وضوء النبي صلى الله عليه و آله من خلال ملابسات التشريع

اشارة

نام كتاب: وضوء النبي صلى الله عليه و آله من خلال ملابسات التشريع

نويسنده: علي الشهرستاني

موضوع: اعتقادات و پاسخ به شبهات

زبان: عربي

تعداد جلد: 1

ناشر: نشر مشعر

مكان چاپ: تهران

سال چاپ: 1416 ه. ق.

نوبت چاپ: 2

ص:1

اشارة

ص:2

ص:3

ص:4

ص:5

ص:6

ص:7

ص:8

مقدّمة المؤلّف:

مقدّمة الناشر:

إنّ بحثاً بهذه الشمولية والإحاطة الكاملة بمسألة من مسائل الطهارة «الوضوء» يعدّ وبحقّ موسوعة عظيمة تفتح للقارئ العزيز آفاقاً جديدة لخوض المسائل الفقهية المختلف فيها، وبحثها من زوايا مختلفة، والوصول إلى الرأي الصواب.

قسّم المؤلّف كتابه هذا «وضوء النبي» إلى مدخل وثلاثة أقسام:

المدخل: البحث التاريخي.

القسم الأول: البحث الروائي.

القسم الثاني: البحث القرآني واللغوي.

القسم الثالث: البحث الأُصولي والتأسيسي.

وقد طبع المدخل في خمسمائة وعشرصفحات، ولا زال المؤلّف يدأب على تكميل موسوعته هذه بجدّ واجتهاد، وفّقه اللَّه لاتمامها.

ولما كان المدخل يشتمل على بحوث مهمّة، فيه شرح الملابسات التاريخية التي أحاطت بالوضوء، وتحديد زمن الاختلاف، وبيان المفردات والأسباب، ممّا تعطي للباحث الطرق الجديدة للدخول في سائر المسائل الفقهية.

عزمنا على على تجديد طبعه مع بعض الاختصار وبعض الاضافات من المؤلّف حفظه اللَّه ورعاه، وإخراجه بصورة مناسبة وشأنه.

ص:9

اتّبع المحقّقون في دراساتهم للنصوص التاريخية والحديثية أُسلوبين:

1) البحث الإسنادي

2) النقد الدلالي

لكنّا نرى غلبة الأُسلوب الأول في كتابات علمائنا المعاصرين وفقهاء الإسلام، علماً بأنّ نقد المتن ودراسته لم يكن بالشي ء الجديد الحادث ووليد العصور المتأخّرة، بل هو نهج سار عليه الأقدمون، وعمل به الصحابة والتابعون، وكثير من فقهاء الإسلام.

روى الحاكم في «المستدرك» في كتاب العتق، بإسناده عن عروة بن الزبير، أنَّه قال: بلغ عائشة أنّ أبا هريرة يقول: إنّ رسول اللَّه (ص) قال: «لأن أُقنّع بسوط في سبيل اللَّه أحبّ إليّ من أن أُعتق ولد الزنى»، وإنّ رسول اللَّه (ص)

ص:10

قال: «ولد الزنى شر الثلاثة»، وإنّه قال: «الميت يعذّب ببكاء الحيّ».

فقالت عائشة: رحم اللَّه أبا هريرة، أساء سمعاً فأساء إجابة، أمّا قوله: «لأن أُقنّع بسوط في سبيل اللَّه أحبّ إليّ من أن أُعتق ولد الزنى»، فإنّها لما نزلت «فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة فكّ رقبة»، قيل: يا رسول اللَّه، ما عندنا ما نعتق، إلّاأنّ أحدنا له الجارية السوداء، تخدمه وتسعى عليه، فلو أمرناهنّ، فزنين، فجئن بأولاد فأعتقناهم، فقال رسول اللَّه: «لأن أُقنّع بسوط في سبيل اللَّه، أحبّ إليّ من أن آمر بالزنى، ثمّ أُعتق الولد».

وأمّا قوله: «ولد الزنى شرّ الثلاثة» فلم يكن الحديث على هذا، إنّما كان رجل من المنافقين يؤذي رسول اللَّه (ص)، فقال: «من يعذرني من فلان؟»، قيل: يا رسول اللَّه، إنّه مع ما به ولد زنى، فقال: «هو شر الثلاثة» واللَّه تعالى يقول: «ولا تزر وازرة وزر أُخرى».

وأمّا قوله: «إنّ الميت يعذّب ببكاء الحي» فلم يكن الحديث على هذا، ولكن رسول اللَّه (ص) مرّ بدار رجل من اليهود، قد مات، وأهله يبكون عليه، فقال: «إنّهم يبكون عليه وإنّه ليعذّب». واللَّه يقول: «لا يكلّف اللَّه نفساً إلّا وسعها» «(1)».

كما أنّ عائشة قد نقدت أبا هريرة لما رواه عنه (ص): «من حمل ميتاً فليتوضّأ» فقالت: أونجس موتى المسلمين؟ وما على رجل لو حمل عوداً؟ «(2)» ونراها تنقد أيضاً عمر بن الخطاب، وابنه عبد اللَّه، والمغيرة بن شعبة، لروايتهم عن رسول اللَّه حديث: «الميت يعذّب ببكاء أهله عليه» فقالت:

يرحم اللَّه عمر، لا واللَّه ما حدّث رسول اللَّه «إنّ اللَّه ليعذّب المؤمن ببكاء أهله عليه» ولكنّه قال: «إنّ اللَّه يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه» ثمّ قالت:


1- المستدرك 2: 215 ومصدر آخر.
2- سنن البيهقي 1: 307.

ص:11

حسبكم القرآن «ولا تزر وازرة وزر أُخرى». وقال ابن عباس عند ذلك:

«واللَّه أضحك وأبكى» «(1)» أي إنّ الابكاء لو كان من اللَّه سبحانه وتعالى، فلماذا يعذّب الميت ببكاء أهله عليه؟

ثمّ بيّنت عائشة سبب ورود الحديث عند نقدها لقول ابن عمر، فقالت:

رحم اللَّه أبا عبد الرحمن، سمع شيئاً فلم يحفظه، إنّما مرّت على رسول اللَّه (ص) جنازة يهودي وهم يبكون عليه. فقال: «أنتم تبكون وإنّه ليعذّب» «(2)».

ونراها تنتهج أُسلوب النقد التعريضي في بعض الأحيان.

منها: أنها نقدت تلويحاً حديثي أبي هريرة وابن عمر: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير من أن يمتلئ شعراً» «(3)» بما روت عنه (ص) بأنّه كان يضع لحسّان منبراً في المسجد فيقوم عليه يهجو من قال في رسول اللَّه (ص) وقوله (ص): «إنّ روح القدس مع حسان ما نافح عن رسول اللَّه» «(4)» ثمّ احتملت في حديث آخر أن يكون الخبر هكذا: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً ودماً خير من أن يمتلئ شعراً هُجيت به» «(5)».

وخطّأت الخليفة عمر فيما رواه عن رسول اللَّه من نهيه عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس والعصر حتى تغرب «(6)» بقولها: وهم عمر، إنما نهى رسول اللَّه أن يتحرّى طلوع الشمس وغروبها «(7)».

وروي عن عبد اللَّه بن عمر أنَّه خطّأ أباه- تلويحاً- بقوله: أُصلّي كما رأيت أصحابي يصلّون، لا أنهى أحداً يصلّي بليل ولا نهار ما شاء، غير أن لا تحرّوا


1- صحيح مسلم 2: 642 ذيل الحديث 23.
2- صحيح مسلم 2: 642/ 25.
3- مسند أحمد 1: 177، صحيح البخاري 8: 45، سنن ابي داود 4: 302/ 5009.
4- سنن ابي داود 4: 304/ 5015، المعجم الكبير 4: 37/ 3580، الفردوس 1: 152/ 550.
5- فتح الباري 10: 452.
6- صحيح البخاري 1: 152، صحيح مسلم 1: 566- 567.
7- صحيح مسلم 1: 571/ 295، ومسند أحمد 6: 124، والنسائي 1: 278- 279.

ص:12

طلوع الشمس وغروبها «(1)».

ولم تنجُ هي من نقد الصحابة، فقد نقدتها نساء النبي (ص) لقولها برضاع الكبير «(2)» فقلن لها: فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا، ما نرى هذه إلّارخصة أرخصها رسول اللَّه لسالم خاصة «(3)».

هذا وإنّا نرى عليّ بن أبي طالب ينقد حكم عمر بن الخطاب برجم المرأة التي ولدت لستة أشهر مستدلًا بقوله تعالى: «والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين»، وقوله «وحمله وفصاله ثلاثون شهراً» فستة أشهر حمله، و «حولين» تمامٌ، فذلك ثلاثون شهراً، فخلّى سبيلها «(4)».

أو نرى تلك المرأة التي اعترضت على حكم الخليفة عمر بن الخطاب في المهر بقولها: يا أمير المؤمنين، نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم؟ قال: نعم، فقالت: أما سمعت ما أنزل اللَّه في القرآن؟ قال: وأيّ ذلك؟ فقالت: قوله تعالى «وآتيتم إحداهنّ قنطاراً»؟ فقال: اللّهمّ غفرانك، كلّ الناس أفقه من عمر، ثمّ رجع «(5)». الخبر.

كما أنّ عليّ بن أبي طالب قد نقد الخليفة عثمان في أكلهصيد المحلّ وهو محرّم، فجاء في الخبر:

إنّ عثمان حجّ، فحجّ معه عليّ، فأُتي عثمان لحمصيدصاده حلال، فأكل منه ولم يأكله عليّ، فقال عثمان: واللَّه ماصدنا ولا أمرنا ولا أشرنا، فقال عليّ: «قال سبحانه وتعالى: «وحرّم عليكمصيد البرّ ما دمتم حرماً»» «(6)».


1- صحيح البخاري 1: 153.
2- أي أن رضاع الكبير بمثابة رضاع الصغير في المحرمية، وقد نقد البعض هذا القول بما صدر عنه ص لا رضاع بعد فصال، وقوله ص:« لا رضاع إلّاما شدّ العظم وأنبت اللحم».
3- سنن البيهقي 7: 459- 460.
4- سنن البيهقي 7: 442.
5- سنن البيهقي 7: 233.
6- مسند أحمد 1: 100 بتفاوت يسير.

ص:13

وقد نقده «(1)» فيما أفتى به عن الرجل إذا جامع امرأته ولم يُمْنِ: بأن يتوضّأ كما يتوضّأ للصلاة ويغسل ذكره «(2)».

بقوله: «أتوجبون الحد والرجم ولا توجبون عليهصاعاً من ماء؟ إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل» «(3)».

وابن عباس نقد أبا هريرة لما رواه عن رسول اللَّه: «توضّؤوا ممّا مسّت النار» بقوله: «أتوضّأ من الحميم» «(4)». أي لو وجب الوضوء ممّا مسّت النار لوجب الوضوء من استعمال الماء الساخن، وهذا ممّا لم يقل به أحد، والمعهود في الشريعة أنّ الوضوء ينتقض بالخارج النجس لا بالداخل الحلال الطاهر، وكيف يجعل الرسول (ص) الطعام الحلال الطاهر ناقضاً للوضوء؟!!

هذا، وقد احتمل البعض أن يكون مسّ الفرج من نواقض الوضوء، ومنهم ذلك الأعرابي الذي سأل رسول اللَّه عنها فأجاب (ص): «وهل هي إلّامُضغة منه أو بُضعة منه»؟!!

هذه بعض النصوص ذكرناها للوقوف على نهج السلف في تعاملهم مع الأحكام والروايات الصادرة عن الصحابة، وأنّهم كانوا يطرحون البعض منها لمخالفتها للأُصول الثابتة في الشريعة ومنافاتها للعقل والفطرة، وكفى بها شاهداً على أصالة هذا النهج عند الأقدمين.

لكنّنا نتساءل: إنّه هل يمكننا تعميم هذا للكتّاب المعاصرين والعمل على


1- وكذا نقد بعض أصحاب الرأي، راجع مسند أحمد 5: 115.
2- البخاري 1: 56، صحيح مسلم 1: 270/ 86.
3- تهذيب الأحكام 1: 119/ 314.
4- سنن الترمذي 1: 52/ 79.

ص:14

ضوئه، أم أنّه كان رخصة للصحابة فقط، فلا يحقّ لنا خوض هذا الميدان؟!

قال الأُستاذ أحمد أمين- في معرض حديثه عن منهج علماء الحديث-:

«... وقد وضع العلماء للجرح والتعديل قواعد، ليس هنا محلّ ذكرها، ولكنّهم والحقّ يقال عنوا بنقد الإسناد أكثر ممّا عنوا بنقد المتن، فقلّ أن تظفر منهم بنقد من ناحية أن ما نسب إلى النبي (ص) لا يتّفق والظروف التي قيلت فيه، أو أنّ الحوادث التاريخية الثابتة تناقضه، أو أنّ عبارة الحديث نوع من التعبير الفلسفي يخالف المألوف في تعبير النبي، أو أنّ الحديث أشبه في شروطه وقيوده بمتون الفقه، وهكذا. ولم نظفر منهم في هذا الباب بعُشر معشار ما عنوا به من جرح الرجال وتعديلهم، حتى نرى البخاري نفسه، على جليل قدره ودقيق بحثه، يُثبت أحاديث دلّت الحوادث الزمنية، والمشاهد التجريبية على أنّها غيرصحيحة لاقتصاره على نقد الرجال» «(1)».

وقد لخّص الدكتورصلاح الدين الأدلبي كلام الدكتور أحمد أمين في ضحى الإسلام بقوله:

«... ولاحظ في كتابه ضحى الإسلام، أنّ الُمحَدِّثين عنوا عناية فائقة بالنقد الخارجي، ولم يعنوا هذه العناية بالنقد الداخلي، فقد بلغوا الغاية في نقد الحديث من ناحية رواته جرحاً وتعديلًا، فنقدوا رواة الحديث في أنّهم ثقات أو غير ثقات، وبيّنوا مقدار درجتهم في الثقة، وبحثوا هل تلاقى الراوي والمروي عنه أو لم يتلاقيا؟ وقسّموا الحديث باعتبار ذلك ونحوه، إلى حديثصحيح وحسن وضعيف، وإلى مُرسل ومُنقطع، وإلى شاذ وغريب، وغير ذلك، ولكنّهم لم يتوسّعوا كثيراً في النقد الداخلي، فلم يتعرّضوا لمتن الحديث هل ينطبق على الواقع أم لا؟!

ويقول: إنّهم كذلك، لم يتعرّضوا كثيراً لبحث الأسباب السياسية التي قد تحمل على الوضع، فلم نرهم شكّوا كثيراً في أحاديث لأنّها تدعم الدولة الأُموية أو العباسية أو العلوية، ولا درسوا دراسة وافية البيئة الاجتماعية في


1- فجر الاسلام: 217- 218.

ص:15

عهد النبي (ص) والخلفاء الراشدين والأُمويين والعباسيين وما طرأ عليها من خلاف، ليعرفوا هل الحديث يتمشّى مع البيئة التي حكي أنَّه قيل فيها أو لا؟

ولم يدرسوا كثيراً بيئة الراوي الشخصية وما قد يحمله منها على الوضع وهكذا.

ثمّ يبيّن [الدكتور] أنّهم لو اتّجهوا كثيراً إلى نقد المتن وأوغلوا فيه إيغالهم في النوع الأوّل، لانكشفت أحاديث كثيرة وتبيّن وضعها مثل كثير من أحاديث الفضائل، وهي أحاديث رويت في مدح الأشخاص والقبائل، والأُمم، والأماكن، تسابق المنتسبون لها إلى الوضع فيها، وشغلت حيزاً كبيراً من كتب الحديث.

ثمّ نقل الدكتور قول ابن خلدون: «وكثيراً ما وقع للمؤرّخين والمفسّرين وأئمّة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرّد النقل، غثاً وسميناً، ولم يعرضوها على أُصولها، ولا قاسوها بأشباهها ولا سيّروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلّوا عن الحقّ وتاهوا في بيداء الوهم والغلط» «(1)».

وجاء في ظهر الإسلام لأحمد أمين: كما يؤخذ عليهم أنّهم عنوا بالسند أكثر من عنايتهم بالمتن، فقد يكون السند مدلساً تدليساً متقناً، فيقبلونه مع أنّ العقل والواقع يأبيانه، بل قد يعدّه بعض المحدثينصحيحاً لأنّهم لم يجدوا فيه جرحاً، ولم يَسْلم البخاري ولا مسلم من ذلك، وربما لو امتحن الحديث بمحكّ أُصول الإسلام لم يتّفق معها وإنصحّ سنده «(2)».

«ونخلص إلى القول أنّ النظر في سند الحديث فقط لا يكفي للتأكد منصحّته، بل لابدّ لنا أيضاً من النظر في متن الحديث حتى يسلم من كلّ ما يشوبه


1- منهج نقد المتن: 12 عن ضحى الإسلام 2: 130- 133، ومقدّمة ابن خلدون: 9.
2- ظهر الإسلام 2: 48.

ص:16

من علل وشوائب، فاذاصحّ السند وسلم المتن كان لنا الحديث الصحيح.

ويمكن أن نعطي مثلًا واقعياً من حياتنا اليوميّة، فإذا أخبرك رجل عن آخر خبراً، كان أوّل ما يسبق إلى خاطرك، أن تستوثق منصدق المخبر بالنظر في حاله وأمانته ومعاملته، وغير ذلك من الملاحظات التي تراها ضرورية لك للتأكّد منه.

فإذا استوثقت من الرجل نظرت بعد ذلك في الخبر نفسه وعرضته على ما تعرض عنصاحبه من أقوال وأحوال، فإذا اتّفق مع ما تعلمه من ذلك، لم تشك بصدق المخبر والاطمئنان إليه، وإلّا كان لك أن تتوقّف في قبول الخبر لا لريبة في المخبر- فأنت واثق منصدقه- بل لشبهة رأيتها في المخبر نفسه، ويصحّ أن يكون مرجعها وهماً أو نسياناً من المخبر، كما يصحّ أن ترجع إلى سرّ فيه لأمر لم تتبيّنه، فلعلّ هذه الحالة علينا أن نتوقّف عند الخبر لنطمئنّ إلىصحّته، ولا نتسرّع في حكمنا أنَّه كاذب، وإذا فعلنا ذلك يكون منّا افتئاتاً على من أخبرنا ونحن له مصدّقون وبه واثقون.

إنّ هذا الموقف الذي عنه تحدّثنا هو نفسه حدث للعلماء في أحاديث رسول اللَّه» «(1)».

وبهذا فقد عرفنا ضرورة دراسة المتن، حيث إنّ الواقع سيكشف خطأ بعض النصوص، والأجواء السياسية تكشف زيف الآخر منه؛ ولو تمّت مقايسة النص مع الظروف التي قيلت فيه، وبيئة الراوي، وبيان ملابسات الخبر السياسية والاجتماعية الحاكمة آنذلك، ودواعي ناقلي النص، وعرضها على أُصول الإسلام والفطرة البشرية بعيداً عن الرواسب الطائفية والنزعات الإقليمية، لدلّت تلك النصوص بنفسها على نفسها، ولعرف القارئ بأنّ الكثير منها جاء تحت تأثيرات الحكّام وتبعاً لآرائهم فقهيّاً وسياسياً، ونرى بعض


1- نقد الحديث 1: 431- 432 للدكتور حسين الحاج حسن ط مؤسسة الوفاء بيروت.

ص:17

تلك الأحاديث والأحكام باقية في مصنّفات أعلامنا- ولحدّ اليوم- لم يناقشها الباحثون ولم ينقدها الناقدون.

علماً بأنّ ظاهرة نقد المتن- وكما قلنا- كانت شائعة في العهد الأول، وعمل بها بعض التابعين، ونراها أيضاً في كلمات فقهاء الإسلام والمحدثين، فمثلًا حديث أبي هريرة «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه» «(1)» نراه يخالف أوّله آخره، لأنّ المصلّي لو وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير، حيث إنّ البعير يضع يديه أولًا وتبقى رجلاه قائمتين، فإذا نهض فإنّه ينهض برجليه أولًا وتبقى يداه على الأرض.

كما أنّ بعض الُمحَدِّثين يروي عن عائشة عن رسول اللَّه أنَّه قال: «إنّ الحيضة سلّطت على النساء عقوبة لهنَّ»، في حين أنّ هذا الخبر يعارض المنقول عنها، وأنّ الحيضة مكتوبة على كلّ امرأة و لا علاقة لها بالعقوبة، فقد قال لها (ص) وهي معه في طريق الحج وقد رآها تبكي: «ما لك أنفست؟» قالت: نعم، فقال (ص): «إنّ هذا أمر كتبه اللَّه على بنات آدم فاقضي ما يقضي الحاج» «(2)».

وقال (ص) قريباً من هذا الحديث لأُمّ سلمة «(3)».

كذلك نلاحظ أنّ أبا هريرة يحدّث عن رسول اللَّه أنَّه قال: «خلق اللَّه التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم ... حتى يعدّ خلق العالم في سبعة أيّام» «(4)» وهو مخالف لصريح القرآن الذي جاء في سبع آيات من سبع سور منه بأنّه سبحانه خلق العالم في ستّة أيّام «(5)».

وبناءً على ذلك فقد عرفنا بأنّ مناقشة دلالة النص ظاهرة عمل بها السّلف


1- سنن أبي داود 1: 222/ 840، سنن الدارمي 1: 303، مسند أحمد 2: 381.
2- صحيح البخاري 1: 81، وصحيح مسلم 2: 873/ 119.
3- سنن الدارمي 1: 243، صحيح البخاري 1: 82 بتفاوت.
4- أخرج هذا الحديث مسلم والنسائي وأحمد والبخاري في التاريخ الكبير وغيرهم.
5- الأعراف: 54، يونس: 3، هود: 7، الفرقان: 59، السجدة: 4، الحديد: 4، ق: 38.

ص:18

ودعا إليها العقل، وهي سيرة الفقهاء والتابعين، ولم تختصّ بزمن دون أخر، ولم تكن رخصة للصحابة فقط، حيث إنّ الشريعة الإسلامية هي شريعة الفطرة والعقل، وإنّ الأوامر والنواهي فيها تابعة للمصالح والمفاسد، فلا يعقل أن لا يسمح الشرع بالاجتهاد في الأحكام.

نعم، إنّ إخضاع الأحاديث لأحكام العقول- مع عدم وجود ما يؤيّد ذلك من القرآن أو السنّة الشريفة- هو ممّا يأباه اللَّه ولا يرضى به الشرع، لأنّ الأحكام الشرعية أُمور توقيفية تعبدية، وبما أنّ القرآن قطعي الصدور فلا كلام فيه.

وأمّا السنّة: فهي ظنيّة الصدور، فيجب التثبّت في أسانيدها، ومفاد دلالتها، ولحاظ الأجواء السياسية الحاكمة آنذاك، وعرضها على الأُصول الثابتة، ولا يمكن ترجيح جانب على آخر في مناقشاتنا للنصوص، بل يلزم لحاظ كلا الجانبين حتى يمكننا تمحيص الحجة فيها.

أمّا شيوع ظاهرة البحث السندي- طبق أُصول مذهبية خاصة- بعيداً عن نقد المتن فهو لا يخدم الباحث العلمي، ولا يمكنه من الوصول إلى الفقه الإسلامي بشكله المطلوب.

مضافاً إلى أنّ ناقدي المتن يعتقدون بأنّ عملهم يبتعد عن جانبي الإفراط والتفريط، وأنّ إخضاع الحديث لسلطان العقل يخرج الشريعة من التعبّد بأحكام اللَّه، بل تكون من باب حكومة الهوى في الحديث لا الحديث في العقل «(1)».

وفي الوقت نفسه لا يرتضون الأخذ بكلّ حديث ثبتتصحّته في المجاميع الحديثية مع كونه مخالفاً للأُصول المسلّمة الشرعية والفطرة البشرية، حيث إنّ


1- انظر ضحى الإسلام لأحمد أمين 3: 85.

ص:19

الاعتقاد بصحّة تلك الأحاديث والبتّ فيصدورها عن النبي (ص) ستكون ذريعة بيد الطاعنين في الإسلام للنيل من الشريعة المقدّسة.

وقد دخل بعض الأعلام في مناقشات لفظية وتأويلات بعيدة لتصحيح بعض تلك الأحاديث- المخالفة للعقل والفطرة- وقدصارت نفس تلك التأويلات ذريعة بيد المغرضين للنّيْل من أصالة الفكر الإسلامي والهجوم على السنة الشريفة.

فنحن لو لاحظنا الجانبين في دراساتنا لتعادلت كفّتا الميزان، ولأمكن التعرّف على الحكم الإلهي الموافق للعقل والفطرة، ولم يكن في الشريعة ما يأباه الوجدان.

وأمّا تخوّف البعض من شيوع هذه الظاهرة في الدراسات، بحجّة أنّها تؤدّي إلى خروج بعض الأحاديث، فقد خاطبهم الدكتور الأدلبي في كتابه منهج نقد المتن بقوله:

وبالنسبة للذين يميلون إلى التضييق من شروط الصحيح، وعدم التشدّد فيها ويرون توسيع دائرة ما يشمله المقبول منصحيح وحسن، فهم إنّما أداهم الورع إلى الخوف من أن يحكموا على نص بالضعف، ويكون في الحقيقة ثابتاً عن رسول اللَّه (ص) وما درى هؤلاء بأنّ الأمر في الحديث ليس أمر تقليل ولا تكثير، بل هو تحرّ وتدقيق، بالإضافة إلى أن ما ثبت عن رسول اللَّه (ص) فيه ما يهدينا إلى كلّ خير، ويباعدنا عن كلّ شر، ولا يحوجنا للاهتداء بأحد سواه.

أمّا موضوع الورع فهذا مهمّ جداً، ولكن هل نتورّع من أن نخرج من الحديث ما هو منه، ولا نتورع من أن ندخل فيه ما ليس منه؟!

الحقيقة أنّ كلًّا منهما خطير، لكن ماذا يترتّب على كلّ واحد لنرى أيّهما أشدّ خطراً؟

أرى أن إدخال ما ليس من الحديث في نصوص الحديث فيه زيادة نص،

ص:20

وقد يؤدّي إلى زيادة حكم، ويخشى معه من الدخول تحت الوعيد الشديد الوارد فيمن كذب عليه (ص)، وأن إخراج ما هو من الحديث من نصوص الحديث فيه نقص نص، وقد يؤدّي إلى نقص حكم، ويخشى معه من الدخول تحت الوعيد الشديد الوارد فيمن كتم علماً، لكن النقص من مجموعة كاملة شاملة، غالباً ما يهتدى إليه ويستدلّ عليه، من نظائره في المجموعة الكاملة، فالخوف من النقص إن لم يكن أقل من الآخر خطراً فهو إن شاء اللَّه ليس بأكثر منه واللَّه أعلم «(1)».

وعليه، فنحن لا نريد أن نميل إلى هذا القول أو ندحض ذلك، بل نؤكّد على لزوم دراسة كلا الجانبين في البحوث العلمية، وأن لا يكتفي المؤرّخ أو الفقيه بأحدهما تاركاً الآخر، وأنّ دراسة أسانيد الروايات دون معرفة ملابسات الحكم التاريخية والجغرافية والسياسية لا تفيد الباحث العلمي كما قلنا، وأنّ وقوف المجتهد وحتى المكلف على تاريخ التشريع وتطوّر الحكم وملابساتصدوره تعطيه رؤية جديدة وتفتح أمامه آفاقاً واسعة.

وقد انتهجنا هذا الأُسلوب في دراستنا واتّبعناه لا لشي ء، إلّالتطوير وإشاعة مثل هذه الدراسات في معاهدنا العلمية وجامعاتنا الإسلامية، على أمل تعاون المعنيين معنا في ترسيخ هذه الفكرة وتطويرها، وأن لا يدرسوا الفقه دراسة إسنادية فقط دون معرفة ملابسات الحكم التاريخية والسياسية، ونرى في طرح مثل هذه الدراسات رُقيّاً للمستوى الفقهي والأُصولي عند المذاهب الإسلامية، وتقريب وجهات النظر بين المسلمين وترسيخ روح الإنفتاح فيهم، ومحاولة القضاء على مختلف النزعات العاطفية وإبعادها عن مجالات البحث العلمي، وعدم السماح لتحكيم الخلفيات الطائفية، والرواسب الذهنية في مثل هذه البحوث العلمية النظرية.


1- منهج نقد المتن: 23.

ص:21

ولو اتّبعنا مثل هذا الأُسلوب في جميع أبواب الفقه لوصلنا إلى حقيقة الفقه الإسلامي من أيسر طرقه وأسلمها ولو وقفنا على تاريخ التشريع وملابساته، ولاتّضحت لنا خلفيّاتصدور بعض الأحكام وعرفنا حكم اللَّه الواحد والذي ينشده الجميع.

نرجو أن لا نكون جدليين في بحوثنا، ومن الذين لا يهمّهم معرفة الواقع بقدر ما يهمّهم الانتصار لآرائهم ومذاهبهم، ويبدو أنّ طرح مثل هذه الآراء بهدوء وموضوعية مع عرض مختلف وجهات النظر عند جميع المسلمين سيكون عاملًا للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ورفعة للمستوى العلمي بينهم، لأنّ الناس أعداء ما يجهلون، وباتّضاح نقاط الرأي قوة وضعفاً ربّما تتوقّف موجة تفسيق أو تكفير الآخرين.

وإنّ دراستنا لكيفية «وضوء النبي» جاء تحقيقاً لهذا الهدف، ولا نبغي من ورائه إلّاالجانب العلمي، وتوسيع أُفق التفاهم البنّاء بين علماء المسلمين، وهو نقاش علمي نزيه، تطرح فيه الآراء بأناة وموضوعية، ولم يقصد به التشكيك بفقه مذهب أو المساس بعقيدة طائفة، بل إنّها نظرية علمية قد توصّلنا إليها وفق شواهد تاريخية وفقهية، ولا ندّعي عدم الخطأ فيها مع اعتقادنا بصحّتها، والمأمول من إخواننا أن يتعاملوا مع الأُطروحة كتعاملنا معها، وأن يجعلوا لصحّة المدّعى نصيباً بإزاء ما يعتقدون فيها من الخطأ، وأن لا يرمونا بالبهتان أو التقوّل قبل مراجعتهم المصادر.

علماً بأنّ محاكمة النص أو نقد كلام الصحابي لا يعني- بنظرنا- تفسيقه أو تكفيره، وخصوصاً لو عضد بما يؤيّده من القرآن أو السنّة الشريفة أو أكّدته النصوص التاريخية والأحداث السياسية الحاكمة وقتصدور النص، وكذا الأمر بالنسبة لنقلنا كلاماً عن أحد فإنّه لا يعني اعتقادنا بصحّة جميع ما قاله وتبنّينا لآرائه وأفكاره.

ص:22

هذا وإنّ ظاهرة الوضع في الحديث كانت منذ عهد النبي لكنّها انتشرت أواخر عهد الخلفاء الراشدين بسبب الفتنة الكبرى وانقسام المسلمين إلى شيع وأحزاب، وإنّ دراسة نصوص هذه المرحلة وما بعدها جديرة بالبحث، وخصوصاً لو احتملنا تدخّل الأهواء السياسية، أو إمكان اشتباه الصحابي أو الراوي في فهم الأحكام «(1)» وقد اتّضح لك بأنّ ذلك ما لا يستبعده أحد، وقد نقلنا سابقاً نصوصاً عن الصحابة يخطّئ البعض منهم الآخر فيها، وتراجع بعض المفتين عن آرائهم- لقوّة دليل الناقد أو موافقتها للقرآن والعقل-.

وهناك آراء كثيرة في الشريعة يلزم التحقيق في أطرافهاوالتثبّت في دلالتها، مع كون بعضها من المسلّمات البديهية والتي لا يمكن التشكيك فيها، لكنّا لو عرضناها على القرآن وقيست بحوادث تاريخية وروايات أُخرى لدلّت بنفسها على نفسها بأنّها قابلة للتشكيك، وإنّا على ثقة لو أنّ تلك الأدلّة والشواهد طرحت علىصاحب الرأي أو ناقل الحديث لأمكن رجوعه عن رأيه كما فعل ذلك كبار الصحابة والتابعين، أمّا ترك مناقشة الروايات ودراستها بل إعطاء جميع الأحاديث الصحاح هالة من التقديس ولزوم التعبّد بها، ثمّ اختلاق التأويلات لها، فهو ممّا يأباه الوجدان ولا يقبله الشرع والعقل.

وقد نقل الإمام مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري في مقدّمةصحيحه عن محمّد بن سيرين، أحد فضلاء التابعين، في معرض حديثه عن الفتنة: «.. لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلمّا وقعت الفتنة، قالوا: سمّوا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنّة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم» «(2)».

قال الدكتور مصطفى سعيد الخن وهو بصدد بيان أسباب الخلاف بين


1- راجع كتاب الانصاف في بيان سبب اختلاف الصحابة للدهلوي.
2- صحيح مسلم 1: 15.

ص:23

المسلمين:

«... ولقد كانت رقعة الخلاف في عهد الصاحبين أبي بكر وعمر ضيّقة جدّاً، وسبب ذلك أنّ الصحابة لم يتفرّقوا في الآفاق، وكانا يرجعان إليهم فيما جدّ من المسائل.

عن ميمون بن مهران قال: كان أبوبكر الصدّيق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب اللَّه تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب اللَّه نظر في سنة رسول اللَّه (ص)، فإن وجد ما يقضى به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس هل علمتم أنّ رسول اللَّه (ص) قضى فيه بقضاء؟

فربّما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا، وإن لم يجد سنّة سنّها النبي (ص) جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شي ء قضى به، وكان عمر يفعل ذلك فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنّة سأل: هل كان أبوبكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به، وإلّا جمع الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شي ء قضى به «(1)».

ثمّ بدأت حلقة الخلاف تتّسع من بعدهما، ولقد ساعد على تفشّي الخلاف انسياح أصحاب رسول اللَّه في البلدان المفتوحة واتّخاذهم إيّاها وطناً، وتلقي أبنائها عنهم ما سمعوه عن رسول اللَّه (ص) وقد يكون عند بعضهم ما لا يكون عند الآخر ...» «(2)».

وعليه فإنّ البحث الإسنادي- وكما قلنا- وحده لا يكفي في الدراسات التشريعية وخصوصاً في النصوص الصادرة في أيّام الفتنة الكبرى أو ما يتعلّق ويرتبط بها، إلّاإذا قيست بأقرانها و لوحظت الظروف السياسية الحاكمة آنذاك، وإنّ القارئ لو وقف على سلبيّات بعض تلك الروايات لوافقنا في


1- أعلام الموقعين 1: 61.
2- أثر الاختلاف في القواعد الأُصولية في اختلاف الفقهاء: 36- 37.

ص:24

انتهاجنا مثل هذا الأُسلوب لمعرفة الأحكام الشرعية ومحاكمتنا للنصوص.

وختاماً أرجو من قرّائي الأعزّاء أن لا يحكموا علينا بشي ء إلّابعد انتهائهم من قراءة جميع فصول الكتاب، ووقوفهم على وجهات النظر فيها.

آملين منهم أن لا يكونوا من الذين يتعاملون مع الدراسات العلمية كتعاملهم مع كتب الفكاهة والقصص، فيأخذون بعض الشي ء من أوّله وينتقلون إلى الوسط، وأخيراً تراهم يطرحون الكتاب- وفي بعض لحظات- كأنّهم قد أخذواصورة عميقة عن الكتاب ووقفوا على آراء مؤلّفه.

وكذا آمل منهم أن لا يكونوا كبعض رفاق السفر الذين يتركون أخاهم في نصف الطريق، بل الذي أرجوه منهم أن يواصلوا البحث معنا، وأن يتحمّلوا عناء الدرب وأن لا يتسرّعوا، ثمّ فليقضوا بما يشاؤون.

نرجو من سادتنا العلماء وإخواننا الفضلاء، والذين يرافقوننا في هذه الرحلة، أن يتحفونا بآرائهم ويوقفونا على نقاط ضعف الدراسة، ونحن على أتمّ الاستعداد لتقبّل كلّ نقد بنّاء يردُ إلينا، شريطة أن تكون لغتهم، لغة المنطق والعلم لا الفحش والسباب، وأن لا يخرجوا من الموضوعية، إذ إنّ النقد البنّاء يبعد روح التباغض ويوقف القائل على نقاط ضعفه، وينفي روح الكبرياء عنه، وبذلك تكون الأدلّة في متناول الناس، وهم في الخيار بالأخذ بأيّها شاؤوا، وقد قيل عن المتعلّمين أنّهم أبناء الدليل يميلون حيثما يميل.

هذا وقد جعلت دراستي في مقدمة وثلاث فصول:

أمّا المقدّمة فهو بحث تمهيدي، بمثابة المدخل للدراسة، بحثت فيه «تاريخ اختلاف المسلمين في الوضوء، أسبابه ودواعيه» وأشرت إلى ملابسات الأحكام الشرعية وأهمّ العوامل المؤثّرة في اختلاف المسلمين، وحصر المذاهب بالأربعة!

ص:25

أمّا فصول الكتاب فهي ثلاثة:

1) الأوّل «الوضوء والسنّة النبويّة»

2) الثاني «الوضوء في الكتاب واللغة»

3) الثالث «الوضوء في الميزان»

أمّا الفصل الأوّل «الوضوء والسنّة النبويّة» فقد درسنا فيه الروايات البيانيّة «(1)» والمتعارضة في الباب تحت ثلاث عناوين فرعية:

1- نسبة الخبر إليه

2- سنده

3- متنه

مع تقديمنا بحثاً لأسباب منع التدوين وكيفية حدوث اتّجاهين في الشريعة:

1- الرأي والاجتهاد

2- التعبّد المحض

مع الإشارة إلى أنّ «الناس» المتحدّثين في الوضوء كانوا من دعاة التعبّد المحض والمعتقدين بلزوم نقل ما سمعوه عن رسول اللَّه، في حين نرى خطّ الاجتهاد لا يرتضي التحديث إلّابما عُمل في عهد الشيخين.

وختاماً أعطيناصورة توفيقيّة للمنقول منصفة وضوء رسول اللَّه في الصحاح والسنن وتوحيد النقلين عنه (ص)- بقدر المستطاع- وبيان كيفية وضوئه أمام الناس.

أمّا الفصل الثاني «الوضوء في الكتاب واللغة» فقد بينّا فيه أهم سبب من أسباب اختلاف الفقهاء وهو: اختلافهم في الأخذ بالقراءات القرآنية، لأنّ


1- اشارة إلى المحكيّ من صفة وضوء رسول اللَّه في الصحاح والمسانيد.

ص:26

المشارب الفقهية في هذا الشأن قد اختلفت باختلاف القراءة موضحاً في أوّله سرّ تأكيد الخليفة عثمان بن عفّان على الأخذ بقراءة مصحفه دون غيرها من القراءات، وسعيه لتوحيد المسلمين على تلك القراءة وحرقه للمصاحف وتنكيله بالصحابة من أمثال ابن مسعود.

ثمّ جئت لأُحكّم القرآن ولغة العرب بين مدّعيات الخليفة وغيره من «الناس» في الوضوء، مع عرضي لأقوال وأدلّة فقهاء المذاهب عند بيان حكم كلّ عضو من أعضائه، مناقشاً فيها الأدلّة المطروحة، متّخذاً جانب الحياء في نقل الأقوال وعرض الآراء، داعماً ما اختاره بالشواهد والأدلّة.

هذا وقد ناقشت أحاديث «ويل للأعقاب من النار» وغيره من الأدلة التعضيدية والمستفاد منها لغسل الأرجل- سنداً ودلالة- ومدى حجّية تلك الأحاديث في إلزام المكلّف بغسل الأرجل في هذا الفصل؟!!

أمّا الفصل الثالث «الوضوء في الميزان» فنقدّم فيه خلاصة عمّا طرحناه في المدخل والفصلين السابقين وموازنة الآراء فيها للخروج بنتيجة يقبلها كلّ ذي لبّ، مع الإشارة إلى أُصول الاتّجاهين الفكرية، ومدى حجّية الأدلة المختلف فيها كفعل الصحابي وسنّة أهل البيت، والإشارة إلى القواعد المسبّبة لاختلاف فقهاء الإسلام.

وبذلك نكون فقد درسنا هذه المسألة الفقهية من جميع جوانبها التاريخية التشريعية، وها هو بين أيديكم مدخل هذه الدراسة.

ص:27

المدخل تاريخ اختلاف المسلمين في الوضوء أسبابه ودواعيه

وهو في بابين:

ص:28

ص:29

الباب الأوّل الوضوء في عهد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والخلفاء

اشارة

هل في الوضوء تشريعان؟

بدايات الخلاف الوضوئي:

متى حدث الخلاف؟

كيف؟

من هو البادئ؟

ما هي منزلة المختلفين؟

اتّفق الاتجاهان أم لا؟

ما هي مفردات الخلاف الوضوئي؟

ص:30

ص:31

توطئة:

كثيراً ما يتساءل البعض عن سبب الاختلاف بين المذاهب الإسلاميّة في الأحكام الشرعيّة، على الرغم من كون مصادر الحكم الشرعيّ- الكتاب، السنّة، الإجماع- واحدة عند الجميع.

فهل يا تُرى أَنَّ منشأَهُ يرجع إلى اختلافهم في تعريف هذه الأَدلّة ونحو دلالتها؟ أَم إلى الترديد في حُجِّيَّة القياس والاستحسان والاستصلاح والعرف و ...؟ أَم مردّه إلى تشعّب مشاربهم في معطيات الأصل العمليّ والدليل اللفظيّ؟ أَم مرجعه إلى النزعات الفرديّة والضغوط السياسيّة و ...؟

لا شكَّ أَنَّ لكلّ ما ذكر دوراً في حصول الاختلاف، وأنَّه بعض العلّة لا تَمامها؛ لسنا بصدد وضع أَجوبة لهذه التساؤلات، بل الذي يهمنا وندعو المعنيّين إليه هو دراسة الفقه وفق المناهج الحديثة، وأن لا يقتصر التحقيق عندهم على مناقشة النصوص الشرعيّة ودلالاتها بعيداً عن دراسة جذور المسألة وما يُحيط بها من ملابسات شتّى، إذ إنَّ دراسة الفقه مع ملاحظة ظروفه

ص:32

التاريخيّة والسياسيّة والاجتماعيّة هي الطريقة التي تخدم البحث العلميّ وتوصل إلى معرفة الحقيقة.

كما أَنَّ الجديّة في البحث والأمانة العلميّة تستلزم متابعة مختلف الآراء والأقوال عند جميع الأطراف؛ كي نتجاوز النظرة من زاوية محدودة وننطلق من الإطار المقيّد إلى عالم أَرحب؛ إذ أَنَّ النظرة الضيّقة وعدم الانفتاح يوصدان أَبواب التفاهم وتلاقح الأفكار، وبالنتيجة تحرمنا من قطف ثمار الاتصال بالآخرين والحوار معهم.

والآن بين أيدينا أمر عبادي مهم سنسلِّط الضوء عليه ليتَّضح لنا مدى عمق جذور الاختلاف وماهيَّته في مصداق واحد، ومن خلاله ربَّما تظهر ملامحصورة الاختلاف: وهي دراسة عن كيفيّة «وضوء النبيّ (ص)».

فكيف وقع الخلاف بين المسلمين في هذا الأمر المهم؟!

ولِمَ اختلف في مثل الوضوء، ذلك الفعل الذي كان يؤدِّيه النبيّ (ص) لعدّة مرّات في اليوم على مدى ثلاث وعشرين سنة، بمرأىً من المسلمين.

الوضوء الذي أَكَّد عليه النبيّ وجعله شرطاً للصلاة التي هي عمود الدين؛ فقال: «لاصلاة إِلَّا بطهور» «(1)»، وقال أَيضاً: «الوضوء شطر الإِيمان» «(2)»؟!

إذاً فالوضوء أَمر عباديّ، مارسه الرسول بمحضر المسلمين ثمَّ اتّبعوهُ بعد التعلّم العمليّ والبيان القوليّ منه، وهو لم يكن بالأمر الخفيّ، ولا بالتشريع المؤقّت المختصّ بفترة زمنيّة دون أُخرى، حتَّى تطمس معالمه، و تخفى ملامحُهُ بحيث يصل الحال إلى الاختلاف فيه.


1- سنن أبي داود 1: 16/ 59، سنن ابن ماجة 1: 100/ 271- 274، صحيح مسلم 1: 204 ب 2، مسند الإمام زيد: 68.
2- كنز العمّال 9: 288/ 26044، وص 316/ 26200، وفي صحيح مسلم 1: 203/ 1، ومسند أحمد 4: 260 بتفاوت يسير.

ص:33

فإِن كان الأمر كذلك، فما هي دواعي الاختلاف فيه؟ وما هي حقيقة البيان النبويّ الشريف لهذه المسألة المهمّة؟

للإِجابة عن هذين السؤالين وغيرهما؛ نقول: لابدّ من تنقيح البحث بشكل دقيق يخضع للمنهج العلميّ الحديث، وإِخضاع جميع ما ورد بهذا الشأن للدقّة والتمحيص، وهذا ما سنحاول القيام به في دراستنا للكشف عن أُمور غامضة تداخلت في هذه العبادة، وجعلتها مثاراً للأخذ والردّ؛ فنقول:

اختلف المسلمون تبعاً لاختلاف الصحابة في نقل وبيان وضوء رسول اللَّه (ص) على نحوين ونهجين رئيسيّين «(1)»، وكان لكلٍّ منهما- على ما وصل إِلينا من السلف- أَتباع وأَنصار، منصحابة وتابعين لهم يذودون عمّا يرتؤون، ويقيمون الأدلَّة والبراهين على ما يذهبون إليه.

ولكن قبل الخوض في غمار البحث، ومناقشة الأدلَّة ومدى حجِّيَّتها، لابدَّ من التمهيد للموضوع بمقدّمة نبحث فيها عن تاريخ الاختلاف وأَسبابه ودواعيه، بادئين ذلك بوضوء المسلمين في الصدر الإسلاميّ الأَوَّل.


1- يتلخّص النهجان في وضوء المذاهب الأربعة، ووضوء الشيعة الإماميّة والذي ستقف عليهما فيمايأتي من هذا الكتاب.

ص:34

الوضوء في العهد النبويّ

ممّا لا شكَّ ولا ريب فيه أَنَّ المسلمين في الصدر الأَوَّل كانوا يتوضّؤون كما كان النبيّ (ص) يتوضّأ بكيفيّة واحدة، ولم يقع بينهم أَيّ خلاف يذكر، وأَنَّه لو وجد لوصل إلينا ما يشير إليه، ولتناقلته كتب الحديث والسير والأَخبار؛ إذ إنَّ المشرِّع كان بين ظهراني الأُمَّة، وهو بصدد التعليم والإرشاد- لأُمّته الحديثة العهد بالإسلام كقوله (ص): «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي» أو «خذوا عني مناسككم»- فمن البعيد حدوث الخلاف بينهم مع كون الجميع يرجعون إلى شخص واحد للأخذ منه وقد قال سبحانه «فإن تنازعتم في شي ء فردّوه إلى اللَّه والرسول»، أضف إلى ذلك مشاهدتهم لفعله (ص) الذي هو السنَّة والرافع لكلّ لبس وإبهام؛ هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى: أنَّ الخلاف في كثير من الأُمور بين الأُمّة إنَّما هو وليد العصور المتأخِّرة التي جاءت بعد عهده الشريف قال الدكتور محمد سلام مدكور: لم يكن من سبيل الى وجود اختلاف بين الصحابة في الاحكام الفقهية في عصر الرسول (ص) وهو بين ظهرانيهم، يشرع لهم ويرجعون اليه، أما بعد

ص:35

وفاته فقد وجدت اسباب متنوعه أدت الى اختلاف النظر وتباين الاتجاه وقد يكون للسياسة دخل في هذا ...» «(1)».

نعم؛ قد يقال: إنَّ سبب اختلاف الأُمّة في الوضوء وجود تشريعين، كان النبيّ (ص) يفعلهما على نحو التخيير، دون الإشارة إلى ذلك!! أي أنَّه (ص):

كان تارة يتوضّأ حسبما رواه عثمان «(2)» وعبد اللَّه بن زيد بن عاصم «(3)» والربيِّع بنت المعوّذ «(4)» وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص «(5)» عنه (ص)؛ وأُخرى مثلما نقله عليّ ابن أبي طالب «(6)» ورفاعة بن رافع «(7)» وأوس بن أبي أوس «(8)» وعباد بن تميم بن عاصم «(9)» و ... عنه (ص).

