قم المقدسة رائدة الحضارة

اشارة

اسم الكتاب: قم المقدسة رائدة الحضارة

المؤلف: حسيني شيرازي، محمد

تاريخ وفاة المؤلف: 1380 ش

اللغة: عربي

عدد المجلدات: 1

الناشر: موسسه محمد امين(ص)

مكان الطبع: كويت

تاريخ الطبع: 1422 ق

الطبعة: دوم

كلمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد كانت قم المقدّسة ولا تزال بحقّ رائدة الحضارة الإسلامية، وقاعدة الثقافة الشيعيّة الإمامية، وناشرة السنّة النبويّة الحقّة، المتجسّدة في سيرة أهل بيت رسول الله الطيّبين الطاهرين، المتمثّلة في مذهبهم الحقّ مذهب أهل البيت (عليهم السلام).

وإنّما يكون المذهب الحقّ هو مذهب أهل البيت (عليهم السلام) دون سواه من المذاهب، لما قد تواتر عن النبي الكريم (صلي الله عليه وآله)، ورواه الفريقان من انّه (صلي الله عليه وآله) قال برواية الطبراني في معجمه الكبير: ج5 ص167 «أيّها الناس! انّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إنْ اتّبعتموهما: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فانّهم أعلم منكم، ثمّ قال: أتعلمون إنّي أولي بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: نعم. فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله».

أجل، لقد ترك رسول الله (صلي الله عليه وآله) في اُمّته هذين الثقلين العظيمين والأمرين المهمّين: القرآن الحكيم والعترة الطاهرة، لكن الأحداث السياسية، خاصّة التي إفتعلها بنو اُميّة بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله)، طغت علي الاُمور الدينية والمعنوية، فأقصت الكتاب والعترة عن أوساط الناس، وحاربت وصي رسول الله وخليفته من بعده: الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وطاردت ذرّية رسول الله (صلي الله عليه وآله)بعد إستشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام)، ونكّلت بهم وبشيعتهم ومحبّيهم، ممّا إضطرّهم إلي الهجرة من أوطانهم، والإغتراب عن بلدانهم، واللجوء إلي البلاد النائية، والمناطق البعيدة، كبلاد الجبل، ومناطق الشرق.

نعم، لقد إستقبلت بلاد

الجبل عموماً، ومدينة قم بالخصوص، الأشعريين الشيعة، وغيرهم من محبّي أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم، وإحتضنتهم بكلّ حرارة وحفاوة، وتقدير وتكريم، وسخت عليهم بالأمن والأمان، والتمركز والإستقرار، ممّا وفّر عليهم بعض الوقت، للإشتغال بالدرس والتدريس، والبحث والتنقيب، والتصنيف والتأليف بصورة عامّة، ونشر ثقافة القرآن الحكيم والعترة الطاهرة بصورة خاصّة.

فبينما كانت البلاد الإسلامية المركزية، كالعاصمة والبلدان المجاورة لها، تائهة في مطبّات السياسة، هائمة في متاهاتها، كانت البلاد الإسلامية النائية كقم ونواحيها، مشتغلة بمذاكرة العلم والمعارف العامّة، قائمة بحفظ ونشر تراث أهل البيت (عليهم السلام)المفسّر للقرآن الحكيم، والكاشف عن سنّة رسول الله (صلي الله عليه وآله)، فبزغ من بينهم رجال عظماء كالشيخ الشيخ الصدوق صاحب كتاب: «من لا يحضره الفقيه»، ونبغ فيهم رواة أجلاّء مثل البرقي مصنّف كتاب «المحاسن» وظهر منهم مؤرّخون نجلاء مثل الحسن بن محمّد بن الحسن القمّي مؤلّف كتاب: «تاريخ قم» الذي وضعه باسم الوزير البويهي الشيعي، والأديب الأريب المعروف: الصاحب بن عبّاد، وذلك في سنة ثلاثمائة وثمان وسبعين هجرية في عشرين باباً، وقد ترجم هذا الكتاب إلي الفارسية في مطلع القرن التاسع الهجري: الحسن ابن علي بن الحسن بن عبدالملك القمّي، ترجمة كاملة، وذلك حسب الفهرست الموجود بالفارسية، ولكن لم يبق بأيدينا منه إلاّ خمسة أبواب فقط، وأمّا الباقي المترجم فكالأصل العربي قد أكل عليه الدهر وشرب، وضاع بين حوادث الدهر وبُعد الأمد.

وكيف كان: فانّ قمّ المقدّسة كانت ولا تزال رائدة الحضارة بحقّ، فقد تخرّج من مدرستها العلمية الرجال العظماء، وضمّت بين أكنافها الرواة والمحدّثين، واحتضنت فوق أرضها المقدّسة، العلماء الأعلام، الذين خدموا البشرية بتصانيفهم القيّمة، وأناروا العالم بمؤلّفاتهم الفذّة والثمينة، وقد استفادت البشرية وتنوّر العالم علي طول التاريخ من علمهم ومعارفهم، قديماً

وحديثاً وماضياً وحاضراً، حتّي عصرنا الحاضر، وتاريخنا المعاصر.

ومن جملة اُولئك الأوحديين النوابغ في التاريخ المعاصر، الذين حملوا مشعل الهداية، ورفعوا راية العلم، وبثّوا علوم آل محمّد (عليهم السلام)، ونشروا ثقافتهم (عليهم السلام)الراقية، وثقافة القرآن العالية، عبر قلمهم وبواسطة كتبهم وتأليفاتهم القيّمة، والبالغة ما يربو علي ألف كتاب وكتيب، والتي زيّنوا بها المكتبة الإسلامية، وأغنوها بالفكر الديني الجامع، والثقافة الإسلامية الشاملة، هو مؤلّف هذا الكتاب القيّم: «قم المقدّسة رائدة الحضارة» سماحة المرجع الديني الأعلي الإمام الشيرازي (حفظه الله تعالي وأبقاه) والذي يثبت من خلال هذا الكتاب، قداسة قم وريادتها للحضارة، وخدماتها للإنسانية عبر القرون الطويلة، وخروجها علي الطغاة والمستبدّين ورفضها للظلم والاستبداد، ويتعرّض لذكر بعض رجالاتها الذين خدموا العلم والمعرفة، والفقه والاُصول، ويطرح فيه نظرية «شوري الفقهاء المراجع» لإدارة الحوزات العلمية المباركة، وتأسيسهم الأحزاب الحرّة المتنافسة علي البناء والتقدّم، تمهيداً لتقلّد شوري الفقهاء المراجع زمام القيادة، والسير بالبلاد والعباد نحو التقدّم والإزدهار، والرقي والسعادة ان شاء الله تعالي، ونحن مساهمة منّا في هذا الأمر الهامّ، قمنا بطبع ونشر هذا الكتاب، آملين من الله تعالي أن ينفع به المسلمين، وأن يتقبّل منّا بمحمّد وآله الطاهرين.

الناشر

المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام علي محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين.

أمّا بعد: فقد كتبت سابقاً حول الحوزة العلميّة في قم المقدّسة كتاباً باسم: (كيف ينبغي أن تكون قم المقدّسة؟) وبعدها تتميماً للفائدة رأيت أن أضيف إلي ذلك قصصاً اُخري حول نجاح العلماء الأبرار، الذين كانوا خير اُسوة لنا، واُضيف إليه أيضاً لمحة عن تاريخ قم المقدّسة وجغرافيتها، راجياً من الله سبحانه أن يوفّقنا لنشر العلم والفضيلة، وإرشاد العباد وإصلاح البلاد، وما ذلك علي الله

بعزيز.

قم المقدّسة

محمّد الشيرازي

فصل دور الحوزات العلمية

فصل دور الحوزات العلمية

للحوزات العلميّة في النجف وكربلاء، والحلّة وسامراء، وقم وخراسان، وكاشان واصفهان وغيرها دور كبير في حفظ الثقافة الدينيّة، وصيانة الكيان الإسلامي والشيعي علي مدي التاريخ الإسلامي الطويل. واليوم حيث تطوّرت الاُمور، وتشعّبت العلوم، وظهرت التخصّصات، وبرزت الكفاءات في شتّي مجالات الحياة، فلابدّ من تطوير الحوزات العلميّة، وتكييف برامجها ومناهجها بما يلائم الظروف الراهنة، ويواكب متطلّبات العصر الجديد.

وفي مقدّمة التطوّرات والتغييرات التي ينبغي توفيرها في الحوزات العلميّة، والعمل بجدّ علي إيجادها فيها، هو: إشراف شوري المراجع علي إدارتها، فإنّ نظام «شوري الفقهاء المراجع» بدليل «يد الله مع الجماعة» () وغيره، هو أفضل نظام يمكنه إصلاح الوضع الراهن ليس للحوزات العلميّة فقط، بل لكلّ الاُمّة الإسلامية وحتّي لكلّ العالم.

وعلي هذا فجدير بالحوزات العلميّة في عصرنا الراهن، أن تنقاد لشوري المراجع، وتخضع لإدارتهم الحكيمة والرشيدة، وذلك بأن يكون العمل فيها بحسب أوامرهم وإرشاداتهم، الأمر الذي يضمن تقدّمها وتفوّقها، ويحفظ دورها ومركزيّتها.

وحيث إنّ الحوزات العلمية علي سعتها، وإختلاف مشاربها، لا تخضع لأي نظام سوي شوري المراجع، فإنّ المرجع الواحد مهما كان قويّاً وحكيماً، فمن المستبعد أن تنقاد له الحوزات بالكامل.

من جانب آخر عدم إنقياد الحوزة بكاملها للبرامج والمناهج التقدّمية يلزم إصلاحه وعلاجه، وإلاّ فإنّ ذلك يؤدّي إلي ضعف مسيرة التقدّم، ويؤخّر الحوزات العلمية عن أداء مهمّاتها الإصلاحية الكبيرة بنجاح. كما قد ابتليت بها في الحال الحاضر، فأصبحت لا تواكب متطلّبات المسلمين اليوم.

الحوزات العلمية وشوري المراجع

نعم، يلزم إندراج الحوزات العلمية تحت إشراف شوري المراجع، والإنقياد لإدارتهم السديدة، وإذا صارت الحوزات كذلك وخضعت لشوري المراجع كان الفقهاء المراجع هم الذين يخطّطون (حسب تشاورهم وتحاورهم، وطبق تجاربهم وخبراتهم) مناهج الدرس والبحث، وبرامج التبليغ والإرشاد، فإنّهم مثلا يعيّنون أوّل الدرس وآخره، وكيفيته واُسلوبه، فقهه واُصوله،

عقائده وأخلاقه، وهم كذلك يعيّنون مرتّبات الطلاّب ورواتب المحصّلين، ووظائف الخطباء والمبلّغين، ودائرة عملهم وتبليغهم من حيث إحتياج الناس داخل البلاد الإسلامية أو خارجها، أو من حيث قدرات المبلّغين العلمية، ونشاطاتهم العمليّة، وتأمين معيشتهم وحياتهم اليومية، ليتفرّغوا للتبليغ والإرشاد، وإلي غير ذلك ممّا يسدّ حاجات الناس المعنوية، ويلبّي مطالبهم الروحية، ويرفع مستوي ثقافتهم الإسلامية والأخلاقية في كلّ العالم.

أجل، انّ العالم الإسلامي وخاصّة الشيعي، هو اليوم بأمس الحاجة إلي نظام شوري المراجع وتثبيته في الحوزات العلمية، وفي غيرها من المؤسّسات القيادية، الروحية منها والسياسية، حتّي يتمكّنوا تحت ظلّ هذا النظام من إسترجاع كيانهم وسؤددهم، وإصلاح دنياهم وآخرتهم، سيّما أنّ هذا النظام ممكن تحقيقه بين أوساط المسلمين ولكن بشرط المطالبة به، وممارسة الضغوط علي المعنيين بأمره، كما أنّه يتوقّف علي وجود الأحزاب الحرّة في البلاد، تلك الأحزاب المنبثقة من الحوزات العلمية التي تتنافس فيما بينها علي التقدّم والبناء، كما قال القرآن الحكيم()، لا التي تتناحر فيما بينها كما أمر به الشيطان الرجيم، وقد كتبنا في مجال الأحزاب الحرّة، وكذلك في مجال شوري الفقهاء المراجع، كتابين مستقلّين، وذكرنا فيهما بعض ما يرتبط بهذين الأمرين العصريين، والمهمّتين الملحّتين في الحياة المتطوّرة، والعالم الجديد.

(الأحزاب الحرّة والأنظمة الإستشارية)

ثمّ إنّ الأحزاب الحرّة، المنبثقة من الحوزات العلميّة، المثقّفة بالثقافة الإسلامية والإنسانية تقوم في الأنظمة المنفتحة الإستشارية أوّلا وبالذات، بإصلاح البلاد إقتصاديّاً وسياسيّاً، وبإرشاد العباد فكريّاً وثقافياً، وتقوم بتمهيد الأرضية الصالحة لنظام شوري المراجع، فيكون من نتائج جهود الأحزاب الحرّة إستقرار نظام شوري المراجع، وليس معني ذلك أنّ الأحزاب فوق الشوري وإنّما الأحزاب تهيّيء الظرف الملائم لتحقيق الشوري، فقد ذكرنا في مختلف كتبنا حول الشوري وغيرها: بأنّ شوري الفقهاء المراجع، فوق القوي الثلاث في الأنظمة الإستشارية،

وفوق الأحزاب، وفوق كلّ المؤسّسات الدستورية.

(معالجة الحدود الجغرافية)

وممّا يجب علي الأحزاب الحرّة التمهيد له في البلاد الإسلامية هو: تطبيق حكم الإسلام في الاُخوّة والوحدة وذلك بغَسل الحواجز النفسية من نفوس المسلمين، ورفع الحدود الجغرافية من بين بلادهم، وارجاع البلاد الاسلامية كلّها إلي بلد واحد وإن كان حكّامها متعدّدون، وذلك كما كان قبل عشرات السنين بالنسبة إلي كلّ واحد من العثمانيين والإيرانيين، حيث كانت لهما حكومتان مستقلّتان، دون أن تكون بينهما حدود جغرافية، وذلك لأنّ الاُمّة الإسلامية اُمّة واحدة كما قال الله سبحانه وتعالي: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)() فمثل الحكومات في البلاد المختلفة كمثل المحافظات في البلد الواحد، فكما لم يكن بين المحافظات في بلد واحد حدود يفصل فيما بينها مع انّ لكلّ محافظة حاكماً خاصّاً، فكذلك يجب أن يكون بين البلاد الإسلامية المختلفة.

تطبيق الأحكام والقوانين الإسلامية)

وممّا يجب علي الأحزاب الحرّة التمهيد له أيضاً هو إرجاع البلاد والعباد إلي قوانين الإسلام، مثل:

قانون: «الأرض لله ولمن عمّرها» ()

وقانون: «من سبق إلي ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحقّ به» ()

وقانون الضمان الإجتماعي

وقانون حيازة المباحاة، وهكذا سائر القوانين الإسلامية المتروكة، سواءً كانت قوانين واجبة ومحتومة من صلاة وزكاة، وحجّ وجهاد، وعدل وقسط، وغير ذلك، أم قوانين مستحبّة ومكروهة من أخلاق وآداب، ومحاسن ومكارم، وسنن وفضائل وما أشبه ذلك ممّا أشرنا إلي بعضه في مختلف كتبنا.

إذا تحقّقت هذه القوانين والأحكام الإلهية في البلاد الإسلامية، تقدّمت الاُمّة إلي الأمام وتحقّق آمالها، وإزدهرت البلاد الإسلامية وكثر خيرها وبركاتها.

هذا وقد وعد الله الاُمّة الإسلامية النصر والغلبة بما لم يعد به غيرهم من الاُمم، وذلك حيث يقول سبحانه: (إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)() ويقول عزّوجلّ: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الاَْعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)() ويقول الرسول الكريم

(صلي الله عليه وآله): «الإسلام يعلو ولا يعلي عليه» () وإلي غير ذلك من المبشّرات بالنصر والظفر، لكن شريطة الإيمان والتقوي، والمثابرة والعمل.

فصل مع مؤسّس حوزة قم العلمية

فصل مع مؤسّس حوزة قم العلمية

كان مؤسّس الحوزة العلميّة في قم الشيخ عبدالكريم الحائري (رحمه الله) ثاقب النظر، عالي الهمّة، فإنّه عندما رأي إنشغال الناس في ايران والعراق خاصّة بالتوافه، وإنقسامهم إلي مستبدّة ومشروطة، وإلي انّ هذا عراقي أو ايراني، وانّ ذاك نجفي أو كربلائي، تنبّأ عمّا سيجري من الويل والدمار علي الحوزات العلمية في النجف وكربلاء.

وإنّما تنبّأ ذلك لأنّ الناس الذين هم القاعدة والأساس لكلّ صرح وبناء، إذا إشتغلوا بتدمير أنفسهم بأيديهم، كان حال ذلك الصرح والقمّة المستند إليهم مسلّم الإنهيار والدمار، ولذلك خرج الشيخ من النجف مغادراً العراق إلي ايران وإلي قم خاصّة، لأنّ قم بلدة عريقة في التشيّع والولاء لأهل البيت (عليهم السلام)، ولإحتضانها مرقد السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، وفكّر أن يؤسّس فيها حوزة علمية جديدة، بعيدة عن كلّ تلك التناحرات والإنقسامات، فبذر نواتها وإستمرّ في سقيها ورعيها، حتّي نمت وترعرعت، وأثمرت وأينعت فكانت كما أراد الله لها، رغم محاربة البهلوي الأوّل للشيخ ولحوزته العلمية الجديدة التأسيس.

وقد نقل الشيخ مرتضي الحائري نجل الشيخ المؤسّس: انّ البهلوي الأوّل لم يزل يحارب الشيخ وحوزته حتّي توفّي الشيخ المؤسّس، ولمّا توفّي لم يكفّ البهلوي عن محاربته له، ولم يستطع أن يكتم شديد حقده عليه، ولذلك منع من إقامة مجالس الفاتحة علي روحه الطيّبة إلاّ من قبل أهل بيته في قم ولمدّة ساعتين فقط، بينما كان الشيخ مرجعاً كبيراً لكلّ الشعب في ايران.

بعض مواصفات مؤسّس الحوزة

كان هذا بعض ما يرتبط بهمّة الشيخ المؤسّس (رحمه الله) وبنظره الثاقب في الاُمور، وبإخلاصه في عمله لله تعالي، وأمّا الذي زاده توفيقاً في كلّ ذلك، فهو زهده في الدنيا، ومداراته للناس، حتّي قال الشيخ مرتضي الحائري نجله: بأنّه لمّا توفّي والده الشيخ المؤسّس، لم يترك شيئاً

ادّخره لنفسه من حطام الدنيا، بحيث انّهم باتوا (يعني عائلة الشيخ) يوم موته ليلا بلا عشاء، ممّا إضطرّهم إلي الإقتراض وتأمين لقمة عشاء متواضعة من السوق، ولعلّ هذا خير دليل علي ما كان يتحلّي به الشيخ المؤسّس (رحمه الله) من المنزلة الكبيرة في التقشّف والزهد.

أقول: انّ الشيخ المؤسّس (رحمه الله) وأمثاله من المؤسّسين الكبار، لهم علي أثر جهودهم العلمية، وخدماتهم الثقافية الحقّ العظيم، والفضل الجسيم، علي هذه الاُمّة، فيتأكّد علينا إزاء هكذا أشخاص أن نحيي ذكراهم، ونجدّد العهد معهم، ونتعلّم من زهدهم ونشاطهم.

وممّا يحيي ذكرهم هو: اتّخاذ بيوتهم كمدارس علمية، وقد حاولتُ أن أجعل داره في قم مدرسة علميّة دينية، كما حاولتُ أن أجعل دار الميرزا القمّي صاحب القوانين وصاحب الكرامات المعروفة مدرسة علميّة دينيّة أيضاً ولكن وحتّي اليوم لم يحالفنا التوفيق لتحقيق هذا الأمل، فأسأل الله سبحانه وتعالي أن يوفّقنا.

وكيف كان: فانّ الشيخ المؤسّس: الشيخ عبدالكريم الحائري لمّا توفّي، ووصل نبأ وفاته إلي البهلوي الأوّل، فرح من أعماق قلبه، حتّي ظهر ذلك علي ملامح وجهه، وفلتات لسانه وقال: لقد إسترحت من معارض كبير، وخلا لي الجوّ بموت الشيخ اليزدي في قم، لقد قال ذلك الكلام أمام بعض وزرائه، فقال له الوزير متجرّياً عليه: انّه مات وأنت ونحن أيضاً نموت، ثمّ تلا قوله سبحانه: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَر مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ)() فلم يكن للبهلوي في جواب الوزير إلاّ الخنوع والسكوت.

تمثال مؤسّس الحوزة العلمية في قم المقدّسة

آية الله العظمي الشيخ عبدالكريم الحائري (قدس سره)

تمثال آية الله العظمي البروجردي (قدس سره)

السيّد البروجردي يواصل مسيرة الشيخ المؤسّس

ثمّ انّه إستمرّ علي مسيرة الشيخ المؤسّس من بعد رحيله، السيّد البروجردي (رحمه الله) فانّه كذلك كان يملك نظراً ثاقباً في الاُمور، وعلوّ

همّة في الحياة، حيث إنتقل وبطلب جماعة من بروجرد إلي قم لإدارة الحوزة العلمية فيها، وكان (رحمه الله) في حياته الشخصية علي جانب كبير من الزهد والتقشّف، فقد نقل لي بعض أصدقائه انّه تمرّض مرّة، فجئنا له بالطبيب لعلاجه، ولمّا أجري عليه الطبيب الفحوصات اللازمة قال: انّه لا يعاني من مرض خاص، وإنّما يشكو ضعفاً مفرطاً، وعلاجه أن تقدّم له في كلّ يوم مع غذائه شيء من اللحم المشوي «الكباب».

قال: فهيّأنا له ذلك وقدّمناه إليه، ولمّا رأي السيّد تغيّر طعامه وإضافة اللحم المشوي إليه، التفت إلي مَن كان يخدمه في البيت وكان اسمه: الحاج أحمد وقال: ما هذا ياحاج أحمد؟

قال: هذا ما وصفه لكم الطبيب، فانّه لمّا رأي ما بكم من الضعف أوصي لكم بذلك.

فقال السيّد البروجردي في جوابه: صحيح ولكن حالتي الإقتصادية، ومقدرتي المالية، لا تقتضي توفير مثل هذا الطعام، ولا تسمح لي بأكله، فاحمله عنّي حتّي أتمكّن من الأكل.

يقول الحاج أحمد: فإضطررت إلي حمله وإبعاده عنه، وحينئذ جلس علي المائدة وأكل منها علي عادته.

هذا مع انّه كانت تأتي إليه أموال كثيرة من مقلّديه في شتّي أطراف الدنيا، فكان يبذلها حتّي آخرها علي الحوزة، ويساعد بها الفقراء، ويبني بها المشاريع الدينية، والمؤسّسات الخيرية، ولا يأخذ منها شيئاً لنفسه، ولا يدّخرها لشخصه، بل وأكثر من ذلك، فانّه (رحمه الله) كان قد ورث عقارات كثيرة في بروجرد، فأصاب بلدة قم ذات مرّة جدب وقحط، شحّت فيه أرزاق الناس، وخاصّة رجال الدين المرابطين في الحوزة، فباع السيّد (رحمه الله) جميع عقاراته التي وصلته بالإرث في بروجرد، وصرف أثمانها علي الناس وعلي رجال الدين في الحوزة، وبذلك رفع عن أهل قم ضرر القحط، وأنقذهم من بؤس الفقر والمجاعة.

جولة في حياة السيّد البروجردي

نقل عن السيّد البروجردي (رحمه الله) قصص كثيرة، وقضايا جمّة، مفيدة ونافعة جدّاً.

منها: قصّته المعروفة في شفاء عينه ببركة تراب أقدام المعزّين في موكب الزنجيل واللطم علي الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث انّه مسح من تراب أقدامهم علي عينيه، فشوفي ببركة الإمام أبي عبدالله الحسين (عليه السلام)، ولم يحتج إلي آخر عمره في مطالعاته إلي الاستعانة بالنظارات.

ومنها: قضيّته المشهورة في بناء المسجد الأعظم، وتأسيسه مكتبة المسجد العامّة، حيث انّه لمّا عزم علي ذلك، طلب من أحد المهندسين البارعين أن يرسم له خارطة هذا المسجد ومكتبته، وعندما يوضّح سماحته للمهندس خصوصيات المسجد والمكتبة، يعارضه المهندس بقوله: بناء مسجد ومكتبة بهذه الخصوصيات يحتاج إلي أموال ضخمة.

يقول المهندس قوله هذا تعريضاً بعدم امتلاك سماحته المال الكافي لذلك، لكنّه يفاجأ بجواب من سماحته رافعاً بيده الكريمة ستاراً كان هناك وهو يقول له: انظر إلي هذه الأموال هل تكفي لهذه المهمّة؟ نظر المهندس فإذا به يري تحت الستار رفوفاً متقاربة ومتواصلة من السقف حتّي الأرض، مليئة بالنقود الورقية الكبيرة الحجم، فيتعجّب من كثرتها ويقول: نعم انّها كافية وفوق الكفاية.

ثمّ انّ سماحته يقوم من عند المهندس لأداء بعض مهمّاته، فيرفع المهندس ذلك الستار ليري هل يستطيع تخمين مقدار هذه الأموال المكدّسة وراء الستار، لكنّه يزداد تعجّباً عندما يري انّ تحت الستار كتباً مرتّبة وليست أموالا مكدّسة، وعندها يطمئن المهندس بكرامة السيّد البروجردي وعظيم منزلته عند الله.

ومنها: ما نقله لي السيّد اليحيوي المشهور، الذي كان سابقاً في بروجرد، قال: كان أحد أبناء عمومة السيّد البروجردي يؤذي السيّد كثيراً، ويتربّص به الدوائر، وكان السيّد يصبر علي أذاه ولا يقول له شيئاً.

فمضت مدّة غير بعيدة، تسلّط فيها البهلوي الأوّل علي الأوضاع، وحارب الدين وأهله،

وشدّد علي الحوزات العلمية، وطارد رجال الدين، فشرّدهم ونفاهم عن بلدانهم، وكان ممّن شملهم النفي والتبعيد هو: ابن عمّ السيّد البروجردي، فاُبعد عن بروجرد مسقط رأسه، وبقي مدّة في المنفي غريباً وحيداً.

يقول السيّد اليحيوي: ذات مرّة رأيت في المنام الإمام الحجّة (عليه السلام)، فتشفّعت لابن عمّ السيّد البروجردي عنده، وسألته الشفاعة له عند الله بالرجوع إلي مسقط رأسه، فأجاب (عليه السلام): لا طريق له إلي ذلك إلاّ أن يسترضي السيّد البروجردي، ويعتذر إليه ممّا إرتكبه في حقّه من الأذي.

ويضيف السيّد اليحيوي قائلا: فلمّا قمت من النوم وأصبح الصباح ذهبت إليه ونقلت له القصّة، فتأثّر تأثّراً كبيراً لكنّه لم يقل شيئاً غير الإستغفار والتوبة إلي الله تعالي، ثمّ انّه بعد ذلك قال: اكتب لي رسالة إلي السيّد البروجردي تعتذر فيها عن لساني منه، وتتنصّل منّي إليه. قال: فكتبت رسالة إعتذار عن لسانه إلي السيّد البروجردي وأرسلتها إليه، وما أن وصل الكتاب إلي السيّد البروجردي، حتّي وصل أمر من البهلوي بالإفراج عنه، وجواز رجوعه إلي بلده ومسقط رأسه، فرجع ورجعت معه إلي بروجرد.

نعم هكذا يهتمّ الإمام المهدي (عليه السلام) كإهتمام آبائه الكرام، بوكلائهم العامّين الذين يخدمون الدين، ويخدمون المسلمين بإخلاص، ولا يرضون إلاّ برضاهم.

البهلوي الأوّل ومصيره المحتوم

وأمّا البهلوي الأوّل، الذي حارب الحوزة العلميّة في قم، وناهض مؤسّسها وحاربه، وفرح عند موته وشمت به، فانّه قد مات أيضاً كما قال له وزيره لكن في التبعيد، وبأسوء حال وشرّ ميتة، فقد أُبعد من ايران إلي جزيرة موحشة، وتُرك فيها وحده، ثمّ زُرق ابرة الموت فكان فيها حتفه، كما فُعل ذلك من بعده بإبنه البهلوي الثاني.

وإنّما فَعَلَ بالبهلوي الأوّل كلّ ذلك، الذين جاؤوا به إلي الحكم من البريطانيين، فقد كان البريطانيون يعلّمون

البهلوي الأوّل الإيراني، وصديقيه: أمان الله خان الأفغاني، وأتاتورك التركي، سنوات عديدة في مكان واحد في لندن، ويدرّبونهم علي محاربة الإسلام وأهله، وبالفعل فقد توصّل كلّ منهم إلي الحكم في بلاده عبر إنقلاب عسكري دبّره البريطانيون لهم، ثمّ اُخذ كلّ منهم بمحاربة الإسلام وأهله، وذلك في قصص مشهورة.

كان هذا مصير البهلوي الأوّل في الدنيا، وأمّا مصيره في الآخرة فقد نقل لي أحد الزهّاد في طهران وإسمه: السيّد علي وذلك قبل أربعين سنة تقريباً قائلا: انّي رأيت البهلوي الأوّل بعد موته وكانوا قد أتوا بجسده محنّطاً ودفنوه في مكان في طهران في قبره، فرأيت القبر كأنّه بئر من النار تضطرم عليه، وكان كلّما التهبت البئر بالنيران وتطاول لهيبها، قذفت به مع رجل آخر لم أعرفه كان في صدره صليب إلي خارج القبر، وهما كالفحمتين من شدّة الإحتراق، ويصرخان من عظيم العذاب ويقولان: الويل لنا، ثمّ الويل لنا، ثمّ الويل لنا، ثمّ يرتكسان من رأسهما في القبر، وتبتلعهما من جديد النيران، لتقذف بهما في فورانها ثانية وثالثة ورابعة وهكذا.

السلام وجواب السلام

وحيث إنّه بلغ بنا الحديث إلي السيّد البروجردي (رحمه الله)ودار الكلام حول علمه وإدارته، وتقواه وزهده، فلا بأس بذكر القصّة التالية عن أخ له كان زاهداً عابداً، ورعاً متّقياً، فقد قيل: انّه كان للسيّد البروجردي (رحمه الله)أخ عالم يسكن في جوار مشهد الإمام الرضا عليه آلاف التحيّة والثناء بخراسان، ولم يكن في العلم كالسيّد البروجردي، لكنّه كان زاهداً متّقياً، وقد نقل عنه انّه ذات ليلة تشرّف إلي زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) في روضته المباركة، وفيها رأي الجموع الغفيرة من الناس يزورون، ويقدّمون السلام إلي الإمام، ففكّر في نفسه في كيفية جواب الإمام الرضا (عليه السلام)علي سلام هؤلاء

الزائرين، وهل انّه يجيب كلّ واحد واحد منهم علي حدة، أو يجيب الجميع بصيغة الجمع مرّة واحدة؟ ثمّ وقع في نفسه بأنّه كيف يمكن أن يجيب الإمام (عليه السلام) واحداً واحداً من هؤلاء الزائرين وهم علي هذه الكثرة الكبيرة خصوصاً أنّ سلامهم يقع أحياناً متقارناً بعضه مع بعض؟ وبعد مضي يومين، أو ثلاثة أيّام علي تفكّره هذا، تشرّف بزيارة الإمام الرضا (عليه السلام)في السحر، وعندما دخل الروضة المباركة تمّت له المكاشفة التالية:

إنّه رأي الإمام الرضا (عليه السلام) جالساً علي كرسي فوق الضريح المقدّس وهو يجيب سلام كلّ واحد واحد من زوّاره مميّزاً بينهم، وذلك بسرعة فائقة، يعجز الإنسان العادي عن الجواب بمثلها، والتمييز الدقيق بين الزائرين المسلّمين عليه.

ثمّ التفت الإمام الرضا (عليه السلام) إليه في تلك الحالة وقال له: هكذا نجيب سلام زوّارنا، ونميّز بينهم واحداً واحداً، ثمّ ذهبت عنه حالة المكاشفة، فلم ير الإمام الرضا (عليه السلام) وإنّما رأي الروضة المباركة علي ما كانت عليه.

نعم لقد خصّ الله تعالي المعصومين من محمّد وآله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بالولاية التكوينية، كما خصّهم بالولاية التشريعية، وسخّر لهم كلّ شيء وأقدرهم بإذنه علي كلّ شيء، كما أقدر بإذنه موسي الكليم علي الثعبان واليد البيضاء، وعيسي المسيح علي إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتي.

فاطمة المعصومة (عليها السلام) ومقام الشفاعة

وهنا لا بأس بذكر قصّة ترتبط بالسيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) وبمقامها عند الله في الشفاعة وهي: انّ شخصاً رأي في المنام السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) فتقدّم نحوها وسلّم عليها ثمّ إستأذنها في السؤال، فأذنت له، فقال متسائلا: هل صحيح ما يُنقل عنكم من أنّكم تشفعون عند الله لأهل قم؟ فقالت السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) في جوابه: انّ الذي يشفع لأهل قم

هو الميرزا القمّي صاحب القوانين، وأمّا أنا فإنّي أشفع لأهل العالم.

أقول: من الواضح انّ من شأن الميرزا القمّي ومقامه عند الله أن يشفع لأهل قم، والسيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) أن تشفع لأهل العالم، كما جاء في الحديث في سفينة البحار عن الإمام الصادق (عليه السلام) بأنّه يُدخل الله بشفاعة إبنته السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) شيعته الجنّة أجمعين()، ولكن ليس معني هذا هو أنّ أهل قم جميعاً يُشفعون بسبب الميرزا القمّي، أو انّ أهل العالم كلّهم يشفعون بسبب السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) دون أن يكون للنبي (صلي الله عليه وآله)والأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) والسيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مدخليّة في شفاعتهم، وذلك لأنّ مقام السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) والميرزا القمّي في الشفاعة هو فرع علي مقام النبي (صلي الله عليه وآله) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) في الشفاعة، والفرع لا يكون إلاّ بفضل الأصل.

(الشعائر الحسينية وآثارها)

وهناك قصّة اُخري ترتبط بالشعائر الحسينية، وتعبّر عن محبوبيتها لدي أهل البيت (عليهم السلام) ومدي إكرام الإمام الحسين (عليه السلام)لمروّجها والملتزم بها والمقيم لها، ألا وهي انّ أحد علماء طهران المتوفّي أوائل القرن الخامس عشر الهجري أوّل نزولنا في قم كان في حياته مصرّاً علي تعظيم الشعائر المرتبطة بالإمام الحسين (عليه السلام) إصراراً بليغاً، ومروّجاً للشعائر الحسينية بمختلف أقسامها ترويجاً واسعاً.

هذا العالم لمّا حضرته الوفاة أوصي أولاده أن ينقلوا جثمانه إلي كربلاء المقدّسة، وأن يدفنوه فيها إلي جوار الإمام الحسين (عليه السلام)، فلمّا توفّي وأراد أولاده تنفيذ وصيّته، ونقل جثمانه إلي كربلاء المقدّسة، واجههم منع الدولتين: الإيرانية والعراقية علي أثر الحرب القائمة بينهم في قصّة مشهورة ومعروفة من ذلك، فاضطرّوا إلي دفنه في ايران، وصار

الأمر عندهم مردّداً بين دفنه في مدينة مشهد إلي جوار الإمام الرضا (عليه السلام)، أو في مدينة قم في جوار السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، لكنّهم في الأخير رجّحوا الدفن في قم لأنّها أقرب إلي طهران، فدفنوا والدهم في قم، وذلك في مقبرة قريبة من روضة السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) تعرف بمقبرة «الشيخان».

وحيث انّه يستحبّ أن يزار الميّت، وأن يؤتي قبره لقراءة الفاتحة علي روحه، في اليوم الثالث من موته، وكذا في اليوم الخامس والسابع والأربعين وفي رأس السنة، فقد زار أولاد هذا العالم وذووه أباهم في سابعه، وجاؤوا إلي قبره لقراءة الفاتحة علي روحه، فرأوا علي قبره جماعة قد أحاطوا بالقبر، وجلسوا عليه يقرأون الفاتحة، ومعهم بعض الحلويّات والفواكه، وهم يعملون ما يعمل أهل الميّت وذووه به، فتعجّب أولاد العالم وذووه من هذا المنظر الغريب، فتقدّم أحدهم إليهم وقال: انّ هذا القبر قبر والدنا، فلماذا إجتمعتم أنتم عليه؟ هل انّكم إشتبهتم في ذلك؟

فكان الجواب منهم: كلاّ ولكنّا إجتمعنا علي هذا القبر لنقرأ الفاتحة علي روح المدفون فيه، ولنهدي ثواب الخيرات من حلويات وفواكه إلي روحه تشكّراً منه، وذلك لأنّ له الفضل علينا.

فقال لهم بتعجّب: وكيف له الفضل عليكم؟

قالوا: كان لنا والد قد توفّي قبل عدّة سنوات فدفناه في هذه المقبرة، وحيث انّه لم يكن إنساناً ملتزماً في حياته، لم نره في المنام إلاّ وهو في حالة غير حسنة، وكلّما أهدينا له ثواب بعض الخيرات من صلاة وصدقة، وقرآن ودعاء، وما أشبه ذلك لم ينتفع به، حتّي كأنّه لا يصل إليه، وكلّما رأيناه في المنام كنّا نراه علي تلك الشدّة، ثمّ انّه قبل أيّام رأيناه بحالة حسنة، فقد رأيناه في بستان جميل، ومياه جارية،

وأشجار عالية، وقد أحدق من حوله الخدم والحشم، والحور والغلمان، فتعجّبنا من ذلك، وسألناه عن سبب تحسّن حاله، وعن كيفية خلاصه من شدّته؟ فأجاب قائلا: لقد دفن في هذه المقبرة عالم ربّاني وأشار إلي هذا القبر الذي إجتمعنا نحن حوله، وقال: لمّا دفنه ذووه هنا وإنصرفوا عنه، زاره الإمام الحسين (عليه السلام) بعد انصرافهم، وعندها رفع الله العذاب ببركة الإمام الحسين (عليه السلام)عن كلّ من دفن في هذه المقبرة، وكنت أنا من جملتهم.

