف ساعة هي التي يأخذها الخطيب من الناس، ولو فرض مادياً أن كل ساعة من العمل من بناء عادي تساوي (نصف دينار) كان معني ذلك أن الخطيب صرف (خمسة آلاف دينار) فلينظر هل أنه أعطي بهذا المقدار، مما يفيد المجتمع لدينهم ودنياهم، أم أنه أضاع هذه الأعمار التي تساوي بالنظرة الواقعية أكثر وأكثر من ألوف الدنانير.

وإذا توجه الخطيب إلي هذه الحقيقة المذهلة، واظب في تركيز المطالب وذكر ما ينفعهم، حسب الأهم فالأهم.

وهذه حقيقة نبهني عليها بعض الخطباء المربين رحمه الله وكم أفادتني هذه الحقيقة.

33 من أسباب ضعف المنبر

علي الخطيب أن يتجنب فوق المنبر الضحك والمزاح، والكلام الفارغ، فإن كل ذلك يؤثر في ضعف منبره، وقد قال الإمام المرتضي(ع): «ما مزح امرء مزحة إلاّ مجّ من عقله مجّة» ().

كما أنه يلزم أن يتجنب الغضب، وإرسال حمم من الكلام، والشدة المبالغة، ونحو ذلك مما يوجب عدم إفصاح الكلام فيقلل من التأثير في السامع.

وكذلك يلزم علي الخطيب إسكات الضوضاء، وما يخل بالمنبر (كصياح الطفل وتكلم المستمع..) باللين لا بالعنف والشدة، فإن العنف يدل علي عدم ضبط النفس، ويورث الشين في نفس السامع مما يقلل من أثر كلام الخطيب في النفوس.

34 التهيؤ للمنبر

اللازم علي الخطيب أن يفرغ نفسه للتكلم حتي يفي حق الكلام. فالتكلم في حال الحصر بالاخبثين، وحال اشتعال القلب بالحزن أو الفرح أو الهم، أو أمر مستعجل يخاف فوته، أو ما أشبه ذلك، يوجب عدم وفاء الخطيب للكلام حقه، فيسقط ذلك كلامه عن التأثير.

35 المطالعة والتفكر قبل المنبر

رأيت خطيباً يتبجح ويفتخر بأنه: لا يفكر فيما يقرأ حين يريد صعود المنبر وإنما يتكلم بما يجري علي لسانه.

وأظن أن الأمر بالعكس، فمن الضروري للخطيب أن ينظم منبره من أوله إلي آخره قبل الصعود، فمثلاً: آية كذا، وتفسيرها، والقصة الفلانية، والوعظ الفلاني.. وهكذا، فإن التفكير قبل صعود المنبر، يوجب سعة وانشراحاً في المتكلم، مما لا يلجأه أحياناً إلي الطفرة والبعثرة في الكلام أو إلي ذكر الكلمات الفارغة، مضافاً إلي ذلك أن المنبر المنبعث عن التفكير توجيهي بخلاف المنبر الارتجالي، فإنه عادي، وقد عرفت سابقاً لزوم كون المنبر توجيهياً، فيما إذا أراد الخطيب الإفادة والتأثير.

36 التنوع ضمن وحدة الموضوع

المنبر حكمه حكم الدواء، فكما أن الدواء غالباً يلزم أن يكون مركباً من أجزاء تلائم مرض المريض، كذلك يلزم أن يكون المنبر مركباً من أجزاء بنسبة خاصة، تلائم الأمراض النفسية والمفاسد الاجتماعية مما يكون الخطيب بصدد علاجها.

أما ما ذكرناه سابقاً من توحيد الموضوع في المنبر، فهو في مقابل (البعثرة) كما لا يخفي فلا ينافي ما ذكرناه هنا.

37 التحفظ علي الشخصية

يلزم علي الخطيب تحفظه علي شخصيته، بأن لا يكون خارجاً عن المتعارف في آدابه وسلوكه ومعاشرته مع الناس، فإن الخطيب المبعثر والمفرط والمفرّط، لا يؤثر كلامه، بل يأبي الناس أن يتبعوه، وأن يقبلوا كلامه، وبذلك لا يؤثر منبره وإن التف الناس حوله.

38 حضور درس الفقهاء

يلزم علي الخطيب أن يحضر درس الفقهاء، فإن درس الفقه الذي يلقي علي طريق المحاضرات من أهم ما يربي الذهنية الإبداعية، وإذا شك الخطيب في ضرورة ذلك، فليس عليه إلاّ أن ينظر إلي خطيبين أحدهما يحضر درس الفقه، والآخر لا يحضر، ليري أي المنبرين أكثر جمالاً وتأثيراً في السامع.

وإذا كان الخطيب لا يتمكن من حضور الدرس، فعليه أن يستمع إلي أشرطة الدرس، التي سجلت عند التدريس.

39 تواضع الخطيب

من اللازم علي الخطيب أن لا يكون جافياً للناس، مترفعاً عليهم، فإن الخطيب الإسلامي من أتباع الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين)، وقد كانوا يؤثرون في الناس بفضل اختلاطهم بالمجتمع، كما قال (ضرار) عن أمير المؤمنين علي(ع) إنه: «كان والله فينا كأحدنا» () أما الخطيب الجافي، فبالإضافة إلي أنه لا يؤثر في الناس، يوجب تنفير الناس عن الدين والهداية.