فلو ثبت ذلك ... لصحّت كلتا الكيفيّتين، ولتخيّر المكلّف في الأخذ بأيّهما شاء وترك الآخر، فتكون حاله كبقيّة الأحكام التخييريّة.

لكنّ هذا الاحتمال في غاية البُعد؛ لأنّنا نعلم بأنّ الحكم الشرعيّ- سواء التعيينيّ أو التخييريّ- إنّما يأخذ مشروعيّته من الكتاب والسنّة، فكفّارة اليمين- مثلًا- دلّ عليها دليل من القرآن وهو قوله تعالى: «فكفّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون به أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة» «(10)»

فعرفنا على ضوء الآية بأَنَّ الحكم في كفّارة اليمين تخييري إمّا إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة.


1- مناهج الاجتهاد في الاسلام: 144.
2- سنن النسائيّ 1: 80، صحيح مسلم 1: 204/ 3، سنن البيهقيّ 1: 53، 68.
3- سنن النسائيّ 1: 71، صحيح مسلم 1: 210/ 18، سنن البيهقيّ 1: 50، 59.
4- سنن الدارقطنيّ 1: 96/ 5، سنن البيهقيّ 1: 64.
5- سنن البيهقيّ 1: 68.
6- شرح معاني الآثار 1: 34/ 156.
7- سنن ابن ماجة 1: 156/ 460، سنن البيهقيّ 1: 44، شرح معاني الآثار 1: 35/ 161.
8- كنز العمّال 9: 476/ 27042.
9- كنز العمّال 9: 429/ 26822، شرح معاني الآثار 1: 35/ 162.
10- سورة المائدة: 89.

ص:36

وكفّارةصوم شهر رمضان، قد دلّ عليها حديث الأعرابيّ «(1)»، ورواية أبي هريرة «(2)»؛ وهكذا الأمر بالنسبة إلى غيرهما من الأحكام التخييريّة ...

أَمَّا فيما نحن فيه، فلا دلالة قرآنيّة، ولا نصّ من السنّة النبويّة، ولا نقل منصحابيّ بأنّه (ص) فعلها على نحو التخيير؛ وليس بأيدينا ولا رواية واحدة- وإن كانت من ضعاف المرويّات- مرويّة عن أَيٍّ من الفريقين تدلّ على التخيير، بل الموجود هو التأكيد علىصدور الفعل الواحد عنه (ص) وقد اختلفوا في ذلك، فذهب بعض إلى أَنَّه (ص) غسل رجله، وذهب البعض الآخر إلى أَنَّه (ص) مسح رجله، واستند كلٌّ منهما الى القرآن والسنّة على ما ذهب إليه.

وإذا ما تتبَّع الباحث أَقوال علماء الإسلام فسوف يقف على أَنَّ الوضوء عندهم تعيينيّ لا تخييريّ؛ فغالب أتباع المذاهب الأربعة يقولون بلزوم الغسل في الأَرجل لا غير، أمّا الشيعة الإماميّة فإنَّهم لا يقولون إلَّابالمسح وحده، وإنَّ كلًا منهما ينسب قوله- مضافاً إلى دعوى استظهاره من الكتاب- إلى فعل رسول اللَّه (ص)، وهو ما جاء فيصحاح مرويّاتهم.

أمَّا القائلون بالجمع «(3)» أو التخيير «(4)»، فإنَّهم إنَّما يقولون بذلك لا على أساس أنَّ النبيّ (ص) جمع أو خَيَّر، بل إنَّ القائل بالجمع إنَّما يقول به لكونه مطابقاً للاحتياط، وأنَّه طريق النجاة؛ إذ الثابت عنده أنَّ الكتاب ورد بالمسح، وأنَّ السنّة وردت بالغسل، فأوجبوا العمل بهما معاً رعاية للاحتياط، لا على أساس أنَّ النبيّ (ص) جمع بينهما؛ وأنَّ ذلك هو المرويّ عنه (ص).

وكذا الحال بالنسبة للقائل بالتخيير، فإنَّه إنَّما ذهب إلى ذلك لتكافؤ الخبر


1- موطأ مالك 1: 297/ 29.
2- موطأ مالك 1: 296/ 28، صحيح البخاريّ 3: 41، صحيح مسلم 2: 781/ 81.
3- كالناصر للحقّ من أئمّة الزيديّة، وداود بن عليّ الظاهري وغيرهما.
4- كالحسن البصريّ، وأبي علي الجبائيّ، وابن جرير الطبريّ وغيرهم.

ص:37

عنده في الفعلين (المسح والغسل)، فالمكلَّف لو أتى بأيِّهما كان معذوراً؛ إذ لم يرجح عنده أحدهما حتّى يلزمه الأخذ به، وعليه فدعوى التخيير مجرد رأي جماعة قليلة من فقهائنا السابقين، فلا يمكن به نقض الإجماع المركّب بين المسلمين على أنَّ الوضوء إمَّا مسحيّ أو غسليّ، بل هناك أدلّة ستقف عليها لاحقاً ترجح أحد الطرفين وبها يثبت أن لا معنى للتخيير!

ص:38

عهد أبي بكر (11- 13 ه)

لم ينقل التاريخ في هذا العهد خلافاً بين المسلمين في الوضوء؛ ذلك لقرب عهدهم بالنبيّ (ص)، وأنَّه لو كانَ لَبانَ، بل التحقيق عدمه؛ إذ إنَّ حكم الوضوء لم يكن كغيره من الأحكام الشرعيّة، كالعارية، الشفعة، العتق، ...

وغيرها من الأحكام ممّا يمكن تجاهلها أو التغاضي عن فهم حكمها، لعدم الابتلاء بها كثيراً، وخلوهما عمّا في الوضوء من الاهمية، إذ إنَّ الوضوء فعلٌ يمارسه المسلم عدّة مرّات في اليوم الواحد، وتتوقّف عليه أهم الأمور العباديّة، وأنَّ الاختلاف في أمر كهذا مثارٌ للدهشة والاستغراب، وتزداد الغرابة إذا ما تصوّرنا وقوعه مع فَقْد دليل أو نصّ شرعيّ يدلّ عليه.

وهنا نؤكّد ونقول: إنَّه من الأُمور التي تنطبق عليها قاعدة (لو كان لبان)؛ فعدم ورود نصّ ينبئ عن وجود الخلاف، وعدم وجود ردود فعل للصحابة في أمر الوضوء، أو ما شابه ذلك، دليل على استقرار الوضع بين المسلمين فيه، وعلى تعبّدهم بسيرة الرسول (ص).

وإنّنا رغم استقصائنا الدقيق في كتب التاريخ بحثاً عن مؤشّر واحدٍ يدلّنا

ص:39

على اختلاف المسلمين في حكم من أحكام الوضوء في ذلك العهد، لم نعثر على أثر يذكر.

ثمَّ إنَّ عدم وجود بيان لصفة وضوء رسول اللَّه (ص) من الخليفة الأَوَّل دليل آخر على استقرار الأُمَّة على الوضوء النبويّ، إذ إنَّ الوضوء أصبح من البديهيات التي لا تحتاج إلى تعليم، بل كان معروفاً واضحاً متداولًا ممّا لا يحتاج إلى تأكيد الخليفة على تعليمه وذِكر كيفيّته وتكراره، ولو كان هناك خلاف أو ما يستوجب البيان والتوضيح لبيّنصفة وضوء رسول اللَّه للناس لقطع دابر الاختلاف.

علماً بأنَّ الخليفة قد حارب أهل الردّة؛ معلّلًا بأنَّهم قد فرّقوا بين الصلاة والزكاة، فكيف به لإيجابه الذي يحرِّف الوضوء؟! وهذا مؤيِّد آخر على عدم وجود الخلاف في زمانه؛ إذ لو كان لوردت مؤشّرات عليه في المصادر المعتبرة، كما رأيناه فيما يماثلها.

ص:40

عهد عمر بن الخطّاب (13- 23 ه)

على الرغم من استقرائنا، وتتبّعنا الدقيق في تاريخ اختلاف المسلمين في الوضوء- في هذا العهد- لم نعثر على ما يشير إلى وجود اختلاف جوهري بين المسلمين فيه .. اللّهم إلَّافي مسألة يسيرة وفي حالة من حالات الوضوء، هي جواز المسح على الخفَّين، أو عدمه.

وإليك بعضاً من النصوص الواردة بهذا الشأن:

جاء في تفسير العياشيّ، عن زرارة بن أعين؛ وأبي حنيفة، عن أبي بكر ابن حزم؛ قال: توضّأ رجل، فمسح على خفّيه، فدخل المسجد فصلّى، فجاء عليّ فوطأ على رقبته؛ فقال: ويلك! تصلّي على غير وضوء؟

فقال [الرجل]: أمرني عمر بن الخطّاب.

قال [الراوي]: فأخذ بيده، فانتهى به إليه.

فقال [عليّ]: انظر ما يروي هذا عليك؟- ورفعصوته-.

فقال [عمر]: نعم؛ أنا أمرته؛ إنَّ رسول اللَّه (ص) مسح.

ص:41

قال [عليّ]: قبل المائدة، أو بعدها؟

قال [عمر]: لا أدري!

قال [عليّ]: فَلِمَ تفتي وأنت لا تدري؟! سبق الكتاب الخفّين «(1)».

وفي النصّ إشارات جمّة، يهمّنا منها- في هذا المقام-: عبارة (ما يروي هذا عليك) بدلًا من (... عنك)، فالذي يظهر من قول الإمام عليّ أنَّه قد اتّهم الماسح على الخفّين بالتقوّل على عمر؛ وذلك لبداهة كون المسح على القدمين هو السنّة المنصوص عليها، دون المسح على الخفّين «(2)»؛ ويمكننا أن نفهم من ظاهر قول الإمام عليّ كون المسح على القدمين في غاية الوضوح عند الجميع، وإلّا لماصحّ الإنكار، وادّعاء التقوّل.

وأخرج السيوطيّ بسنده، عن ابن عبّاس، أنَّه قال: ذَكَرَ المسح على القدمين عند عمرَ، سعدٌ وعبد اللَّه بن عمر.

فقال عمر [لعبد اللَّه]: سعد أفقه منك!

فقال [عبد اللَّه بن] عمر: يا سعد؛ إنَّا لا ننكر أنَّ رسول اللَّه مسح، ولكن هل مسح منذ أُنزلت سورة المائدة؟ فإنَّها أحكمت كلّ شي ء؛ وكانت آخر سورة من القرآن، إلّابراءة «(3)».

نحن لسنا بصدد تنقيح البحث في جواز المسح على الخفّين أو عدمه، بل الذي نقوله هو: أنَّ الخلاف لم يشكّل مدرسة وضوئيّة كاملة، بل إنَّ أغلب الروايات الواردة عن الخليفة في الوضوء كانت تدور حول نقطة واحدة وبيان حالة معيّنة من حالات الوضوء، ولم نعثر على اختلافات أُخرى بين الصحابة


1- تفسير العياشيّ 1: 297/ 46.
2- لما روى عن الصحابة وأهل البيت في ذلك، راجع: التفسير الكبير 11: 163، والانساب للسمعاني 5: 405، ومقاتل الطالبين: 468، ومسند الامام زيد: 75.
3- الدرّ المنثور 2: 263.

ص:42

آنذاك، كما هو مختلف فيه بين فرق المسلمين بعد ذلك، مثل حكم غسل اليدين، هل هو من الأصابع إلى المرافق أو العكس؟

أو كمسح الرأس، هل يجب كلّه، أو يجوز بعضه؟

وما هو حكم مسح الرقبة، هل هو من مسنونات الوضوء، أم ...؟

إنَّ عدم نقل وضوء بيانيّ عن الخليفة، وعدم تأكيده على تعليم الوضوء للمسلمين لدليل على أنَّ الاختلاف بينهم لم يكن إلّاجزئيّاً، وأنَّه لم يشكّل بعد عند المسلمين نهجين وكيفيّتين كما هو المشاهد اليوم؛ إذ لو كان ذلك لسعى الخليفة في إرشاد الناس ودعوتهم إلى وضوء رسول اللَّه (ص)، وقد تناقلت كتب السير والتاريخ اهتمامه بجزئيّات الشريعة مدّة خلافته الطويلة «(1)».

فإذا كان الاهتمام بالأحكام إلى هذا المدى، فَلِمَ لا نرى للخليفة وضوءاً بيانيّاً لو كان الاختلاف في الوضوء قد شَجَر بين المسلمين؟!

وإذا كان يفعل بشابّ ما فعل به لقول قائلة متغزّلة، والولاة يهتمّون بنقل اخبار من شرب الخمر وغيره من الأمصار إلى الخليفة، فلماذا لا نرى نقل خبر عنهم في الوضوء؟!

وإذاصحّ وقوع الخلاف في الوضوء في هذا العهد، فكيف يصحّ السكوت من عمر- على وسع اهتماماته- عن الاختلاف في الوضوء؟! ذلك الفرض الذي تتوقّف عليه كثير من العبادات منصلاة وحجّ!

بناءً على ما تقدّم، نستبعد حصول اتّجاه وضوئيّ مخالف لسنّة رسول اللَّه (ص) وفعله؛ إذ لو كان لتناقلته الكتب، فعدم توجّه الخليفة إلى هذه المسألة المهمّة الحسّاسة، دليلٌ على استقرار المسلمين على وضوء رسول اللَّه (ص).


1- انظر مثلًا صحيح مسلم 3: 646/ 241، وحلية الاولياء 4: 322، ومجموعة طه حسين 4: 51 و 164.

ص:43

عهد عثمان بن عفّان (23- 35 ه)

اشارة

كان الخليفة عثمان بن عفّان الوحيد بين الخلفاء الثلاث الأوائل قد حكىصفة وضوء رسول اللَّه، وروى لنا وضوءاً بيانياً عنه (ص).

فقد أخرج البخاريّ ومسلم بسندهما عن ابن شهاب: انّ عطاء بن يزيد الليثيّ أخبره أنّ حمران مولى عثمان أخبره، أنّ عثمان بن عفّان (رضي اللَّه عنه) دعا بوضوء- فتوضّأ- فغسل كفّيه ثلاث مرّات، ثمّ مضمض واستنثر، ثمّ غسل وجهه ثلاث مرّات، ثمّ غسل يده اليمنى إلى المرافق ثلاث مرّات، ثمّ غسل يده اليسرى مثل ذلك، ثمّ مسح رأسه، ثمّ غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرّات ثمّ غسل اليسرى مثل ذلك، ثمّ قال: رأيت رسول اللَّه (ص) توضّأ نحو وضوئي هذا.

ثمّ قال رسول اللَّه: من توضّأ نحو وضوئي هذا، ثمّ قام فركع ركعتين، لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدّم من ذنبه «(1)».


1- صحيح البخاريّ 1: 52، صحيح مسلم 1: 204/ 3.

ص:44

نصّان أساسيّان

1- أخرج المتّقيّ الهنديّ، عن أبي مالك الدمشقيّ؛ قوله: حُدِّثت أنَّ عثمان بن عفّان اختلف في خلافته في الوضوء «(1)».

2- أخرج مسلم فيصحيحه، عن قتيبة بن سعيد، وأحمد بن عبدة الضَّبِّي؛ قالا: حدّثنا عبد العزيز وهو الدراوردي عن زيد بن أسلم، عن حمران مولى عثمان؛ قال: أتيت عثمان بن عفّان بوضوء، فتوضّأ ثمّ قال: إنَّ ناساً يتحدّثون عن رسول اللَّه (ص) بأحاديث، لا أدري ما هي! إلّاأنّي رأيت رسول اللَّه توضّأ مثل وضوئي هذا ثمَّ قال: «من توضّأ هكذا غفر له ما تقدّم من ذنبه» «(2)».

حدوث الخلاف في الوضوء

يوقفنا هذان النصّان على أُمور:

الأوّل: ينبئ النصّ الأوّل وكذا الثاني عن حدوث اختلاف بين المسلمين في الوضوء و انشقاقهم إلى خطين:

1- وضوء الخليفة عثمان بن عفّان.

2- وضوء ناس من المسلمين.

وكلّ واحد منهما يكتسب مشروعيّة عمله بانتساب فعله إلى رسول اللَّه، فهؤلاء الناس كما قال الخليفة يحدّثون عن رسول اللَّه (ص) لقوله (انّ ناساً


1- كنز العمال 9: 443/ 26890.
2- صحيح مسلم 1: 207/ 8، وعنه في كنز العمّال 9: 423/ 26797.

ص:45

يتحدّثون عن رسول اللَّه بأحاديث)، أمّا الخليفة فنراه يقول: إلّاأنّي رأيت رسول اللَّه توضّأ مثل وضوئي هذا!!

الثاني: يؤكّد النصّ الأوّل على أنّ الخلاف في الوضوء قد حدث في عهد الخليفة عثمان، لقول أبي مالك «حُدّثت أنَّ عثمان بن عفّان اختلف في خلافته في الوضوء»، وأنَّ ذلك يتضمّن الإشارة إلى عدم وجود الاختلاف قبل عهده ويقوّي ما سقناه سابقاً، وستقف لاحقاً على أنَّ الخليفة قد توضّأ وضوء الناس شطراً من خلافته كما نقل عنه في الصلاة بمنى وأنَّه أتمّ الصلاة فيها بعد أن كان قد قصر فيها شطراً من خلافته وكذا في الأذان الثالث يوم الجمعة، وتقديم الخطبة على الصلاة يوم العيدين .. وغيرها.

الثالث: إنَّ عبارة الخليفة «إنَّ ناساً يتحدّثون» تؤكّد مشروعيّة فعل هؤلاء الناس باعتباره مرويّاً عن رسول اللَّه (ص)، ولم يكذِّب الخليفة روايتهم لصفة وضوء رسول اللَّه، وبذلك يكون وضوؤُهم هو وضوء رسول اللَّه، حيث لا يعقل أن يتحدّثوا بشي ء ولا يفعلونه، وخصوصاً أنّهم في خلاف مع خليفة المسلمين فيه، أمّا «الناس» فكانوا لايقبلون وضوءَ الخليفة ولا يعدّونه وضوء رسول اللَّه!!

الرابع: إنَّ جملة «إنَّ ناساً» او «لا أدري ما هي» ظاهرة في استنقاص الخليفة ل «الناس» وأنّهمصحابة مجهولون .. فهل حقّاً كانوا كذلك؟ أم أنَّ الخليفة قال بمثل هذا لمعارضتهم إيّاه، وأنَّ طبيعة المعارضة تستوجب الاستنقاص؟!

كانت هذه بعض النقاط .. ولنواصل الحديث بطرح تساؤلات أُخرى:

لماذا وقع الاختلاف في هذا العهد ولم يلاحظ في عهد الشيخين؟

ولماذا نرى الصحابة ينسبون إلى عثمان البدعة والإحداث- كما ستقف عليه لاحقاً في حين لم ينسبوا ذلك إلى أبي بكر وعمر؟

فلو قلنا بأنَّ الخليفة هو المبدع لهذا الوضوء الجديد، فما هو السبب والداعي لسلوكه هذا السلوك، مع علمه بأنَّ ذلك يسبب معارضة الصحابة له؟

وهل الوضوء من الأُمور الماليّة أو السياسيّة أو الحكوميّة .. حتّى يمكن

ص:46

التعامل معها وفق مصلحة الحكم والبلاد؟

أم كيف يمكن لهؤلاء «الناس» الاجتراء والتعدّي على شعور المسلمين وإحداث وضوء يخالف وضوء الخليفة وما عمله المسلمون مدّة من الزمن؟

وإذا كانوا هم البادئين بشقّ الصفّ الإسلاميّ، أيعقل أن تتجاهلهم كتب السير والتاريخ ولم تنوّه بأسمائهم؟

ولِمَ لا نرى مواجهة من كبار الصحابة لهم، وظهور وضوءات بيانيّة منهم لإفشال ذلك الخطّ المبتدع الجديد؟

ولماذا نرى الخليفة يقول: لا أدري .. وهل أنَّه لا يدري حقّاً؟

وكيف لا يدري وهو من المسلمين الأوائل، وخليفتهم القائم؟

وإن كان يدري، فكيف يجوِّز لنفسه تجاهل أحاديث مَن يروي ويتحدّث عن رسول اللَّه؟ وإن كان الناس قد كذبوا على رسول اللَّه ونسبوا إليه ما لم يصحّ فلماذا لم يشهّر بهم ولم يودعهم السجون؟

هذه التساؤلات مع جملة أُخرى، سنجيب عنها في مطاوي البحث إن شاء اللَّه تعالى.

لكنَّ اللافت للنظر في هذا المجال أنَّ الخليفة هو الذي تصدّى بنفسه لمسألة الوضوء!

فما سبب ذلك؟

ولماذا اعتبرت روايته للوضوء هي أكثر وأصحّ ما يعتمد عليه في حكاية وضوء النبيّ في أبواب الفقه؟ مع العلم بأنَّصورة الوضوء لم تنقل عن كبار الصحابة الملازمين للرسول، وهم مئات عدداً وكانوا يحيطون به (ص) ويعايشونه، أضف إلى ذلك كون كثير منهم من أهل الفقه، وحملة الآثار، ومن العلماء، المهتمين بدقائق الأُمور، وهم الذين نقلوا لنا رأي الإسلام في مختلف

ص:47

مجالات الحياة.

فكيف لم تنقل عن أُولئك كيفيّة الوضوء؟ وهل من المعقول أن يسكت المقرّبون المكثرون عن بيان كيفيّة الوضوء، إن كان فيها ما يستوجب البيان والتوضيح؟!

ولماذا هذا التأكيد من عثمان على الوضوء بالذات؟ .. مع كونه يعاني من مشاكل وأزمات حادّة في إدارته السياسيّة، وسياسته الماليّة، ونهجه الفقهيّ ..

بل حتّى في طور تفكيره وسائر شؤونه الأُخرى.

قد يكون لزاماً علينا أن نقول: إنَّ الحالة الطبيعيّة كانت تقتضي أن تصدر النصوص البيانيّة الحاكية لوضوء رسول اللَّه (ص) عنصحابة من أمثال:

أنس بن مالك، سعد بن أبي وقّاص، عبد اللَّه بن مسعود، عمّار بن ياسر، أبي ذرّ الغفاريّ، جابر بن عبد اللَّه الأنصاريّ، طلحة، الزبير، المقداد، عبد الرحمن بن عوف، زوجات النبيّ، موالي النبيّ، وغيرهم الكثير من الذين ما انفكوا عن ملازمته (ص) .. لا أن يقتصر النقل ويختصّ بفئة محدودة، كعثمان، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، والرُّبيّع بنت معوّذ، و ....

فلماذا تصدر عن المقلّين في رواية الحديث، لا المكثرين الملازمين للنبيّ (ص) مع أنّ طبيعة الأشياء تقتضي الإفاضة في أحاديث الوضوء في روايات المكثرين؟!

يبدو أنَّ وراء المسألة أمراً خفيّاً، خصوصاً بعد أن لا نرى للشيخين وضوءاً بيانيّاً في الباب!

أوَ لَم يكن الشيخان من كبار أقطاب الرواية وأساطينها، ومن السابقين في الإسلام ...؟؟

ثمّ .. ألَم يكونا أفقه من عثمان، وأشمل رؤية، وأضبط رواية منه؟

فإن كان الأمر كذلك .. فكيف يصحّ منهما أن يتركا موضوعاً عباديّاً في

ص:48

غاية الأهميّة، مع ما قيل عن شدّتهما في إيصال وتعليم الأحكام الشرعيّة إلى المسلمين؟!

وإذا سلّمنا أنَّ حروب الردّة، وفتح العراق والبحرين وغيرها قد شغلت أبابكر عن الاهتمام ببعض مسائل الشريعة، فهذا ما لا يمكن التسليم به بالنسبة إلى الخليفة الثاني، الذي نقل عنه بأنّه كان يحمل درّته ويدور في الأسواق والشوارع والأزقّة، ليصلح ما قد يرى من فساد اجتماعيّ، وليعلّم الناس ما يُفترض أن يتعلموه من أحكام وآداب وسنن، وكان يهتمّ أيّما اهتمام بمسائل الفقه فيحلّها، وإذا استعصت عليه بعض المسائل، نراه يجمع كبار الصحابة ويستشيرهم، ويبحث معهم تلك المسألة، ثمّ يخرج بالنتيجة الفقهيّة المتوخاة من البحث، فتراه يطرح البحوث العلميّة الفقهيّة على الصحابة ممّن عاصروه، أمثال: عليّ بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن عبّاس، والزبير، وطلحة، وعبد اللَّه بن مسعود، وغيرهم من كبار الصحابة.

فإذا كان ثمّة اختلاف أو إبهام في الوضوء في الصدر الأوّل .. فَلِمَ لَمْ تطرق هذه المسألة المهمّة مجالس أُولئك الصحابة؟!

إنّ هذا لَيؤكّد بوضوح استقرار المسلمين في الوضوء أثناء تلك المرحلة الزمنيّة من الإسلام .. بل المسألة كانت من البداهة والشيوع بحيث أصبحت من أوّليّات الرسالة المحمّديّة ومسلّماتها التي عرفها الجميع بما ينبغي، دون أدنى شكّ أو ترديد أو التباس.

ومن الواضح أنَّ الصحابي الذي لا يعرف الوضوء، أو تراه يسأل عن كيفيّته، يُعَدّ متهاوناً ومتساهلًا في الدين، بل ويكشف سؤاله عن التشكيك فيصلاته وعباداته، وأنَّه مُدَّعٍ للصحبة ليس إلّا، إذ كيف يُعقل أن يصاحب رجلٌ النبيّ، وهو لا يعرف وضوءه ولا أُصول دينه وفروعه وآدابه وسننه وواجباته مع كون النبيّ قد عاش بين ظهرانيهم ثلاثاً وعشرين سنة!

ص:49

وإذا قيل لنا: إنَّ فقيهاً من فقهاء المسلمين في زماننا الحاضر لا يعرف تفاصيل الوضوء، أو أنَّه يسأل عنها .. فإنّنا والحال هذه: إمّا أن لا نصدّق ما قيل عنه؛ أو أن نرميه بالجهل، على بُعدِه عن عصر الرسالة بأربعة عشر قرناً.

فكيف يا ترى يمكننا تصوّر ذلك فيصحابي، بل فيصحابة قد عاشوا مع النبيّ ورافقوه سفراً وحضراً ورأوه بأُمِّ أعينهم يمارس عباداته وطقوسه التي فرضها اللَّه عليه وعليهم؟!

نعم؛ نحن لا ننكر أن يكون نقل الراوي لصفة وضوء رسول اللَّه، أو سؤاله عن بعض خصوصيّات الأحكام جاء لتعليم الآخرين، لكنّنا نعاود السؤال ونقول: لماذا لا يروي عنه (ص) الأحاديث الوضوئيّة الصحابة المكثرون؟

ومن هنا- وطبقاً لما ذكرناه- نقول قانعين: إنَّ الاختلاف لم يدبّ بين المسلمين في تلك الحقبة من عصر الإسلام، بل نشأ في عهد الخليفة الثالث، الذي وردت عنه نصوص بيانيّة- تتجاوز الآحاد- فيصفة وضوء النبيّ (ص).

ولو دقّق الباحث اللبيب النظر فيها لرآها تتضمّن الكثير من الإشارات الدالّة على حدوث الاختلاف في زمنه.

أضف إلى ذلك أنَّ عثمان كان يستغلّ كلّ الفرص المؤاتية ليري الناس وضوءه، ويحاول التأكيد عليه بشتى الأساليب- كما سترى-.

والآن لنتعرّف على البادئ بالخلاف، وهل أنّ وضوءه هو وضوءرسول اللَّه؟

وكيف بدأ الشقّ في الصفّ الإسلاميّ، ولِمَ؟

من هو البادئ بالخلاف؟

نرجع إلى بعض التساؤلات السابقة فنقول:

يُفترض مبدئيّاً كون الميل والانحراف أو الخطأ في التفكير المستتبع للخطأ

ص:50

في السلوك العمليّ، إنّما ينتج عن هفوات وزلّات عامّة الناس؛ ويكون دور الحاكم في هذه الحال دور المقوّم والمصحّح لما يحدث من خطأ أو شذوذ في التفكير أو في المنهج العمليّ، حيث نرى الأُمم في شتى مراحل تطوّرها تؤمِّر على نفسها أو يتأمَّر عليها مَن يُتَوخَّى منه أن يقيم الأَوَد ويشدّ العَمَد، ويحافظ على مسار الأُمَّة، ويدافع عن أفكارها وآرائها.

لكنَّ الدلائل والمؤشّرات في أمر الوضوء تقودنا إلى غير ذلك، لأنَّ «الناس» المخالفين هذه المرّة هم من أعاظم الصحابة وفقهاء الإسلام «(1)»، وليس فيهم مَن هو أقلّ من الخليفة الثالث من حيث الفقه، والعلم، والحرص على تقويم المجتمع والمحافظة على معالم الدين الإسلاميّ من أيدي التحريف والتخليط واللبس .. كما أنّهم ليسوا من عامّة الناس المكثرين من الأغلاط وغير المتفقهين في الدين، وهم ليسوا من متأخّري الإسلام من الصحابة الذين لم يعيشوا طويلًا مع النبيّ (ص)، بل العكس هو الصحيح، إذ إنّهم على قدر من الجلالة والعظمة، يجلّون معها عن أن يحتاجوا إلى مَن يقوّمهم ويشرف على ما رأوه ورووه عن النبيّ (ص) .. وسنفصّل لك لاحقاً أسماءهم وأحوالهم لتطّلع عليها.

ومن الأُمور التي تزيد المدعى وضوحاً وتؤكّد على أنّ الخليفة عثمان بن عفّان وراء مسألة الوضوء هو الجرد الإحصائيّ، الذي توصلنا من خلاله إلى أنَّ مرويّات الوضوء الثلاثيّ الغسليّ «(2)» الصحيحة السند، إنّما تنحصر في:

1- عثمان بن عفّان.


1- ستقف على أسمائهم فيما يأتي من بحوث هذا الكتاب.
2- سيمرّ بك من الآن فصاعداً مصطلحان: الأوّل: الوضوء الثلاثيّ الغسليّ/ وضوء الخليفة عثمان. الثاني: الوضوء الثنائيّ المسحيّ/ وضوء الناس المخالفين لعثمان. وإنّا قد انتزعنا هذين المصطلحين من إشهاد الخليفة للصحابة عليهما، وستقف على تفاصيله في آخر هذا الكتاب.

ص:51

2- عبد اللَّه بن عمرو بن العاص.

3- عبد اللَّه بن زيد بن عاصم.

4- الرٌّبَيِّع بنت معوّذ.

علماً أنَّ المروي عن عبد اللَّه بن زيد بن عاصم هنا يعارض ما أخرجه ابن أبي شيبة عنه، بأنَّ رسول اللَّه مسح رأسه ورجليه مرتين «(1)».

وكذا الحال بالنسبة للربيّع بنت معوّذ، فإنَّ ابن عبّاس ناقشها في وضوئها الغسليّ؛ وقال: يأبى الناس إلّاالغسل، ولا نجد في كتاب اللَّه إلّا المسح «(2)».

بهذا انحصر الوضوء الثلاثيّ الغسليّ في عثمان بن عفّان، وعبد اللَّه بن عمرو ابن العاص.

هذا بالنسبة إلى الروايات الصحيحة؛ وثمَّة روايات ضعيفة سنداً ونسبة، يلزم مناقشتها .. منها: ما روي عن عليّ وابن عبّاس، فإنّها على الرغم من سقوط أسانيدها عن الاعتبار، تتعارض مع ما تواتر عنهما بصحاح المرويّات الدالّة على تبنيهما الوضوء الثنائيّ المسحيّ، والمؤكّدة على اعتراضهما على من ينسب الوضوء الثلاثيّ الغسليّ إلى النبيّ (ص)، كما فعله ابن عبّاس مع الربيّع بنت معوّذ، وقد مرّ قبل قليل.

علماً بأنَّ أصحاب الاتجاه الوضوئيّ الجديد ينسبون كلّ آرائهم في الوضوء إلى عليّ بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وغيرهم من الصحابة المعارضين!!

وسنتعرّض لبعض النماذج من ذلك في الصفحات القادمة، إن شاءاللَّه تعالى.

هذا وقد عدّ الترمذيّ أسماء الصحابة الذين رووا عن رسول اللَّه وضوءاً


1- المصنّف 1: 18/ 4.
2- كنز العمّال 9: 432/ 26837.

ص:52

بيانيّاً، في باب [ما جاء في وضوء النبيّ كيف كان] فقال- بعد نقله حديثاً عن عليّ-:

وفي الباب عن عثمان، وعبد اللَّه بن زيد، وابن عبّاس، وعبد اللَّه بن عمرو، والربيّع، وعبد اللَّه بن أنيس، وعائشة رضوان اللَّه عليهم «(1)».

وقد عرفت أخي المطالع حال ستّة من المذكورين آنفاً، فلم يبق من العدد الذين ذكرهم الترمذيّ سوى:

1- عبد اللَّه بن أنيس.

2- عائشة.

وقد قال المباركفوريّ في شرحه على الترمذيّ، بعد إرجاعه أحاديث الباب إلى مصادرها في الصحاح والسنن: وأمّا حديث عبد اللَّه بن أنيس، فلينظر مَن أخرجه؛ وأمّا حديث عائشة، فلم أقف عليه «(2)».

وبذلك أمكننا التعرّف إجمالًا على أحاديث الباب وأنّه ينحصر في عثمان ابن عفّان وعبد اللَّه بن عمرو بن العاصّ، وستقف على دور عثمان في الوضوء وروايته لها، مع أنَّ المفروض أو المحتمل القريب- كما هو في غالب أحكام الدين- أن يروي الوضوء أصحاب النصيب الأوفر والمكثرون من الرواة والصحابة الأقدمون والمقرّبون من النبيّ (ص)، لا أن يختصّ بعثمان وذلك النفر القليل جدّاً!

نعم .. لو كان البادئ بالخلاف الوضوئيّ هم الناس من الصحابة لاقتضى السير الطبيعيّ أن يقف رواة الحديث- من كبار الصحابة وفقهائهم- بوجههم فيروون ما رأوه من النبيّ (ص) وما سمعوه .. في حين لا نرى من مرويّات ذلك


1- سنن الترمذيّ 1: 34 ذيل حديث 48.
2- تحفة الاحوذيّ لشرح الترمذيّ 1: 136.

ص:53

الرهط من الصحابة إلّاما تخالف مرويّات عثمان أو لا تؤيّدها، وهي بمجموعها لا تعادل عُشر ما رواه عثمان بمفرده في الوضوء! إذَن في الأمر شي ء! .. فما عساه أن يكون؟

وهذه قائمة بأسماء الصحابة المكثرين من الرواية، وعدد مرويّاتهم في الوضوء البيانيّ ووصفهم لصفة وضوء رسول اللَّه (ص):

التسلسل اسم الصحابيّ مجموع الاحاديث مرويّاته في الوضوء الملاحظات

المرويّة عنه (ص) البيانيّ للنبيّ (ص)

1 أبوهريرة الدوسيّ 5374/

2 عبداللَّه بن عمربن الخطّاب 2630/

3 أنس بن مالك 2286/

4 عائشة 1210/ نسبوا لها وضوءاً، أنكر

المباركفوري كون المحكي

وضوءاً بيانيّاً.

5 عبداللَّه بن العبّاس 1660 له عدّة أحاديث بعضها

مسحيّ؛ والباقيّة ضعيفة

السند، وملصقة به «(1)» 6 أبو سعيد الخدريّ 1170/

7 جابربن عبداللَّه الأنصاريّ 1540/

8 عبد اللَّه بن مسعود 848/

9 عبداللَّه بن عمرو بن العاص 1700

10 عليّ بن أبي طالب 537 له عدّة أحاديث في الوضوء،

بعضها مسحيّة ثنائيّة الغسلات،

و البواقي غسلية «(2)».

11 عمر بن الخطّاب 527/

12 أُمّ سلمة أُمّ المؤمنين 378/

13 أبو موسى الأشعريّ 360/

14 البراء بن عازب 305/


1- ندرسها في الفصل الأوّل من هذه الدراسة الوضوء والسنّة النبويّة إن شاء اللَّه تعالى.
2- سنبحث عنها في الفصل الأوّل أيضاً.

ص:54

التسلسل اسم الصحابيّ مجموع الاحاديث مرويّاته في الوضوء الملاحظات

المرويّة عنه (ص) البيانيّ للنبيّ (ص)

15 أبو ذرّ الغفارىّ 281/

16 سعد بن أبي وقّاص 271/

17 أبو أمامة الباهليّ 250/

18 حذيفة بن اليمان 200/

19 سهل بن سعد 188/

20 عبادة بن الصامت 181/

21 عمران بن الحصين 180/

22 أبو الدرداء 179/

23 أبو قتادة 170/

24 بريدة الأسلميّ 167/

25 أُبي بن كعب 164/

26 معاوية بن أبي سفيان 163/

27 معاذ بن جبل 155/

28 عثمان بن عفّان 146 له ما يقارب من عشرين

حديثاً في الوضوء.

29 جابر بن سمرة الأنصاريّ 146/

30 «(1)» أبو بكر 142/

الملاحظ في الجدول الإحصائيّ المذكور أنَّ أحداً من المكثرين من الصحابة، والخلفاء الثلاثة- أبي بكر وعمر وعليّ- وأُمَّهات المؤمنين، وموالي النبيّ .. لم يَرْو في الوضوء البيانيّ، إلّاعليّ بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن عبّاس.

وأمّا عثمانصاحب ال [146] حديثاً، فيتصدّر ب (ما يقارب من عشرين رواية) «(2)» في الوضوء البيانيّ!

نعم .. يتصدّر القائمة بتلك النسبة الهائلة، مع قلّة مرويّاته بالنسبة لكبار الصحابة وفقهائهم، الذين خالفوه في اتجاهه، وبذلك يرجح أن يكون عثمان هو


1- التسلسل المذكور عن كتاب: أسماء الصحابة الرواة وما لكلّ واحد منهم من العدد، لابن حزم الأندلسيّ، أمّا مرويّاتهم في الوضوء البيانيّ فتابع لجردنا.
2- سنفصّل ذلك في الجزء الثاني من هذه الدراسة.

ص:55

المتبني والمروّج لفكرة الوضوء الثلاثيّ الغسليّ دون بقيّة الصحابة والفقهاء.

وممّا يزيد المرء حيرة ودهشة هو زيادة روايات عثمان في الوضوء البيانيّ حتّى على أبي هريرةصاحب الرقم الأعلى في المرويّات [5374] «(1)»، والمعروف بأنّه لم يترك شاردة ولا واردة-صغيرة كانت أم كبيرة- إلّاورواها عن النبيّ الأكرم (ص)، وزاد على ابن عمر،صاحب ل [2630] رواية؛ وجابر بن عبد اللَّه الأنصاريّ،صاحب ل [1540] رواية؛ وعائشة،صاحبة ل [1210] رواية؛ وأنس،صاحب ل [2286] رواية؛ وأبي سعيد الخدريّ،صاحب ل [1170] رواية؛ وعبد اللَّه بن مسعود،صاحب ل [848] رواية؛ وعمر بن الخطّاب،صاحب ل [527] رواية ... الخ!

ولا نفهم من هذه الظاهرة إلّاالتأكيد لما قلناه، المتلخّص في: تأسيس عثمان لاتجاه وضوئيّ ما كان متعارفاً عليه قبله، وصار من بعد ذلك مدرسة وضوئيّة مستقلّة تخالف ما كانت عليه سيرة المسلمين باتّباعهم وضوء النبيّ (ص).

وقد حاول الإمام عليّ أثناء خلافته بكلّ ما يمكن بيان الوضوء الصحيح روايةً، وعملًا، وكتابةً إلى عمّاله في الأمصار «(2)»، لكنّه- مع كلّ ذلك- لم يصل في رواياته الوضوئيّة لذلك العدد الذي اختصّ به عثمان دون غيره!

نرجع قليلًا .. فنقول: لو أنَّ «الناس» كانوا هم البادئين بالخلاف، لاندفع الرواة المكثرون- بدافع الحرص على الدين- لتبيان وضوء النبيّ، كما فعلوا ذلك من قبل مع مانعي الزكاة .. ولأسقطوا به التكليف عن الخليفة في مواجهتهم.

فقد وردت روايات كثيرة عن كبار الصحابة في ذكر عقوبة مانع الزكاة وحرمة منعه، منهم: عليّ بن أبي طالب، أبو هريرة الدوسيّ، عبد اللَّه بن


1- سنذكر حديثه في مبلغ حلية المؤمن وكيفيّة وضوئه في الجزء الثالث من هذه الدراسة الوضوء في الكتاب واللغة.
2- بحثنا هذه الأُمور فيما يأتي من بحوث هذا الكتاب.

ص:56

مسعود، جابر بن عبد اللَّه الأنصاريّ، أبو ذرّ الغفاريّ، أنس بن مالك، وغيرهم من مشاهير الصحابة .. وهي الحالة الطبيعيّة المتّبعة في جميع الديانات والمذاهب على مرّ العصور، وسارت عليها سيرة المسلمين في شتّى مجالات الدين، وبالخصوص في أبواب الفقه ومسائله الشرعيّة؛ فلماذا نجد شذوذاً عن هذه القاعدة المتعارف عليها هنا؟ .. أَلَا تجعلنا نتّخذ موقف الشكّ والريبة وعدم الاطمئنان بمرويّات الخليفة وأنصاره، وتدعونا بدافع الحرص والأمانة للوصول إلى حقيقة الحال.

فنقول: لو كان غيره البادئ بالخلاف، لكان بوسع الخليفة بما له من قوّة تشريعيّة وتنفيذيّة أن يحسم النزاع بإحدى طرق ثلاث:

الأُولى: استعمال أُسلوب الردع الحاسم.

فقد ثبت بين المسلمين أنَّ من حقّ الإمام: ردع المخالفين؛ وتأديب الخاطئين «(1)»؛ وتعزير المنحرفين بما يراهصلاحاً في الدنيا والدين.

الثانية: طلب النصرة.

بأن يستنصر المسلمين استنصاراً عامّاً ليقضي على ما أدخله أُولئك في الدين، وإعلان ذلك على منبر النبوّة، كما فعل ذلك أبو بكر بأهل الردّة ومدّعي النبوّة، وأن لا يختصّ بجماعاتصغيرة في الاشهاد، أي يلزم على الخليفة الاستفادة من الفهم العرفي العام عند المسلمين لنبذ البدعة.

الثالثة: المطالبة بالدليل (المحاجّة).

بأن يطالب الخليفة «الناس» بأدلّتهم، ليبيّن بذلك زيف ادّعائهم، لأنّها- على فرض كونها بدعة- سيعوزها الدليل ويقف الجميع على عدمصلتها بالدين وبُعدها عن جذور الشريعة «(2)»، وبذلك سوف يعيى أربابها أمام ما


1- كما فعل عمر بن الخطاب مع صبيغ بن عُسل الحنظلي العراقي، انظر الاصابه: 165، والدارمي ح 146، والبدع لابن وضاح: 69، ودر التعارض 7: 172، كما في حقيقة البدعه للغامدي 1: 114.
2- كفعل ابن عباس مع الخوارج، انظر البداية والنهاية 7: 297، وجامع بيان العلم وفضله 2: 126.

ص:57

يدّعيه المسلمون عامّة وستصبح أُضحوكة وستمحى، لتضافر السلطة مع عامّة الصحابة ضدّها.

والمثير للدهشة هنا، أنَّ الخليفة الثالث لم يتّخذ أيّاً من هذه الإجراءات الثلاث، بل والأغرب من ذلك .. نراه يلتجئ إلى طريقة معاكسة لما يُفترض لعلاج مثل هذه المسألة، فقد تصرّف وكأنّه متّهم مُشار إليه، وذلك باتّخاذه موقف الدفاع، والتشبّث بكلّصغيرة وكبيرة لدعم فكرته .. وكأنَّ الوضوء ليس من العبادات الواضحة في الشريعة، كما سترى لاحقاً!!

نعم؛ قد اتّجه الخليفة إلى الطريقة الأُولى، ولكن لا كما تتطلّبه مصلحة الدين والملّة، بل لتحصين فكرته الخاصّة به، فقد كانت القوّة طريقته المثلى باطّراد لتثبيت أفكاره وإسكات معارضيه طيلة سني حكمه الاثنتي عشرة، لأنّه يرى في القوّة الأُسلوب الأنجح والأكثر ترويضاً، ولذا نراه قد استخدمه حتّى في أبسط وأقلّ المسائل أهميّة، وسخّره بنطاق واسع في قمع معارضيه الفكريين، مع احتمال كونهم أقرب منه إلى الحقّ، وهو أبعد عنه بمسافات شاسعة!

لو قلنا: إنَّ كلا الفكرتين متوازيتان، أو إنَّ فكرة الخليفة هي الأرجح، فأين وجه الصواب باستخدام القوّة بذلك النطاق الواسع، مع وجود باب الحوار والنقاش مفتوحاً على مصراعيه؟!

ونحن لا نريد بهذه العجالة أن نقدّم جرداً إحصائيّاً عن سياسة العنف التي اتّبعها الخليفة مع الصحابة وانك ستقف عليها لاحقاً، ومن تلك أنه سيّر في سنة (33 ه) نفراً من أهل الكوفة إلى الشام، وذلك لاعتراضهم على سياسة سعيد بن العاص في تفضيل قريش وجعله السواد بستاناً لقريش «(1)».


1- تاريخ الطبريّ 4: 318، الكامل في التاريخ 3: 137، البداية والنهاية 7: 173.

ص:58

وسيّر قبلها أبا ذرّ إلى الربذة، ومنع ابن مسعود من القراءة، وضرب عمّار ابن ياسر وداس في بطنه حتّى أصابه الفتق «(1)».

وقيل: بأنَّ عثمان- لمّا بلغه موت أبي ذرّ- قال: رحمه اللَّه!

فقال عمّار بن ياسر: نعم؛ فرحمه اللَّه من كلّ أنفسنا.

فقال عثمان: يا عاضّ أير أبيه، أتراني ندمت على تسييره؟! وأمر، فدفع في قفاه؛ وقال: إلحق بمكانه! فلمّا تهيّأ للخروج، جاءت بنو مخزوم إلى عليّ فسألوه أن يكلّم عثمان فيه.

فقال له عليّ: يا عثمان! اتَّقِ اللَّه فإنَّك سيّرت رجلًاصالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك، ثمَّ أنت الآن تريد أن تنفي نظيره؟!

وجرى بينهما كلام ... حتّى قال عثمان: أنت أحقُّ بالنفي منه!

فقال عليّ: رُم ذلك إن شئت .. واجتمع المهاجرون؛ فقالوا: إن كنت كلّما كلمك رجل سيّرته ونفيته! فإنَّ هذا شي ء لا يسوغ .. فكفَّ عن عمّار «(2)».

نعم؛ لولا مخالفة الإمام عليّ والمهاجرين لسياسته الضاغطة، لما كفَّ عن عمّار بن ياسر، لأنّه قد اتّخذ من تلك السياسة طريقاً لفرض آرائه، فإنَّ كلّ تلك الشدّة والصرامة التي مارسها عثمان ضدّ كبار الصحابة وفقهائهم وعبّادهم وزهّادهم ومتّقيهم، إنّما جاءت لكونهم خالفوه في قضيّة قراءة القرآن- كما لوحظ في قضيّة ابن مسعود وكسر أضلاعه-، أو في كيفيّة توزيع الأموال والفي ء- كما هو المشاهد مع أبي ذرّ وغيره-، أو لأنَّ أحدهم خالف فتوى كعب الأحبار الموافقة لرأي الخليفة- كما جاء في ردّ أبي ذرّ لكعب وقوله له: ياابن اليهوديّة ما أنت وما ... «(3)»-، أو لأنَّ أحدهم لا يرى فضلًا لبني العاص، ناهيك عمّن ينال منهم أو يروي حديثاً ضدّهم ... وما إلى ذلك الكثير.


1- أنساب الأشراف 5: 48- 49، شرح النهج لابن أبي الحديد 3: 47 و 49 و 50.
2- أنساب الأشراف 5: 55.
3- انظر: تاريخ الطبريّ 4: 284، الكامل في التاريخ 3: 115، وشرح النهج لابن أبي الحديد 3: 54.