ثمّ أضاف المجتمعون حول القبر قائلين: وإنّما جئنا إلي هذا القبر وجلسنا حوله، لنقرأ الفاتحة علي روح هذا العالم الربّاني، الذي زاره الإمام الحسين (عليه السلام) ورفع الله بسببه العذاب عن ميّتنا، وذلك شكراً له وثناءاً عليه.

قم منطلق الخطباء والمبلّغين

انّ قم المقدّسة تحتل اليوم أكبر موقع روحي بالنسبة إلي العالم الإسلامي، بل مع كلّ العالم حيث يوجد فيه إنسان مسلم، وذلك لأنّها أصبحت اليوم (لما فيها من المراجع والفقهاء، والحوزة العلمية، ورجال الدين) محطّاً لأنظار كلّ المسلمين، ومورداً لإحترامهم، وهذا ممّا يزيد في مسؤوليتها تجاه المسلمين بل تجاه كلّ العالم بأسره، إذ عليها اليوم أن توصل إليهم ما يحتاجونه من الاُمور المعنوية والأخلاقية، وما يهمّهم من المسائل الدينية والشرعية، وهذا لا يتمّ إلاّ بالتبليغ والإرشاد.

ومن المعلوم انّ التبليغ والإرشاد يتوقّفان علي وجود مبلّغين ومرشدين، يتناسب عددهم مع العدد الذي يراد تبليغهم وإرشادهم، فهل هناك في قم المقدّسة وحوزتها العلمية المباركة عدد مناسب من المبلّغين والمرشدين أم لا؟

يقال: إنّ هناك في قم المقدّسة أربعون ألف رجل دين، وهو عدد قليل لا يتناسب مع المهمّة الموكولة إليهم، بينما نري أنّ للبابا وجهاز التبشير في المسيحية ما يقرب من خمسة ملايين مبشّر حسب بعض الإحصاءات.

هذا مع انّ عدد

المسيحيين اليوم في العالم الف مليون نسمة، وعدد الشيعة في العالم الف مليون نسمة أيضاً، وكذلك أبناء العامّة فانّ عددهم في العالم الف مليون نسمة أيضاً. ولقد نقلنا هذه الإحصاءات الثلاثة من المصادر المعنيّة بذلك.

فعدد الشيعة اليوم يعادل عدد أبناء العامّة، وانّ كلا منهما يشكّل نصف عدد المسلمين، البالغ حسب الإحصاءات الأخيرة أكثر من ملياري مسلم، وفق ما أقرّ به الرئيس المصري، الخبير بنفوس الشيعة والسنّة لمكان الأزهر في مصر: أنور السادات، في خطاب له نشرته جريدة الأهرام المصرية، وقد رأيت الجريدة وقرأت نصّ الإقرار فيها، كما وقد ذكرت ذلك النصّ من الجريدة المذكورة مع ذكر عددها وتاريخها، ورقم صفحتها وسطرها في بعض ما كتبناه حول الشيعة() وكنّا حينذاك في الكويت.

ثمّ انّ جهاز التبشير في المسيحية بقيادة البابا جهاز له إمتداداته بحيث انّه يتكفّل بجميع شؤون المبشّرين من راهبين وراهبات، وغيرهم، ويقوم بواجباتهم ومتطلّباتهم، ويوفّر لهم كلّ إمكانيات التبشير من تهيئة تذاكر للسفر، وتأمين ذهابهم وإيّابهم، وتعيين منطقة تبشيرهم، وغير ذلك، وفي المقابل يشترط الجهاز علي المبشّرين، إنجاز مؤسّسات خيرية تبشيرية في كلّ منطقة يبقي أحدهم فيها مدّة خمس سنوات، من كنيسة أو مدرسة أو مستوصف أو ما أشبه ذلك.

وهذا الإنجاز والتأسيس مع الأسف الشديد غير موجود عند المسلمين، لا عند الخاصّة ولا العامّة، ولهذا نري انّ في كلّ خمس سنوات تزداد مؤسّسات المسيحيين الخيرية التبشيرية بمعدّل خمسة ملايين مؤسّسة، وذلك لأنّ منهم من لا يشمله شرط التأسيس، ومن يشمله الشرط قد يؤسّس بعضهم أكثر من مؤسّسة واحدة، فيكون المعدّل خمسة ملايين.

وكلّ ذلك التقدّم يرجع إلي التنسيق والتشاور الموجود في جهاز التبشير العالمي، المفقود ذلك أيضاً عند المسلمين، مع انّ الإسلام هو الذي يأمر بالتنسيق

والتشاور، ففي القرآن: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا)()(وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ)() وفي الحديث: «يد الله مع الجماعة» () و «نظم أمركم» () و «الإستشارة عين الهداية» () وإلي غير ذلك.

كاشان دار المؤمنين

كانت مدينة كاشان من توابع قم في عراقتها بالتشيّع، وفي إحتضانها العلماء العاملين، والخطباء المبدعين، وكانت ولا تزال تعرف بدار المؤمنين، والقصّة التالية تؤيّد أنّ لكاشان هذه المعاني:

لقد هلّ هلال المحرّم بالحزن والأسي في بعض السنين علي العالم، وإشتغل الشيعة بإقامة الشعائر الحسينية، وعقد مجالس العزاء والمنبر الحسيني في كلّ البلاد، ومنها كاشان، ومن المعلوم انّ المجالس والمنابر تكون بكثرة بالغة في أيّام العشرة الاُولي من المحرّم، بحيث إنّ الخطباء والمبلّغون يكون لهم أكثر من مجلس للخطابة والتبليغ في هذه العشرة بالنسبة إلي كلّ أيّام السنة، ولذلك تنهكهم الخطابة، ويجهدهم التبليغ في هذه العشرة خاصّة في اليوم العاشر وليلته أكثر من كلّ وقت.

وفي مساء يوم عاشوراء، وفي وقت متأخّر منه، يلتقي أحد خطباء كاشان وهو في طريقه إلي بيته منهكاً متعباً بامرأة من المؤمنات وتطلب منه أن يقرأ لها في بيتها مجلساً علي الإمام الحسين (عليه السلام)، فيعتذر منها فتصرّ عليه.

يقول ذلك الخطيب: إنّي كنت في غاية التعب والنصب، وما كنت أتمكّن من القراءة والخطابة، لكن إصرارها أوجب عليّ أن أستجيب لها وأذهب إلي دارها، كانت الدار مهيّأة لإستقبال المعزّين وبابها مفتوحاً علي مصراعيه، فدخلت في الدار فرأيت فيها غرفة ملبّسة بالسواد، قد وضع في صدرها منبر مغطّي بسواد، وفي زاوية منها قد اُعدّت وسائل الشاي وما أشبه ذلك، لكنّي لم أر أحداً فيها، فقلت للمرأة متعجّباً: إذن أين المستمعون؟

قالت: ليس المهمّ وجود المستمعين، وإنّما المهمّ إقامة مجلس العزاء علي الإمام الحسين (عليه السلام) فاقرأ

أنت في سبيل الله وقربة إلي الله.

قال الخطيب: فارتقيت المنبر وأخذت في الخطابة وذكر المأتم وما حلّ علي آل الرسول (صلي الله عليه وآله) من مآسي وويلات، وبينما أنا جالس فوق المنبر ومشغول بالخطابة، وإذا بي أسمع نياحة النساء وبكائهنّ في تلك الغرفة ولكنّي ما كنت أري أحداً فيها، فتعجّبت تعجّباً بليغاً، فلمّا أكملت المأتم وفرغت من قراءة المجلس، نزلت من المنبر وسألت المرأة صاحبة المجلس عن النياحة، والبكاء في الغرفة مِمَّن كان؟

فقالت: إنّي لا أعلم.

قال الخطيب: فذهبت إلي البيت ونمت، وفي عالم الرؤيا سمعت هاتفاً يقول لي: انّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت حاضرة في المجلس وكانت هي التي تبكي، وقد أثّر هذا الأمر الدالّ علي إخلاصه في خطابة هذا الخطيب بحيث انّه لمّا كان يصعد المنبر بعد تلك القصّة ويقول: السلام عليك ياأبا عبدالله، كان المجلس يرتجّ بالبكاء والنحيب، وكان مجلسه هكذا إلي أن توفّي رحمة الله عليه.

فصل المحدّث القمّي مفخرة من مفاخر قم

فصل المحدّث القمّي مفخرة من مفاخر قم

ثمّ انّ من مفاخر قم المقدّسة المرحوم المغفور له، المحدّث الكبير، الشيخ عبّاس القمّي، صاحب كتاب مفاتيح الجنان، وسفينة البحار، وكتب اُخري تصل إلي قرابة مائة كتاب ممتع ومفيد.

انّ هذا العالم الجليل، والمحدّث النحرير، بالإضافة إلي علمه الغزير والمتنوّع، وإستمراره العجيب والدائم في الكتابة والتأليف، كان وبصدق ورعاً زاهداً، ومتّقياً عابداً، وقد توفّي في النجف الأشرف ودفن هناك في جوار الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكانت له في حياته الكريمة قصص جميلة، منها ما يلي:

انّ المحدّث القمّي يقوم قبل ثمانين سنة تقريباً حسب نقل بعض الأخيار بزيارة له إلي الإمام الرضا (عليه السلام) في مشهد المقدّسة، وذات ليلة يذهب بعد صلاتي المغرب والعشاء لزيارة أحد العلماء، ولم يكن الطريق إليه معبّداً ولا مزوّداً بالنور، كما

كانت العادة في الطرق سابقاً، (وقد رأيت مثل ذلك لمّا كنت في النجف الأشرف قبل ستّين سنة تقريباً فانّ الطرق كانت مظلمة وغير معبّدة، وكان الظلام شديداً في الليالي، وخاصّة الليالي غير المقمرة بحيث كان الإنسان لا يري موضع قدميه، ويشقّ المشي عليه) ولكن المحدّث القمّي كما يحدّثنا الشخص الذي كان يمشي خلفه، كان يمشي براحة ومن دون مشقّة، وذلك لأنّ نوراً كان يسعي بين يديه ويضيء له الطريق، فيتعجّب ذلك الشخص من مصدر النور، حيث انّه لا يري مع المحدّث القمّي مصباحاً، ولا ما يبعث علي النور معه، ولذلك يسرع في المشي حتّي يصل إليه ليري من أين يكون النور، وما هو مبعثه؟ فلمّا وصل إليه إذا به يري انّ مصدر النور ومبعثه هو: المحدّث الشيخ عبّاس القمّي (رحمه الله) وذلك انّه كلّما ذكر الله تعالي وسبّحه خرج من فمه نوراً أضاء له الطريق.

أقول: ومثل هذه الحالة توجد في الآخرة أيضاً، وقد أشار إليها قوله تعالي: (يَوْمَ تَرَي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَي نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ)() (والظاهر: انّ النور الذي يسعي بين أيديهم يكون منبعثاً من وجوههم، والنور الذي يسعي في طرف أيمانهم يكون منبعثاً من صحيفتهم، غير انّ نور المؤمنين والمؤمنات في القيامة حسب ظاهر الآية الكريمة يكون مستمرّاً، فانّ سطح القيامة مظلم جدّاً وإنّما يكون الضياء فيه من هذه الأنوار، والمهمّ في الأمر هو: انّ هذه الأنوار إنّما يستفيد منها الصالحون فقط، وامّا الطالحون فانّهم كما لا يرون النور في جهنّم والعياذ بالله) فكذلك لا يرونه يوم الحساب، بل يقضون موقفهم في القيامة في ظلام دامس مع انّ تلك الأنوار أمامهم، فيكون مثلهم كمثل الأعمي الذي يمشي مع إنسان بيده مصباح منير، فانّ

من بيده المصباح يري النور أمّا الأعمي فلا يري ذلك النور أبداً.

من كرامات المحدّث القمّي

ومن القصص الدالّة علي كرامة المحدّث القمّي (رحمه الله) هو ما نقل عن بعض: من انّه كان له صديق ظاهر الصلاح، فذهب ذلك الصديق إلي الحجّ وزيارة مرقد رسول الله (صلي الله عليه وآله) وأئمّة البقيع (عليهم السلام) في المدينة، ولمّا رجع من الحجّ والزيارة زاره الناس من معارفه وجيرانه وأصدقائه، ما عدا الشيخ عبّاس القمّي (رحمه الله)فانّه لم يزره، فتعجّب ذلك الصديق من عدم زيارة الشيخ له، وذات يوم وقد خرج في بعض حوائجه فإذا به يري الشيخ في الطريق، فسأله: لماذا لم يزره مع انّه علم برجوعه؟

فقال له الشيخ المحدّث (رحمه الله): كيف أزورك وأنت لم تتُب إلي الله سبحانه وتعالي ممّا عملته في عرفات؟

فخجل الصديق من كلام الشيخ وقال: أستغفر الله وأتوب إليه، ثمّ ودّعه وانصرف.

ثمّ انّ ذلك الصديق قال: لقد تعجّبت من الشيخ المحدّث كيف اطّلع علي ما لم يطّلع عليه سوي الله تبارك وتعالي وأنا، وذلك انّه كان قد إرتكب معصية لم يعلم بها أحد، وإنّما علم به العالم بالنوايا والأسرار فقط، وهو الله سبحانه وتعالي والمرتبطون به، ممّا يدلّ علي انّ الشيخ المحدّث (رحمه الله) كان قد تأهّل لأن يكون من اُولئك المرتبطين بالله تبارك وتعالي، وإلاّ فمن أين علم الشيخ بذلك، مع انّه كان بينه وبين صديقه في لحظة المعصية مسافاة بعيدة؟

ومن القصص الدالّة علي كرامة المحدّث القمّي (رحمه الله) أيضاً هو ما نقل عنه: من انّه ذهب ذات مرّة بصحبة السيّد محمّد نجل السيّد حسين القمّي (رحمه الله) إلي إحدي المقابر لزيارة أهل القبور وقرائة الفاتحة علي أرواح الموتي، فلمّا دخلا المقبرة سمع الشيخ عبّاس

القمّي صوت صراخ وعويل، ورنّة وأنين، وكأنّ إنساناً يُعذّب في قبره في ناحية من المقبرة، فاتّجه الشيخ المحدّث هو والسيّد محمّد القمّي إلي تلك الناحية، حتّي إذا إقتربا من القبر الذي كان يعلو الصراخ منه، التفت الشيخ عبّاس إلي السيّد محمّد وقال: كأنّي أسمع صوتاً مرعباً، وصراخاً مُفزعاً، يعلو من هذا القبر، فهل تسمع أنت شيئاً؟

فأجاب السيّد بالنفي، فلم يقل له الشيخ المحدّث شيئاً، وتبيّن له انّه وحده الذي يسمع صوت ذلك الميّت المعذّب، وكان هناك اُناس قد إجتمعوا علي قبره وكأنّهم كانوا قد فرغوا من دفنه، فسألهم الشيخ المحدّث عن حال ميّتهم، فظهر انّه كان في حياته من الأشخاص غير المبالين بأمر دينهم.

نافذة علي عالم البرزخ)

هناك في كتاب البحار، وكتاب لئالي الأخبار، وغيرهما من كتب الحديث تفصيل حول عذاب القبر، وما يلاقيه أهل القبور من العذاب جرّاء أعمالهم في الدنيا، خاصّة إذا كان الشخص غير مبال بدينه وآخرته. وتأكيداً لتلك المطالب المذكورة في مثل هذه الكتب فقد نُقل أنّ أحد العلماء سمع أصواتاً مفزعة من بعض الموتي المعذّبين، وذلك حسب ما نقل هو، وكان هذا العالم في زماننا وقد رأيناه والتقينا به فقصّ علينا القصّة التالية:

قال: كنت مشتغلا بتلقّي الدروس الدينية في إحدي المدارس العلميّة في ايران وأنا أعزب لم أتزوّج بعد، فذهبت إلي الشيخ محمّد الكاشي المعروف بالزهد والتقوي، وطلبت منه أن يعلّمني عملا يوجب إنقطاعي عن الدنيا وإقبالي علي الله سبحانه وتعالي.

فقال لي الشيخ الكاشي: عليك أن تذهب ولمدّة ستّة أشهر إلي زيارة أهل القبور في مقبرة البلد، وليكن ذلك في كلّ ليلة عند منتصف الليل ثمّ تبقي في المقبرة متعبّداً إلي الصباح.

قال: ففعلت ذلك وكنت أذهب كلّ ليلة في منتصفها إلي

المقبرة متحمّلا كلّ المصاعب التي كانت في هذا الطريق، من ظلام الليل وعدم وجود مصابيح تضيء الشوارع والأزقّة، ومن وحشة الليل وعدم وجود المارّة في الطريق، والمؤنس في المقبرة.

وذات ليلة لمّا ذهبت إلي المقبرة وإقتربت منها سمعت صوتاً شديداً مزعجاً، في غاية الشدّة والإزعاج، وكنت كلّما إقتربت من المقبرة إقترب ذلك الصوت وإشتدّ، حتّي إذا دخلتها رأيت هناك جنازة وإلي جنبها سراجاً ذا ضوء خافت، وقد جلس إلي جانبه رجل يتلو القرآن علي تلك الجنازة، ويعلو الصوت منها، فلمّا إقتربت منها جيّداً، إذا بي أري ملكين يضربان هذا الميّت بمرزبتين من نار، والميّت يستعر ناراً ويصرخ صراخاً يقطّع نياط القلب، ويذهل الإنسان، فأدهشني المنظر وأرعبني، فتمالكت نفسي والتفت إلي ذلك القاريء الذي كان يقرأ القرآن عنده وقلت له: هل تري ما أري، وتسمع ما أسمع؟

فقال: ما تري وما تسمع؟

قلت: أري ملكين يعذّبان الميّت، وأسمع صراخ الميّت وعويله.

فأجاب بالنفي، فعلمت انّ عيني واُذني قد فتحتا بإذن الله تعالي علي بعض ما يجري في عالم البرزخ من الاُمور البرزخية، ثمّ استولي عليّ الخوف والذعر، بحيث لم أتمكّن من البقاء والإشتغال بالعبادة كعادتي في كلّ ليلة، فرجعت من دون إختيار، بل بدافع من الوحشة والدهشة، ومطاردة من شبح الملكين المهيبين، وشرر من مرزبتيهما الناريتين.

رجعت أدراجي نحو المدرسة، وكأنّ أفواج الأهوال تطاردني، وأمواج البلايا تلاحقني، حتّي إذا وصلت إلي غرفتي سقطت مغشيّاً عليّ، ولم أفق من غشوتي إلاّ علي صوت الأذان يعلو من مؤذّن المدرسة، وهو يعلن عن طلوع الفجر، ودخول الصباح، فنهضت لصلاة الصبح وأنا متوتّر الأعصاب، مرعوب القلب، منهك الجسم، ممّا إضطرّني بعدها لمراجعة الطبيب، ومعالجة نفسيّتي المنهارة، وجسمي المتعب، وقلبي المثقل بالهموم والغموم، وحالتي المزرية المتعبة

من معاينة ذلك المنظر الرهيب، وسماع الصوت المهيب، وبالفعل بقيت لمدّة ستّة أشهر اُعالج نفسي المريضة حتّي شفيت بإذن الله تعالي من التوتّر، ولكن لم يفارقني هول ذلك المنظر ورعبه وذعره.

وكان كذلك، فانّي قد رأيت هذا العالم، والتقيت به مرّات عديدة، وعرفت منه ذلك، فانّه كان بحيث إذا رآه الإنسان، رآه كأنّه واله حزين، لا يفرح ولا يضحك إلاّ ضحكاً سطحيّاً وقشريّاً كما هو عادة أهل المصيبة والعزاء، ويحقّ لمن يري بعض مؤاخذات البرزخ، أو يسمع بها أن يكون كذلك.

(مع شارح العروة الشيخ الآملي)

نقل عن شارح العروة المعروف: الشيخ محمّد تقي الآملي وكان من علماء طهران، انّه ذهب أيّام شبابه إلي النجف الأشرف لتحصيل العلوم انّه قال: إرتقيت في الدرس من السطوح إلي درس الخارج، ثمّ بدأت أحضر درس الميرزا النائيني (قدس سره)وكانت لي حجرة في مدرسة الآخوند الكبري.

وذات يوم من أيّام الشتاء وقد كان الجوّ شديد البرودة، وأنا في الحجرة صلّيت صلاة الصبح وجلست مادّاً رجليّ تحت الكرسي من شدّة البرد، وملقيّاً علي رجليّ اللحاف، تناولت القرآن لأتلوه، فجالت في خُلُدي الفكرة التالية وهي: الجلسة التي أنا عليها خلاف الأدب مع القرآن، لكن حيث انّي كنت في الحجرة وحدي، ولم يكن هناك أحد يراني، ولم يوجد بنظري ما هو خلاف إحترام القرآن حيث كان اللحاف قد غطّا رجليّ وسترهما، قلت: انّه ليس خلاف الأدب، وبدأت أتلو القرآن وأنا بتلك الحالة.

ثمّ لمّا أكملت تلاوة القرآن ذهبت أوّل طلوع الشمس لزيارة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في روضته المباركة، وعندما دخلت باحة الروضة رأيت أحد العلماء الأتقياء ويدعي: السيّد جواد، جالساً في ناحية منها، فذهبت إلي داخل الروضة وزرت، ولمّا أكملت الزيارة وعدت، مررت بالسيّد جواد المذكور وسلّمت عليه،

فردّ عليّ السلام ثمّ ناداني وقال: اعلم أيّها الشيخ: انّ القرآن كلام الله العزيز، ولا يصحّ أن يقرأه الإنسان وهو مادٌّ رجليه، حتّي ولو كان الوقت شتاءاً وكانت رجلاه مغطّاة باللحاف.

قال الشيخ: فتعجّبت من ذلك أبلغ التعجّب، واستغربت أشدّ الإستغراب، حيث انّ السيّد قد أخبرني بما لم يطّلع عليه إلاّ الله وأنا، فانّي لمّا كنت أتلو القرآن لم يكن أحد معي في الغرفة، كما انّي لم أقل ذلك لأحد أبداً.

الإلتزام باُمور أربعة

قال الشيخ الآملي: ذهبت الأيّام والليالي علي هذه القصّة وأنا معجب بالسيّد، وكنت أترصّد الفرصة لألتقي به مرّة اُخري، حتّي إذا حلّ الصيف وإشتدّ الحرّ في النجف الأشرف، فتردّدت بين أن أعود إلي ايران لأجل الإصطياف في قراها الباردة، والتخلّص من صيف النجف الحارّ، وبين أن أبقي في النجف الأشرف لأجل الإستمرار في الدراسة، ومواصلة التقدّم العلمي، ففكّرت في أن أذهب إلي هذا السيّد العالم لأستخير الله في أمري عنده، فذهبت إليه ذات يوم أوّل طلوع الشمس، ودخلت عليه الدار وذهبت إلي غرفته، فرأيت عنده في غرفته طالباً من طلاّب العلوم الدينية وهو يستنصحه، والسيّد يقدّم له النصيحة والموعظة قائلا له: لو انّ إنساناً عمل باُمور أربعة لمدّة ستّة أشهر، لرأي في حياته شيئاً خارقاً، والأعمال الأربعة هي كالتالي:

1 أن يذهب كلّ يوم إلي زيارة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في روضته المباركة.

2 أن يزور الإمام الحسين (عليه السلام) في المناسبات المشهورة كالأربعين وغيره.

3 أن يتجنّب عن كلّ المعاصي وبكل جدّ.

4 أن يذهب لزيارة أهل القبور إلي وادي السلام في النجف الأشرف كلّ ليلة جمعة مرّة.

قال الشيخ محمّد تقي الآملي: ثمّ انّ الطالب الذي كان ينصحه السيّد قام وخرج من عنده، ولمّا خلي المجلس التفتُّ

أنا إلي السيّد وقلت له: وهل عملتم جنابكم بهذه الأعمال الأربعة؟

قال: نعم.

فقلت له: وهل رأيتم شيئاً غريباً؟

قال: قد رأيت.

قلت: وهل يمكنكم أن تذكروا لي جانباً منه؟

قال: نعم، لقد كنت قبل قليل في المقبرة مشتغلا بزيارة القبور، فسمعت من أحد القبور نداءاً يقول لي: أيّها السيّد إذهب إلي الدار، فانّ الشيخ محمّد تقي الآملي سوف يأتي إليك لتستخير الله له في أن يذهب في هذا الصيف إلي ايران للإصطياف، أو يبقي في النجف الأشرف ويواصل دراسته.

قال الشيخ محمّد تقي الآملي: فإزددت تعجّباً وإستغراباً، وعلمت انّ الإنسان المخلص لله سبحانه وتعالي، الزاهد في حياته، قد يصل إلي ما لا يصل إليه أحد من الناس.

السيّد القمّي من أعلام القرن الرابع عشر

كان السيّد الحاجّ آقا حسين القمّي رحمة الله عليه علماً من أعلام القرن الرابع عشر الهجري، وكان إلي جانب علمه الغزير متّقياً زاهداً، مقداماً مجاهداً، وقد رأيته اُستاذاً بارعاً أيّام الدرس في حوزة كربلاء، وزاهداً عابداً أيّام الصيف في سامراء، حيث كان يتشرّف بزيارة الإمامين العسكريين (عليهما السلام)وسرداب الغيبة في النهار، وفي الليالي كان يذهب برفقة العلماء للمباحثة والنوم إلي الشطّية، وهي منطقة واقعة خارج البلد، يحوطها (نهر) سامراء إلاّ في أحد أطرافها.

ثمّ انّه كان عند المنام هناك ودفعاً لأذي الحشرات والعقارب يتلو الآية التالية: (سَلاَمٌ عَلَي نُوح فِي الْعَالَمِينَ()، إنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الُْمحْسِنِينَ()، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ()) ثمّ يضرب بإحدي يديه علي الاُخري، والمعروف انّ القرائة بهذه الكيفية توجب عدم إقتراب الحشرات المؤذية من الإنسان، وعدم دنوّها إلي المكان الذي وصله صوت تلاوة القرآن، ثمّ كان ينام وحوله جماعة من العلماء الأعلام، كالسيّد الميلاني، والسيّد الوالد، والسيّد زين العابدين الكاشاني، والشيخ محمّد رضا الاصفهاني، والسيّد حسن القمّي ولده، وكنت أنا بخدمة والدي،

وإلي غيرهم من العلماء، وفي الصباح كنّا نري آثار الحشرات، كالخنفساء، أو العقارب أو ما أشبه ذلك، قريباً من المكان الذي كان قد وصله صوت تلاوة هذه الآيات المباركة من القرآن.

تمثال آية الله العظمي الحاج السيّد حسن القمّي (دام ظلّه)

نجل آية الله العظمي الحاج آقا حسين القمّي (قدس سره)

من ذكريات سامراء

وفي إحدي السنوات وأنا بخدمة والدي وفي صحبة الحاج آقا حسين القمّي (قدس سرهما) كثرت العقارب في سامراء، حتّي انّه كان المنادي ينادي في أزقّة سامراء وشوارعها: الجهاد الجهاد، فيجتمع الناس لقتل العقارب، وكان الناس يخافون من لدغ العقارب خوفاً شديداً، ويأخذون حذرهم منها، فانّ نوعاً منها كان إذا لدغ الإنسان مات الشخص من لدغها، علماً بأنّه كانت قد ظهرت هناك أنواع من العقارب منها: «جرّارة» و «شيّالة» و «طيّارة» ولذا لم يكن الناس يأمنون علي أنفسهم من النوم علي سطوح منازلهم مع انّ الهواء كان حارّاً شديد الحرّ، وإنّما كانوا ينامون في الغرف المسدودة الأبواب، ويتحمّلون الحرّ الشديد، تحرّزاً من لدغ العقارب، التي قد لدغت بعض الناس وأهلكتهم، علماً أنّ الملدوغين كانوا قليليين جدّاً.

ثمّ إنّا لمّا كنّا نرجع من الشطّية إلي البلد في الصباح كنّا نشاهد العقارب الميّتة، التي قتلها الناس هنا وهناك، ومن العجيب جدّاً انّ العقارب لم تكن تظهر في النهار، وإنّما كانت تظهر في الليل فقط.

اللحظات الأخيرة من أيّام السيّد القمّي

وفي الأيّام الأخيرة من عمر السيّد القمّي، تمرّض السيّد رحمة الله عليه وذهب للمعالجة إلي بغداد، فزرته أنا في خدمة الوالد والسيّد الميلاني (رحمهما الله) في بغداد، وتفقّدنا حاله هناك، ثمّ رجعنا وبعد مدّة اُدخل المستشفي وتوفّي فيه، وقد نقل لي بعض من كان معه: انّ السيّد لمّا إشتدّ به المرض، وصار في حال الإحتضار، اُغمي عليه ثمّ أفاق من غشوته وقال لمن حضره بإلحاح وإصرار: أجلسوني أجلسوني.

فقلنا له: انّ حالتكم الصحّية لا تسمح لكم بالجلوس.

فأعاد علينا وبإصرار شديد قوله: أجلسوني أجلسوني.

فأجلسناه، فإذا به قد توجّه نحو باب الغرفة في المستشفي، ووضع يده علي صدره بتواضع ووقار وقال: السلام عليك ياأمير المؤمنين.

فعلمنا انّ السيّد القمّي

قد سلّم علي الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يراه ويشهد حضوره عنده.

ثمّ توجّه السيّد نحونا والتفت إلي أولاده ووصّي بأن يدفنوه في النجف الأشرف، بعد ما كان قد وصّي بأن يدفنوه في كربلاء المقدّسة، ثمّ انطفأ نوره المبارك وفارقت روحه الدنيا رضوان الله تعالي عليه.

ثمّ انّ أولاد السيّد القمّي (رحمه الله) قاموا بتجهيز والدهم ونقلوه إلي مثواه الأخير، فأنزله في قبره ولده الأكبر السيّد مهدي القمّي، وواراه فيه رحمة الله عليه.

وبعد موت السيّد القمّي تشتّت العائلة وتفرّقت، حيث أخذ الغالب طريق ايران ورجعوا إلي بلادهم السابقة، وعلي أثر تشتّتهم تشتّت الحوزة العلمية، التي كان قد جمع شملها السيّد القمّي (رحمه الله) في كربلاء المقدّسة، ثمّ انّ السيّد الوالد (رحمه الله) قام بجمع شملها بعد ذلك، فتقدّمت وإزدهرت بالعلم والتقوي، فبلغ عدد رجال الدين فيها إلي ما يقارب ألف رجل دين، بين مجتهد وفقيه، وخطيب ومؤلّف، وما أشبه ذلك.

تمثال آية الله العظمي الحاج آقا حسين القمّي (قدس سره) وإلي يمينه آية الله العظمي الحاج السيّد ميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره) وقد التقطت الصورة في سفرة لهما إلي ايران لزيارة الإمام الرضا (عليه السلام) في مشهد المقدّسة

إيثار السيّد القمّي ومواساته

كان السيّد القمّي (رحمه الله) كبقيّة مراجع الشيعة الفقهاء معروفاً بالإيثار والمواساة مع ضعفاء الناس، خاصّة رجال الدين منهم، وممّا يذكر في هذا المجال هو: أنّ أحد تجّار ايران جاء إلي كربلاء المقدّسة وزار السيّد القمّي في منزله وقد كنّا في خدمته، فقال بعد التحيّة والتعارف مقترحاً علي سماحته: بأن يشتري لنفسه الدار التي كان يسكنها بالإيجار، فيسكنها بالملك وعليه ثمنها، ثمّ قدّم له الف دينار ثمناً للدار، لكن سماحته أبي أن يأخذها، علماً أنّ التاجر أخبر سماحته بأنّ

هذا المال ليس حقوقاً شرعية، وإنّما هو هبة وهدية منه إليه، وكلّما أصرّ التاجر علي الدفع أصرّ سماحته علي الرفض والإمتناع قائلا: كيف أشتري الدار وكثير من الطلبة ورجال الدين لا دار لهم؟

فيئس التاجر من قبول السيّد إقتراحه، كما ورفض هو إقتراح السيّد بأن يأخذ الثمن ويصرفها في الفقراء، وأرجع أمواله إلي ايران.

هذا وقد استأجرنا نحن في زماننا بعد السيّد القمّي تلك الدار، وجعلناها مدرسة أهلية، تعني بالشؤون الدينية والأخلاقية للناشئة، وسمّيناها بمدرسة الإمام الصادق (عليه السلام)الأهلية، وبعد إنتقال المدرسة من تلك الدار المستأجرة، تمّ إستئجارها من قبل الشيخ محمود دانش أحد علماء كربلاء المقدّسة، وإنتقل إليها، وامّا نحن فقد إنتقلنا إلي دار اُخري كانت قد اُهديت إلينا، فجعلناها في الاُمور الخيرية، ونقلنا مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) الأهلية إليها، وذلك لموقعها الجيّد، ومكانها الممتاز، فقد كانت في شارع قبلة الإمام الحسين (عليه السلام).

إستمرّت المدرسة في نشاطاتها الأخلاقية والدينية، حتّي استولي حزب البعث الكافر علي العراق ودمّر كلّ الحوزات العلمية، والمدارس الدينية، فشرّد الأبرار، ونفي الأخيار، وقتل العلماء واغتال رجال الدين، وبدّل نعمة الله كفراً، وأحلّ قومه دار البوار، جهنّم يصلونها وبئس القرار، نجّي الله الشعب العراقي المسلم من كابوسه المخيف، وأنقذهم من شرّه، آمين ربّ العالمين.

تمثال سماحة آية الله العظمي السيّد ميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره)

هذا وقد كان هناك العديد من العلماء الأعلام الذين كانوا في قمّة الأخلاق والإيثار كالسيّد القمّي نتطرّق إلي البعض منهم استطراداً وتتميماً للبحث واغناءً للموضوع، فمن أبرز هؤلاء العلماء هو:

الشيخ البلاغي معجزة الحوزات العلمية

من علمائنا الأعلام، الذين بزغوا في القرن الرابع عشر الهجري، وأناروا ما حولهم بعلمهم وتأليفاتهم، هو: الشيخ جواد البلاغي رحمة الله عليه، انّه كان من العلماء الأوتاد الذين خدموا

الإنسانية بجهدهم العلمي، وتقواهم العملي، لقد نقل لي والدي (رحمه الله) عنه ما يلي: قال انّ الشيخ البلاغي قبل إنتقاله إلي حوزة النجف الأشرف كان يواصل دراسته الدينية في حوزة سامراء، وكان الراتب الشهري للطلبة في حوزة سامراء قليلا جدّاً، كما هي العادة في قلّة الراتب الشهري بالنسبة إلي طلاّب العلوم الدينية في كلّ الحوزات العلمية حتّي يومنا هذا، وكان الشيخ البلاغي يصبر علي قلّة راتبه، ويقتنع بشيء قليل من المأكل والملبس، ويجعل لذلك نصف مرتّبه، ويدّخر النصف الآخر ليقدّمه إلي يهودي كان يتعلّم منه اللغة العبرية، لغة التوراة القديمة، وذلك حتّي يري ما هي النسبة بين التوراة المترجمة بالعربية، وبين التوراة الموجودة عند اليهود باللغة العبرية، ويعرف مدي صحّة الترجمة وأمانتها من زيفها وبطلانها.

نعم، هكذا قضّي الشيخ خيرة عمره، وريعان شبابه في هذا السبيل، حتّي تعلّم تلك اللغة الصعبة، وإكتشف بالفعل الفرق بين الترجمة والأصل، ونصّ علي موارد الخيانة في الترجمة، وإنّي شاهدت بعض تلك الموارد في تأليفاته القيّمة، حيث يقول مثلا انّ في اللغة القديمة تزيد كلمة، أو تنقص كلمة ممّا يغيّر المعني بالكامل، كأن يقلب النفي إلي إثبات، والإثبات إلي نفي.

ثمّ انّ الشيخ البلاغي بقي في بغداد مدّة كان يتعلّم فيها العلوم الرياضية الحديثة: من حساب وجبر وهندسة عند بعض المدرّسين، الذين كانوا يدرّسون في المدارس الحكومية الرسمية، وقد إشتغل بتعلّم الرياضيات لملاحظة بعض الاُمور الدينية، والأهداف الإنسانية، وقد ظهرت آثار هذا العلم في بعض كتبه أيضاً، ولا أعلم هل كان الشيخ يقدّم بعض راتبه الشهري إلي هذا المعلّم أيضاً أم لا؟

وعلي كلّ حال: فقد ألّف الشيخ في النجف الأشرف تأليفات مفيدة للغاية، وجميلة جدّاً، رأيت جملة منها، كالرحلة المدرسيّة، والهدي إلي

دين المصطفي، والتوحيد، والتثليث وغير ذلك، وهو حسب ما أعلم كان فريداً في هذه العلوم، وحيداً في هذا القرن الأخير.

مع مؤلّف كتاب إظهار الحقّ

نعم، لقد ظهر هناك من بين علماء الهند، عالماً عاملا، إنتهج نهج الشيخ البلاغي، ولكن لا في كشف اليهود، بل في كشف المسيحيين، فقد ألّف كتاباً جميلا في هذا المجال وسمّاه: «إظهار الحقّ» وهو كتاب مطبوع وموجود في الأسواق. هذا وقد نقل لي ذات مرّة السيّد حسن آقا مير المشهور، صاحب كتاب «الإمامة الكبري»: انّه كان يذهب إليه في داره في النجف الأشرف، وكان يراه (رحمه الله) في حرّ النجف الشديد يتجنّب النزول إلي السرداب ويقول: انّ النزول إلي السرداب يوجب الكسل للإنسان، ويؤخّره عن أعماله، ويثبّطه عن أداء واجبه، وإنّما كان يجلس في غرفة من غرفات داره وكانت حارّة شديدة الحرارة، ويأخذ في التأليف.