40 قناعة الخطيب

ويلزم علي الخطيب أن لا يكون مادياً، قال تعالي: ?اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً? () فإن الناس جبلوا الازدراء بالإنسان المادي، وليس معني ذلك، أنه يلزم علي الخطيب، عدم تقاضي الأجر كاللائق، بل معني ذلك ما ذكرناه من أن لا يكون مفرطاً في التقاضي وأن لا يجعل همّه المادة، وأن لا يظهر أمام الناس بمظهر الإنسان المادي، فإن ذلك يوجب سقوط مكانته عن النفوس، وعدم تأثير كلامه في القلوب.

هذه جملة من الأمور التي استحضرها وقد استفدتها من تجاربي، أو تعلمتها من أهل المنبر بكثرة الحضور في المجالس (إيجاباً) بأن قالوها أو عملوا بها فراقتني، أو (سلباً)، بأن رأيت من بعضهم عدم مراعاتها، فلم ترقني فذكرتها هنا لتكون عوناً للمبتدئين.

والله المسؤول أن يوفق الجميع لمراضيه، ويجعل ما كتبته هذا وسيلة للهداية والتهذيب وهو المستعان.

كربلاء المقدسة

محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي

محرم الحرام 1387 ه

خاتمة()

ثم إنّ اللازم علي الخطيب أن يهتم بإرشاد الناس إلي آيات القرآن التي تَرَكَ العمل بها غالب المسلمين، وهي التي سببت سقوطهم فصاروا كالطير الذي يريد النهوض بجناح واحد، وهل يمكن ذلك؟

مثل آية:

1 الأمة الواحدة، حيث قال سبحانه: ?وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً?() بينما نشاهد الآن أن المسلمين وبإيحاء من أعداء الإسلام جعلوا الحدود الجغرافية بين بلادهم فصاروا أكثر من خمسين أمة.

(فتفرقوا شيعاً فكل جماعة

فيهم أمير المؤمنين ومنبر)

2 وآية الأخوّة قال تعالي: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ? () فمقتضي هذه الآية أن كل مسلم في أي بلد من بلاد الإسلام مواطن وليس بأجنبي، فله ما لأهل البلد وعليه ما عليهم، من التجارة والزراعة والعمارة وتملك الأرض والزواج والشؤون السياسية وغير ذلك، بينما نشاهد الآن أن المسلم من قطر إسلامي في قطر إسلامي آخر يعتبر أجنبياً.

3 وآية

الحرية قال سبحانه: ?يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ?() حيث كل شيء من الفعل والترك في الإسلام حرّ إلاّ المحرمات فقط وما أقلّها بينما نشاهد الآن أن القوانين الموضوعة تحرم كل شيء إلاّ برخصة وإجازة وتأشيرة وضريبة وما أشبه.

4 وآية الشوري قال تعالي: ?أَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ? () حيث أنّ اللازم الشوري في الحكم، بينما نشاهد أن الحكام في بلاد الإسلام يأتون إلي سدة الحكم بالانقلابات العسكرية أو بالوراثة و..

5 وآية الأخذ بأحكام الإسلام الحيوية قال سبحانه: ?اسْتجيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ?() مثل إباحة الأرض وسائر المباحات لمن سبق إليها، فقد قال رسول الله (ص): «الأرض لله ولمن عمّرها» ().

وفي الحديث: «من سبق إلي موضع فهو أحق به» () إلي غير ذلك.

بينما نشاهد الآن أن كل تلك الأحكام تركت وبدّلت بقوانين وضعية تسبب التأخر والسقوط، ولذا تأخر المسلمون تأخراً لا نظير له في تاريخهم الطويل. فبينما وصل الغربيون إلي القمر لا يصنع كثير من بلاد الإسلام أصغر الأشياء وأبسطها.

ولا يتقدم المسلمون إلاّ إذا أحيوا هذه الأحكام وعملوا بها وإلاّ فقد قال سبحانه: ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً?().

سبحان ربك ربِّ العزّة عما يصفون، وسلام علي المرسلين، والحمد لله رب العالمين وصلّي الله علي محمد وآله الطاهرين.

محمد الشيرازي

رجوع إلي القائمة

پي نوشتها

() سورة البقرة: 156.

() سورة الشعراء: 227.

() الإرشاد: ج2 ص131.

() اقتباس من سورة الأحزاب: 6.

() سورة غافر: 60.

() سورة البقرة: 228.

() الكافي: ج2 ص87 باب الاقتصاد بالعبادة ح6.

() بحار الأنوار: 39 ص56 ب73 ح15.

() سورة الصف: 2 3.

() سورة النحل: 125.

() سورة طه: 44.

() غرر الحكم ودرر الكلم: ص222 الفصل السادس في المزاج ح4483.

() أمالي الصدوق: ص624 ح2 المجلس 91.

() سورة يس:

21.

() لقد أضاف الإمام المؤلف (دام ظله) هذه الخاتمة في الطبعة الثالثة للكتاب عام 1415ه مركز الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله للتحقيق والنشر بيروت لبنان.

() سورة المؤمنون: 52.

() سورة الحجرات: 10.

() سورة الأعراف: 157.

() سورة الشوري: 38.

() سورة الأنفال: 24.

() الكافي: ج5 ص279 ح2.

() الكافي: ج4 ص546 ح33.

() سورة طه: 124.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.