ص:59

وبعد هذا .. لا نجد أحداً يشكّ بسياسة العنف التي مارسها عثمان ضدّ عظماء الصحابة وفضلائهم دفاعاً عن آرائه، فإذ ثبت ذلك .. نتساءل:

لماذا لا نرى أيَّ بادرة عنف من الخليفة تجاه مخالفيه في مسألة الوضوء، على الرغم من ادّعائه أنَّ وضوءه هو وضوء رسول اللَّه (ص)؟!

فلوصحّ .. للزم أن يكون وضوء المسلمين هو وضوء الخليفة، وبذلك لاندحر «الناس» بوضوئهم، ولكفى المسلمون الخليفة مؤنة الصراع معهم، ولما تكلّف ما تكلّف.

ويزيد الاستنتاج وضوحاً ما نقل عن الخليفة من مراقبته لجزئيّات الوضع- فضلًا عن كلّيّاته- ومعاقبة الظالمين والمنحرفين «(1)».

وذات مرّة .. استخفّ رجل بالعبّاس بن عبد المطّلب، فضربه عثمان، فاستحسن منه ذلك؛ فقال: أَيُفَخِّمُ رسول اللَّه (ص) عمَّه وأُرَخِّصُ في الاستخفاف به! لقد خالف رسول اللَّه (ص) مَن فعل ذلك ورضي به «(2)».

فكيف بنا نوفّق بين غيرة الخليفة على الدين، وشدّة محافظته على احترام عمّ النبيّ (ص)- لأنّه رأى النبيّ (ص) يعظّمه ويفخّمه- التي جعلته يحكم بأنَّ الفاعل للاستخفاف، والراضي به، مخالفٌ للرسول (ص) .. وبين ما نراه يفعل بالوضوء؟!

فكيف بِمَن خالف أمراً دأب عليه رسول اللَّه (ص) ثلاثاً وعشرين سنة من عمره الشريف، وأكّد عليه مراراً وتكراراً، وبلّغ عن ربّه أنَّه نصف الإيمان، وأنَّ الصلاة موقوفة عليه؟ مع ضخامة المخالفة، فالخليفة الثالث لم يتّخذ أيّ إجراء حاسم ضدّ مَن توضّأ بخلاف ما هو عليه، على الرغم من أنَّ هذه


1- كما فعل مع الذين اطاروا الحمام والجلاهقات، انظر تاريخ الطبريّ 4: 398، الكامل في التاريخ 3: 181، البداية والنهاية 7: 224، المنتظم 4: 338.
2- تاريخ الطبريّ 4: 400، الكامل في التاريخ 3: 182.

ص:60

المعارضة الوضوئيّة كانت حديثاً شائعاً قد اندلعت ضدّه، لقوله (انّ ناساً يتحدّثون ... «(1)»)!

نعم، إنَّه لم يتّخذ نفس الموقف الذي اتّخذه الخليفة الأوّل في تحشيد المسلمين ضدّ مانعي الزكاة، ثمَّ مقاتلتهم بلا هوادة، حتّى نُسِبوا إلى الارتداد والخروج عن الدين .. فعادواصاغرين لأداء الزكاة- رغبة أو رهبة- وتسليمها للخليفة الأوّل؛ وذلك بعد أن أفهم أبو بكر المسلمين رأيه في ذلك، وقف الكثير منهم إلى جانبه، على الرغم ما لبعضهم ك [مالك بن نويرة] من إذن مِنَ النبيّ (ص) في أخذ الزكاة والصدقات وتوزيعها على محتاجي قومه ومعوزيهم.

وإذا توغّلنا في التاريخ بعين فاحصة فسنجد حتّى خاصّة عثمان ومؤيّديه في حكومته، كزيد بن ثابت، لم يتجرّؤوا أن ينقلوا وضوءات تشبه وضوء خليفتهم! بل ولم ينقل عنهم أيّ ردّ فعل تجاه مدرسة الناس الآخرين في الوضوء النبويّ ...

وبقي عثمان- مع نفر يسير- يؤكّد ما رآه من وضوء، ونَسَبَهُ عنوة لرسول اللَّه (ص)، وراح يضفي على اتّجاهه الوضوئيّ العناية والاهتمام، بعد أن تمكّن من تسخير هذه المجموعة الضئيلة لمصلحته، وأنّها قد لا تكون في حساب الحقيقة والتأثير أيّ شي ء في قبال ذلك المدّ العارم الذي وقف بوجهه متحدّياً وطالباً بكلّ قوّة وأمانة رجوعه إلى الكتاب والسنّة ...

ومع ذلك كلّه لم يَقْوَ عثمان على محاججة ولو شخص واحد من أتباع المدرسة الأُخرى، ليفند رؤيته الوضوئيّة على ملأ من المسلمين؛ بل ولم يقو على التصريح باسم واحد منهم ليجعله محطّ ردود فعل المسلمين تجاه ما


1- وبهذا نعرف أنّ الخليفة لم يستنصر المسلمين استنصاراً عامّاً- كما هو المتوقّع- بل استنصر أفراداً واختصّ بهم، شأن من يبذر فكرة جديدة ويريد الاستنصار له، فالاشهاد هنا يختلف عن الاشهاد في الملأ العامّ، وأنّ الاستنصار الجزئي يختلف عن الاستنصار العامّ الشامل!!

ص:61

سيرويه عن النبيّ الأكرم (ص)!!

بعض أساليب عثمان في الإعلان عن الوضوء الجديد:

عن أبي علقمة، عن عثمان بن عفّان أنَّه دعا يوماً بوضوء، ثمَّ دعا ناساً من أصحاب رسول اللَّه (ص)، فأفرغ بيده اليمنى على يده اليسرى وغسلها ثلاثاً، ثمَّ مضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً ثمَّ غسل وجهه ثلاثاً، ثمَّ غسل يديه ثلاثاً إلى المرفقين، ثمَّ مسح برأسه، ثمَّ غسل رجليه فأنقاهما؛ ثمَّ قال: رأيت رسول اللَّه (ص) يتوضّأ مثل هذا الوضوء الذي رأيتموني توضّأته، ثمَّ قال: من توضّأ فأحسن الوضوء، ثمَّصلّى ركعتين، كان من ذنوبه كيوم ولدته أُمّه؛ ثمَّ قال:

أكذلك يا فلان؟

قال: نعم.

ثمَّ قال: أكذلك يا فلان؟

قال: نعم.

حتّى استشهد ناساً من أصحاب رسول اللَّه (ص)؛ ثمَّ قال: الحمد للَّه الذي وافقتموني على هذا «(1)».

يوقفنا هذا النصّ على بعض الأساليب التي اتبعها عثمان في ترسيخ اتجاهه الوضوئيّ وهو: دعوته لبعض من الصحابة في فترات متعاقبة ليريهم وضوءه!

وهنا .. نتساءل: هل الصحابة في حاجة لرؤية وضوء الخليفة، أم أنَّ الغاية من إشهادهم على الوضوء تتعلق بإسكات أفواه المعارضة؟

كيف يمكن لنا أن نتصوّرصحابيّاً لا يعرف وضوء النبيّ (ص) بعد مضي ما يقارب نصف قرن من ظهور الإسلام؟!


1- كنز العمّال 9: 441/ 26883، عن الدارقطنيّ 1: 85/ 9.

ص:62

وإذا فرضنا حصول ذلك، فهل يجوز لنا أن نسمّيهصحابيّاً؟

ثمَّ .. لماذا ذلك السعي الحثيث من قبل عثمان لتعليم المسلمين وضوءه؟

ولماذا لم يفعل ذلك كلٌّ من الخليفتين أبي بكر وعمر .. ألَم يكونا أولى منه بتعليم الوضوء، إن كان ضروريّاً؟

نستفيد من النصّ المذكور أمرين آخرين:

الأوّل: قوّة معارضي عثمان، وسعي الخليفة في الاستنصار ببعض أصحابه وخاصّته لتأييده فيما يرويه ويحكيه عن رسول اللَّه (ص).

الثاني: ضعف موقف الخليفة وعجزه أمام «الناس! ..» ويُستشفّ ذلك من نقطتين:

الأُولى: اتخاذه سياسة الدفاع، لا الهجوم كما هو المشاهد في حديث حمران السابق، بقوله: «لا أدري ما هي؟! إلّاأنّي رأيت رسول اللَّه يتوضّأ نحو وضوئي»، وما رواه أبو علقمة: «دعا ناساً من أصحاب رسول اللَّه»، وقوله:

«الحمد للَّه الذي وافقتموني على هذا»، وغيرها من النصوص الدالّة على الضعف- ممّا ستقف عليه لاحقاً- بالإضافة إلى تجنيده مواليه- كحمران وابن دارة- لنقل أخبار وضوئه للناس والتأكيد على أنَّ ذلك هو وضوء رسول اللَّه، محاولًا بذلك إقناع الناس؛ فقد روى البيهقيّ: عن محمّد بن عبد اللَّه بن أبي مريم:

انَّ ابن دارة سمع مضمضته، فدعاه ليعلّمه بوضوء الخليفة؛ وقوله: إنّه وضوء رسول اللَّه «(1)».

وأخرج الدارقطنيّ بسنده إلى محمّد بن أبي عبد اللَّه بن أبي مريم، عن ابن دارة؛ قال: دخلت عليه- يعني عثمان- منزله فسمعني وأنا أتمضمض؛ فقال: يا محمّد!


1- سنن البيهقيّ 1: 62- 63.

ص:63

قلت: لبيك.

قال: ألَا أُحدّثك عن رسول اللَّه (ص)؟

قلت: بلى.

قال: رأيت رسول اللَّه أُتي بماء وهو عند المقاعد «(1)» فمضمض ثلاثاً، ونثر ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح رأسه ثلاثاً، وغسل قدميه ثلاثاً ثلاثاً؛ ثمَّ قال: هكذا وضوء رسول اللَّه (ص) أحببت أن أريكموه! «(2)» وفي حديث آخر عن عمر بن عبد الرحمن قال: حدّثني جدّي: انّ عثمان بن عفّان خرج في نفر من أصحابه حتّى جلس على المقاعد، فدعا بوضوء، فغسل يديه ثلاثاً، وتمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه واحدة، وغسل رجليه ثلاثاً، ثمّ قال: هكذا رأيت رسول اللَّه توضأ، كنت على وضوء ولكن أحببت أن أريكم كيف توضأ النبيّ (ص) «(3)» هذا وقد نقلت المعاجم والصحاح أحاديث أُخرى عن جلوس الخليفة عند المقاعد «(4)» وباب الدرب لتعليم المسلمين وضوء رسول اللَّه!

الثانية: عدم جرأة الخليفة على طعن الناس بالكذب أو البدعة أو الإحداث، بل اكتفى بقول: «لا أدري»، لعلمه بأنَّ وضوء أُولئك هو وضوء رسول اللَّه وأنَّ في تحدّثهم عنه (ص) دلالة واضحة على مشروعيّة فعلهم، وأنَّه هو ذات العمل الذي كان في عهد النبيّ (ص).

ولو كان عثمان يملك دليلًا واحداً- وإن كان ضعيفاً- لما توانى عن طعنهم


1- جاء في هامش صحيح مسلم 1: 270 المقاعد: قيل هي دكاكين عثمان. وقيل: درج، وقيل: موضع بقرب المسجد اتّخذه للقعود فيه لقضاء حوائج الناس والوضوء ونحو ذلك.
2- سنن الدارقطنيّ 1: 91/ 4.
3- سنن الدارقطنيّ 1: 93/ 8.
4- منها ما في سنن الدارقطنيّ 1: 85/ 10، وسنن البيهقيّ 1: 62.

ص:64

وردّهم بأقسى ردّ، ولما اضطرّ لقول (لا أدري) وهو في حالصراع دائم معهم!

أليس من الغريب أن يقول (لا أدري) وهو الذي عاش مع النبيّ (ص) مدّة طويلة في المدينة؟

وعليه .. يلزم اعتبار تجاهل الخليفة دليل ضعفه في قبال قوّة معارضيه!!

فاتّضح ممّا سبق أنَّ الخليفة عثمان بن عفّان لم ينتهج منطق القوّة والعنف- الذي مارسه ضدّ معارضيه عموماً- تجاه معارضيه في مسألة الوضوء، وإنّما نراه في منتهى الليونة والوداعة معهم، مع كونهم من ألدّ خصومه، وبيدهم ما يمكن إثارة الرأي العام ضدّه، فنراه يطير فرحاً ويحمد اللَّه إذا ما وافقه أحد الصحابة على وضوئه، وحسبما نقلناه قبل قليل بأنّه توضّأ وذيّل وضوءه بقول النبيّ (ص): (مَن توضّأ فأحسن الوضوء، ثمَّصلّى ركعتين، كان من ذنوبه كيوم ولدته أُمّه)؛ ثمَّ قال: أكذلك يا فلان؟ قال: نعم. ثمَّ قال: أكذلك يا فلان؟ قال:

نعم .... حتّى استشهد ناساً من أصحاب رسول اللَّه (ص)؛ ثمَّ قال: الحمد للَّه الذي وافقتموني على هذا «(1)».

وقد كان ديدن الخليفة غالباً تذييل ما يحكيه منصفة وضوء رسول اللَّه (ص)! وتثير هذه الظاهرة روح التحقيق عند الباحث .. إذ لماذا كلّ هذا التأكيد؟ ولماذا لم نلاحظ هذا التذييل في المرويّات البيانيّة الأُخرى المنقولة عن غيره من الصحابة في الوضوء؟ فما سرّ ذلك الاختصاص به دون غيره يا ترى؟

أمّا مطالبته أرباب المدرسة المخالفة له بأدلّتها- وهي الطريقة الثالثة للردع والردّ- فقد تغاضى عنها وأحجم، لعلمه أنّهم يمثّلون تيّاراً فكريّاً قويّاً وكبيراً نوعاً وكمّاً من جهة، وأن لا طاقة له على محاججتهم من جهة أُخرى .. فأعلام المدرسة المخالفة للخليفة على منزلة من الصحبة والسابقة والقِدَم والتفقه، وقد


1- كنز العمال 9: 441/ 26883، سنن الدارقطنيّ 1: 85/ 9.

ص:65

رأوا بأُمِّ أعينهم كيفيّة وضوء رسول اللَّه (ص) منذ بداية التشريع حتّى انتقاله (ص) إلى بارئه عزَّ وجلَّ، ونقلوا ذلك للمسلمين، وداوموا على فعله على الرغم من مخالفة الخليفة لذلك.

والأكثر غرابة .. أنَّ الخليفة لم يقدّم أدلّته وبراهينه للمسلمين علىصحّة وضوئه وسلامة فهمه، بل اكتفى في نقله لوضوء رسول اللَّه (ص)، ولجأ إلى عمليّة إشهاد مَن يوافقه علىصحّة نقله! وقد يحتمل أن يكون ألزم معارضيه بالشهادة على ذلك قسراً!

كلّ ذلك يُنبئ عن كون الخليفة في موقف المفكِّر الطارح لفكرة يعارضه عليها جمع غفير ..

فهو يُشهِد ويُدَلِّل، ويُعَضِّد وضوءه بمرويّات متسالم عليها بين المسلمين، في محاولةٍ منه لنقلهم من شي ء معلوم إلى إثبات مجهول.

فعن حمران؛ قال: أتيت عثمان بوضوء، فتوضّأ للصلاة، ثمَّ قال: سمعت رسول اللَّه (ص) يقول: مَن توضّأ فأحسن الطهور، كفّر عنه ما تقدّم من ذنبه؛ ثمَّ التفت إلى أصحابه فقال: يا فلان! أسمعتها من رسول اللَّه؟ .. حتّى أنشد ثلاثة من أصحابه، فكلّهم يقول: سمعناه ووعيناه «(1)».

وعن عمرو بن ميمون؛ قال: سمعت عثمان ... يقول: قال رسول اللَّه: مَن توضّأ كما أُمِر، وصلّى كما أُمِر، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أُمّه .. ثمَّ استشهد رهطاً من أصحاب النبيّ، يقول: هذا؟ قالوا: نعم «(2)».

ويقعد عثمان في المقاعد «(3)» ويتوضّأ ويذيّل وضوءه بأحاديث عن إسباغ الوضوء وإحسانه، ويكرّر ذات الفعل في باب الدرب، ويُشهد على ذلك مَن


1- كنز العمال 9: 424/ 26800.
2- كنز العمال 9: 424/ 26802.
3- انظر كنز العمّال 9: 442/ 26885، 26887.

ص:66

يرى رأيه وفقهه، وبذلك ليقنع المشاهد بأنَّ وضوءه هوالإحسان أو الإسباغ الذي أمر به الرسول (ص).

وإنّما تدلّ تلكم المؤشّرات على أنَّ عثمان بن عفّان هو المخترع للفهم الجديد والاستحسان الفريد، وأنَّ الأدلّة الشرعيّة التي طرقت فهمه وجعلته يعطي للوضوء أبعاداً جديدة ما كانت في ذهن المسلمين من قبل!

وراحت فكرة عثمان وأُطروحته الوضوئيّة تتحرك بين أوساط المسلمين، فلاقت قبولًا من البعض وذلك لما فيها من ظاهر (النظافة) ومن مبالغة في (القدسيّة) ومن عناية زائدة في الوضوء وغسلاته ومسحاته!

ولا يُكشَفُ ستار السِرّ عن سبب ضحك الخليفة الثالث وتبسّمه قبل وبعد وضوءاته الثلاثيّة المُسْبَغة غاية الإسباغ، ولا في استدعائه الحاضرين ليسألوه عن سبب ضحكه، والحال أنّهم لا يرون له مبرّراً لا من قريب ولا من بعيد ..

نعم؛ لا يكشف الستار إلّاإذا فهمنا أنَّ الخليفة الثالث كان يريد استغلال الفرص ليلفت أنظار الحاضرين إلى وضوئه، حتّى يسألوه عن مدىصحّة ما يرتئيه في ذلك .. ومن ثمَّ يأتي دور إجاباته التي يروم بها كسب أكبر عدد ممكن من المؤيدين لمدرسته الوضوئيّة.

فعن حمران؛ قال: دعا عثمان بماء فتوضّأ، ثمَّ ضحك .. فقال: ألَا تسألوني مِمَّ أضحك؟

قالوا: يا أمير المؤمنين، ما أضحكك؟!

قال: رأيت رسول اللَّه توضأ كما توضّأت، فمضمض، واستنشق، وغسل وجهه ثلاثاً، ويديه ثلاثاً، ومسح برأسه وظهر قدميه «(1)».

وعن حمران، قال: كنت عند عثمان، فدعا بوضوء فتوضّأ، فلمّا فرغ قال:


1- كنز العمّال 9: 436/ 26863.

ص:67

توضّأ رسول اللَّه (ص) كما توضّأت، ثمَّ تبسّم؛ وقال: أتدرون مِمَّ ضحكت؟

قلنا: اللَّه ورسوله أعلم!

قال: إنَّ العبد المسلم إذا توضّأ فأتمَّ وضوءه، ثمَّ دخل فيصلاته فأتمَّصلاته خرج من الذنوب كما خرج من بطن أُمِّه «(1)».

وعن حمران، قال: رأيت عثمان دعا بماء، فغسل كفيه ثلاثاً، ومضمض، واستنشق، وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه وظهر قدميه، ثمَّ ضحك.

فقال: ألا تسألوني ما أضحكني؟

قلنا: ما أضحكك يا أمير المؤمنين؟!

قال: أضحكني، أنَّ العبد إذا غسل وجهه حطَّ اللَّه عنه بكلِّ خطيئة أصابها بوجهه، فإذا غسل ذراعيه كان كذلك، وإذا مسح رأسه كان كذلك، وإذا طهّر قدميه كان كذلك «(2)».

تدلّ هذه النصوص على أنَّ الخليفة ولحدِّصدور هذه الأخبار عنه أنَّه كان يمسح برأسه وظهر قدميه، وسنعضد هذا المدعى بروايات أُخرى لاحقاً إن شاء اللَّه تعالى.

أمَّا موضوع تبسّم الخليفة وضحكه فهو لا يُنبئ فيما ترى عن فرحه بما للوضوء من أجر عند اللَّه- كما ادّعاه ويفهم من سياق الحديث وقول الخليفة- بل انّ في كلامه إشارة إلى أمر خفي أراد أن يختبر به أُولئك الصحابة، وذلك بإحداثه بعض الشي ء في الوضوء .. فرأى منهم السكوت!

وسؤاله يحمل عامل إثارة .. فما هو ذلك؟


1- كنز العمّال 9: 439/ 26872 كر.
2- كنز العمّال 9: 442/ 26886 حم والبزّاز حل ع و صحح.

ص:68

ربَّما تكون النصوص السابقة، وما جاء فيصدر الدراسة «إنَّ ناساً» هي المنعطف في تاريخ الوضوء، وبمثابة المقدمة للإحداث الكلِّي فيه، فالخليفة أراد أن يختبر أثر ما رآه ورواه عن رسول اللَّه، باختراعه الغسلة الثالثة في غسل الأعضاء وجعلها جزءاً من وضوء رسول اللَّه لما في ذلك من تعمّق وزيادة في الوضوء.

نعم؛ أراد أن يتعرّف على تأثير هذا الإحداث ومدى تقبّل الصحابة له، فهل سيواجه بانتقادهم له أم لا؟؟ وإذا ما كانت الأُمور مهيّأة له فسيلحقه بغسل الأرجل وغيرها!!

إنَّ المطالع في مصنّف ابن أبي شيبة- السالف الذكر- يتأكّد بأنَّ ضحك الخليفة لم يكن لأجل ما للمؤمن من أجر، إذ ما جاء فيها لم يذيّل بذلك ... ولذا، فلا يمكننا الحكم جزماً بأنّ سبب ضحك الخليفة هو من حطِّ الذنوب عن المتوضئ وذلك لما عرفنا من ملابسات الأُمور!!

ولا ندري ما هو جواب عثمان فيما لو سئل عن سبب وسرّ ضحكه، وعن علاقة الربط فيما بين الضحك والوضوء؟!

ثمَّ لماذا لا يذيّل باقي الصحابة الناقلين لصفة وضوء رسول اللَّه رواياتهم بألفاظ (الإسباغ) و (الإحسان) و ...؟

ولماذا لا نراهم يُشهدون أحداً على وضوءاتهم؟!

وكيف بهم لا يتبسّمون- ناهيك عن الضحك- قبل وبعد الوضوء؟!

ولِمَ يختصّ عثمان بنقل ضحك رسول اللَّه دون غيره في أحاديث الوضوء؟

هذا، وقد أورد أحمد في مسنده- وكما قلنا- روايتين عن عثمان، نسب عثمان فيهما ضحكه إلى أنَّه قد رأى النبيَّ (ص) ضحك بعد وضوئه وقال لأصحابه:

«ألا تسألوني ما أضحكني» مبرراً بذلك ضحكه ودافعاً لكلِّ إيهام قد يرد في

ص:69

ذهن السامع، وإنَّا نعلم بأنَّ نقل عبارة «إنَّ العبد إذا دعا بوضوء فغسل وجهه حطّ اللَّه عنه كلّ خطيئة أصابها، فإذا غسل ذراعيه كان كذلك، وإن مسح برأسه كان كذلك، وإذا طهّر قدميه كان كذلك» ... لا يستوجب الضحك، وأنَّ تعليل ضحك الخليفة بأنه رأى النبيّ (ص) قد ضحك في البقعة التي توضّأ فيها، مبالغة في التأكيد على شرعيّة الغسل الثلاثيّ وتبريراً لضحكاته وتبسّماته وتذييلاته اللاتي تنبئ المشاهد الذكيّ بأنّه بصدد إحداث شي ء في الوضوء وجرِّ الأنظار إلى فكرته الوضوئيّة.

وهناك نقطة أُخرى ينبغي الإشارة اليها، وهي اختصاص أغلب الروايات المنقولة عن الخليفة- والصحاح منها بطبيعة الحال- بحمران بن أبان، كما لم يكن الناقلون عن حمران من المحدّثين الكبار، ولم تنقل عنهم بطرق متعددة وأسانيد قويَّة معتمدة، كما هو الشأن في غالب الضروريات الدينيَّة المنقولة عن الخلفاء وكبار الصحابة والتابعين، وهذا إنّما يؤكِّد ويدعم الرأي الذاهب إلى أنَّ عثمان هو المؤسّس لفكرة الوضوء الجديدة، وإنَّ الملتفّين حوله من متأخِّري الصُحبة وصغارهم، ممَّن لا حول لهم ولا قوَّة، كحمران وابن دارة و ...، قد أخذوا على عاتقهم التزام الفكرة ومحاولة بثّها بينصفوف المحدّثين، بإخبارهم هذا وذاك بما شاهدوا عن عثمان، ونقلهم لصفة وضوء رسول اللَّه!

فقد ثبت ولحد الآن: أنَّ عثمان بن عفّان هوصاحب المدرسة الوضوئيّة الجديدة، وأنَّ «الناس» لم يكونوا البادئين بالخلاف، وإنَّما كانوا يظهرون غير ما يريده الخليفة، فاندفع الخليفة بكلِّ قواه الفكريَّة والدعائيّة لكسب قاعدة تؤيّده فيما رآه أو سمعه عن رسول اللَّه!!

ما هو السرّ؟

بقي شي ء، وهو: ما السرّ في تخصيص عثمان حمران بقوله: «إنَّ ناساً

ص:70

يتحدّثون ..» في حين لا نرى الأخير يُشكِّك أو يسأل الخليفة عن مشروعيّة الوضوء الجديد، أو نراه يطرح أو يستنصر لوضوء الناس، وهم الخطّ المخالف للخليفة في الوضوء!

بل كلّ ما في الأمر أنّ حمران أتى بماء لعثمان، فتوضّأ ثمّ قال (إنّ ناساً يتحدّثون ...) فما هو السبب في إثارة الخليفة هذا الخبر دون سابق إنذار؟!

أشرنا من خلال البحوث السابقة إلى أنَّ الخليفة عثمان كان يمسح ظهر قدميه «(1)»، وقد مرَّ عليك بعض النصوص الدالّة على ذلك ممّا هو مذكور في الصحاح والمسانيد، وأغلبهاعن طريق حمران؛ وقلنا بأنَّ الخليفة أراد بضحكه أن يتعرّف على موقف الصحابة في غسله للأعضاء وهل انّهم سيعارضون أم لا؟ ودلّلنا كذلك بأنَّه كان يُشهد الصحابة على وضوئه ويذيّل أحاديثه بما سمعه أو رآه من رسول اللَّه .. وغيرها، وأنَّ هذه المواقف كغيرها كانت تؤذي بعض الصحابة، لأنَّهم ما كانوا قد رأوا ولا سمعوا بذلك من رسول اللَّه.

فالمسلمون قد اضطرّوا لموافقة الخليفة في تلك المواقف إمَّا خوفاً أو حفاظاً على وحدة الصفّ الإسلاميّ، وحتّى إنَّ الناس قد طلبوا من عليّ بن أبي طالب أن يكلّم الخليفة في إحداثاته المتكررة والكثيرة، فدخل عليه وقال له:

«إنَّ الناس ورائي، وقد استسفروني بينك وبينهم، وواللَّه ما أدري ما أقول لك؟ ما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدُلك على شي ء تعرفه.

إنَّك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شي ء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشي ء فنبلغكه، وقد رأيت كما رأينا، وسمعت كما سمعنا، وصحبت رسول اللَّه كماصحبنا، وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطّاب أولى بعمل الحقّ منك، وأنت أقرب إلى رسول اللَّه (ص) وشيجة رحم منهما، وقد نلت منصهره ما لم ينالا، فاللَّه اللَّه في نفسك فإنَّك واللَّه ما تُبَصَّرُ من عمى، ولا تعلم من جهل، وإنَّ الطرق


1- كما في خبر كنز العمال 9: 436/ 26863 والذي مرّ ذكره في كتابنا هذا.

ص:71

لواضحة، وإنَّ أعلام الدين لقائمة.

فاعلم أنَّ أفضل عباد اللَّه عند اللَّه إمام عادل هُدِيَ وهدى، فأقام سنّة معلومة، وأمات بدعة مجهولة، وأنَّ السنن لنيّرة لها أعلام، وأنَّ البدع لظاهرة لها أعلام .. وأنَّ شرّ الناس عند اللَّه إمام جائر ضلَّ وضُلَّ به، فأمات سنّة مأخوذة، وأحيا بدعة متروكة، وإنّي سمعت رسول اللَّه (ص) يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، يلقى في نار جهنّم فيدور فيها كما تدور الرحى، ثمَّ ترتبط في قعرها» «(1)».

وهناك نصوص أُخرى تدلّ على هذه الحقيقة وأنَّ أصحاب رسول اللَّه أقدموا على قتل عثمان ابتغاءً لمرضاة اللَّه وجزاءً لما أحدثه في الدين، وقد ذكر الطبريّ كتاب أصحاب رسول اللَّه إلى بعضهم .. أن أقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد، كثر الناس على عثمان، ونالوا منه أقبح ما ينال من أحد، وأصحاب رسول اللَّه يرون ويسمعون وليس فيهم أحد ينهى ولا يذبّ «(2)».

وبهذا يمكننا أن نرجحصدور أخبار المسح الصادرة عن الخليفة في السنوات الست الأوائل من خلافته والتي لم يذكر فيها شي ء عن إحداثه الدينيّ، أمّا أخبار الغسل فإنَّهاصدرت في الأعوام الستة الأخيرة التي رماه الأصحاب فيها بالإحداث والإبداع، وإنَّا سنشير لاحقاً إلى أسباب تغيير سياسة الخليفة في النصف الثاني من خلافته ودواعي إحداثه للوضوء الجديد.

وعلى ضوء ما تقدم؛ نحتمل أن يكون الخليفة إنَّما أراد من توجيه الخطاب إلى حمران أن يدفع الدخل المقدّر في ذهنه- حسبما يقوله الأُصوليون- أي:

يرفع التساؤل الذي من المحتمل أن يطرح في مخيلته ويختمر في ذهنه وهو: كيف يصحّ للخليفة أن يغسل رجليه اليوم وقد عهدناه حتّى الأمس القريب


1- نهج البلاغة 2: 84 خ 159، البداية والنهاية 7: 175، انساب الاشراف 5: 60، الكامل في التاريخ 3: 151، المنتظم 5: 45.
2- تاريخ الطبريّ 4: 336.

ص:72

يمسحهما؟! .. فالخليفة أراد أن يدفع الاحتمال المقدّر والمكنون في نفس حمران بقوله: «إنَّ ناساً يتحدّثون في الوضوء بأحاديث لا أدري ما هي، إلّاأنّي رأيت رسول اللَّه يتوضّأ نحو وضوئي هذا» فإنَّ جملة «إلّا أنّي رأيت رسول اللَّه يتوضّأ نحو وضوئي هذا» إشارة إلى أنَّه يطلب أمراً لمشروعيّة عمله الجديد والذي أقدم عليه خلافاً لسيرة الصحابة، وما كان يعمله في السنوات الست الأوائل من خلافته!

بعد كلِّ ما تقدّم .. يمكننا الجزم بأنَّ منشأ الخلاف ومسوّغات استفحاله إنَّما تعود بالكامل إلى الخليفة الثالث عثمان بن عفّان، فهو الذي راح يعرّض ويصرّح بمخالفيه، وأجهد نفسه في شتّى المناسبات لبيان أدلّته علىصحّة وضوئه- بعد نسبته إلى النبيّ الأكرم (ص)- كقوله: سمعت رسول اللَّه يقول: ...

أسبغوا الوضوء ...، و ... أحسنوا الوضوء ... وما شابهها من العبارات التي من الممكن تسخيرها في دعم فكرة تكرار الغسل ثلاث مرّات، باعتبار أنَّ تكرار الغسل هو غاية الإسباغ ومن إحسان الوضوء، وهكذا الأمر في ابدال مسح الرجلين بغسلهما لأنَّه يرى أنَّ الوضوء هو النظافة، والإسباغ هو المبالغة في النظافة، وأنَّ غسل الرجلين يكفي عن المسح؛ لأنَّه مسح وزيادة!

ومحصلة المقال: أنَّ نزاعاً قد وقع بين عثمان والصحابة في قضيّة الوضوء؛ وأنَّ الذي وضع لبنة ذلك النزاع هو عثمان نفسه.

لِمَ الإحداث في الوضوء؟

والآن فلنعد ما طرحناه سابقاً:

كيف يتخطّى الخليفة سيرة رسول اللَّه ويأتي بوضوء يغاير وضوء المسلمين؟ وما هو السبب الداعي لاتّخاذه هذا القرار مع علمه بأنّ ذلك يسبب معارضة الصحابة له، وربّما أدّى إلى أُمور لا تحمد عقباها؟

ص:73

للإجابة عن هذا السؤال لابدّ من التمهيد للموضوع بمقدّمة وإشارة- ولو إجمالًا- إلى دواعي اختلاف المسلمين في عهد عثمان وأسباب مقتل الخليفة.

فقد أجمع المؤرِّخون على أنَّ مقتل عثمان جاء لإحداثاته، ثمَّ فسَّروا تلك الإحداثات بإيثاره لأقربائه وإعطائهم الحكم والمال «(1)»:

لكن هل أن هذه الاحداثات هي وحدها كانت السبب في مقتله؟

أم إنَّ هناك عوامل أُخرى لم يذكرها المؤرّخون؟

قال ابن أبي الحديد في شرحه للنهج، وهو في معرض حديثه عن إحداثات عثمان: إنَّها وإن كانت إحداثاً، إلّا أنّها لم تبلغ الحدَّ الذي يستباح به دمه، وقد كان الواجب عليهم أن يخلعوه من الخلافة، حيث لم يستصلحوه لها، ولا يعجِّلوا بقتله «(2)»، فإذا ثبت ذلك، فما هو السبب إذَاً؟

نحن في الوقت الذي لا ننكر فيه ما للدوافع الماليّة والسياسيّة من أثر في توسيع رقعة الخلاف وإثارة الأُمّة ضدَّ الخليفة، إلّاأنَّنا- ومع ذلك- نحتمل وجود سبب آخر- ومن وراء الكواليس- لم يبحثه الباحثون ولم يحقِّقوا فيه.

إذ إنَّ سوء سيرة الخليفة الماليّة- وكما قلنا- لا تستوجب القتل، وقد ثبت عن عثمان أنّه كان يغدق الأموال بشكل وفير على الجميع، حتى احتمل البعض بأنَّ لينه، وسماحة طبعه وكرمه هما اللذان أدّيا إلى مقتله، وأنَّ إغداقه على أعدائه ليس بأقلّ ممّا خصّ به أقرباءه، فقد روي بأنَّ طلحة قد اقترض منه خمسين ألفاً؛ فقال لعثمان ذات يوم: قد تهيّأ مالك فأرسل من يقبضه، فوهبه له «(3)».

وفي مكان آخر: وصل عثمانُ طلحةَ بمائتي ألف، وكثرت مواشيه وعبيده،


1- أنظر انساب الاشراف 5: 30، 35، شرح ابن أبي الحديد 3: 17، الطبقات الكبرى 3: 64.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 199- 200.
3- تاريخ الطبريّ 4: 405.

ص:74

وقد بلغت غلّته من العراق وحدها ألف دينار يوميّاً.

يقول ابن سعد في طبقاته: لمّا مات طلحة كانت تركته ثلاثين مليوناً من الدراهم، وكان النقد منها مليونين ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار.

فمن البعيد أن يكون طلحة- ذلك المنتفع- من المخالفين لسياسة عثمان الماليّة، فما هو السبب يا ترى؟ هل هو الطمع في الحكم، أم الغيرة على الدين؟

أنا لست من أنصار الشقّ الثاني من السؤال، بل أرى أنَّ الطمع في كرسي الحكم هو وراء موقف طلحة، وهذا ما كانت تتوقعه عائشة كذلك.

أمَّا بخصوص عبد الرحمن بن عوف، فقد حاول عثمان استمالته بأن وعده بالحكم؛ وقد أشار الإمام عليّ في كلام له مع ابن عوف إلى هذه الحقيقة، هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى .. فالمعروف عن ابن عوف أنّه كانصاحب ثروة هائلة وأموال وفيرة بلغت: ألف بعير، ومائة فرس، وعشرة آلاف شاة، وأرضاً كانت تزرع على عشرين ناضحاً، وخرجت كل واحدة من الأربع بنصيبها من المال الذي تركه، فكان أربعة وثمانين ألفاً «(1)».

أمّا حال الزبير بن العوّام وأمواله فحدّث ولا حرج «(2)».

وعليه .. لا يمكن حمل انتقاد ابن عوف لعثمان على طمعه في الحكم والمال، وإن كنّا لا نستبعد طمع الشيخين طلحة والزبير في الحكم!

فالمال مبذول بما يرضي الكثير، وعثمان هو أوّل مَن أقطع الأرضين، فقد أقطع لعبد اللَّه بن مسعود، وسعد بن أبي وقّاص، وطلحة، والزبير، وخبّاب بن الارتّ، وخارجة، وعدي بن حاتم، وسعيد بن زيد، وخالد بن عرفطة


1- مروج الذهب 2: 333.
2- انظر مثلًا الفتنة الكبرى 1: 147.

ص:75

وغيرهم، حتى نقل عن ابن سيرين قوله: لم تكن الدراهم في زمانٍ أرخص منها من زمان عثمان، وإنَّ الجارية كانت تباع بوزنها، وقد بلغ ثمن الفرس خمسين ألفاً «(1)».

فلوصحّ ذلك .. فما دافع المنتفضين يا ترى؟

إن قيل: الطمع في الحكم؛ فيعقل تصوّره في البعض، أمّا طمع الكل فمحال يقيناً، مضافاً إلى أنَّ الطامعين يلزم أن يستندوا على أُمور لإثارة الرأي العام، فالإحداثات الماليّة وتقريب بني أعمامه لا توجب الثورة، فما هي الركائز التي استند عليها المعارضون له يا ترى؟!

يظهر لنا أنَّ ثمّة أُمور جعلت الطبري وغيره يتخوّف من بيانها (رعاية) لحال العامّة!

قال الطبري: قد ذكرنا كثيراً من الأسباب التي ذكر قاتلوه أنَّهم جعلوها ذريعة إلى قتله، فأعرضنا عن ذكر كثير منها لعلل دعت إلى الإعراض عنها «(2)».

وقال في مكان آخر: إنَّ محمّد بن أبي بكر كتب إلى معاوية لمّا ولِّي، فذكر مكاتبات جرت بينهما، كرهت ذكرها لما فيه ما لا يتحمل سماعها العامّة «(3)».

وقال ابن الأثير- عن أسباب مقتل عثمان-: قد تركنا كثيراً من الأسباب التي جعلها الناس ذريعة إلى قتله لعلل دعت إلى ذلك «(4)».

والآن .. نعاود السؤال، ولا نريد به إثارة رأي العامّة- كما ادّعاه الطبريّ- أو نقل ما يكرهونه .. بل للوقوف على الحقيقة ومعرفتها، بعيداً عن الأحاسيس والعواطف، إذ يلزم أن تدرس الأحداث التاريخيّة كما هي، ولا ينبغي أن يكون دور للأهواء والعواطف فيها، وأحببنا أن لا نكون كالطبريّ


1- تاريخ المدينة 3: 1019- 1023.
2- تاريخ الطبري 4: 365.
3- تاريخ الطبري 4: 557.
4- الكامل في التاريخ 3: 167.

ص:76

وابن الأثير، وأمثالهما ممّن ينقل الحدث مبتوراً لاسباب مخفيّة، ولا يبالون بالبتر حتى وإن أوجب ذلك تحريفاً للواقع وتشويهاً للحقيقة!

قال أبو جعفر الطبري في تاريخه:

وفي هذه السنة أعني سنة ثلاثين، كان ما ذكر من أمر أبي ذرّ ومعاوية وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة، وقد ذكر في سبب إشخاصه إيّاه منها إليها أُمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها.

فأمّا العاذرون معاوية في ذلك، فإنّهم ذكروا في ذلك قصّة، كتب بها إليّ السريّ، يذكر أنَّ شعيباً حدّثه سيف بن عمر «(1)» ... الخبر.

وقال ابن الأثير: وقد ذكر في سبب ذلك أُمور كثيرة من سبّ معاوية إيّاه، وتهديده بالقتل، وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء، ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع، لا يصحّ النقل به ولوصحّ لكان ينبغي أن يعتذر عن عثمان، فإنَّ للإمام أن يؤدِّب رعيته، وغير ذلك من الأعذار، أن يجعل ذلك سبباً للطعن عليه «(2)».

فما يعني نقل الطبريّ لكلام العاذرين معاوية وخبر سيف بن عمر دون الأسباب الكثيرة الأُخرى؟

وكيف لا يرتضي ابن الأثير نقل خبر أبي ذرّ، وسبّ معاوية وتهديده بالقتل، وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء، وقد تواتر نقله عن جميع المؤرّخين.

ألم تكن تلك المواقف منهم في خدمة السلطان، وإبعاد الأُمّة من الوقوف على الحقيقة؟

وماذا يستنتج القارئ لو قاس النصّين- ما جاء في مقتل عثمان وما جاء في


1- تاريخ الطبريّ 4: 283.
2- الكامل لابن الأثير 3: 113- 114.

ص:77

تسيير أبي ذرّ- في تاريخ الطبريّ وابن الأثير، ألَم يكن منحازاً إلى جهة دون أُخرى، إذ نراه لا يذكر بقيّة الأسباب في مقتل عثمان خوفاً من العامّة، أمّا هنا فلا يرتضي نقل أسباب تسيير أبي ذرّ لنفس العلّة، لكنَّ الطبريّ ذكر أخبار العاذرين لمعاوية بحذافيرها، كأنَّه أراد ترجيح كفَّتهم.

فلماذا فعل ذلك؟

وهل يمكن بعد وقوفنا على هذه النصوص أن نطمئنّ بمبرّرات الطبريّ وغيره في عدم نقلهم لأسباب مقتل عثمان؟!!

نعم، إنَّ تعارض أهداف تلك النصوص جعلنا نشكّك في كلام الطبريّ وغيره، وأثارت فينا روح الاستطلاع والبحث عن وجود أسباب أُخر غير ما تناقله المؤرّخون.

إذ إنَّ الثورة بنظرنا لم تكن ماليّة بحتة- وإن كان لها الدور الكبير- بل كانت تستبطن أمراً دينيّاً، وحتى قضيّة إيثاره لأقربائه وعشيرته لم تكن لأجل كونهم أقاربه بل لعدم نزاهة أُولئك المقرّبين وتخوّف الصحابة من وقوع مستقبل الشريعة بيد هؤلاء الطلقاء الفاسقين البعيدين عن روح الإسلام وأهدافه.

نعم، إنّ تقريبه لأقاربه لم يكن لأجل كونهم أقاربه بل لعدم نزاهتهم ودعوتهم الناس إلى أُمور لم ينزل اللَّه بها من سلطان، وإليك اعتراضات بعض الصحابة ومنها يستشمّ موارد النقمة على عثمان وانّها لم تكن ماليّة بحتة.

وأخيراً سنذكر رأياً آخر في سبب مقتل عثمان لم يطرح لحدّ الآن.

وإليك بعض الإحداثات:

1- الوليد بن عقبة، وشربه الخمر:

عزل الخليفة عثمان سعد بن أبي وقّاص وولّى مكانه أخاه الوليد عليها، والأخير شرب الخمر ودخل المسجد فصلّى بالناس ركعتين ثمّ قال: أزيدكم؟

ص:78

فقال له ابن مسعود «(1)»: لا زادك اللَّه خيراً، ولا مَن بعثك إلينا؛ وأخذ حفنة حصى فضرب بها وجه الوليد، وحصَبَهُ الناس، فدخل القصر والحصباء تأخذه وهو يترنّح.

فخرج رهط من أهل الكوفة في أمره إلى عثمان، فأخبروا عثمان خبره ..

فقال ابن عوف: ما له؟ أجنَّ؟

قالوا: لا؛ ولكنه سكر.

فقال عثمان لجندب بن زهير: أنت رأيت أخي يشرب الخمر؟

قال: معاذ اللَّه، ولكن أشهد أنّي رأيته سكران يقلسها من جوفه، وأنّي أخذت خاتمه من يده وهو لا يعقل.

فقال عثمان: لماذا يا أهل الكوفة تفسّقون من ولاكم؟

ثم أوعدهم، فخرجوا منه وأتوا عائشة، فأخبروها بما جرى بينهم وبين عثمان، وأنَّ عثمان زجرهم، فنادت عائشة: إنَّ عثمان أبطل الحدود وتوعّد الشهود ...!

وأجابها عثمان: أما يجد مرّاق أهل العراق وفسّاقهم ملجأً إلّابيت عائشة؟

فرفعت عائشة نعل رسول اللَّه وقالت: تركت سنّة رسول اللَّه؛صاحب هذا النعل؟ «(2)» فتسامع الناس فجاؤوا حتى ملؤوا المسجد، فمن قائل: أحسنت عائشة؛ ومن قائل: ما للنساء ولهذا؟! حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال، وكان أوّل قتال بين المسلمين بعد النبي (ص).

كان هذا أحد موارد اعتراض الأُمّة على الخليفة، وهي كما ترى، تستبطن


1- جاء في أنساب الأشراف 5: 32 أنّ عتاب بن علاق قال له ذلك وليس ابن مسعود.
2- انظر: أنساب الأشراف 5: 34، الامامه والسياسة 1: 37، تاريخ الطبري 4: 276، صحيح مسلم 3: 1331/ 38.

ص:79

أُموراً دينيّة كثيرة منها:

1- تولية فاسق لإمرة المسلمين.

2- إيعاد الخليفة الشهود.

3- عدم ارتضاء الخليفة إجراء الحدّ على من استحقّ حدّاً شرعيّاً.

4- عدم ارتضاء عزل والٍ لا يصلح لهذا المنصب الجليل.

كلّ هذه الأُمور كانت حقوقاً إسلاميّة يحقّ للمسلمين المطالبة بها.

2- نظرة الولاة في أموال المسلمين!

ولّى الخليفةُ عثمان سعيد بن العاص الكوفة مكان الوليد بن عقبة، وحين قدومه إليها استخلص من أهلها قوماً يسمرون عنده؛ فقال سعيد يوماً: إنَّ السواد بستان لقريش وبني أُميّة .. فاعترض مالك الأشتر النخعي على هذه الرؤية الخاطئة فقال: أتزعم أنَّ السواد الذي أفاءه اللَّه على المسلمين بأسيافنا بستان لك، ولقومك؟!

فقالصاحب شرطته: أتردّ على الأمير مقالته!

فَهَمَّ النخعيّون بصاحب الشرطة بحضرة سعيد، وجرّوا برجله، فغلظ ذلك على سعيد؛ فكتب إلى عثمان في أمر هؤلاء، فأمر بتسييرهم إلى الشام «(1)».

وفي هذا الإحداث كذلك أُمور لو تدبّر الباحث فيها لعرفها.

3- عثمان والنداء الثالث يوم الجمعة.

ذكر البلاذري في الأنساب، عن السائب بن يزيد: كان رسول اللَّه إذا خرج للصلاة أذّن المؤذن، ثمّ يقيم، وكذلك الأمر على عهد أبي بكر وعمر وفيصدر من أيّام عثمان، ثمّ إنَّ عثمان نادى النداء الثالث في السنة السابعة، فعاب الناس


1- الأنساب للبلاذريّ 5: 40، 25، 28، تاريخ الطبريّ 4: 322- 323، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 21، 35، الكامل في التاريخ 3: 137- 141.

ص:80

ذلك، وقالوا: بدعة «(1)».

وقد جاء في اعتراضات الصحابة عليه أنَّه قد أتى بأُمور لم تكن على عهد الرسول الأكرم (ص) والشيخين.

فقد روى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر، أنّه قال: الأذان الأوّل يوم الجمعة بدعة «(2)».

وروى الزهريّ قوله: إنَّ أوّل من أحدث الأذان الأوّل عثمان، يؤذّن لأهل السوق «(3)».

يستشمّ ممّا سبق ومن اعتراضات الصحابة على الخليفة توجّههم إلى أمر شرعي، وأنّه قد أحدث أمراً لم يكن متعارفاً في عهد رسول اللَّه والشيخين.

وهذا يوضح ما ادّعيناه بأنّ الثورة عليه كانت تستبطن أمراً دينيّاً.

4- عثمان والصلاة بمنى.