يقول السيّد حسن حاج آقا مير (رحمه الله): وكان العالم المذكور اُستاذي في كتاب المكاسب، فقد درست بعضاً من مكاسب الشيخ الأنصاري (قدس سره) عنده، وقال أيضاً عنه: انّه كان مع جهده اللامنقطع وسعيه الحثيث مصاباً بمرض نفث الدم، ولكن لم يكن ذلك صادّاً له عن مواصلة أعماله، ومتابعة تأليفاته.

وقفة مع الشيخ الأنصاري (قدس سره)

ولا بأس أن نذكر هنا بالمناسبة ما ينقل عن الشيخ مرتضي الأنصاري رحمة الله عليه: من انّه حين كان في النجف الأشرف، ما كان ينزل في الصيف إلي السرداب، ويتحمّل حرّ النجف الأشرف الشديد ويقول: انّ النزول إلي السرداب يورث الترهّل والكسل، ويوجب تأخّر الإنسان عن عمله العبادي، ونشاطه العلميّ.

هذا مع انّ حرّ النجف كان شديداً لا يطاق، وانّي قبل ما يقرب من ستّين سنة، لمست بنفسي حرّ النجف في أيّام الصيف، وتحسّسته بوجودي، فقد كان حرّاً شديداً جدّاً، ولذا كان الناس يذهبون إلي السراديب قبل الظهر، ويبقون فيه حتّي قبيل المغرب، ولم تكن تنفع الطبقة الاُولي من السرداب، ولا الثانية

بل كانوا يذهبون إلي السّن، والسّن هي الطبقة الثالثة من السرداب.

فقد كان من المتعارف في ذلك الوقت أن يهيّئوا للبيوت في النجف الأشرف ثلاثة سراديب: سرداباً في الطابق الأوّل من تحت الأرض، وسرداباً في الطابق الثاني منه، وسرداباً أخيراً في الطابق الثالث تحتهما، ويسمّي ذلك الأخير بالسنّ، ولعلّ سرداب السنّ في مدرسة السيّد الطباطبائي صاحب العروة الوثقي (قدس سره) موجود إلي الآن في النجف الأشرف، وان كان يحتمل انّ البعثيين هدّموه، كما هدّموا كثيراً من المراكز الشيعية، والمؤسّسات الخيرية والدينية في العراق قهراً وعناداً.

نعم هكذا كان دأب علمائنا الربّانيين، فهم كانوا يُربّون أنفسهم علي المصاعب للإستمرار في أعمالهم، ويدرّبونها علي المكاره للتداوم في نشاطاتهم، وقد أنشأ الشاعر وهو يصف هذا المعني في نظمه بقوله:

ومن طلب العُلي سهر الليالي***وغاص البحر من طلب اللئالي

نعم، هكذا تكون سنّة الحياة، فانّ النتائج الطيّبة إنّما تترتّب علي المقدّمات الشاقّة والصعبة، ولذا قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): «أفضل الأعمال أحمزها» () وقد اختلف في معني هذا الحديث إلي أقوال عديدة، فذهب بعض إلي انّ له هذا المعني المذكور آنفاً.

وذهب آخرون إلي انّه الأعمّ من هذا المعني المذكور.

وذهب ثالث إلي انّ معناه: أن يطلب الإنسان الأشقّ وهو متمكّن من الأخف، وإستدلّوا علي ذلك بما كان يفعله الإمام الحسن (عليه السلام) من الذهاب ماشياً إلي الحجّ، والمحامل تساق بين يديه()، قالوا: فإذا دار أمر الإنسان مثلا بين أن يصلّي في مكان بارد في الصيف أو في مكان حارّ، فالأفضل له أن يصلّي في المكان الحارّ، وهكذا.

لكن يرد علي هذا المعني الأخير: بأنّ موضوع حجّ الإمام الحسن (عليه السلام)موضوع خاصّ، وقد ذكرنا الكلام حوله في بعض كتبنا، كما يرد علي المعني الثاني

بأنّه لا دليل عليه، فيبقي أن يكون الظاهر من هذا الحديث: «أفضل الأعمال أحمزها» هو ما ذكرناه أوّلا، وذلك لقوله سبحانه: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ)()، ولقول رسول الله (صلي الله عليه وآله): «يسّروا ولا تعسّروا» ()، فانّ أمثال هذه الأدلّة الدالّة علي التيسير وعدم التعسير، تنفي أن يراد من الحديث المذكور، المعني الأعمّ أيضاً، كما قال به القول الثاني.

الشيخ النخودكي اُعجوبة الزمان

نعم انّ الله يريد اليسر للناس عموماً، غير انّ هناك أصحاب النفوس القويّة، والقلوب المطمئنة، يتدرّبون علي إختيار الأشقّ، وإنتخاب الأصعب، قربةً إلي الله تعالي، ومخالفة منهم لهوي أنفسهم، فينالون بإختيارهم هذا، الدرجات الرفيعة عند الله والكرامة لديه، لكن هذا خاصّ بالنسبة إليهم، وامّا عامّة الناس فتشملهم أدلّة التيسير وهو أفضل لحالهم.

ومن اُولئك الخواص هو المرحوم الشيخ حسن علي النخودكي، لقّب بالنخودكي لأنّه كان له بستان في منطقة تعرف «بنخودك».

كان الشيخ النخودكي يتعب نفسه في العبادة أيّما تعب، فقد نقل عنه أحد الثقاة قائلا: بأنّه كان يصلّي كلّ ليلة صيفاً وشتاءاً في سطح الروضة المباركة للإمام الرضا (عليه السلام)، ويقوم بالعبادة فيه من أوّل الليل إلي الصباح، وفي ليلة من ليالي الشتاء، وكانت الثلوج تتساقط بكثرة من السماء، أقبل الشيخ كعادته وصعد إلي السطح وإستمرّ بالعبادة والصلاة، فقال سادن الروضة المباركة لبعض الخدمة: اصعد إلي السطح وانظر إلي الشيخ ماذا يصنع في هذا البرد القارص، والثلج المتساقط من السماء، وكان ثلجاً كثيراً؟

قال: فصعد السطح، وإذا به يري الشيخ في حالة الركوع وانّ الثلج قد نزل علي ظهره وتراكم بين كتفيه بما يقارب من نصف المتر وهو غير معتن به، ومستمرّ في صلاته.

نعم، الأعمال الشديدة، والعبادات الكثيرة، إذا كانت في سبيل الله سبحانه

وتعالي، أوجبت للإنسان آثاراً طيّبة، وأكسبته مزايا حميدة، والشيخ حسن علي (رحمه الله) من اُولئك الذين حصلوا علي تلك الآثار والمزايا، وصار صاحب كرامات معروفة، وقد جمع بعض رجال الدين جملة من كراماته في كتاب مستقلّ، وقد رأيته وطالعته فكان جميلا نافعاً.

من كرامات الشيخ النخودكي

نقل لي أحد الأصدقاء قصّة للشيخ حسن علي وقعت بعد وفاته، ناقلا ذلك عن رجل كان قد تمرّض واشتدّ مرضه، وطال أمده، ولم ينفعه العلاج كلّما عالج، حتّي انّه يئس من مراجعة الأطبّاء في داخل ايران وخارجها.

فذهب لزيارة الإمام الرضا (عليه السلام) طلباً للشفاء، وعندما تشرّف للزيارة مرّ في طريقه علي قبر الشيخ حسن علي (رحمه الله)ففكّر في نفسه أنّ الشيخ من الوجهاء عند الإمام الرضا (عليه السلام)ومن بوّابيه، حيث انّ قبره كائن علي أعتاب مرقده الشريف، وفي بواّبة روضته المباركة، ولذا رأي أن يجلس علي قبره، ويقرأ علي روحه الفاتحة، وان يشفّعه عند الإمام الرضا (عليه السلام) في طلب الشفاء له.

وبالفعل جلس علي قبره، وبدأ يقرأ له الفاتحة، وسورة انّا أنزلناه، وبعض الآيات والأدعية ويهدي ثوابها إلي روحه، ثمّ أخذ يخاطبه ويقول له: أيّها الشيخ انّ لك عند الله تعالي وعند الإمام الرضا (عليه السلام) جاهاً كبيراً، ومنزلة رفيعة، وقد كنت أيّام حياتك تشير بإذن الله تعالي، وعناية من الإمام الرضا (عليه السلام) إلي المريض، فيُشفي من مرضه، ويعافي من علّته، وقد جئتك مريضاً علي قبرك، آملا أن تشفع لي عند ربّك عزّوجلّ وعند الإمام الرضا (عليه السلام) في شفائي، وأن تستأذنهما في الإشارة بعافيتي.

قال: وفي هذه الأثناء وبينما أنا مشغول بمخاطبة الشيخ وإذا برجل أقبل نحو القبر وفي يده ورقة فسلّم عليّ وناولني الورقة، فأجبت سلامه وأخذت منه الورقة، ولكن حيث

انّه قطع عليّ ما كنت فيه من الحالة الحسنة ومخاطبة الشيخ ومحادثته، انزعجت منه كثيراً، وتصوّرت انّه من اُولئك المستعطين الذين يقدّمون سؤالهم في أوراق يستعطون بها، فغضبت وطرحت الورقة جانباً، وإنشغلت بنفسي عنه.

ترك الرجل الورقة مطروحة علي القبر وإنصرف، ولمّا إنصرف عُدت إلي نفسي، وندمت علي فعلي، وقلت موبّخاً ضميري ووجداني: صحيح انّه قاطعني، وأفسد عليّ أمري، ولكن ما كان ينبغي أن اُجابهه بهذه الشدّة، وأضرب بورقته الأرض، ثمّ قلت في نفسي: عليّ الآن أن أقوم وآخذ الورقة من الأرض وأري ما كان سؤاله فيها؟ فقمت وأخذت الورقة ونظرت فيها، فإذا مكتوب فيها ما يلي:

أيّها المريض، راجع لعلاج مرضك الطبيب الفلاني، في محلّة كذا وشارع كذا من مشهد المقدّسة.

فأدهشني مضمون ما جاء في الورقة، وندمت كثيراً من فعلي، وتأسّفت بشدّة علي ما فات منّي، ثمّ قمت من علي القبر واتّجهت نحو العنوان وسألت عن ذلك الطبيب، فدلّوني عليه، فراجعته وعرضت عليه حالي، فكتب لي دواءاً، فأخذته وإستفدت منه، فشوفيت بإذن الله سبحانه وتعالي، وأمثال هذه الكرامات عند علمائنا الأبرار كثيرة جدّاً.

مع عَلَم من أعلام تبريز

نقل لي القصّة التالية سماحة الشيخ محمّد علي السرابي، الذي كان من علماء كربلاء المقدّسة، ومن تلاميذ السيّد الحاج آقا حسين القمّي (رحمه الله) وقد قرأت عند هذا الشيخ الجليل بعض الدروس الحوزوية كالشرائع، وتفسير الصافي، وكان هو في مدّة تواجده في تبريز تلميذاً للشيخ ميرزا صادق آقا، المعروف بالزهد والتقوي، والنبل والكرامة.

قال: في سنة من السنين كثرت حشرة «الساس» () في تبريز، وكانت هذه الحشرة علي صغر حجمها تؤذي الناس أذيً كبيراً.

وذات يوم كنّا عنده إذ جائه شاب وقال له: انّ والدي يسلّم عليك أيّها الشيخ ويطلب منك أن تجعل لنا علاجاً

لهذه المشكلة: مشكلة «الساس» التي نحن مبتلون بها.

فقال الميرزا صادق آقا: اذهب إلي والدك وقل له: ليفرّغ إحدي الغرف الموجودة في داركم ثمّ ليقف علي باب الغرفة وليقل برفيع صوته: أيّها «الساس» انّ الميرزا صادق آقا يقول لكم: اخرجوا من هذه الغرفة.

فنقل الشاب: انّه أخبر والده بذلك، ففعل ما قال له الشيخ وقال تلك الكلمة علي باب إحدي غرف الدار، وإذا به يري حشرة «الساس» تخرج بكثرة هائلة من شقوق السقف، وثقوب الجدران، ومن كلّ زوايا تلك الغرفة، حتّي خلت الغرفة من «الساس» إطلاقاً، فأصبحت تلك الغرفة محلّ أكلهم ونومهم وسائر شؤونهم، حتّي إنقضي فصل «الساس» وإختفت هذه الحشرة من المدينة بالكامل.

في طريق كردستان

نقل لنا أحد الأصدقاء قائلا: التقيت في زمان البهلوي الأوّل في مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) بضابط عسكري من ضبّاط جيش البهلوي وعليه آثار التديّن، وفي وجهه سيماء الصالحين، وله حالة العبّاد والناسكين، فتعجّبت من تلك الحالة، ودنوت منه وسلّمت عليه وقلت له: انّ حالتك الحسنة تتنافي مع ملابسك العسكرية، من أين حصلت علي هذه الحالة؟

فأجاب قائلا: صحيح ما قلت: انّ حالتي تنافي ملابسي، وذلك لأنّ لي قصّة مع الميرزا صادق آقا، هي التي سبّبت لي هذه الحالة.

قلت: وكيف؟

قال: لقد أمرني البهلوي أنا مع أربعة من ضبّاطه، بتبعيد الميرزا صادق آقا من تبريز إلي كردستان ايران ونحن لا نعرفه، فذهبنا إليه بعد التعرّف عليه في وقت العصر، وألقينا القبض عليه وذلك في قصّة طويلة، ثمّ أركبناه في السيّارة العسكرية التي نستقلّها، والتي كنّا قد أعددناها لهذه المهمّة، وأحطنا نحن الأربعة به، وكان خامسنا السائق، وأخذنا نتوجّه بسرعة نحو المحلّ المقصود.

فصار وقت الغروب وكنّا في السيارة، ونحن نستهزيء به ونضحك منه، وهو لا يتكلّم

بشيء إلاّ بذكر الله سبحانه وتعالي، وبينما نحن كذلك إذا به التفت إلي السماء، فلمّا رأي ظلمة الهواء قال لنا: انّ الغروب قد حان وهذا وقت صلاة المغرب، فأذنوا لي أن أنزل من السيارة لاُصلّي، فانّي في أيديكم ولا أتمكّن من الفرار.

فضحكنا عليه واستهزئنا به ولم نأذن له بذلك.

ثمّ أعاد علينا هذا الكلام ثانية فكرّرنا الإستهزاء به، وفي المرّة الثالثة قال لنا مهدّداً: إن لم توقفوا السيارة عن المسير لأجل الصلاة، فهناك من يوقفها.

قال هذا الكلام بامتعاض وسكت، وإذا بنا نري انّ السيارة قد توقّفت من حينها، فتعجّبنا تعجّباً كبيراً، ونزلنا من السيارة لنري ما الذي أصابها من عطل؟ وأي شيء حدث فيها وما هو سبب وقوفها؟ ففحصنا كلّ موضع كنّا نحتمل وجود العطب فيه فلم نجد شيئاً، ووجدنا السيارة سالمة كاملة.

وفي أثناء إشتغالنا بفحص السيارة، نزل الميرزا صادق آقا من السيارة، وكان علي وضوء، ففرش عبائته في الصحراء إلي حيث القبلة حسب ما يظهر من السماء وصلّي الصلاتين: المغرب والعشاء بفارغ البال، وبعد الصلاتين لبس عبائته وجاء ودخل السيارة ثمّ التفت إلينا وقال: انّ السيارة تتحرّك الآن بلا تكلّف فتفضّلوا.

قال: فركبنا وشغّلنا المحرّك وإذا بنا نري انّ السيارة تحرّكت وكأنّه لم يصبها شيء، فتعجّبنا من ذلك أشدّ التعجّب وعرفنا انّ لهذا الشيخ منزلة كبيرة عند الله تعالي، فصحبناه في بقيّة الطريق مؤدّبين، ولم نتكلّم أمامه تأدّباً وإحتراماً، وهيبة وإجلالا له، حتّي أوصلناه إلي كردستان وسلّمناه إلي المسؤولين هناك ورجعنا.

ثمّ انّه ريثما رفع عنه التبعيد، جاء إلي قم المقدّسة وبقي فيها مشتغلا بالدرس والتدريس، حتّي توفّي ودفن في جوار السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام).

الموقف الرافض

وممّا ينقل عنه من مواقفه الشجاعة: انّه في المدّة التي كان

في قم، جائه ذات مرّة وزير البهلوي، وطلب منه أن يستعدّ لملاقاة البهلوي، وذلك بعد أن أخبره بأنّ البهلوي يريد زيارته، لكن الميرزا صادق آقا رفض طلبه، وأبي من ملاقاته.

فقال له الوزير: انّ هذا يشكّل خطراً عليك.

فأجابه بكلّ صلابة قائلا: فليكن، انّه ليس عليك إلاّ أن تخبر البهلوي بأنّي غير مستعدّ لملاقاته إطلاقاً، فذهب ولم يرجع بعد ذلك إليه.

هذا والكلام في هذا المجال كثير، ولكنّا حيث أردنا أن نكتب عن مدينة قم المقدّسة، ومكانتها الحضارية ماضياً وحاضراً، فضّلنا أن نذكر خصائص بعض رجال الدين من العلماء الأعلام، المتخرجين من الحوزة العلمية في قم المقدّسة وغيرها، ليكون مدخلا كريماً إلي ما نريد كتابته في هذا الكتاب ان شاء الله تعالي، والله المستعان، وهو الموفّق للصواب.

فصل الموقع الجغرافي لمدينة قم المقدّسة

فصل الموقع الجغرافي لمدينة قم المقدّسة

انّ مدينة قم المقدّسة هي إحدي المدن الكائنة بمحاذاة صحراء ملحية قاحلة، وتبعد هذه المدينة المقدّسة الواقعة غرب بحيرة ملحية مسافة ما يقرب من مائة وخمسين كيلومتراً عن طهران العاصمة، كما انّها تقع علي هضبة ترتفع بمقدار تسع مائة متراً وثلاثة أمتار عن سطح البحر.

يحدّها من الشمال الري وطهران، ومن الجنوب كاشان ومحلاّت، بينما تحدّها تفرش وساوه من جهة الغرب، وصحراء ملحية قارّة من الشرق.

هذا وتعتبر مدينة قم المقدّسة ملتقي لعدد كبير من مدن ايران، ورابط حسن بين أطرافها المترامية، لذلك فهي تحظي بأهميّة فائقة من ناحية الإتّصالات، وهي عين الأهميّة التي كانت تتمتّع بها سابقاً، حيث كانت ميداناً لعبور الجيوش ابّان الحروب، وكذا لمرور القوافل ابّان السلم والهدوء.

وكانت مدينة قم المقدّسة تعدّ في العصور القديمة من مدن الأجزاء الشرقية لولاية الجبل، أو عراق العجم، ويعزي ذلك إلي انّه في القديم، كان يطلق علي النواحي الجبلية الواسعة التي تحدّ غرباً بمنطقة

بين النهرين، وشرقاً بصحراء ايران الشاسعة، والتي كانت تضمّ عدّة مدن اسم: ولاية الجبل، أو عراق العجم.

وقد ألّف المؤرّخ الجليل الحسن بن محمّد بن الحسن القمّي كتاباً تحت عنوان «تاريخ قم» وضعه باسم الوزير البويهي الشيعي، الأديب المعروف الصاحب بن عبّاد وذلك في سنة ثلاثمائة وثمان وسبعين هجرية، وهو يقع في عشرين باباً().

تسمية قم

هنالك آراء مختلفة، وأقوال متعدّدة، حول تسمية أرض قم بهذا الإسم، نشير إلي بعض منها كالآتي:

الرأي الأوّل

انّ وجه التسمية هو ما جاء في الخبر: من انّ رسول الله (صلي الله عليه وآله)رأي في ليلة المعراج وهو في طريقه إلي السماء إبليس جالساً في هذا المكان، واضعاً رأسه بين رجليه، فصرخ (صلي الله عليه وآله) به قائلا: «قم ياملعون» ومن ذلك اُطلق علي هذه الأرض اسم: «قم».

الرأي الثاني

انّه اُطلق علي هذه البقعة الحالية اسم: «قم»، لإنخفاض سطحها إذا ما قورن بالسطوح الأرضية المحاذية لها، وعلي أثر هذا الإنخفاض صارت تختزن مياه أنهار تلك المناطق في أرضها، وكلّ أرض تختزن مياهاً، أو بقعة يتجمّع فيها الماء، يطلق عليها اسم: «قم» كما يطلق علي الأداة التي تختزن الماء اسم: «قمقمة».

الرأي الثالث

انّه علي أثر ورود مياه أنهار المناطق المجاورة إلي هذه المنطقة، نمت فيها النباتات والأعشاب، وكذلك كثرت الأشجار أطراف تلك الأنهار، حتّي ظهرت كغابة كثيفة، ممّا جعل الرعاء يقصدونها من كلّ حدب وصوب لرعي مواشيهم، وحيث إنّهم كانوا يقطنون تلك المنطقة لمدّة طويلة، أخذوا يبنون لأنفسهم فيها بيوتاً من الأخشاب وجذوع النخل، وكان يطلق عندهم علي هذا النوع من البيوت اسم: «كومه» ثمّ تغيّر اللفظ مع مرور الزمان حتّي تحوّل إلي: «كُم» وبالتالي عرّبها المسلمون الذين قدموا إليها، فأطلقوا عليها اسم: «قم».

الرأي الرابع

قيل: انّ في تلك البقعة عين ماء نضّاخة باسم: «كُب» وكان ماؤها يجتمع في منطقة قم الحالية، وقد عرف النهر الذي كان ينبع من تلك العين باسم: «كُب رود» ويقال لها بالعربي: «قم رود» فاُطلق علي هذه المنطقة بسبب وجود هذا النهر المسمّي: «قم رود» اسم: «قم».

الرأي الخامس

يقال: انّ الشخص الذي بني مدينة قم كان يدعي: «قم ساره بن لهراسب» فسمّيت طبقاً لإسمه باسم: «قم».

الرأي السادس

قيل: انّ المسلمين الأشعريين (وهم طائفة من الشيعة كانوا يقطنون اليمن، ثمّ المدينة المنوّرة والكوفة، وقد إضطرّوا للهجرة منها فارّين من ظلم بني اُميّة) حين قدموا إلي قم بنوا فيها سبعة قري متجاورة، ثمّ اتّسعت هذه القري شيئاً فشيئاً، حتّي تداخل بعضها مع بعض، واُطلق عليها جميعاً اسم إحدي القري وهو: «كميدان» ثمّ تبدّل الإسم إلي «كُم» وأصبح بالتالي «قم».

الرأي السابع

قيل: انّ اسم «قم» قديماً كان: «قوآناً» أو «كوآناً»، وقد روي عن ياقوت: انّ هذه المدينة كانت تدعي قديماً: «كمندان» ويقال: انّ إسمها في أواخر العهد الساساني كان: «ويران ابادان كرد كواد» والمقصود بكواد هو: قباد، الملك الساساني، لأنّ قباد هو الذي أعاد بناء هذه المدينة بعد أن تهدّمت في عصر الاسكندر، ثمّ تحوّلت تدريجيّاً إلي اسم «قم».

الرأي الثامن والأخير

روي عقان البصري عن الإمام الصادق (عليه السلام) انّه قال: «إنّما سمّيت هذه البلدة قم لأنّ أهلها يجتمعون حول قائم آل محمّد (صلي الله عليه وآله)وينصرونه» (). وإلي غير ذلك من الآراء والأقوال المنقولة في وجه تسمية هذه الأرض باسم: «قم».

قم وعراقتها في عصر ما قبل التاريخ

كما اختلفت الآراء في وجه تسمية قم، فكذلك اختلفت في حدوث مدينة قم وقدمها، فذهب البعض إلي انّها تأسّست بعد الإسلام، بينما ذهب البعض الآخر إلي انّها كانت موجودة قبل العصر الإسلامي.

فمثلا: يعتبر علماء الآثار انّ اُولي المناطق وأعرقها هي الأطراف الغربية للصحراء الايرانية، ويعنون بذلك: «قم وكاشان وساوه» وقد أرسي الناس الذين استقرّوا هناك دعائم الحضارة فيها.

وعليه: فإذا اتّفقنا مع هذا الرأي نقول: بأنّ عراقة قم والمناطق المتّصلة بها تعود لما قبل بضعة آلاف سنة، ممّا يشير إلي أنّ قِدم قم يرجع إلي ما قبل التاريخ.

كما ويقول من يعتقد بنشوء مدينة قم قبل الإسلام أيضاً: انّها قد حظيت نوعاً ما بإهتمام الملوك والحكّام القدماء، ممّا جعل بعضهم يحرص علي بنائها أو إعادة ترميمها، وفي ذلك قال حمد الله المستوفي: انّ مؤسّس هذه المدينة هو: طهمورث ديوبند، وهو أحد الملوك الإيرانيين.

هذا وقد نسب البعض تأسيس هذه المدينة إلي الملك الإيراني المعروف بصيد الجحوش البريّة: بهرام.

ونسب آخرون تأسيسها إلي الملك الساساني قباد، وذلك حين توجّه لجماعة الهياطلة، فانّه مرّ بهذه المنطقة المتهدّمة، التي لم يكن يبقي منها إلاّ الأطلال، فسأل عن سبب خرابها، فتبيّن أنّها خربت ابّان عصر الاسكندر، فأمر باعمارها حين رجع من هناك.

ويقال: انّ مدينة قم كانت عامرة وغنّائة، ذات مراعي شتّي في العصور الغابرة، وهذا ما جعلها تحظي بعناية الملوك قبل الإسلام، الذين اتّخذوها بمثابة منطقة سياحية لأنفسهم، ومرعي لفرسانهم، ولقد بقيت

بعض آثار قم القديمة حتّي العصر الإسلامي، ومن تلك الآثار المتبقّية: ما عثر عليه من معبد نار في زمان الحجّاج بن يوسف الثقفي حيث أمر بهدمه، وكان من معابد النار في عصر ما قبل الإسلام، بل قيل: انّه تمّ العثور في العقود الأخيرة علي معبد ناري قرب مدينة قم ويدعي «قلعة دختر».

وقال بعض المتأخّرين فيما يرتبط بتاريخ قم إلي ما قبل الإسلام أيضاً: «لقد كانت قم كمدينة آهلة بالسكّان لعدّة قرون قبل الإسلام، وقد أورد المؤرّخون أسماء بعض سلاطين ذلك العصر».

ولقد جاء ذكر قم أيضاً ثلاث مرّات في منظومة الفردوسي سير الملوك، ممّا جعل القائلين بعراقة قم يعدّونه دليلا علي وجودها في عصر ما قبل الإسلام.

هذا بعض آراء القائلين بعراقة قم وقدمها في التاريخ، وهناك من المؤرّخين الذين لا يوافقون آراء القائلين بأنّ قم كانت موجودة في عصر ما قبل الإسلام، وإنّما يعتقدون بأنّها نشأت ابّان العهد الإسلامي، ولم تكن قم آنذاك إلاّ منطقة شهدت بعض العمران، بحيث لم تكن مدينة حسب عرف ذلك الزمان، بل كانت تفتقر حتّي للإسم، إلاّ انّ المسلمين الأشعريين، الذين هاجروا إليها أطلقوا عليه اسم قم، وذلك بالإستناد إلي كلمة: «كُم» علي ما مرّ بيانه سابقاً، ولا حاجة بنا للتطويل.

فتح المسلمين لمدينة قم

لقد فتحت قم واصفهان ابّان فتح المسلمين ايران، حيث كانت قم تابعة آنذاك لاصفهان، وذلك في سنة ثلاث أو أربع وعشرين للهجرة، علي هاجرها آلاف التحيّة والسلام، وذلك في قصّة تاريخية معروفة.

قم ولجوء الشيعة الأشعريين إليها

يعتقد المؤرّخون القائلون انّ تأسيس مدينة قم يعود للعهد الإسلامي: بأنّ هذه المنطقة إنما اعتبرت كمدينة بحسب الإصطلاح المتعارف عليه آنذاك، وصارت في عداد المدن المعروفة والواسعة فيما بعد، بسبب هجرة القبائل الأشعرية الشيعية إليها، وسكناهم فيها، علماً بأنّ الأشعريين هم قبيلة من قبائل العرب التي لم تكن موالية لخلفاء بني اُميّة وولاتهم، فكانت معرّضة لمطاردتهم ومضايقاتهم دائماً، وعلي أثر ما تعرّضوا له من الجور والتعسّف من قبل ولاة بني اُميّة، هاجروا إلي ايران أواخر العقد الأخير من القرن الأوّل الهجري، واستقرّوا في قم وفي أطرافها.

نعم، انّ الذي دعي الشيعة الأشعريين للهجرة إلي ايران والبقاء في قم، هو: ولاؤهم لأهل البيت (عليهم السلام)، فهو الذي عرّضهم لسخط بني اُميّة وغضبهم، أمّا العلّة الرئيسية التي دعتهم للهجرة، فقد اختلف المؤرّخون فيها، حتّي عدّ بعضهم انّ تلك العلّة الرئيسية التي سبّبت لهم الهجرة مرتبطة بقيام زيد بن علي، وعدّ بعضهم إرتباطها بسائر النهضات والحركات التي قامت ضدّ الحكم الاُموي.

وكيف كان: فانّ السبب العامّ للهجرة، والقاسم المشترك بين كلّ الأسباب، هو: انّ تلك القبيلة كانت معتنقة لمذهب أهل البيت (عليهم السلام)، ومعادية للاُمويين ولعملائهم مثل: عبيدالله بن زياد، والحجّاج بن يوسف، وذلك هو الأمر الذي اضطرّهم للهجرة ومغادرة بلادهم الأصيلة.

إستقبال تاريخي حافل

قال المؤرّخون: انّ الشيعة الأشعريين من المسلمين حين وصلوا إلي قم، استقبلوا إستقبالا حارّاً وحافلا من قبل أهالي المنطقة، الذين كانوا يؤمنون بالزردشتية كدين لهم، ولعلّ أوجه ما ذكر في أسباب ذلك الإستقبال هو: تقوّيهم بهم، فانّهم كانوا كثيراً مّا يتعرّضون لهجمات كاسحة من قبل سكنة الغابات الديلميين المتواصلة، حيث ذكر المؤرّخون: انّ أهالي الديلم كانوا يشنّون الغارات المفاجئة علي منطقة قم وأطرافها، ويكتسحون كلّ شيء يعثرون عليه

في طريقهم.

وعليه: فانّ دخول مجموعات قادرة علي حمل السلاح، والوقوف بوجه تلك الهجمات الشرسة، أمر أثار فيهم السرور والأمل، وهذا ما جعلهم يهبّون مسرعين لإستقبالهم والترحيب بهم.

وامّا الإستقبال الحاشد، (بالإستناد للروايات التاريخية) فهو كما قيل: انّ أهالي قم الأصليون عقدوا إحتفالا ضخماً بقيادة رؤسائهم خارج المدينة، وفي الأثناء رمقوا قوافل كثيرة وأفواجاً من الناس تُقبل نحوهم، فأرسلوا إليهم بعض أفرادهم لمعرفة هويّتهم، والإطّلاع علي مقصدهم، فتبيّن انّهم من المسلمين العرب، والشيعة الأشعريين، الذين فرّوا من ظلم الاُمويين، وهم يقصدون بلداً يأمنون فيه، عندها عزم المحتفلون بقيادة رؤسائهم أن يستقبلوهم، ويعرضوا عليهم النزول في بلدتهم، وأن يوفّروا لهم كلّ مستلزمات البقاء، وأوّليات الحياة.

وبالفعل قاموا إليهم، واستقبلوهم أعظم استقبال، ورحّبوا بهم أشدّ ترحيب، حتّي انّهم نثروا الزعفران علي رؤوسهم، وعرضوا عليهم البقاء في بلدهم، وحين وصل قائدا الأشاعرة: عبدالله والأحوص، مدينة قم تعاهد مع رؤسائها علي أن يعيشوا معاً بسلام ووئام، وأن ينصر كلّ منهما الآخر.

وشيئاً فشيئاً أخذ المسلمون يتقاطرون من كلّ حدب وصوب علي قم، واشتغلوا فيها بإحياء الأراضي الموات، وأحدثوا كثيراً من المزارع والبساتين، وبنوا القري والأرياف، حتّي انتهي الأمر إلي إستقرارهم وقوّة نفوذهم، وهذا الأمر لم يهييء الأرضية المناسبة لهجرة المسلمين إلي هناك فحسب، بل جعل من قم محلا آمناً للطالبيين والعلويين، حيث كان مذهب المسلمين الأشعريين وكما أشرنا سابقاً هو مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا ما جعلهم يقفون جنباً إلي جنب مع العلويين القادمين فيما بعد إلي قم، ويمدّونهم بكل أسباب الحياة.

وعليه: فانّ إستقرار المسلمين الأشعريين في قم، كان عاملا مهمّاً من بين العوامل، التي جعلت أنظار العلويين تتّجه نحو هذه المدينة المقدّسة، مضافاً إلي انّ وجود كثير من العلماء الشيعة الأشعريين،

الذين كانوا يعيشون بين صفوفهم، كانوا قد جنّدوا أنفسهم لتبليغ الإسلام، وهداية غير المسلمين من الزردشتيين وغيرهم إلي الإسلام والتشيّع، ممّا سبّب إنتشار الإسلام، وإزدهار مذهب التشيّع في قم، وفي غيرها من البلاد المجاورة.

نقض المعاهدة

ذكرنا انّ الأشعريين الشيعة من أجل ولائهم لأهل بيت رسول الله (صلي الله عليه وآله)، وعدم تسليمهم للخلافة الاُموية، كانوا مطاردين من قبل الاُمويين، حتّي اضطرّوا أخيراً للهجرة إلي قم، ثمّ عقدوا اتّفاقية صداقة وتعايش مع أهل قم الأصليين الذين كانوا من الزردشت، ووقّعوا علي أن يقدّم كلّ منهم العون والنصر للآخر، ولم يحدث أي خلاف بين الطرفين ما دام الموقّعون الرئيسيون لتلك المعاهدة كانوا علي قيد الحياة.

إلاّ انّ الزردشتيين وبعد وفاة رؤسائهم دبّ فيهم داء الاُمم المدمّر من: قِصر النظر، وضيق الصدر والحسد، فحسدوا المسلمين الأشعريين علي تقدّمهم العلمي والفكري، وضاقت صدورهم الحرجة عن أن يتحمّلوا عددهم المتزايد، وقوّتهم المتنامية، وقصرت أنظارهم عن رؤية ما بهم من خير وعافية، وسعة وغني، وغاب عن أذهانهم أن تقدّم هؤلاء هو تقدّم لهم أيضاً، وان كثرة عددهم وتنامي قوّتهم يزيد في شوكتهم ومنعتهم أيضاً، وانّ خيرهم وعافيتهم وسعتهم وغناهم، هو خير لهم وعافية وسعة وغني أيضاً، إذ كلّما كبرت البلاد وكثر الناس، إزدهر الإقتصاد ونمي، وانتفي الفقر وانزوي.

نعم، انّهم نسوا وتناسوا كلّ ذلك، فنقضوا العهد والميثاق الذي كان بينهم، كما انّهم نسوا وتناسوا انّ هؤلاء المسلمين هم الذين وقفوا بوجه الهجمات الوحشية، التي كان يشنّها الديلم عليهم بين آونة واُخري، وهم الذين أراحوا المنطقة من شرّهم، وهم الذين سبّبوا تقدّم قم وإزدهارها، فانّهم مع كلّ ذلك نقضوا العهد وعزموا علي إخراجهم، فكتبوا إلي أحد رؤساء الأشعريين ويدعي باسم عبدالله ما يلي:

«لقد سئمنا مجاورتكم،

ولا نرغب ببقائكم، فاجمعوا أمتعتكم وانطلقوا إلي مكان آخر».

فلمّا وصل الكتاب إلي عبدالله، التقي بهم وذكّرهم بالعهد قائلا: «ما هي اساءتنا بحقّكم؟ وما الذي نقمتموه منّا حتّي سئمتم مجاورتنا لكم؟ فان كان هناك ما يسؤوكم أصلحناه».

فلم يكن جوابهم إلاّ الإصرار علي خروجهم، ممّا أدّي إلي تفاقم الخلاف بينهم، واشتداد النزاع عندهم، وبعد شجار مرير، وفي قصّة طويلة، كان الإنتصار أخيراً للمسلمين والإنتكاس للزردشتيين، لأنّهم نقضوا العهد وبغوا علي المسلمين، فأصبحت السيادة الكاملة علي قم للمسلمين. عندئذ كتب المسلمون إلي اخوانهم في الدين، من الشيعة المضطهدين في العراق وغيرها، يدعونهم للهجرة إلي قم، ويرغبونهم في السكن بها، ويخبرونهم عن الأمن والأمان، والنقاء والصفاء المتوفّر في قم، ممّا جعل قم تزدهر بتوافدهم عليها ازدهاراً أكبر، وتتّسع بقدومهم إليها اتّساعاً أكثر وأظهر.

قم عند الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)

لقد عاني العلويون والشيعة، الأمرّين من جور الحكّام، وخاصّة من خلفاء بني اُميّة وولاتهم، وخلفاء بني العبّاس وعمّالهم، وتعرّضوا لنقمتهم ومطاردتهم، ونفيهم وملاحقتهم.

فجَوْر الخلفاء وظلمهم من جهة، ونشر الإسلام ومذهب الحقّ (مذهب أهل البيت (عليهم السلام)) من جهة اُخري، كانا وراء تركهم لأوطانهم، وهجرتهم إلي بلاد الجبل وغيرها من المناطق النائية، الأمر الذي جعلهم يفضّلون ايران علي غيرها، وبالأخصّ مدينة قم.

وهذا ما جعل من قم مدينة ذات منزلة رفيعة عند المعصومين (عليهم السلام)، وقد ورد مدحها والإشارة إلي فضلها في كلماتهم (عليهم السلام)، ناهيك عن إحترامهم الكبير لهذه المدينة حتّي قبل ظهورها وإشتهارها، ولعلّ مردّ ذلك يعزو إلي علمهم الإلهي الذي وصل إلي رسول الله (صلي الله عليه وآله) بالوحي، وإلي أهل بيته (عليهم السلام)بإخباره لهم بأنّها سوف تكون ملجأً وملاذاً للعلويين والشيعة، وقد وردت أحاديث كثيرة عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) وأهل بيته

(عليهم السلام) في فضل قم، نذكر بعضاً منها:

فعن رسول الله (صلي الله عليه وآله) انّه قال: «لأنّ أهل قم شيعتي وشيعة وصيّي علي ابن أبي طالب (عليهما السلام)» ().