ومن إحداثاته أيضاً، أنّه أتمَّ الصلاة بمنى، فاعترض عليه جمع من الصحابة، منهم: عبد الرحمن بن عوف .. فقد أخرج الطبري وابن كثير وابن الأثير وغيرهم .. عن عبد الملك بن عمرو بن أبي سفيان الثقفيّ، عن عمّه؛ قال:

صلّى عثمان بالناس بمنى أربعاً، فأتى آتٍ عبد الرحمن بن عوف فقال: هل لك في أخيك؟ قدصلّى بالناس أربعاً!

فصلّى عبد الرحمن بأصحابه ركعتين، ثمّ خرج حتّى دخل على عثمان؛ فقال له: ألم تُصَلِّ في هذا المكان مع رسول اللَّه (ص) ركعتين؟

قال: بلى.

قال: ألم تصلّ مع أبي بكر ركعتين؟


1- الأنساب للبلاذريّ 5: 39، المنتظم 5: 7- 8.
2- المصنّف لابن أبي شيبة 2: 48/ 3.
3- المصنّف لابن أبي شيبة 2: 48/ 4.

ص:81

قال: بلى.

قال: ألم تصلّ مع عمر ركعتين؟

قال: بلى.

قال: ألم تصلّصدراً من خلافتك ركعتين؟

قال: بلى.

قال [عثمان]: فاسمع منّي يا أبا محمّد، إنّي أُخبرت أنَّ بعض مَن حجّ من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي: إنَّ الصلاة للمقيم ركعتان، هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين، وقد اتخذتُ بمكّة أهلًا، فرأيت أن أُصلّي أربعاً لخوف ما أخاف على الناس، وأُخرى قد اتخذتُ بها زوجة، ولي بالطائف مال فربّما أطلعته فأقمت فيه بعد الصدر.

فقال عبد الرحمن بن عوف: ما مِن هذا شي ء لك فيه عذر .. أمّا قولك:

اتّخذتُ أهلًا؛ فزوجتك بالمدينة، تخرج بها إذا شئت، وتقدم بها إذا شئت، إنّما تسكن بسكناك.

وأمّا قولك، ولي مال بالطائف؛ فإنَّ بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال، وأنت لست من أهل الطائف.

وأمّا قولك: يرجع من حجّ من أهل اليمن وغيرهم، فيقولون: هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين، وهو مقيم؛ فقد كان رسول اللَّه (ص) ينزل عليه الوحي والناس يومئذٍ الإسلام فيهم قليل، ثمّ أبو بكر مثل ذلك، ثمّ عمر، فضرب الإسلام بجِرانه، فصلّى بهم عمر حتّى مات ركعتين.

فقال عثمان: هذا رأي رأيته «(1)».

وجاء في أنساب الأشراف: حدّثني محمَّد بن سعد عن الواقديّ عن محمَّد ابن عبد اللَّه عن الزهريّ عن سالم بن عبد اللَّه عن أبيه قال:صلّيت مع رسول


1- أنساب الأشراف 5: 39، تاريخ الطبريّ 4: 268.

ص:82

اللَّه بمنى ركعتين ومع أبي بكر وعمر ومع عثمانصدراً من خلافته ثمَّ أتمّها أربعاً، فتكلَّم الناس في ذلك فأكثروا وسئل أن يرجع عن ذلك فلم يرجع «(1)».

وروى الطبريّ في تاريخه.

عن الواقديّ عن عمر بنصالح بن نافع، عنصالح- مولى التوءمة-؛ قال:

سمعت ابن عباس يقول: إنَّ أوّل ما تكلّم الناس في عثمان ظاهراً .. أنَّهصلّى بالناس بمنى في ولايته ركعتين، حتّى إذا كانت السنة السادسة أتمّها، فعاب ذلك غير واحد من أصحاب النبيّ (ص)، وتكلّم في ذلك من يريد أن يكثر عليه، حتّى جاءه عليّ فيمن جاءه؛ فقال: واللَّه ما حدث أمر ولا قدم عهد، ولقد عهدت نبيّك (ص) يصلّي ركعتين، ثم أبا بكر، ثمّ عمر، وأنتصدراً من ولايتك، فما أدري ما ترجع اليه؟!

فقال: رأي رأيته «(2)».

5- إعطاء الخليفة فدكاً وخمس إفريقية لمروان بن الحكم:

عدَّ ابن قتيبة في المعارف «(3)» والبلاذريّ في الأنساب «(4)» ممّا نُقم على عثمان إقطاعه فدكاً لمروان، وقد اعتبر المسلمون هذا الإحداث مخالفاً لعمل الشيخين والأدلّة الثابتة، إذ إنّ فدكاً لو كانت فيئاً للمسلمين- كما ادّعاه أبو بكر- فما وجه تخصيصها بمروان؟ وإن كانت ميراثاً لآل الرسول- كما احتجّت به الزهراء في خطبتها- فكيف يمنعون بني الزهراء عنها؟!!

وكذا الأمر بالنسبة لخمس إفريقية، فما هو وجه تمليكه إيّاها؟

ولهذا الاعتراض وجهاً دينيّاً؛ إذ نرى الناس يعترضون على الخليفة وكذا على ولاته لما أحدثوا من أفكار وأُصول ونفيهم لأُخرى، وهي ممّا لم يُسنّ في


1- أنساب الأشراف 5: 39.
2- تاريخ الطبري 4: 267.
3- المعارف: 112.
4- انظر أنساب الأشراف 5: 25، الإمامة والسياسة 1: 35.

ص:83

شريعة الرسول ولم يعمل به الشيخان.

كانت هذه بعض الأُمور، نقلناها ليتّضح للقارئ وجه آخر، تتجلّى فيه معالم نقمة المسلمين على الخليفة الثالث عثمان بن عفّان والتي استبطنت أُموراً دينيّة .. ومن يستقري مواقف الصحابة من سياسة عثمان وإحداثاته يقطع بنقمتهم عليه واستيائهم من خلافته، وإليك بعض ما ورد عنهم في المقام:

مواقف الصحابة من سياسة عثمان وإحداثاته:

1- طلحة بن عبد اللَّه:

ذكر البلاذريّ: إنَّ طلحة قال لعثمان: إنَّك أحدثت أحداثاً لم يكن الناس يعهدونها «(1)».

وأخرج الثقفيّ في تاريخه، وابن الأعثم في فتوحه: إنَّ طلحة قام إلى عثمان؛ فقال له: إنَّ الناس قد جمعوا لك، وكرهوا البدع التي أحدثت ولم يكونوا يرونها ولا يعهدونها، فإن تستقم فهو خير لك، وإن أبيت لم يكن أحد أضرّ بذلك منك في دنيا ولا آخرة «(2)».

ورُوِيَ أَنَّ طلحة قال لمالك بن أوس: يا مالك؛ إنّي نصحت عثمان فلم يقبل نصيحتي، وأحدث أحداثاً، وفعل أُموراً، ولم يجد بُدّاً من أن يغيّرها «(3)».

2- الزبير بن العوّام:

جاء في شرح النهج: إنَّ الزبير كان يقول: اقتلوه فقد بَدّل دِينكم.

فقالوا: إنَّ ابنك يحامي عنه بالباب.


1- أنساب الأشراف 5: 29.
2- انظر: الفتوح لابن أعثم 1: 35، وبحار الأنوار- قسم الملاحم والفتن.
3- المصدر السابق، وفي الإمامة والسياسة 1: 40 أنّ طلحة أجاب عثمان فيما أشهده: لأنّك بدّلت وغيّرت.

ص:84

فقال: ما أكره أن يقتل عثمان ولو بُدِئ بابني ... «(1)».

3- عبد اللَّه بن مسعود:

جاء في أنساب الأشراف «(2)»: إنَّ ابن مسعود لمّا ألقى مفاتيح بيت المال إلى الوليد بن عقبة؛ قال: مَن غيّر غَيَّرَ اللَّه ما به ومَن بدّل أسخط اللَّه عليه، وما أرىصاحبكم إلّا وقد غيّر وبدّل، أيعزل سعد بن أبي وقّاص ويولّى الوليد بن عقبة؟

وكان يتكلّم بكلام لا يدعه، وهو (إنَّ أصدق القول كتاب اللَّه، وأحسن الهدى هدى محمّد، وشرّ الأُمور محدثاتها، وكلّ محدث بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار) «(3)».

4- عمّار بن ياسر:

ذكر المؤرّخون أنَّ عمّاراً خطب يومصفين، فقال: ... انهضوا معي عباد اللَّه إلى قوم يطلبون- فيما يزعمون- بدم الظالم لنفسه الحاكم على عباد اللَّه بغير ما في كتاب اللَّه، إنّما قتله الصالحون، المنكرون للعدوان، الآمرون بالإحسان، فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت دنياهم ولو درس هذا الدين: لِمَ قتلتموه؟

فقلنا: لإحداثه ... «(4)».

وجاء في كتابصفين ما دار بين عمرو بن العاص وعمّار، وفيه: قال عمرو:

فَلِمَ قتلتموه؟

قال عمّار: أراد أن يغيّر ديننا فقتلناه.

فقال عمرو: ألا تسمعون، قد اعترف بقتل عثمان.


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 36.
2- أنساب الأشراف 5: 36.
3- أنساب الأشراف 5: 36، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 42، حليةالأولياء 1: 138 بتفاوت يسير.
4- كتاب صفّين: 319.

ص:85

قال عمّار: وقد قالها فرعون قبلك؛ لقوله ... ألا تسمعون «(1)».

5- عمرو بن العاص:

أمّا ابن العاص فإنَّه على الرغم من استنصاره لعثمان بعد مقتله فكان ينتقده، وقدصدر عنه هذا النصّ لمّا ضرب عثمان عمّاراً: هذا منبر نبيّكم، وهذه ثيابه، وهذا شعره لم يبل وقد بدّلتم وغيّرتم؛ فغضب عثمان حتّى لم يدر ما يقول «(2)».

6- سعد بن أبي وقّاص:

روى ابن قتيبة ما أجاب به سعد بن أبي وقّاص حول دوافع قتل عثمان؛ قال سعد: ... وأمسكنا نحن، ولو شئنا دفعناه عنه، ولكنَّ عثمان غيّر وتغيّر، وأحسن وأساء، فإن كنّا أحسنّا فقد أحسنّا، وإن كنّا أسأنا فنستغفر اللَّه «(3)» ....

7- هاشم المرقال:

قال لشاب شاميّ: وما أنت وابن عفّان؟ إنّما قتله أصحاب محمّد وأبناء أصحابه وقرّاء الناس حيث أحدث الأحداث وخالف حكم الكتاب، وأصحاب محمّد هم أهل الدين وأولى بالنظر في أُمور المسلمين منك ومن أصحابك، وما أظنّ أنَّ أمر هذه الأُمّة ولا أمر الدين عناك طرفة عين قط «(4)».

8- مالك الأشتر:

جاء في كتاب من الأشتر إلى عثمان: من مالك بن الحارث، إلى الخليفة المبتلى الخاطئ، الحائد عن سنّة نبيّه، النابذ لحكم القرآن وراء ظهره .. أمّا بعد ... «(5)».


1- كتاب صفين: 338، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8: 22.
2- أنساب الأشراف 5: 89.
3- الإمامة والسياسة 1: 48.
4- تاريخ الطبريّ 5: 43 عن كتاب صفّين.
5- أنساب الأشراف 5: 46، الفتوح لابن أعثم 1: 40.

ص:86

وقوله: إنَّ عثمان قد غيَّر وبدَّل «(1)».

9- عائشة:

اشتهر قولها بعدماصنع بعمّار ماصنع: ما أسرع ما تركتم سنّة نبيّكم، وهذا شعره ونعله لم يبل بعد؟! «(2)».

وقولها، بعدما جاءها وفد أهل العراق: تركت سنّة رسول اللَّهصاحب هذا النعل؟! «(3)».

وقال أبو الفداء: كانت عائشة تنكر على عثمان مع مَن ينكر عليه؛ وكانت تخرج قميص رسول اللَّه وتقول: هذا قميصه وشعره لم يبل وقد بلي دينه .. «(4)» وفيما أخرجه ابن أبي الحديد: هذا ثوب رسول اللَّه لم يبل وعثمان قد أبلى سنّته! «(5)» وعائشة أوّل مَن سمّى عثمان نعثلًا [رجل يهودي طويل اللحية كان بالمدينة] وحكمت بقتله «(6)».

10- محمّد بن أبي بكر:

ذكر ابن سعد، وابن عساكر، وابن كثير، والبلاذريّ، وغيرهم: قال محمّد بن أبي بكر لعثمان: على أيّ دين أنت يا نعثل؟

قال: على دين الإسلام، ولستُ بنعثل ولكنّي أمير المؤمنين.

قال: غيّرت كتاب اللَّه!

فقال: كتاب اللَّه بيني وبينكم.

فتقدّم إليه، وأخذ بلحيته وقال: إنّا لا يُقبل منّا يوم القيامة أن نقول: ربّنا إنّا


1- أنساب الأشراف 5: 45، الإمامة والسياسة 1: 38.
2- أنساب الأشراف 5: 48، شرح ابن أبي الحديد 3: 49، الفتوح لابن أعثم 1: 64.
3- أنساب الأشراف 5: 48.
4- المختصر في أخبار البشر 1: 172.
5- شرح ابن أبي الحديد 3: 9.
6- بقولها: اقتلوا نعثلًا فقد كفر، الفتوح لابن أعثم 1: 64.

ص:87

أطعنا ساداتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل .. وشحَطه بيده من البيت إلى الدار، وعثمان يقول: يا ابن أخي! ما كان أبوك ليأخذ بلحيتي ... «(1)».

11- كعب بن عبدة:

حينما ادّعى عثمان أنَّه أعرف بكتاب اللَّه منه؛ قال له: يا عثمان! إنَّ كتاب اللَّه لمن بلغه وقرأه، وقد شركناك في قراءته، ومتى لم يعمل القارئ بما فيه كان حجّة عليه «(2)».

12- أبو ذرّ الغفاريّ:

نقل عنه أنَّه قال: واللَّه؛ لقد حَدَثَتْ أعمال ما أعرفها! واللَّه ما هي في كتاب اللَّه، ولا سُنّة نبيّه! واللَّه إنّي لأرى حقّاً يُطفأ، وباطلًا يُحْيَى، وصادقاً يُكذَّب! وأَثرَةً بغير تقى، وصالحاً مستأثراً به «(3)».

13- عبد الرحمن بن عوف:

قال لعثمان مرَّة: لقدصدّقنا عليك ما كنّا نكذّب فيك «(4)»، إشارة إلى إخبار الإمام عليّ في يوم الشورى وقوله: أما إنّي أعلم أنّهم سيولّون عثمان، وليحدثنّ البدع والأحداث، ولئن بقي لأذكرنّك وإن قتل أو مات ليتداولها بنو أُميّة بينهم، وإن كنت حيّاً لتجدني حيث تكرهون «(5)».

وقوله لعليّ: إذا شئت فخذ سيفك، وآخذ سيفي، إنّه [عثمان] قد خالف ما أعطاني «(6)».


1- طبقات ابن سعد 3: 73، البداية والنهاية 7: 193، الكامل 3: 178، أنساب الأشراف 5: 82، 92 و 98، شرح النهج 2: 157، الإمامة والسياسة 1: 44 قريب منه.
2- أنساب الأشراف 5: 42.
3- أنساب الأشراف 5: 53، شرح النهج 3: 55.
4- شرح النهج لابن أبي الحديد 1: 196.
5- تاريخ الطبريّ 4: 230.
6- أنساب الأشراف 5: 57، الفتوح لابن الأعثم 1: 6.

ص:88

استنتاج

اتّضح بجلاء من النصوص الآنفة الذكر أنَّ الصحابة غير راضين عن عثمان وسلوكه العمليّ، كما أنّهم على خلاف رؤاه الفكريّة وآرائه التشريعيّة، ولذلك رموه بالإبداع والإحداث في الدين وإتيانه بأشياء ليست هي في كتاب اللَّه ولا سنّة نبيّه أو سيرة الشيخين، والصحابة هم أهل الفقه واللغة، وهم أعلم من غيرهم باصطلاحات الرسالة وعباراتها ومنقولاتها الشرعيّة.

فلفظ «البدعة» ولفظ «الإحداث» يدلّان على إيجاد شي ء لم يكن من قبل ولم يعهده المسلمون من الشريعة المحمّديّة، وكذا الحال بالنسبة لتعبيرهم: إنّه أتى بأُمور ليست في كتاب اللَّه ولا سنّة نبيّه.

فسوء التقسيم المالي من قبل عثمان، وإيثاره لأقربائه، وأخطاؤه السلوكيّة الأُخرى- كما قلنا- لا تسمّى «بدعاً» ولا «إحداثاً» في الاصطلاح، وإنّما تسمّى مخالفات، أو عدم التزام دينيّ، أو إعراضاً عن السيرة، أو ما شاكل ذلك من الألفاظ والتعابير.

وإذا سلّمناصحّة إطلاق لفظ «البدعة» و «الإحداث» على تلك التصرّفات، فَمِن باب أولى أن يشمل اللفظ المذكور تلك الآراء العثمانيّة الجديدة وأُطروحاته الفقهيّة التي أتى بها، مثل: إتمام الصلاة بمنى، وتقديم خطبةصلاة العيدين على الصلاة، وغيرها من الآراء الفقهيّة التي ما كانت معهودة من قبله ولا ممّن عايَشَه من الصحابة!

إنَّ شدّة عبارات الصحابة في عثمان، برميهم إيّاه بالابتداع والإحداث في الدين؛ بالإضافة إلى فتح باب الفتنة على مصراعيه، وأخيراً قتله .. لتدلّ بما لا يقبل الشكّ والترديد على اقتناع الرأي العام بضرورة عزل عثمان عن الخلافة وعدم قناعتهم باجتهاداته، ولمّا لم يرضخ لإرادة الأُمّة والتخلّي عن الخلافة قائلًا (لن أنزع قميصاً كسانيه اللَّه) جوّزت الأُمّة قتله ورأت نفسها في

ص:89

حلّ من دمه، وفي عصمة من خطابات الشارع المقدّس، مثل: «... ولا تقتلوا النفس التي حرّم اللَّه إلّابالحقّ ...» «(1)»

، «... مَن قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً ...» «(2)»

، «ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها وغضب اللَّه عليه ولعنه وأعدَّ له عذاباً عظيماً» «(3)»

...

بل وإصرارهم على عدم دفنه، كقول أحدهم: لا واللَّه لا تدفنوه في بقيع رسول اللَّه على الرغم من علمهم بتأكيد النبيّ (ص) على دفن موتى المؤمنين وتغسيلهم وتكفينهم والصلاة عليهم، وعلى أنَّ حرمة الميّت كحرمة الحيّ!

ونحن أمام ما جرى، لا يسعنا إلّاأن نقول إمّا بعدول جميع الصحابة عن جادة الصواب وتهاونهم بالأُمور، لأنّهم لم يعملوا بأوامر القرآن ووصايا الرسول (ص) أو أن نذهب إلى انحراف الخليفة وخروجه عن رأي الجماعة، ولا ثالث.

فإذا قلنا بعدالة الصحابة وعدم اجتماعهم على الخطأ، لزم القول بالرأي الثاني، خصوصاً إذا ما شاهدنا بين المعارضين رجالًا قيل عنهم إنَّهم من العشرة المبشرة، أمثال: سعد بن أبي وقّاص، طلحة، الزبير، وغيرهم من كبار الصحابة الذين ورد فيهم نصّصريح بجلالة قدرهم وعظيم منزلتهم، أمثال:

ابن مسعود، أبي ذرّ، عمّار.

أمّا لو قلنا بطهارة ساحة الخليفة الثالث .. فهذا القول يستلزم فسق الصحابة، وهذا ما لا يقبل به المحقّقون قطعاً، إذ من المعقول أن تُخَطّئ فرداً مع الجزم بأنّه غير معصوم، ولكنَّ اتهام الكثيرين من الصحابة بالفسق والضلالة بعيد عن المنطق والوجدان، خصوصاً وثمّة أفراد بين أُولئك ممّن ورد بحقّه نصّ


1- الأنعام: 151.
2- المائدة: 32.
3- النساء: 93.

ص:90

يشير إلى أنَّه مع الحقّ، وممّن بُشّر بالجنّة كعمّار وأبي ذرّ و ....

وجاء في تاريخ الطبريّ (حوادث 34) «لمّا كانت سنة أربع وثلاثين كتب أصحاب رسول اللَّه بعضهم إلى بعض، أن أقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد.

وكثر الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وأصحاب رسول اللَّه (ص) يرون ويسمعون، ليس فيهم أحد ينهى ولا يذبّ إلّانفير، منهم: زيد ابن ثابت، (الذي جمع عثمان الصحابة على قراءته)، أبو أسيد الساعديّ، كعب ابن مالك، وحسّان بن ثابت، فاجتمع الناس وكلّموا عليّ بن أبي طالب، فدخل على عثمان فقال: الناس ورائي وقد كلّموني فيك، واللَّه ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئاً تجهله ولا أدلّك على أمر لا تعرفه، انّك لتعلم ما نعلم ...» إلى آخر كلامه الذى مرّ عليك قبل عدّةصفحات.

إذاً، المعترضون على عثمان كانوا «الناس»، وإنّهم كانوا يطلبون الجهاد ضدّه، فأخذ يكتب البعض منهم إلى الآخر بذلك، وليسوا بنفر قلائل جاؤوا من مصر والبصرة والكوفة- كما يدّعيه البعض-، وعلى فرض كونهم كذلك ..

فهل من المعقول أن يسكت جميع الصحابة- وأغلبهم يدري- عن مواجهتهم وهم يرون خليفة المسلمين في خطر، وليس منهم أحد ينهى ويذبّ عنه؟

وألَم يكن ذلك ازدراء بالصحابة، الذين أبلوا بلاءً حسناً مع الرسول في حروبه؟

وكيف يهابون ذلك الجمع القليل مع ما لهم منصفحات ومواقف مشرّفة في الجهاد عبر تاريخهم الإسلامي؟!!

إن وراء ترك نصرة الخليفة شيئاً خطيراً، وهو تركه العمل بكتاب اللَّه وسنّة نبيّه وسيرة الشيخين!

ص:91

عثمان ومبرّرات تغيير سياسته في الستّ الأواخر

مَن يُتابع سيرة الخليفة عثمان بن عفّان بتجرّد يمكنه أن يصل إلى ما توصلنا إليه، وهو: أنّ الخليفة وخصوصاً في الستّ الأواخر من خلافته أخذ يرى أنّ الناس ينتقصونه ولا يعطونه تلك المنزلة والهالة التي منحوها للشيخين، بل ينظرون إليه بمنظار المتّبع لنهج الشيخين والمطبّق لما سُنّ في عهدهما وليس له العمل إلّابما عُمل في عهدهما، وقد طلب الخليفة بالفعل- في بدء خلافته- من المحدّثين أن لا يحدّثوا إلّابما عمل به الشيخان، لأنّ ذلك كان في ضمن ما عاهد عليه ابن عوف في الشورى.

بَيد أنّ الخليفة وبعد مرور الأعوام الستّة من خلافته بدأ يتساءل مع نفسه:

كيف يحقّ لعمر أن يشرّع أو ينهى لمصلحة كان يقدّرها- كما فيصلاة التراويح ومتعة النساء- ولا يحقّ لي ذلك؟!

وكيف يقبل الناس اجتهادات عمر وسيرته ولا يرتضون أفعالي؟!

وما الذي كان لهما واختصّا به دوني؟!

ولماذا يجب أن أكون تابعاً لسياسة واجتهاد الشيخين ولا يحقّ لي رسم بعض الأُصول؟!

هل كانوا في سابقتهم في الإسلام ودرايتهم بالأُمور ومكانتهم من رسول اللَّه أخصّ منّي وأقرب؟!

أم إنّ ما بذلوه من مال ووقفوه من مواقف لنصرة الدين كانت أكثر ممّا فعلت؟!

فإن كان الشيخان قد حظيا وشرّفا برابط من نور مع رسول اللَّه وذلك بإعطاء كلّ منهما بنتاً لرسول اللَّه، فعثمان قد ارتبط برسول اللَّه من جهتين وتزوّج بنتين، وهو ذو النورين؟!

ص:92

بعد هذا كيف يتحتّم عليه أن يكون تابعاً لنهج الشيخين ولا تكون له تلك الشخصيّة المستقلة؟!

وقد أكّد عثمان على هذا الأمر وأشار إلى أنَّه أعزّ نفراً بل هو أقرب ناصراً وأكثر عدداً من عمر، لقربه من بني أُميّة!

فقال مخاطباً المعترضين: ألا فقد واللَّه عبتم عَلَيّ بما أقررتم لابن الخطّاب بمثله، ولكنّه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم، وأوطأت لكم كتفي وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم عَلَيّ، أما واللَّه لأنا أعزّ نفراً وأقرب ناصراً وأكثر عدداً وأَقْمَنُ إن قلت هلمّ أُتي إلَيّ، ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولًا وكشّرت لكم عن نابي وأخرجتم منّي خلقاً لم أكن أحسنه، ومنطقاً لم أنطق به «(1)».

نعم، كانت هذه التساؤلات تراود الخليفة، إذ يرى الناس قد أطاعوا عمر في كلّ شي وتعبّدوا بسيرة الشيخين وارتضوا بنهجهم، فَلِمَ لا يقبلون بأفعاله وتوليته لولاته ولماذا يعتبرونها بدعاً وإحداثات، مع أنّه قد وسّع المسجد الحرام «(2)» والمسجد النبويّ «(3)» واتّخذ للأضياف منازل «(4)» وزاد في أعطية الناس «(5)» وردّ على كلّ مملوك بالكوفة من فضول الأموال ثلاثة كلّ شهر، يتّسعون بها من غير أن ينقص مواليهم من أرزاقهم «(6)»، وغيرها من المواقف التي جاءت لنفع الناس.

وقد جاء في تاريخ الطبريّ وغيره أنَّه قال- للذين هدم بيوتهم ولم يقبلوا


1- تاريخ الطبريّ 4: 339.
2- تاريخ الطبريّ 4: 267.
3- تاريخ الطبريّ 4: 273.
4- تاريخ الطبريّ 4: 274.
5- تاريخ الطبريّ 4: 245.
6- تاريخ الطبريّ 4: 274.

ص:93

ثمنها عند توسعته للمسجد الحرام-: أتدرون؟! ما جرّأكم عَلَيّ إلّاحلمي، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به «(1)».

فالناس المعترضون على سياسة عثمان، مضافاً إلى ارتيابهم وعدم قناعتهم بأفعال الخليفة كانوا يتّهمونه بتغيير سنّة رسول اللَّه.

فقد جاء عن عثمان أنّ الناس قالوا له عندما أراد توسعة المسجد النبويّ الشريف (يوسّع مسجد رسول اللَّه ويغيّر سنّته) «(2)».

إنّ الخليفة- وكما قلنا- كان يعيش حالة نفسيّة متأزّمة، فإنّه من جهة كان يسمع اعتراضات الناس عليه في حين قد شاهدهم بالأمس قد سكتوا عن اجتهادات عمر، بل أنّهم قد ارتضوها وجعلوها منهج الحياة رغم كون بعضها أشدّ ممّا شرّعه وأجرأ.

ومن جهة أُخرى كان لا يمكنه تخطّي سيرة الشيخين، لأنّه كان قد عاهد ابن عوف والمسلمين في الشورى على أن يسير بنهج الشيخين، أمّا اليوم فإنّه غير مستعدّ نفسيّاً لتطبيق ذلك، حيث إنّ الاعتراض أخذ يرد عليه الواحد تلو الآخر، فسعى الخليفة- وفي السنوات الستّ الأخيرة من عهده- إلى تغيير سياسته واتّباع نهج معيّن، وأخذ يطرح آراء فيها ما يخالف سيرة الشيخين وسنّة رسول اللَّه مواصلًا سياسة العنف السابقة، معتقداً بأنّ طرحه لهذه الإحداثات سيلهي الناس عن الخوض في ذكر سوء سياسته وتوليته خاصّته وأقاربه، واختصاصهم بالحكم والمال دون المسلمين؟ وسيشغل المسلمين في مناقشة اجتهاداته، وسيحصل على رصيد عند بسطائهم لأنّه قد أخذ جانب القدسيّة والزهد والتعمّق في إحداثاته، فكان الطابع الغالب على تلك الإحداثات هو الزيادة، فالصلاة بمنى والنداء الثالث يوم الجمعة والوضوء


1- تاريخ الطبريّ 4: 251، الكامل في التاريخ 3: 87، المنتظم 4: 360.
2- راجع: المجلّد الخامس من أنساب الأشراف للبلاذريّ.

ص:94

وغيرها لحظ فيها الزيادة، وأنّ عامة الناس يرتاحون إلى الأعمال التي فيها زيادة معتقدين بأنّ ذلك زيادة في القدسيّة وخصوصاً لو دعم بآراء استحسانيّة مقبولة في ظاهرها عند العقلاء.

إنّ المسلم العادي لا ينظر إلى أُصول المسألة ومشروعيّتها في الكتاب والسنّة بقدر ما ينظر إلى الوجوه الاستحسانيّة فيها، فإذا كان الوضوء هو الإنقاء فالإنقاء يحصل بالغسل أكثر من المسح، أو ما قالوه عن الغسل بأنّه مسح وزيادة وما شابه ذلك من الوجوه الاستحسانيّة.

وفي قول عثمان: هذا رأي رأيته «(1)».

مع علمه بأنّ رسول اللَّه والشيخين قد قصّرا بمنى، وكان قد قصّر هو شطراً من خلافته فيه؟!

اشارة إلى أنّه كان يريد تشكيل اتّجاه في الإسلام له معالم خاصّة به، فتراه يجتهد قبال النصّ مع علمه بأنّ رسول اللَّه والشيخين قد فعلا خلاف فعله؟!

كانت هذه بعض إحداثات الخليفة عثمان بن عفّان المخالفة لسنّة رسول اللَّه وسيرة الشيخين وأنّه قد أتى بها معتقداً بأنّها ستنجيه ممّا هو فيه من اعتراضات القوم، لكنّ إحداثاته- بنظرنا- كانت هي السبب الأهم في قتله، وأنّ قول نائلة الكلبيّة- زوجة عثمان- حين طاف المهاجمون على عثمان يريدون قتله: إن تقتلوه أو تتركوه، فإنّه كان يحيي الليل كلّه يجمع القرآن «(2)»، أو قولها:

انّه ليحيي الليلة بالقرآن في ركعة، لتؤكّد على أنّ هجوم المنتفضين عليه كان له بعد ديني وهو التشكيك فيصلاحيّته ولياقته في إدارة الأُمّة الإسلاميّة، وأنّ قول نائلة جاء لنفي هذا الشكّ، فأكّدت بأنّه كان يجمع القرآن ويحي الليل كلّه في ركعة! فجاء عن قتاده ان عمر بن الخطاب قال: من قال اني عالم فهو جاهل


1- تاريخ الطبريّ 4: 268.
2- حلية الأولياء 1: 57.

ص:95

ومن قال اني مؤمن فهو كافر «(1)».

تأكيد عثمان على وضوئه

والآن لنذكر دور عثمان البنائيّ في الوضوء.

فقدصدرت عنه روايات كثيرة حكاها عن رسول اللَّه وفي أغلبها إشارة إلى ترسيخه لفكرة الوضوء الجديدة، وإليك بعض الروايات:

1- عن حمران بن أبان- مولى عثمان- إنّ عثمان توضّأ فمضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ومسح برأسه وغسل رجله ثلاثاً، ثمّ قال: من توضّأ وضوئي هذا ثمّصلّى ركعتين لا يحدّث نفسه فيهما غفر له ما تقدّم من ذنبه «(2)».

2- وفي البخاريّ بعد إخراجه للحديث السابق وذكره غسل رجله ثلاثاً:

رأيت النبيّ يتوضّأ نحو وضوئي هذا، وقال: من يتوضّأ نحو وضوئي هذا ثمّصلّى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه، غفر اللَّه له ما تقدّم من ذنبه «(3)».

3- أخرج أبو داود والبيهقيّ والنسائيّ في سننهم، عن حمران قال: رأيت عثمان بن عفّان توضّأ فأفرغ على يديه ثلاثاً فغسلهما، ثمّ تمضمض واستنشق، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً، وغسل يده اليمنى إلى المرافق ثلاثاً، ثمّ اليسرى مثل ذلك، ثمّ مسح رأسه، ثمّ غسل قدمه اليمنى ثلاثاً، ثمّ اليسرى مثل ذلك، ثمّ قال: رأيت رسول اللَّه توضّأ مثل «(4)» وضوئي هذا، ثمّ قال: من توضّأ مثل «(5)» وضوئي هذا ثمّصلّى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه، غفر اللَّه ما تقدّم من ذنبه «(6)».


1- الغدير 6: 240 عن كنز العمال 1: 103.
2- سنن الدارميّ 1: 176، سنن البيهقيّ 1: 53 و 56 و 58.
3- صحيح البخاريّ 1: 51.
4- في صحيح البخاريّ 1: 51 بدل مثل نحو.
5- في صحيح البخاريّ 1: 51 بدل مثل نحو أيضاً.
6- سنن أبي داود 1: 106، سنن البيهقيّ 1: 48، سنن النسائيّ 1: 64.

ص:96

4- وفي نصّ آخر: رأيت رسول اللَّه توضّأ وضوئي هذا، ثمّ قال: من توضّأ مثل وضوئي هذا ثمّ قام فصلّى ركعتين لا يحدّث نفسه بشي ء، غفر اللَّه له ما تقدّم من ذنبه «(1)».

5- وفي البيهقيّ: رأيت رسول اللَّه توضّأ مثل ما رأيتموني توضّأت «(2)».

6- وأخرج مسلم والدارقطنيّ بسندهما عن عطاء بن يزيد الليثيّ عن حمران [واللفظ للدارقطنيّ]: انّ عثمان دعا يوماً بوضوء فتوضّأ، فغسل كفّيه ثلاث مرّات، ثمّ غسل يده اليسرى مثل ذلك.

وفي مسلم والبيهقيّ زيادة [ثمّ مسح رأسه، ثمّ غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرّات، ثمّ غسل اليسرى مثل ذلك] «(3)».

ثمّ قال: رأيت رسول اللَّه توضّأ نحو وضوئي هذا، ثمّ قال رسول اللَّه: من توضّأ نحو وضوئي هذا ثمّ قام فركع ركعتين لايحدّث فيهما نفسه، غفر اللَّه له ما تقدّم من ذنبه «(4)».

7- قد نقلنا في عهد عثمان ما أخرجه مسلم من كلام عثمان عن وضوء الناس المغاير له، وقوله: إلّاإنّي رأيت رسول اللَّه توضّأ مثل وضوئي هذا، ثمّ قال: من توضّأ هكذا غفر له ما تقدّم من ذنبه، وكانتصلاته ومشيه إلى المسجد نافلة «(5)».

في النصوص السابقة عدّة نقاط يمكن الاستفادة منها لتأييد ما ادّعيناه من


1- سنن النسائي 1: 65، سنن البيهقيّ 1: 48.
2- سنن البيهقيّ 1: 47.
3- صحيح مسلم 1: 205، سنن البيهقيّ 1: 68.
4- سنن الدارقطنيّ 1: 83/ 14، صحيح مسلم 1: 205.
5- صحيح مسلم 1: 207.

ص:97

أنّ الخليفة كان يريد تشكيل مدرسة وضوئيّة جديدة ضمن مخططه الكلّي في الشريعة.

الأُولى: إنّ جملة عثمان (رأيت رسول اللَّه توضّأ نحو وضوئي هذا) أو قوله (مثل وضوئي هذا) والمتكررة في عدّة أحاديث، فيها دلالة على أنّ عثمان قد أحدث وضوءاً جديداً، وأنَّه قد جعل عمله هو المقياس والضابط في الوضوء حتّى تراه يقول (رأيت رسول اللَّه توضّأ نحو وضوئي هذا) ولم يقل توضّأتُ كما رأيت رسول اللَّه توضّأ!

فلو كانت المسألة عاديّة، ولم يكن في التشريع عناية لقال الخليفة:

توضّأت كما رأيت رسول اللَّه يتوضّأ، وما شابه ذلك من العبارات.

إنّ طرح عبارات كهذه على لسان الخليفة فيها إشارة نفسيّة خفيّة إلى أنّه يريد التأكيد على وضوئه، فتراه يرجع فعل الرسول إلى فعله!!!

الثانية: ما نقله من كلام عن رسول اللَّه، وقوله (من توضّأ مثل وضوئي هذا) أو (نحو وضوئي هذا) تعني أنّ له (ص) أكثر من وضوء واحد، فنتساءل: هل كان النبيّ (ص) يتوضّأ بأكثر من طريقة في الوضوء؟ ولماذا نرى تأكيده (ص) على الوضوء الثلاثيّ بالذات حتّى يجعله ممّا تُغفر به الذنوب دون غيره؟

في حين نعلم أنّ ابن عمر قد روى عن رسول اللَّه، أنّه قال عن وضوء المرّتين: (من توضّأ مرّتين أعطاه اللَّه كفلين) ثمّ أعقبه ببيان الوضوء الثلاثيّ (هو وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي)، ومعنى ذلك أنّ الفعل الثلاثيّ ليس له تعميم لجميع المؤمنين، بل يختصّ بالرسول والأنبياء من قبله، وقد يحتمل أن يكون من مختصّات النبوّة، وعليه فإنّ توقّف الغفران على الوضوء الثلاثيّ دون غيره فيه تأمّل، كما هو واضح.

الثالثة: في جملة (لايحدث فيهما نفسه بشي ء) تحمل تزكية للخليفة وصيانة له، فهو يريد إلزام المؤمن المسلم بقبول وضوئه المقترح والأخذ به دون تحديث النفس بشي ء أو التشكيك في مشروعيّته، وأنّ مثل هذا التعبّد يوجب غفران الذنوب!!

ص:98

هذا وقد أكّد أتباع الخليفة عثمان بن عفّان على الوضوء الثلاثيّ الغسليّ بكلّ الوسائل، ومن ذلك ما رواه عبد اللَّه بن عمرو بن العاص:

روى عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ، أنّه قال بعد أن توضّأ الوضوء الثلاثيّ الغسليّ قوله (ص): (فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم، أو ظلم وأساء) «(1)».

وفي ابن ماجة: (فقد أساء أو تعدّى أو ظلم) «(2)».

ففي هذا النصّ كغيره من النصوص السابقة إشارة إلى دور المحدّثين وأنصار الخليفة في التأكيد على وضوء عثمان، فلو قبلنا بأنّ الزيادة على الغسلة الثالثة في الوضوء هي تعدٍّ وظلم، فما معنى قوله: أو نقص؟!

ألم يتواتر عنه (ص) وروىصحابة أمثال ابن عبّاس، وعمر، وجابر، وبريدة، وأبي رافع، وابن الفاكه: أنَّه (ص) توضّأ مرّة مرّة؟

وألم يَرْوِ أبو هريرة، وجابر، وعبد اللَّه بن زيد، وابن عبّاس وغيرهم: أنّ رسول اللَّه توضّأ مرّتين مرّتين؟

وما معنى ما رواه ابن عمر عن رسول اللَّه، بأنّه قال عن المتوضّئ مرّة: (هذا وضوء من لا تقبل لهصلاة إلّابه)، وعن المرّتين: (هذا وضوء من يضاعف له الأجر مرّتين).

أو قوله (ص) في حديث آخر عن الوضوء الثلاثيّ: (ومن توضّأ دون هذا كفاه).

فما معنى (أو نقص فقد أساء وظلم) إذاً؟!!

فمن جهة نراه (ص) يقول عن المرّة: (لا تقبل الصلاة إلّابه)، وعن المرّتين:


1- سنن البيهقيّ 1: 79، سنن أبي داود 1: 33/ 135.
2- سنن ابن ماجة 1: 146/ 422.

ص:99

(يضاعف له الأجر مرّتين) وفي آخر: (كفلين)، ومن جهة أُخرى نرى عمرو بن شعيب يروي عن أبيه عن جدّه عبد اللَّه بن عمرو العاصّ عن النبيّ أنَّه قال:

(أو نقص فقد أساء أو ظلم).

فكيف يمكن الجمع بين هذه الروايات؟

ألم يتوضّأ رسول اللَّه بعض وضوئه مرّتين وبعضه الآخر ثلاثاً- كما في حديث عبد اللَّه بن زيد بن عاصم-، وألم يَرْوِ أهل العلم عدم البأس في ذلك؟

فكيف تتطابق هذه الأحاديث مع قوله: أو نقص؟ وهل إنّ رسول اللَّه- والعياذ باللَّه- قد أساء وظلم؟!

نعم؛ إنّ الذي نحتمله هو: إنّ هذه الأحاديث وضعت من قبل أنصار الخليفة لترسيخ وضوء عثمان بن عفّان والأخذ به دون زيادة أو نقيصة وعدم تحديث النفس بشي ء أو التشكيك في مشروعيّته.

ومن يطالع أحاديث الوضوء يتساءل مع نفسه: لماذا تُذَيَّل حكايات عثمان لصفة وضوء رسول اللَّه بالذات بذيل مرويّ عنه (ص) ولا نلاحظ ذلك فيما حكاه غيره من الصحابة عن وضوء رسول اللَّه؟!!

ولماذا لا تذيّل أحاديث عثمان بهذا الذيل فيما حكاه عنه (ص) في الوضوء المسحيّ؟!!

إنّ ما طرحناه من الشواهد لو قرن بعضها إلى بعض لدلّ على ما نريد الإشارة إليه، وهو أنّ الخليفة ومن معه كانوا يسعون لبناء مدرسة وضوئيّة جديدة، بل الأحرى بناء مدرسة فقهيّة جديدة.

وقد سبق في طوايا البحوث السابقة أن نبّهنا ودلّلنا على ضعف فقه الخليفة وسوء فهمه، وسنعقبه بالمزيد إن شاء اللَّه.

ص:100

النتيجة

بهذا يمكننا حصر أهم دواعي الخليفة الإتيان بالوضوء الجديد بما يلي:

1- إنّ عثمان كان يرى لنفسه أهليّة التشريع ووجوب الاقتداء به كأبي بكر وعمر، وكان يتساءل مع نفسه، كيف يحقّ لعمر أن يشرّع أو ينهي مصلحة، ولا يحقّ لي ذلك؟

2- لمّا كان عثمان من أتباع مدرسة الاجتهاد والرأي، كان يرى لنفسه المبرّر لطرح ما يرتئيه من أفكار وتشريعها للمسلمين، وقد طبّق بالفعل ما ارتآه من فعل الرسول- حسب ما حكاه هو- واعتبره سنّة، في حين أنّ ما نقله ينبئ بأنّ الفعل الثلاثيّ في الوضوء كان من مختصّاته (ص) لقوله: (هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي)، إذ إنّه قد بيّن وضوء المرّة وقال عنه: (هذا وضوء لا تقبل الصلاة إلّابه)، وعن المرّتين: (هذا وضوء من يضاعف له الأجر مرّتين)، أمّا الثالثة فقال عنها: (هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي)، أي إنّه (ص) كان يعني بأنّ هذا الفعل- على فرضصحّةصدوره عنه- هو مختصّ به وبالأنبياء وليس حكماً عامّاً للمسلمين، بل وضوء المرّتين هو ما يضاعف به الأجر، ويمكن للمسلمين العمل به.

أمّا عثمان فقد جاء ليعمّم هذه الرؤية ويجعلها سنّة رسول اللَّه يجب الاقتداء بها وفقاً لرأيه.

3- المعروف عن عثمان أنّه كان من المتشدّدين في الدين ذلك التشدّد المنهي عنه، حتّى قيل عنه بأنّه كان يغتسل كلّ يوم خمس مرّات، وكان لا يردّ سلام المؤمن إذا كان في حالة الوضوء، وقال هو عن نفسه بأنّه لا يمدّ يده إلى ذَكره منذ بايع رسول اللَّه، وغيرها من الأخبار المنقولة.

ومن البيّن أنّ مثل هذه الحالة النفسيّة الميّالة إلى التزيّد والمبالغة في التطهّر تجعلصاحبها مهيّأًللتزيّد في عدد غسلات الوضوء، ولتفضيل الغسل على

ص:101

المسح مادام يحقّق مزيداً من الإنقاء، وقد تفتح هذه الحالة أمامه باباً للإكثار والتزيّد لا يكاد يوصد.

4- أشرنا سابقاً إلى أنّ الثورة على عثمان كانت تستبطن أمراً دينيّاً، وأنّ المنتفضين كانوا يطلبون من الخليفة العمل بالكتاب وسنّة رسول اللَّه، وأنّ مواقفهم ضدّه توحي بأنّهم كانوا يشكّكون في إيمانه، وأنّ الخليفة جاء ليؤكّد لهم على إيمانه ويذكّرهم بمواقفه في الإسلام كقوله لهم:

أنشدكم اللَّه هل علمتم أنّي اشتريت رومة من مالي يستعذب بها، فجعلت رشائي منها كرشاء رجل من المسلمين!

قال: قيل: نعم.

قال: فما منعني أن أشرب منها حتّى أفطر على ماء البحر!

قال: أنشدكم اللَّه، هل علمتم أنّي اشتريت كذا وكذا من الأرض فزدته في المسجد؟

قيل: نعم.

قال: فهل علمتم أحداً من الناس منع أن يصلّي فيه قبلي!

قال: أنشدكم اللَّه، هل سمعتم منّي ...

فالخليفة وبتذكيره المسلمين هذه الأُمور أراد الإشارة إلى قداسته، وأراد إبعاد نيران الثورة عنه ومثله تماماً مبالغته في الوضوء وإظهاره القدسية الزائدة في الوضوء دفعاً للناس عن قتله.

5- إشغال الناس بالخلافات الفقهيّة والثانوية، وذلك دفعاً لهم عن الخوض في ذكر مساوئ سياسته الماليّة والإداريّة، وأنّ ابن عوف وابن أبي وقّاص وعليّاً وغيرهم من كبار الصحابة قد اهتمّوا بالفعل لمناقشة آراء الخليفة الجديدة وقد كلّفهم ذلك كثيراً من الجهد والوقت.

6- من أكبر الدوافع وأعمقها في تغيير سياسة عثمان، هو التفاف بني أُميّة

ص:102

حوله وابتعاد كبار الصحابة من التعاون مع الخليفة، ممّا خلق لدى الخليفة فجوة واسعة وفراغاً فقهيّاً وعقائديّاً لم يسدّ إلّابالأمويين ومروان بن الحكم وكعب الأحبار.

كانت هذه من أهم النقاط التي أفرغت الخليفة والخلافة من محتواها وأُبّهتها وقداستها، وحدت بالخليفة أن يلتزم آراء فقهيّة مغلوطة وسياسات غير منهجيّة، فكان نتاجها تخطّي سيرة الرسول وترك العمل بالكتاب.

عود على بدء

بهذا .. فقد عرفنا بأنَّ النقمة على عثمان كانت تستبطن أمراً دينيّاً، ملخّصه عدم عمل الخليفة بكتاب اللَّه وسنّة نبيّه بل إحداث أُمور لم تسنّ على عهد الرسول ولم يعمل بها الشيخان.

أخرج الواقديّ بإسناده عنصهبان- مولى الأسلميين- في حديث طويل:

قال أبو ذرّ لعثمان: اتبع سنّةصاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام.

فقال له عثمان: مالك وذلك لا أُمَّ لك!

فقال له أبوذرّ: واللَّه ما وجدت عذراً إلّاالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فغضب عثمان؛ وقال: أشيروا عَلَيَّ في هذا الشيخ الكذّاب، إمّا أن أضربه، أو أحبسه، أو أقتله .. فإنّه قد فرق جماعة المسلمين، أو أنفيه من الأرض!

أجابه أبو ذرّ بقوله: أما رأيت رسول اللَّه ورأيت أبا بكر وعمر؟ .. هل رأيت هذا هديهم؟! ... إنّك لتبطش بي بطش جبّار!

فقال عثمان: أُخرج عنّا من بلادنا!

فقال أبو ذرّ: ما أبغض إليَّ جوارك، أين أخرج ... «(1)»- الخبر.


1- الفتوح لابن أعثم 1: 11، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 57.

ص:103

كانت هذه سياسة عثمان مع الصحابة، فإنَّ النصيحة تستوجب النقمة والإبعاد، وتهمة تفريق جماعة المسلمين وراء من يريد النصح للَّه!

أوَلَم تكن رغبة الناصح هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ .. أوَلَم يقل أبو بكر لجموع المسلمين: قوّموني، فلست بأعلمكم .. أو: بخيركم؟ .. أو قوله:

فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني؟

ثمّ .. أوَلَم يتبع عمر أبا بكر في سيرته بهذا الشأن؟

فلماذا لا يقبل الخليفة الثالث نهج من سبقه؛ ولماذا لا نراه يستشير الصحابة في الأحكام الشرعيّة، كما كان الشيخان، بل يريد أن يُحدث في الأحكام ويشرّع دون أن يقف أمامه أحد؟

فالصحابة كانوا يسعون للحفاظ على وحدة الصف دوماً، لكنَّ الخليفة استغلّ ذلك التعاطف الدينيّ، وتصرّف بالأُمور من أجل ترسيخ دعائم سياسته الخاصّة!

فقد نقل عن ابن عوف- على رغم مخالفته لعثمان- بأنّه عندما خرج من عند عثمان، يوم اعترض عليه في إتمامه الصلاة بمنى، لقي ابن مسعود فقال ابن مسعود: الخلاف شرّ، قد بلغني أنَّهصلّى أربعاً فصليت بأصحابي أربعاً.

فقال عبد الرحمن بن عوف: قد بلغني أنَّهصلّى أربعاً، فصلّيت بأصحابي ركعتين، أمّا الآن فسوف يكون الأمر الذي تقول، يعني نصلّي معه أربعاً «(1)».

وقيل لابن مسعود: ألَم تحدثنا أنَّ النبيّصلّى ركعتين، وأبا بكرصلّى ركعتين؟

فقال: بلى؛ وأنا أُحدثكموه الآن .. ولكنَّ عثمان كان إماماً فما أُخالفه،


1- الكامل في التاريخ 3: 104، البداية والنهاية 7: 228.

ص:104

والخلاف شرّ «(1)».

وقيل لابن عمر: عبت على عثمان ثمّصلّيت أربعاً!

قال: الخلاف شرّ «(2)».

وجاء في طبقات ابن سعد: إنَّ ناساً من أهل الكوفة قالوا لأبي ذرّ- وهو بالربذة-: إنَّ هذا الرجل فعل بك ما فعل، هل أنت ناصب لنا راية (يعني نقاتله)؟

قال: لا؛ لو أنَّ عثمان سيّرني من المشرق إلى المغرب، سمعت وأطعت «(3)».

كانت هذه حالة الصحابة مع عثمان في السنوات الست الأُولى، أمّا عندما رأوا أنَّ الدين على خطر، فقد تغيّرت سياستهم العامّة ووقفوا بوجهه وأفتوا بقتله، كماصدر عن السيدة عائشة: اقتلوا نعثلًا، فقد كفر.

وقد أخرج الثقفي في تاريخه عن سعيد بن المسيّب؛ قال: لم يكن مقداد وعمّار يصلّيان خلف عثمان، ولا يسمّيانه بأمير المؤمنين.

وعليه .. فالثورة- بنظرنا- لم تكن لأسباب شخصيّة، ولا تنحصر في اختلاس ذوي رحم الخليفة من بيت المال، وتولية الفسّاق، والتنكيل بالصحابة، وإرجاع المطرودين، وغيرها من الإحداثات المذكورة، بل يمكن عزو الثورة إلى عامل دينيّ وهو: عدم العمل بالكتاب والسنّة النبويّة، وإتيان ما لم يكن في الشريعة. وهذا هو الذي جعل البعض من الصحابة يوجب على نفسه التقرّب إلى اللَّه بدم عثمان .. بل ونرى من الصحابة من يوصي بعدمصلاة عثمان عليه بعد وفاته «(4)»، وثالث ورابع و ...


1- سنن البيهقي 3: 144، البداية والنهاية 7: 228.
2- نفس المصدر السابق.
3- الطبقات 4: 227، أنساب الأشراف 5: 56.
4- وقد جاء في أنساب الأشراف 5: 57 وشرح النهج لابن أبي الحديد 3: 28 بأنَّ عبد الرحمن أوصى بأن لا يصلي عليه عثمان؛ فصلّى عليه الزبير أو سعد بن أبي وقّاص، وقد كان حلف لمّا تتابعت أحداث عثمان ألّا يكلّمه أبداً، وقد أوصى ابن مسعود مثل ذلك، انظر: شرح النهج لابن أبي الحديد 3: 42.

ص:105

جاء في تاريخ المدينة المنوّرة «(1)»: بأنَّ عبد اللَّه بن مسعود قال: ما سرّني أنّي أردت عثمان بسهم فأخطأه وأنَّ لي مثل أُحد ذهباً.

وقوله: إنَّ دم عثمان حلال «(2)».

وقال الحجاج بن غزية الأنصاري: واللَّه لو لم يبق بين أجله إلّاما بين العصر إلى الليل لتقرّبنا إلى اللَّه بدمه «(3)».

وروى شعبة بن الحجاج، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن عوف قال: قلت له: كيف لم يمنع أصحاب رسول اللَّه عن عثمان؟

فقال: إنّما قتله أصحاب رسول اللَّه «(4)».

وروي عن أبي سعيد الخدريّ، انّه سئل عن مقتل عثمان: هل شهده أحد من أصحاب رسول اللَّه (ص)؟ فقال: نعم، شهده ثمانمائة، أو قوله لعلي: فإذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي، إنّه خالف ما أعطاني «(5)».

وقال ابن عمر- كما روى الواقدي عنه-: واللَّه ما فينا إلّاخاذل أو قاتل «(6)».

وقال سعد بن أبي وقّاص: وأمسكنا نحن ولو شئنا دفعناه عنه.

وفي النصّين الأخيرين إشارة إلى إمكان نصرته، لكنّهم أحجموا! لماذا؟!

ونحن أمام هذا الواقع .. إمّا أن نجرّد سعداً وابن عمر من الحميّة الدينيّة أو نقول بمشروعيّة جواز قتل الخليفة، ولا ثالث.

ومن المؤشّرات الدالّة على أنَّ الثورة على عثمان كانت ذات دافع دينيّ ما مرّ


1- تاريخ المدينة المنوّرة 3: 1052.
2- أنساب الأشراف 5: 36.
3- أنساب الأشراف 5: 90.
4- شرح النهج لابن أبي الحديد 3: 27- 28.
5- شرح النهج لابن أبي الحديد 3: 28، أنساب الأشراف 5: 57.
6- شرح النهج لابن أبي الحديد 3: 8.

ص:106

من رسالة مَن بالمدينة من أصحاب محمّد، إلى مَن بالآفاق، التي جاء فيها: إنّكم إنّما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل اللَّه، تطلبون دين محمّد، فإنَّ دين محمّد قد أفسده من خلفكم (وفي الكامل: خليفتكم)، وترك ... فهلمّوا، فأقيموا دين محمّد «(1)».

وجاء في كتاب المهاجرين الأوّلين إلى مَن بمصرَ من الصحابة والتابعين: أمّا بعد: أن تعالوا إلينا، وتداركوا خلافة رسول اللَّه قبل أن يسلبها أهلها .. فإنَّ كتاب اللَّه قد بدّل، وسنّة رسول اللَّه قد غيّرت، وأحكام الخليفتين قد بدّلت، فننشد اللَّه مَن قرأ كتابنا مِن بقيّة أصحاب رسول اللَّه والتابعين بإحسان إلّا أقبل إلينا وأخذ الحقّ لنا وأعطاناه .. فأقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون باللَّه واليوم الآخر، وأقيموا الحقّ على النهج الواضح الذي فارقتم عليه نبيّكم وفارقكم عليه الخلفاء.

وقد روي من طرق مختلفة وبأسانيد كثيرة أنَّ عمّاراً كان يقول: ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر وأنا الرابع، وأنا أشدّ الأربعة لقوله تعالى: «ومن لم يحكم بما أنزل اللَّه فأُولئك هم الكافرون» وأنا أُشهد اللَّه إنَّه قد حكم بغير ما أنزل اللَّه.

وروي عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة انّه قيل له: بأيِّ شي ء كفَّرتم عثمان؟ فقال: بثلاث، جعل المال دولة بين الأغنياء، وجعل المهاجرين من أصحاب رسول اللَّه بمنزلة من حارب اللَّه ورسوله، وعمل بغير كتاب اللَّه «(2)».

وهناك الكثير من هذه النصوص التي تشير إلى ترك الخليفة الثالث العمل بكتاب اللَّه وسنّة نبيّه وسيرة الشيخين، ممّا لها الدور الأكبر في قتله، فعدم العمل بكتاب اللَّه وسنّة نبيّه لا يمكن تخصيصه بتقريبه لأهله غير المنزّهين، وإن كانت تدخل ضمن عدم العمل بكتاب اللَّه.

والآن ندع هذه المقدمة لنواصل الدراسة، راجين أن لا نكون بدرجنا لما


1- تاريخ الطبريّ 4: 367، الكامل في التاريخ 3: 168.
2- انظر: شرح النهج لابن أبي الحديد 3: 51.

ص:107

سبق قد اغظنا أحداً، بل إنّها كانت رؤية ألزمنا الطبريّ وابن الأثير وغيرهم من المؤرّخين بطرحها، ونحتمل أن تكون هي إحدى تلك الأسباب التي تخوّفوا من نقلها رعاية لحال العامّة!!

لكنّا وكما قلنا سابقاً نعتقد أنَّ مناقشة النصوص والوقوف على الحقيقة، ضرورة علميّة ينبغي متابعتها في جميع الأخبار التاريخيّة، وأنَّ طرح رأي أو ترجيح آخر في مثل تلك الدراسات لا يُعاب عليها الباحث، إذ الأدلّة هي التي تلزمه الطرح أو الترجيح.

أمّا تصوّر ذلك عند المؤرّخين- كما رأيناه عند الطبريّ وابن الأثير وذكرهم لخبر العاذرين لمعاوية في نفيه لأبي ذرّ مع وجود أخبار أُخرى، أو استبعاد ابن الأثيرصدورها مع تواتر النقل فيها، فنراه هو القبح بعينه، لانّهم مؤرّخون، والمؤرّخ من شأنه أن لا ينحاز في نقله للأحداث إلى جهة دون أُخرى، هذا وإنَّ رسالة من بالمدينة من أصحاب محمّد إلى من بالآفاق، ورسالة المهاجرين إلى مَن بمصر من الصحابة، وكلمات الصحابة ومواقفهم من إحداثات عثمان، والتقرّب بدمه إلى اللَّه، وغيرها ... إنّما يعضد بعضها البعض ويرجّح ما توصّلنا إليه من أنَّ الثورة على الخليفة عثمان كانت تستبطن أمراً دينيّاً، وأنّه قتل لإحداثاته تلك وإن كنّا لا ننكر ما للدوافع الماليّة والاقتصاديّة من دور في الأمر.

علماً بأنّه لم يَقُل أحد في سبب قتل عمر بن الخطّاب أو علي بن أبي طالب إنَّه كان بسبب إحداثهما، بل نرى المسلمين يبكون عليهما ويشيّعونهما ويصلّون عليهما ويوارونهما التراب بحزن وأسى، وألقوا القبض على قتلتهما، ولم ترهم يفعلون ذلك مع عثمان بل كفَّروه لما فعله في الستِّ الأواخر من حياته ورموه بالابتداع والاحداث وزهدوا فيه بعد قتله، فلم يواروه التراب إلّابعد ثلاثة أيّام «(1)»!


1- لاحمد امين كلام: مثل ما قلناه في يوم الاسلام، تقدّم.

ص:108

ونحن لا نريد من طرحنا لما سبق إلزام الآخرين بما نقوله، فلهم الخيار في قبوله أو طرحه.

من هم «الناس» في الوضوء وما هي منزلتهم؟

تناولنا فيما سبق تحديد زمن النزاع وتعيين أطرافه، واستكمالًا للبحث لابدَّ من التعرّف على «الناس» المعنيين في حديث الوضوء؟

إنَّ البتّ بذكر أسمائهمصعب جدّاً؛ لكنَّ الشواهد والقرائن تدلّنا على كونهم من الرعيل الأوّل، ومن فقهاء الصحابة، وممّن عارضوا عثمان في أكثر من فكرة وموقف.

وسنتعرّف على أسماء بعض أُولئك «الناس» وفق المقدمات والقرائن، التالية:

1- طرحنا- وبشكل إجمالي «(1)»- بعض اجتهادات عثمان في قضايا مختلفة، ثمَّ حصرنا أسماء المعارضين له في تلك القضايا.

2- جردنا أسماء المخالفين لاجتهادات عثمان من الصحابة، ثمَّ وقفنا على أسماء المخالفين المكثرين من تخطئته ومن اطّرد منهم في ذلك.

3- النظر إلى أُولئك «الناس» وهل أنَّهم قد رووا ما يوافق عثمان في الوضوء، أم كانوا من مخالفيه؟!

«الناس» في الإحداثات الأُخرى؟!!


1- كنّا قد درسنا المسألة، بصورة تفصيليّة واستقرائيّة، لكنّنا تركنا عرضها هنا تجنّباً للإطالة.

ص:109

1- الصلاة بمنى:

ذكرنا أكثر من مرّة خبر إتمام عثمان الصلاة بمنى وغيرها من إحداثاته، لكنّا بإعادتنا الأخبار هنا نريد الوقوف على أسماء مخالفيه في تلك القضايا ثمّ تطبيقها على ما نحن فيه.

لقد ناقشه في رأيه الجديد عبد الرحمن بن عوف وفنّد مزاعمه في حديث طويل «(1)»؛ وكذا أبو هريرة وابن عمر وحتّى عائشة قد رووا انَّ الصلاة في السفر ركعتان، لكنَّ عائشة وكما ستقف أتمّت الصلاة وربّعتها بعد مقتل عثمان «(2)». وعن ابن عباس: «خرج رسول اللَّه آمناً لا يخاف إلّااللَّه فصلّى اثنتين حتى رجع، ثمَّ خرج أبو بكر لا يخاف إلّااللَّه فصلّى اثنتين حتى رجع، ثمَّ فعل ذلك عثمان ثلثي إمارته أو شطرها ثمَّصلّاها أربعاً» «(3)».

وعن عروة: «إنَّ رسول اللَّهصلّى الرباعيّة بمنى ركعتين، وانَّ أبا بكرصلّاها بمنى ركعتين وانَّ عمر بن الخطّابصلّاها بمنى ركعتين، وانَّ عثمانصلّاها بمنى ركعتين شطر إمارته ثمَّ أتمّها بعد» «(4)».

وقد اعترف عثمان- على أثر اعتراض الناس- بأنَّ هذه الصلاة ليست بسنّة رسول اللَّه ولا سنّةصاحبيه.

فعن حميد عن عثمان: أنّه أتمَّ الصلاة بمنى ثمَّ خطب فقال: «أيّها الناس إنَّ السنّة سنّة رسول اللَّه وسنّةصاحبيه ولكنّه حدث العام من الناس فخفت أن يستنّوا» «(5)» وعليه، فقد تمخّض الرأي الجديد الذي طرحه عثمان فيصلاة المسافر عن مخالفة كلٍّ من:

عليّ بن أبي طالب، عبد الرحمن بن عوف، عبد اللَّه بن مسعود، وأبي هريرة؛


1- مرّ عليك فيما مضى من هذا الكتاب.
2- انظر زاد المعاد 1: 130 صلاته ص في السفر، وقد قال ابن حجر: وأما فعل عثمان وعائشة فانّهماتأوّلا تأويلًا خالفهما فيه غيرهما من الصحابة.
3- كنز العمّال 8: 238/ 22720.
4- الموطّأ 1: 402/ 201.
5- سنن البيهقيّ 3: 144.

ص:110

وكان من قبلهم: النبيّ (ص)، والشيخان، بل عثمان نفسه فيصدر خلافته ..

حيث إنَّهم قدصلّوها قصراً، وبذلك يمكن عدّهم من المخالفين لرأيه الجديد.

وخالفه أيضاً من وجوه الصحابة، كلٌّ من:

عبد اللَّه بن عبّاس «(1)»، عبد اللَّه بن عمر «(2)»، عمران بن حصين «(3)»، أنس بن مالك «(4)»، حفص بن عمر «(5)»، وعروة بن الزبير «(6)»، وعائشة «(7)».

فتحصّل: أنَّ المخالفين لعثمان في رأيه الفقهيّ المستحدث في إتمام الصلاة هم:

النبيّ الأكرم (ص).

أبو بكر.

عمر بن الخطّاب.

عليّ بن أبي طالب.

عبد الرحمن بن عوف.

عبد اللَّه بن عبّاس.

أبو هريرة.

عبد اللَّه بن مسعود.

عبد اللَّه بن عمر.

أنس بن مالك.

عروة بن الزبير.

عمران بن حصين.


1- انظر: كنز العمّال 8: 238/ 22720.
2- انظر: المحلّى لابن حزم 4: 270، صحيح مسلم 1: 482/ 17.
3- انظر: سنن البيهقيّ 3: 135، أحكام القرآن للجصّاص 2: 254.
4- انظر: البخاريّ 2: 53، مسلم 1: 481/ 15، مسند أحمد 3: 190، سنن البيهقيّ 3: 136 و 145، ومجمع الزوائد 2: 155.
5- انظر: مسند أحمد 3: 159، مجمع الزوائد 2: 155.
6- انظر: الموطّأ 1: 402/ 201.
7- مجمع الزوائد 2: 154.

ص:111

حفص بن عمر.

عائشة بنت أبي بكر.

فالأحاديث المعارضة لرأي عثمان الصلاتي كثيرة جدّاً، قد يصعب استقصاؤها وحصرها، وقد اعتبرنا رواة قصر النبيّ الصلاة بمنى من مخالفي عثمان الفقهيين، وكذا الحال بالنسبة إلى فعل النبيّ والشيخين.

وقال ابن حجر العسقلانيّ: أخرج أحمد والبيهقيّ من حديث عثمان: وأنَّه لمَّاصلّى بمنى أربع ركعات، أنكر الناس عليه «(1)» ... وعن ابن عباس ما يماثله «(2)».

فالمخالفون لعثمان إذاً هم «ناس» كثيرون من الصحابة والتابعين يشكّلون تيّاراً قويّاً قبال التوجّه الجديد للخليفة؛ لكنَّ تسلّم عثمان لزمام أُمور السلطة وشدّته في مواجهة معارضيه، جعلت بعض مخالفيه من الصحابة الفقهاء يتّخذون موقف الصمت، أو مسايرة الخليفة في بعض آرائه خوفاً من بطشه، أو من سراية الخلاف إلى نتائج لا تحمد عقباها على المدى البعيد ومستقبل الرسالة، ولذا نراهم قدصلّوا مثلصلاته، على الرغم من علمهم الجازم ببطلان دعوى عثمان وسقوط مستندها، كلّ ذلك إمّا خوفاً على أنفسهم، أو توقّياً للفتنة، إذ الخلاف شر «(3)».

انَّ في اعتراضات الصحابة على عثمان إشارة إلى أنَّهم كانوا لا يَرَون للخليفة حقّ الإحداث في الدين وتشريع ما لم يكن سائغاً في شريعة المسلمين وإن كانوا يسايرونه رهبة أو رغبة أو ....

وحتّى أُولئك الذين سايروا عثمان في إحداثاته السابقة لا نراهم يوافقونه فيما رواه عن رسول اللَّه في الوضوء بل نر اختصاص تلك الأخبار بنفر يسير لا يتجاوز عدد الاصابع، وعلى رأسهم حمران بن أبان الذي اسلم في السنه


1- فتح الباري 2: 456.
2- تاريخ الطبري 4: 267 سنة 29، المنتظم 5: 5.
3- انظر: سنن البيهقيّ 3: 144، الكامل في التاريخ 3: 104، تاريخ الطبريّ 4: 268.

ص:112

الثالثة من خلافة عثمان وكان من اسرى عين التمر!!

2- العفو عن عبيد اللَّه بن عمر:

من الثابت إنّ القصاص من أهم الحدود التي أكّدت عليها الشريعة لإقامة العدل وردع المعتدين.

فجاء عن عمر بن الخطاب انه قال- لما سمع ما فعل ابنه عبيد اللَّه بالهرمزان-: انظروا إذا أنا متّ، فاسألوا عبيد اللَّه البيّنة على الهرمزان، هو قتلني؟ فإن أقام البيّنة، فدمه بدمي؛ وإن لم يقم البيّنة، فأقيدوا عبيد اللَّه من الهرمزان «(1)».

وكان عثمان يذهب إلى ذات الرأي الفقهيّ- قبل أن تناط به الخلافة- «(2)».

ورُوِيَ عن أبي وجزة، عن أبيه؛ قال: رأيت عبيد اللَّه يومئذٍ وإنّه ليناصي عثمان، وإنَّ عثمان ليقول:

قاتلك اللَّه؛ قتلتَ رجلًا يصلّي، وصبيّةصغيرة [بنت أبي لؤلؤة]، وآخر في ذمّة رسول اللَّه [جفينة]؟! ما في الحقّ تركك «(3)».

بعد ذلك بدا لعثمان أن يتريّث ولايجمع قتل عمر وابنه معاً، ولأنَّه [حسب مدّعاه الفقهيّ] وليّ الدم .. عفا عن عبيد اللَّه، ولم يقتصّ منه «(4)»! وجعل ديته في بيت المال.

والذي دفعه لاتخاذ هذا الرأي القصاصيّ هو عمرو بن العاص، بحجّة انَّ الحادث وقع قبل خلافته، وبهذا فقد خالف عثمان في ذلك كلٌّ من:


1- سنن البيهقيّ 8: 61- 62.
2- طبقات ابن سعد 5: 15، أنساب الأشراف 5: 24.
3- سنن البيهقيّ 8: 61، طبقات ابن سعد 5: 16، تاريخ الطبريّ 4: 239.
4- السنن الكبرى 8: 61- 62، طبقات ابن سعد 5: 15- 17، الطبريّ 4: 239.

ص:113

عمر بن الخطّاب «(1)».

عليّ بن أبي طالب «(2)».

المقداد بن عمرو «(3)».

زياد بن لبيد البياضيّ الأنصاريّ «(4)».

سعد بن أبي وقّاص «(5)».

والأكابر من أصحاب رسول اللَّه (ص) «(6)».

والمهاجرين والأنصار «(7)».

والمهاجرين الأوّلين «(8)».

والناس «(9)».

وقد مرَّ عليك أنَّ عثمان نفسه كان له رأي مخالف لرأيه الذي ارتآه فيما بعد!

3- ردّه للشهود وتعطيل الحدود:

جاء عن عثمان إنه أمر بتعطيل الحدود، وردّ الشهود الذين شهدوا على الوليد بن عقبة بشرب الخمر، وقد خالفه في ذلك كلٌّ من:

عليّ بن أبي طالب «(10)».


1- سنن البيهقيّ 8: 61، شرح النهج لابن أبي الحديد 3: 60.
2- أنساب الأشراف 5: 24، طبقات ابن سعد 5: 17، الطبريّ 4: 239، الكامل في التاريخ 3: 75، وفي الأنساب: فقال عليّ: أقدِ الفاسق، فإنّه أتى عظيماً، قتل مسلماً بلا ذنب.
3- تاريخ اليعقوبيّ 2: 163- 164.
4- تاريخ الطبريّ 4: 239، الكامل في التاريخ 3: 75.
5- طبقات ابن سعد 5: 16، تاريخ الطبريّ 4: 239.
6- طبقات ابن سعد 5: 16- 17، عن المطلب بن عبد اللَّه بن حنطب.
7- طبقات ابن سعد 5: 17، عن الزهريّ، وفيه: فأجمع رأي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجّعون عثمان على قتله.
8- طبقات ابن سعد 5: 15، قوله: فاجتمع المهاجرون الأوّلون فأعظموا ما صنع عبيد اللَّه من قتل هؤلاء واشتدّوا عليه وزجروه.
9- تاريخ اليعقوبيّ 2: 163، طبقات ابن سعد 5: 17، شرح النهج لابن أبي الحديد 3: 60.
10- أنساب الأشراف 5: 33، عن الواقديّ.

ص:114

طلحة «(1)».

الزبير «(2)».

عائشة «(3)».

عبد اللَّه بن مسعود «(4)».

جندب بن زهير «(5)».

أبي حبيبة الغفاريّ «(6)».

ورهط من أصحاب رسول اللَّه «(7)».

والناس «(8)».

كشفت لنا جملة هذه الآراء الفقهيّة في الوضوء، والصلاة، والقصاص، والحدود عن وجود عدد كبير مخالف من الصحابة والتابعين، وقد عبّر عنهم في ألفاظ الرواة والمؤرّخين، في أحيان كثيرة، بلفظ «الناس» إشعاراً منهم بضخامة الكمّ المعارض لفقه عثمان وآرائه الفقهيّة.

وكان أُولئك المعارضون يقدّمون الأدلّة القاطعة، ويحتجّون على الخليفة بتعطيل الحدود، ومخالفة نظره ورأيه لما ثبت عن رسول اللَّه وجاء في القرآن.


1- أنساب الأشراف 5: 33- 35، أخرج من عدّة طرق.
2- المصدر السابق نفسه.
3- المصدر السابق نفسه، عن أبي إسحاق، والواقديّ.
4- تاريخ الطبريّ 4: 274، السيرة الحلبيّة 2: 284، الكامل في التاريخ 3: 106، تاريخ الخلفاء: 154.
5- أنساب الأشراف 5: 34، عن أبي مخنف، وغيره.
6- المصدر السابق نفسه.
7- انظر الأغاني عن الزهريّ، تاريخ الطبري 4: 240، الكامل في التاريخ 3: 76 ..
8- الكامل في التاريخ 3: 106، تاريخ الطبريّ 4: 277.

ص:115

وإذا ما أصرَّ الخليفة في مواقفه تلك، فهم بين تارك له ناقم، وبين ساكت عنه غير راضٍ.

فإذن قد وقفت على انَّ الأخبار لم تنقل لنا إحصاءً دقيقاً، ولا ذكراً مفصّلًا لأسماء مَن عارض الخليفة من الصحابة الآخرين، ولكنَّ الروايات والنقولات قد أشارت إليهم بألفاظ مختلفة، مثل:

الناس.

ناس من أصحاب النبيّ (ص).

رهط من أصحاب النبيّ (ص).

جمع من الأنصار والمهاجرين ...، وما شاكلها من عبارات.

ومن خلال تتبّعنا الدقيق للمرويّات، تمكَّنَّا من تشخيص بعض أفراد تلك العبارات العامّة.

فقد نقل من طريق الزهريّ: إنَّ ابن شاس الجذاميّ قتل رجلًا من أنباط الشام، فرفع إلى عثمان، فأمر بقتله؛ فكلّمه الزبير وناس من أصحاب رسول اللَّه، فنهوه عن قتله؛ قال: فجعل ديته ألف دينار «(1)».

وهذا النصّ كما ترى لم يذكر من أسماء الناس المخالفين، إلّاالزبير بن العوّام، أمّا الباقون فقد درجهم جميعاً في عبارة (ناس من أصحاب رسول اللَّه)؛ لكنَّ التتبّع يدلّنا على أنَّ الراوين لحديث النبيّ (ص) القائل: «لا يقتل مسلم بكافر»، أو الذين نقلوا ما يوافقه معنىً عن النبيّ (ص) أو الصحابة، أو الذين التزموا بذلك هم:

عمر بن الخطّاب «(2)».

عليّ بن أبي طالب «(3)».

مالك الأشتر «(4)».


1- الأُمّ 7: 321، السنن الكبرى 8: 33.
2- نيل الأوطار 7: 151، وفيه: ما رويناه عن عمر أنّه كتب في مثل ذلك أن يقاد به، ثمَّ ألحقه كتاباً، فقال: لا تقتلوه، ولكن اعتقلوه.
3- صحيح البخاريّ 9: 16، سنن الدارميّ 2: 190، سنن ابن ماجة 2: 887/ 2658، سنن النسائيّ 8: 23، سنن البيهقيّ 8: 28، صحيح الترمذيّ 2: 432، مسند أحمد 1: 79، الأُمّ 6: 38 و 105، أحكام القرآن للجصّاص 1: 143، أحكام القرآن للشافعيّ 1: 275.
4- مسند أحمد 1: 119 و 122، سنن أبي داود 4: 180/ 4530، سنن النسائيّ 8: 24، أحكام القرآن 1: 65، نيل الأوطار 7: 150.

ص:116

قيس بن سعد بن عبادة «(1)».

عائشة «(2)».

عبد اللَّه بن عبّاس «(3)».

عبد اللَّه بن عمرو بن العاص «(4)».

عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب «(5)».

عمران بن الحصين «(6)».

فالمظنون أنَّ بعض هؤلاء كانوا ممّن كلّم عثمان وردّه عن قتله المسلمَ بالذميّ، ومن الثابت ان المكلمين كانوا من رواة هذا الأثر النبويّ والمعتقدين به، إذ لا معنى لتكليمهم وردعهم بلا حجّة يحملونها عن رسول اللَّه (ص).

ولم تقتصر آراء عثمان الفقهيّة على رأيه الثلاثيّ الغسليّ في الوضوء، ورأيه الإتماميّ في الصلاة، ورأيه التسامحيّ في القصاص، ورأيه الإبطاليّ في الحدود، ورأيه في قتل المسلم بالذميّ، بل امتدّت إلى: خطبةصلاة العيدين أيضاً! .. فقد قدّمها الخليفة الثالث على الركعتين:

4- تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين:

روى ابن المنذر، عن عثمان، بإسنادصحيح إلى الحسن البصريّ؛ قال: أوّل مَن خطب قبل الصلاة عثمان؛صلّى بالناس، ثمَّ خطبهم، فرأى ناساً لم يدركوا الصلاة، ففعل ذلك، أي:صار يخطب قبل الصلاة «(7)».


1- سنن البيهقيّ 8: 29، مسند أحمد 1: 122.
2- سنن البيهقيّ 8: 30.
3- سنن ابن ماجة 2: 888/ 2660.
4- سنن أبي داود 4: 181/ 4531، مسند أحمد 2: 211، سنن الترمذيّ 2: 433/ 1434، سنن ابن ماجة 2: 887/ 2659، أحكام القرآن للجصّاص 1: 142، نيل الأوطار 7: 150.
5- أحكام القرآن للجصّاص 1: 142.
6- الأُمّ 7: 322، سنن البيهقيّ 8: 29.
7- فتح الباري 2: 361، نيل الأوطار 3: 362، تاريخ الخلفاء: 164- 165، محاضرة الأوائل: 145.

ص:117

هذا، مع أنَّ الثابت روايته من فعل النبيّ (ص) هوصلاة الركعتين ثمَّ الخطبة.

ومن الذين رووا فعل النبيّ (ص) ذلك:

عليّ بن أبي طالب «(1)».

عبد اللَّه بن عبّاس «(2)».

عبد اللَّه بن عمر «(3)».

أبو سعيد الخدريّ «(4)».

جابر بن عبد اللَّه الأنصاريّ «(5)».

أنس بن مالك «(6)».

عبد اللَّه بن السائب «(7)».


1- الموطا 1: 179/ ذيل الحديث 5، وابن ابى شبيه فى مصنفه 2: 48/ 6، واليعقوبى 2: 162 قد ذكر خطبه عثمان.
2- . صحيح بخارى 2: 23، صحيح مسلم 2: 602/ 1، 2، سنن أبى داود 1: 297/ 1142، سنن ابن ماجة 1: 406/ 1273، سنن النسائى 3: 184، سنن البيهقى 3: 296.
3- صحيح البخارى 2: 23، صحيح مسلم 2: 605/ 8 مسند أحمد 2: 38، سنن ابن ماجة 1: 407/ 1276، سنن الترمذى 2: 21/ 529، سنن النسائى 3: 183، سنن البيهقى 3: 296، الام 1: 235، وفيه: عن عبدالله بن عمر: إن النبى و أبابكر و عمر كانوا يصلون فى العيدين قبل الخطبة. ثم روى الشافعى بعدها بأن معاوية قدم الخطبه.
4- سنن ابن ماجة 1: 406/ 1275، 409/ 1288، سنن البيهقى 3: 296- 297، المدونة الكبرى 1: 169، صحيح البخارى 2: 23.
5- البخارى 2: 22، مسلم 2: 603/ 403، أبى داود 1: 297/ 1141، النسائى 3: 186، البيهقى 2: 296، 298.
6- المدونة الكبرى لمالك 1: 169.
7- ابن ماجة 1: 410/ 1290، أبى داود 1: 300/ 1155، النسائى 3: 185، البيهقى 3: 301.

ص:118

البراء بن عازب «(1)».

بالإضافة إلى عثمان نفسه، إذ كان أوّلًا يصلّي ثمَّ يخطب، كما تقدّم.

وبعد هذا فقد عرفت بأنّ المخالفين لعثمان كانوا من الصحابة ولم يكونوا من الذين قد تأثّروا بالاتجاهات المنحرفه البعيده عن واقع الإسلام.

بعد نَقْلِنا بعض آراء الخليفة الثالث عثمان بن عفّان، وأسماء مخالفيه من الصحابة البارزين، وكَشْفِنا عن آراء الخليفة الفقهيّة التي عاكست فقه سائر الصحابة، اتّضح لنا أنَّ المراد من لفظ «الناس» في روايات الوضوء هم بعض أُولئك الصحابة العظام وأمثالهم، وأنَّ عثمان هو مؤسس المدرسة الوضوئيّة الجديدة.

نعم؛ وبهذا .. يرتفع الاستبعاد والاستغراب في نسبتنا لعثمان الابتداع في الوضوء وغيره ويمكننا أن نقول قولًا قاطعاً: انَّ فقه الخليفة الثالث لم يكن يتمشّى مع فقه الصحابة، وإنَّه قد أخطأ في الفهم، والاستنباط، وردّ الفروع إلى الأُصول، وإنَّ عِلَلَه المستنبطة، ووجوهه الاستحسانيّة لم تلق التأييد والقبول، إلّا من نفر قليل دفعتهم إلى ذلك دوافع مختلفة، فقهيّة وسياسيّة، واجتماعيّة، وعشائريّة وغيرها ممّا سوف تقف على المزيد منه لو واصلت معنا البحث حتّى أواخر الكتاب.

فلا بدع أن خالفه كبار الصحابة في وضوئه، ممّا اضطرّه لأن يدعم وضوءه بأساليبه آنفة الذكر ..

لكنَّ بعض الصحابة المقرّبين من عثمان قد حاولوا التكيّف مع مستجدّاته محاولين بثّ ذلك بين أوساط المسلمين؛ وبمرور الأيّام تَطَبَّع بعض المسلمين على تلك المنهجيّة الجديدة، وما إن وصلت الأيّام لمعاوية بن أبي سفيان وأنصاره،- وكانوا قد قاموا بدور لتوسيع دائرة الفقه العثماني- حتّى صارت أفكار وآراء الخليفة الثالث مدرسة فقهيّة ضخمة، أرسى قواعدها عثمان، وأقام بناءها- فيما بعد- الأمويّون، ونظّرها دعاتهم، وسار على نهجها ما لا يحصى من المسلمين.

ترشّح ممّا سبق بروز أسماء لامعة من الصحابة المعارضين لرأي عثمان قد تكون مطّردة المخالفة معه، عاملة بدأب وإخلاص من أجل إيصال الفقه الذي


1- ابن ماجة 1: 410/ 1290، أبي داود 1: 300/ 1155، النسائيّ 3: 185، البيهقيّ 3: 301.

ص:119

استقته من رسول اللَّه (ص) إلى جميع الناس، رافضة لكلّ ما يأتي من الخليفة الثالث ومَن سار على نهجه- من اراء فقهيّة جديدة- .. وإن على رأس تلك المجموعة:

عليّ بن أبي طالب.

عبد اللَّه بن عبّاس.

طلحة بن عبيد اللَّه.

الزبير بن العوّام.

سعد بن أبي وقّاص.

عبد اللَّه بن عمر.

عائشة بنت أبي بكر.

ومن هؤلاء خرج الّذين أفتوا بقتل عثمان، وجوّزوه، ومنهم مَن كان لا يصلّي خلفه، ولا يسمّيه بأمير المؤمنين، وقد أوصى البعض- كعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، و ...- أن لا يصلّي عليه عثمان بعد وفاته، وأنَّ الجموع الهاجمة عليه قد منعت من دفنه- والصلاة عليه- في البقيع ...

قدصار كلّ ذلك بسبب إحداثات عثمان المتكرّرة في الدين، فدراسة سلسلة الأحداث بتأمّل وموضوعيّة وتجرّد عن العصبيّة، تجعلنا نستبعد أن يكون أُولئك الصحابة وبتلك الممارسات والمواقف إنَّما ثاروا على عثمان بسبب تدهور الأوضاع الاقتصاديّة، أو بسبب سوء النظام الإداريّ- كما يدّعي ذلك غالب الكتّاب- .. فالسبب كان دينيّاً، ونستمدّ هذا التوجيه من نصوصهم التي مرّبنا بعضها، وها نحن نعيد بعض الجمل تارة أُخرى لإيضاح المطلب بشكل أدقّ:

قال هاشم المرقال: إنَّما قتله أصحاب محمّد، وقرّاء الناس، حيث أحدث أحداثاً، وخالف حكم الكتاب؛ وأصحاب محمّد هم أصحاب الدين، وأولى

ص:120

بالنظر في أُمور المسلمين «(1)».

وقول عمّار لعمرو بن العاص، عندما سأله: لِمَ قتلتموه؟

قال: أراد أن يُغيّر ديننا «(2)».

أو قوله: إنَّما قتله .. الصالحون، المنكرون للعدوان، الآمرون بالإحسان «(3)».

أو قول الزبير بن العوّام: اقتلوه، فقد بدّل دينكم «(4)».

أو قول عائشة: اقتلوا نعثلًا فقد كفر.

روايات مفتعلة:

وضع أنصار مدرسة عثمان أحاديث على لسان مخالفي الخليفة المطّردين! ليمكّنهم بذلك الاستنصار لوضوئه، ومن تلك الأحاديث ما رواه أبو النضر، حيث قال:

إنَّ عثمان دعا بوَضوء، وعنده طلحة والزبير وعليّ وسعد؛ ثمَّ توضّأ وهم ينظرون .. فغسل وجهه ثلاث مرّات، ثمَّ أفرغ على يمينه ثلاث مرّات، ثمَّ أفرغ على يساره ثلاث مرّات، ثمَّ رشّ على رجله اليمنى، ثمَّ غسلها ثلاث مرّات، ثمَّ رشّ على رجله اليسرى، ثمَّ غسلها ثلاث مرّات؛ ثمَّ قال للّذين حضروا:

أنشدكم اللَّه، أتعلمون أنَّ رسول اللَّه (ص) كان يتوضّأ كما توضّأت الآن؟ قالوا:

نعم.

وذلك لشي ء بلغه عن وضوء رجال «(5)».

وهذه الرواية .. زيادة على سقوطها سنداً، بانقطاعها بأبي النضر، كما قال


1- تاريخ الطبريّ 5: 43 عن كتاب صفّين لنصر بن مزاحم.
2- كتاب صفّين: 338- 339، شرح النهج لابن أبي الحديد 8: 22.
3- كتاب صفّين: 319 عنه في الطبريّ والكامل.
4- انظر شرح النهج لابن أبي الحديد، وقد مرَّ سابقاً في هذا الكتاب.
5- كنز العمّال 9: 447/ 26907، ومثله في ص 439/ 26876 عن أبي النضر، بلفظ: فتوضّأ ثلاثاً، ثمَّ قال: أنشدكم ... الخ.

ص:121

البوصيريّ «(1)» فإنَّها ساقطة المتن، لأنَّ الوضوء المنقول فيها خالٍ عن مسح الرأس، وهو وضوء غير مجزٍ باتّفاق المسلمين، فكيف يشهد على ذلك أربعة من أكابر الصحابة، فالمرجّح قويّاً- بعد احتمال سقوط المتن- أن يكون الخبر إعلاميّاً وسياسيّاً إذ نرى الراوي يؤكِّد على الفعل الثلاثيّ وغسل الأرجل ويتناسى حكم الرأس، لأنَّ النزاع بين هؤلاء الأربعة وعثمان كان فيهما.

وكذا توحي العبارة بأنَّ طلحة والزبير وعليّاً وسعداً هم المعنيّون بجملة (وذلك لشي ء بلغه عن وضوء رجال)!

وعليه فنسبة هذا الخبر إلى هؤلاء الصحابة جاء للتقليل من أهميّة القضيّة، لأنَّهم- وكما عرفت- من المخالفين المطّردين لفقه عثمان، ومن جملة «الناس» المخالفين للخليفة الثالث في وضوئه ..

ومن ذلك ما أخرجه النسائيّ بسنده عن شيبة: أنّ محمّد بن عليّ (الباقر) أخبره، قال: أخبرني أبي عليّ (زين العابدين) أنّ الحسين بن عليّ قال: دعاني أبي عليّ بوَضوء فقرّبته له، فبدأ فغسل كفّيه ثلاث مرّات قبل أن يدخلهما في وضوئه، ثمّ مضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً، ثمّ غسل وجهه ثلاث مرّات، ثمّ غسل يده اليمنى إلى المرافق ثلاثاً، ثمّ اليسرى كذلك، ثمّ مسح برأسه مسحة واحدة، ثمّ غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاثاً، ثمّ اليسرى كذلك، ثمّ قام قائماً فقال: ناولني، فناولته الإناء الذي فيه فضل وضوئه فشرب من فضل وضوئه قائماً، فعجبت، فلمّا رآني، قال: لا تعجب فإنّي رأيت أباك النبيّ (ص) يصنع مثل ما رأيتنيصنعت يقول لوضوئه هذا وشرب فضل وضوئه قائماً «(2)».

إنّ علامات الوضع بارزة على هذا الخبر، ولا أُكلّف نفسي مؤونة الجواب عنه، لأنّ الصفحات القادمة ستثبت أنّ وضوء عليّ بن الحسين ومحمّد بن عليّ


1- كنز العمّال 9: 448/ 26907.
2- سنن النسائيّ 1: 69- 70.

ص:122

وجعفر بن محمّد وابن عبّاس وغيرهم من أولاد عليّ هو غير المنقول هنا.

ولا أدري ما معنى قوله: (فعجبت، فلمّا رآني قال: لا تعجب، فإنّي ...)!

وهل إنّ الحسين بن عليّ كان يعتقد أنّ شارب فضل ماء الوضوء واقفاً مبدع، كما ترى تعجّبه؟!!

أم إنّه كان من أُولئك المحدثين في الدّين، والذين ستقف على حالهم في عهد عليّ بن أبي طالب؟

أم إنَّه تعجّب من وضوء أبيه والذي كان غير معهود له ولا هو بالمتعارف في ذلك البيت؟!!

نعم؛ إنّ ظاهرة الافتعال والتزوير قد تفشّت ولَقيت رواجاً في العهد الأمويّ، وستقف على ذلك بمزيد من التفصيل لاحقاً.

والأنكى من هذا، ذلك الخبر المفتعل الذي ينصّ على ذهاب عليّ إلى ابن عبّاس من أجل أن يُعَلِّمَ ابن عبّاس وضوء رسول اللَّه!!

فقد أخرج أبو داود، وصاحب كنز العمّال، وغيرهما .. عن ابن عبّاس؛ إنَّه قال: دخل عَلَيَّ عَلِيٌّ- يعني ابن أبي طالب- وقد أهراق الماء، فدعا بوضوء ..

فأتيناه بتور فيه ماء، حتّى وضعناه بين يديه؛ فقال: يا ابن عبّاس! ألا أُريك كيف كان يتوضّأ رسول اللَّه (ص)؟

قلت: بلى ..؛ فأصغى الإناء على يده فغسلها ...- الخبر- «(1)»، فأتى بوضوء عثمان عن النبيّ (ص)!

والآن، نتساءل: هل يصحّ هذا الخبر مع ما عرفنا من موقف عليّ باعتباره الرائد والمعيد لمدرسة الوضوء الثنائيّ المسحيّ كيانها؟

وهل كان ابن عبّاس- حقّاً- بحاجة إلى معرفة الوضوء .. وهو حبر الأُمَّة؟!


1- سنن أبي داود 1: 29/ 117، كنز العمّال 9: 459/ 26967 وفيه بتفاوت.

ص:123

بل، كيف نوفّق بين هذا الخبر مع ما نُقِلَ عن ابن عبّاس في اعتراضه على الرُّبَيِّع بنت معوّذ، بقوله: أبى الناس إلّاالغسل، ولا أجد في كتاب اللَّه إلّاالمسح؛ وقوله: الوضوء غسلتان ومسحتان؛ و ...؟! «(1)» وعليه .. فإنَّنانرجِّح أن يكون «الناس» الذين يتحدّثون عن رسول اللَّه (ص) في حديث الوضوء، هم من المخالفين المطّردين ..

ونستند في ترجيحنا على ما يلي:

1- مخالفتهم لعثمان في أغلب اجتهاداته- كما مرّ عليك-.

2- عدم ورود أسمائهم في قائمة الراوين للوضوء الثلاثيّ الغسليّ الذي وضع عثمان لبنة تأسيسه.

3- ورود أسماء بعضهم في قائمة الراوين للوضوء الثنائيّ المسحيّ «(2)».

فالقرائن المدرجة أعلاه تُوصلنا إلى أنَّ «الناس» هم المعارضون المطّردون لعثمان.

تلخّص ممّا سبق:

* وحدة الوضوء في زمن النبيّ (ص) والشيخين.

* ظهور الخلاف في زمن عثمان بن عفّان.

* اختلاف عثمان مع «ناس» هم من أعاظم الصحابة.

* البادئ بالخلاف: عثمان.

* عدم ارتضاء الصحابة لرأي عثمان.

* مخالفة عثمان بن عفّان لسنّة رسول اللَّه (ص) وسيرة الشيخين.


1- سنبحث دور الحكومتين الاموية والعباسية في اشاعة التحريف والوضع في الحديث.
2- وستقف على أسمائهم لاحقاً إن شاء اللَّه تعالى.

ص:124

عهد عليّ بن أبي طالب (35- 40 ه)

اشارة

بعد أن توصّلنا في البحوث السابقة إلى تعيين زمن الخلاف، ومنزلة المختلفين، نتساءل، بما يلي:

لوصحّ ما ذهبنا إليه، فلماذا لا نرى لعليّ موقفاً في مواجهة هذه البدعة الظاهرة، من خطبة أو رسالة أو رأي؟

وإذا كان الأمر كذلك .. فما هو تفسيرنا لها؟

أضف إلى ذلك، أنَّ الشيخ الأميني- وهو من علماء الامامية- وكذا المجلسي لم يتطرقا لهذه المسألة، ولم يعدّاها من مبتدعات الخليفة الثالث!

نلخص الجواب عن هذا التساؤل في أربع نقاط:

الأُولى: معارضة الصحابة لوضوء عثمان

أوقفتنا البحوث السابقة على وجود معارضة دينيّة قويّة كانت تواجه الخليفة، وقفت له بالمرصاد وعارضت اجتهاداته، وبمناسبات عدّة، لكنَ

ص:125

الخليفة ظلَّ غير عابئ بتلك المعارضة، وواصل مسيره في تطبيق ما يراه من آراء، غير مكترث بما قيل ويقال ضدّه، وما قضيّة الوضوء إلّاإحدى تلك الموارد؛ فإنَّه- وكما مرّ سابقاً- كان يجلس بالمقاعد وباب الدرب، وبحضور الصحابة، فيشهدهم على وضوئه الغسليّ، ثمَّ يحمد اللَّه لموافقتهم إيّاه، وقد عرفت بأنَّه كان يتوضّأ ويمسح على رجليه شطراً من خلافته «(1)»! ويضحك عند حكايته الوضوء!!!

لكن جهوده ذهبت هباءً، بعد أن غلبت كفَّة المعارضة عليه، وأودت بحياته في آخر المطاف.

والمعارضة- كما عرفت- هم من:

أصحاب محمَّد (ص) ..

قُرَّاء الأُمَّة ..

فقهاء الإسلام ..

العشرة المبشّرة بالجنَّة ..

أزواج النبيّ (ص) ..

فهم ليسوا بفئة سياسيّة أو حزب علويّ، كما ادّعاه بعض الكتَّاب والمؤرّخين.

وما الذي يعنيه تصدّر الأصحاب، والقرّاء، والفقهاء، والأزواج وغيرهم للوقوف بوجه إحداثات عثمان؟!!

فاذا تصدّر المعارضة أمثال هؤلاء، فهل يلزم عليّاً لأن يخطب، أو يكتب رسالة، وما شابه .. في الردّ على إحداث عثمان؟

إنَّ المعارضة قد كفت عليّاً مواجهة عثمان في هذه المسألة؛ وقد عُرِفَ عن


1- كما في خبر كنز العمال 9: 436/ 26863.