وعن أبي عبدالله (عليه السلام): «إذا عمّت البلدان الفتن فعليكم بقم وحواليها ونواحيها فانّ البلاء مدفوع عنها» ().

وعن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) قال: «قرية قم مقدّسة وأهلها منّا ونحن منهم» ().

وقال (عليه السلام) أيضاً: «انّ لنا حرماً وهو بلدة قم» ().

وروي عن الأئمّة (عليهم السلام): «لولا القمّيون لضاع الدين» ().

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «تربة قم مقدّسة وأهلها منّا ونحن منهم، لا يريدهم جبّار بسوء إلاّ عجّلت عقوبته ما لم يخونوا اخوانهم، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم جبابرة سوء، أما إنّهم أنصار قائمنا ودعاة حقّنا، ثمّ رفع رأسه إلي السماء وقال: اللهمّ اعصمهم من كلّ فتنة ونجّهم من كلّ هلكة» ().

وعن أبي الحسن الأوّل (عليه السلام): «قم عشّ آل محمّد ومأوي شيعتهم» ().

وإلي غير ذلك من الروايات الكثيرة في فضل قم وأهلها.

الشيعة والتشيّع في قم

لقد انتشر الإسلام والمذهب الحقّ: مذهب أهل البيت (عليهم السلام)في مدينة قم، منذ الأيّام الاُولي من دخول الإسلام إلي ايران، وذلك علي أثر قدوم المسلمين الأشعريين إلي قم، وقيام علمائهم بالتبليغ فيها، بحيث أصبحت بمثابة مركز للتشيّع في ايران، ثمّ أخذت تقوي شوكة هذا المركز، تبعاً لتنامي عدد الشيعة وإزديادهم فيها، حتّي إكتسبت شهرة لا يستهان بها في ايران خلال نصف قرن.

وهذا ما جعل قم من المدن التي تشدّ إليها رحال الشيعة، وذلك من كلّ أطراف البلاد الإسلامية، التي ظلّت تئنّ تحت وطأة الحكّام الظالمين.

نعم حين إشتهرت قم بكونها مركزاً للشيعة، وعلم العلويون والشيعة من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) باستقرار الشيعة الأشعريين

فيها، توجّهوا إليها ناجين بأنفسهم من مطاردة الحكّام الظالمين، حاملين علي عواتقهم مهمّة تبليغ الإسلام، وإيصال مذهب أهل البيت (عليهم السلام) إلي ما يسعهم إيصاله من العالم، وبعد وصول هؤلاء العلويين والشيعة إلي قم، أصبحت قم منطقة متمحّضة في التشيّع، ومدينة شيعية صرفة، بحيث أصبح الإنتماء إلي قم يساوي الإنتماء إلي التشيّع، وبعبارة اُخري: انّ كلّ من كان يسكن قم كان يعدّ شيعيّاً معتنقاً للمذهب الحقّ: مذهب أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام.

السيّدة المعصومة (عليها السلام) في قم

لقد تزايدت الهجرة إلي ايران بصورة عامّة، ونحو قم بصورة خاصّة، وخاصّة من العلويين، وذلك أثناء تواجد الإمام الرضا (عليه السلام) في خراسان، فانّ المأمون لمّا إقتضت سياسته الشيطانية إستدعاء الإمام الرضا (عليه السلام) إلي خراسان، وإستبقائه عنده وتحت نظره، بحجّة تفويض ولاية العهد إليه، شقّ علي ذويه وأرحامه، وكذلك علي شيعته ومحبّيه، إفتقادهم له، وإبتعاده عنهم، فراسلوا الإمام الرضا (عليه السلام) وكاتبوه في أن يأذن لهم بزيارتهم له، وفي مقدّمة اُولئك الذين استأذنوه في الزيارة: شقيقته السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، فأذن لهم عامّة، كما انّه أذن لشقيقته بصورة خاصّة.

فشدّت السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) الرحال لزيارة شقيقها الإمام الرضا (عليه السلام)، وذلك في سنة مائتين وواحد للهجرة، أي: بعد سنة كاملة من استدعاء المأمون الإمام الرضا (عليه السلام) إلي خراسان، وكان بصحبتها جماعة من النسوة والرجال، من ذويها وشيعة أهل البيت (عليهم السلام) ومحبّيهم، واتّخذت (عليها السلام)طريقها إلي ايران من الطريق الذي يمرّ بمدينة ساوه وقم، أي: من نفس الطريق الذي مرّ به قبل سنة تقريباً شقيقها الإمام الرضا (عليه السلام) في طريقه إلي خراسان.

فلمّا وصلت السيّدة المعصومة (عليها السلام) إلي ساوة، تمرّضت، وكان سبب مرضها (عليها السلام) كما في

التاريخ انّ المأمون كتب إلي عمّاله أن يدسّوا لها السمّ الفتّاك في طعامها، فأثّر ذلك السمّ فيها، وضعفت عن مواصلة سفرها إلي خراسان، ولمّا أحسّت بالخطر، سألت (عليها السلام) من معها عن مقدار المسافة الباقية إلي قم، فأجابوها قائلين: عشرة فراسخ، فطلبت (عليها السلام) ممّن كان معها أن يوصلوها إلي قم حيث كانت (عليها السلام) مطلّعة علي قداسة أرض قم، وعارفة بتشيّع أهلها وإعتناقهم للمذهب الحقّ: مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، ولذلك آثرت قم علي ساوة.

وحين وصلت إلي قم نزلت في دار «موسي بن خزرج بن سعد الأشعري» الذي كان زعيم الأشعريين آنذاك، وحلّت مع من كان معها ضيفاً عليه.

هذا وقد ذكر المؤرّخون قولا آخر في كيفية ورودها (عليها السلام)إلي قم، وقد ذهب كثير من المؤرّخين إليه وهو كالآتي:

لمّا علم المسلمون الأشعريون بقدوم السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) إلي ساوة، خرجوا عن بكرة أبيهم إلي ساوة، لإستقبالها ودعوتها إلي قم، وكان قد سبقهم زعيمهم موسي بن خزرج بن سعد، وكان رجلا سريّاً كريماً، فالتمسها (عليها السلام) أن تأتي إلي قم وتنزل داره فأجابت ملتمسه، ونزلت عند طلبه.

المظهر الخارجي لبيت النور: بيت السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) التي ألقت الرحل فيها أيّام إقامتها في قم المقدّسة ويقع في محلّة ميدان مير

البهو الداخلي لبيت النور: بيت السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) عند إقامتها في قم المقدّسة الواقع في محلّة ميدان مير

في دار موسي بن خزرج

ولمّا عرف موسي بن خزرج موافقة السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) علي نزولها عنده، أخذ وهو فرح مستبشر بزمام ناقتها، حتّي أنزلها ومن معها الدار، فكانت مدّة إقامتها لا تتجاوز ستّة عشر، أو سبعة عشر يوماً، حتّي إشتدّ بها المرض من أثر السمّ، والتحقت بالرفيق الأعلي،

منتقلة إلي جوار رحمة الله.

وكان ذلك أواخر سنة مائتين وواحد هجرية، من دون أن تزور أخاها وشقيقها الإمام الرضا (عليه السلام)، وقد كان لها إذ ذاك من العمر ثماني عشرة سنة فقط، وذلك لأنّ تاريخ ولادتها (عليها السلام) كان في أوّل ذي القعدة الحرام سنة مائة وثلاث وثمانين هجرية علي الأصحّ()، وتاريخ إستشهادها سنة مائتين وواحدة هجرية، فيكون عمرها الشريف كعمر جدّتها فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ثماني عشرة سنة فقط، سلام الله عليها وعلي آبائها الطاهرين وقيل: أكثر من ذلك، عادّين تاريخ ولادتها (عليها السلام) أوّل ذي القعدة الحرام سنة مائة وثلاث وسبعين هجرية().

عندها أخذت اُسرة الأشعري بتجهيزها وتكفينها، إلاّ انّهم أبوا أن يدفنوها في المقابر العامّة، حيث انّهم رأوا أنّ ذلك لا يليق بشأنها، فأمر موسي بن خزرج أن يدفنوا جثمانها الطاهر في بستانه في بابلان وهو الاسم المشهور في ذلك الزمان، علي هذا المكان، الذي يوجد فيه الآن ضريح السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) وبعض المناطق في أطرافه .

وعندما أرادوا موارة جثمانها الشريف في قبرها، لم يكن بين الناس من محارمها (عليها السلام) أحد، حتّي ينزلها القبر، ويواري جثمانها الطاهر، فبقوا متحيّرين في أمرهم، وبعد التشاور فيما بينهم، اتّفقوا علي أن يتولّي مواراتها شيخ صالح منهم، وبينما هم كذلك إذا هم يرون فارسين مقنّعين يقبلان نحوهم.

أقبل الفارسان حتّي إذا دنوا منهم حيّوهم بتحيّة الإسلام ثمّ قالا لهم: تنحّوا فانّا أولي بمواراة جثمان هذه المباركة، وأقبلا نحوها فصلّيا عليها (عليها السلام)، ثمّ دخل أحدهما القبر الذي كانوا قد أعدّوه لها في البستان، وتناول جثمانها الطاهر بمساعدة من الآخر وواراها في مثواها الأخير، ثمّ خرج من القبر وتوجّه هو والآخر إلي الناس وعزّوهم بهذا المصاب

الجلل، ثمّ ركبا فرسيهما وإنطلقا ولم يعرفهما أحد.

ثمّ بعد ذلك عمد موسي بن خزرج إلي تلك الأرض ووقّفها بعد دفن السيّد فاطمة المعصومة (عليها السلام) فيها، ليدفن المسلمون موتاهم في هذه الأرض الموقوفة.

قم بعد إحتضانها مرقد السيّدة المعصومة (عليها السلام

لقد كان في ورود السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) إلي قم، واحتضان قم جثمانها الطاهر ومرقدها الشريف، أهميّة تاريخية كبيرة، ذات أبعاد متعدّدة وكثيرة: من دينية وثقافية، وسياسية وإجتماعية، وعمرانية وإقتصادية، وقد تركت تلك الأبعاد الكثيرة آثارها الإيجابية علي مدينة قم حتّي يومنا هذا، وما زال ذلك يظهر عليها واضحاً وجليّاً كلّما تقدّم الزمان.

هذا ويمكن القول: بأنّ جميع التطورات الثقافية والدينية، والإجتماعية والعمرانية، وكذلك الإزدهار الإقتصادي في قم، كان نتيجة إحتضان قم مرقد السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، أو كانت مرتبطة بها علي الأقل.

علي كلّ حال: فانّ جماعات كثيرة، وأعداداً كبيرة من الشيعة، فضلا عن العلويين والسادات، قد قدموا إلي قم بعد إحتضانها مرقد السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، كما انّه قد توجّهت إليها بعد ذلك أنظار العلماء والفضلاء، والرواة والمحدّثين، والكتّاب والمؤلّفين علي مرّ التاريخ، وإزدادت هجرتهم إليها، الأمر الذي جعل قم تحظي بمكانة دينية وثقافية مرموقة في العالم، وإستمرّت كذلك، حتّي أصبحت اليوم تُعدّ وبصدق مركزاً ثقافياً، وثقلا فقهيّاً، يستمدّ العالم الإسلامي وغيره منه، ويشدّ كثير من هواة العلم وطالبيه رحل السفر من كلّ حدب وصوب لحوزتها العلمية المباركة.

وقد كان لقم أيضاً، ولحوزتها العلمية، الحظّ الوافر في تغيير المسار الثقافي وكذلك السياسي في ايران، بل في المنطقة والعالم الإسلامي كلّه، وغير الإسلامي أيضاً.

وكيف كان: فانّه قد كان لورود السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) إلي قم، واحتضانها مرقدها الشريف وجثمانها الطاهر، من الآثار والبركات ما لا يسعنا أن نشير إليه في

هذه العجالة، وضمن هذا البحث المقتضب.

المظهر الخارجي لروضة السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)

وقد التقطت الصورة لأكثر من مائة وعشر سنين حيث يحيط بها مقبرة

شيخان، التي كانت تمتدّ من عند الروضة المباركة إلي مسجد الإمام العسكري (عليه السلام) المعروف

(القمّيون وآية المودّة)

لا شكّ في انّه من الصعوبة بمكان، أن نشير إلي عمق الروابط الوثيقة، والمودّة السليمة، والولاء الخالص، الذي يتحلّي به أهل قم بالنسبة إلي أئمّة أهل البيت المعصومين (عليهم السلام)، ذلك الإرتباط الذي كان له أبلغ الأثر في سلوكهم السياسي والإجتماعي، والثقافي والأخلاقي، وهذا ما يمكننا التعرّف عليه من خلال القصّة التاريخية التالية، التي يعرف منها مدي تمسّكهم بآية المودّة، وإهتمامهم بها

روي: انّه حين أقام الإمام الرضا (عليه السلام) في «مرو» جاءه شاعر أهل البيت (عليهم السلام) دعبل الخزاعي، الذي كان يحمل خشبته علي عاتقه مدّة أربعين سنة، وأنشده تائيته المشهورة (مدارس آيات خلت من … ) فأهدي له الإمام (عليه السلام) في جملة ما أهداه إليه جبّة، كانت قد تبرّكت ببدنه الشريف (عليه السلام)وبصلاته وتهجّده، لكن دعبل رفض أن يقبل شيئاً من الهدايا، فأصرّ عليه الإمام (عليه السلام)حتّي قبلها، فأخذها وودّع الإمام ورجع.

فلمّا رجع مرّ في طريقه علي قم، وأخبر أهلها بتشرّفه عند الإمام الرضا (عليه السلام)، وإنشاده قصيدته التائية الجديدة، والجبّة التي أهداها (عليه السلام) إليه. فطلب منه زعماء قم أن يحدّث الناس بذلك في المسجد.

فاعتلي دعبل المنبر وقرأ قصيدته، التي أنشدها علي الإمام الرضا (عليه السلام) مع البيتين اللتين أضافهما (عليه السلام) إلي قصيدته، ثمّ أطلعهم علي ما جري من الكلام والحديث بينه وبين الإمام الرضا (عليه السلام)، ثمّ نزل من المنبر.

عندها قام إليه أحد زعماء الشيعة في قم وكان يدعي باسم: «يحيي بن

عمران الأشعري» وسلّمه مبلغاً كبيراً كان قد جمعه من أهالي قم، الذين التمسوا دعبلا أن يبيعهم الجبّة التي أهداها له الإمام الرضا (عليه السلام)، وذلك حتّي يقطّعوها ويقسّموها بينهم للتبرّك والشفاء، فأبي دعبل من ذلك، إلاّ أنّهم أصرّوا عليه وأخذوها منه، ودفعوا له بدلا منها مبلغاً قدره الف مثقال من الذهب، ثمّ قسّموها بينهم.

وقيل: انّ دعبل الخزاعي لم يستجب لمّا طلب منه أهل قم، رغم كثرة المال الذي عرضوه عليه، وحينما أراد الخروج إعترضته طائفة منهم فاستلبوه الجبّة، فعاد ليخبر زعيمهم: «يحيي بن عمران الأشعري» بذلك، إلاّ أنّ أهل قم أروه الجبّة وهي مقطّعة عدّة قطع، فطلب منهم قطعة منها يتبرّك بها ويضعها في كفنه عند موته، فأعطوه قطعة منها وسلّموه المال الذي كانوا قد أعدّوه له بدلا منها، فأخذهما وانصرف.

إهتمام القمّيين بمرقد السيّدة المعصومة (عليها السلام)

لقد اهتمّ القمّيون منذ اليوم الأوّل من إرتحال السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) بمرقدها الشريف، واتّخذوا حوله كما قال الله تعالي في قصّة أصحاب الكهف: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)() ضلالا ومسجداً، يصلّون لله تعالي فيه متقرّبين إليه سبحانه، ويهدون نوافلهم المستحبّة إلي روح السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، ففي الحديث: «انّ أسرع ما يصل الإنسان بعد إرتحاله من الدنيا، صلاة وصيام، وحجّ وصدقة تهدي إليه».

وكيف كان: فانّ التطوّرات التي شهدها مرقد السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) كثيرة ومستمرّة، فقد نصبت مظلّة من القصب علي ضريحها بعد دفنها بمدّة قليلة، إلاّ أنّها تحطّمت وزالت علي أثر الرياح والأمطار، وبعد مضي ما يقرب من نصف قرن علي ذلك، تبرّعت العلوية السيّدة زينب بنت الإمام الجواد (عليهما السلام) ببناء قبّة من الطابوق علي قبرها الشريف، ثمّ اتّسعت الروضة المباركة، وترتّبت شيئاً فشيئاً علي مرور الزمان، حتّي أضحت من

العظمة والجلال إلي ما هو اليوم عليه ممّا لا يمكن وصفه.

راية التشيّع بيد القمّيين

لقد تجذّر الإسلام في ربوع ايران، وانتشر بين أهاليها بعد تحريرها من قبل المسلمين، ولم تكن مدينة قم ولا أهلها ليتخلّفوا عن بقيّة مُدُن ايران وأهاليها، بل زادت قم وأهلها علي الجميع، بحمل راية التشيّع منذ القرن الأوّل الهجري دون بقيّة المدن وأهاليها، فقد إعتنق أهل قم بعد إسلامهم، المذهب الحقّ مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وتشيّعوا قاطبة، علماً بأنّ التشيّع آنذاك كان يعني: عدم الرضوخ ونفي الشرعية عن الحكّام الظالمين.

وعليه: فانّ قم حملت علي عاتقها لواء المقاطعة، وأحياناً راية المعاداة والتبرّي من خلفاء بني اُميّة وحكّامهم، وذلك بكلّ ما اُوتيت من قوّة، وهذا كان أيضاً ما سلكته مع خلفاء بني العبّاس وحكّامهم.

ويستنتج من كلّ ما سبق انّ من أبرز خصوصيات قم وأهلها في القرون الإسلامية الاُولي هو: الوقوف بوجه الخلافة القائمة علي أساس غير شرعي من قبل الاُمويين والعبّاسيين جميعاً، وهذا ما يتجلّي واضحاً إثر امتناعهم عن دفع الخراج إليهم، ودعمهم العلويين المطاردين من قبلهم، وإستضافتهم عندهم، وإغلاق شتّي الطرق بوجه عمّال الخلفاء المتعنّتين، وأحياناً طردهم وقتلهم، والإنتفاضة ضدّهم، والقيام ضدّ سلاطين الجور، وما شاكل ذلك.

القمّيون وعامل هارون

كان قيام أهالي قم ضدّ عامل هارون من أبرز أحداث ذلك العصر، وقيل حول كيفية ذلك القيام ما يلي:

انّه ولّي هارون أحد عمّاله وكان يدعي باسم: عبدالله بن كوشيد علي اصفهان وقم، فأقام عبدالله في اصفهان ونصب أخاه «عاصم» علي قم، فطالب عاصم أهالي قم بدفع ما مضي من ضرائب وخراج، حيث كانوا قد امتنعوا عن دفعها مدّة ستّة عقود تقريباً، وكانت الحكومة قد قرّرت أن تستوفي منهم خراج الماضي والحاضر بأيّة صورة كانت، وهذا يعني: الإجحاف في حقّ القمّيين، والإعلان عن انّ ولاية عاصم أصبحت قائمة علي

أساس الجور والعدوان، والقسوة والجفاء.

واستمرّ عاصم في إصراره علي المطالبة والتهديد علي ذلك، إلاّ انّه لم يستطع أن يستلم أكثر من 10% من تلك الضرائب، ولذا زاد عاصم في جوره وظلمه حتّي جاز المتعارف، وفاق الحدّ، فخرج نفر عظيم من الناس بخفاء، ليستقرّوا في نواحي قم، ويترصّدوا الفرصة للإنتقام منه، الأمر الذي دعي شيوخ قم وكبرائها، أن يطلبوا من دار الحكومة أن يناشدوا حاكمها بأنّ يخفّف من وطأة ظلمه وتعسّفه، وأن يتعاون معهم في حلّ المشكلة سلميّاً، وذلك قبل أن يتفاقم الوضع، وتحلّ النقمة عليه.

ولكن باءت هذه الوساطة بالفشل، فقد استمرّ الحاكم في ظلمه وجوره، وإستبداده ودكتاتوريته، فما كان من أهالي قم إلاّ أن يثوروا علي دار الحكومة، طلباً لإحقاق حقّهم، وتأديباً لمن لم تنفعه المواعظ، ولم تؤثّر فيه الإعتراضات السلميّة، ممّا أدّي أخيراً إلي حصر الحاكم وقتله في داره، والتخلّص من ظلمه وجوره.

إنفصال قم عن ولاية اصفهان

لقد كان في تأديب الناس عامل الخليفة علي قم، وإنتصارهم عليه وإقتطاع حقّهم منه، أثر كبير علي دار الخلافة، وكذلك علي قم واصفهان وسائر نقاط البلاد، فقد هزّت القضيّة الخليفة هزّة عنيفة، بل اقضّت مضجعه، وجعلته يقرّر خلع عبدالله بن كوشيد عن ولاية اصفهان، الأمر الذي دعي ابن كوشيد أن يلتحق بدار الخلافة، وأن يغدق الهدايا علي هارون بغية إسترداد منصبه، كما انّ ابن كوشيد شكي إلي هارون أهل قم، وإمتناعهم عن دفع الضرائب من خراج وغيره، قائلا: انّ أهالي قم لا يدفعون الخراج، ممّا جعل أهل اصفهان يسدّدونه بدلا منهم، ثمّ إقترح عليه: أن يفصل قم عن اصفهان حتّي يسهل إدارتها وجباية خراجها، وتتخلّص اصفهان من تبعات هذا العبأ الثقيل.

هذا وقد توجّه «حمزة بن اليسع الأشعري» الذي كان من زعماء

قم إلي دار الخلافة ليتدارك الوضع، ويمتصّ نقمة هارون، ويتلافي حدّة الموقف، وتفاقم الأمر، وبالفعل فقد كان كذلك، حيث انّه إستطاع أن يقنع هارون ويذكر له: بأنّ المقصّر الرئيسي في انتفاضة قم وثورة أهاليها هو عاصم نفسه، وذلك لما إرتكبه من ظلم وجور في حقّهم.

ثمّ إقترح علي هارون فصل قم وإستقلالها عن ولاية اصفهان، ووعده بأنّه إذا أفصل قم عن ولاية اصفهان، وغضّ النظر عن ضرائبها السابقة المفروضة علي أهل قم، فانّه يضمن شخصاً جباية خراج قم وضواحيها، ليسلّمها بنفسه إليه.

في البدء لم يكن هارون العبّاسي راغباً في تطبيق ما اقترحه عليه حمزة زعيم القمّيين، إلاّ انّه اضطرّ لإرجاع قم إلي هيمنته، وفرض السيطرة علي أهلها إلي قبول إستقلال قم، وفصلها عن ولاية اصفهان، وهذا ما حدث فعلا سنة مائة وتسعة وثمانين للهجرة، حيث نصب هارون حمزة والياً علي قم وهو أوّل حاكم مستقلّ لقم وجعل لها منبراً مستقلا، اُقيمت فيها صلاة الجمعة والعيدين باستقلال.

قم بعد إستشهاد الإمام الرضا (عليه السلام)

عندما بدأ حمزة كبير الأشعريين الولاية علي قم، والإصلاحات التي أجراها في المجالات السياسيّة وغيرها عليها، مثل فصل قم عن ولاية اصفهان، ومنحها الإستقلالية التامّة عنها، ومثل تخفيف الخراج والتساهل في الاُمور المالية مع أهلها، ومثل التسامح في مسح الأراضي وعدم التدقيق في تعيين مساحاتها لهم، وغير ذلك من الإصلاحات، هدأت قم، وسكنت فورة أهلها، وسارت الاُمور بسلام ووئام، حتّي جاءهم خبر إستشهاد الإمام الرضا (عليه السلام).

فلمّا جاءهم الخبر المؤسف إنتفضت قم مرّة اُخري، وخرج أهلها هذه المرّة، علي المأمون، وذلك بعد عودة المأمون من مرو إلي بغداد، حيث اعتبروه هو القاتل للإمام الرضا (عليه السلام)، وامتنعوا من دفع الخراج إلي دار الخلافة مدّة سبع سنوات، علماً بأنّ الإمتناع عن

دفع الخراج إلي دار الخلافة آنذاك، كان يعدّ بمثابة المرحلة التمهيدية للخروج علي الحاكم، بل كان يعدّ مقاطعة وخروجاً صريحاً علي النظام القائم.

ولذا بعث المأمون جيشاً عظيماً بقيادة «علي بن هشام» لقمع الحركة، وجباية الضرائب منذ سنة 204هجرية حتّي 211هجرية، فما كان من أهالي قم إلاّ أن تصدّوا للمقاومة فسدّوا كلّ الطرق النافذة إلي قم علي جيش علي بن هشام، ممّا اضطرّ الجيش إلي أن يعسكر خارج أسوار مدينة قم المقدّسة، ويضرب حصاراً حولها.

ثمّ تمكّن بعض أفراد الجيش العبّاسي، الذي كان يقوده علي بن هشام، من اقتحام البوّابة وفتحها، وذلك بالإستفادة من مجاري الأنهار، التي كانت تربط داخل المدينة بخارجها، فاستطاع الجيش الغاشم أن يدخل المدينة ويعيث الفساد فيها نهباً وقتلا.

فقد أمر علي بن هشام بملاحقة عدد من زعماء قم الأشعريين وقتلهم، وتحطيم سور المدينة ومصادرة أموالهم، وذلك بعنوان مجازاتهم علي إنتفاضتهم، ومقاصّتهم خراج السنين السبع، التي امتنعوا من دفع الخراج فيها. ثمّ بعد أن قمعوا تلك الحركة، وأخمدوا تلك الإنتفاضة بزعمهم، نصب علي بن هشام، علي بن عيسي الطلحي علي ولاية قم، ورجع إلي بغداد.

وقيل: انّ أهل قم استكثروا ما عليهم من الخراج، وكان ألفي الف (مليوني) درهم، فرفعوا إلي المأمون يسألونه الحطّ عنهم والتخفيف، ويشكون ثقله وعبأه عليهم، فلم يجبهم المأمون إلي ما سألوه، فامتنعوا من أدائه، فوجّه المأمون إليهم جيشاً جرّاراً حاربهم فظفر بهم، وجباهم سبعة آلاف الف (سبعة ملايين) درهم، بعد أن قتل زعيمهم، وهدم سور بلدهم، وأخمد ثورتهم وأطفأ نائرتهم.

وما لبث الأمر إلاّ يسيراً حتّي انتفض أهالي قم مرّة اُخري، وخرجوا علي عامل الخليفة وطردوه من أرضهم. فأمر المأمون ثانية بقمع حركتهم، وجباية خراجهم، ولكن في هذه المرّه إختتمت القضيّة

سلميّاً، حيث كان هناك بين الذي أمره بقمع الإنتفاضة وبين بعض زعماء قم علاقة مودّة وصداقة، فتمّ التوافق بينهم بسلام.

ثمّ هدأت الأوضاع في قم حتّي وصل إليها خبر موت المأمون سنة 216هجرية، وفور سماعهم هذا الخبر ثاروا علي دار الحكومة، وطردوا عاملها منها، واستقلّوا بالأمر.

إحراق المعتصم مدينة قم

لقد تولّي الخلافة بعد موت المأمون، المعتصم العبّاسي، الذي واجه خروج أهل قم أوائل خلافته، فبعث قائد جيشه «وصيف التركي» ومعه علي بن عيسي الطلحي عامل قم المطرود، لقمعهم، وكان قد أكّد المعتصم علي وصيف بالبطش بهم، والتنكيل فيهم.

وقد تمكّن أهل قم من إغلاق بوّابة مدينتهم، بوجه جيش وصيف وحاكمهم السابق في أوّل الأمر، إلاّ انّهم تمكّنوا فيما بعد من إقتحام المدينة ودخولها، فأباحوا القتل والتخريب بعد أن حطّموا الأسوار، ثمّ أضرموا النيران في الدور والبساتين والمزارع، حتّي قيل: انّه قد تبدّلت المدينة إلي تلال من الحطام والرماد، وكانت آثار الهدم والحرائق تشاهد في كلّ مكان.

ثمّ ولّي وصيف عند رجوعه من إخماد الثورة «محمّد بن عيسي البادغيسي» علي قم وعاد إلي بغداد، لكن الوالي الجديد: محمّد بن عيسي، اتّبع سياسة اللين والمداراة مع الناس، فلم تشهد المدينة أيّة إضطرابات تذكر حتّي سنة 254هجرية.

نعم، لقد شهدت قم هدوءاً نسبيّاً طيلة ولاية محمّد بن عيسي البادغيسي عليها، ثمّ اضطربت ثانية بعد موته، وذلك ابّان مجيء المتوكّل العبّاسي، المعروف بقسوته ضدّ التشيّع، وكان من قسوته انّه يسيء الأدب بالنسبة إلي فاطمة الزهراء وإلي الإمام علي (عليهما السلام)، ثمّ عمد إلي هدم ضريح الإمام الحسين (عليه السلام)، وحرث القبر الشريف، وإجراء الماء عليه، حيث امتنعت الدواب أن تدنو من القبر، وحار الماء وتراكم بعضه علي بعض دون أن يغطّي القبر الشريف، وغير ذلك ممّا

أدّي إلي امتعاض شيعة قم، الذين كانوا يتحيّنون الفرصة ليردّوا كيده إلي نحره.

ولحسن الحظّ انّه في هذه الأيّام ثار أحد العلويين، ويدعي باسم: حسين الكوكبي ضدّ العبّاسيين في العراق، وذلك بتوجيه من أخيه المدعو باسم: حمزة الكوكبي، فلم ينجح في ثورته هناك، فتوجّه بأفراده ورجاله إلي ايران ونهض في طالقان، واستطاع أن يسيطر علي المدينة، وعلي مدن اُخري في أطرافها، مثل: مدينة قزوين وزنجان وابهر، وان يشكّل فيها حكومة علوية مستقلّة.

وهنا رأي أهل قم في هذه الحركة العلوية فرصة مناسبة للردّ علي العبّاسيين والخروج من تحت هيمنتهم الغاشمة، ولذلك أعلنوا سخطهم علي دار الخلافة، وأبدوا عن دعمهم لحسين الكوكبي، وأعانوه في تشكيل حكومته العلوية الصغيرة علي هذه البلاد، التي إستنقذها من عمّال العبّاسيين.

أهل قم يستغيثون بالإمام العسكري (عليه السلام)

أرسلت دار الخلافة جيشاً ضخماً، لإستنقاذ بلاد طالقان وما حولها من يد الثائرين، الذين سيطروا عليها بقيادة العلوي حسين الكوكبي، ممّا أدّي إلي انهزام الثائرين، وسقوط بلاد الطالقان بيد الجيش، ولاذ حسين الكوكبي بحاكم طبريا الذي كان من العلويين أيضاً.

وفي نفس الوقت كان قد أمر الخليفة العبّاسي «المعتمد» موسي بن بغا، علي أن يقمع حركة أهل قم ويقضي علي نهضتهم، فإنطلق باتّجاه قم موسي ابن بغا وقد جعل عبدالرحمن بن مفلح، علي رأس الجيش.

ولمّا وصل الجيش حدود قم، رأوا انّ أهل قم قد أغلقوا بوّابة المدينة في وجههم، ليمنعوهم من إجتياح بلدهم، إلاّ انّهم إخترقوها ليلا، فعاثوا فيها القتل والخراب، حيث قُتل عدد كبير من الزعماء، واعتقلت فئة عظيمة من الناس، ولاذ من بقي بالفرار خارج المدينة، وضاق أهل قم بما جري عليهم ذرعاً، ثمّ توجّه عبدالرحمن بعد تلك المقتلة العظيمة بزعم إخماد الثورة، وبعد ذلك النهب الفضيع باسم أخذ الخراج، إلي

مدينة الري ملتحقاً بموسي بن بغا، بغية الظفر بحسين الكوكبي.

أجل، لقد ضاق أهل قم ذرعاً من جور العبّاسيين وظلم عملائهم، لا سيّما موسي بن بغا الفظّ الغليظ، الذي أنزل بهم أشدّ ألوان القتل والتشريد، فاستغاثوا بالإمام العسكري (عليه السلام)، الذي كان في سامراء تحت الإقامة الجبرية التي فرضها عليه اُولئك الظلمة، فكتب (عليه السلام) إلي أهل قم يعلّمهم دعاءاً يدعون به في قنوت صلاة الليل()، ليفرّج الله به عنهم، فدعوا به فدفع الله عنهم وكشف ما بهم.

أجل، بقي أهل قم ينتظرون الفرج، ويتحيّنون الفرصة للقيام والتخلّص من ظلم العبّاسيين وجورهم، وهذا ما حدث بالفعل عندما إنشغل الخليفة العبّاسي المعتمد بقتاله ليعقوب ابن ليث الصفّاري، وللأسف لم يكتب لهذا القيام النجاح.

ثمّ إنتفض أهل قم مرّة اُخري وامتنعوا عن دفع الضرائب للعبّاسيين، وذلك ابّان عهد المعتضد العبّاسي، غير انّه جُوبِهَ قيامهم هذا كالسابق بالفشل أيضاً.

وخلاصة القول: انّ قم وأهلها بقوا صامدين أمام جور العبّاسيين وظلمهم، ولم يكفّوا يوماً عن مقاومتهم، والإنتفاضة ضدّهم، والإمتناع من دفع الخراج إليهم، حتّي ظهور البويهيين، وإقامة دولة بني بويه، الذين كانوا من الشيعة الإمامية، والمعتقدين بالمذهب الحقّ مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، في المناطق الشرقية للبلاد الإسلامية: ايران وما حولها.

الحرب الإقتصادية ضدّ خلفاء الجور

نعم، انّ القمّيين الذين كانوا يعتنقون المذهب الحقّ مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وكانوا يرون عدم شرعية الخلافة لبني اُميّة، أو لبني العبّاس، ويعتقدون بأنّهم خلفاء ظلم وجور، كانوا يُبدون سخطهم، ويعلنون عدم رضاهم، بالإمتناع عن دفع الخراج إليهم.

وقد ذكرنا سابقاً: بأنّ الإمتناع من دفع الخراج، يعني التمهيد للخروج علي دار الخلافة، وكان يتلقّاه الخليفة إنذاراً بإعلان الحرب عليه، ولكنّهم مع كلّ ذلك كانوا يواصلون إمتناعهم عن دفع الخراج ولا يعبأون بعواقبه،

إلاّ إذا لم يروا مفرّاً من دفعه لبعض الحكومات.

وفي الحقيقة فانّ عدم دفع الضرائب، كان يعدّ نوعاً من أنواع المقاطعة والحرب الإقتصادية المستمرّة ضدّ الحاكم، وهذا ما جعل قم أن تكون السبّاقة في هذا الميدان.

ومن السبل التي كان يسلكها القمّيون بغية الهرب من دفع الضرائب هو: انّهم كانوا يخفون ما يحصلون عليه من غلاّت ومحصولات زراعية في مخابيء سرّية، وكان كلّ همّهم أن يتمّ ذلك ليلا بعيداً عن أنظار عمّال الخلفاء، حتّي لا يكون للسلطات ذريعة لجباية الخراج منهم، وكان جواب القمّيين حين كانوا يسئلون عن الغلاّت والمحاصيل الزراعية: بأنّه قد حدثت لها آفة ولم يبق منها ما يستحقّ الخراج.

وكان هناك سبيل آخر للهروب من دفع الخراج، يسلكه القمّيون فضلا عن السبيل الأوّل، وهو انّه إذا إزداد عليهم الضغط والكبت كانوا يغادرون البلدة متّجهين إلي نواحي المدينة، وكثيراً ما كان يحدث لهم ذلك، فتبقي الغلاّت والمحاصيل الزراعية مخبّئة وأصحابها ليسوا موجودين، فييأس عامل الخليفة منهم ومن خراجهم، ويضطرّ إلي أن يرجع صفر اليدين.

وهناك سبيل ثالث القمّيون يسلكونه للتهرّب من دفع الخراج إلي خلفاء الجور، ذكره أحد كبار علماء أصحابنا الإمامية يدعي باسم «الحسن بن محمّد بن الحسن القمّي» صاحب كتاب: «تاريخ قم» وهو أقدم كتاب تاريخي في هذا المجال.

قال المؤلّف فيه: انّ القمّيين كانوا يعلّمون أولادهم منذ نعومة أظفارهم علي عدم دفع الخراج، وعلي مقاطعة خلفاء الجور إقتصادياً، ومحاربتهم سياسياً، انّهم كانوا يلقّنونهم هذه العبارات حتّي يحفظوها ويردّدوها، وهي: ناشدتك الله أن تراعي حالي، لقد تسلّطت الآفات علي مزرعتي حتّي هلكت، وقد قضت الديدان علي قطني، وزحف الجراد علي ما بقي منها.

فكان الطفل يتعلّم هذه الجمل ويردّدها عند الضرورة، يعني: إذا وقع يوماً في قبضة

عامل الخراج وإستنطقه العامل حول الغلاّت والزرع، نطق بتلك الكلمات ونجّي ذويه من دفع الخراج.

قصّة طريفة في مجال الخراج

قال الحسن بن محمّد بن الحسن القمّي في كتابه القيّم «تاريخ قم»: كان أحد القمّيين مشهوراً بالتهرّب من دفع الخراج، ومتفنّناً في التحايل علي عمّال الخراج، وهذا ما جعل الآخرين يحذون حذوه ويسلكون نهجه، الأمر الذي جعل عامل الخراج يفكّر في إصلاح هذا الرجل ولو إصلاحاً صورياً، حتّي لا يتبعه الآخرون ويدفعون خراجهم.