ص:126

عليّ أنَّه كان يتكلّم حين يسكت الآخرون عن إظهار حقّ، وحين كان التيّار الرادّ على عثمان في الوضوء وغيره عارماً، فلا داعي ولا ضرورة لصدور نصّ عنه ضدّ عثمان، خصوصاً إذا ما عرفنا أنَّ المسلمين- عموماً- لم يتأثّروا بتلك الاجتهادات العثمانيّة في عهده، بل نرى البعض منهم قد حكم من جرّائها بكفره.

ويحتمل أنَّ نصوصاًصدرت عنه في قضيّة الوضوء، لكنَّ الأيدي الأمويّة- وهي المدوّنة للتاريخ والحديث- قد تلاعبت بتلك أو حذفتها من الأُصول.

الثانية: موقف عليّ العمليّ من الوضوء البدعيّ

نبدأ بإثارة السؤال الآتي:

هل إنَّ المخالفة العمليّة أشدّ وقعاً، أم القوليّة؟؟

من الطبيعيّ القول بالأُولى، لكونها أبلغ في إيصال المطلوب، وخصوصاً فيما نحن بصدده، إذ أنَّ الوضوء فعل، وإنَّ الفعل يتّضح مطلوبه- بدقّة- بالممارسة والتطبيق.

والآن .. فثمَّة شواهد كثيرة في بطون كتب الحديث والتفسير والتاريخ تدلّ على أنَّ عليّاً قد واجه إحداث عثمان عمليّاً، فقد نقل عنه أنَّه توضّأ أيّام خلافته في الرحبة، فوصف وضوء رسول اللَّه (ص)؛ وقال: «هذا وضوء مَن لم يُحدث» «(1)» .. وفي العبارة اشارة إلى مَن أحدث!

فمَن هو الُمحْدِثُ يا تُرى؟

وفي أيّ عهد من عهود الخلفاء كان؟

وهل يمكن عدّ أبي بكر أو عمر من الّذين قد أحدثوا أو أُحدث في زمانهم؟


1- سنن البيهقيّ 1: 75، كنز العمّال 9: 456/ 26949.

ص:127

لقد اتّضح لنا- في ضوء البحوث السابقة- أنَّ الخلاف قد وقع في عهد عثمان؛ لقول أبي مالك الدمشقيّ: حدّثت أنَّ عثمان بن عفّان اختلف في خلافته في الوضوء «(1)».

ولما أخرجه مسلم، عن حمران: إنَّ عثمان توضّأ؛ ثمَّ قال: إنَّ ناساً يتحدّثون عن رسول اللَّه بأحاديث لا أدري ما هي! إلّاأنّي رأيت رسول اللَّه توضّأ مثل وضوئي هذا.

وقلنا بأنَّ الخليفة هو الذي عارض «الناس» في وضوئهم، وأنَّهم كانوا الامتداد لوضوء النبيّ (ص)، وأنَّهم كانوا من أعاظم الصحابة، وغيرها من الأدلّة والشواهد التي قدّمناها.

وهنا .. لابدّ من الإشارة إلى مَن أوَّل الخبر وقلب مفهومه، لكي يستفيد منه لمذهبه القائل بوجوب الغسل بدلًا من المسح ..

فقال قائلهم: إنَّ عليّاً قال: «... هذا وضوء من لم يحدث» ومعناه: مَن لم يصدر منه الحدث الناقض للطهارة، فيكون المجرّد من غسل الرجل، والمحتوي على مجرّد المسح وضوءاً غير رافع للحدث!

وبذلك .. يكون الوضوء- عندهم- وضوءين:

1- وضوء رافع للحدث؛ وهو المشتمل على غسل الرجلين.

2- وضوء تجديديّ، غير رافع للحدث؛ وهو المشتمل على مسح الرجلين أو الخفّين «(2)».

أو ترى الآخر يقول بشي ء آخر، وسنناقش هذه الأقوال في الجزء الرابع من هذه الدراسة «الوضوء في الميزان» إن شاء اللَّه تعالى، هذا من جهة .. ومن جهة أُخرى .. المعروف عن عليّ بن أبي طالبصلابته في دين اللَّه، ووقوفه أمام


1- كنز العمّال 9: 443/ 26890.
2- انظر: الطبري تفسير الآية، ورسالة الشيخ المفيد والكراجكي في ذلك.

ص:128

اجتهادات الصحابة، لأخذهم بالرأي، وتركهمصريح القرآن وفعل النبيّ (ص) ولمّا كان هذا الوضوء وفق ما طرحناهُ إحداثاً في الدين، فالإمام كان لا يمكنه تجاهل ذلك بل في كلامه إشارة إليه وستقف عند سردنا لأحاديث الباب على كلماته وأفعاله المُشعِرة بدحض خطّ الاجتهاد والرأي أمام النصّ وبطلانه.

نقل الشيخ نجم الدين العسكريّ حديثاً أخرجه أحمد في مسنده، عن أبي مطر؛ قال: بينما نحن جلوس مع أمير المؤمنين عليّ في المسجد، على باب الرحبة؛ جاء رجل فقال: أرني وضوء رسول اللَّه (ص)- وهو عند الزوال-، فدعا قنبر؛ فقال: ائتني بكوز من ماء ... فغسل كفّيه ووجهه، وغسل ذراعيه، ومسح رأسه واحدة، ورجليه إلى الكعبين .. ثمَّ قال: أين السائل عن وضوء رسول اللَّه؛ كذا كان وضوء نبيّ اللَّه «(1)».

لكن الموجود في مسند أحمد وكذا في كنز العمّال: بينما نحن جلوس مع عليّ في المسجد- على باب الرحبة- جاء رجل، فقال: أرني وضوء رسول اللَّه- وهو عند الزوال- فدعا قنبر فقال: ائتني بكوز من ماء. فغسل كفّيه ووجهه ثلاثاً وتمضمض ثلاثاً وغسل ذراعيه ثلاثاً ومسح رأسه واحدة،- فقال داخلها من الوجه وخارجها من الرأس- ورجليه إلى الكعبين ثلاثاً. وفي كنز العمّال ليس فيها (ثلاثاً) «(2)».

والذي نفهمه من الحديث، هو: أنَّ الإمام عليّاً قد أتى بالوضوء التعليميّ وهو في أيّام خلافته، وبطلبٍ من سائل «(3)».

وأنَّ جملة «أرني» التي ابتدأ بها السائل كلامه، تدلّ على وجود خلاف بين الأُمَّة في الوضوء وأن السائل كان يريد من الإمام أن يوقفه على وضوء النبيّ!


1- الوضوء في الكتاب والسنّة: 40، عن مسند أحمد 1/ 108 و 158.
2- مسند أحمد 1: 158، كنز العمّال 9: 448/ 26908.
3- لا أن يُفاجئ حمران بقوله« إنَّ ناساً ...»، أو أن يَقترح على ابن دارة« أن يريه وضوء رسول اللَّه»، أو أن يجلس بباب الدرب والمقاعد ويدعو الصحابة فيتوضّأ أمامهم .. كما كان يفعله عثمان مع المسلمين!!!

ص:129

ويتّضح محل النزاع بين المدرستين في الوضوء بما نقله الراوي: مسح رأسه ورجليه واحدة .. للدلالة على أنَّ النزاع كان في:

أ- العدد.

ب- حكم الأرجل- هل هو المسح أم الغسل؟

فالإمام عليّ أراد أن يؤكّد للسائل بأنَّ الوضوء المشتمل على مسح الرجلين إنَّما هو وضوء رسول اللَّه لا غير، إذ أنَّ السائل كان في مقام التعلّم والإمام في مقام التعليم، فلا يعقل أن يصدر منه المسح وإرادة المعنى التجديدي والذي قال به البعض، أو يراد منه شي ء آخر.

وتتّضح الحقيقة بأدقِّ ملامحها إذا ما قسنا هذا الكلام من الإمام مع ماصدر عنه في مواقع أُخرى وتأكيده على لفظ إلاحداث والمحدث.

فإنَّه- وكما قلنا سابقاً- كان يواجه القائلين ب: (رأي رأيته) في الأحكام- وعثمان من أُولئك القائلين- بكلِّ قوّة، وصلابة حيث لا حجّيّة للرأي قبال النصّ الصريح في القرآن؛ كما أنَّ الصحابة لا يمتازون عن الناس بشي ء من حيث العبوديّة، فلهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، والكلُّ سواسية فيما وُضِعَ على عواتقهم من تكاليف شرعيّة؛ ولا مبرّر لترجيح رأي على آخر، إلّاإذا كان أحدهما مدعوماً أو مسنداً بالقرآن أو السنّة.

وما كان رسول اللَّه (ص) يرى أنَّ له الحقّ في التشريع على ضوء ما يراه هو، بل: «وماينطق عن الهوى* إن هو إلّا وحي يوحى» «(1)»

.. وقد ثبت عنه (ص) أنَّه كان لا يقول برأي أو قياس، إلّا: «... بما أراك اللَّه» «(2)».

نعم؛ كان الإمام عليّ يواجه تلك الاجتهادات، ويسعى لتخطئة أصحاب الرأي بالإشارة والتمثيل .. ومن تلك الأخبار:


1- سورة النجم: الآية 3، 4.
2- سورة النساء: الآية 105.

ص:130

ما أخرجه المتّقي الهنديّ، عن جامع عبد الرزّاق، وسنن ابن أبي شيبة، وسنن أبي داود .. كلّهم عن عليّ؛ أنَّه قال: لو كان الدين بالرأي، لكان باطن القدم أحقّ بالمسح من ظاهرها، لكن رأيت رسول اللَّه مسح ظاهرها «(1)».

وفي تأويل مختلف الحديث: ما كنت أرى أنَّ أعلى القدمين أحقّ بالمسح من باطنهما حتّى رأيت رسول اللَّه يمسح على أعلى قدميه «(2)».

وفي نصّ آخر: كنت أرى أنَّ باطن القدمين أحقّ بالمسح من ظاهرهما حتّى رأيت رسول اللَّه يمسح ظاهرهما «(3)»؛ وأمثالها ...

بهذا فقد وقفت على كيفيّة مواجهة الإمام عليّ لخطّ الاجتهاد وتسقيطه للرأي قبال فعل النبيّ (ص)، إذ إنَّ العمل المجزئ هو ما قرن بدليل من القرآن أو السنّة .. والإمام كسب مشروعيته من ذلك، وإن كان مخالفاً لرأيه الشخصي حسب هذه النصوص «(4)».

ولم يقتصر عمل الإمام على بيان المورد آنف الذكر، بل نرى له مواقف كثيرة مع الّذين أحدثوا في الدين وأدخلوا فيه ما ليس منه، وجعلوا اجتهاداتهم ورواياتهم هي الملاك في فهم الأحكام .. ومن تلك الأُمور، قضيّة الوضوء، فقد طرحت فيها بعض المفاهيم- في عهد عثمان دون غيره- لإعطائهاصبغة شرعيّة عالية!! منها:

1- عدم جواز شرب المتوضّئ فضلة وضوئه وهو قائم.

2- عدم جواز ردّ المتوضي سلام أحد، لأنَّه في الوضوء ... وغيرها.

فالإمام ولأجل إبعاد هذه المفاهيم عن الشرعيّة واعتبارها إحداثات في


1- المصنّف 1: 30/ 6، سنن أبي داود 1: 42/ 164، وكذا في كنز العمّال.
2- تأويل مختلف الحديث 1: 56.
3- سنن أبي داود 1: 42/ 164.
4- وسنشير إلى كيفيّة رؤية الخليفة عثمان لصفة وضوء رسول اللَّه في الفصل الأوّل من هذه الدراسة فتابع معنا.

ص:131

الدين .. نراه يشرب من فضل وضوئه وهو قائم، ويقول «هذا وضوء من لم يحدث» فجملة «هذا وضوء مَن لم يحدث» تأتي دائماً مع وجود الإحداث، كما شاهدت هنا، وستقف عليه في المستقبل كذلك، لا أنَّه بمعنى رفع الحدث- كما ادّعاه البعض-؛ ولتطبيق المدعى بصورة أدق .. إليكم بعض النصوص:

عن محمّد بن عبد الرحمن البيلمانيّ، عن أبيه؛ قال: رأيت عثمان بن عفّان بالمقاعد، فمرّ به رجل فسلّم عليه، فلم يردّ عليه، فلمّا فرغ من وضوئه؛ قال: إنَّه لم يمنعني أن أردّ عليك إلّاأنِّي سمعت رسول اللَّه (ص) يقول: مَن توضّأ فغسل يديه، ثمَّ تمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً، ومسح برأسه، وغسل رجليه، ثم لم يتكلّم حتّى يقول: أشهد أن لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له، وأنَّ محمَّداً عبده ورسوله، غفر له ما بين الوضوءين «(1)».

وعن عثمان: إنَّه توضّأ بالمقاعد، فغسل كفّيه ثلاثاً ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، ثمَّ تمضمض ثلاثاً، ثمَّ غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وغسل قدميه ثلاثاً .. وسلَّم عليه رجل وهو يتوضّأ، فلم يردّ عليه حتّى فرغ، فلمّا فرغ كلّمه يعتذر؛ وقال: لم يمنعني أن أردّ عليك إلّاأنّي سمعت رسول اللَّه (ص) يقول: مَن توضّأ هكذا ولم يتكلّم، ثمَّ قال: أشهد أن لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له، وأنَّ محمَّداً عبده ورسوله .. غفر له ما بين الوضوءين «(2)».

وعن ابن البيلمانيّ، عن أبيه .. أنَّه: شهد عثمان يتوضّأ على المقاعد، فسلَّم عليه رجل، فلم يردّ عليه حتّى إذا فرغ ردّ عليه، وجعل يعتذر إليه؛ ثمَّ قال:

رأيت رسول اللَّه (ص) يتوضّأ فسلَّم عليه رجل فلم يردّ عليه «(3)».

ولا أدري بأيّ شرع لا يردّ الخليفة سلام الرجل؟! وهل يعقل أن لا يردّ


1- كنز العمّال 9: 442/ 26887 عن البغويّ في مسند عثمان.
2- كنز العمّال 9: 442/ 26885 عن ع، وضعف، سنن الدارقطنيّ 1: 92/ 5.
3- كنز العمّال 9: 443/ 26888 البغويّ فيه، ص.

ص:132

رسول اللَّه على من يسلِّم عليه- وهو الأُسوة الحسنة- وصريح القرآن يؤكِّد بقوله «إذا حيِّيتُم بتحيّة فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها»؟!

وكيف به لا يردّ وقد تطابق أقوال علماء الإسلام بلزوم ردّ السلام وإن كان في حال الصلاة!!

ولماذا لا نرى نقل هذا الخبر وعدم ردّه السلام في الوضوء المسحيّ المنقول عنه؟

وما معنى قوله: مَن توضّأ هكذا ولم يتكلَّم .. وهل حقّاً أنَّ لرسول اللَّه وضوءين، وكيف نراه (ص) يرشد إلى الوضوء الثلاثيّ دون غيره!!

ولماذا يعتذر الخليفة من الرجل لو كان الذي فعله معه هو تكليفه الشرعي؟!

نترك هذه التساؤلات .. ولنواصل ما قاله عليّ بن أبي طالب في شرب فضلة الوضوء وهو قائم وكيف يواجه هذا الخطّ.

أخرج أحمد في مسنده، عن النزال بن سبرة: أنَّه شهد عليّاًصلّى الظهر، ثمَّ جلس في الرحبة في حوائج الناس، فلمّا حضرت العصر، أتي بتور، فأخذ حفنة ماء، فمسح يديه وذراعيه «(1)» ووجهه ورأسه ورجليه، ثمَّ شرب فضله وهو قائم؛ ثمَّ قال: إنَّ أُناساً يكرهون أن يشربوا وهم قيام، وإنَّ رسول اللَّه (ص)صنع كماصنعت؛ وهذا وضوء من لم يحدث «(2)».

وفي آخر: وانّي رأيت رسول اللَّه (ص) فعل كالذي رأيتموني فعلت .. ثمَّ تمسّح بفضله؛ وقال: هذا وضوء من لم يحدث «(3)».


1- المقصود في« مسح يديه وذراعيه» و« فمسح بوجهه وذراعيه» كما في النصّ الرابع في كلام الراوي هو: الغسل يقيناً لإجماع المسلمين بذلك، أمّا المسح في الرأس والرجلين فيبقى على معناه، أمّا دعوى أنَّ المسح هو الغسل فلا يصحّ إلّابقرينة، وسيأتي ردّها تفصيلًا في الجزء الرابع« الوضوء في الميزان» إن شاء اللَّه تعالى.
2- مسند أحمد 1: 139، وفي تفسير ابن كثير 2: 45 قريب منه، وفي البخاريّ: بعضه.
3- سنن البيهقيّ 1: 75، مسند أحمد 1: 123.

ص:133

وفي نصّ ثالث: اتي عليّ بإناء من ماء، فشرب وهو قائم؛ ثمَّ قال: بلغني أنَّ أقواماً يكرهون أن يشرب أحدهم وهو قائم، وقد رأيت رسول اللَّه (ص) فعل مثل ما فعلت ... ثمَّ أخذ منه فتمسّح، ثمَّ قال: هذا وضوء مَن لم يحدث «(1)».

وفي نصّ رابع .. وعن طريق آخر، عن النزال بن سبرة؛ قال: رأيت عليّاً (ع)صلّى الظهر، ثمَّ قعد لحوائج الناس .. فلمّا حضرت العصر، أُتي بتور من ماء، فأخذ منه كفّاً، فمسح وجهه وذراعيه ورأسه ورجليه، ثمَّ أخذ فضله فشرب قائماً وقال: إنَّ أُناساً يكرهون هذا وقد رأيت رسول اللَّه (ص) يفعله؛ وهذا وضوء مَن لم يحدث «(2)».

وأخرج أحمد كذلك، بسنده عن ربعي بن حِراش: أنَّ عليّ بن أبي طالب قام خطيباً في الرحبة .. فحمد اللَّه، وأثنى عليه، ثمَّ قال ماشاء اللَّه أن يقول .. ثمَّ دعا بكوز من ماء، فتمضمض منه، وتمسّح، وشرب فضل كوزه وهو قائم؛ ثمَّ قال: بلغني أنَّ الرجل منكم يكره أن يشرب وهو قائم .. وهذا وضوء مَن لم يحدث، ورأيت رسول اللَّه (ص) فعل هكذا «(3)».

وعليه .. فقد اطّلعت على بعض مواقف الإمام عليّ تجاه ابتداعات المحدثين، وكيفيّة مواجهته للّذين أدخلوا في الدين ما ليس منه وعنايته بكلامه وأنّ ذلك هو وضوء من لم يحدث.

أمّا الخليفة عثمان فكان يريد إعطاء الوضوء الثلاثيّ الغسليّ قدسيّة أكبر، فتراه لا يتكلّم، ولا يشرب فضل وضوئه قائماً، ويؤكّد على أنّها هي التي توجب غفران الذنوب ...


1- مسند أحمد 1: 144.
2- مسند أحمد 1: 153، سنن البيهقيّ 1: 75.
3- مسند أحمد 1: 102.

ص:134

بقي شي ء ينبغي إيضاحه .. فكلمة «يُحدِث» تعني: إتيان أمر منكر لم يكن معروفاً ...

فقد جاء في المقاييس: حدث: هو كون الشي ء لم يكن، يقال: حدث أمر بعد أن لم يكن «(1)».

وفي الصحاح: الحدوث: كون الشي ء لم يكن، واستحدثت خبراً، أي:

وجدت خبراً جديداً «(2)»، ومثله في تاج العروس «(3)».

وفي العين «(4)» والقاموس «(5)»: الحدث: الإبداع.

وجاء في التكملة والذيل «(6)»: أحدث الرجل: ابتدع، والمحدث: المبتدع، ومنه الحديث «مَن أحدث فيها حدثاً و آوى محدثاً و ...».

وفيه أيضاً: ومحدثات الأُمور: ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء التي كان السلف الصالح على غيرها؛ ومنه الحديث: «وشرّ الأُمور محدثاتها» .. ومثله في التهذيب وعنه في اللسان.

ولم يشر أصحاب المعاجم إلى معنى الناقضيّة إلّاصاحب التهذيب، وعنه في اللسان؛ يقال: أحدث الرجل: إذاصلّح أو فضّح أو خضب، أي ضرط.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى أصحاب غريب الحديث .. فإنَّهم أوردوا استعمالها بمعنى البدعة، والإحداث في الدين و ... ولا نراهم يتعرّضون إلى معنى الناقضيّة فيها.

فجاء في غريب الحديث، لابن الجوزيّ: (في الأُمم محدّثون) أي: ملهمون أي: يصيبون إذا ظنّوا.

قال الحسن: (حادثوا هذه القلوب) أي: إجلوها واغسلوا درنها.


1- معجم مقاييس اللغة 2: 36.
2- الصحاح 1: 278.
3- تاج العروس 5: 206، وفيه أيضاً: أحدثه: ابتدأهُ وابتدعه.
4- العين 3: 177.
5- القاموس 1: 170.
6- التكملة والذيل للصاغانيّ 1: 357.

ص:135

ثمَّ يأتي بالحديث: «إيّاكم ومحدثات الأُمور»: هي ما انتزعه أهل الأهواء من الأشياء التي كان السلف الصالح على غيرها «(1)».

وجاء في النهاية: وفي حديث المدينة «مَن أحدث فيها حدثاً أو آوى مُحدثاً» الحدث: الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد ولا معروف في السنّة.

والمحدث يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: مَن نصر جانياً، أو آواه وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتصّ منه.

والفتح: هو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضا به والصبر عليه، فإنَّه إذا رضي بالبدعة وأقرّ فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه.

ومنه الحديث: «إيّاكم ومحدثات الأُمور» جمع مُحْدَثة- بالفتح- وهي ما لم يكن معروفاً في كتاب ولا سنّة ولا إجماع «(2)».

وبهذا فقد عرفت بأنَّ الغلبة في اللغة وغريب الحديث هي كون كلمة «الإحداث» جاءت للإحداث في الدين وأنّ التعدّي في الوضوء هو معنى آخر للإبداع في الدين، فقد أخرج الصدوق في معاني الأخبار عن إبراهيم بن معرض أنَّه سئل- إلى أن يقول- فأيّ حدث أحدث من البول؟

فقال: إنّما يعني بذلك التعدّي في الوضوء، أن يزيد على حدّ الوضوء «(3)».

وأخرج الكلينيّ بسنده إلى حماد بن عثمان، قال: كنت قاعداً عند أبي عبد اللَّه [الصادق]، فدعا بماء فملأ به كفّه فعمّ به وجهه، ثمّ ملأ كفّه فعمّ به يده اليمنى، ثمّ ملأ كفّه فعمّ به يده اليسرى، ثمّ مسح على رأسه ورجليه وقال: هذا وضوء من لم يحدث، يعني به التعدّي في الوضوء «(4)».

وعليه فقد اتّضح لك بأنّ أهل البيت كانوا يعنون بكلمة (هذا وضوء من لم


1- غريب الحديث لابن الجوزيّ 1: 195- 196.
2- النهاية 1: 351.
3- معاني الأخبار: 248/ 1، وعنه في الوسائل 1: 440 أبواب الوضوء ب 31 ح 25.
4- الكافي 3: 27/ 8، وعنه في الوسائل 1: 437 أبواب الوضوء ب 31 ح 8.

ص:136

يحدث) معنى التعدّي والتجاوز عن حدود ما أمر به اللَّه، وأنّهم أدرى بما في البيت، علماً بأنّا لا ننكر ورودها واستعمالها في كلام الرسول بمعنى الناقضيّة لكن الغلبة الاستعماليّة- وكما قلنا- تبوح بأنَّها للإحداث في الدين.

فالشريعة كانت تستقبح التصريح بالمقزّزات والمنفّرات في مفرداتها الشرعيّة، فاستخدمت ما يماثلها في لغة العرب رعاية للأدب وقد كان ذلك من ديدن العرب العرباء، فمثلًا نراهم يعدلون عن لفظ الفقحة إلى لفظ الدبر رعاية للأدب، وكذا لفظ المضاجعة والمواقعة والجماع للدلالة على العمل الجنسيّ بين الطرفين، والفرج للإشارة إلى العضوين.

وبذلك يحتمل أن يكون مجي ء حدث وأحدث في الشريعة هو رعاية للأدب وأرادوا بها العدول عن لفظ خرّى أو بال أو ... وعليه فإنَّ لفظ الحدث وكما قلنا موضوع لكون شي ء لم يكن، ثمَّ استعملوها في الناقضيّة بنحو من العناية وزيادة المؤونة.

وعلى فرض كون رواية «... مَن لم يحدث» محتملة للوجهين، فلا يمكن للقائل جعلها وظيفة المتجدّد للوضوء فقط، إذ فيه احتمال آخر، وحيث جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

وعلى الرغم من كلِّ ذلك .. فرواية «... مَن لم يحدث» تشير بوضوح إلى الإحداث في الدين، ونؤيّد هذا القول بأمرين:

الأوَّل: ورود جملة: «... هذا وضوء مَن لم يحدث ...» في قضايا خارجيّة تكون بمثابة المؤيِّد والمفسِّر لما نحن فيه، كما لاحظنا في قضيّة: «شرب فضلة ماء الوضوء واقفاً»، فإنَّه إنَّما شرب فضل وضوئه، ليصحّح ما وقع فيه أُولئك واعتبروه خارجاً من الدين.

الثاني: إنَّ جملة: «أرني وضوء رسول اللَّه» في الحديث الأوّل؛ وقوله:

«... أين السائل عن وضوء رسول اللَّه ...»، تبيّنان بأنَّ مسح الرجلين هو من

ص:137

السنّة؛ وتشيران إلى أنَّ الإمام كان بمقام التعليم وبيان الوضوء النبويّ للسائل مقابل الإحداث والإبداع في الوضوء، فهاتان قرينتانصارفتان عن معنى التبوّل والتغوّط معيّنتان لمعنى الابتداع وإحداث ما لم يكن.

وعليه .. فقد أبطلنا قول مَن ذهب إلى أنَّ «الحدث» في الرواية المبحوثة هو بمعنى الأمر الناقض للطهارة فقط وسعيه في تأويل الخبر.

الثالثة: موقف عليّ القوليّ من الوضوء البدعيّ

نحن لا نستبعدصدور بعض النصوص القوليّة عن الإمام عليّ في قضيّة الوضوء، وتداولها بين الناس في عهده؛ لكنَّنا نحتمل أن يكون للأيدي الأمويّة أو العبّاسيّة دور فعّال في طمس أو إضاعة تلك النصوص، وذلك لما بدر منهم من عداء سافر لعليّ بن أبي طالب «(1)».

وممّا يؤيِّد المدّعى .. ما جاء في كتاب الإمام عليّ إلى محمَّد بن أبي بكر وأهل مصر والذي رواه الثقفيّ في «الغارات».

فقد جاء في المطبوع منه: ... واغسل كفّيك ثلاث مرّات، وتمضمض ثلاث مرّات، واستنشق ثلاث مرّات، واغسل وجهك ثلاث مرّات، ثمَّ يدك اليمنى ثلاث مرّات إلى المرفق، ثمَّ يدك الشمال ثلاث مرّات، ثمَّ امسح رأسك، ثمَّ اغسل رجلك اليمنى ثلاث مرّات، ثَّم اغسل رجلك اليسرى ثلاث مرّات؛ فإنّي رأيت النبيّ هكذا كان يتوضّأ «(2)».

وأخرج الشيخ المفيد بسنده عنصاحب الغارات: «... تمضمض ثلاث مرّات، واستنشق ثلاثاً، واغسل وجهك، ثمَّ يدك اليمنى، ثمَّ اليسرى؛ ثمَّ امسح رأسك ورجليك .. فإنّي رأيت رسول اللَّه يصنع ذلك «(3)» ...».


1- وستقف على نماذج من ذلك في دراستنا للعهدين الأمويّ والعباسيّ.
2- الغارات 1: 244.
3- الأمالي مصنّفات الشيخ المفيد 13: 267.

ص:138

وقال النوريّ، في المستدرك- وبعد نقله النصّ الأوّل-: قلت: ورواه الشيخ في أماليه، عن أبي الحسن عليّ بن محمَّد بن حبيش الكاتب، عن الحسن بن عليّ الزعفرانيّ، عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمَّد الثقفيّ، عن عبد اللَّه بن محمَّد بن عثمان، عن عليّ بن محمَّد بن أبي سعيد، عن فضيل بن الجعد، عن أبي إسحاق الهمدانيّ، عن أمير المؤمنين .. مثله؛ إلّاأنَّ فيه، وفي أماليّ ابن الشيخ «(1)»، كما في الأصل: «... ثمَّ امسح رأسك ورجليك ...»، فظهر: أنَّ ما في الغارات من تصحيف العامّة، فإنّهم ينقلون عنه ... «(2)».

وقال المجلسيّ- وبعد نقله الرواية عن أمالي المفيد-:

بيان: استحباب تثليث المضمضة والاستنشاق مشهور بين المتأخِّرين، واعترف بعضهم بأنَّه لا شاهد له؛ وهذا الخبر يدلّ عليه «(3)».

وقال بعدها: قد مرّ أنَّ هذا سند تثليث المضمضة والاستنشاق، لكن رأيت في كتاب الغارات هذا الخبر، وفيه تثليث غسل سائر الأعضاء أيضاً، وهذا ممّا يضعّف الاحتجاج «(4)» [به].

علماً، بأنَّ كلمة «ثلاثاً» لم ترد بعد غسل الوجه واليدين في أمالي المفيد، والطوسيّ عن الغارات!

ولا ندري لماذا يضعّف المجلسيّ الاحتجاج بالخبر، معلّلًا بأنَّ فيه تثليث سائر الأعضاء؟! وهل التثليث هو الجارح، أم غسل الرجلين؟ أم كلاهما معاً؟!!


1- أمالي الطوسيّ: 29.
2- مستدرك الوسائل 1: 306.
3- البحار 77: 266.
4- البحار 77: 334.

ص:139

وهل يلزم اعتبار جميع نسخ الغاراتصحيحة، مع ما وقفنا على التعارض فيما بينها؟

بل كيف يُطمأنّ بنصّ مأخوذ من نسخة مطبوعة متأخراً، وترك ذات النصّ المنقول عن نسخة قد مضى عليها ما يقارب ألف سنة أو أكثر؟! وبطريقي المفيد والطوسيّ «(1)».

أمّا نحن .. فنشكك فيصدور النصّ الأوَّل عن الإمام عليّ، للأسباب التالية:

1- عرف عن الثقفيّ بأنَّه شيعيّ- بل من متعصبيهم- كما يحلو للبعض أن ينعته بذلك.

فإن كان شيعيّاً .. فكيف يروي خلاف ما يعتقده ويلتزم به دون أدنى إشارة أو تنبيه؟!

بل، وهل يصحّ منه ذلك النقل مع وقوفه على ما يعارضه ويضعّفه من الروايات؟

وقد عدّه ابن النديم من علماء الشيعة «(2)»؛ وذكره الطوسيّ في رجاله، في باب: (مَن لم يروِ عن الأئمَّة) «(3)»؛ وقال عنه في الفهرست: إبراهيم بن محمَّد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفيّ (رضي اللَّه عنه)؛ أصله كوفيّ، وسعد بن مسعود أخو أبي عبيد بن مسعود عمّ المختار ولّاه عليّ عليه السلام على المدائن، وهو الذي لجأ إليه الحسن (ع) يوم ساباط، وانتقل أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد إلى أصفهان وأقام بها وكان زيديّاً أوّلًا، ثمَّ انتقل إلى القول بالإمامة «(4)».

وترجم له غالب أصحاب الرجال من الشيعة، مثل: النجاشيّ، العلّامة الحلّيّ، ابن داود، وغيرهم.


1- توفي الشيخ المفيد في سنة 413 ه، والشيخ الطوسيّ في سنة 460 ه.
2- الفهرست: 313 الفنّ الخامس، من المقالة السادسة.
3- رجال الطوسيّ: 451/ 73.
4- الفهرست للشيخ الطوسيّ: 4/ 7.

ص:140

هذا وقد تهجّم عليه غير واحد من أصحاب الرجال من العامّة؛ لتشيّعه:

فقال ابن أبي حاتم الرازيّ: سمعت أبي يقول: هو مجهول «(1)».

وقال أبو نعيم: كان غالياً في الرفض، يروي عن إسماعيل بن أبان، وغيره ..

تُرك حديثه «(2)».

وقال السمعانيّ: قدم أصفهان وأقام بها، وكان يغلو في الترفّض، وله مصنّفات في التشيّع «(3)».

وقال الذهبيّ: قال ابن أبي حاتم: هو مجهول؛ وقال البخاريّ: لم يصحّ حديثه، أي .. فيما رواه عن عائشة في الاسترجاع لتذكر المصيبة «(4)».

فلوصحّ هذا عنه .. فهل تُصَدِّقصدور الوضوء الثلاثيّ الغسليّ عنه في الغارات مع عدم التنويه به، ومع ما عرفت من كون الإماميّة نقلوا عنه المسح- في رسالة عليّ بن أبي طالب إلى محمَّد بن أبي بكر- كالمفيد والطوسيّ وغيرهما؟! ... وعليه، فإنَّ خبر الغارات المطبوع قد حُرِّف!!

2- إنَّ كتاب الغارات، من الكتب التي تداولتها أبناء العامّة واستفادوا منه، وليس بعيداً أن يرووا عنه بما يوافق مذهبهم، وقد كان للنسّاخ والحكّام على مرِّ التاريخ الدور الكبير في تحريف الحقائق!

وقد مرَّ عليك سابقاً، أنَّ الطبريّ وابن الاثير كانا يتغاضيان عن نقل بعض النصوص، بحجّة إنَّ العامّة لا تتحمّل سماعها، وأنَّهما قد بدّلا بعض النصوص بأُخرى .. رعاية لحال العامّة!

فعلى سبيل المثال: نقل الطبريّ، وتبعه ابن كثير، كلمة (كذا وكذا) مكان


1- الجرح والتعديل 2: 127/ 394.
2- ذكر أخبار أصفهان 1: 187.
3- الأنساب 1: 511.
4- ميزان الاعتدال 1: 62.

ص:141

جملة: (ووصيّي وخليفتي فيكم من بعدي)! من كلام النبيّ (ص) في حقّ الإمام عليّ، وذلك في تفسيرهما لآية الإنذار «(1)»!

وجاء في هامش كتاب «آراء علماء المسلمين» للسيّد مرتضى الرضويّ:

قبل نصف قرن تقريباً، قامت دار الكتب المصريّة بالقاهرة- بمديريّة الأُستاذ علي فكري للدار- بمراجعة الكتب التي يُشمُّ منها التأييد للشيعة الإماميّة، أو لأهل البيت؛ فكانت اللجنة تحذف ذلك الكلام كلّه، وتختم الكتاب بالعبارة الآتية: (راجعته اللجنة المغيّرة للكتب) بتوقيع رئيس اللجنة علي فكري «(2)»! بكلِّ جرأة ووقاحة!!!

نعم؛ إنّ تحريف النصوص، والتلاعب بالتراث كان وما زال، وليس بعيداً أن ينال المستقبل أيضاً بمخالبه وأنيابه.

3- إنَّ رواية الغارات «المطبوع» تخالف ما أصَّلناه في البحوث السابقة، وتُعارض ما سنبيّنه في البحوث اللاحقة، التي تؤكِّد على عَدّ الإمام عليّ هو الرائد والمعيد لمدرسة الوضوء الثنائيّ المسحيّ أصالتها.

أمّا ما رواه المفيد والطوسيّ في أماليهما، فهو يوافق مدرسة الإمام عليّ وأهل بيته، وليس بينها وبينهما أيّ تعارض، وهذا التوافق يرجّح بأن تكون هي الأصيلة لا غير، إذ إنّ المفيد والطوسيّ يتّحد سندهما عند ابن هلال الثقفيّ، وإنَّ ما نقلاه عن الغارات يرجع تاريخه إلى القرن الرابع أو الخامس الهجريّ، إذ إنَّ المفيد قد توفي في سنة 413 ه، والطوسيّ في سنة 460 ه .. فهما كانا قريبي عهد بالغارات، وإنّي راجعت نصّاً من الأمالي يقرب من عهد المؤلف ورأيت فيه أنَّ الإمام قد كتب إلى محمَّد بن أبي بكر بالمسح لا الغسل، وبعد هذا لا معنى لكتابته إليه بالغسل وقد عرفت ما بينهما من التضاد، وكيف يكتب بالغسل


1- تفسير الطبريّ 19: 75، تفسير ابن كثير 3: 581.
2- آراء علماء المسلمين: 246.

ص:142

ونراه وأهل بيته وخاصّته يمسحون اقتداءً برسول اللَّه، وما معنى الكتابة إليه بالغسل بعد ثبوت الإحداث في عهد عثمان! وستقف على المزيد من الإيضاح لاحقاً إن شاء اللَّه تعالى.

والمتحصِّل ممَّا سبق هو: إنَّ نقل الشيخين- المفيد والطوسيّ- هو أقرب إلى الصواب بخلاف ما هو الموجود في الغارات المطبوع والذي تلاعبت فيه أيدي الأهواء والعصبيّات ..

وفات على المجلسيّ أنَّ كلمة (ثلاثاً) هذه، هي ليست من أصل الكتاب، وإنَّما هي من تلاعب وتحريف النُّسَّاخ؛ ولولا نقل المفيد والطوسيّ لهذا النصّ من الغارات، لضاع الصواب والتبس الأمر، ولَأُلقيت العهدة على عاتق الثقفيّ، وهو منها براء! ...

وبذلك، فقد وصلنا إلى زيف النص المطبوع، ووقفنا على بعض ملابسات التحريف.

الرابعة: تدوين الوضوء النبويّ في عهد عليّ

ثبت في كتب التراجم أنَّ عبيد اللَّه وعليّاً ابني أبي رافع- مولى رسول اللَّه- كانا من الذين دوّنوا السنّة النبويّة بأمر الإمام عليّ بن أبي طالب.

قال النجاشيّ: وجمع عليّ بن أبي رافع كتاباً في فنون في الفقه: الوضوء، الصلاة، وسائر الأبواب؛ ثمَّ ذكر مسنده إلى رواية الكتاب «(1)».

وقد عدَّ الإمام شرف الدين في «المراجعات» أسماء الّذين دوَّنوا السُنَّة النبويّة فقال: ومنهم علي بن أبي رافع- وقد وُلِدَ- كما في ترجمته من الإصابة- على عهد النبيّ فسمّاه عليّاً- له كتاب في فنون الفقه على مذهب أهل البيت،


1- رجال النجاشيّ: 6/ 2.

ص:143

وكانوا عليهم السلام يعلمون هذا الكتاب، ويرجعون شيعتهم إليه؛ قال موسى ابن عبد اللَّه بن الحسن: سأل أبي رجل عن التشهّد؛ فقال أبي: هات كتاب ابن أبي رافع، فأخرجه وأملاه علينا «(1)».

فما يعني نقل مثل هذا عن أئمَّة أهل البيت؟

أوَ لَمْ يكن بإمكانهم بيان الأحكام الشرعيّة من غير مراجعتهم لكتاب ابن أبي رافع؟

ثمَّ ما دلالة ومفهوم هذا الخبر الذي ينصّ على أنَّ لابن أبي رافع كتاباً في الوضوء؟

إنَّ أقرب الاحتمالات التي تسبق إلى الذهن، تتلخّص في كون أئمَّة أهل البيت كانوا يهدفون من ذلك إلى أُمور، منها:

أوَّلًا: إيقاف الناس على الحقيقة، وإشعارهم أنَّ ماينقلونه عن رسول اللَّه (ص) هو الثابتصدوره عنه (ص).

ولمّا كان التدوين محصوراً في فئة معيَّنةومعدودة، وكتاب ابن أبي رافع من ذلك المعدود، فقد أراد الأئمَّة- وبإرجاعهم الشيعة إلى الكتاب المذكور- أن يفهموا الشيعة على: أنَّهم لا يفتون برأي، ولا قياس، بل هو حديث توارثوه عن رسول اللَّه (ص) كابراً عن كابر.

كلُّ ذلك، من أجل أن يحصّنوا شيعتهم ويوقفوهم على خلفيّات الأُمور.

ثانياً: بما أنَّ الوضوء من الأُمور المدوَّنة في العهد الأوَّل، فيحتمل أن يكونوا قد قصدوا بذلك إيقاف شيعتهم على أنَّ هذا الوضوء لم يكن حادثاً، كغيره من الأحكام الشرعيّة التي عهدوها في عهد عثمان وغيره، بل هو وضوء رسول اللَّه (ص)، كما يرونه بخطِّ ابن أبي رافع، أو فيصحيفة عليّ، أو ...


1- المراجعات: 306- المراجعة 110- القسم الثاني منه.

ص:144

وعليه .. فقد عرفنا بأنَّ الوضوء كان مسألة مبحوثة عند القدماء؛ وأنَّ أئمَّة أهل البيت قد أرشدوا شيعتهم لمدارسة تلك الكتب، للضرورة نفسها.

وقد نُقِلَ عن أبي حنيفة أنَّه: قد نَسَبَ إلى جعفر بن محمَّد الصادق بأنَّه «صحفيّ»، أي: يأخذ علمه من الصحف ..

وما كان من الصادق إلّاأن أجابه مفتخراً ومصرّحاً، بأنَّه لا ينقل حكم اللَّه إلّا عمّا ورثه عن آبائه، عن رسول اللَّه (ص)؛ بقوله: (أنا رجلصحفيّ، وقدصدق [أي: أبو حنيفة] .. قرأتُصحف آبائي، وإبراهيم، وموسى) «(1)».

وأشار الأُستاذ محمَّد عجاج: بأنَّ عند جعفر بن محمَّد الصادق رسائل، وأحاديث، ونسخ «(2)».

وجاء في كلام الامام علي: إنما بدء وقوع الفتن من أهواء «(3)» تتبع واحكام تبتدع، الى ان يقول:

«ورددت الوضوء والغسل والصلاة الى مواقيتها وشرائعها ومواضعها».

وإلى هنا .. فقد اتّضح لنا بأنَّ قضيّة الوضوء كانت مطروحة منذ عهد الإمام عليّ حتّى أواخر عهد الأئمَّة من ولده؛ وقد كتب فيها الكثير من أصحاب الأئمة وعلماء أهل البيت؛ منهم:

علي بن مهزيار الأهوازيّ .. «(4)» علي بن الحسن بن فضّال .. «(5)» علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القميّ .. «(6)»


1- أنظر رياض السالكين 1: 100، روضات الجنات 8: 169، قاموس الرجال 8: 243 ترجمة عبد اللَّه بن الحسن.
2- السنة ما قبل التدوين: 358 عن تهذيب التهذيب 2: 104.
3- الروضة من الكافي: 62.
4- الفهرست للشيخ الطوسيّ: 88/ 369.
5- الفهرست للشيخ الطوسيّ: 92/ 381.
6- الفهرست للشيخ الطوسيّ: 93/ 382.

ص:145

أحمد بن الحسن بن فضّال «(1)» ... وغيرهم.

وكتب:

علي بن بلال .. «(2)» محمَّد بن مسعود العيّاشيّ .. «(3)» والفضل بن شاذان النيسابوريّ «(4)» ... وغيرهم .. في إثبات المسح على القدمين؛ أو في عدم جواز المسح على الخفّين.

وبذلك، فلا معنى لدعوى مَن قال: ليس هناك نصّ واحد قدصدر عن عليّ في هذا الباب!

أمَّا ما يخصّ، عدم نقل العلّامتين الأمينيّ والمجلسيّ، وغيرهما .. فلا يستوجب تضعيف ما وصلنا إليه، لأنَّهم لم يدّعوا جمع كلّ إحداثات الآخرين، وحصرها في كتبهم- وإن أشاروا إلى بعضها، استطراداً.

أضف إلى ذلك، أنَّ بحث العلّامة الأمينيّ يختصّ بيوم الغدير، وكتاب المجلسيّ يختصّ بروايات أهل البيت .. هذا أوَّلًا.

وثانياً: إنَّ الشيخ الأمينيّ في كتابه الغدير لم يسر على ما انتهجناه- في دراسة قضيّة الوضوء- من الأُسلوب العلميّ التحليليّ، المتلخّص بجمع المفردات الصغيرة للقضيّة، وتأليفها ومتابعتها بالشرح والتفسير ابتداءً بما أخرجه مسلم عن حمران: إنَّ ناساً يتحدّثون وانتهاءً بالحقائق التي سيصلها في آخر


1- الفهرست للشيخ الطوسيّ: 24/ 62.
2- الفهرست للشيخ الطوسيّ: 96/ 402.
3- الفهرست للشيخ الطوسيّ: 136/ 593.
4- الفهرست للشيخ الطوسيّ: 124/ 552.

ص:146

الدراسة.

نعم؛ إنّ الشيخ الأمينيّ قد بحث القضايا بما فيها من النصوص الثابتة والمنقولة في الإحداث والإبداع ممّا ورد ذكره في كتب السير والتاريخ، ولايدّعي أكثر من ذلك.

ومن هنا، فإنَّنا نهيب بالإخوة الباحثين انتهاج طريقة التحليل العلميّ عند دراستهم لمفردات الخلاف بين المذاهب، لما تؤول إليه من نتائج باهرة يقبلها كلّ ذي لبّ باحث عن الحقيقة.

وبهذا نكون قد انتهينا إلى ما يهمّنا من عهد الإمام عليّ.

مع المصطلحين:

اصطلحنا من أوَّل الدراسة وحتّى الآن على مفهومين:

1- الوضوء الثلاثيّ الغسليّ/ وضوء الخليفة عثمان بن عفّان.

2- الوضوء الثنائيّ المسحيّ/ وضوء الناس المخالفين لعثمان المتحدثين عن رسول اللَّه (ص).

ونودّ هنا التعريف بهذا الاصطلاح، وكيفيّة انتزاعنا لهذين المفهومين في دراستنا، وبذلك نختم الباب الأوَّل من مدخل هذه الدراسة.

المعروف أنَّ الإشهاد عند أهل القانون والشرع هو أنّه من أُصول الإثبات، وغالباً ما يجري في الدعاوى ويكون بمثابة الرأي التعضيدي للمدّعي على خصمه، وهو حجَّة قانونيّة يتمسّك بها لحسم النزاع.

وانَّ الخليفة عثمان بن عفّان- كما ترشدنا النصوص الحديثيّة والتاريخيّة- قد اعتمد هذا الأصل واستفاد منه فأقدم على إشهاد الصحابة على وضوئه، وادّعى أنَّ رسول اللَّه كان يغسل أعضاء الوضوء ثلاث مرّات، مُفهماً بذلك أنَّه- أي عثمان- على خلاف مع الناس فيه، إذ إنَّهم لا يعُدُّون ذلك الفعل سُنَّة وإنَّ تأكيد الخليفة وإشهاده لبعض الصحابة على الفعل الثلاثيّ يدلّ على أنّه أراد إسناد ما يدّعيه بتقرير الصحابة وكونه فعلًا قدصدر عن النبيّ (ص)، في

ص:147

حين نرى الإمام جعفر بن محمَّد الصادق- وهو من أئمَّة أهل البيت- لا يقبل مشروعيّة الغسل الثالث في الوضوء ولا يرتضي كون ذلك سنّة، بل وصمه بالبدعة .. ولتقرير الموضوع أكثر، إليك بعض النصوص:

1- أخرج أحمد في مسنده: حدّثنا عبد اللَّه، حدّثني أبي، ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن أبي النضر، عن أنس: إنَّ عثمان (رض) توضّأ بالمقاعد ثلاثاً ثلاثاً، وعنده رجال من أصحاب رسول اللَّه؛ قال: أليس هكذا رأيتم رسول اللَّه يتوضّأ؟

قالوا: نعم «(1)».

2- حدّثنا عبد اللَّه، حدّثني أبي، ثنا ابن الأشجعيّ، ثنا أبي، عن سفيان، عن سالم أبي النضر، عن بسر بن سعيد؛ قال: أتى عثمان المقاعد، فدعا بوضوء ..

فتمضمض، واستنشق، ثمَّ غسل وجهه ثلاثاً، ويديه ثلاثاً ثلاثاً، ثمَّ مسح برأسه ورجليه ثلاثاً ثلاثاً؛ ثمَّ قال: رأيت رسول اللَّه (ص) هكذا يتوضّأ، يا هؤلاء! أكذاك؟

قالوا: نعم، لنفر من أصحاب رسول اللَّه عنده «(2)».

3- حدّثنا عبد اللَّه، حدّثني أبي، ثنا عبد اللَّه بن الوليد، ثنا سفيان، حدّثني سالم أبو النضر، عن بسر بن سعيد، عن عثمان بن عفّان (رض)، أنَّه قال: دعا بماء فتوضّأ عند المقاعد .. فتوضّأ ثلاثاً ثلاثاً؛ ثم قال لأصحاب رسول اللَّه (ص): هل رأيتم رسول اللَّه (ص) فعل هذا؟

قالوا: نعم «(3)».

4- نقل المتّقي الهنديّ، عن أبي النضر .. بطريقين:


1- مسند أحمد 1: 57.
2- مسند أحمد 1: 67، وهذا يؤكّد بأنَّ إحداث الفعل الثلاثيّ في غسل الأعضاء كان قبل الإبداع في غسل الرجلين وبمثابة التمهيد لذلك.
3- مسند أحمد 1: 67- 68.

ص:148

أ- إنَّ عثمان توضّأ ثلاثاً ثلاثاً .. ثمَّ قال: أنشدكم باللَّه؛ أتعلمون أنَّ رسول اللَّه كان يتوضّأ كما توضّأت؟

قالوا: نعم «(1)».

ب- وبلفظ آخر: ... ثمَّ قال للّذين حضروا: أنشدكم اللَّه؛ أتعلمون أنَّ رسول اللَّه كان يتوضّأ كما توضّأت الآن؟

قالوا: نعم .. وذلك لشي ء بلغه عن وضوء رجال «(2)».

5- أخرج الدارقطنيّ بسنده إلى أبي علقمة، بأنَّ عثمان: دعا ناساً من أصحاب رسول اللَّه، فأفرغ بيده اليمنى على يده اليسرى وغسلها ثلاثاً، ثمَّ مضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، ثمَّ غسل وجهه ثلاثاً، ثمَّ غسل يديه ثلاثاً ثلاثاً إلى المرفقين، ثمَّ مسح برأسه، ثمَّ غسل رجليه فأنقاهما؛ ثمَّ قال: رأيت رسول اللَّه يتوضّأ مثل هذا الوضوء الذي رأيتموني توضّأته؛ ثمَّ قال: مَن توضّأ فأحسن الوضوء، ثمَّصلّى ركعتين، كان من ذنوبه كيوم ولدته أُمّه؛ ثمَّ قال:

أكذلك يا فلان؟

قال: نعم.

ثمَّ قال: أكذلك يا فلان؟

قال: نعم.

... حتّى استشهد ناساً من أصحاب رسول اللَّه .. ثمَّ قال: الحمد للَّه الذي وافقتموني على هذا «(3)»!

نستنتج من النصوص السابقة: أنَّ الفعل الثلاثيّ، هو من موارد الخلاف بين المسلمين في زمن الخليفة الثالث، إذ لا يعقل أن يُشهد الخليفة جملة من


1- كنز العمّال 9: 439/ 26876.
2- كنز العمّال 9: 447/ 26907.
3- سنن الدارقطنيّ 1: 85/ 9، كنز العمّال 9: 441/ 26883.

ص:149

الصحابة على فعل، وبذلك التركيز- كما لاحظناه في رواية أحمد الثانية التي أشهد فيها جماعة من الصحابة في باب المقاعد؛ أو في إشهاده لجمع من الصحابة كلّاً على حدة، كما في رواية الدارقطنيّ، وغيرها من الروايات الكاشفة عن حقيقةٍ مّا- دون أن يكون وراء المسألة (الإشهاد) شي ء .. فمحل الخلاف بين الخليفة وآخرين واضحٌ بيِّنٌ، وإلّا لما احتاج إلى الإشهاد مادام جميع المسلمين متّفقين على ذلك الفعل لكونه سنّة!

أمَّا المورد الثاني من موارد الخلاف، والذي نستوحيه من النصوص والروايات، فهو التأكيد على الغسل من قبل عثمان بدلًا من المسح الذي تعارف عليه الصحابة من فعل النبيّ (ص) .. كما لاحظت في حديث أبي علقمة السابق الذكر وغيرها، وقد استغلَّ الخليفة الثالث تعبيري «الإسباغ، والإحسان» الواردَين في كلام الرسول فأضفى عليهما مفهومه الخاصّ، ثمَّ انطلق من ذلك لتجسيد فكرته ومحاولة إقناع الآخرين بهما بجعلهما مفسِّرَين لما يدّعيه في غسل الأرجل وتثليث الغسلات.

إحسان الوضوء:

حدّثنا زهير بن حرب، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا أبي، عنصالح:

قال ابن شهاب: ... ولكنَّ عروة يحدِّث عن حمران .. أنَّه قال: ... فلمّا توضّأ عثمان؛ قال: واللَّه لَأُحَدِثَنَّكم حديثاً، واللَّه لولا آية في كتاب اللَّه ما حدّثتكموه .. إنّي سمعت رسول اللَّه (ص) يقول: «لا يتوضّأ رجل فيحسن وضوءه، ثمَّ يصلّي، إلّا غفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها» ..

قال عروة: الآية: «إنَّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى ...» «(1)»

، إلى قوله: «... اللاعنون».


1- البقرة: 159، والحديث في صحيح مسلم 1: 206/ 6.

ص:150

فهل يحتاج نقل رواية كهذه إلى مثل هذا الإغلاظ في الأيمان (واللَّه لأُحدّثنّكم)، (واللَّه لولا آية) ...؟! وقد اتّفق المسلمون علىصدورها، وتناقلتها الصحابة.

علماً بأنَّ «إحسان الوضوء» قد ورد عن أنس، وعمر بن الخطّاب وغيرهما بكثرة، عن النبيّ (ص) ..

وهو مما لا يختلف فيه اثنان .. وقد جاء عن عمر- بالخصوص-: ... مَن توضّأ فأحسن الوضوء ... «(1)» و: ... ما من أحد يتوضّأ فيحسن الوضوء؛ ثمَّ يقول ... «(2)»؛ و: ... إنَّه (ص) أبصر رجلًا وقد ... «(3)» الخ، وإنّ تحديثه بهذه كان قبل تحديث عثمان!

فإن كان الأمر كذلك .. فما الداعي لتلك الأيمان المغلّظة من الخليفة الثالث إذَاً؟! وعلام يدلّل إشهاده ونقله؟!

إسباغ الوضوء:

أمَّا فيما يخصّ «الإسباغ»، فقد وردت نصوص فيصحيح مسلم بأربع طرق، وكذا في موطّأ مالك، عن أبي عبد اللَّه سالم؛ قال: دخلت على عائشة- زوج النبيّ- يوم توفي سعد بن أبي وقّاص .. فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر، فتوضّأ عندها؛ فقالت: يا عبد الرحمن؛ أسبغ الوضوء .. فإنّي سمعت رسول اللَّه يقول: «ويل للأعقاب من النار» «(4)».


1- . سنن النسائى 1: 92- 93، كنز العمال 9: 295/ 26074، 26076.
2- كنز العمال 9: 298/ 26088.
3- تفسير القرآن العظيم 2: 46.
4- صحيح مسلم 1: 213/ 25، الموطأ 1: 19/ 5.

ص:151

فعائشة أرادت أن تستفيد من جملة أسبغ الوضوء- في مخاطبتها لأخيها- لتدلّل على لزوم الغسل، وكذا الحال في نقلها لقوله (ص) «ويل للأعقاب» ..

وهنا نتساءل .. إلى أيّ مدى يدلّ هذان النصان على المقصود؟ ولماذا نراهم يستندون في لزوم الغسل، وتثليث الغسلات على معانٍ مثل أسبغوا وأحسنوا، أو ويل للأعقاب، وتكون غالب أحاديث باب غسل الرجلين في الصحاح والمسانيد وما يستدلّ به فيها هو قوله: (ويلٌ للأعقاب) وليس فيها نقلصفة وضوئه (ص)؟!

هذا، وقد وردت روايات كثيرة في كتب الصحاح عن «إسباغ الوضوء»، نُقِلَت عن:

عليّ بن أبي طالب

عمر بن الخطّاب

أبي هريرة

أنس بن مالك

ابن عبّاس ..

أبي مالك الأشعريّ

أبي سعيد

ثوبان

لقيط بنصبرة ... وغيرهم، لكنّهم لم يُشهدوا أحداً علىصدور ذلك، ولم يحتاجوا للقَسَم والأيمان الغليظة، كما فعله الخليفة عثمان!

و ... أخيراً

فقد اتّضح لنا، على ضوء ما تقدّم، أنَّ الخليفة كان يبغي من وراء تأكيده الشديد على جملتي أحْسِن، وأسبغ الوضوء تمرير شي ء يجول في ذهنه، محاولًا إيصاله إلى الآخرين .. إذ إنَّ إشهاده الصحابة على الأحاديث المسلّمة بين المسلمين لا يحتاج إلى التأكيد عليه بالقسم.

فالتأكيد إذَاً يستبطن أمراً .. وهو: إنَّ الخليفة- كما عرفنا- قد حاول

ص:152

استغلال مفهوم ثابت عند المسلمين، فانطلق من خلاله لطرح رؤيته الجديدة ..

وهو بذلك يرمي إلى استقطاب الناس، حيث إنَّ عبارة (أحسن الوضوء) أو (أسبغ الوضوء) تشير- من جهة- إلى الزيادة في القدسيّة؛ والمسح ليس كالغسل في إظهار تلك القدسيّة!

ومن هنا نفهم معنى تأكيد الإمام عليّ في ردّه للأخذ بالرأي والقياس، وبيانه الجلي في كون الأحكام الشرعيّة مأخوذة من الكتاب والسنّة النبويّة الشريفة، فيلزم أن تكون خاضعة للنصِّ لا للرأي، وقد ثبت عنه (ص) أنَّه قال: «تعمل هذه الأُمَّة برهة بكتاب اللَّه، ثمَّ تعمل برهة بسنّة رسول اللَّه، ثمَّ تعمل بالرأي .. فإذا عملوا بالرأي فقد ضلّوا وأضلّوا» «(1)» .. وبهذا فقد عرفنا نهي رسول اللَّه (ص) عن الأخذ بالرأي، ومرَّ عليك بعض ذلك، وستقف على المزيد منه في العهد الأمويّ.

وعليه .. فيمكننا تعيين موارد الخلاف فيما بين عثمان ومعارضيه من الصحابة في قضيّة الوضوء ب:

1- العدد .. فقد أصرَّ الخليفة على ثلاث غسلات بدلًا عن اثنتين، وأشهد الصحابة على ذلك.

2- جعل الغسل عوضاً عن المسح، وإشهاد الأصحاب على ذلك، كما في رواية أبي علقمة.

وعليه، فإنَّا نعتبر إشهاد الخليفة الصحابة على الفعل الثلاثيّ وغسل الأرجل بأنَّها نقطة اختلافه مع الناس إذ نراه يؤكِّد على هذين المفهومين، ومن أجله انتزعنا:

1- مفهوم الوضوء الثلاثيّ الغسليّ، للإشارة إلى وضوء الخليفة عثمان بن عفّان.


1- كنز العمّال 1: 180/ 915.

ص:153

2- ومن مفهوم المخالفة انتزعنا مصطلح الوضوء الثنائيّ المسحيّ، للإشارة إلى وضوء الناس المتحدِّثين عن رسول اللَّه، المخالفين لعثمان.

وبذلك .. فقد خطَّ الخليفة أبعاد مدرسة وضوئيّة جديدة في قبال السنّة النبويّة المباركة، بعد أن جاء ب «الوضوء الثلاثيّ الغسليّ» بدلًا عن «الوضوء الثنائيّ المسحيّ»! ولنا وقفة أُخرى مع أحاديث «أحسنوا الوضوء» و «أسبغوا الوضوء» في الفصل الثاني من هذه الدراسة (الوضوء في الكتاب واللغة)، وسنشير إلى السبب الداعي لاتخاذ الخليفة والحكومة الأمويّة هذا الموقف، ومدى استفادتهما من هذين المصطلحين وغيرها من الأدلّة التعضيديّة، ودورهم في إشاعتها لترسيخ وضوء عثمان.

ص:154

ص:155

ص:156

الباب الثاني الوضوء في العهدين

اشارة

العهد الأمويّ 40- 132 ه

العهد العباسيّ 132- 232 ه

ص:157

تنبيه:

قبل البحث في مواضيع الباب الثاني، لابُدَّ من التنبيه إلى الأسباب الداعية لفصل العهدين- الأمويّ والعبّاسيّ- عن عهد الخلافة الراشدة ...

والأسباب هي:

أوَّلًا: اضمحلال قدسيّة الخلافة في هذين العهدين، ولم تَعُد تُضفى على الخليفة كما كانت في عهد الخلفاء الراشدين.

ثانياً: إنَّ كثيراً من الصحابة الّذين عاشوا في العهد الأمويّ، كانوا من متأخّري الصحبة؛ وقد انخرط معظمهم في ركب الخلفاء السياسيّين!!

ثالثاً: كان الخليفة في الخلافة الراشدة يسعى لتحكيم الأحكام الدينيّة، في حين لا نرى في العهدين التاليين سوى ما يدعم الحاكم، وما الخلافة عندهما إلّا منصب سياسيّ.

رابعاً: نتيجة لقلّة عدد الصحابة، غدا احتمال التغيير في الدين غير مستبعد.

ص:158

خامساً: تأصيل أُمور لم تكن أصيلة في شريعة سيّد المرسلين في هذين العهدين.

إنَّ هذه العوامل مجتمعة، كوَّنت مجتمعاً وأفكاراً تختلف اختلافاً جوهريّاً ممّا كان في عهد الخلافة الراشدة؛ لأجله عمدنا إلى فصل هذين العهدين عن العهود التي سبقتهما، ليمكن دراستها بنحو أشمل.

ص:159

العهد الأمويّ (40- 132 ه)

اشارة

تمهيد

المعروف عن بني أُميّة تبنيهم لقضيّة عثمان، والمطالبة بدمه، ونشر فضائله، والوقوف أمام مخالفيه والحطِّ منهم، ومن ثمَّ الالتزام بفقهه ونشر آرائه، رغم مخالفة بعضها لصريح القرآن المجيد والسنّة النبويّة، وإليك بعضها.

الأمويّون وتبنيهم لرأي عثمان

1- الصلاة بمنى:

أخرج أحمد بسنده إلى عباد بن عبد اللَّه بن الزبير عن أبيه أنَّه قال: لمّا قدِم علينا معاوية حاجّاً، قدمنا معه مكّة، قال: فصلّى بنا الظهر ركعتين ثمَّ انصرف إلى دار الندوة؛ قال [الراوي]: وكان عثمان حين أتمَّ الصلاة إذا قدم مكّةصلّى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً أربعاً، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصّر الصلاة، فإذا فرغ من الحجّ وأقام بمنى أتمَّ الصلاة حتّى يخرج من مكّة.

ص:160

فلمّاصلّى [معاوية] بنا الظهر ركعتين، نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له: ما عاب أحد ابن عمّك بأقبح ما عبته به.

فقال لهما: وما ذاك؟

قالا: ألم تعلم أنَّه أتمَّ الصلاة بمكّة؟

قال، فقال لهما: وَيْحكم! وهل كان غير ماصنعت، قدصلّيتهما مع رسول اللَّه، ومع أبي بكر، وعمر (رضي اللَّه عنهما).

قالا: فإنَّ ابن عمّك قد كان أتمّهما، وإنَّ خلافك إيّاه عيب!

قال: فخرج معاوية إلى منى فصلّاها بنا أربعاً «(1)».

وقد أخرج المتقيّ الهنديّ في كنز العمّال عن ابن عبّاس انّه قال:صلّى رسول اللَّه وأبو بكر وعمر ركعتين، ثمَّ فعل ذلك عثمان ثلثي إمارته أو شطرها ثمَّصلّاها أربعاً، ثمَّ أخذ بها بنو أُميّة «(2)».

فمعاوية لم يكن جاهلًا بصلاة عثمان إلّاانّه أراد- بدهائه- أن يعرف مدى تأثير رأي عثمان الصلاتي في الناس وخصوصاً عند أقاربه وحاشيته!

2- الجمع بين الأُختين بالملك:

أخرج ابن المنذر، عن القاسم بن محمَّد: إنَّ حيَّاً سألوا معاوية عن الأُختين ممَّا ملكت اليمين يكونان عند الرجل يطؤهما؟

قال: ليس بذلك بأس.

فسمع بذلك النعمان بن بشير؛ فقال: أفتيت بكذا وكذا؟!

قال: نعم.

قال: أرأيت لو كان عند الرجل أُخت مملوكته، يجوز أن يطأها؟


1- مسند أحمد 4: 94، فتح الباري 2: 457، نيل الأوطار 3: 259، البدعة للسبحاني: 246.
2- كنز العمّال 8: 238/ 22720.

ص:161

قال: أما واللَّه لربَّما وددتني أُدرِك، فقل لهم: اجتنبوا ذلك فإنَّه لا ينبغي لهم؟

فقال: إنَّما الرحم من العتاقة وغيرها «(1)».

إنّ معاوية بإفتائه هذا كان قد اتّبع فقه عثمان؛ إذ إنَّه كان قد أفتى بذلك.

فقد أخرج مالك في الموطّأ عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب: إنَّ رجلًا سأل عثمان بن عفّان عن الأُختين من ملك اليمين، هل يجمع بينهما؟

فقال عثمان: أحلّتهما آية، وحرّمتهما آية، فأمَّا أنا فلا أحبُّ أن أصنع ذلك.

قال: فخرج من عنده فلقي رجلًا من أصحاب رسول اللَّه (ص)؛ فسأله عن ذلك، فقال: لو كان لي من الأمر شي ء، ثمَّ وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالًا.

قال ابن شهاب: أراه عليّ بن أبي طالب «(2)».

3- ترك التكبير المسنون في الصلاة:

أخرج الطبرانيّ، عن أبي هريرة، وابن أبي شيبة، عن سعيد بن المسيّب: إنَّ أوَّل مَن ترك التكبير معاوية «(3)».

وجاء في الوسائل في مسامرة الأوائل: إنَّ أوَّل مَن نقّص التكبير معاوية، كان إذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، انحطَّ إلى السجود ولم يكبّر «(4)».

وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم، قال: أوَّل من نقّص التكبير زياد «(5)».

وقد جمع ابن حجر العسقلانيّ في فتح الباري بين الأقوال؛ فقال: وهذا لا ينافي الذي قبله، لأنَّ زياداً تركه بترك معاوية، وكان معاوية تركه بترك عثمان «(6)».


1- الدرّ المنثور 2: 137.
2- الموطّأ 2: 538/ 34.
3- انظر: الوسائل في مسامرة الأوائل: 18.
4- الوسائل في مسامرة الأوائل: 18- رقم 94.
5- الوسائل في مسامرة الأوائل: 19- رقم 95.
6- فتح الباري 2: 215.

ص:162

وقد جاء عن مطرف بن عبد اللَّه؛ قال:صلّيت خلف عليّ بن أبي طالب (رضي اللَّه عنه) أنا وعمران بن الحصين، فكان إذا سجد كبّر، وإذا رفع رأسه كبّر، وإذا نهض من الركعتين كبّر، فلمّا قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال: «قد ذكّرني هذاصلاة محمَّد»، أو قال: «لقدصلّى بنا محمَّد» «(1)».

وفي لفظ آخر عن مطرف بن عمران؛ قال:صلّيت خلف عليّصلاةً ذكَّرنيصلاةصلّيتها مع رسول اللَّه والخليفتين؛ قال: فانطلقت فصلّيت معه فإذا هو يكبِّر كلَّما سجد وكلَّما رفع رأسه من الركوع؛ فقلت: يا أبا نجيد مَن أوَّل مَن تركه؟

قال: عثمان بن عفّان (رض) حين كَبُرَ وضعفصوته تركه «(2)».

وأخرج الشافعيّ في كتاب الأُمّ وكذا القزويني في التدوين من طريق أنس ابن مالك؛ قال:صلّى معاوية بالمدينة فجهر فيها بالقراءة، فقرأ: بسم اللَّه الرحمن الرحيم لِأُمِّ القرآن، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها، حتّى قضى تلك القراءة ولم يكبّر حين يهوي حتّى قضى تلك الصلاة، فلمّا سلّم ناداه مَن يسمع ذلك من المهاجرين من كلّ مكان: يا معاوية! أسرقتَ الصلاة أم نسيت؟!

فلمّاصلّى بعد ذلك قرأ: بسم اللَّه الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أُمِّ الكتاب وكبَّر حين يهوي ساجداً «(3)».

وأخرج الشافعيّ الحديث كذلك عن طريق عبيد بن رفاعة «(4)»، وصاحب


1- أخرجه البخاريّ 1: 209، مسلم 1: 295/ 33، ابن أبي داود 1: 221/ 835، النسائيّ 2: 204، أحمد 4: 428، 429، 444.
2- مسند أحمد 4: 432، الوسائل في مسامرة الأوائل: 18/ 93.
3- الأُمّ 1: 108، التدوين في أخبار قزوين 1: 154.
4- الأُمّ 1: 108.

ص:163

الانتصار أخرجه عن طريق أنس بن مالك، كما حكاه في البحر الزخار.

وبهذا عرفت بأنَّ معاوية قد تبنّى فقه الخليفة في تركه للتكبير المسنون، والجمع بين الأُختين بالملك وعدم قراءة البسملة للسورة اقتداءً بعثمان!

4- التلبية:

أخرج النسائيّ والبيهقيّ في سننهما عن سعيد بن جبير؛ قال: كان ابن عبّاس بعرفة؛ فقال: يا سعيد، مالي لا أسمع الناس يلبّون؟

فقلت: يخافون معاوية ..

فخرج ابن عبّاس من فسطاطه؛ فقال: لبيك اللّهمَّ لبيك، وإن رغم أنف معاوية، اللّهمَّ العنهم، فقد تركوا السنّة من بغض عليّ «(1)».

قال السنديّ في تعليقته على النسائيّ: «من بغض عليّ»: أي لأجل بغضه، أي: وهو كان يتقيّد بالسنن، فهؤلاء تركوها بغضاً له «(2)».

وأخرج ابن حزم في المحلّى: أهلَّ رسول اللَّه حتّى رمى الجمرة وأبو بكر وعمر «(3)» .. ولم يذكر عثمان.

وعن عبد الرحمن بن يزيد: إنَّ عبد اللَّه بن مسعود لبَّى حين أفاض من جمع؛ فقيل له: عن أي هذا؟

وفي لفظ مسلم: فقيل: أعرابي هذا؟!

فقال: أنسي الناس أم ضلّوا؟ .. سمعت الذي نزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المكان: «لبيك اللّهمَّ لبيك» «(4)».

وفي النصّين الأخيرين دلالة على أنَّ الخليفة عثمان كان لا يرتضي التلبية، وأنَّه كان قد طبَّع الناس على تركها، حتى كانوا يعدّونها ليست من الدين، وأنَّ معاوية قد سار على نهج الخليفة كما ظهر ذلك من النصّ الأوّل.


1- سنن النسائيّ 5: 253، سنن البيهقيّ 5: 113، الاعتصام بحبل اللَّه المتين 1: 360.
2- هامش سنن النسائيّ 5: 253.
3- انظر المحلّى 7: 135- 136، فتح الباري 3: 419- 420.
4- صحيح مسلم 2: 932/ 270.

ص:164

وما كانت هذه الأمثلة إلّانموذجاً لكثير من النصوص المبثوثة في الكتب والدالّة على التزام معاوية بنهج الخليفة وسعيه لتطبيق فقه عثمان ورأيه.

وبعد هذا .. نتساءل:

أيعقل أن يتخطّى معاوية وضوء الخليفة، مع ما عرفت عنه من تبنيه لآرائه الفقهيّة؟!

وماذا يجدي نقل كلّ تلك الفضائل لعثمان، ألَم تكن هي مقدّمة للأخذ بفقهه والسير على نهجه؟

وكيف يترك معاوية فقه عثمان، وهو الخليفة الأمويّ المظلوم!! ويسمح بانتشار فقه الناس المخالفين له ولعثمان؟!

لسنا بصدد البحث في أنَّ عثمان هل هو الذي أثّر في الأمويّين، أم هو المتأثّر بهم؟ بل الذي نودّ التأكيد عليه هو وجود الامتزاج والتلاقي في الأفكار، وأنَّ الخليفة والأمويّين يسيران على نهج ويتابعان هدفاً واحداً.

وبما أنَّ الإمام عليّاً أحد الناس الذين يتحدَّثون عن رسول اللَّه في الوضوء، فمن الطبيعي أن تواجه الحكومة الأمويّة أُولئك الناس بالشدّة، إذ إنَّ سياستها- كما قلنا- تعتمد على أمرين:

1- تبنّي فقه عثمان بن عفّان ونشر فضائله.

2- مخالفة عليّ في نهجه وفقهه وآرائه.

وإنَّا قد فصلنا هذا البحث في كتابنا عن الحكّام، وقلنا بأنَّ بني أُميّة كانوا على طرفي نقيض مع بني هاشم حتّى فيصدر الإسلام؛ حين التزم بنو أُميّة جانب المشركين، أمَّا بنو هاشم فلم يفارقوا الرسول في جاهليّة ولا إسلام.

جاء فيصحيح البخاريّ: إنَّ رسول اللَّه وضع سهم ذي القربى في بني هاشم وعبد المطّلب- أيّام غزوة خيبر- فاعترض عثمان وجبير بن مطعم على حكم

ص:165

رسول اللَّه، فقال لهما (ص): «إنَّا بنو هاشم وبنو عبد المطّلب شي ء واحد» «(1)».

وفي رواية النسائيّ: «إنَّهم لم يفارقوني في جاهليّة ولا إسلام، وإنَّما نحن وهم شي ء واحد»، وشبك بين أصابعه «(2)».

ففي الجمل السابقة تعريض ببني أُميّة ومدح لبني هاشم وعبد المطّلب؛ إذ إنَّهم تحمَّلوا أعباء الدعوة وكانوا معه في شعب أبي طالب ودافعوا عنه بكلِّ ما أُوتوا من قوَّة، ولم يكونوا كغيرهم حين دخلوا الإسلام مكرهين!

خطوات أمويّة

1- التشكيك في الأحاديث النبويّة الواردة في حقّ عليّ، ووضع أحاديث مشابهة في حقّ بعض الصحابة!!

فقد جاء في كتاب معاوية إلى عماله:

(... أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل بيته والّذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم، واكتبوا إليَّ بكلِّ ما يروي كلّ رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته) «(3)».

ولمّا فشا ذلك، وكثر الحديث في عثمان .. كتب إليهم:

فإذا جاءكم كتابي هذا .. فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوَّلين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلّا وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإنَّ هذا أحبُّ إليَّ، وأقرّ لعيني، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله «(4)».


1- صحيح البخاريّ 5: 174، هذا الخبر وما يليه في الأموال لأبي عبيدة: 341.
2- سنن النسائيّ 7: 131، سنن أبي داود 3: 146/ 2980.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 44.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 45.

ص:166

2- السعي إلى طمس كلّ فضيلة وميزة لعليّ بن أبي طالب على غيره من الصحابة، وجعله كأحد المسلمين ..

فقد رووا عن ابن عمر أنَّه قال: «كنّا في زمن النبيّ لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان، ثمَّ نترك أصحاب النبيّ لا نفاضل بينهم» «(1)».

وما روي عن محمَّد بن الحنفيّة (ابن الإمام عليّ)؛ أنَّه قال: «قلت لأبي: أيّ الناس خير بعد رسول اللَّه؟

فقال: أبو بكر

قلت: ثمَّ مَن؟

قال: عمر

وخشيت أن يقول عثمان. قلت: ثمَّ أنت؟

قال: أمّا أنا رجل من المسلمين» «(2)».

إنّ ذكرنا لهذا لا يعني التشكيك أو التعريض بالشيخين، بل أوردناه لمخالفته للثابت الصحيح في التاريخ، فإنَّ عليّاً كان لا يرى أحداً أحقّ بالأمر منه لما نصبه الرسول (ص) في حجّة الوداع، وجعله وصيّاً له، وهكذا الأمر بالنسبة لبقيّة المسلمين الأوائل، فقد كانت لهم رؤى تخصّهم في الخلافة والتفاضل!

ولوصحّ ذلك وعرفه الجميع ولم يكن بالمفتعل الطائفيّ، فلماذا يقول أبو بكر لأبي عبيدة: «هلمَّ أُبايعك، فإنّي سمعت رسول اللَّه يقول إنَّك أمين هذه الأُمَّة وقدّمه على نفسه وعلى عمر»، أو قوله: «ولّيت عليكم ولست بخيركم» «(3)» ...


1- البداية والنهاية 7: 216، التاريخ الكبير البخارى 1: 49.
2- . صحيح البخارى 5: 9.
3- . طبقات ابن سعد 3: 182، و فيه: امركم بدل عليكم؛ شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد 17: 158، تاريخ الطبرى 3: 210.

ص:167

ألَم تكن هذه فضيلة لأبي عبيدة دالّة على رجحانه على أبي بكر، أو دالّة على وجود مَن هو خير منه كما في النصّ الثاني!

وماذا يعني كلام عمر- قبل الشورى-: لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيّاً استخلفته، فإن سألني ربّي قلت: سمعت نبيّك يقول: «إنَّه أمين هذه الأُمّة».

ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً استخلفته، فإن سألني ربّي قلت: سمعت نبيّك يقول: «إنَّ سالماً شديد الحبّ للَّه» «(1)»؛ وأقواله الأُخرى في عليّ وغيره ..

ألَم تدلّ هذه النصوص على أنَّ أبا عبيدة وسالماً و ... هم أفضل من عثمان؟ ..

فلو كان كذلك، فما معنى «كنّا لا نعدل»؟!

وماذا يعني قول ابن عوف في الشورى: «أيّها الناس إنّي سألتكم سرّاً وجهراً بأمانيكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين: إمَّا عليّ وإمَّا عثمان» «(2)» .. ثمَّ بدأ بعليّ للبيعة وقدّمه على عثمان.

وما يعني كلام عائشة عندما سُئلت عن رسول اللَّه «لو استخلف»؟! فذكرت أبا بكر وعمر ولم تذكر عثمان، بل رجّحت أبا عبيدة عليه «(3)».

ألَم تكن هذه المواقف هي امتيازاً لعليّ وأبي عبيدة وسالم وأنَّهم أفضل من عثمان؟

وما معنى جملة لم (نعدل)، أو (نفاضل) وفي القوم مَنْ عُدَّ من العشرة المبشّرة ومن جاء فيه نصّصريح بعلوّ مكانته وجلالة قدره!

3- وضع أحاديث في عدالة جميع الصحابة، كقوله (ص): «أصحابي كالنجوم، بأيّهم اقتديتم اهتديتم» و ...؛ ليجعلوا أبا سفيان، ومروان بن الحكم، والحكم بن العاص، ومعاوية، وعبد اللَّه بن أبي سرح، والوليد بن عقبة و ...

بمنزلة عليّ، وفاطمة، وابن عبّاس، وأبي ذرّ و ...!

وذلك بعدما عجزوا عن طمس الإسلام والوقوف أمام أبنائه ومعتقدات


1- طبقات ابن سعد 3: 182، وفيه: امركم بدل عليكم؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17: 158، تاريخ الطبريّ 3: 210.
2- تاريخ الطبريّ 4: 227.
3- تاريخ الطبريّ 4: 238.

ص:168

الناس، فإنَّهم بطرحهم هذه الفكرة وغيرها قد أرادوا نفي ما قيل في بني أُميّة وما جاء في شأنهم من اللعن على لسان الرسول والقرآن المجيد، بل جعل أقوالهم من مصادر التشريع الإسلاميّ ليضاهي كلام المقرّبين من أصحاب الرسول وينافسهم في أخذ المسلمين معالم دينهم عنهم.

وقد ثبت عنه (ص) أنَّه كان يلعن أقطاب بني أُميّة ويدعو عليهم في قنوته؛ ويقول: «اللّهمَّ العن أبا سفيان، اللّهمَّ العن الحارث بن هشام، اللّهمَّ العن سهيل ابن عمرو، اللّهمَّ العنصفوان بن أُميّة» «(1)» ..

وتواتر عنه (ص) أنَّه قال- لمَّا أقبل أبو سفيان ومعه معاوية-: «اللّهمَّ العن التابع والمتبوع» «(2)».

وفى آخر: «اللّهمَّ العن القائد والسائق والراكب» «(3)» .. وكان يزيد بن أبي سفيان منهم.

وقد اشتهرت مقولة رسول اللَّه (ص) في مروان بن الحكم وأبيه- طريد رسول اللَّه-: «اللّهمَّ العن الوزغ بن الوزغ» «(4)».

فالأمويون سعوا لتغيير مفهوم بعض الأحاديث النبويّة الشريفة- ومنها أحاديث اللعن-، ليجعلوا للملعونين منزلة لا ينالها إلّاذو حظٍّ عظيم، ليشكّكوا فيماصدر عن رسول اللَّه وأنَّ لعنه قدصدر عن عصبيّة قبليّة كأنّه لم يكن يلتزم بأصل ثابت في الحياة- والعياذ باللَّه!

فقد روت عائشة عنه (ص) أنَّه قال: «اللّهمَّ أنا بشر، فأيّ المسلمين لعنته أو سببته .. فاجعله زكاة وأجراً» «(5)».


1- الفردوس 1: 503/ 2060، الإصابة 2: 93.
2- وقعة صفّين: 217.
3- وقعة صفّين: 220.
4- مستدرك الحاكم 4: 479.
5- صحيح مسلم 4: 2007/ 88، مسند أحمد 3: 400.

ص:169

وروى أبو هريرة أيضاً: «إنَّما أنا بشر، فأيّ المؤمنين آذيته، شتمته، لعنته، جلدته .. فاجعلها لهصلاة وزكاة وقربة تقرّبه بها إليك يوم القيامة» «(1)».

ونحن لا نريد أن نناقش هذين الحديثين وأمثالهما- وهي كثير- بل نريد أن يقف القارئ على دور الأمويين وكيف كانوا يريدون مسخ شخصيّة الرسول (ص) بترسيمهم شخصيّة له (ص) لا تراعي القيم والأعراف، بل تتعدّى على حقوق المسلمين، ثمَّ يطلب الرحمة من اللَّه لأُولئك!!

كيف يلعن رسول اللَّه مَن لا يستحقّ اللعنة! أو نراه يلعن المؤمنين، كما جاء في حديث أبي هريرة!

أم كيف يمكن أن نوفّق بين هذا الحديث وما رواه عنه (ص): «إنّي لم أُبعث لعّاناً وإنَّما بعثت رحمة» «(2)» وهل حقّاً أنَّه (ص) يطلب الرحمة لمن لعنه؟!

وكيف يؤكّدون إذاً على عدالة جميع الصحابة، وما يعني ذلك؟

أليس بين الصحابة مؤمنون ومنافقون، وأليس بينهم مَن يحبّه اللَّه ورسوله وهناك مَن يلعنه اللَّه ورسوله؟!، وكيف يصحّ لنا أن نساوي بينهم، وما الهدف من ذلك، ومَن هو المستفيد، ولِمَ قالوا بهذا؟

قالوا بذلك ليساووا المجاهد بالقاعد، والطليق بالمهاجر، والمحاصَر بالمحاصِر، والمشرك بالمؤمن .. وليجعلوا قول ابن أبي سرح والوليد ومروان يضاهي كلام عليّ وفاطمة وغيرهما ممّن يمكن الاطمئنان إليهم والأخذ بقولهم، وقد تنبّه الإمام عليّ لمخطّطهم، فجاء في رسالته إلى معاوية:


1- صحيح مسلم 4: 2008/ 90، مسند أحمد 2: 316- 317، 449.
2- صحيح مسلم 4: 2006/ 87.

ص:170

«... ولكن ليس أُميّة كهاشم، ولا حرب كعبد المطّلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق، ولا الصريح كاللصيق، ولا المحقّ كالمبطل، ولا المؤمن كالمدغل ...» «(1)».

وفي قوله لمعاوية:

«فسبحان اللَّه! ما أشدّ لزومك للأهواء المبتدعة والحيرة المتّبعة مع تضييع الحقائق واطّراح الوثائق التي هي للَّه طلبة وعلى عباده حجّة ...» إلى آخره.

وقد قال الجاحظ وهو في معرض إشارته للّذين يعتقدون برأي الأمويين:

وقد أربت عليهم نابتة عصرنا ومبتدعة دهرنا فقالت: لا تسبّوه [أي معاوية] فإنَّ لهصُحبة، وسبُّ معاوية بدعة «(2)»، ومن يبغضه فقد خالف السنّة، فزعمت أنَّ من السنّة ترك البراءة ممّن جحد السُنَّة.

ولا نريد التفصيل في هذا البحث، بل نكتفي بالإشارة إلى أنَّ هذه الفكرة كغيرها إنّما هي دسيسة حكوميّة تُخفي وراءها أهدافاً سياسيّة!

4- إثارة مسألة عدم اجتماع الخلافة والنبوّة في بني هاشم، والتي أُثيرت من قبل في اجتماع السقيفة «(3)»، مع العلم بأنَّهم مسلمون وجميع الناس سواسية أمام حكم اللَّه، وصريح قوله (ص): «خلفائي اثنا عشر كلّهم من قريش» «(4)»، ودلالة القرآن باجتماع ذلك بقوله تعالى: «وورث سليمان داود» «(5)».

كانت هذه بعض خيوط المخطّط الأمويّ ضدَّ عليّ وبني هاشم، وهناك الكثير لا يمكننا حصره، وقد ثبت أنَّهم كانوا يأمرون الناس بلعن عليّ فيصلواتهم وعلى المنابر «(6)» حتّى قيل: بأنَّ مجالس الوعّاظ بالشام كانت تختم بشتم عليّ «(7)»، وأنَّهم كانوا لا يقبلون لأحد من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة،


1- نهج البلاغة 3: 18/ 17.
2- أمّا سبُّ عليِّ بن أبي طالب فلا! يُنظر كلام الجاحظ في رسالته المطبوعة في آخر النزاع والتخاصم للمقريزيّ: 94.
3- في هذا حوار لابن عبّاس مع عمر .. راجع: الطبريّ 4: 223- 224 وغيره من كتب التاريخ.
4- صحيح مسلم 3: 1453/ 10، سنن الترمذيّ 3: 340/ 2323.
5- النمل: 16.
6- النصائح الكافية: 86- 88.
7- النصائح الكافية: 87، وابن عساكر في تاريخه.

ص:171

وقد أمر معاوية بمحو أسمائهم من الديوان «(1)» ..

وقيل: إنَّ حجر بن عديصاح بالمغيرة في المسجد قائلًا: مُرْ لنا أيّها الإنسان بأرزاقنا، فقد حبستها عنّا وليس ذلك لك، وقد أصبحت مولعاً بذمّ أمير المؤمنين. فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون:صدق حجر وبرّ «(2)».

وقد نقلت كتب السير أنَّ عمر كان قد قال للمغيرة بن شعبة- وكان أعور-: أما واللَّه ليعوّرنَّ بنو أُميّة هذا الدين، كما أعورّت عينك، ثمَّ لتعمينه حتّى لا يدري أين يذهب ولا أين يجي ء «(3)»!!

قال الدهلويّ في رسالة الإنصاف:

(ولمّا انقرض عهد الخلفاء الراشدين أفضت الخلافة إلى قوم تولّوها بغير استحقاق، ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، فاضطرّوا إلى الاستعانة بالفقهاء، وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم، وكان بقي من العلماء من الطراز الأوّل، فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا، فرأى أهل تلك الأعصار- غير العلماء- إقبال الأُمّة عليهم مع إعراضهم، فاشتروا طلب العلم توصّلًا إلى نيل العزّ، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السلاطين أذلّة بالإقبال عليهم، إلّامن وفّقه اللَّه ...).

فإذا كانت هذه هي السياسة الحكوميّة تجاه عليّ وشيعته، فهل يعقل أن تطبّق السنّة النبويّة كما هي واقعاً في مثل هذا العهد «(4)»؟!

وكيف بأُولئك الناس الّذين كانوا يحِّدثون عن رسول اللَّه، وهل بقي من


1- النصائح الكافية: 88.
2- تاريخ الطبريّ 5: 254.
3- شرح النهج عن الموفقيّات للزبير بن بكار.
4- سنوضح للقاري في الجزء الثاني من هذه الدراسة أنَّ نهج عليٍّ هو السنّة الشريفة.

ص:172

الصحابة مَن له جرأة الإقدام والاعتراض؟!!

وماذا سيكون اتجاه الحكومة وموقفها في الوضوء؟

هل ستسمح للناس بممارسة وضوئهم المنقول عن رسول اللَّه (ص) أم ستواجههم بالعنف وطرق التضليل الأُخرى؟!

من الواضح- كما قلنا- أنَّ الحكومة الأمويّة قد اتّبعت فقه الخليفة عثمان وجعلته دستور الدولة، وأمرت الولاة والقضاة باتّباعه، ودعت إلى نشره، فلا يعقل أن تحيد عن سياستها الكليّة في الوضوء بالذات، بالرغم من وجود عليّ ابن أبي طالب- وهو من الذين لهم معه حساب خاصّ- في الجناح المقابل.

وعلى رأس المحافظين على سنّة النبيّ في الوضوء .. هذا أوّلًا.

وثانياً: المعروف أنَّ الأمويين- وبعد قتل الحسين- قد ازدادوا تنكيلًا بشيعة عليّ، حتّى وصل الحال بفقهاء الشيعة أن توقّفوا عن الإفتاء في مستجدّات المسائل؛ لصعوبة الاتصال بأئمّتهم، وتفشّي سياسة العنف في البلاد، وقد حدَّ ذلك من ارتباط القيادة مع القاعدة، وعليه، نرى عمل الناس في الوضوء- بعد مقتل الحسين الشهيد- أخذ يتدرّج بالضعف أمام دعاة نهج الخليفة، حتّى انحصر ببعض التابعين وأهل بيت رسول اللَّه، وإنَّك ستقف على أسمائهم عن قريب.

حال «الناس» في العهد الأمويّ

أشار الإمام عليّ بن الحسين إلى حال المؤمنين في مثل هذا العهد وكيف يرون كتاب اللَّه منبوذاً وسنّة نبيّه متروكة وحكمه مبدّلًا، فقال في دعائه:

«اللّهمَّ إنَّ هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ...».

إلى أن يقول:

«... حتّى عادصفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزّين، يرون حكمك مبدّلًا، وكتابك منبوذاً، وفرائضك محرّفة عن جهات أشراعك، وسنن نبيّك

ص:173

متروكة و ...» «(1)».

وقال أيضاً وهو يشرح اختلاف الأُمَّة:

«وكيف بهم؟

وقد خالفوا الآمرين، وسبقهم زمان الهادين، ووُكِلُوا إلى أنفسهم، يتنسّكون في الضلالات في دياجيرالظلمات.

وقد انتحلت طوائف من هذه الأُمَّة مفارقة أئمّة الدين والشجرة النبويّة أخلاص الديانة، وأخذوا أنفسهم في مخاتل الرهبانيّة، وتغالوا في العلوم، ووصفوا الإسلام بأحسنصفاته، وتحلّوا بأحسن السنّة، حتى اذا طال عليهم الأمد، وبَعُدَتْ عليهم الشُقَّةُ، وامتُحنوا بمحن الصادقين: رجعوا على أعقابهم ناكصين سبيل الهدى، وعلم النجاة.

وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا، واحتجّوا بمتشابه القرآن، فتأوّلوه بآرائهم، واتّهموا مأثور الخبر ممّا استحسنوا، يقتحمون في أغمار الشبهات، ودياجير الظلمات، بغير قَبَس نور من الكتاب، ولا أثرة علم من مظانّ العلم، زعموا أنَّهم على الرشد من غيّهم.

وإلى مَن يفزعُ خَلَفُ هذه الأُمَّة؟!

وقد درست أعلام الملّة والدين بالفُرقة والاختلاف، يكفّر بعضهم بعضاً، واللَّه تعالى يقول:

«ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات» «(2)».

فمن الموثوق به على إبلاغ الحجّة؟ وتأويل الحكمة؟ إلّاإلى أهل الكتاب، وأبناء أئمّة الهدى، ومصابيح الدجى، الذين احتجّ اللَّه بهم على عباده، ولم يَدَع


1- الصحيفة السجّاديّة: 293- الدعاء 48.
2- آل عمران: 105.

ص:174

الخلق سدى من غير حجّة.

هل تعرفونهم؟

أو تجدونهم إلّامن فروع الشجرة المباركة، وبقاياصفوة الّذين أذهب اللَّه عنهم الرجس، وطهّرهم تطهيراً، وبرّأهم من الآفات، وافترض مودّتهم في الكتاب» «(1)»؟!

وقال عليه السلام لرجل شاجره في مسألة شرعيّة فقهيّة:

«يا هذا! لوصرت إلى منازلنا، لأريناك آثار جبرئيل في رحالنا، أفيكون أحد أعلم بالسنّة منّا» «(2)».

وقال أيضاً:

«إنَّ دين اللَّه لا يُصاب بالعقول الناقصة، والآراء الباطلة، والمقاييس الفاسدة، لا يُصابُ إلّابالتسليم.

فمن سلَّم لنا سَلِمَ، ومن اقتدى بنا هُدِي، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه- ممّا نقوله، أو نقضي به- حَرَجاً، كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم، وهو لا يعلم» «(3)».

وبيّن الإمام الباقر سبب تأكيدهم وسرّ إرجاع المسلمين إليهم، بأنّهم مكلّفون ببيان الأحكام للناس، لكنَّ السياسة الظالمة والأهواء الباطلة تمنع الأخذ منهم، أو تمنعهم من بيانها، فقد قال: «بليّة الناس علينا عظيمة، إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا «(4)»».

وبهذا فقد عرفت أنَّ الطابع السياسيّ أخذ يتفشّى في الشريعة شيئاً فشيئاً،


1- كشف الغمّة للأربليّ 2: 98- 99.
2- نزهة الناظر للحلواني: 45.
3- اكمال الدين: 324 ب 31 ح 9.
4- الإرشاد 2: 167، مناقب آل أبي طالب 4: 206، وعنه في البحار 46: 288 ح 11.

ص:175

وأنَّ الأحكام صارت تخضع لأهواء الحكّام، وأنَّ الفرائض الشرعيّةصارت محرّفة عما شرعت، وأنَّ الحكّامصاروا يفتون الناس بالدين الذي يريدونه أو يستخدمون مَن له نفوذ وعلم لِأن يفتي لهم بما يريدون، وقد مرّ عليك سابقاً كلام ابن عبّاس، وأنّه كان يلعن معاوية وأتباعه لتركهم سنّة رسول اللَّه بغضاً لعليّ «اللّهمَّ العنهم فقد تركوا السنّة من بغض عليّ» «(1)».

أو أنَّه قال: «لعن اللَّه فلاناً، إنَّه كان ينهى عن التلبية في هذا اليوم- يعني يوم عرفة- لانَّ عليّاً كان يلبّي فيه» «(2)».

ونقل الشيخ أبو زهرة ما جاء عن الحكم الأمويّ، منها:

لابدّ أن يكون للحكم الأمويّ أثر في اختفاء كثير من آثار عليّ في القضاء والإفتاء؛ لأنَّه ليس من المعقول أن يلعنوا عليّاً فوق المنابر، وأن يتركوا العلماء يتحدّثون بعلمه، وينقلوا فتاواه وأقواله، وخصوصاً ما يتّصل بأساس الحكم الإسلاميّ «(3)».

ونحن نقول هنا بما مرّ، كيف بالحكومة تترك الناس يمارسون دورهم، وهم من مخالفي عثمان، في حين يتصدّر عليّ- الذي يلعنونه- مدرستهم؟!

وبهذا فقد عرفنا بأنَّ لكلا الاتّجاهين- الناس والخليفة- أنصاراً وأتباعاً في الوضوء، يذودون عمّا يرتؤونه، وبما أنَّ السلطة قد تبنّت فقه عثمان ودعت إلى فضائله ونشرت آراءه، فمن الطبيعي أن ينساق السواد الأعظم- تبعاً للدولة- إلى وضوء الخليفة عن طيب نيّة وحسن سريرة.