ففكّر في أن يحضر عنده سرّاً ويسلّمه مبلغاً من المال ثمّ يقول له: خذ هذا المبلغ، فإذا دعونا الناس غداً حتّي يحضروا في الديوان لدفع الخراج، فكن أنت أوّل من يدفع لنا هذا المبلغ، علي انّه خراجك الذي تدفعه إلينا، فيتبعك الآخرون في دفع خراجهم، ونكون لك من الشاكرين.

وافق الرجل علي ذلك وأخذ المال ورجع إلي بيته، وفي الغد عندما حضر الجميع إلي ديوان عامل الخراج وحضر الرجل معهم أيضاً، طالبه العامل بدفع الخراج، فأجابه الرجل أمام الجميع وكأن لم يكن قد تواطئا بينهما أصلا، قائلا: «لا أملك شيئاً حتّي أدفع خراجه» فذهل العامل وخاطبه خفية دون أن يسمع الآخرون: «ألم أعطك بالأمس مبلغاً واشترطت عليك أن تدفعه لنا أمام الناس بعنوان انّه سهم خراجك»؟ فأجابه الرجل بخفاء أيضاً: «نعم ولكن حدث لي ما جعلني أنفقه كلّه بحيث انّه لم يبق لي الآن شيئاً أملكه».

وهكذا تحايل الرجل علي عامل الخليفة ولم يدفع إليه شيئاً، فباءت محاولة العامل بالفشل الذريع، ولم يتمكّن من إسترداد المبلغ المذكور، كما لم يتمكّن من جباية خراج الآخرين أيضاً.

قم وإنفتاحها علي العالم الإسلامي

ثمّ في أوائل القرن الرابع الهجري، ظهر البويهيون الشيعة علي الساحة الإيرانية، وأقاموا فيها دولة قويّة وعادلة، وأنقذوا ايران وأهلها من جور العبّاسيين وظلمهم، ونشروا عليها وعليهم عدل الإسلام ورحمته، وبذلك مهّدت هذه الدولة الفتيّة، الأرضية المناسبة أمام قم وأهلها

الشيعة، ليكون لهم دور أكبر في مسرح السياسة العالمية للإسلام، مع انّنا ذكرنا آنفاً: انّ قم لم تكن بمعزل عمّا يحدث في المنطقة، كما اّنها لم تكن في غياب عن الساحة الإسلامية الواسعة، لكن مجيء آل بويه إلي الحكم فتح أمامها آفاقاً أوسع.

ويمكن معرفة بعض أبعاد ذلك الدور، عبر معاضدة القمّيين لكبار الدولة البويهية، حيث قدّموا لهم آنذاك أنواع الدعم، وساعدوهم في توطيد حكمهم، وفرض هيمنتهم علي دار الخلافة العبّاسية، حتّي استطاعوا التحكّم في الخلفاء، بخلع من شاؤوا منهم وإستبدالهم بآخرين، ولم يكن أهل قم بمنأي عن ذلك العزل والنصب.

وامّا المظهر الآخر لدور قم في مسرح الأحداث الخارجية فهو: انّ عدداً من علماء قم وزعمائها كانوا مقرّبين من الاُمراء والسلاطين البويهيين، بحيث حظوا عندهم علي مناصب حكومية وثقافية رفيعة المستوي، وهذا ما جعلهم يؤثّرون بشكل أو بآخر في سياسة المنطقة.

لقد تمتّعت قم بمكانة خاصّة إبّان العهد البويهي، حيث ساعد التوجّه الشيعي للدولة علي ازدهار قم في كافّة الأصعدة، أضف إلي ذلك ما أولاه رجال الدولة الكبار لمدينة قم من أهميّة خاصّة، لا سيّما «ركن الدولة الديلمي» وكذلك شاعر أهل البيت (عليهم السلام) الكبير، وأديب زمانه المعروف: «الصاحب بن عبّاد» وزير آل بويه، فانّه كما جاء في التاريخ هو الذي طلب من العالم الجليل، الحسن بن محمّد بن الحسن القمّي أن يكتب تاريخ قم، فاستجاب له وكتب عن قم أوّل كتاب مستقلّ في تاريخها.

مقتلة القمّيين في اصفهان

لقد كانت اصفهان بعكس قم العريقة في التشيّع لأهل البيت (عليهم السلام) من المدن السنّية المتعصّبة، وذلك قبل أن يستتبّ المذهب الحقّ مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وينتشر في كلّ ربوع ايران، وكثيراً ما كانت تحدث مجابهات عنيفة بين أهل هاتين المدينتين،

ونحن نشير باختصار إلي تلك المجابهة التي وقعت في عهد آل بويه سنة ثلاثمائة وخمس وأربعين هجرية.

لقد نقل المؤرّخون: انّ عدداً من تجّار قم كانوا قد قدموا إلي اصفهان للتجارة، وعلي أثر مناظرة مع بعض أهلها حول التشيّع والتسنّن، نشب بين الطرفين نزاع لفظي شديد، فاستغلّه أهل اصفهان السنّة لقتل جميع التجّار القمّيين الشيعة، وسلب أموالهم.

وحين علم ركن الدولة الديلمي بالواقعة المؤلمة، غضب علي أهل اصفهان غضباً شديداً، وعاقبهم علي تعصّبهم الشيطاني الأعمي باسترجاع أموال المقتولين، وأخذ أموال عظيمة منهم ودفعها دية لأهالي المقتولين.

قتل الزائرين القمّيين في بغداد

ومن المجازر التي ارتكبت في حقّ القمّيين الشيعة، فراح ضحّيتها كثير من الناس الأبرياء هي: مجزرة الزائرين القمّيين، فانّ قم حيث كانت كما قلنا سابقاً عريقة في الولاء لأهل البيت (عليهم السلام)، وكانت من المدن الشيعية المهمّة، كان أهلها كثيراً ما يسافرون لزيارة المراقد المطهّرة في كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء، وفي هذا الطريق كثيراً ما كانت تتعرّض قوافلهم لهجمات أهل السنّة القاسية، التي كانت توقع بين صفوف المسلمين الشيعة مجزرة عظيمة، تنهب فيها أموالهم وأمتعتهم، وتسلب منهم أنفسهم وأرواحهم.

ففي سنة أربعمائة وإثنتين وعشرين هجرية، اتّجهت قافلة للزيارة من قم فوردت بغداد، وكان في بغداد آنذاك حي شيعي يدعي: «الكرخ»، وحي سنّي مقابل للحي السابق يدعي: «باب البصرة»، وحين علم أهالي باب البصرة بنزول قافلة شيعية في حي الكرخ هجموا علي أفرادها، ونهبوا أموالهم وأمتعتهم، وقتلوا منهم عدداً كبيراً، وجرحوا آخرين، ولاذوا بالفرار.

قم بعد حكومة البويهيين

ولمّا إنقضي عهد البويهيين بما فيه من إزدهار وتقدّم، وعدالة وحضارة، وجاء دور السلاجقة، إحتفظت قم بتواجدها في مسرح الأحداث السياسية في عهد السلاجقة أيضاً. ويعزي ذلك إلي كثرة الوزراء القمّيين، الذين كانوا يتواجدون في تلك الدولة الجديدة أيضاً، ممّا أدّي إلي مواصلة قم لطريقها في الإزدهار والتطوّر، عمرانيّاً وثقافيّاً في زمن السلجوقيين أيضاً.

وتدلّ بعض القرائن علي انّ إزدهار قم وتطوّرها كان يعود بعد غضّ النظر عن كثرة مدارسها وطلاّبها، ومكتباتها وعلمائها في عهد السلاجقة إلي انّها كانت ذات نفوذ في أجهزة تلك الدولة.

فعلي سبيل المثال نري انّ التاريخ قد ذكر اسم أحد العلماء السنيّين المتعصّبين، الذي كان مبرّزاً في عصر السلاجقة، وهو يُبدي تذمّره الشديد من نفوذ شيعة قم والمناطق الشيعية الاُخري في أجهزة الدولة السلجوقية، وخاصّة في المؤسّسات العسكرية.

ونري سنّياً متعصّباً

آخر ينشد السلطان السلجوقي قصيدة، يؤكّد عليه فيها بالضغط علي المناطق الشيعية، ومعاملتهم بالقسوة والشدّة.

القمّيون وملوك الخوارزم شاهيين

ولقد كان للقمّيين دور كبير، وانسجام سياسي هامّ مع سلسلة ملوك الخوارزم شاهيين أيضاً، حيث قيل: انّ أنصار السلطان محمّد خوارزم شاه، كانوا قد تجمّعوا في قم أيّام زحف المغول علي ايران، وهذا ما أثار حفيظة المغول ضدّ قم.

ولعلّ نوع العلاقة التي كانت قائمة بين السلطان محمّد خوارزم شاه والخليفة العبّاسي، يؤيّد الإنسجام المشار إليه بين القمّيين والسلاجقة، وذلك لأنّ السلطان محمّد خوارزم شاه كان غير موافق لدار الخلافة، إذ كان هو الآخر يريد كأسلافه من البويهيين والسلاجقة أن يأخذ بزمام الخلافة، ويكون صاحب القرار السياسي في العالم الإسلامي دون العبّاسيين، بينما لم يكن الخليفة العبّاسي ممّن يرضي لنفسه أن يستسلم له ويذعن بذلك.

ولهذا كان الخلاف والشقاق يشتدّ بينهما يوماً فيوم، ويظهر بشكل حادّ بين مؤسّسات الحكومة الخوارزم شاهية والعبّاسية، إلي درجة انّ كلّ منهما كان يسعي لإقصاء الآخر وطرده.

فكان السلطان محمّد يؤلّب ضدّ الخلافة العبّاسية، ويعتبرهم غاصبين للخلافة، ويبلّغ لذرّية رسول الله (صلي الله عليه وآله)ونسله من أولاد الإمام الحسين (عليه السلام)، ويعرّفهم بأنّهم أحقّ بالخلافة من غيرهم، حتّي انّه قدّم أحد العلويين واسمه: «علاء الملك الترمذي» علي انّه هو الخليفة، ولكن حسب ما يبدو، كان هذا التغيير متأثّراً بدوافع سياسية أكثر ممّا كان متأثّراً بدوافع دينية، ولذلك لم يكتب له النجاح والبقاء وان إستطاع أن يكسب ودّ الناس ومؤازرتهم نوعاً ما، وفي كلّ ذلك لم تكن قم بمعزل عن آثار هذه المناوشات والخلافات، التي كانت مستمرّة طوال تلك الفترة.

فجائع المغول في قم

أجل، لقد شهدت قم هدوءاً نسبيّاً بعد البويهيين، ثمّ تزلزلت بشدّة علي أثر الزلزال المغولي الزاحف علي بلاد المسلمين، إذ لا شكّ في انّ الزحف الهمجي والبربري للمغول علي البلاد الإسلامية الآمنة، كان أبشع

كارثة، وأشنع فاجعة، شهدتها البلاد الإسلامية عامّة، وايران بصورة خاصّة، علي طول التاريخ، فانّ ايران لم تستطع بعد ذلك الزحف الوحشي أن تقف علي قدميها، وما زالت أبعاد تلك الفجائع والمآسي التي ارتكبها المغول في ايران خاصّة، يكتنفها الأبهام والغموض حتّي الوقت الحاضر.

ولا يمكن مقارنة هذا الهجوم القاسي، إلاّ بحملة الآشوريين الشعواء علي إيلام، والتّي أهلكوا فيها الحرث وأبادوا النسل، ولم تأمن حتّي الحيوانات من شرّهم، لكن مع فارق كبير بينهما وهو: انّ حملة الآشوريين لم تطل إلاّ بقعة من جنوب ايران، بينما شملت حملات المغول ايران برمّتها. ولم يكن نصيب قم من تلك الحملات بقليل، وإنّما لحقها ما لحق بقيّة مدن ايران من الفساد والدمار، بل وزادوا بلدة قم دماراً وخراباً، وتركوها لبعض العوامل الآتية خاوية علي عروشها.

نعم، لقد أباح أمير جيش المغول لجيشه في زحفه علي ايران، القتل والدمار في مدينة الري، وأحالها إلي أكوام من التراب، وتلال من الجثث، ثمّ اتّجه نحو قم، وحين وصلت جيوشهم إلي قم، عمد القمّيون علي عادتهم إلي غلق بوّابة مدينتهم في وجههم، ممّا أثار غضب قائد الجيش المغولي.

مضافاً إلي عوامل تأجيج نار الحقد، التي كان يكنّها جيش المغول في داخله لقم وأهلها، وما كان يصلهم من سعاية العامّة، الذين كانوا يثيرون ضغائن قائد الجيش المغولي، لقمع أهل قم والفتك بهم، وما كان يبلغهم من تجمّع أنصار السلطان محمّد خوارزم شاه في قم، والأهمّ من كلّ تلك العوامل هو: هلاك بعض أفراد الجيش المغولي لمّا اقتحموا أسوار المدينة، وأرادوا السطو عليها وعلي أهلها.

وأخيراً قرّر المغول بعد إغلاق أهل قم بوّابات المدينة في وجههم، أن يقتحموا المدينة مهما كلّفهم الثمن، فأمر قائد الجيش حينئذ أن تنصب المدافع وتوضع

المنجنيقات، بغية هدم سور المدينة، وعلي أثر وابل من الأحجار التي قذفت بالمدافع والمنجنيقات في السور انثلم السور، بالإضافة إلي انّهم حفروا نقباً تحت سور المدينة بطول ستّين ذراعاً، فاستطاعوا إقتحام المدينة عبرهما وإجتياح أهلها بعد هدم الخطوط الحافظة، ورفع الموانع الدفاعية للمدينة.

قم بين مخالب المغول

وحين تمكّن جيش المغول من التسلّل إلي المدينة بعد تحطيم سورها، دخلوها كالمجانين، ليحرقوا كلّ ما يجدوا فيها من رطب ويابس، فقد قتلوا ما عثروا عليه من حيوان وإنسان، بلا رأفة ولا رحمة، إذ أنّ قلوبهم لم تكن تعرف للرحمة معنيً، ولا للإنسانية مفهوماً، فذبحوا الأطفال والنساء، والشيوخ والشبّان، وأفسدوا المدينة أيّما إفساد بحيث أصبحت قم مكاناً غير قابل للسكن.

بل لم يسلم حتّي العلويين من تلك الحملة الهمجية للمغول، فقد كان من بين القتلي زعيمان علويّان شريفان مشهوران أحدهما: «أبو المعالي إسماعيل» وكان يعرف باسم «سربخش» والآخر: السيّد الجليل «جعفر الموسوي» وقبره الشريف شمال غربي قم.

وكان السيّد أبو المعالي هذا قبل أن يأتي إلي قم، ساكناً في مدينة نيشابور، وكان هو المحرّض لأهل نيشابور علي الصمود والمجابهة وعدم الإستسلام أمام المغول، ولهذا حقد الجيش المغولي عليه، فحاولوا الحصول عليه والإنتقام منه، لكنّه قصد قم بعد سقوط نيشابور وإنضمّ إلي صفوف القمّيين.

ولمّا إجتاح الجيش المغولي مدينة قم، وأباحوا المدينة نهباً وقتلا، عثروا علي أبي المعالي، وقبضوا عليه، فأمر قائد الجيش المغولي بضرب عنقه وصلب جسده وسط المدينة.

لكن أهل قم الغياري قاموا إلي جسده ليلا ودفنوه سرّاً، ثمّ عثروا بعد ذلك علي رأسه بين الرؤوس المتكدّسة، وضمّوه إلي الجسد الشريف أثر توجّه جيوش المغول إلي همدان، وذلك بعد أن أثكل المغول أهل قم، وأفجعوهم بقتل أعزّائهم وأحبّائهم، كسائر سكنة المناطق الإسلامية الاُخري المفجوعة بأهليهم

وذويهم، حتّي قيل: انّ مراسم العزاء كانت قائمة فيما بينهم، ومستمرّة عندهم حتّي العهد الصفوي.

وهكذا فقد تدمّرت مدينة قم بالكامل إثر هجوم الجيش المغولي الغاشم، إلاّ انّ بعض حكّام المغول الذين اعتنقوا الإسلام، اَولَوا قم بعض الإهتمام، ومن هؤلاء الحكّام: السلطان محمّد الجايتو، المشهور بالسلطان محمّد خدابنده، الذي اهتمّ نوعاً ما بمدينة قم، وذلك بتوجيه من السيّد تاج الدين آوي القمّي، ولكن لم تمض علي حملة المغول أكثر من قرن ونصف، حتّي تعرّضت المدينة أواخر القرن الثامن ولمرّة اُخري لحملة «تيمور كوركاني»، الذي هجم علي المدينة بعد تحطيم سورها، وفعل فيها الأفاعيل من قتل وتخريب، حتّي قيل: انّ الناس لم يتمكّنوا من ترميم سور المدينة حتّي العصر الصفوي.

العصر الصفوي بداية الإزدهار

لقد تقدّمت قم خطوة باتّجاه التطوّر والإزدهار، اثر اضمحلال نفوذ تيمور وخلفائه، وبداية ظهور سلالتي «قراقويونلو» و «آق قويونلو» علي المسرح السياسي، وأخيراً عند ظهور الصفويين الشيعة في ايران.

ويجب أن ننبّه هنا إلي انّ قم كانت في بعض العصور التاريخية تعدّ مصيفاً لبعض الملوك، وأحياناً كانت تعتبر بمثابة عاصمة مؤقتة لعدد من السلاطين والحكّام ومنهم: بركيارق الملك السلجوقي، والسلطان محمّد السلجوقي، ومحمود السلجوقي، وقراقويونلو، واوزون حسن آق قويونلو، ويعقوب آق قويونلو، والوند سلطان، وإسماعيل الصفوي، وغيرهم، ولهذا حظيت بعناية هامّة.

وفي سنة تسعمائة وتسع هجرية، ضمّ جيش إسماعيل الصفوي مدينة قم إلي حكومته المركزية الواسعة، وحيث انّ الصفويين كانوا شيعة فقد منحوا قم أهميّة بالغة، فازدهرت إزدهاراً كبيراً، حتّي أصبحت إحدي المراكز الثقافية والفقهية للشيعة، وبرز فيها عدد كبير من العلماء الكبار، والمحقّقين العظام الذين كتبوا العديد من الموسوعات الثقافية، والكتب العلمية، فروّجوا بذلك مفاهيم الإسلام، وأحكام القرآن، وبلّغوا المذهب الحقّ: مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وشجّعوا الناس

علي ما ندب إليه رسول الله (صلي الله عليه وآله) من زيارة مشاهد ذرّيته وأولاده المعصومين، خاصّة زيارة الإمام الرضا (عليه السلام)في خراسان.

ويبدو أنّ من أسباب تحريض الناس علي خصوص زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) هو: ردّ الفعل الذي أبدته الدولة الصفوية للدولة العثمانية، تجاه حدّها من زيارة المراقد المطهّرة في النجف الأشرف، وكربلاء المقدّسة، والكاظمين وسامراء المشرّفتين، والتي كانت قد بقيت بعدُ تحت نفوذ الدولة العثمانية، ولعلّ هذا العمل كان بمثابة حرب إقتصادية باردة ضدّ الدولة العثمانية حيث أراد الشاه عبّاس الصفوي أن يضعّف إقتصاد العثمانيين بهذه الوسيلة.

أضف إلي ذلك تقدّم قم في ذلك العصر المتميّز، في كلّ المجالات الحيوية، حتّي انّها علي أثر إنفتاحها علي الحرّيات الإسلامية، شهدت رفاهاً إقتصادياً عظيماً، وتطوّراً صناعياً كبيراً، كما وقد اهتمّ الصفويون بروضة السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) وبضريحها المقدّس، فوقّفوا أموالا لبناء الصحن الشريف وتزيين الروضة المباركة، وكان إهتمامهم بذلك إهتماماً بالغاً، ترك من بعدهم من الآثار التاريخة ما سبّب جلب العديد من الزوّار والسوّاح إلي مدينة قم.

وبصورة عامّة يمكن القول: بأنّ قم تمتّعت علي أثر تطبيق الصفويين الإسلام، ومنح الناس الحرّيات الإسلامية، بنوع من الإزدهار إبّان ذلك العصر.

قم ملجأ الزوّار والسوّاح

لقد إستقطبت ايران أعداداً كبيرة من الزوّار، وأفواجاً لا يستهان بها من السوّاح الأجانب، وقد كتب بعض اُولئك الزائرين والسائحين كتباً مختلفة تحدّثوا فيها عن آثار قم التاريخية، وعن مشاهداتهم فيها، ونشير إلي نموذج من تلك المشاهدات التي شاهدها بعض السوّاح الذين زاروا قم وكتبوا عنها، وهو نموذج يكشف نوعاً مّا عن الأوضاع الإجتماعية والسياسية لذلك العصر.

انّه يقول في كتابه: زرت مدينة قم أثناء سفري الأوّل إلي ايران وأقمت في «خان» فيها، فرأيت الناس يوماً يمرّون مسرعين،

زرّافات وأفراداً من أمام ذلك الخان الذي أقمت فيه، ثمّ رأيت الناس الساكنين في الخان يجرون وراءهم، وحين سألت عن سبب اتّجاههم وعلّة إسراعهم؟ أجابوا: بأنّه سيجري الآن سباق في مصارعة الثيران بين فرقتَي الحيدرية والنعمتية، وهما إسمان لفرقتين من الصوفية، كان النزاع بين أتباعهما قائماً علي قدم وساق، وربّما أدّي أحياناً إلي صدامات دموية.

فدفعني فضولي وحبّي لهذا النوع من المسابقات، وتلهّفي وإشتياقي للإطّلاع علي عادات الناس، والتعرّف علي تقاليدهم، أن أتّبعهم نحو الميدان الذي سبقوني إليه، ثمّ أخذت أشقّ طريقي من بين الجموع الغفيرة المحتشدة إلي مركز الساحة فرأيت ميداناً وقف الناس حوله، وكانت بقرة في جانب من الميدان تواجه بقرة اُخري في الطرف المقابل، ووقف أنصار كلّ واحدة حولها، فكانت إحداها للحيدرية والاُخري للنعمتية.

وفي هذه الأثناء وصل حاكم قم إلي محلّ المسابقة، في موكب ضخم يضمّ مائة فارس، للإشراف علي المسابقة والإحاطة بما يجري في المصارعة، وما أن وصل موكب الحاكم إلي المحلّ، حتّي أخذ مكانه وجلس علي أريكة في زاوية من الميدان كانت معدّة له، ثمّ أخذ يلتفت من حوله فوقع نظره عليّ وعلي صديقي، الذي رافقني من اسلامبول لزيارة ايران فعرفنا غرباء.

فبعث إلينا وأحضرنا بين يديه، ثمّ أراد منّا أن نجلس علي كرسي خال كان هناك، فلمّا إستقرّ بنا المجلس أخذ يسألنا عن هويّتنا والهدف من مجيئنا إلي ايران، وحين علم بأنّا جئنا لزيارة الملك في اصفهان أكرمنا ورحّب بنا.

ثمّ أذن للمتسابقين ببدء المسابقة، فإذا بأصحاب البقرتين المتقابلتين، المتهيّئتين للصراع، يفتحون قيود قرنيهما ويدفعانهما للنزال، فكانت تنطح إحداهما الاُخري وتدحرها، حتّي انتهي النزال بغلبة بقرة الفرقة الحيدرية، وإنهزام بقرة الفرقة النعمتية، فانّها أخذت تنسحب بسرعة وتهرب من الزقاق الذي تركه المتفرّجون

مفتوحاً أمامها، وعندها جوبهت بضحكات الحاضرين وصيحاتهم.

ثمّ انّ أصحاب البقرة الفائزة حملوا بقرتهم بكلّ سرور وغرور إلي المكان المخصوص، الذي كان قرب الميدان، وأخذ عدّة أشخاص بمداعبتها، وإزالة التعب عنها، وتدهين ناصيتها وقرنيها، ثمّ أهدي كلّ من حضر المسابقة مبلغاً لأصحاب البقرة الفائزة وذلك بحسب قدرته، كما وأهدي الحاكم لهم مبلغاً قدره خمسين توماناً، وكان هذا مبلغاً محترماً في ذلك الزمان، وكذا قام بعض الناس بتوزيع الفاكهة والحلويات علي الناس المحتشدين.

محاسبة الحكّام ومؤاخذتهم

ثمّ انّه لمّا تمّت المسابقة وإنصرف الناس، يقول السائح صاحب القصّة في كتابه وهو يواصل قصّته: رجعت عندها مع صاحبي إلي محلّ إقامتي في الخان المذكور، فأقبل إلينا ليلا بعض خدمة الحاكم، وكانوا يحملون علي رؤوسهم الصحون المليئة بالطعام والعصير، وذلك بعد ان اقتفوا أثرنا حتّي عثروا علينا، فوضعوها أمامنا وانصرفوا، فأكلنا منها حتّي شبعنا، وشربنا حتّي ارتوينا.

ثمّ إنّا علمنا حين غادرنا قم بأنّ الملك الصفوي غضب علي هذا الحاكم، وأمر أن يحمل مقيّداً إلي اصفهان دار الحكومة، ويعزي ذلك إلي انّ الحاكم المذكور، كان قد فرض علي الناس من أجل ترميم المناطق المتضرّرة في قم، وإعادة بنائها، ضرائب بمقدار نصف فلس، لكلّ سلّة فاكهة كان يؤتي بها من الأطراف إلي المدينة، وذلك بدون مجوّز شرعي ولا إذن من السلطات العليا، ويبدو انّه كان للشاه صفي الدين عيون في كلّ مدينة يوافونه بأخبار الحكّام، وقد أطلعوه علي ما كان يفعله هذا الحاكم في قم.

فأحضره الملك بين يديه، وأنّبه علي فعله وتصرّفه المخالف للشرع والعرف، والقسط والعدل، ثمّ أمر ابن ذلك الحاكم وكان خادماً في البلاط أن ينتف لحية أبيه بمقراض اُعدّ لذلك، ثمّ عزله، والتفت إلي الإبن قائلا: «ان كنت تحكم أفضل من أبيك

المعزول فاذهب بدلا منه إلي قم» وبعث معه شيخاً كبيراً ذا حكمة وتجربة، حتّي يكون معاوناً له ومشيراً.

عاصمة الصفويين في أيدي المحتّلين

لقد إنتعشت ايران سياسياً وإقتصادياً، وسعد الناس في ظلّ حكومة الصفويين الشيعة، وعاشوا سعداء حتّي أغار جماعة من الأفاغنة العامّة، بقيادة محمود الأفغاني علي العاصمة الصفوية اصفهان، فخلعوا الصفويين وبدّدوا دولتهم.

نعم ذكر في التاريخ بأنّ الأفغان عندما سيطروا علي عاصمة الدولة الصفوية (اصفهان) وخلعوا الملوك الصفويين، ارتكبوا فيها وفي قم وسائر المدن التي سيطروا عليها أبشع الجرائم، وأحدثوا فيها أشنع المجازر، فقد كانوا من السنّة المتعصّبين، ومن الجفاة القساة الذين لا يبالون بما يزهقون من أرواح الشيعة، ولذلك فانّهم لم يرحموا الناس العاديين فضلا عن رجال الدولة والسلاطين.

وممّا يذكر: انّ قائد المهاجمين محمود الأفغاني بعد ان احتلّ اصفهان، أمر بقتل كلّ الأفراد المحسوبين علي الاُسرة الصفوية خلال يوم واحد، حتّي قتل في هذه الواقعة أكثر من ثلاثين شخصاً من أفراد الاُسرة الحاكمة، وقذفت أجسادهم في حديقة القصر وبلا مواراة.

ثمّ انّ الأهالي وفي حملة جماهيرية عارمة، وإشتباك غاضب مسلّح، إستطاعوا أن يقتلوا محمود الأفغاني ويقضوا عليه، لكنّهم لم يستطيعوا القضاء علي المحتّلين بالكامل، ولذلك بقي المحتلّون يسيطرون علي المدينة بقيادة أحدهم خلفاً لمحمود، غير انّ هذا الذي خلّف محمود، أذن للأهالي أن يدفنوا أجساد قتلاهم وقتلي الاُسرة الحاكمة، فهبّ الناس لدفنهم.

وحيث انّ أغلب الملوك والرؤساء الصفويين، وكذلك من جاء بعدهم من ملوك القاجار، كانوا يدفنون موتاهم في جوار مراقد أهل البيت وكريمتهم السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، فقد اتّفقوا علي حمل الأجساد إلي قم.

وبالفعل، فقد جمعوا الأجساد ووضعوها في توابيت خاصّة ثمّ حملوها إلي قم، وقيل: حين تحرّكت قافلة الأجساد نحو قم شيّعها أهل اصفهان بالحزن والأسي، والبكاء

والعويل، ولمّا إقتربت القافلة من قم، وسمع أهلها باقتراب القافلة من مدينتهم المقدّسة، هبّوا لإستقبالها وآثار الحزن والبكاء بادية عليهم، وظاهرة في وجوههم، ثمّ دفنت الأجساد في جوار الحرم الشريف، والروضة المباركة.

قم ملتقي الجيوش

لقد لحقت قم المقدّسة خسائر فادحة من المحتلّين الأفغان إثر هجومهم علي ايران، وإسقاطهم عاصمة الحكومة الصفوية وإستيلائهم علي اصفهان، حيث كانت تعتبر قم وفق النظرة العسكرية الخطّ الأوّل في الدفاع عن العاصمة الصفوية اصفهان، وذلك لأنّ الأفغان لم يعبروا المدن المركزية للإستيلاء علي اصفهان، بل زحفوا إليها من شرق ايران وجنوبها.

هذا مضافاً إلي الخطر الذي كان يهدّد الأفغان علي الدوام وهو: الشاه طهماسب الثاني بن السلطان حسين الصفوي، الذي كان قد التفّ حوله طائفة من اُسرة السلالة الصفوية، وعاضدوه للإنقضاض علي المحتلّين، وذلك من مناطق قزوين وطهران والري، فكانت مدينة قم ملتقي لجيوش الأفغان والشاه طهماسب، ولهذا جعلها الأفغان معسكر جنودهم وخطّهم الأمامي في الذود عن اصفهان، وكان جنودهم قد ملأوا المدينة وحواليها، وأخذوا يسيئون معاملة الناس ويؤذونهم.

وممّا يذكر في هذا المجال هو: انّ الأفغان آنذاك، كانوا قد حوّلوا مدارس قم إلي مخازن غذائية لجنودهم، الذين لم يكفّوا عن إزعاج الناس وإيقاعهم في ضائقة إقتصادية.

وقيل: انّ أشرف الأفغاني حين إنهزم في دامغان علي يد نادر شاه ولّي هارباً إلي اصفهان، وحين مرّ بقم نهب المجوهرات والأشياء النفيسة التي كانت في مرقد السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام).

وخلاصة القول: انّ الأفغان قد جعلوا قم معسكراً في عصرهم وعاثوا الفساد فيها، حتّي جاء دور نادر شاه.

مع نادر شاه افشار

تخلّصت ايران من يد المحتلّين الأفغان وظلمهم، ووقعت في قبضة نادر شاه وسيطرته، فانّه هو الآخر أخذ يذيق الناس شتّي أنواع الظلم حتّي كَتَبَ التاريخ عن ظلمه قائلا: لقد تضرّرت قم إبّان حكومة نادر شاه افشار، الذي عامل أهلها بمنتهي القسوة، حيث قتل طائفة منهم، وسجن اُخري، بينما لاذ آخرون بالفرار إثر فجائعه التي إرتكبها في حقّهم.

ويمكن الإشارة إلي واحدة من

حوادث عهد نادر شاه في قم وهي: الحادثة التي اتّفقت مع قيام القمّيين علي أحد ولاته، وهو: «إبراهيم شاه» فقد كان هناك صراع حول السلطة بين ولاته، ممّا دعي أهل قم إلي الثورة علي إبراهيم شاه المذكور، الذي كان يدّعي الخلافة لنفسه، وذلك بقيادة أحد سلالة الصفويين ويدعي: «السيّد محمّد المتولّي» فدكّوا حصون إبراهيم شاه، وفرّقوا جيشه، حتّي تمكّنوا أخيراً من قتله والقضاء عليه.

قم وحكومة القاجاريين

لقد مرّت قم بمشاكل كبيرة، وصعوبات عظيمة، جرّاء الصراع الذي كان ينشب بين الاُسرة الزندية والقاجارية للسيطرة علي ايران، فعلي أثر إحدي المعارك التي نشبت عام الف ومائتين وثمانية هجرية أصبحت قم تحت سيطرة محمّد خان القاجاري، وهو أوّل تلك السلالة المعروفة: بالقاجارية، وممّا يذكر عنه: انّه ارتكب أبشع المجازر في حقّ أهل قم، حيث انّه أحرق البيوت، وقتل الناس، فاُصيبت هذه المدينة بالدمار الشامل من جديد.

وممّا قيل في كيفية استيلاء محمّد خان قاجار علي قم: هو انّه حين وصلت جيوش محمّد خان قاجار علي بوّابة قم أغلقها حاكمها الذي كان قد نصب عليها من قبل خان زند، ولم يتمكّن محمّد خان من إقتحامها حيث باءت كلّ محاولاته بالفشل، ولم يتمكّن كذلك من إجبار حاكمها علي الإستسلام.

وحين يئس محمّد خان قاجار من ذلك، اتّصل بالخفاء مع بوّاب إحدي بوّابات مدينة قم «بوّابة الري»، واتّفق معه علي أن يفتح له البوّابة ليلا، ويسمح لجنود القاجار، باقتحام المدينة.

وبالفعل فقد فتح ذلك البوّاب حسب الاتّفاق البوّابة بوجه الفرسان القاجار وأذن لهم بإقتحام المدينة، عندها أمر محمّد قاجار فرسانه أن يلفّوا أيدي خيلهم وأرجلها بخرقة، كي تتمّ عملية إقتحامهم المدينة بلا صوت ولا ضوضاء، وحتّي لا يسمع حرّاس المدينة بوقع حوافر الخيل، كلّ ذلك بغية

القبض علي حاكم قم، والقضاء علي المقاومة من طرف الجند أو الأهالي بسرعة وبأقلّ الخسائر الإنسانية أو العسكرية.

وهكذا تمكّن الفرسان القاجاريون حين حلّ الظلام أن يحاصروا مقرّ حاكم المدينة بصورة سرّية وبكلّ خفاء.

غير انّ حاكم المدينة الذي كان مشغولا بالصلاة حين حوصر مركز حكومته، طرق سمعه صوت غير طبيعي، فلم يلتفت إليه إثر إنشغاله بالصلاة، ولكن حين فرغ من صلاته جلب إنتباهه صهيل الخيل بأنّ هناك حادثة غير متوقّعة، فعلم انّ حياته مهدّدة بالخطر وانّ هناك مؤامرة مدبّرة ضدّه، فهرب خفية من قبضة الأعداء متّخذاً من نفق له في بيته سبيلا للهرب.

فلم يكن من محمّد خان قاجار، الذي باءت كلّ مكائده وخططه في العثور علي حاكم قم بالفشل، إلاّ أن يفتك بالناس، ويسجن جماعة منهم، ثمّ أحرق ممتلكاتهم ومزارعهم، إنتقاماً وتشفّياً منهم، وتخويفاً وإرعاباً لهم.

نعم لقد روّعت مدينة قم من الهجوم الوحشي لمحمّد خان قاجار، الذي كان يتملّكه الخوف من القمّيين، وهذا ما دعاه إلي أن يصدّر أوامره بمنع التجوّل، ومعاقبة من يشاهده في طريقه كلّما أراد أن يزور حرم السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، وبمعاقبة كلّ من ينظر إليه من سطح منزله، أو نافذة داره أو غير ذلك، حتّي قيل: انّ إحدي النساء لم تكن عالمة بذلك، فرمقته من أعلي سطح دارها، فما كان من محمّد خان قاجار إلاّ أن أطلق سهمه علي رأسها فأرداها قتيلة.

سادن الروضة المعصومية ومحمّد خان قاجار

وممّا يذكر حول قصّة إستيلاء محمّد خان قاجار علي قم برواية اُخري هو: «انّ جعفر خان الزندي كان قد ولّي نجف خان علي قم، وكان نجف خان هو آخر الحكّام الزنديين عليها، وكانت مهمّته أن يوقف زحف محمّد خان قاجار، الذي حاصر قم قادماً إليها عن طريق زند

وساوة، وقد دام حصار المدينة سبعة عشر يوماً دون أن يستطيع الجيش الزاحف فتحها، وقد حدثت خلال هذه المدّة عدّة مجابهات بين محمّد خان قاجار وخان زند، أثبتت لمحمّد خان قاجار بأنّ مقاومته ستبوء أخيراً بالفشل الذريع، ولم يدعه أهل المدينة المتضامنين مع الحاكم الزندي من النفوذ إليها.

فعزم محمّد خان قاجار علي العودة حيث لم ير في محاصرة المدينة من جدوي، لكنّه أخيراً فكّر في الإلتواء والإحتيال، والنفوذ في المدينة عن طريق المخادعة والمراوغة، وعلي أثر ذلك إستطاع أن يقيم بينه وبين بعض قوّاد جيش خان زند، المسؤول عن حراسة بوّابة الري علاقات ودّية، وأن يقنعه بفتح تلك البوّابة ليلا بوجه الجيوش القاجارية.

وفعلا حصل ذلك، فقرّر نجف خان التعجيل بالهرب حيث ظنّ انّ أهالي المدينة اتّحدوا مع محمّد خان قاجار، ولهذا توجّه مع بعض أنصاره إلي بوّابة كاشان للهروب، ففوجيء بمائتي فارس قاجاري يمنعوه عن المغادرة، فما كان منه إلاّ أن دبّر خطّة حربية ليخدعهم، وينجو بنفسه منهم، وهي انّه عمد إلي ما يُلقي إليهم: بأنّ المدينة بيده، وانّه قد انتصر علي المهاجمين، فنادي أحد قادته بأعلي صوته قائلا: «اخبر جيشك بإغلاق بوّابة كاشان، فانّي اُريد أن لا اُبقي أحداً من جيش محمّد خان»، فتنحّي المحافظون القاجاريون جانباً عن البوّابة مخدوعين، فتمكّن نجف خان من الهرب بهذه الطريقة من دون أي تصادم أو مقاتلة.

وهكذا صفي الجو، وتعبّد الطريق، لدخول محمّد خان قاجار وجيشه المدينة، فبسط نفوذه علي أهالي المدينة المتعاونة مع الحاكم الزندي، وأصدر أوامره بقتل جميع الأهالي، إنتقاماً منهم لتضامنهم مع الزنديين، فتوسّط لديه سادن الروضة المعصومية (عليها السلام) مع طائفة من العلماء والزعماء القمّيين لإيقاف سفك الدماء، ورفع الظلم والجور عن الناس، إلاّ

انّه لم يجبهم إلي ذلك، وعندها التفت سادن الروضة إليه قائلا: «لقد عملنا بما يمليه علينا واجبنا الإسلامي، فاعمل بواجبك ان كنت مسلماً، وإلاّ فلدينا ما يصلح كلّ شيء» ثمّ إنصرفوا عنه غاضبين، فخشي محمّد خان قاجار من عواقب ردّ وساطتهم، فأعادهم وأجابهم لما طلبوه، وقبل منهم ما توسّطوا فيه.

نذر فتح علي شاه قاجار

أوصي محمّد خان قاجار أن يخلّفه بعد موته ابن أخيه: فتح علي خان قاجار، الذي واجه مخالفة شديدة بعد موت عمّه، حيث نهض أكثر من شخص يدّعي السلطنة، فنذر فتح علي شاه ان إستطاع أن يُرغم منافسيه ويسكتهم، أن يقوم بترميم روضة السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)ومرقدها الشريف، وأن يعيد عمران مدينة قم، وأن يولي أهلها عناية خاصّة، وهذا ما وقع في ما بعد.

ثمّ انّ الحكومة القاجارية لم تخلُ (كبقيّة الحكومات غير الإنتخابية) من مفاسد داخلية وخارجية، وانّ من أشهر مفاسد الدولة القاجارية هو: انّ ملوكها كانوا يبيعون مناصب الولايات والمحافظات للأثرياء من معارفهم، والمقتدرين من أقربائهم، حتّي بلغ انّ منصب ولاية واحدة كان يباع لأكثر من شخص في يوم واحد، وذلك لأنّه كان يخضع للمزايدة، فمن كان يدفع مالا أكثر كان يستلم المنصب لتلك المحافظة، وكان البائع المنصوب أوّلا يصدّر أوامره بالغاء منصبه والنصّ علي الآخر المشتري، وكان من يشتري منصب إحدي الولايات والمحافظات، يدفع كلّ سنة مبلغاً معيّناً لخزانة الملك المستقرّ في العاصمة، وكان في مقابل ذلك له أن يفعل ما يشاء.

هذا ولا يخفي ما كان لبيع المناصب من مفاسد لا تعدّ، وأضرار لا تحصي، ناهيك عن آثارها السلبية، وعواقبها الوخيمة السياسيّة والإجتماعية علي البلاد وأهلها، ونحن نشير إلي قصّة في هذا المجال لإراءة جانب من تلك المفاسد والأضرار، وهي كالتالي:

قيل: انّ منصب

ولاية اصفهان في زمان فتح علي شاه قاجار كان بيد شخص يدعي: «حاج محمّد حسين خان» وكان منصب محافظة قم بيد شخص يدعي: «الميرزا أبو القاسم» وكان بين هذين الشخصين خصام وعداوة، فعرض الحاج محمّد حسين خان مبلغاً عظيماً لفتح علي شاه مقابل أن يستلم منصب ولاية قم أيضاً، وله في المقابل أن يعامل حاكمها «الميرزا أبو القاسم» كيف ما شاء، فأجابه فتح علي شاه إلي ذلك، إلاّ أنّه اشترط عليه أن لا يقتله وله أن يفعل به غير ذلك ما يشاء! فوافق «الحاج محمّد حسين خان» علي الشرط المذكور، وأرسل من يستلم منصب ولاية قم، ويأتي إليه بحاكمها «الميرزا أبو القاسم» فلمّا أتي به إليه، لم يقتله إلاّ انّه أذاقه صنوف العقاب، وألوان العذاب!

قم تعيش الإزدهار من جديد

انّ الحكومة القاجارية رغم كلّ العيوب التي انطوت عليها، كانت حكومة شيعية تهتمّ بمظاهر التشيّع، والإلتزامات الشيعية فهم يحترمون المقدّسات الشيعية ويعتنون بها، حتّي انّ مدينة قم والصحن المطهّر وروضة السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) حظيت بإهتمام طائل من قبل هذه السلالة، ولعلّ ذلك كان يكمن في سببين:

الأوّل: انّه كان لسلاطين القاجار حظّ من الإعتقاد الإسلامي الشيعي، ومسحة من الفكر الديني الظاهري، وان كانوا يفتقرون فيها إلي النظرة الدينية الصحيحة.

الثاني: كون المجتمع الذي كانوا يحكمونه ذا طبيعة دينية، ولذلك رأوا بحسب الموازين السياسية لديمومة حكومتهم إضفاء ظاهرة الإعتقادات الدينية عليها، حتّي لا تكون هناك فجوة قائمة بين الدولة والرعية، وبالتالي يأمنوا من إعتراض العلماء الأعلام، ومراجع الدين العظام.

وعلي كلّ حال: فقد شهدت مدينة قم المقدّسة نوع إزدهار في ذلك العصر، إذ كما أشرنا سابقاً ان فتح علي شاه القاجاري حين تسلّم زمام الاُمور، وفي بنذره، وطلي القبّة الشريفة لمرقد السيّدة

فاطمة المعصومة (عليها السلام)بالذهب، وبني مدرسة دار الشفاء، وخصّص مبلغاً سنويّاً محترماً للحرم المطهّر، وهذا ما سلكه ناصر الدين شاه أيضاً تجاه حرم السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام).

وخلاصة القول: انّ الأجواء الدينية، والمحيط الإجتماعي الملتزم، الذي كان يسود البلد المقدّس، هو الذي أجبر الملوك القاجار وإن كانت مصالحهم السياسية تقتضي ذلك أيضاً وحملهم علي أن يهتّموا بقم، وأن يعتنوا بخدمة حرم السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام).

وفرة مياه قم وفيضاناتها

يوجد في قم نهر كبير كان إسمه قديماً: «انار بار» وهو يمرّ وسط المدينة المقدّسة فيجعلها قسمين، وينصّفها نصفين، وهو ينبع من زرد كوه بختياري ويصبّ في حوض سلطان، وذلك بعد أن يقطع مسيراً طويلا نسبيّاً، مارّاً بمدينة كلبايكان ومحلاّت، ويمتاز هذا النهر بإنخفاض منسوب مياهه في فصلي الصيف والخريف، بينما يرتفع منسوبه في فصلي الشتاء والربيع.

امّا فيضانه في الربيع فكان يخلّف حوادث مدمّرة، وخسائر فادحة بالنسبة للمدينة وإلي درجة كبيرة، بحيث انّ بعضها كان يغطّي نصف المدينة بالماء، ويحوّلها إلي خربة وأطلال، وهذا ما وقع سنة الف وأربع وأربعين هجرية، حيث حطّمت السيول نصف المدينة ناهيك عن الخسائر المعنوية التي شملت الأرواح والنفوس، ممّا دعي المؤرّخين أن يوردوها في كتبهم التاريخية تحت عنوان: «مياه قم تحيل المدينة خراباً». ثمّ تكرّرت هذه الحادثة في سنة الف وثلاثمائة وثلاث وخمسين هجرية أيضاً، إلاّ انّها سرعان ما اُعيد بناؤها وبناء مساكن الأهالي، بفضل جهود آية الله العظمي الشيخ عبدالكريم الحائري مؤسّس حوزة قم العلمية، الذي كان مرجع المسلمين آنذاك.

صورة من نهر قم الذي يعبر من وسط المدينة خلف حرم السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) وفي الصورة مظهر من منائر وقبّة المسجد الأعظم الذي بناه آية الله العظمي البروجردي إلي جنب الروضة

المعصومية المباركة والنهر في هذه الأيّام خال من الماء للجفاف الذي أصاب المنطقة من قلّة الأمطار

بعض مشاهير مدينة قم

انّ الأجواء الدينية السائدة منذ قدم التاريخ في مدينة قم، أدّت إلي بروز وإشتهار بعض الشخصيات التاريخية، علماً بأنّ هذه الشخصيات البارزة امّا انّها كانت قد نشأت وترعرعت في قم، أو انّها قد قطنت وسكنت في قم، ثمّ كان لها دوراً هامّاً في المجالات الدينية والثقافية، والسياسية والإجتماعية، ليس فقط في قم وايران، بل في المنطقة وكلّ العالم.

وإذا أردنا أن نتعرّض لتاريخ كلّ واحد منهم فعلينا أن نفرد لذلك كتاباً مستقلا، ولكنّا نكتفي هنا بالإشارة إلي من كان منهم علماً علي رأسه نار.

موسي المبرقع

يقول الشيخ الفاضل، والخبير الماهر الحسن بن محمّد بن الحسن القمّي صاحب كتاب «تاريخ قم» المعاصر للشيخ الصدوق (رحمه الله) في كتابه المذكور: «تاريخ قم» بعد ذكر السادات الحسنيين والسادات الحسينيين: إنّ أوّل من جاء من الكوفة إلي مدينة قم المقدّسة وسكن فيها من السادات الرضويين، والذي صار فيما بعد يعدّ أباً للسادة الرضوية هو: «موسي المبرقع» وهو أبو جعفر موسي، وابن الإمام الجواد (عليه السلام): محمّد بن علي بن موسي بن جعفر (عليهم السلام).

إنّه ورد إلي قم المقدّسة سنة مائتين وست وخمسين هجرية وكان بها حتّي وافاه الأجل وفارق الحياة سنة مائتين وست وتسعين هجرية، ودفن في منزله الشخصي، حيث مرقده الآن الواقع في مقبرة چهل اختران المعروفة، ودفن إلي جواره بعد ذلك: محمّد بن موسي المبرقع، وزينب بنت موسي المبرقع، وكذلك اُمّ كلثوم، وفاطمة، واُمّ سلمة، وبريهة، وأحمد بن محمّد بن أحمد بن موسي المبرقع، وغيرهم.

لقد كان السيّد المبرقع من السادة الأجلاّء، ولقّب بلقب: «المبرقع» لأنّه كما قيل: كان صبيح الوجه، جميل المحيّا، فكان إذا خرج ألقي علي وجهه البرقع، ولذلك عرف بالمبرقع، وقد ألّف المحدّث الكبير الشيخ النوري (رحمه

الله)فيه كرّاساً مستقلا ورسالة مختصرة باسم: «البدر المشعشع في أحوال ذرّية موسي المبرقع» وتكلّم فيه عن حياة هذا السيّد الجليل، وأثبت فيه جلالته ووثاقته، وكفاءته وأمانته، وإنّه وكلاًّ من ذرّيته الأجلاّء كان مورداً لإحترام ولاة قم وعمّالها وخاصّة والي قم وعاملها: «أبو مسلم محمّد بن بحر الأصبهاني» حيث كان معاصراً لحفيده أبي علي محمّد الأعرج، فكان محلا لإجلاله وإعظامه، حيث كان يقوم بزيارته وتفقّده كلّ جمعة في ضمن زيارته لرؤساء قم الدينيين، ويقول في حقّه: إنّه كآبائه الطاهرين والأئمّة المعصومين، في الطهارة والقداسة، وكان يراه جديراً بالإمامة والخلافة.

وكان المبرقع وكذلك ذرّيته من بعده رؤساء الطالبيين ونقباؤهم في مدينة قم المقدّسة، وكان في يده ويد أولاده الأوقاف التي وقّفها الإمام الجواد (عليه السلام)في قم وكانت كثيرة ومن جملتها عشر قري وقّفها الإمام الجواد (عليه السلام) علي البنات العازبات من الذرّية الطاهرة وذلك بأمر منه (عليه السلام) وتوليته له، وبإمضاء من الإمام الهادي (عليه السلام) وإقرار له عليها، وكانوا ينفقون منها بسخاء لأجل مصالح الإسلام، والمسلمين، وخاصّة السادة منهم، وبالأخصّ لدعم المذهب الحقّ: مذهب أهل بيت رسول الله (صلي الله عليه وآله) وحفظه، وتقويته وإنتشاره.

المظهر الخارجي لمرقد السيّد موسي المبرقع ابن الإمام الجواد (عليه السلام) ويشتمل علي الصحن الشريف وقبّته المنيرة ويقع في محلّة چهل اختران

حديث العسل بالزعفران

لقد كان في آل المبرقع الرواة والمحدّثون أيضاً، ومنهم العالم الجليل، عبيدالله بن موسي ابن أحمد بن محمّد بن أحمد بن موسي المبرقع بن محمّد الجواد (عليه السلام) بن علي الرضا (عليه السلام) بن موسي (عليه السلام)حيث روي معنعناً عمّن رأي إبنة أبي الأسود الدؤلي صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام) وبين يدي أبيها خبيص (عسل بزعفران) فقالت: ياأبة اطعمني.

فقال: افتحي فاك.

قال:

ففتحت، فوضع فيه مثل اللوزة، ثمّ قال لها: عليك بالتمر فهو أنفع وأشبع.

فقالت: هذا أنقع وأنجع.

قال: هذا الطعام بعث به إلينا معاوية يخدعنا به عن حبّ علي بن أبي طالب (عليه السلام).

فقالت: قبّحه الله يخدعنا عن السيّد المطهّر، بالشهد المزعفر، تبّاً لمرسله وآكله، ثمّ عالجت نفسها وقاءت ما أكلت منه، وأنشأت تقول باكية:

ابِالشهد المزعفر يابن هند***نبيع إليك إسلاماً ودينا

فلا والله ليس يكون هذا***ومولانا أمير المؤمنينا

يقول أبو الفتوح الرازي في تفسيره: وكان عمر هذه البنت يتراوح بين الخامسة والسادسة.

نعم، هكذا حورب أمير المؤمنين (عليه السلام) وشيعته، وبشتّي الوسائل، وبكلّ الأساليب، حتّي يومنا هذا، وممّا يدلّ عليه: إنّه لا يوجد لدينا اليوم قناة فضائية دينية خاصّة بأهل البيت (عليهم السلام)، كي تختصّ ببثّ فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)ومناقبه، وفضائل أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) من ذرّيته: ذرّية رسول الله (صلي الله عليه وآله)ومناقبهم، وبثّ كلماتهم وأحاديثهم، وإذا وجدت هناك قناة دينية فإنّها لا تري نفسها ملزمة بذلك، وحتّي أنّها لا تبثّ الأذان رأساً، لأنّ في الأذان الشهادة الثالثة، وهي فضيلة لأمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) من ولده، وهذا جفاء كبير في حقّ رسول الله (صلي الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)ينبغي الإلتفات إليه، وتداركه.

زكريا بن آدم القمّي

ومن مشاهير قم وعلمائها زكريا بن آدم القمّي، وكان مثالا في الورع والتقوي، والعلم والفضيلة، وكان من أصحاب الإمامين الهمامين: الإمام علي ابن موسي الرضا (عليه السلام)، والإمام محمّد بن علي الجواد (عليه السلام)، ومورد إعتمادهما في مدينة قم، وراوياً لأحاديثهما فيها، ولذلك عندما سأل أحد أهالي قم من الإمام الرضا (عليه السلام) عمّن يأخذ معالم دينه، وهو لا يستطيع لبعد المسافة أن يراجع الإمام (عليه السلام) فيها،

دلّه الإمام (عليه السلام) عليه وقال: «عليك بزكريا بن آدم فإنّه المأمون علي الدين والدنيا».

وفي إحدي السنين كان زكريا بن آدم في المدينة المنوّرة، فجاء موسم الحجّ، فصحبه الإمام الرضا (عليه السلام) معه إلي الحجّ، وجعله زميلا له في محمله طول الطريق ذهاباً وإيّاباً.

وممّا يذكر في أحواله: أنّه رأي يوماً وقد خرج في الصباح المبكّر من بيته، إنساناً أفلتت منه دابّته، فحاول أخذها وإرجاعها إلي مأمنها عبر الإحتيال عليها، وذلك بأن جمع أطراف ثوبه وأمسك عليها علي هيئة من يحمل في ثوبه شيئاً، وهو يشبّه للدابّة بأنّ في ثوبه علفاً لها، ولم يكن في الواقع في ثوبه شيء من علف وغيره، فتأثّر زكريا من رؤية هذا المنظر، وتألّم من وجود إنسان في قم المقدّسة ينوي الإحتيال علي دابّته، وفكّر في الرحيل عن قم، ورأي إنّ البقاء في بلد يكون أحد أهاليها محتالا ولو بهذا القدر، وعلي حيوان، لا خير فيه، فأخبر الإمام الرضا (عليه السلام) عن فكره وعن عزمه علي الخروج من قم من بين أهله ومعارفه، لكثرة السفهاء وأهل المعاصي فيها، فمنعه الإمام (عليه السلام) من الخروج عن قم وقال له: «إنّ الله يدفع بك البلاء عن أهل قم، كما يدفع البلاء عن أهل بغداد بقبر موسي بن جعفر (عليهما السلام)».

فبقي زكريا بن آدم في قم حتّي وافاه الأجل فيها، ودفن حيث مرقده الآن في مقبرة شيخان، بقرب من مرقد الميرزا القمّي وهو مزار يقصده الوافدون. وقد ورد من الإمام الرضا (عليه السلام) بعد وفاة زكريا رسالة بتأبينه، والترحّم عليه، والدعاء له بالرحمة يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً، والثناء علي تقواه وورعه، وعلي إستقامته علي الحقّ، وأداء أماناته العقيدية والثقافية إلي أهلها،

وعدم تبديله وتغييره لما فرض الله عليه من واجبات وأحكام.

مقبرة شيخان ويظهر فيها علي اليمين مرقد زكريا بن آدم وعلي اليسار مرقد الميرزا القمّي وهو بقرب الروضة المباركة للسيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)

أحمد بن إسحاق القمّي

ومن مشاهير قم ومحدّثيها: أحمد بن إسحاق القمّي، وكان من أصحاب الإمام الجواد (عليه السلام)، والإمام الهادي (عليه السلام)، ومن خواصّ الإمام العسكري (عليه السلام)وكان يعرف باسم: «شيخ القمّيين».

إنّه كان وكيلا عنهم (عليهم السلام) في قم، وكان يحمل إلي سامراء ما يجتمع لديه من زكوات وأخماس، وأسئلة شرعية وعقيدية، ويوصلها إليهم (عليهم السلام)، ويأخذ الأجوبة والمدارك منهم (عليهم السلام)ويؤدّيها إلي أصحابها في قم.

لا تطلب أثراً بعد عين

لقد كان أحمد بن إسحاق القمّي، من اُولئك القلائل الذين حظوا برؤية الإمام المهدي (عليه السلام) وتشرّفوا بزيارته وهو في سنينه الاُولي من عمره بعد ولادته (عليه السلام) وفي ذلك قال كما في كمال الدين للشيخ الصدوق : دخلت علي أبي محمّد الحسن بن علي (عليه السلام) وأنا اُريد أن أسأله عن الخلف (الإمام والوصي) من بعده، فقال لي (عليه السلام) مبتدئاً: ياأحمد بن إسحاق إنّ الله تبارك وتعالي لم يخلّ الأرض منذ خلق آدم (عليه السلام)، ولا يخلّيها إلي أن تقوم الساعة، من حجّة لله علي خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزّل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض.

قال: فقلت له: يابن رسول الله فمن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهض (عليه السلام)مسرعاً فدخل البيت، ثمّ خرج وعلي عاتقه غلام كأنّ وجهه القمر ليلة البدر، من أبناء الثلاث سنين، فقال: ياأحمد بن إسحاق لولا كرامتك علي الله عزّوجلّ وعلي حججه، ما عرضت عليك إبني هذا، إنّه سَميّ رسول الله (صلي الله عليه وآله)، وكنيّه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت جوراً وظلماً، ياأحمد بن إسحاق: مثله في هذه الاُمّة مثل الخضر (عليه السلام)، ومثله مثل ذي القرنين، والله ليغيبنّ غيبة لا ينجو فيها من الهلكة إلاّ من ثبّته الله عزّوجلّ علي

القول بإمامته، ووفّقه فيها للدعاء بتعجيل فرجه.

قال: فقلت له: يامولاي فهل من علامة يطمئن إليها قلبي؟ فنطق الغلام (عليه السلام) بلسان عربي فصيح فقال: أنا بقيّة الله في أرضه، والمنتقم من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين ياأحمد بن إسحاق.

فقال أحمد بن إسحاق: فخرجت مسروراً فرحاً، فلمّا كان من الغد عدت إليه فقلت له: يابن رسول الله لقد عظم سروري بما مننت به عليّ، فما السنّة الجارية فيه من الخضر وذي القرنين؟

فقال: طول الغيبة ياأحمد.

قلت: يابن رسول الله وإنّ غيبته لتطول؟

قال: إي وربّي حتّي يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به، ولا يبقي إلاّ من أخذ الله عزّوجلّ عهده لولايتنا، وكتب في قلبه الإيمان وأيّده بروح منه، ياأحمد بن إسحاق! هذا أمر من أمر الله، وسرّ من سرّ الله، وغيب من غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين، تكن معنا غداً في علّيين.

(علي بن إبراهيم القمّي)

ومن مشاهير قم ومفسّريها: علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي، كان من أجلّة الرواة ونقلة أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، وكان معاصراً للإمام العسكري الحسن بن علي (عليه السلام)، وهو اُستاذ صاحب الكافي الشريف، شيخ المحدّثين محمّد بن يعقوب الكليني، الذي أمر أحد حكّام بغداد بنبش قبره فرآه غضّاً طريّاً، فقد قيل: إنّ هذا الحاكم لمّا رأي إقبال الناس علي زيارة الإمام الكاظم (عليه السلام) حمله النصب علي أن يأمر بحفر القبر الشريف وقال: إن كان كما يزعمون من فضله فهو موجود في قبره، وإلاّ منعنا الناس عنه.

فقيل له: إنّ هاهنا بقرب الجسر رجلا من علماء الشيعة المشهورين، ومن أقطابهم المعروفين، واسمه: محمّد بن يعقوب الكليني، يكفيك الإعتبار بقبره، فأمر بحفره ونبشه، فوجده بهيئته كأنّه دفن من ساعته، فأمر بتعظيمه،

وبني قبّة عظيمة عليه، فصار مزاره مشهوراً.

أجل إنّ علي بن إبراهيم القمّي هو اُستاذ شيخ الفقهاء والمحدّثين: الكليني، وكان الكليني أعلي الله مقامه كامل الوثوق به، وعظيم الإعتماد عليه، ممّا يدلّ علي جلالته ووثاقته، وكان له تصنيفات كثيرة، وتأليفات قيّمة، أشهرها تفسيره المعروف باسم: «تفسير علي بن إبراهيم القمّي» وقد اعتمد فيه علي الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير الآيات الكريمة للقرآن الحكيم، وطبع أخيراً طبعة أنيقة في مجلّدين.

لقد وافته المنيّة في قم، فجهّز ودفن في المقبرة الكبيرة بقم، قريباً من شيخان، وعلي كثب من مرقد محمّد بن قولويه القمّي، وله علي مرقده قبّة منيفة يقصدها الوافدون للزيارة من كلّ مكان.

ابن قولويه: أبو القاسم القمّي

ثمّ إنّ من مشاهير قم وأعلامها أيضاً: الشيخ أبو القاسم القمّي: جعفر بن محمّد بن جعفر بن موسي بن قولويه اُستاذ الشيخ المفيد، وصاحب كتاب: «كامل الزيارات» وهو قمّي المولد، بغدادي المسكن، كاظمي الوفاة والمدفن، لقد توفّي بها سنة ثلاثمائة وتسع وستّين هجرية، ودفن عند رجلي الإمامين الكاظمين (عليهما السلام) في روضتهما المباركة، وإلي جنبه قبر تلميذه الشيخ المفيد، وقبر مادح أهل البيت وشاعرهم الحسين بن الحجّاج.

ومن جلالة قدره، وعظيم منزلته وتضلّعه في الفقه قيل في حقّه: إنّه من ثقات أصحابنا وأجلاّئهم في الحديث والفقه، وقد روي عن أبيه() وعن أخيه، لقد قرأ الفقه ومنه حمل، وكلّما يوصف به الناس من جميل وفقه، فهو فوقه، له كتب كثيرة، وتأليفات ثمينة، مثل كتاب: مداواة الحسد، تاريخ الشهور والحوادث، اليوم والليلة، القضاء، النوادر، النساء، الأحكام، وغيرها، ولعلّ أهمّها وأشهرها هو: كتاب كامل الزيارات المعروف.

رسالة ابن قولويه إلي الإمام المهدي (عليه السلام)

ومن طريف ما يذكر عنه: إنّه قبل وفاته بثلاثين عاماً، يعني: في سنة ثلاثمائة وتسع وثلاثين هجرية، توجّه لزيارة بيت الله الحرام، وذلك بأمل اللقاء بالإمام المهدي المنتظر، ورجاء التشرّف بزيارته (عليه السلام)، إذ في تلك السنة كان من المقرّر إرجاع الحجر الأسود الذي صادره القرامطة ونقلوه إلي هجر مدّة أكثر من عشرين عاماً إلي مكّة، حتّي ينصبونه في مكانه من البيت الحرام.

ثمّ إنّ من قداسة الحجر الأسود ودليل طهارته، أنّه لا يستقرّ في مكانه إلاّ إذا نصبه فيه إنسان معصوم، مؤيّد من عند الله، ففي الجاهلية عندما جرف السيل الكعبة، وأزال الحجر الأسود عن مكانه، كان الذي نصب الحجر في مكانه من الكعبة هو: النبي الكريم محمّد بن عبدالله (صلي الله عليه وآله) وذلك في قصّة معروفة في التاريخ، وفي هذه المرّة

لم يكن المعصوم علي وجه الأرض سوي الإمام المهدي (عليه السلام)، فإنّه هو الذي سوف ينصبه بيده وبأمل لقاء الإمام المهدي (عليه السلام) الذي سوف يتعرّف عليه من عملية نصبه الحجر الأسود في مكانه، توجّه الشيخ أبو القاسم القمّي المعروف بابن قولويه إلي الحجّ.

شدّ الشيخ رحاله وواصل سفره نحو بيت الله الحرام، وكلّه رجاء وأمل، لكن خاب أمله وإنقطع رجاءه عندما وصل إلي بغداد، حيث إنّه تمرّض فيها، ولم يتمكّن من مواصلة سفره، فإستناب أحد ثقاته، وأرسله إلي مكّة المكرّمة للحجّ، وبعث معه رسالة مختومة، وأمره أن يسلّمها إلي من ينصب الحجر الأسود في مكانه، وكان قد سأل في رسالته عن مدّة عمره وهل إنّه سيعافي من مرضه أم لا؟

توجّه النائب إلي مكّة المكرّمة، وبقي فيها حتّي اليوم الموعود، الذي كان قد تقرّر نصب الحجر الأسود فيه، وكان يوماً مزدحماً بالناس، فقد إجتمعت الجماهير الكثيرة في المسجد الحرام لمشاهدة عملية نصب الحجر، يقول النائب: جئت إلي خدمة الكعبة المشرّفة وقدّمت لهم شيئاً من المال هدية لهم، وأردت منهم أن يحجزوا لي مكاناً قريباً عند الركن، ففعلوا ذلك، ووقفت قريباً من الركن وأشرفت علي عملية نصب الحجر، فرأيت عدّة افراد حاولوا نصب الحجر في مكانه، غير إنّ الحجر لم يستقرّ في موضعه، وإنّما تزلزل عنه وإضطرب حتّي وقع علي الأرض، عندها جاء رجل أسمر اللون، جميل الوجه، حسن السمت، وأخذ الحجر الأسود ووضعه في مكانه من البيت، فاستقرّ الحجر في موضعه إستقراراً تامّاً، دونما أي تزلزل وإضطراب، عندها تصارخ الناس فرحاً وهتفوا لله شاكرين.

يقول النائب: عرفت من إستقرار الحجر الأسود في مكانه، إنّ الذي نصبه هو الإمام المهدي (عليه السلام)، فلحقته من خلفه بعد أن غاص

في الجماهير المزدحمة من الناس، فلم أصل إليه حتّي إذا بلغ مكاناً خالياً من الزائرين وقف ثمّ التفت إليّ وقال: هات ما معك، فسلّمته الرسالة، فأخذها وقال لي دون أن يفتحها ويطّلع علي ما فيها: قل لصاحب الرسالة: إنّه لا خوف عليك من مرضك، فإنّك ستعافي وتعيش معافاً ثلاثين سنة.

يقول النائب: بسماعي لكلامه السديد، وصوته العذب الجميل، لم أستطع أن أتمالك نفسي حتّي أجهشت بالبكاء فرحاً وشوقاً، كما لم أستطع أن أتكلّم بشيء، ولا أن أتحرّك من مكاني، حتّي غاب عن نظري، عندها رجعت من الحجّ، وأخبرت الشيخ ابن قولويه بما قاله (عليه السلام)، وكان بالفعل كما قال (عليه السلام).

سعيد بن هبة الله الراوندي

ومن مشاهير قم وفقهائها: سعيد بن هبة الله بن الحسن، المعروف بالقطب الراوندي، وكان من اُسرة علمية معروفة بالعلم والفقه، أباً عن جدّ، وله أولاد ثلاثة كلّهم من العلماء الأجلاّء، وله تلاميذ كثيرون إذ كان هو اُستاذاً بارعاً، وشيخاً متضلّعاً، ومن جملة تلامذته: ابن شهر آشوب صاحب كتاب: «المناقب» المعروف، كما أنّ له شيوخاً أجلاّء، تتلمّذ عليهم وتلقّي الروايات منهم، أحدهم: السيّد أبو الفتح عبدالواحد الآمدي صاحب الكتاب المعروف: «غرر الحكم» الجامع للكلمات القصار المروية عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)ومنهم: والد الخواجه نصير الدين الطوسي، صاحب رصد مراغة المعروف، ومنهم: الشيخ أبو علي الطبرسي صاحب التفسير المشهور: مجمع البيان، وغيرهم.

له مؤلّفات كثيرة، وتصانيف منيفة وثمينة في أبواب شتّي وفي مجالات متنوعة، في الفقه والاُصول، والحديث والتفسير، وفي تناقضات الفلاسفة وتهافتهم، وفي تفسير نهج البلاغة، وغير ذلك، ولعلّ من أشهر كتبه كتاب: الخرائج والجرائح، وكذلك كتاب: الدعوات، المعروف باسم: دعوات الراوندي، ثمّ إنّ ممّا جاء في كتاب دعواته نقلا عن الإمام زين العابدين (عليه السلام)هو

الدعاء التالي:

قال: ضمّني والدي إلي صدري يوم قتل والدماء تغلي وهو يقول: يابني احفظ عنّي دعاء علّمتنيه فاطمة (عليها السلام)، وعلّمها رسول الله (صلي الله عليه وآله) وعلّمه جبرائيل (عليه السلام) في الحاجة والهمّ، والغمّ، والنازلة إذا نزلت، والأمر العظيم الفادح، قال ادع: «بحقّ ياسين والقرآن الحكيم، وبحقّ طه والقرآن العظيم، يامن يقدر علي حوائج السائلين، يامن يعلم ما في الضمير، يامنفّس عن المكروبين، يامفرّج عن المغمومين، ياراحم الشيخ الكبير، يارازق الطفل الصغير، يامن لا يحتاج إلي التفسير، صلّ علي محمّد وآل محمّد، وافعل بي كذا وكذا».

وعن الدعوات أيضاً: «إنّ الله تعالي قال لموسي (عليه السلام): هل عملت لي عملا قطّ؟

قال: صلّيت لك وصمت وتصدّقت وذكرت لك.

قال الله تبارك وتعالي: أمّا الصلاة فلك برهان، والصوم جنّة، والصدقة ظلّ، والذكر نور، فأي عمل عملت لي؟

قال موسي: دلّني علي العمل الذي هو لك.

قال: ياموسي هل واليت لي وليّاً؟ وهل عاديت لي عدوّاً قط؟ فعلم موسي إنّ أفضل الأعمال: الحبّ في الله، والبغض في الله» وإليه أشار الإمام الرضا (عليه السلام) بمكتوبه: «كن محبّاً لآل محمّد وإن كنت فاسقاً، ومحبّاً لمحبّيهم وإن كانوا فاسقين».

لقد وافاه الأجل حسب التاريخ الذي نقش علي مرقده في سنة خمسمائة وثمان وأربعين هجرية في قم المقدّسة، ودفن في الصحن الكبير من روضة السيّدة فاطمة المعصومة، حيث مرقده الآن، وهو مزار للوافدين، وملاذ لأصحاب الحوائج.

قم والخواجه نصير الدين الطوسي

انّ الخواجه نصير الدين الطوسي، الذي يعدّ من أكابر علماء العالم الإسلامي، والذي تفتخر به المعمورة، وتتباهي به البشرية، فضلا عن قم وايران هو قمّي المولد طوسي المنشأ.

لقد كان الخواجه الطوسي رياضياً بارعاً، وفقيهاً متبحّراً، وعالماً مجاهداً، وفلكيّاً بارزاً، وحكيماً مقتدراً، وسياسيّاً فذّاً، وبصورة عامّة كان ملمّاً بجميع علوم

زمانه حتّي اُطلق عليه «اُستاذ البشر».

لقد ولد الخواجه الطوسي، في اليوم الخامس عشر من شهر جمادي الثانية سنة خمسمائة وإحدي وتسعين هجرية، في ضاحية من ضواحي قم تدعي: «جهرود» ثمّ درس في مدارسها، إلاّ انّها لم تكن لتشبع نهمه العلمي فطاف هنا وهناك، حتّي إستقرّ في طوس ونشأ فيها، وإشتهر باسمها فيما بعد.

وممّا يذكر في التاريخ: انّ الإسماعيلية كانت آنذاك تقيم أطراف طوس في قلاع محكمة، وكانت ذات قوّة سياسية وعسكرية معادية للخلافة، وحين إنتشر الصيت العلمي للخواجه في ايران، وعلم زعماء الإسماعيلية قيمته العلمية طلبوا منه أن يكون معهم حيث يقيمون، ليستضيئوا بنور علمه، فلبّي الخواجه طلبهم وأقام فيما بينهم.

وقد وقعت هذه القلاع أيّام زحف المغول بيد هولاكو خان المغولي، فنفذ الخواجه نصير الدين الطوسي بحكمته فيهم، وإستهواهم عن طريق علم النجوم، حيث كان ذو مهارة عالية في فنّه، فاستطاع أن يجعل قلوبهم مسخّرة له، وأن يُسجّل لوجوده في مؤسّساتهم أعظم الآثار والفوائد، والتي من أهمّها ما يلي:

أوّلا: إستطاع أن يعدّل سياسة المغول العداونية، وأن يحدّ من وحشيّتهم وبربريّتهم.

ثانياً: إستطاع تدريجياً أن يثقّفهم بالثقافة الإسلامية، والاُمور العقائدية، وأن يعرّفهم النظام الحقوقي والإجتماعي الموجود في الإسلام تمهيداً لإعتناقهم الإسلام.

ثالثاً: إستطاع أن يُقنع رؤوسهم بعدم إتلاف المكتبة الإسلامية العامرة، وأن يحفظها والمؤلّفات القيّمة التي كانت فيها من الإبادة والتلف.

رابعاً: كثيراً ما كان يشفع للعلماء والاُدباء، ويطفيء غضب المغول المستعر ضدّهم.

خدمات علميّة وثقافية

نعم، انّ الخواجه نصير الدين، لم يكن موفّقاً فقط في الحدّ من همجية المغول، وبربرية هولاكو خان كبير المغول، بل سعي رغم الصعوبات والمشاكل التي كانت تعصف به، في حفظ التراث العلمي، والكيان الإسلامي حتّي لا تندثر المفاهيم الإسلامية، ولا تنطفيء شعلة حضارته الوهّاجة، وحفاظاً علي

ذلك فقد أنشأ مرصد مراغة المعروف، واشتغل بالتدريس، وتتلمّذ علي يديه ما لا يحصي من طلاّب العلوم الدينية، واشتغل بالتأليف أيضاً، وألّف كتباً قيّمة وثمينة، ونحن نشير إلي بعض مؤلّفاته:

1 «تجريد الكلام، أو تجريد الإعتقاد» في إثبات عقائد الشيعة.

2 «تحرير اقليدس» وهو شرح وتهذيب لهندسة اقليدس اليوناني.

3 «تحرير مجسطي» وهو شرح وتهذيب للهيئة البطليموسية.

4 «شرح الإشارات» وهو شرح كتاب أبو علي سينا التنبيهات والإشارات في الفلسفة والحكمة.

5 «الأخلاق الناصرية» في الحكمة العملية والأخلاق.

6 «أساس الإقتباس» في المنطق.

7 «التذكرة النصيرية» في الهيئة.

8 «أوصاف الأشراف» في المعرفة والآداب.

9 «معيار الإشارة» في العروض والقافية.

10 ورسالة في صفات الجواهر وخواصّ الأحجار، وغير ذلك من المؤلّفات المفيدة والممتعة.

من تواضع الخواجه نصير الدين

وممّا يذكر في أحوال الخواجه نصير الدين الطوسي: انّه جنّ عليه وعلي أصحابه الليل في سفرة لهم وهم في الصحراء، فنزلوا بقرب طاحونة كانت في طريقهم بغية الإستراحة، ولم تمض إلاّ فترة قليلة من الليل حتّي أتاهم الطحّان قائلا: «سينزل المطر في هذه الليلة، وأري أن تستريحوا داخلا، فانّي اُريد أن أنام وأغلق باب الطاحونة».

وهنا لمّا سمع الخواجه نصير الدين الطوسي كلام الطحّان، رمق بطرفه نحو السماء المليئة بالنجوم وقال حيث لم ير ما يدلّ علي نزول المطر في السماء وهو خبير علم النجوم : «هذه الليلة لا ينزل المطر فيها، فامض حيث تريد ودعنا ننام».

إنصرف صاحب الطاحونة عنهم وتركهم في مكانهم، لكن لم يمض من الليل إلاّ نصفه حتّي أمطرت السماء مطراً شديداً مصحوباً بالبرق والرعد، فاضطرّ الخواجه نصير الدين وأصحابه إلي أن يطرقوا علي صاحب الطاحونة الباب ليأويهم من المطر، فنهض وفتحه لهم وآواهم.

عندها التفت الخواجه نصير الدين الطوسي إلي صاحب الطاحونة، الذي أخبره بنزول المطر من أوّل الليل، في

حين انّه لم ير في السماء أي أثر لنزول المطر، قائلا: من أين علمت بأنّ المطر سينزل في هذه الليلة؟

فأجاب: انّ لي كلباً ينام داخل الطاحونة ان نزل المطر وإلاّ يبقي خارجاً، وحين رأيته قد دخل هذه الليلة علمت بنزول المطر.

فظهرت علامات التعجّب علي قسمات وجه الخواجه وقال متواضعاً: «وا اسفاه علي ما أفنيت في هذا الطريق من العمر، وبالتالي لم أصل إلي ما وصل إليه هذا الحيوان النابح».

من حفر بئراً لأخيه وقع فيها

كان نظام العلماء في حكومة المغول شافعي المذهب، وكان من شدّة تعصّبه، وحميّة الجاهلية الراسخة في قلبه، يكنّ العداوة والبغضاء لشخص الخواجة الذي كان يعتنق مذهب الحقّ: مذهب أهل بيت رسول الله (صلي الله عليه وآله)، الذين أمر الله بولايتهم ومودّتهم، وجعل ذلك أجر رسالة رسوله الحبيب محمّد (صلي الله عليه وآله) ويفكّر دائماً في التخلّص منه، والقضاء عليه.

فاتّفق أن توفّيت والدة هولاكو خان في مدينة مراغة، فانتهز نظام العلماء الشافعي هذه الفرصة، للتخلّص من الخواجة والقضاء عليه، وانطلاقاً من هذا العزم وفي خطّة مدبّرة قال لهولاكو ما يلي:

«انّ كلّ من يموت ويدفن، يتعرّض في القبر لسؤال منكر ونكير ولعلّ اُمّك لا يمكنها الإجابة علي أسئلتهم. فعليك أن تدفن معها عالماً متبحّراً مثل الخواجة نصير الدين الطوسي، فانّه جيّد في إعانتها علي جوابهم، وترجمة ما خفي عليها من أسئلتهم».

فاستحسن هولاكو كلام نظام العلماء وشكره علي نصيحته، ثمّ أرسل إلي الخواجة نصير الدين وأعلمه بأنّه يريد دفنه مع والدته، ليعينها في جوابها علي أسئلة منكر ونكير.

وبمجرّد ان طرح هولاكو هذا الأمر علي الخواجة، عرف الخواجة بأنّ هناك بئراً قد حفرت له، ومؤامرة قد حيكت ضدّه، ولم ير نفعاً في نصيحة هولاكو وإقناعه بعدم الحاجة إلي معين في

القبر، لأنّ هولاكو كان قد إقتنع بلزوم معين يدفنه معها، ولذلك اضطرّ إلي أن يقول له وبكلّ حيطة: ان كان ولابدّ من ذلك فقدّم من طرح عليك هذه الفكرة ليكون معيناً لوالدتك في قبرها، وأخّرني لنفسك، فأعجب هولاكو ذلك، وأمر بدفن نظام العلماء مع والدته، وهكذا تحقّق قوله تعالي: (وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ)() كما وتحقّق الحديث الشريف القائل: «من حفر بئراً لأخيه وقع فيها».

علي بن بابويه القمّي

ومن مشاهير قم وأعلامها: هو الشيخ الأجل علي بن الحسين بن موسي ابن بابويه القمّي، وهو أحد كبار علماء الشيعة الإمامية في القرن الثالث والرابع الهجري، إبنه محمّد بن علي المعروف بلقب: «الشيخ الصدوق» وكلاهما مشهوران بكنية: (ابن بابويه) وسمّيا بالصدوقين لصدقهما في رواية الحديث، فاُطلق علي علي بن الحسين: الصدوق الأوّل، وعلي إبنه محمّد: الصدوق الثاني، وإشتهر الإبن بلقب: «الشيخ الصدوق».

وقيل: انّه كان للصدوق الأوّل مائتا مؤلّف. وقد أخذ علمه في قم وقام بالتدريس فيها، وكان يرتزق عن طريق التجارة، وفي عام ثلاثمائة وثمانية وعشرين هجرية التقي بالحسين بن روح (أحد النوّاب الأربعة للإمام المهدي عجّل الله تعالي فرجه الشريف) وقد توفّي بقم ودفن فيها في مقبرة خاصّة له قريبة من روضة السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) أي: في فرع واقع في بداية شارع چهار مردان.

وممّا يجدر ذكره هنا هو: انّ الصدوق الأوّل كتب رسالة لصاحب الزمان (عليه السلام) عن طريق أحد الوسائط، يلتمسه فيها الدعاء إلي الله تعالي في أن يرزقه ولداً مؤمناً تقيّاً، يخدم العلم والعلماء، والإنسان والإنسانية، فجاءه الجواب بعد ثلاثة أيّام وفيه البشارة بولدين مؤمنين بارّين، وكان كذلك حيث رزقه الله تعالي ولدين سويّين، شبّا علي العلم والتقوي، وخدما الدين والإنسانية، غير انّه إشتهر

أحدهما، وذلك لكثرة جدّه، وشدّة إجتهاده في نشر علوم أهل البيت (عليهم السلام) ورواية أحاديثهم الشريفة، وهو الشيخ الصدوق: محمّد بن علي.

فالشيخ الصدوق محمّد، هو بشارة الإمام صاحب الزمان (عليه السلام) إلي ابن بابويه علي بن الحسين.

قبّة علي بن بابويه القمّي المبنيّة علي مرقده الشريف في قم المقدّسة وقد

التُقطت هذه الصورة من سطح مسجد الإمام زين العابدين (عليه السلام) المجاور له

مفخرة القمّيين الشيخ الصدوق

ومن مشاهر قم وأعلامها أيضاً: هو الشيخ محمّد بن علي بن الحسين بن موسي بن بابويه القمّي، وكنيته: أبو جعفر، ولقبه: الصدوق، ويدعي بالشيخ الصدوق.

منزلته وجلالة قدره أكبر من أن تحتاج إلي بيان، فقد ولد كما مرّ قبل قليل ببركة دعاء الإمام صاحب العصر والزمان (عليه السلام)، وتوفّي بالري في عام ثلاثمائة وواحد وثمانين هجرية، ودفن هناك في مقبرة خاصّة به، ومرقده اليوم مشهور في الري باسم: (مشهد ابن بابويه) وهو مزار للشيعة.

وقد ذكروا: انّ له من المؤلّفات ثلاثمائة مجلّداً، غير انّه وللأسف الشديد فُقدت أكثرها علي أثر حرق المكتبات، وإبادة الكتب الإسلامية، ولم يصلنا منها إلاّ قليلا، مثل: علل الشرائع، ومعاني الأخبار، ومن لا يحضره الفقيه (وهو من الكتب الشيعية الأربعة)، والأمالي، والتوحيد، وعيون أخبار الرضا، والإعتقادات، وحقوق الاخوان، وصفات الشيعة، وكمال الدين وتمام النعمة، وغير ذلك.

وقد عُرف الشيخ الصدوق عند علماء الشيعة بعدّة ألقاب، منها: رئيس المحدّثين، وشيخ الإجازات، والصدوق المطلق وما أشبه ذلك.

عاصر الشيخ الصدوق دولة آل بويه، وحيث كان البويهيون شيعة يعتنقون المذهب الحقّ: مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وكان الشيخ الصدوق من علماء الشيعة، فقد وفّروا عليه الفرصة لنشر ثقافة أهل البيت (عليهم السلام)، وأطلقوا يده في ترويج تعاليم الدين الحنيف، وكان موفّقاً في هذا الطريق، فقد رحل إلي

الري مهاجراً عن قم تلبية لدعوة ركن الدولة الديلمي من أجل هذه المهمّة، كما انّه بغية نشر المذهب الحقّ: مذهب أهل البيت (عليهم السلام) سافر إلي نيشابور، وبغداد، والكوفة، وخراسان، وما وراء النهر، ويذكر انّه كان قد كتب كتابه المشهور: «من لا يحضره الفقيه» خلال هذه الأسفار في قرية، ايلاق، التابعة لبلخ.

ويذكر انّه كان للشيخ الصدوق علاقة وطيدة بالصاحب بن عبّاد وزير آل بويه، فقد كان ابن عبّاد أديباً بارعاً، وشاعراً مبدعاً، وكان أيضاً اُستاذاً للشيخ عبدالقاهر الجرجاني، ويبدو انّ ابن عبّاد هو الذي التمس من الشيخ الصدوق أن يؤلّف كتاب «عيون أخبار الرضا (عليه السلام)» فلبّي الشيخ الصدوق طلبه.

وممّا يذكر في حقّ الشيخ الصدوق بعد وفاته (رحمه الله): انّ فتح علي شاه كان قد عزم علي أن يعيد بناء مزار هذا العالم الجليل، وترميم مرقده، وحين أزاحوا التراب عن قبره فوجئوا بطراوة جسده، وسلامة كفنه، حتّي وكأنّه دفن توّاً.

الفيض الكاشاني القمّي

ومن مشاهير قم وأعلامها أيضاً: هو محمّد بن محسن الفيض الكاشاني ابن الملك مرتضي القمّي، وهو كلامي حكيم، وشاعر أديب، ومحدّث أمين، وفقيه مضطلع، ومفسّر كبير.

ولد في قم المقدّسة عام ألف وسبعة هجرية، ثمّ أصبح مرجعاً دينيّاً للشيعة، وكان لفضله يحبّه الجميع، وكان بسبب توجيهاته للشاه الصفوي وتوصياته إليه: أن أسّس الشاه الصفوي عبّاس الثاني المدرسة الفيضية في جوار روضة السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، ويعتقد البعض أنّ سبب تسمية المدرسة المذكورة بالفيضيّة ليس هو ذلك، بل لسكني الفيض الكاشاني وإلقائه درسه فيها، والمدرسة المذكورة هي اليوم من مدارس الحوزة العلمية المشهورة في قم، وقد إستمرّ بناؤها واتّساعها في العصور المتعاقبة.

ثمّ انّ الملاّ محسن فيض توجّه إلي اصفهان بدعوة من الشاه عبّاس الثاني، فحظي بمنصب

شيخ الإسلام، وأصبح إماماً للجماعة هناك، فكان الشاه عبّاس يصلّي خلفه ويقتدي به.

ثمّ انّه أسّس هناك تكية بقيت ولا تزال تعرف باسم: (تكية فيض) وبقي الفيض في اصفهان مرجعاً للشاه وللناس، حتّي إذا توفّي الشاه قصد كاشان وتفرّغ للتأليف والتدريس فيها، وبقي هناك في كاشان حتّي وافاه الأجل عام الف وواحد وتسعين هجرية، ودفن فيها، وقبره حتّي اليوم مزار للجميع.

وممّا يجدر ذكره هنا هو: انّ لقب الفيض للملاّ محسن أطلقه عليه أبو زوجته الفيلسوف المعروف الملاّ صدرا، حيث انّ الملاّ محسن كان من تلامذة الملاّ صدرا في الفلسفة، ثمّ تزوّج إبنته وأصبح صهراً له، كما انّ تلميذه وصهره الآخر المدفون في قم هو الملاّ عبدالرزاق اللاهيجي الذي لقبه ملاّ صدرا بالفيّاض.

ثمّ انّه ممّا لا يخفي علي المطّلع: انّ الملاّ محسن قد تدارك في آخر أيّامه ما تقدّم منه من دراسته للفلسفة، وتراجع عن مبانيها، وهجرها وتنحّي عنها، واعترف في إحدي كتبه بذلك، حيث أعلن فيه بوقوفه علي ما في الفلسفة من أخطاء وأوهام، لا يؤيّدها القرآن الحكيم ولا الروايات الشريفة، بل يستنكرها ويردع عنها حتّي العلم والعقل السليم، كالعقول العشرة، والواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد، وما أشبه ذلك، مصرّحاً في كتابه المذكور بأنّه أناب إلي الله سبحانه منها، ورجا منه تعالي العفو، ومن الناس بأن لا يسمّوه بالفيلسوف، لأنّ الفيلسوف يريد أن يعرف ماهيّة الأشياء بعقله، مع انّه هو عاجز عن معرفة ماهيّة عقله الذي في داخله، فكيف بماهيّة الأشياء الخارجة عنه؟

المحقّق القمّي صاحب القوانين

ومن أعلام قم ومشاهيرها أيضاً: هو الميرزا أبو القاسم بن محمّد الجيلاني.

ولد الميرزا في جابلق من منطقة علي جودرز، وكان والد الميرزا جيلانيّاً، إلاّ انّه صحب اُستاذه الذي كانت له مهمّة في

جابلق فولد له الميرزا هناك.

ويطلق علي الميرزا القمّي أيضاً «المحقّق القمّي» وقد تتلمّذ الميرزا القمّي علي يد اُستاذه الشهير: وحيد البهبهاني في العراق ثمّ عاد إلي ايران، وبعد أن طاف عدّة مدن وقري في ايران استقرّ به المطاف في قم المقدّسة، فاستعادت الحوزة العلمية بسببه رونقها بعد أن فقدتها إبّان حملات الأفغان، وكان ذلك في زمان فتح علي شاه المعروف.

ولذلك يعتبر الميرزا القمّي مجدّد الحوزة العلميّة في قم، ومعيد هيبتها وسؤددها، وقد خلّف كتباً قيّمة أشهرها وأهمّها كتاب: «قوانين الاُصول» ويكفي هذا الكتاب شهرة انّ مؤلّفه صار يعرف بعد تأليفه ونشره باسم: صاحب القوانين، وشهرة الكتاب تعني شهرة الكاتب.

من يوميات الميرزا القمّي

لقد حدثت للميرزا القمّي قبل إستقراره في مدينة قم واقعة ألّمته كثيراً. وذلك عندما كان الميرزا منهمكاً بالتعليم في قرية من نواحي جابلق، وكان في تلك القرية شخص أناني، يكنّ للميرزا العداوة والبغضاء، ويسعي للإستخفاف به وإخراجه من القرية.

وذات مرّة وبحضور من أهالي القرية وفي خطّة مدبّرة طلب من الميرزا أن يكتب لفظ «الحيّة»، فكتبها في ورقة، فأخذ الورقة ذلك الأناني ورسم عليها حيّة، ثمّ أري الحضّار الورقة وسألهم قائلا: أيّهما الحيّة ما رسمته أو ما كتبه الميرزا؟ فما كان من جهلهم إلاّ أن قالوا: الصحيح ما رسمت لا ما كتبه الميرزا، فحزن الميرزا من مغالطة هذا الرجل الأناني، وإثارة أهل القرية ضدّه، فرفع يده بالدعاء قائلا: «اللهمّ إليك أشكو ما نزل بي، فاجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً» ثمّ عزم الميرزا بعد ذلك علي ترك القرية والقدوم إلي اصفهان، ومنها انتقل إلي شيراز، ثمّ رجع إلي اصفهان تارةً اُخري.

وأخيراً استقرّ به المطاف في مدينة قم، فاشتهر هناك وتقاطر عليه التلاميذ، وأدرك الجميع فضله ومكانته العلميّة

الشامخة، واعترفوا به عالماً بارعاً، وفقيهاً مرجعاً، ذا مؤلّفات قيّمة، قلّ نظيرها، كقوانين الاُصول والغنائم وغير ذلك. وأصبح له علي أثر ما كان يتّصف به من علم وفضل، ويتحلّي به من زهد وتقوي، تأثيراً كبيراً في تقدّم الحوزة العلمية، وإزدياد عدد طلبة العلوم الدينية، وإنتشار الثقافة الإسلامية، إلي درجة انّ فتح علي شاه كان يسير في موكبه راجلا ليصلّي خلفه في المسجد الجامع في قم.

واستمرّ الميرزا القمّي في مرجعيته، حتّي وافاه الأجل في قم المقدّسة عام الف ومائتين وواحد وثلاثين هجرية، فشيّع تشييعاً مهيباً إشترك فيه جماهير قم المقدّسة جميعاً. ودفنوه في مقبرة معروفة تدعي: «الشيخان»، وأضحي مرقده مزاراً للخاصّ والعامّ، إلي هذا اليوم.

المظهر الخارجي لمرقد الميرزا القمّي في شيخان قرب حرم السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) في قم المقدّسة

الشيخ غلام رضا القمّي

ومن مشاهير قم وأعلامها: الشيخ غلام رضا بن الحاج رجب علي القمّي، وكان قد إشتهر باسم: «الحاج آخوند»، إنّه درس الدروس الحوزوية إلي مرحلة السطوح في قم، ثمّ تشرّف إلي العتبات المقدّسة في العراق ورابط في النجف الأشرف لتكميل دروسه الحوزوية، ومواصلة درس الخارج، وقد إشترك مدّة سنتين في درس الشيخ الأنصاري، ثمّ واصل درسه عند تلميذه المجاهد الميرزا محمّد حسن الشيرازي، صاحب قضية التنباك، حيث استمرّ يواصل درسه عنده وانتقل معه إلي سامراء، وبقي في سامراء سنتين يحضر درسه، ثمّ عاد إلي مسقط رأسه: قم فأدار بها مجلساً للوعظ والإرشاد، وحلقات بحث وتدريس، وصلاة جماعة وجمعة، حتّي وافاه الأجل في قم سنة الف وثلاثمائة وإثنتين وثلاثين للهجرة، ودفن حيث مرقده الآن في الصحن الكبير من روضة السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام).

له تأليفات فقهية، وتصنيفات اُصولية، وهي كما يلي:

صلاة المسافر، وكتاب القضاء، وإجتماع الأمر والنهي،

ومسألة الضدّ، وقلائد الفرائد.

الحاج ميرزا محمّد الأرباب القمّي

ومن مشاهير قم وخطبائها: الحاج ميرزا محمّد الأرباب القمّي، ولد في قم سنة الف ومائتين وثلاث وسبعين هجرية، ونشأ فيها حتّي إذا أتمّ المقدّمات وأكمل دروس السطح في الحوزة العلمية بقم غادرها نحو الحوزات العلمية في العراق، وتتلمّذ علي يدي الميرزا محمّد حسن الشيرازي صاحب قصّة التنباك، ثمّ من بعده تتلمّذ عند الميرزا حبيب الله الرشتي، والآخوند الخراساني صاحب الكفاية في النجف الأشرف، ثمّ عاد إلي قم واشتغل فيها بالتأليف والتحقيق، وبخطابة المبنر الحسيني، ومن كتبه المشهورة: الأربعين الحسينية، وهو كتاب مقتل مبسّط، قد تعرّض فيه لذكر فضائل الإمام الحسين (عليه السلام)ومناقبه، والأحاديث التي وردت فيه (عليه السلام)، وقد طبع الكتاب مرّتين.

ومن خصوصيات هذا العالم الكبير: إنّه عاضد الشيخ المؤسّس الشيخ عبدالكريم الحائري في تأسيس حوزته العلمية في قم، وخضع لزعامته الدينية، مع أنّه كان بشخصه عالم أيضاً، وأبدي لمقام الشيخ المؤسّس التواضع والتنازل الكبير، وكان لا يرقي المنبر إلاّ في المجلس الذي كان يعقده الشيخ المؤسّس في أيّام الفاطمية، وذلك في مسجد فوق الرأس من روضة السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام).

لقد وافته المنيّة في قم سنة الف وثلاثمائة وإحدي وأربعين هجرية، يعني: بعد مرور عام واحد علي وفود الشيخ المؤسّس إلي قم وتأسيس الحوزة العلمية المباركة ودفن حيث مرقده الآن في مقبرة شيخان.

الحاج الشيخ مهدي الحَكَمي القمّي

ومن مشاهير قم وأساتذتها: الحاج الشيخ مهدي الحَكَمي القمّي، ولد في قم سنة الف ومائتين وثمانين هجرية، ترعرع في قم ودرس المقدّمات فيها وأكمل السطح من دروس الحوزة في طهران، وهاجر إلي العراق سنة الف وثلاثمائة وعشرة، وتتلمّذ في سامراء عند الميرزا محمّد حسن الشيرازي صاحب واقعة التنباك المعروفة، ثمّ بعد وفاة الميرزا الشيرازي واصل دراسته الحوزوية والخارج عند السيّد محمّد

الفشاركي، ثمّ رحل من سامراء إلي النجف الأشرف، واستمرّ في دراسته عند الآخوند الخراساني صاحب الكفاية، والميرزا حسين الخليلي، وعاد إلي قم سنة الف وثلاثمائة وإثنتين وعشرين هجرية، فاستقبله أهالي قم، وأرادوا منه أن يصلّي جماعة في المسجد الجامع بقم، وأن يقوم بالقضاء بينهم، فلبّي طلبهم، واشتغل بإقامة الجماعة، وإدارة المجالس، والدروس والبحث، والتأليف والتصنيف.

وممّا إشتهر عنه: أنّه كان يعالج الذين اُصيبوا بلدغة العقرب، فإنّه كان يعطيهم دعاءاً، أو يُمرر يده علي موضع اللدغة، فيعافي المريض من ساعته، ويسكن ألم المصاب من فوره.

وممّا يذكر عنه أيضاً، إنّه عندما كان في سامراء، تعرّف في درس الميرزا محمّد حسن الشيرازي وكذلك في درس الفشاركي علي الشيخ المؤسّس: الشيخ عبدالكريم الحائري، وأصبحت له علاقة كبيرة، وصداقة قويّة معه، وكان هذا التعارف بينهما من العوامل التي ساعدت علي مجيء الشيخ المؤسّس إلي قم. وتأسيس حوزته العلمية فيها، فقد شجّع الشيخ الحكمي الناس علي إستقباله وكان هو في مقدّمتهم، حيث استقبل الشيخ المؤسّس وإستضافه في بيته، وعاضده وساعده في تأسيس صرح الحوزة العلمية المباركة.

لقد وافاه الأجل في بلدة محلاّت حيث كان في سفر له إليها أيّام العطلة الصيفية، وذلك في سنة الف وثلاثمائة وستّين هجرية، فحمل جثمانه الشريف إلي قم ودفن إلي جنب الشيخ المؤسّس الحائري في روضة السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام).

الشيخ المؤسّس

ومن أعلام قم ومشاهيرها أيضاً: هو الشيخ عبدالكريم، الحائري المنشأ، اليزدي المولد، القمّي المسكن، يدعي بالشيخ المؤسّس، لأنّ حوزة قم العلمية ركدت مدّة قرن كامل بعد وفاة الميرزا القمّي، ثمّ إزدهرت ثانية سنة الف وثلاثمائة وأربعين هجرية، بمجيء آية الله الحاج الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي، ولذلك عدّوه المؤسّس الجديد للحوزة العلمية في قم.

ولد الشيخ الحائري عام الف

ومائتين وست وسبعين هجرية، في قرية مهرجرد، إحدي توابع ميبُد من توابع يزد، وفي اُسرة دينية وعريقة، ثمّ بدأ فيها بدراسة العلوم الدينية، وبعد إتمامه المقدّمات هاجر إلي العراق ليواصل درسه في حوزاتها العلمية الشيعية، ثمّ قدم أراك ليدرّس في حوزتها تلبية لدعوة العالم النحرير الحاج السيّد إسماعيل العراقي، ثمّ طلب منه جمع من علماء قم أن يقيم في قم، ويعقد حلقات درسه فيها، فلبّي طلبهم وقدم إلي قم وأضفي علي حوزتها بهاءاً جليّاً، وحياة جديدة.

أضف إلي ذلك ما قدّمه من خدماته العمرانية، التي لا تقلّ أهمية عن إحيائه الحوزة العلميّة، إذ بترغيبه وجهوده قام فردان ثريّان من أهل قم ببناء مستشفي الفاطمية والسهامية، وقاما بتوسعة مدارس قم القديمة، وقد مرّ خبر إعمار الشيخ المؤسّس مدينة قم المقدّسة عام الف وثلاثمائة وثلاثة وخمسين هجرية، وذلك أثر تزاحم السيول التي ضربتها.

هذا وقد كان ورود الشيخ المؤسّس إلي قم المقدّسة، وإحيائه الحوزة العلمية وتصدّيه للمرجعية فيها، متزامناً مع حكومة البهلوي الأوّل: رضا خان، الذي كان في ذروة قدرته الإستبدادية الظالمة، ودكتاتوريته الغاشمة، الهادفة لتحطيم حصون الإيمان، وأسوار الدين، ونسف صرح الأخلاق والآداب.

لكن السياسة الحكيمة التي اتّبعها الشيخ المؤسّس في مقابلته، مكّنته من أن يحفظ بها الحوزة العلميّة، والمجالس الحسينية، من الأخطار التي كانت تتهدّدها، حيث كانت المؤسّسات الدينية والشعائر الحسينية، وكذلك الاُصول الثقافية الإسلامية، تتعرّض لهجمات شرسة آنذاك، ولولا حكمة الشيخ الموسّس في مواجهتها لاندرست تلك الحوزة، ولانطمست الثقافة الدينية تماماً.

نعم انّ الشيخ المؤسّس عبر حكمته العالية، لم يحفظ الحوزة العلمية من الإندراس فحسب، بل إستطاع أن يطوّرها تطويراً لائقاً مع شأنها، بحيث جعله يستحقّ أن يكون مجدّدها ومؤسّسها.

ثمّ انّ الشيخ المؤسّس بقي يواصل جهوده في حفظ

الدين وآثاره، وصيانة الحوزة العلمية ونتائجها، حتّي وافاه الأجل عام الف وثلاثمائة وخمسة وخمسين هجرية في قم المقدّسة، فدفن في مكان درسه من الروضة المباركة للسيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، الواقع في مسجد فوق الرأس، حيث مرقده الآن وهو مزار للجميع.

المحدّث القمّي

ومن أعلام قم ومشاهيرها أيضاً: هو الشيخ عبّاس القمّي صاحب كتاب مفاتيح الجنان، الذي إشتهر في الأوساط العلمية بلقب: المحدّث القمّي، ولد في قم سنة الف ومائتين وأربع وتسعين هجرية، ثمّ هاجر إلي النجف الأشرف سنة الف وثلاثمائة وست عشرة هجرية، وذلك بعد أن أنهي دراسته الإبتدائية في قم، ثمّ انّه بعد أن أكمل دراسته العالية في النجف وكربلاء، رجع إلي ايران وأقام في قم اثر وفاة اُستاذه الميرزا حسين النوري، ثمّ تجوّل في البلاد وجاور حرم الإمام الرضا (عليه السلام)، وألّف الفوائد الرضوية وهو كتاب جميل، ترجم فيه أحوال أعلام الشيعة وشخصيّاتهم.

ثمّ جاور بعد ذلك مكّة المكرّمة، ومدينة الرسول المنوّرة، وألّف فيهما أيضاً كتباً مفيدة، ثمّ جاور حرم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) واشتغل هناك بالتأليف، حتّي وافاه الأجل في اثنين وعشرين من شهر ذي الحجّة عام الف وثلاثمائة وتسعة وخمسين هجرية، ودفن بجوار اُستاذه الحاج الميرزا حسين النوري في الصحن المبارك من روضة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في النجف الأشرف.

مؤلّفات المحدّث القمّي القيّمة هي: مفاتيح الجنان، سفينة البحار، الفوائد الرضوية، منتهي الآمال، تحفة الأحباب، تتمّة المنتهي، الكني والألقاب، كحل البصر، بيت الأحزان، وغير ذلك ممّا يربو علي مائة كتاب وتصنيف.

السيّد البروجردي

ومن أعلام قم ومشاهيرها أيضاً هو: آية الله السيّد حسين، البروجردي المولد، القمّي المقام والمسكن، تقلّد زعامة الحوزة والعالم الإسلامي بعد إرتحال الشيخ المؤسّس بعدّة سنوات، فقد تصدّي ثلاثة من العلماء الأعلام لإدارة الحوزة العلميّة، والحفاظ عليها بعد وفاة آية الله الحائري عام الف وثلاثمائة وخمسة وخمسين هجرية، وكانوا عبارة عن: آية الله حجّت، وآية الله الصدر، وآية الله الخوانساري، وكان ذلك إبّان حكومة البهلوي الأوّل: الدكتاتور رضا خان.

ثمّ انّه وبعد مضي

ثمان سنوات علي وفاة الشيخ عبدالكريم الحائري: الشيخ المؤسّس، توجّه آية الله السيّد حسين البروجردي الطباطبائي إلي مدينة قم المقدّسة، ليتصدّي زعامة الحوزة العلمية فيها، وذلك اثر دعوة كبار العلماء له، وبقدومه إلي قم المقدّسة إزدهرت الحوزة العلمية وتقدّمت تقدّماً كبيراً، وتطوّرت تطوّراً عظيماً، حيث استطاع السيّد البروجردي أيّام مرجعيّته تقوية الإعتماد علي القرآن والحديث، وتضعيف الحكمة والفلسفة، وحذفها من مناهج الحوزة العلمية، وفي هذا المجال قام بتأليف الموسوعة الحديثة الضخمة: «جامع أحاديث الشيعة».

وكيف كان: فانّه لا يسعنا هنا الإحاطة بالخدمات الجليلة والعظيمة، التي أسدتها مرجعية السيّد البروجردي إلي قم وحوزتها العلمية، بل إلي كلّ العالم الإسلامي والشيعي، وهناك كتاب مستقلّ يبحث هذا الموضوع فمن أراد المزيد فليرجع إليه.

ونكتفي هنا بالإشارة إلي انّه مضافاً إلي إعادته تنظيم الحوزة العلمية، وتنسيق حلقات الدرس، التي تخرّج منها آلاف الطلبة، انّه كان ذو اهتمام كبير بشؤون عامّة الناس، فانّ خدماته المرجعية لم تنحصر في مجال واحد، بل شملت كلّ المجالات وليست في قم فحسب، بل سائر المدن الإسلامية وغير الإسلامية: من اُمور عمرانية وثقافية، وحوزوية وإجتماعية، كبناء المدارس والمساجد، وتأسيس المستشفيات والمكتبات وما إلي ذلك.

محورية قم لمواجهة الحلفاء

لقد كانت قم في تاريخها الطويل، محوراً لمقاومة الباطل والمبطلين، ونصرة الحقّ وأهله، فكما صمدت لتثبيت فتوي تحريم التنباك من قبل الميرزا الشيرازي الكبير، وتجلّدت لتعميم فتوي تحريم الإستبداد من قبل الآخوند الخراساني الخبير، فكذلك إستمرّت في مناهضة الغزاة الروس، الذين دخلوا كرج عام الف وثلاثمائة وأربعة وثلاثين هجرية، وذلك بهدف الإستيلاء علي طهران، فأصبحت العاصمة طهران علي شفا جرف هار وخطر حقيقي، فغشي قلوب أهلها الخوف والرعب، ممّا دعي الكثير من طبقاتها أن يهاجروا إلي قم.

وتبعاً لذلك عزم عدد كبير من الشخصيات

السياسية، والعلماء الأعلام، ورؤساء الأحزاب والمنظّمات، وكذا أحمد شاه وبلاطه، علي أن يخرجوا سرّاً من طهران، وكذلك تقرّر أن تنتقل المؤسّسات العسكرية ودوائر الدولة بما فيها ليلا إلي قم، وقد جري تنسيق في هذا المجال مع سفراء الدول، التي كانت تحارب ضدّ الحلفاء، كالدولة العثمانية والمانيا وغيرهما، علماً بأنّ الدولة العثمانية كانت آنذاك هي التعبير الوحيد عن القدرة الإسلامية، وفشلها كان يعني هزيمة القوّة الإسلامية.

هذا ورغم كلّ السرّية التي اُحيطت بها الهجرة وإنتقال العاصمة، إلاّ أنّ السفارة الروسية والإنجليزية قد علما بها، وتمكّنوا من إحباط محاولة نقل العاصمة بسبب الضغط الذي فرضوه علي الشاه وبلاطه. ولكن مع ذلك كلّه فقد هاجر إلي قم من أشرنا إليهم، بالإضافة إلي عدد من وكلاء المجلس وعموم الناس، وكذا بعض ممثّلي الدول الذين كانوا يقاتلون الحلفاء، ومن برفقتهم من عوائلهم وموظّفيهم.

وعندما إستقرّوا في قم أسّسوا لجنة باسم: «لجنة الدفاع الوطني»، فتحوّلت قم إلي مركز سياسي عسكري ضدّ الروس والانجليز، وكانت تلك اللجنة هي النواة الاُولي لتشكيل الحكومة الوطنية، وحين تعرّضت قم لهجوم الروس إنتقلت الحكومة إلي كاشان، ثمّ إلي اصفهان، وأخيراً استقرّت في كرمانشاه ثمّ قضي عليها الروس بهجومهم العنيف علي أقطابها.

(قم في براثن المحتلّين)

لمّا علم الروس بتأسيس لجنة الدفاع الوطني لمجابهة المحتلين في قم، قرّر الجنرال باراتوف القائد العام للقوات الروسية الإستيلاء عليها وتدميرها، فإندفعت قوّاته نحو قم، فحدثت معارك ضارية بين اللجنة وهذه القوّات، وعلي أثر ذلك إنسحبت القوي الشعبية من منظرية قم وأطرافها، فإقتربت القوات الروسية من قم، فاضطرّت لجنة الدفاع أن تترك المنطقة وتتّجه إلي كاشان. وقد تفاقم الوضع، وإزداد رعب الناس عند إقتراب الروس، وإنتقال لجنة الدفاع إلي كاشان، حيث ما زالت تختزن ذاكرتهم الأعمال الوحشية

التي إرتكبها الروس في تبريز.

وبالفعل فقد دخل الروس أواخر عام الف وثلاثمائة وأربعة وثلاثين هجرية مدينة قم، وذلك بعد مقاومة شديدة من الأهالي، وما ان تمّ الإستيلاء علي قم إلاّ وإرتكب المحتلون بالنسبة إلي الأهالي أبشع الفجائع وأشنعها، وذلك طيلة سنوات الإحتلال.

(الآثار التاريخية في قم)

تحتضن قم المقدّسة علي أرضها آثاراً تاريخية عريقة، ومواقع أثريّة كثيرة، والتي من أهمّها: الأضرحة المنوّرة لأبناء الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، والمراقد المطهّرة للسادة العلويين، وكذلك قبور كبار العلماء والمفكّرين، بالإضافة إلي الشخصيات السياسية والإجتماعية المرموقة، وهذا ما جعل قم منطقة غنيّة بالآثار التاريخية، التي تشدّ إليها الرحال، وتتوجّه نحوها الأنظار.

وإذا أردنا التعرّف علي جزئيات هذه الآثار، وخصوصيات تلك المراقد المذكورة، نجد أنفسنا بحاجة لكتاب مستقلّ، وقد قام بعض المحقّقين بذلك، فجزّاه الله علي سعيه خير الجزاء، غير انّه لا يخفي انّ في مقدّمة تلك الآثار التاريخية العريقة لمدينة قم المقدّسة هو: حرم السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، الذي يحتاج بيان أهميّته، وكثرة بركاته وخيراته، إلي كتب مفصّلة.

قم المقدّسة ومدارسها الدينية والتثقيفية

منذ أوائل القرن الأوّل الهجري كان لأهل قم الشيعة، دور كبير في نشر المذهب الحقّ: مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، فقد اُنشئت المراكز والمؤسّسات التي تعني بذلك، واُسّست المدارس الدينية والتثقيفية التي نهضت بأعباء نشر المذهب الحقّ: مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، فبقيت صامدة رغم كلّ الهجمات التي كانت تتعرّض لها، وإستطاعت أن تقدّم خدماتها الثقافية والعلمية حسب مقتضيات كلّ عصر وزمان، حتّي يومنا هذا.

نعم، لقد إمتدّت جذور هذه المدارس الدينية في قم لأكثر من ثلاثة عشر قرناً، وآتت اُكلها كلّ حين بإذن ربّها، ولا تزال كذلك والحمد لله، وقد شهدت عدّة تحوّلات مهمّة خلال هذه القرون المتطاولة، ممّا يحتاج بيانه إلي سيرة تاريخية خاصّة بها، حتّي يمكننا الوقوف علي أوضاع المدارس ومناهجها، وكيفية التعليم والتبليغ فيها، وكذا الإطّلاع علي كيفية بناء المدارس وهندستها، وترميمها وتوسعتها، وخصائصها المعمارية والفنّية.

ويمكننا أن نلخّص القول في: انّ هذه المدارس وبصورة عامّة بقيت ولا تزال مركزاً مهمّاً لنشر المفاهيم الإسلامية الشيعية.

وبقي نورها ولا يزال متألّقاً ووهّاجاً وان لم يكن علي وتيرة واحدة علي مختلف العصور، فقد كانت تخمل في بعض العهود، ولكن مع هذا لم تتواني في أداء وظيفتها والقيام بأعباء مسؤوليتها، وقد شهدت هذه المدارس، وخاصّة في بعض الظروف الأخيرة تطوّراً ملحوظاً، كما انّها اليوم بحاجة إلي تطوّر أكبر، مثل: إنضوائها تحت إدارة شوري الفقهاء المراجع، كي تستطيع أن تواكب العصر الجديد في إبلاغ رسالتها إلي العالم كلّه، وأداء وظائفها التثقيفية والدينية، والعلمية والأخلاقية إلي جميع البشرية.

علماء النجف وكربلاء في قم

بعد أن طرد الشعب العراقي المسلم بقيادة مراجعه العظام الإستعمار البريطاني من العراق وذلك في ثورة العشرين المعروفة تسلّل هذا الإستعمار العجوز عبر نافذة الحكّام الجُدد إلي العراق ثانية، وأخذ يخطّط من وراء الستار للإنتقام من الثوّار والثائرين بصورة خاصّة، ومن الشعب العراقي بصورة عامّة.

وحيث انّ الإستعمار العجوز من أخبث المستعمرين وأحقدهم علي الشعوب، بقي ولا يزال ينتقم من الشعب العراقي ومن علمائه، بتسليط حزب البعث عليه حتّي هذا اليوم، ونحن نسأل الله أن يفضح المستعمرين وخاصّة هذا الإستعمار العجوز، وأن يهيّأ من الشعوب رجالا أحراراً يقطعون دابر الأنظمة الإستعمارية، ويجتثّون جذور الإستعمار والإستثمار، من علي خارطة الثقافة الجديدة التي يرسمونها لعالم الإنسان والمجتمع البشري الجديد في ظلّ نظام الإسلام.

وكيف كان: فقد نفّذت الحكومة العراقية أوامر أسيادها، وأقدمت علي تهجير أكثر من ثلاثين عالماً ومرجعاً من مراجع الدين في العراق، والذي كان من بينهم: السيّد أبو الحسن الاصفهاني، والشيخ النائيني، والمحقّق العراقي، والسيّد محمّد علي الطباطبائي، وغيرهم، وقد إستقبلهم الناس في ايران وخاصّة أهالي قم المقدّسة، وعلمائها العظام، بكلّ حفاوة وتكريم، فنزلوا جميعهم ضيوفاً علي آية الله اليزدي في قم المقدّسة، وذلك عام الف وثلاثمائة واثنين وأربعين

هجرية.

قم المقدّسة مركز المعارضة

لقد خرج آية الله الحاج نور الله الإصفهاني، وهو أحد كبار علماء اصفهان، عام الف وثلاثمائة وستّة وأربعين هجرية علي دولة البهلوي الأوّل رضا خان.

وحيث انّه أراد أن يوسّع خروجه إنتخب مدينة قم، فقدم إليها علي رأس طائفة من جماهير اصفهان، وكان هو يحمل لواء المعارضة ويحرّض الجماهير علي المسيرات الإحتجاجية، والمظاهرات السلميّة.

وإثر هجرة نور الله وبعض علماء اصفهان إلي قم، تقاطر العلماء من كلّ نقاط ايران إلي قم، ليلتحقوا بصفوف النهضة، فأضحت قم المقدّسة نواة الإحتجاجات ضدّ حكومة البهلوي الأوّل رضا خان.

أوّل من انتهك حرمات حرم قم

في الليلة الاُولي من فصل الربيع، عام الف وثلاثمائة وسبعة وأربعين هجرية، وفي أثناء إحتفال دخول السنة، دخلت عائلة رضا خان إلي حرم السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)منتهكة للحرم المقدّس ولأهله، حيث انّها لم تكن تراعي الحجاب الإسلامي، ولذلك جوبهت بإعتراض شديد من الناس وتنديد كبير منهم، وكان من بين المعترضين آية الله الشيخ محمّد تقي البافقي، والسيّد ناظم، وكان قد أبلغها الشيخ برسالة جاء فيها: «ان كنتم مسلمين فلِمَ بهذا التهتّك تردون الحرم؟ وان لم تكونوا كذلك فلِمَ جئتم؟».

ثمّ انّ الناس الذين كانوا لم يشاهدوا حتّي ذلك اليوم امرأة سافرة بلا حجاب، ولم يشاهدوا أحداً يهتك كهذه المرأة حرمة حرم السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) بالدخول إليه بلا حجاب، حالوا بينها وبين دخول الروضة المباركة ولم يأذنوا لها بذلك أبداً، فرجعت المرأة خائبة تجرّ أذيال الخزي، وأخبرت البهلوي الأوّل الدكتاتور رضا خان بالأمر وأثارت غضبه.

فاتّجه الدكتاتور المستبدّ مع جلاوزته نحو قم، وما ان وصلها إلاّ وأسرع نحو الروضة المباركة للسيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، ودخلها في الساعة الثانية ليلا وهو مدرّع، وإنهال مع جلاوزته علي الناس بما فيهم العلماء شتماً وضرباً،

وخصّ من بينهم آية الله الشيخ محمّد تقي البافقي، وكان شيخاً طاعناً في السنّ فضرب ضرباً مبرحاً واُودع السجن.

وكان هذا التجاسر الوقح، والإعتداء المشين وأمثاله، من العوامل المهمّة لمعاداة الشعب الإيراني مع البهلوي الأوّل والثاني، حيث تراكمت هذه العوامل وأدّت إلي إنفجار الشعب المسلم، وإسقاط حكومة البهلوي الملكي في ايران.

قم تستدرّ السماء

انّ الإسلام ندب المسلمين إلي طلب السقيا والمطر، كلّما إنقطع عنهم الغيث، وأجدب عليهم الزمان، وقد اُصيبت قم إثر ظلم البهلوي وطغيانه وإنتهاكه حرمة القرآن والإسلام، ومصادرته حقوق الشعب والعلماء بهذا البلاء، فاُقيمت صلاة الإستسقاء بمنتهي الخضوع، والإخلاص، وبمشاركة أهالي قم قاطبة، وبإمامة آية الله العظمي الخوانساري، وذلك إثر الجفاف الذي أصاب قم عام الف وثلاثمائة وواحد وستّين هجرية.

وكان ذلك مصادفاً لمحنة إستقرار القوّات الانجليزية علي أرض قم المقدّسة، فانّها عندما شاهدت جماهير قم تتّجه نحو الصحراء، وفي اتّجاه المناطق التي إستقرّت فيها، خافت وخشيت علي نفسها ظنّاً منها بأنّ الجماهير تنوي الهجوم عليها، وقد لفّهم الذهول حين إستجاب الله دعاء هذه الجماهير، وأرسل عليهم السماء مدراراً، وأنقذهم من الجدب والقحط.

(حركة الفقهاء المراجع)

لقد أفسد البهلويان: الأوّل والثاني في ايران ديناً ودنياً، أيّما إفساد، فتحرّك مراجع المسلمين في قم خاصّة، وفي ايران عامّة، وتبعهم الناس جميعاً، لرفع كابوس الظلم عن أرضهم وبلادهم، وقد عملوا في غاية التعقّل، ومنتهي الحكمة، حيث انّهم استخدموا اللاعنف في حركتهم لإسقاط تلك الحكومة الغاشمة.

نعم، لقد تحرّك الفقهاء المراجع، كما تحرّكت الجماهير الشعبية: من شباب وشيب، وتجّار وموظفّين، وسائر طبقات الناس، من شرق ايران إلي غربها، ومن أدناها حتّي أقصاها، يطالبون الحكّام بالإسلام، ويستنكرون عليهم ظلمهم واستبدادهم.

وقد نظّموا لتحقيق ذلك، المظاهرات السلميّة، والإضرابات العلنية، من دون أن يستفيدوا من العنف، أو يستخدموا السلاح مطلقاً حتّي يئس الحكّام الظالمون من البقاء، ولاذوا بالفرار مرعوبين مخذولين.

وهنا تحقّق وعد الله للمؤمنين بالنصر، ومنّ عليهم بالغلبة والظفر، وأورثهم عرش الظالمين ومناصبهم، ومكّنهم في الأرض والبلاد، وجعلهم خلائف من بعدهم لينظر كيف يعملون.

انّهم وعدوا الناس بمنح الحرّيات الإنسانية، وتطبيق الإسلام الموجود في الكتاب والسنّة، والإستقلال عن الشرق والغرب،

ومكافحة الجهل والفقر، وتوفير الرزق والمال.

هذا وقد اطمئنّ الناس إليهم، وسكنوا إلي وعودهم، حيث كان في القمّة فقهاء عدول، ومراجع صادقون، ممّا لم يُعرف منهم كذبة في قول، ولا خطل في رأي، ولا إنحراف في سلوك.

ولذلك هبّ الناس في هذا السبيل، وبذلوا من أجله كلّ غال ونفيس، وقدّموا أموالهم وأنفسهم.

كما وتحرّك فقهاء العراق عامّة، وعلماء كربلاء خاصّة في تأييدهم ومساندتهم، حتّي كتب الله لهم النصر، وأخزي أعداءهم الظالمين.

والناس اليوم يتوقّعون تحكيم شوري الفقهاء المراجع في القيادة، وتثبيت نظام التعدّدية الحزبية، والمؤسّسات الدستورية في الحكم. وينتظرون تطبيق الإسلام تطبيقاً حرفيّاً دقيقاً، في كلّ مجالات الحياة.

ففي مجال الوحدة يريدون تطبيق قوله تعالي: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)() برفع الحدود الجغرافية من البلاد الإسلامية وحذف تأشيرات الدخول والخروج.

وفي مجال الاُخوّة يريدون تطبيق قوله سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)() برفع الحواجز النفسيّة، ومضايقات الجنسيّة والهوية.

وفي مجال الحرّيات الإسلامية يريدون تطبيق قوله تعالي: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَْغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)() بحذف القيود والرسوم، والجمارك والضرائب، وإطلاق حرّية السفر والإقامة، والتجارة والزراعة، والعمران والسكن وما إلي ذلك حسب ما يراه الإسلام، حتّي تكون حكومة إسلامية، كما أرادها الله تعالي، وبيّنها الرسول (صلي الله عليه وآله)، وعرّفها الأئمّة الطاهرون (عليهم السلام)، فتكون نواة لوحدة إسلامية كبري تضمّ كلّ العالم الإسلامي، الذي يبلغ نفوسه مليارا نسمة حسب الإحصاءات الأخيرة، ان شاء الله تعالي.

مسجد جمكران

من المزايا الفريدة التي إمتازت بها مدينة قم المقدّسة علي سائر المدن، مضافاً إلي ما تقدّم: من انّها حرم أهل البيت (عليهم السلام)، وانّها مركز محبّيهم ومواليهم، وانّها تحتضن مرقد السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، ومراقد كثير من أبناء الأئمّة الأطهار، والعلماء الأعلام، هو وجود مسجد فيها ينسب إلي الإمام المهدي

صاحب العصر والزمان عجّل الله تعالي فرجه الشريف، ويدعي باسم: مسجد جمكران، وهو يبعد بضعة كيلومترات عن قم.

ويحظي هذا المسجد بأهميّة خاصّة، حيث يقصده المسلمون من كلّ حدب وصوب، ولا سيّما في ليالي الأربعاء وليالي الجمعة من كلّ اسبوع، فهو دوماً مأوي للزائرين الذين يؤمّونه، ومأمن للوافدين الذين يتوافدون عليه من كافّة مدن البلاد، بغية الزيارة، وأداء الطقوس الدينية، ونيل المني والحوائج.

صورة مسجد جمكران

خاتمة

عند مرقد السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام))

نقل لي آية الله السيّد المرعشي النجفي (قدس سره): انّ شقوقاً حدثت في اسطوانات الروضة المباركة للسيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، تلك الاسطوانات التي تعتمد عليها القبّة الذهبية المنوّرة، فاستدعي المعمارون لترميم الشقوق وإصلاح الاسطوانات فقال المعمارون: لأجل الإطمئنان من انّ هذه الشقوق الحادثة في الاسطوانات سطحية، وليست عميقة، لابدّ وأن ينزل أحد إلي السرداب المحيط بالقبر الشريف، ويستعلم حال السرداب، والجدران والأعمدة التي تعتمد عليها الاسطوانات.

فانتخبوا جماعة من السادة ومن بينهم السيّد المرعشي، للنزول إلي داخل السرداب حيث القبر الشريف، فنزل السيّد المرعشي ومن معه من السادة، وإذا بهم يرون السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) مسجّاة باتّجاه القبلة، وقد كُشف الكفن عن وجهها المنير كما هو في مستحبّات الدفن، حيث يستحبّ صنع وسادة من التراب وكشف وجه الميّت ووضعه عليها.

يقول السيّد المرعشي (قدس سره) وكانت كالنائمة أو كالميّتة الآن طريّة، ويفوح منها رائحة عطر الكافور، وكان كفنها طريّاً جديداً أيضاً وكأنّها قد دفنت توّاً، وكان لونها حنطاوياً مشبّعاً يميل إلي السمرة الشديدة، كما هو عليه أهل المدينة المنوّرة، وكانت من حيث السنّ كأنّها من أبناء العشرينات.

هذا وكان إلي جانبها وحواليها نساء اُخر، وكانت هي (عليها السلام)تتوسّط امرأتين يميل لون وجههما إلي السواد الشديد، حتّي كأنّهما من وصائف السودان وجواريهما، وكنّ

جميعاً حتّي أكفانهنّ طريّات جديدات كأنّهنّ دفنّ اليوم أو البارحة.

أقول: ويؤيّد ما ذكره آية الله السيّد المرعشي: من تعدّد النساء المدفونات مع السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، بعض الكتب التاريخية المتعرّضة لذلك، مثل كتاب تاريخ قم وغيره من الكتب الاُخري.

وسام الشهادة

وحيث بلغ بنا الكلام حول معجزة بقاء جثمان السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) بعد إستشهادها غظّاً طريّاً، رغم مرور أكثر من الف عام عليه، لا بأس بذكر بعض الشهداء والصالحين الذين عثر علي جثمانهم بعد شهادتهم، فانّ هناك في التاريخ قصصاً كثيرة، وفي الأمصار مشاهد غفيرة وجمّة، تتحدّث كلّها حول أشخاص استشهدوا، أو ماتوا حتف أنفهم فدفنوا، ثمّ عُثر علي أبدانهم، فكانت سالمة وغظّة، طريّة وجديدة، لم تأكل الأرض أبدانهم ولم تُبل حتّي أكفانهم، ومن اُولئك الذين عثر علي بدنهم فكان سالماً طريّاً هو: الحرّ بن يزيد الرياحي.

لقد استشهد الحرّ في نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء عام واحد وستّين هجرية، في كربلاء المقدّسة، وعندما اُصيب في أرض المعركة وسقط علي وجه الأرض صريعاً وكان به رمق، جاء الإمام الحسين (عليه السلام) إليه وأخذ رأسه في حجره، وحيث كان الحرّ باديء أمره في جيش ابن زياد وقد أخذ الطريق علي الإمام الحسين (عليه السلام) وجعجع به وبمن معه، ثمّ اهتدي وتاب، ورجع وصار مع الإمام الحسين (عليه السلام)كان يتمنّي أن يمنحه الإمام الحسين (عليه السلام)وساماً يكون علامة علي قبول توبته، والعفو عن زلّته.

وكذلك فعل الإمام الحسين (عليه السلام) مع الحرّ، حيث أخذ (عليه السلام)منديلا كان معه وشدّ به رأس الحرّ، الذي كان قد اُصيب بطعنة في المعركة وكان ينزف دماً، وقال له: أنت كما سمّتك اُمّك: حرّ في الدنيا، وسعيد في الآخرة، وهنا طابت

نفس الحرّ ولفظ أنفاسه الأخيرة ورأسه في حجر الإمام الحسين (عليه السلام).

وعندما وضعت الحرب أوزارها وأمر ابن سعد بقطع الرؤوس، وسحق الجثث بحوافر الخيل، أقبل رجال من عشيرة الحرّ وحملوا الحرّ بعيداً عن المعركة، ودفنوه علي بُعد فرسخ من كربلاء حيث مرقده الآن.

مرّت علي دفن الحرّ قرون متطاولة، وكلّما أقبل الزائرون لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) كانوا يزورون الحرّ في بقعته المعروفة ويتبرّكون بزيارته، حتّي إذا زاره السلطان الصفوي، وكذلك العثماني، أمر كلّ منهما وذلك بتعاقب، وليس في زمان واحد، أن ينبشوا قبر الحرّ، فلمّا وصلوا إلي الجسد، شاهدوه جديداً طريّاً، كأنّه قُتل الساعة ودفُن الآن، ورأوا علي رأسه ذلك المنديل الذي شدّه الإمام الحسين (عليه السلام) وساماً له، وعلامة علي قبوله والعفو عنه، فطمع كلّ من السلطانين أخذ هذا الوسام لنفسه، والتبرّك به، فانّه منديل الإمام الحسين (عليه السلام) وهديته. ولكن لمّا همّ كلّ واحد منهما بفتحه، إذا به يري الدم يتفجّر من رأسه، ويسيل علي وجهه، فأمر بمنديل فشدّوا به رأسه فلم يتوقّف الدم، فأمر بمنديل ثان وثالث ورابع فلم يتوقّف الدم، فعرفوا انّ هذا الوسام وسام خاصّ بالحرّ وانّه لا يُعوّض بشيء آخر، فأخذ كلّ واحد منهما للتبرّك خيطاً من ذلك المنديل، وردّوه إليه وشدّوا به رأسه، فتوقّف الدم وسكن من فوره.

نعم، هكذا يبقي جسم الحرّ الشهيد سالماً طريّاً، رغم القرون المتمادية التي مرّت علي دفنه، والعصور المتوالية التي إنقضت من مواراته، فانّ الأرض لا تجرأ علي أن تمسّه، أو تصيبه بأذي، وما ذلك إلاّ بأمر من الله تعالي ربّ العالمين.

الميرزا الشيرازي الكبير بعد وفاته

نقل لي الميرزا محمّد الطهراني (رحمه الله)، وهو أحد تلاميذ الميرزا الشيرازي الكبير قائلا: انّه بعد وفاة الميرزا الشيرازي الكبير بسنوات

عديدة، اتّفق لنا أن نفتح مدخل السرداب الذي كان الميرزا (قدس سره) قد دفن فيه، لدفن إنسان آخر، قال: فنزلت أنا وأحد أبنائي في السرداب المذكور لدفن ذلك الإنسان، وإذا بي أري الميرزا الشيرازي الكبير مسجّي في مكانه الذي دفناه فيه قبل عدّة سنوات، وهو علي هيئته السابقة، وهندامه القديم، لم يمسّ جسمه ولا كفنه بأذي، غضّاً طريّاً، وسالماً جديداً.

حتّي انّ إبني الذي كان قد نزل في السرداب معي، كشف شيئاً من الكفن الذي كان قد غطّي علي عضده، ولمس عضده بقوّة، فرأينا الدم قد إنساب من تحت الجلد وابيضّ أطرافه علي أثر لمسه بقوّة، ثمّ لمّا رفع يده عاد الدم إلي مكانه، ورجعت الحمرة إلي البشرة من جديد، فتعجّبنا من ذلك، ومن انّه كيف بقي بدن الميرزا وحتّي كفنه رغم تلك السنوات العديدة سالماً وطريّاً.

ولكن لا تعجّب من ذلك، حيث انّه (قدس سره) كان عالماً عاملا، وفقيهاً بارّاً، ووليّاً من أولياء الله تعالي، والله سبحانه علي كلّ شيء قدير.

حذيفة بن اليمان وكرامته

لقد اتّفق في زماننا حين كنّا في العراق، وفي عهد رئاسة السيّد محمّد الصدر، أن طغي ماء دجلة طغياناً كبيراً، فتهدّم بسببه أماكن كثيرة وفي جملة ما تهدّم: قبر الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان، الذي كان علي شاطيء دجلة، فكان جسده كيوم مات فيه طريّاً جديداً، وكذلك كان كفنه.

فأثار تعجّب الناس وهرعوا إلي مشاهدته وزيارته، حتّي توفّق أن يراه كثير من أهالي بغداد وقال كلّ من رآه: انّه كان غضّاً طريّاً كأنّه مات الساعة، أو كأنّه كان نائماً، وكان أسمر اللون شديد السمرة، ذا لحية بيضاء كثّة، ثمّ انّه قرّروا أن يدفنوه إلي جانب سلمان الفارسي وفي بقعته المباركة وذلك في سلمان پاك، فدفنوه هناك

رحمة الله عليه.

بعد مرور أكثر من الف سنة

عُثر في مدينة يزد علي جسد امرأة تدعي باسم: «بي بي حياة» ويقال عنها: انّها رافقت الفتح الإسلامي إلي يزد، وذلك قبل أكثر من الف سنة، والجدير بالذكر هو: انّهم لمّا عثروا علي جسدها وجدوه جديداً طريّاً، وكأنّه جسد إنسان نائم، أو إنسان مات من توّه، ولم يؤثّر تراب الأرض، ولا هوام القبر، علي سلامة جسدها، ولا علي متانة كفنها.

نعم، كانت هذه المرأة كما يقال: من المؤمنات الصالحات، فحفظ الله جسدها من التلف والآفات، وحرمها علي تراب القبر كما حرمها علي نار جهنّم.

وكذلك حفظها من أن يسرقها البريطانيون، وصانها من أن يختطفها المستعمر العجوز علي أيدي عملائه في المنطقة، فقد سرقوا الجثّة من يزد ليلا، وذهبوا بها إلي بندر عبّاس خفية، وكان في نيّتهم أن ينقلوها عن طريق البحر إلي لندن، فتسرّب خبر سرقتهم هذه إلي السلطات الايرانية، فتلاحقوا الأمر، وتداركوا القضيّة، وقبضوا علي السارقين، وأنقذوا الجثّة من أيديهم، وأرجعوها إلي يزد، وهي الآن مدفونة في قبر معروف بيزد، يؤمّها القاصدون ويزورها الناس من كلّ مكان.

جثمان الشاب إسماعيل ابن الإمام الصادق (عليه السلام)

لقد كان إسماعيل ابن الإمام الصادق (عليه السلام) شابّاً وسيماً، وعالماً أديباً، ومتديّناً خلوقاً، ممّا جعل الناس يتصوّرونه انّه هو الإمام بعد أبيه، ولكن حيث انّ من شرائط الإمام أن يبقي حيّاً بعد الإمام الذي هو قبله ليمارس دوره في الإمامة، علم الناس بأنّه ليس هو الإمام، وإنّما الإمام هو أخوه موسي (عليه السلام)، وذلك لأنّ إسماعيل توفّي زمن حياة أبيه الإمام الصادق (عليه السلام).

فلمّا توفّي إسماعيل دعي الإمام الصادق (عليه السلام) أصحابه وأخبر سائر الناس، ليحضروا تجهيزه وتشييعه ودفنه، فلمّا حضروا جميعاً جهّزه وكتب (عليه السلام) علي كفنه: إسماعيل يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول

الله إلي آخره، ثمّ شيّعوه إلي قبره، وفي طريقه إلي مثواه الأخير، كان الإمام الصادق (عليه السلام) يأمر الناس المشيّعين بجعل الجنازة علي الأرض، وكان (عليه السلام) يفتح الكفن عن وجه إسماعيل ابنه ويقول للناس: من هذا الميّت؟ فكانوا يجيبونه: هذا ابنك إسماعيل، ثمّ كان يأمر بمواصلة تشييعه، فعل (عليه السلام) ذلك عدّة مرّات حتّي لا يقول أحد بعدها بإمامة إسماعيل، وإذا قال أحد بذلك فلا يبقي له حجّة علي الله.

وكيف كان: فقد عثر في زماننا علي جسد إسماعيل هذا، فكان جسداً سالماً جديداً، وغضّاً طريّاً، وذلك بعد ما إنهدم قبره، الكائن أمام البقيع في المدينة المنوّرة، وقد توفّقت أنا وجماعة لزيارة قبره قبل إنهدامه، في السنة التي توفّقنا فيها لحجّ بيت الله الحرام، وزيارة الرسول (صلي الله عليه وآله) وأئمّة البقيع (عليهم السلام) في المدينة المنوّرة.

فلمّا إنهدم قبره الشريف وظهر جسده الطاهر، وكأنّه قد مات الآن، إذ لم يُبل جسده ولا كفنه، ظهر للناس مرّة ثانية علوّ مقامه ما عدا الإمامة عند الله تبارك وتعالي، فانّه وان لم يكن إماماً إلاّ انّه كان وليّاً من أولياء الله عزّوجلّ، وقد أمر الله التراب أن لا يمسّ بدنه إحتراماً له، وأمر الأرض أن لا تبلي جسده إعزازاً به، ثمّ نقلوا جسده الطاهر إلي داخل البقيع، ودفنوه هناك حيث مرقده الآن، وقد أصبح كما كان من قبل مزاراً للحجّاج والوافدين.

هذا وقد سمعت أنا بنفسي قصصاً كثيرة، وأحاديث غريبة، حول بقاء الأجساد، وسلامة الأبدان، لبعض الشخصيات العلمية والدينية بعد إرتحالهم من الحياة، ممّا يطول بنا المقام في ذكرها جميعاً، ولكن هناك بعض الأصدقاء من اهتمّ بهذا الأمر وكتب كتاباً في هذا المجال باسم: «الأجساد الخالدة» فمن أراد المزيد

فليرجع إليه.

هذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الكتاب سائلين الله تعالي أن يفيد به، ويجعله لنا ذخراً وأجراً، آمين ربّ العالمين، وسبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام علي المرسلين والحمد لله ربّ العالمين.

قم المقدّسة

محمّد الشيرازي

ربيع الأوّل / 1421ه ق

رجوع إلي القائمة

پي نوشتها

نهج البلاغة: ج10.

سورة المطفّفين، آية26 (فليتنافس المتنافسون).

سورة الأنبياء، آية92، وسورة المؤمنون، آية52.

الكافي: ج5 ص279، التهذيب: ج7 ص152، الإستبصار: ج3 ص108.

مستدرك وسائل الشيعة: ج17 ص111، إلاّ فيه «لا يسبقه».

سورة محمّد (صلي الله عليه وآله)، آية7.

سورة آل عمران، الآية139.

بحار الأنوار: ج39 ص47، وسائل الشيعة: ج26 ص14 وص125.

سورة الأنبياء، آية34.

عن الصادق (عليه السلام): «تدخل بشفاعتها شيعتي الجنّة بأجمعهم». سفينة البحار: ج2 ص376.

نهج الشيعة: ص5.

سورة آل عمران، آية103.

سورة الشوري، آية38.

نهج البلاغة: ج10.

بحار الأنوار: ج75 ص24، ألا فيه: «عليكم بتقوي الله ونظم أمركم».

بحار الأنوار: ج69 ص410.

سورة الحديد، آية12.

سورة النمل، آية59.

سورة الصافات، آية80.

سورة الصافات، الآية81.

بحار الأنوار: ج70 ص191 وص237.

بحار الأنوار: ج43 ص351.

سورة البقرة، آية185.

عوالي اللئالي: ج1 ص381، غرر الحكم: ص483.

«الساس» حشرة صغيرة جدّاً، يصعب رؤيتها بالعين المجرّدة، وهي تدخل في جسم الإنسان وتمتصّ دمه، ويتورّم جلده، ممّا يوجب أذيّته أذيّة بالغة جدّاً.

تتميماً للفائدة وإغناءً للبحث نحيط القاريء العزيز ببعض المقتطفات الوجيزة حول هذا الكتاب القيّم.

فقد ترجم المؤرّخ المعروف الحسن بن علي بن الحسن بن عبدالملك هذا الكتاب إلي اللغة الفارسية في مطلع القرن التاسع الهجري، وجاءت الترجمة حسب الفهرست الموجود بالفارسية في عشرين باباً، ولكن لم يبق بأيدينا منه سوي خمسة أبواب فقط، وأمّا الباقي المترجم فكالأصل العربي قد أكل عليه الدهر وشرب، وضاع بين حوادث الدهر، وبُعد الأمد، ونحن نذكر ترجمة الفهرست الموجود بالفارسية تتميماً للفائدة، وتنبيهاً علي عظمة رجال قم في مجال التاريخ وغيره، وترغيباً للناشئة

للتحليق إلي فضائلهم ومحاسنهم:

«الفهرست»

الباب الأوّل: في ذكر قم وسبب تسميتها بهذا الإسم بعد تسميتها بالفارسية، وذكر القديم والحديث من أمرها، وكيفية فتح ناحيتها، وإنتهاء حدودها، ومسافة أقطارها، وذكر طولها وعرضها وبرج طالعها، وعدد طرقاتها ومداخلها وساحاتها ومساجدها وحمّاماتها، وسبب فصلها عن اصفهان، ووقت إعتبارها مدينة مستقلّة، وما يدخل في ناحية قم ويعدّ منها، وما يتعلّق بها من ضياع وأسمائها. وذكر القديم والحديث من قلاعها، وذكر أوّل مسجد بنوه بقم ونصبوا المنبر فيه إلي أن بني المسجد الجامع ونقل المنبر إليه، وذكر دور الخراج ودار الضرب وسرايات الحكّام والولاة والسجون، وذكر قنواتها وسواقيها وأنهارها ومطاحنها وما بها من مقاسم للمياه ورساتيق، وعدد ضياعها وقراها من عربية وفارسية، وعدد الضياع والدساكر التي اُلحقت بقم من المدن الاُخري، وذكر بعض الطلّسمات وبعض ما كان مشهوراً بها من بيوت النار، وذكر فضائل قم ونواحيها وسكّانها وما لحقهم من الآفات والعاهات … ويشتمل هذا الباب علي ثمانية فصول.

الباب الثاني: في عدد المرّات التي مسحت فيها قم والمرّات التي فرض فيها الخراج عليها، ومبلغ خراجها وأسماء ضياع الخراج وذكر أنواع إلي أن ثبّته الشيخ الأمين أبو الحسن عبّاد بن عبّاس؛ سنة ثلاثين وثلاثمائة. وذكر نجومها وتقاليدها ومؤونها وإخراجاتها، وذكر رسوم الصدقات بقم وما كان من أمر الخراج في أيّام العجم وفي الإسلام، وذكر وجوه الأموال وأحكام الأراضي … ويشتمل هذا الباب علي خمسة فصول.

الباب الثالث: في ذكر من نزل بقم واستوطنها من الطالبيين، وذكر بعض الفضائل المرويّة في حقّهم، بعد الإبتداء بذكر أولاد أمير المؤمنين علي وفاطمة والأئمّة المعصومين:، وعدد أولادهم ومدّة أعمارهم ووفيّاتهم.. ويشتمل هذا الباب علي فصلين.

الباب الرابع: في ذكر مجيء العرب من آل ملك بن عامر الأشعري إلي

قم وآوج (ساوه) وإستيطانهم لهما وسبب رحلتهم من الكوفة إلي قم في الروايات المختلفة، والسبب الذي من أجله قتل الحجّاج بن يوسف محمّد بن السائب ابن مالك الأشعري … ويشتمل هذا الباب علي فصلين.

الباب الخامس: في أخبار العرب الأشعريين الذين أسلموا وسبب إسلامهم وهجرتهم مع الرسول، والفضائل المرويّة فيهم وحكومتهم ومفاخرهم المشهورة، مع أخبارهم في الجاهلية وذكر قبائلهم وعشائرهم وبعض وقائعهم وأيّامهم وأشعارهم.. ويشتمل هذا الباب علي فصلين.

الباب السادس: في ذكر أنساب الأبناء من العرب بقم عموماً، وفضل اليمنيين خاصّة، وذكر نسب قحطان، وما نقل في ذلك من روايات.. ويشتمل هذا الباب علي خمسة فصول.

الباب السابع: في ذكر من توطّن بقم من العرب، ومن بلغ منهم مراتب الرئاسة والسيادة، مع بعض آخر من أخبارهم بصورة عامّة.. ويشتمل هذا الباب علي خمسة فصول.

الباب الثامن: في ذكر الحوادث والوقائع المشهورة التي حدثت بين هذه الجماعة من العرب.. وهذا الباب موضوع في فصل واحد.

الباب التاسع: في ذكر من حكم قم من ولاة الخلفاء وسائر السلاطين من عرب وعجم، وذكر بعض كتّاب الديوان الذين كانت أسماؤهم محفوظة.. ويشتمل هذا الباب علي فصل واحد.

الباب العاشر: في وقت ظهور الإسلام في قم وذكر الفضائل المرويّة في شأن الفرس، ومن كان من الفرس بقم في الأيّام القديمة والحديثة، إنّ الذين كانوا أو الذين أتوا إليها وإستوطنوها.. ويشتمل هذا الباب علي ثلاثة فصول.

الباب الحادي عشر: في تواريخ سني ولاة قم وحكّامها، والجريبات وخراجها ومسافتها، من سنة صارت مدينة وكورة وذلك سنة تسع وثمانين هجرية إلي آخر سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، وذكر أسمائهم وبعض أخبارهم وعددهم وهو مائتا شخص وشخص.. ويشتمل هذا الباب علي فصل واحد.

الباب الثاني عشر: في أسماء قضاة قم وبعض أخبارهم،

والسبب الذي من أجله لم يرسل الخلفاء قضاة إلي قم حتّي خلافة المكتفي، وذكر الرجال الذين إختارهم العرب منهم برضاهم للقضاء فيما بينهم، إلي أن جدّد المكتفي سنة تولّيه القضاء علي قم وأرسل لها القضاة.. ويشتمل هذا الباب علي فصل واحد.

الباب الثالث عشر: في سني الخلفاء والوزراء وحوادث قم وباقي مدن الإسلام، بعد الإبتداء بذكر مولد رسول الله (صلي الله عليه وآله)، وجميع أخباره من يوم مبعثه إلي يوم هجرته، وسائر التواريخ المختارة من الهجرة حتّي آخر سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة.. ويشتمل هذا الباب علي فصل واحد.

الباب الرابع عشر: في ذكر ضياع السلطان والأملاك الأميرية في قم وآوج وأنواعها من قديمة خاصّة معروفة بالعبّاسية وعامّة، والفراتية السهلانية واليعقوبية، وحديثة مقبوضة في سنتي ست وسبع وستّين وثلاثمائة، ومبلغ خراجها وعدد أسهمها، مع ذكر سائر شؤون بلدة آوج التي لم تذكر في الدفتر السلطاني.. ويشتمل هذا الباب علي فصل واحد.

الباب الخامس عشر: في الضياع والحصص الموقوفة ومبلغ خراجها وعدد أسهمها والبائر والخرب منها وذكر من تولاّها من أهالي قم من العرب والعجم وهم أربعون شخصاً، وفي تفحّص أحوال هذه الحصص الموقوفة وأحوال المتولّين اُمورها من قبل الخلفاء والولاة علي قم، إلي أن صارت كلّها من الأقطاع.. ويشتمل هذا الباب علي فصل واحد.

الباب السادس عشر: في ذكر أسماء بعض علماء قم، وعدد الخاصّة منهم وهو مائتان وستّة وستّون شخصاً، وعدد العامّة منهم ممّن كانوا مشهورين فيها وهم أربعة عشر شخصاً، وذكر مصنّفاتهم ورواياتهم وبعض أخبارهم.. ويشتمل هذا الباب علي فصلين.

الباب السابع عشر: في أسماء بعض الاُدباء والكتّاب وأمثالهم ممّن كانوا بقم، كالفيلسوف والمهندس والمنجّم والنسّاخ والورّاق، مع ذكر بعض أخبارهم ورسائلهم ومصنّفاتهم.. ويشتمل هذا الباب علي فصل واحد.

الباب

الثامن عشر: في ذكر بعض الشعراء الذين نظموا في مدح أهل قم، ومن كانوا معروفين وشعرهم محفوظ ومشهور وعددهم أربعون شاعراً، وذكر الشعراء الذين ظهروا بقم وآوج مع بعض أشعارهم بالعربية والفارسية وعددهم مائة وثلاثون شاعراً.. ويشتمل هذا الباب علي ثلاثة فصول.

الباب التاسع عشر: في ذكر اليهود والمجوس الذين بقم ونواحيها، وما كان مفروضاً عليهم من أموال ورسوم وما ورد في هذا الكتاب من روايات، وسبب هجرة النصاري ونزولهم بقم وإستيطانهم لها في مختلف الروايات.. ويشتمل هذا الباب علي فصل واحد.

الباب العشرون: في بعض خصائص قم وبعض عجائب الدنيا، وأعمار الأنبياء: وعددهم وكامل تواريخ الأيّام والسنين والقرون، وملوك العرب والعجم وملخّص أخبارهم، وبعض أخبار الاُمم من آدم 7 حتّي زمان هجرة رسولنا 9، وذكر بعض سنن العرب وعاداتهم وأحكامهم ومناقبهم وأصنامهم في الجاهلية، مع ذكر بعض الروايات الواردة في التوحيد، وذكر خصائص قريش وبني هاشم ومكّة والمدينة والأخبار النادرة من روايات الشيعة وسواهم.. ويشمل هذا الباب خمسة فصول.

سفينة بحار الأنوار: ج2 ص446، عن أبي مقاتل الديلمي نقيب الري قال سمعت علي بن محمّد الهادي (عليه السلام) يقول: «إنّما سمّي قم به لأنّه لمّا وصلت السفينة إليه في طوفان نوح (عليه السلام) قامت وهو قطعة من بيت المقدس». سفينة بحار الأنوار: ج2 ص445.

بحار الأنوار: ج57 ص218.

بحار الأنوار: ج57 ص214 و217.

بحار الأنوار: ج57 ص214.

مستدرك الوسائل: ج10 ص206.

بحار الأنوار: ج9 ص106.

بحار الأنوار: ج57 ص218.

بحار الأنوار: ج57 ص214.

نقل العالم الجليل، والحبر النبيل: الفيض في كتابه: «انجم فروزان» ص58 وكتابه الآخر: «گنجينه آثار قم» ج1 ص386 عن كتاب «لواقح الأنوار في طبقات الأخبار» تأليف عبدالوهاب الشعراني الشافعي المتوفّي سنة تسعمائة وسبع وثلاثين هجرية، وعن كتاب: «نزهة الأبرار في نسب أولاد

الأئمّة الأطهار» تأليف السيّد موسي البرزنجي الشافعي المدني، قائلا: إنّ ولادة السيّدة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسي بن جعفر (عليه السلام) في المدينة المنوّرة في غرّة ذي القعدة الحرام سنة ثلاث وثمانين ومائة بعد الهجرة النبوية علي هاجرها آلاف التحيّة والسلام.

مستدرك سفينة البحار: ج8 ص257.

سورة الكهف، آية21.

الدعاء موجود في بحار الأنوار: ج82 ص229 233 طبعة بيروت.

وأبوه من العلماء الأجِلاّء وقد توفّي ودفن في قم المقدّسة في مقبرة باغ ملّي، القريبة من مقبرة علي بن بابويه القمّي.

سورة فاطر، آيه43.

سورة الأنبياء، آية92، وسورة المؤمنون، آية53.

سورة الحجرات، آية10.

سورة الأعراف، آية157.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.