وهناك مؤشّرات تدلّل على أنَّ الخلاف في الوضوء كان قائماً- في هذا العهد- على قدم وساق، وبذكرنا بعض النصوص لخلاف الناس مع الدولة


1- سنن النسائيّ 5: 253، سنن البيهقيّ 5: 113.
2- انظر: النصائح الكافية: 11 عنهما أخرجه ابن جرير عن ابن عبّاس.
3- انظر: تاريخ المذاهب الإسلاميّة لأبي زهرة: 285- 286.

ص:176

سوف يقف القارئ على حقيقة الأمر.

علماً بأنَّ مدرسة الناس كان يتصدّرها بقيّة من الصحابة وبعض التابعين، أمَّا عائشة فإنَّها على الرغم من مخالفتها لسياسة عثمان وفقهه وكونها من الناس، لكنَّا نراها تقف في العهد الأمويّ إلى جانب الحكومة لترسيخ وضوء عثمان، مستفيدة من جملة «أسبغوا الوضوء» و «أحسنوا الوضوء» وأمثالها، ممّا أشاعته الحكومة لتدعيم فكرة الخليفة؛ بغضاً لعليّ!!

نصوص لخلاف الناس مع الدولة في الوضوء:

1- عبد الرحمن بن أبي بكر وعائشة:

أخرج مسلم فيصحيحه- باب غسل الرجلين- بسنده إلى سالم مولى شدّاد؛ قال: دخلت على عائشة (رض) زوج النبيّ يوم توفي سعد بن أبي وقّاص، فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر فتوضّأ عندها فقالت: يا عبد الرحمن، أسبِغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول اللَّه يقول: «ويل للأعقاب من النار» «(1)».

وأخرج مالك في الموطّأ: أنَّه بلغه أنَّ عبد الرحمن بن أبي بكر قد دخل على عائشة زوج النبيّ يوم مات سعد بن أبي وقّاص، فدعا بوضوء، فقالت له عائشة: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول اللَّه يقول: «ويل للأعقاب من النار» «(2)».

وأخرج ابن ماجة بسنده عن أبي سلمة؛ قال: رأت عائشة عبد الرحمن وهو يتوضّأ؛ فقالت: أسبغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول اللَّه يقول: «ويل للأعقاب من النار» «(3)».


1- صحيح مسلم 1: 213/ 25.
2- الموطّأ 1: 19/ 5، شرح معاني الآثار 1: 38/ 188.
3- سنن ابن ماجة 1: 154/ 452، المصنّف لعبد الرزاق 1: 23/ 69، والحميديّ عن ابن عيينة.

ص:177

وفي مسند أحمد: ... فأساء عبد الرحمن، فقالت عائشة: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول اللَّه يقول: «ويل للأعقاب يوم القيامة من النار» «(1)».

توقفنا هذه النصوص على ثلاث نقاط:

الأُولى: معرفة تاريخصدور الخبر، وأنَّه كان في أواخر عهد معاوية، إذ إنَّ سعد بن أبي وقّاص توفي سنة 55 ه، وكانت وفاة عائشة سنة 58 ه، وعليه فإنَّصدور هذا الخبر كان في أواخر عهد عائشة ومعاوية.

الثانية: كون وضوء عبد الرحمن يغاير وضوء عائشة؛ لقول عائشة له «أسبغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول اللَّه يقول ويل للأعقاب من النار»، ولما نقله الراوي (فأساء عبد الرحمن، فقالت عائشة ...). ثمَّ إنَّ متن الرواية له كمال الدلالة على اختلاف وضوئهما، إذ لو كان عبد الرحمن يتّفق وضوؤه مع وضوء عائشة لما احتاجت إلى تذكيرها إيّاه بقوله (ص): «ويل للأعقاب من النار» ولما كان هناك من داع لقولها له: أسبغ الوضوء!!

الثالثة: عدم دلالة قول عائشة: (أسبغ الوضوء) على وجوب غسل الرجلين، إذ إنَّ لكلمة «الإسباغ» و «ويل للأعقاب» معنى أعمّ، ولا يمكن الاستدلال بهما على المطلوب، فإنّها لو أرادت من نقلها الدلالة على الغسل- كما استفاد منه مسلم والبخاريّ وغيرهما- للزمها أن تقول: اغسل رجلك، فإنّي رأيت رسول اللَّه يغسل رجليه، ولمّا لم تر رسول اللَّه يغسل رجليه استدلّت على وجوبه بقوله (ص): ويلٌ للأعقاب من النار لا برؤيتها.

وبذلك تبيّن أن إتيانها بهذه الجملة جاء مجاراة للحكومة، وأنّها كانت


1- مسند أحمد 6: 112.

ص:178

تريد الاستفادة منها لترسيخ وضوء الخليفة! وإنَّك سوف تقف في فصل (الوضوء في الكتاب واللغة) على دور الحكومة وكيفيّة تحريفها للحقائق، ومدى استغلالها المصطلحات الثانويّة كأسبغوا الوضوء، وأحسنوا الوضوء ..

في ترسيخ وضوء عثمان.

2- عبد اللَّه بن عبّاس والرُّبَيِّع بنت معوّذ:

أخرج ابن ماجة بسنده إلى الربيّع بنت معوّذ أنَّها قالت: أتاني ابن عبّاس فسألني عن هذا الحديث- تعني حديثها الذي ذكرت أنَّ رسول اللَّه توضّأ وغسل رجليه-؛ فقال ابن عبّاس: إنَّ الناس أبوا إلّاالغسل، ولا أجد في كتاب اللَّه إلّاالمسح «(1)».

ونحن نرجّحصدور هذا النصّ في العهد الأمويّ لأُمور:

1- أوصلتنا البحوث السابقة إلى أنَّ الخلاف بين المسلمين في الوضوء وقع في عهد عثمان، ولم يكن له ذكر في عهد الرسول والشيخين، ورجّحنا كذلك أنَّ إحداثات عثمان كانت في الستّ الأواخر من عهده، وروينا عنه أنَّه كان يمسح على رجليه في أوائل عهده، وتوصّلنا كذلك إلى أنَّ الأُمَّة كانت لا ترضى عن عثمان ولم تأخذ برأيه، وذكرنا نصوصاً كثيرة عن الصحابة ومخالفتهم إيّاه.

وعليه .. فإنَّ جملة ابن عبّاس: (... وإنَّ الناس أبوا إلّاالغسل) لا يتناسب إلّا مع افتراضصدوره في العصر الأمويّ؛ حين جاء انسياق الناس تبعاً لرأي الدولة.

2- نحتملصدور هذا الخبر في أوائل العهد الأمويّ، أي فيما بين سنة 40 إلى 60، وذلك لسببين:

الأوّل: حالة الانفتاح واللين التي كان يمارسها معاوية مع بعض الصحابة وإمكان مناقشة ابن عبّاس مع الربيّع.

الثاني: اضطهاد ابن عبّاس بعد مقتل الحسين وتخلّيه عن الافتاء، حتّى قيل


1- سنن ابن ماجة 1: 156/ 458.

ص:179

عنه بأنَّه لمّا وقعت الفتنة بين ابن الزبير وعبد الملك بن مروان رَحل مع محمَّد بن الحنفيّة إلى مكّة، وأنَّ ابن الزبير طلب منهما أن يبايعاهُ فأبيا، والجميع يعرف ما يكنّه ابن الزبير لبني هاشم، هذا عن ابن الزبير. أمّا بالنسبة إلى المروانيين، فإنَّ ابن عبّاس لم يكن على وفاق مع عبد الملك بن مروان وغيره .. وعليه، فلم تكن له تلك الحريّة في عهد المروانيين حتى يمكنه مناقشة الربيّع في رأيها.

3- يفهم من النصّ السابق أنَّ ابن عبّاس جاء مستنكراً لا مستفهماً؛ إذ لا يعقل أن يأخذ ابن عبّاس- وهو الذي عاش في بيت النبوّة، والقائل: «نحن أهل البيت، شجرة النبوّة، ومختلف الملائكة، وأهل بيت الرسالة، وأهل بيت الرحمة، ومعدن العلم» «(1)»- من امرأة ليست من كبار الصحابة ولا من أجلّائهم.

وإنَّ قوله لها «أبى الناس إلّاالغسل» يفهم منه أنَّ الحالة في الوضوء أصبحت سلطويّة وليست بشرعيّة وأنَّ الكيفيّة التي روتها الربيّع ترضي الناس لما فيها من ظاهر النقاء وكونها أبلغ في النظافة، لا لشرعيّتها وورودها في القرآن والسنّة الشريفة.

3- أنس بن مالك والحجّاج بن يوسف الثقفيّ:

أخرج الطبريّ بسنده إلى حميد؛ قال: قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده: يا أبا حمزة، إنَّ الحجّاج خطبنا بالأهواز ونحن معه نذكر الطهور؛ فقال:

اغسلوا وجوهكم وأيديكم، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، وإنّه ليس من ابن آدم أقرب إلى خبث قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما ..

فقال أنس:صدق اللَّه وكذب الحجّاج؛ قال تعالى: «وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم» «(2)».

وأخرج بلفظ آخر وسند آخر مثله.


1- أسد الغابة 3: 193.
2- تفسير الطبريّ 6: 82، تفسير ابن كثير 2: 44.

ص:180

وجاء في تفسير القرطبيّ بسنده عن موسى بن أنس أنَّه أخبر أباه أنَّ الحجّاج أمر الناس بغسل الرجلين في الوضوء؛ فقال:صدق اللَّه وكذب الحجّاج؛ قال اللَّه تعالى: «وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم».

أو: إنَّ الحجّاج خطب في الأهواز، وأمر الناس بغسل الرجلين في الوضوء، قال: فسمع ذلك أنس بن مالك؛ فقال:صدق اللَّه وكذب الحجّاج، قال اللَّه تعالى: «وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم» «(1)».

وذكر القرطبيّ- بعد أن قال: إنَّ أنساً كان إذا مسح رجليه بلّهما- قال:

وروي عن أنس أنَّه قال: نزل القرآن بالمسح «(2)».

وأخرج ابن كثير بسنده عن عاصم الأحول عن أنس، أنَّه قال: نزل القرآن بالمسح .. ثمَّ قال: إسناده صحيح «(3)».

وأخرج السيوطيّ نحو ما أخرجه الطبريّ والقرطبيّ وابن كثير؛ قال:

وأخرج ابن جرير عن أنس أنَّه قال: نزل القرآن بالمسح «(4)».

وقال صاحب تفسيرالخازن: يروى عن أنس أنَّه قال: نزل القرآن بالمسح «(5)».

وقال النيسابوريّ: اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما، فنقل القفّال في تفسيره عن ابن عبّاس وأنس بن مالك: إنَّ الواجب فيهما المسح، وهو مذهب الإماميّة «(6)».

استنتاج

على ضوء النصوص السابقة نقف عند ثلاث نقاط:


1- الجامع لأحكام القرآن 6: 92.
2- الجامع لأحكام القرآن 6: 92.
3- تفسير ابن كثير 2: 44.
4- الدرّ المنثور 2: 262.
5- تفسير الخازن 1: 435.
6- تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان، المطبوع بهامش تفسير الطبريّ.

ص:181

الأُولى: استخدام الحجّاج الرأي في إلزام الناس بغسل أرجلهم معلّلًا بأنَّه أقرب شي ء إلى الخبث، وإنَّا قد ذكرنا سابقاً موقف الإمام عليّ من أصحاب الرأي، وانَّه قال لهم: لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدم أولى من ظاهره، إلّاأنّي رأيت رسول اللَّه يمسح على ظاهره ..

وبهذا تبيّن لك أنّ في الوضوء اتجاهين:

1- اتجاه الخليفة/ الأخذ بالرأي «(1)».

2- اتجاه الناس/ التعبّد المحض بما قاله اللَّه ورسوله.

الثانية: نفهم من جملة (إنَّ الحجّاج أمر الناس ...) إنَّ الحكومة قد تبنّت فقه الخليفة عثمان في الوضوء، ودعت إليه بوسائلها الخاصّة! تلك الحكومة التي سعت في تحريف الحقائق وتغيير مفاهيم بعض الأحاديث .. وستقف قريباً على المزيد منه إن شاء اللَّه تعالى.

الثالثة: امتداد خطّ الناس في الوضوء حتّى زمن الحجّاج بن يوسف الثقفيّ؛ لقول موسى بن أنس (ونحن معه نذكر الطهور) وتصدّي كبار الصحابة لذلك الاتّجاه، أمثال: أنس بن مالك (خادم رسول اللَّه)، وابن عبّاس (حبر الأُمَّة) و ...

وأنَّ وقوف أمثال هؤلاء أمام خطّ الدولة- رغم كلّ الملابسات وسياسات العنف- ينبئ عن أصالة الخطّ وصحّة فعلهم.

فالدولة خروجاً لها من هذا المأزق وغيره ولتصحيح ما تفرضه من اجتهادات وآراء تبنّت فكرة تدوين السنّة النبويّة الشريفة، ليكون زمام الأُمور بيدها وأن لا تواجه مستقبليّاً مشكلة في نقل النصوص!! وأناطت لابن شهاب الزهريّ مهمّة ذلك.


1- سنثبت في الجزء الثاني من هذه الدراسة أنَّ وضوء عثمان إنّما صدر عن رأيه المحض، وحتّى ما نقله من رؤيته لوضوء رسول اللَّه فإنّه كان اجتهاداً في مقابل النصّ، ولأجله لم يلق التأييد من الصحابة، بل هناك ناس خالفوه فيما حكاه عن رسول اللَّه، وأنّ المنقول عنه ص- على فرض صدوره- لم يكن على نحو التشريع للمسلمين، بل إنّه من مختصّاته ص!

ص:182

جاء في كنز العمّال عن أنس أنَّه قال: رأيت رسول اللَّه يتوضّأ ثلاثاً ثلاثاً؛ وقال: بهذا أمرني ربّي عزّ وجلّ «(1)».

تُرى كيف يأمره اللَّه بالثالثة ونحن نعلم أنَّه فعل الثانية على نحو السنّة وأعطى عليه الأجر كفلين، وتواتر عنه في الصحاح والسنن أنَّه كان يتوضّأ مرّتين مرّتين؟ وهل بعد السنّة فرض، وألم يحتمل أن يكون هذا الأمر مختصّاً بالرسول دون المؤمنين؟!

وإذاصحّت هذه الأحاديث عن أنس .. فلماذا لا نراها في الكتب المعوّل عليها في الفقه- كصحيح البخاريّ ومسلم والصحاح الأربعة الأُخرى و ...-، ولماذا نرى نقل أغلب المتناقضات في الأحاديث إنّما كان عن أنس وابن عبّاس وعليّ وجابر ابن عبد اللَّه الأنصاريّ، فإن كان أنس بن مالك قد خلط في آخر عمره وكان يُستفتى فيفتي من عقله- كما رواه محمّد بن الحسن الشيبانيّ عن أبي حنيفة- فكيف بابن عبّاس وعليّ وجابر بن عبد اللَّه الانصاريّ واختلاف النقل عنهما في الأحكام؟ وهل إنَّهم قد خلطوا في الأحكام أو انَّ السياسة نَسبت إليهم التناقض، بل في بعض الأحيان التضاد؟!

رأيٌ وتنظير

لو دقّق الباحث النظر في الأخبار لوقف على دور السياسة في تحريف كثير من الأُمور، فقد ذكر الفخر الرازيّ في تفسيره: (في المسائل الفقهيّة المستنبطة من الفاتحة) تعارُض الروايات المنقولة عن أنس بن مالك في البسملة وأنّه تارة يعتبرها جزءاً من السورة وأُخرى ينفيها وفي ثالثة يتوقّف عندها.

قال الفخر الرازيّ:

(أقول، إنّ أنساً وابن المغفل خصّصا عدم ذكر بسم اللَّه الرحمن الرحيم


1- كنز العمّال 9: 459/ 26965.

ص:183

بالخلفاء الثلاثة ولم يذكروا عليّاً، وذلك يدلّ على إطباق الكلّ على أنّ عليّاً كان يجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم. ثمّ ساق بعدها كلام الشيخ أبي حامد الاسفرائينيّ، وهو: روي عن أنس في الباب ستّ روايات، أمّا الحنفيّة فقد رووا عنه ثلاث روايات:

إحداها قوله:صلّيت خلف رسول اللَّه (ص) وخلف أبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد للَّه ربّ العالمين.

وثانيها قوله: إنّهم ما كانوا يذكرون بسم اللَّه الرحمن الرحيم.

وثالثها قوله: لم أسمع أحداً منهم قال: بسم اللَّه الرحمن الرحيم.

فهذه الروايات الثلاث تقوّي قول الحنفيّة. وثلاث أُخرى تناقض قولهم:

إحداها: ما ذكرنا من أنّ أنساً روى أنّ معاوية لمّا ترك بسم اللَّه الرحمن الرحيم في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار. وقد بيّنا أنّ هذا يدلّ على أنّ الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم.

وثانيتها: روى أبو قلابة عن أنس أنّ رسول اللَّه وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم اللَّه الرحمن الرحيم.

وثالثتها: انّه سئل عن الجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم والإسرار به، فقال:

لا أدري المسألة.

فثبت أنّ الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب، فبقيت متعارضة، فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل، وأيضاً ففيها تهمة أُخرى وهي أنّ عليّاً عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالبسملة، فلمّا وصلت الدولة إلى بني أُميّة بالغوا في المنع من الجهر، سعياً في إبطال آثار عليّ عليه السلام، فلعلّ أنساً خاف منهم، فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه، ونحن وإن شكّكنا في شي فإنّا لا نشكّ أنَّه مهما وقع التعارض بين قول أنس وابن المغفل وبين قول عليّ بن أبي طالب عليه السلام الذي بقي عليه طول

ص:184

عمره، فإنّ الأخذ بقول عليّ أولى، فهذا جواب قاطع في المسألة) «(1)» ..

وبهذا اتّضح لك ما قلناه إنَّ الأمويين كانوا ينسبون إلى مخالفيهم ما يرتؤون من أفكار، وقد وقفت سابقاً على ما نسب إلى عليّ وأنَّه علّم ابن عبّاس (حبر الأُمَّة) وضوء عثمان! أو تقرير طلحة والزبير وسعد وعليّ لوضوء عثمان! وأنَّه وضوء رسول اللَّه، مع كونهم من مخالفيه المطّردين!

أو ما نسب إلى الحسين بن عليّ من الوضوء الثلاثيّ الغسليّ والدعاء في غسل الرجلين «(2)»!

وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر أبواب الفقه، فنراهم ينسبون أشياء لا ترتبط بفقه هؤلاء، فمثلًا ينسبون روايات السكوت عن ظلم الحاكم، أو بول رسول اللَّه قائماً إلى حذيفة بن اليمان وغيره، فما يعني ذلك؟! ألِأجل معرفة حذيفة أسماء المنافقين، وأنَّصدور هذه الروايات عنه هي بمثابة المبالغة في السكوت عن ظلم الحكّام؟! وعلى فرضصحّةصدور مثل هذه الأخبار عنه .. فهي مختصّة به، وهي بمنزلة وصيّة من رسول اللَّه في عدم فضحه للمنافقين «إلّا أن ترى كفراً بوّاحاً». أمَّا تعميم ذلك على جميع المسلمين وأن نستخرج منه أصلًا شرعيّاً، فهو تحريف للسنّة الشريفة والعقيدة الإسلاميّة الآمرة بلزوم مواجهة الظالمين، وأنَّ أعظم الجهاد «كلمة حقّ عند سلطان جائر»؛ و «أنَّ الساكت عن الحقّ شيطان أخرس».

فكيف يسمح الإسلام بتصدر الفاسق لِإمرة المسلمين، وسبحانه يصرّح:

«لا ينال عهدي الظالمين» وما تعني وهذه الرؤى؟!

هذا، وإنَّ موقف أنس بن مالك يدلّ على أصالة نهج الوضوء الثنائيّ المسحيّ؛ لأنَّه على رغم مخالفته لعليّ وعدم شهادته فيصدور جملة: «مَن كنت


1- تفسير الفخر الرازيّ 1: 206.
2- انظر سنن النسائيّ 1: 69 باب صفة الوضوء، والمعجم الصغير للطبرانيّ.

ص:185

مولاه» «(1)» فيه، تراه يدافع وبكلّصلابة عن وضوء الناس، فما معنى ذلك؟!

ألَم يكن لثبوته عنده، وأنَّه قد رأى رسول اللَّه يفعل ذلك، وأنَ القرآن نزل به؟!

خبر مشوّه

أمَّا الأمويّون- ومن باب الملازمة- فقد سعوا لتضعيف تلك الأخبار، بما رووه عن أنس وأنَّه يدعو إلى الوضوء الثلاثيّ، ليعارضوا ما ثبت عنه في المسح.

أخرج الطبرانيّ في الصغير بسنده عن عمر بن أبان بن مفضل المدنيّ؛ قال:

أراني أنس بن مالك الوضوء .. أخذ ركوة فوضعها على يساره، وصبَّ على يده اليمنى فغسلها ثلاثاً، ثمَّ أدار الركوة على يده اليمنى فتوضّأ ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وأخذ ماءً جديداً لصماخيه، فمسحصماخيه.

فقلت له: قد مسحت أُذنيك!

فقال: يا غلام؛ إنَّها من الرأس، ليس هما من الوجه؛ ثمَّ قال: يا غلام؛ هل رأيت وفهمت، أو أُعيد ذلك؟

فقلت: قد كفاني، وقد فهمت.

فقال: هكذا رأيت رسول اللَّه (ص) يتوضّأ «(2)».

ولنا على هذا النصّ عدّة مؤاخذات:

الأُولى: وجود خلط في سند الحديث، إذ فيه حدّثنا جعفر بن حميد بن عبد الكريم بن فرّوخ بن ديرج بن بلال بن سعد الأنصاريّ الدمشقيّ، حدّثني جدّي لأُمّي عمر بن أبان بن مفضل.


1- مسند أحمد 1: 84، 118، الجامع الصغير 2: 642/ 9000، سنن الترمذيّ 5: 297/ 3797.
2- المعجم الصغير: 116.

ص:186

1- وهذا يدلّ على أنَّ الحديث الذي رواه الطبرانيّ عن أنس يمرّ بطبقتين، في حين نعلم أنَّه لا يمكنه رواية حديث مثل هذا إلّاعبر ثلاث طبقات أو أربع «(1)».

2- لم يرو عن بلال بن سعد الدمشقيّ أحد بتلك الأسماء، ولم يرو هو عن جدّه لأُمّه، ولم يعرف أحد بهذا الاسم في كتب الرجال «(2)».

3- يحتمل أن يكون راوي هذا الخبر من أتباع السلطة ومن الّذين يريدون نسبة ما يرتؤونه إلى الفقهاء المتعاملين مع السلطة، قال أبو زرعة الدمشقيّ:

بلال بن سعد أحد العلماء في خلافة هشام، وكان قاصّاً حسن القصص «(3)»، وعليه فالاطمئنان لمثل هذه الأخبار لا يميل إليه القلب.

الثانية: إنّ راوي الخبر السابق ليس من الرواة المعروفين برواية الحديث ولا من المهتمّين به، ويكفي قول الطبرانيّ عنه (لم يرو عمرو بن أبان عن أنس حديثاً غير هذا).

الثالثة: لو سلّمنا جدلًاصحّة الرواية، فنرجّحصدورها في زمن الحجّاج ابن يوسف الثقفيّ وعهد عبد الملك بن مروان لمعرفتنا باتّجاهه ومواقفه في الوضوء. وأنَّ تنكيله بالصحابة ومعارضته إيّاهم إنّما هو لتحديثهم عن رسول اللَّه وثباتهم على السنّة الشريفة.

فقد أخرج ابن عساكر في تاريخه عن أبي بكر بن عيّاش، عن الأعمش:

كتب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان: يا أمير المؤمنين إنَّي قد خدمت محمَّداً تسع سنين [وفي لفظ آخر: إنَّي خدمت النبيّ تسع سنين]، واللَّه لو أنَّ اليهود والنصارى أدركوا رجلًا خدم نبيّهم لأكرموه، وأنَّ الحجّاج يعرّض


1- وبهذا لا يخرج حديث الطبرانيّ عن المعلّق أو المرسل أو المفصل اصطلاحاً، كلّ بحسب عدد الوسائط الساقطة من الإسناد، فهو ليس بحجّة في المقام اتّفاقاً.
2- تهذيب الكمال 4: 291 وتراجم الآخرين فيه.
3- تهذيب الكمال 4: 292.

ص:187

بي حوكة البصرة ..

فكتب عبد الملك إلى الحجّاج يأمره بالاعتذار من أنس، فجاء الحجّاج إلى أنس، وما أن سمع بذلك، حتّى خرج أنس يمشي حتّى دنا منه؛ فقال: يا أبا حمزة؛ غضبت؟

قال الحجّاج: أغضب! تعرّضني لحوكة البصرة؟

قال أنس: يا أبا حمزة؛ إنَّما مثلي ومثلك كقول الذي قال: إيّاك أعني واسمعي يا جارة، أردت أن لا يكون لأحد عَلَيّ منطق «(1)».

بهذا المنطق كانوا يقابلون الصحابة و يسعون لتطبيق آرائهم، فهل يمكن لأحد أن يطمئنّ لأحاديث أنس وغيره التي وقعت تحت الضغط وجَور الحكّام؟!

الرابعة: إنَّ قول الراوي (فقلت له: قد مسحت أُذنيك؟! فقال: يا غلام ...) تفهم أنَّ الراوي كان لا يستسيغ ولا يرتضي مسح الأُذنين، بل نراه قد فوجئ بهذا الفعل من أنس، وأنَّ تأكيد أنس له وأنَّها من الرأس لا من الوجه، وكذا قوله: (هل رأيت وفهمت، أو أُعيد عليك؟ فقلت: قد كفاني، وقد فهمت) ..

تدلّل على أنَّ مسح الأُذنين لم تكن من سيرة المسلمين وأنَّه قالها بحالة غضب وانفعال، وكذا الحال بالنسبة إلى تثليث الغسلات وخصوصاً في الرأس منه، حيث إنَّ هذا الفعل لم يلحظ في جميع الوضوءات البيانيّة المنقولة عنه (ص).

وعليه، فيحتمل أن يكون هذا الخبر- على فرضصحّةصدوره- هو ممّا يُستدلّ به لنصرة المذهب المالكي، إذ إنَّهم يؤكّدون على مسح جميع الرأس، لقولهم بأنَّ الباء في السورة جاءت للالصاق، وبهذا فإنَّ هذه الرواية وغيرها تفيد هذا المذهب بالخصوص، ولم توافق غيرها من المذاهب.

هذا، وانّا لم نلحظ في هذا الخبر حكم الأرجل، هل هو المسح أم الغسل؟ ..


1- تهذيب الكمال 3: 374، وقريب منه في تهذيب ابن عساكر 4: 77.

ص:188

ولكن، بما أنَّ الثابت عنه هو المسح- وهو ما لا يعجب الحكام- فتركوا ذلك واستفادوا من الدلالة الالتزاميّة وفعل الثلاث للدلالة على أنَّه كان يغسل ولا يمسح!!

كلّ ذلك ليضعِّفوا ما له من أخبار مع الحجّاج وتأكيده على المسح!! ولندرس حديثاً آخر:

أخرج الطبرانيّ في الصغير، عن إبراهيم بن أبي عَبْلَة: سألت أنس بن مالك (رض) كيف أتوضّأ، ولا تسألني كيف رأيت رسول اللَّه (ص) يتوضّأ؛ رأيت رسول اللَّه يتوضّأ ثلاثاً ثلاثاً؛ وقال: بهذا أمرني ربّي عزَّ وجلَّ «(1)».

هذه الرواية كغيرها تؤكّد على وجود الخلاف حول الوضوء في العهد الأمويّ وأنَّ أحد محاور الخلاف الغسل الثلاثيّ للأعضاء.

نحن لا نريد مناقشة هذه الروايات أو تلك، بل نريد أن ننوّه بأنَّ السياسة هي وراء طرح بعض المفاهيم السائدة اليوم .. ولو درسنا تلك النصوص بروح علميّة لا يخالطها التعصّب، لوقفنا على حقائق مرّة لا يطيق سماعها العامّة!! بل نرى دور السياسة وتلاعبها في مصادر التشريع عبر تدوين ما يفيدها وطرح ما يغيظها، ونشاط حركة تدوين الحديث واللغة والتاريخ وما شاكل ذلك جاء وفقاً لمتطلّبات الحكومات وأهوائها «(2)» ممّا يضطرّنا إلى تمحيص وتدقيق ملابسات التشريع وزمن تدوين أُصولها وبيان ما رافق السنّة من ملابسات.

وانّ توسعتنا لدائرة هذه البحوث لا يعني خروجاً عن الموضوعيّة في البحث وإثارة أُمور جانبيّة نحن في غنى عنها، بل اعتقادنا أنّ قوام البحث يبتني على شرح قضايا كهذه، وقد وضّحنا سابقاً في مقدّمة الكتاب وآلينا على أنفسنا أن ندرس الحدث من جميع جوانبه التاريخيّة والتشريعيّة والسياسيّة،


1- المعجم الصغير: 32.
2- ستقف على المزيد من ذلك عند دراستنا للعهد العبّاسيّ الأوّل.

ص:189

واعترضنا على الذين اكتفوا بدراسة الأسانيد دون معرفة ملابسات التشريع.

إذن، فخروجنا وتخطّينا لِما نعتقده هو نقص، إذ لا يمكننا الوقوف على الأحكام بصورتها الواضحة إلّاببيان مثل هذه القضايا، وإليك أحد تلك المواضيع الدخيلة والمؤثّرة في فهم الشريعة:

تدوين السنّة النبويّة، ودور الحكام فيه:

يبدو أنَّه لمّا عاجلت المنيّة عمر بن عبد العزيز أعرض ابن حزم عن كتابة الحديث، خاصّة لمّا عزله يزيد بن عبد الملك، لكن هشام بن عبد الملك في سنة 105 طلب من ابن شهاب الزهري ان يدون له الحديث، وقيلَ أكرهه.

عن معمّر عن الزهريّ؛ إنَّه قال: كنَّا نكره كتابة العلم، حتّى أكرهنا عليه هؤلاء الأُمراء، فرأينا أن لا نمنعه أحداً من المسلمين «(1)».

وفى آخر: استكتبني الملوك فاكتبتهم، فاستحيت اللَّه إذ كتبتها للملوك ولا أكتبها لغيرهم «(2)».

قال أبو المليح: كنا لا نطمع ان نكتب عن الزهري حتى اكره هشام الزهري، فكتب لبنيه فكتب الناس الحديث «(3)».

والآن، نتساءل .. مَن هم أُولئك الحكّام الذين يدعون إلى تدوين السنّة الشريفة؟! ألَم يكونوا هم أبناء أبي سفيان، والحكم بن العاص ومن يماثلهم؟

أليس هم الذين وقفوا بوجه النبيّ، ولم يدخلوا في الإسلام إلّامكرهين؟!

وكيف يُستأمن بنو مروان على ودائع النبوَّة، وقد لعن رسول اللَّه جدَّهم وأباهم؛ وطردهما من المدينة!!


1- طبقات ابن سعد 2: 389، البداية والنهاية 9: 341، تقييد العلم للخطيب البغداديّ: 107.
2- جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البرّ 1: 77.
3- حليه الاولياء 3: 363، البداية والنهاية 9: 345 كما في الرواية التاريخيه لعطوان: 107.

ص:190

أم كيف يجوز أخذُ الأحكام من معاوية، وهو الذي قال للمغيرة- وذلك عندما طلب منه ترك إيذاء بني هاشم لأنَّها أبقى لذكره!!-: ... هيهات! هيهات! أيّ ذكر أرجو بقاءه؟! مَلَك أخو تيم فعدل، وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره، إلّاإن يقول قائل: أبو بكر.

ثمَّ ملك أخو عديّ، فاجتهد، وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره، إلّاأن يقول قائل: عمر.

وأنَّ ابن أبي كبشة ليصاح به كلّ يوم خمس مرَّات: أشهد أنَّ محمَّداً رسول اللَّه، فأيّ عمل يبقى؟ وأيّ ذكر يدوم بعد هذا! لا أبا لك! لا واللَّه إلّادفناً دفناً «(1)».

أو قوله لمّا سمع المؤذّن يقول «أشهد أنَّ محمَّداً رسول اللَّه»: للَّه أبوك ياابن عبد اللَّه! لقد كنت عالي الهمَّة، ما رضيت لنفسك إلّاأن تقرن اسمك باسم ربِّ العالمين «(2)».

والقائل لمّا دخل الكوفة: إنّي واللَّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، انَّكم لتفعلون ذلك، وإنَّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني اللَّه ذلك وأنتم له كارهون «(3)».

وعن أبيه اكثر من ذلك «(4)» أم كيف تطمئنّ نفوسنا بمرويّاتهم وكيف نأتمنهم على كنوز النبوّة، مع ما عرفنا من مكرهم وحيلهم وموقفهم من رسول اللَّه، وبثّهم روح العصبيّة


1- الأخبار الموفقيّات للزبير بن بكار: 576- 577، مروج الذهب 3: 454، النصائح الكافية: 116، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 238.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10: 101.
3- مقاتل الطالبيين: 70، البداية والنهاية 8: 134، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 46، المعرفة والرجال للبسويّ 3: 318.
4- انظر الاستيعاب 4: 1679، الاغاني 6: 356، مروج الذهب 2: 343، تاريخ دمشق 6: 409، شرح النهج 2: 45 و 16: 136 وغيره.

ص:191

والتفرقة بين المسلمين؟

وهل يمكن لأحد أن يطمئنّ لفقه الحجّاج الذي يرجّح عبد الملك بن مروان على رسول اللَّه! ولا يرضى بزيارة قبر الرسول «(1)»!!

تساؤلات تطلب إجابة

لا ندري! كيف يجوز لنا أخذ الأحكام من هؤلاء الحكّام، الّذينصوّروا لنا رسول اللَّه بتلك الصورة؟!

أم كيف تطمئنَّ نفوسنا بالسنّة المدوّنة من قبلهم، مع ما عرفنا من موقف أقطاب الأمويين من رسول اللَّه (ص)!

ولماذا يُكرِه السلطان المحدِّثين على تدوين السنّة- (حتّى أكرهنا السلطان على ذلك)- وما يعني هذا الإكراه؟

ولماذا يستحي الزهريّ من أن يكتبها للسلطان ولا يكتبها للناس؟

هل الحكومة تريد من تدوينها للحديث تثبيت ما يعجبها ومحو ما يغيظها!!

وما الذي كان يؤنِّب الزهريّ، هل تبعيض الصفقة عند الحكّام وأخذهم بالبعض، وترك الآخر؛ أم هناك شي ء آخر؟

ومَن هو الحاكم المُكْرِه، هل هو أمويّ، أم مروانيّ .. وهل هناك فرق بين سياسة الحكومتين في هذا الشأن؟

ولماذا تتوالى الهدايا على الفقهاء المسالمين ممّن دخلوا في لعبة أُولئك الحكّام، في حين نراهم قد منعوا حجراً وأصحابه من العطاء؟!

وكيف نرى الزهريّ يصير حظيّاً عند هشام بعد أن كان لا يحبّ التعامل


1- انظر: البداية والنهاية 9: 137، وقريب منه في تهذيب ابن عساكر 4: 72، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 242، وانظر: الكامل في اللغة والأدب للمبرّد 1: 185، والنصائح الكافية، وأنساب الأشراف، وتهذيب ابن عساكر.

ص:192

معه «(1)»؟!

ولماذا يسمّى أبو هريرة راوية الإسلام الأوّل دون غيره من الصحابة؟!

ولماذا يهدي معاوية إلى عائشة حلقاً فيه جوهر بمائة ألف درهم دون غيرها من نساء النبيّ «(2)»؟!

أخرج أبو نعيم أنَّ معاوية أهدى لعائشة ثياباً وورقاً وأشياء توضع في أُسطوانها «(3)».

وأخرج ابن كثير عن عطاء، أنَّ معاوية بعث إلى عائشة وهي بمكّة بطوق قيمته مائة ألف، فقبلته «(4)».

وعن عروة: أنَّ معاوية بعث إلى عائشة بمائة ألف «(5)».

ونرى معاوية، وبكلّ جرأة يحصرالعطاء في مُحبّي عثمان فيقول للسائل: إني اشتريت من القوم دينهم، ووكلتك إلى دينك في عثمان «(6)»؟

وكيف يقبل ابن عمر هدية معاوية- مائة ألف درهم- .. وعندما تذكر له البيعة ليزيد؛ يقول: هذا ما أراد! إنَّ ديني إذَن عَلَيَّ رخيصٌ «(7)»!

وكيفصار أبو هريرة يلبس الخز «(8)» والساج المزرور بالديباج «(9)»، والكتّان الممشّق «(10)»، والحرير «(11)» بعد أن كان حافي القدمين، لا يستر جسمه إلّا


1- انظر: أضواء على السنة الحمدية: 260.
2- الذخائر والتحف للقاضي الرشيد بن الزبير: 11.
3- حلية الأولياء 2: 48.
4- البداية والنهاية 8: 139.
5- حلية الأولياء 2: 47.
6- الكامل في التاريخ 3: 468.
7- الطبقات الكبرى لابن سعد 4: 182.
8- الطبقات الكبرى 4: 333.
9- الطبقات الكبرى 4: 333.
10- الإصابة 4: 206، حلية الأولياء 1: 379، صحيح البخاريّ 9: 128.
11- حلية الأولياء 1: 384.

ص:193

إزار بال «(1)» وكان يقتله الجوع «(2)»؟!

ثمّ كيف به يتزوّج الأميرة بسرة بنت غزوان، ويصير سيّدها، بعد أن كان أجيراً عندها بمل ء بطنه «(3)»؟!

ولماذا يُبنى له قصر بالعقيق «(4)»، وتُقطع له الأراضي في «ذي الحليفة»، دون سواه من الرواة «(5)»؟!

ولماذا يصرّح أغلب المتعاملين مع معاوية .. بأنَّ: دينهم على خطر .. وغير المتعاملين يعلّلون عدم التعاون معه: حفاظاً على الدين؟!

ذكر ابن عبد البرّ: أنَّ معاوية بعث إلى عبد الرحمن بن أبي بكر- وهو من الناس في الوضوء ومن فقهاء الصحابه «(6)»- بعد أن أبى البيعة ليزيد بمائة ألف درهم .. فردّها إليه عبد الرحمن، وأبى أن يأخذها؛ وقال: أأبيع ديني بدنياي؟!

وما معنى قول عائشة لعبد اللَّه بن الزبير: ادفنّي معصواحبي ولا تدفنّي مع النبيّ في البيت فإنَّي أكره أن أزكى «(7)».

وكيف نرى موقف السيّدة يختلف عن موقف أخيها عبد الرحمن في قصّة


1- الطبقات الكبرى لابن سعد 4: 326- 327.
2- الطبقات الكبرى 4: 327 و 329، حلية الأولياء 1: 377، الإصابة 4: 206 و 207، صحيح البخاريّ 9: 133.
3- طبقات ابن سعد 4: 326، حلية الأولياء 1: 379 و 384، الإصابة 4: 209.
4- وفيه مات كما هو منصوص عليه في الإصابة 4: 210 والمعارف وغيرها.
5- انظر: كتب التاريخ والرجال لتقف على حقيقة الأمر.
6- انظر: اصحاب الفتيا من الصحابة لابن حزم تحقيق سيد كسروي: 57 ط 1 دارالكتب العلمية، بيروت.
7- صحيح البخاريّ 9: 128.

ص:194

مُرّة بن أبي عثمان، الذي طلب من عبد الرحمن أن يكتب إلى زياد برسالة فكتب: إلى زياد بن أبيه: أمّا بعد ....، فخاف مُرّة أن يذهب بالكتاب، فأتى عائشة، فكتبت له: من عائشة أُمّ المؤمنين، إلى زياد بن أبي سفيان، فلمّا جاء بالكتاب، قال له: إذا كان غداً فجئني بكتابك.

فجمع الناس، فقال: يا غلام إقرأه، فقرأه: من عائشة أُمّ المؤمنين إلى زياد ابن أبي سفيان، قال: فقضى له حاجته «(1)»!

وفي معجم البلدان، مادة (نهر مرّة): ثمَّ أقطعه مائة جريب على نهر الأبلّة وأمر أن يحفر لها نهر فنسب إليه «(2)».

وجاء في شرح النهج: أنَّها: لم تأت إلى بني هاشم لتعزّيهم بوفاة فاطمة! بل نقل لعليّ عنها كلمات تدلّ على فرحها «(3)»!

وذكر أبو الفرج الأصفهانيّ في مقاتل الطالبيّين: أنَّ عائشة سجدت شكراً للَّه لمّا سمعت بمقتل عليّ بن أبي طالب «(4)».

وروت عن النبي أنه قال: مَن أراد أن ينظر إلى رجلين من أهل النار، فلينظر إلى هذين، فنظرت عائشة .. فإذا بعليّ والعبّاس قد أقبلا «(5)»!

فهل يصحّ نقل هذه الأخبار عنه (ص)؟

أوَلَم تناقض هذه الأخبار مع المتواتر المشهور في فضل عليّ بن أبي طالب؟

وهل من اللائق أن يقال لعليّ- وهو أوّل مَن أسلم، وحارب المشركين، وبات على فراش النبيّ، وبقى حتّى آخر لحظة معه حتّى واراه التراب، ودافع عن سنّته- إنّه من أهل النار؟!

وهل هذا هو جزاء مَن جاهد في سبيل اللَّه، وثبت على خطّ السنّة النبويّة المباركة، ودافع عن الرسالة ..؟!

لماذا لا يكون من أهل النار في رواية عائشة: معاوية، ومروان، وعبد اللَّه بن أبي سرح، والوليد بن عقبة، وغيرهم من الذين ورد اللعن فيهم؟!


1- الطبقات الكبرى 7: 99- 100.
2- معجم البلدان 5: 323.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 198.
4- مقاتل الطالبيّين: 43.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 64.

ص:195

ولماذا نراها لا تصرّح باسم عليّ؛ وتقول: مشى بين رجلين «(1)» في حديث آخر؟!

فهل قولها ذلك جاء من جرّاء حقدها وعدائها لعليّ وأهل بيته! كماصرّح به الإمام عليّ أم غير ذلك، فقال الإمام: «وأمّا فلانة، فأدركها رأي النساء، وضغن غلا فيصدرها كمرجل القين، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليَّ لم تفعل» «(2)».

عطفاً على ما سبق

ولنعد إلى ما طرحناه سابقاً عن الحكّام ودورهم في تدوين السنّة الشريفة، وسبب تصدّيهم للتدوين والإفتاء، على الرغم من وجود كبار التابعين وأعاظم الفقهاء والمجتهدين! ..

وماذا تعني الإحالة عليهم، وأخذ الأحكام عنهم، وهل حقّاً أنَّ ما يقوله ابن عمر هو قول اللَّه ورسوله ولا يمكن أن يرد فيه الخطأ؟

وكيفصارت السنّة تدوّن عن إكراه! ولزوم أخذ الناس بها للصعب والذلول! فقد جاء في شرح مسلم للنوويّ: أنّ بشير العدويّ جاء إلى ابن عبّاس فجعل يحدّث ويقول: قال رسول اللَّه، قال رسول اللَّه، وابن عبّاس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه.

فقال: يا بن عبّاس، مالي لا أراك تسمع لحديثي، أُحدّثك عن رسول اللَّه ولا تسمع.

قال ابن عبّاس: انّا كنّا مرّة اذا سمعنا رجلًا يقول قال رسول اللَّه ابتدرتْه


1- انظر: صحيح البخاريّ 1: 61، وكذا تاريخ الطبريّ.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 189، وهو في كلام له خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم.

ص:196

أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلمّا ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلّاما نعرف «(1)».

وقيل: إنّ كتاباً فيه قضاء عليّ أُتي إلى ابن عبّاس فمحاه إلّاقدراً «(2)».

وجاء في طبقات الفقهاء، عن سعيد بن جبير؛ قال: سألت عبد اللَّه بن عمر عن الإيلاء؟

قال: أتريد أن تقول: قال ابن عمر، قال ابن عمر؟

قلت: نعم؛ ونرضى بقولك.

فقال ابن عمر: يقول في ذلك أُولو الأمر، بل يقول في ذلك اللَّه ورسوله.

ولا ندري كيفصارتصوافي الأُمراء- عند فقدان الحكم في الكتاب والسنّة- حجّة شرعيّة عند بعض المسلمين .. فهل هي حقّاً حجّة؟

جاء في أعلام الموقّعين، عن المسيّب بن رافع؛ قال:

كان إذا جاء الشي ء في القضاء وليس في الكتاب ولا في السنّة فيدفع إلى الأُمراء، فيجمع له أهل العلم، فإذا اجتمع عليه رأيهم فهو الحقّ «(3)».

ولماذا نرى ابن عمر يَدُلّ الناس على التمسّك بفقه عبد الملك بن مروان من بعده؛ إذ قيل له: مَن نسأل بعدكم؟

قال: إنَّ لمروان ابناً فقيهاً فسلوه «(4)».

فمَن هو مروان؟!

أَلَم يكن ذلك الطريد الذي أبعده رسول اللَّه مع أبيه إلى خارج المدينة .. ثمّصار عميد الأُسرة الحاكمة بعد يزيد؟!


1- صحيح مسلم بشرح النوويّ 1: 81 والمسترشد للطبري: 174.
2- صحيح مسلم بشرح النوويّ 1: 83.
3- أعلام الموقّعين 1: 84، وقد أخرجه البخاريّ في صحيحه وابن سعد في طبقاته أيضاً.
4- تهذيب التهذيب 6: 422، تهذيب الكمال 18: 410، تاريخ بغداد 10: 389، المنتظم 6: 39.

ص:197

أَولَم يقل أبو سعيد الخدري- عندما اعترض عليه في تقديمه الخطبة على الصلاة: غيّرتم واللَّه «(1)»؟!

وهل يمكن تصديق قول جرير بن حازم: سمعت نافعاً يقول: لقد رأيت المدينة وما بها أشدّ تشميراً، ولا أفقه، ولا أقرأ لكتاب اللَّه من عبد الملك «(2)»!

مع علمنا بانَّ عبد الملك هذا هو ابن مروان بن الحكم- طريد رسول اللَّه- وقد ولد من أبوين أمويين أبوه: مروان بن الحكم بن العاصّ (طريد رسول اللَّه). وأُمّه: عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن العاصّ، الذي جدع أنف حمزة عمّ النبيّ يوم أُحد «(3)»، والذي أمر رسول اللَّه بضرب عنقه. ثمَّ بأيّ منطق يمكن أن يُعَدّ عبد الملك أفقه وأقرأ الناس، مع علمنا أنّ المدينة لم تخلو يوماً من الفقهاء والعلماء، فهل كانت الساحة خالية حقّاً حتى يتصدّر الحاكم ريادة الفقه والقراءة، لأنَّه الأفقه والأقرأ؟!

ولماذا يبكي أنس، عندما كان في دمشق؟!

قال الزهريّ: دخلت على أنس بن مالك بدمشق، وهو يبكي .. فقلت: ما يُبكيك؟!

قال: لا أعرف شيئاً ممّا أدركتُ إلّاهذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيّعت «(4)»!!

وأخرج البخاريّ، عن غيلان؛ أنَّه قال: قال أنس: ما أعرف شيئاً ممّا كان على عهد النبيّ!

قيل: الصلاة!


1- صحيح البخاري 2: 22 باب الخروج الى المصلى بغير منبر.
2- تهذيب التهذيب 6: 422، تهذيب الكمال 18: 410: تاريخ بغداد 10: 389، المنتظم: 6: 39.
3- انظر: البداية والنهاية 9: 67.
4- البداية والنهاية 9: 94.

ص:198

قال: أليس ضيّعتم ما ضيّعتم فيها «(1)»!

ولماذا نرى العبادة في هذا العهد جسداً بلا روح، وقالباً بلا محتوى؟!

فقد أخرج البخاريّ، عن الأعمش؛ قال: سمعت سالماً قال: سمعت أُمّ الدرداء تقول: دخل عَلَيَّ أبو الدرداء، وهو مغضب؛ قلت: ما أغضبك؟

فقال: واللَّه! ما أعرف من أُمَّة محمَّد (ص) إلّاأنَّهم يصلّون جميعاً «(2)».

وهل تطمئنّ نفوسنا بعد هذا إلى أحاديث أمثال هؤلاء الحكّام واجتهادات الحَجّاج وفتاوى عبد الملك و .. بعد أن عرفنا مواقفهم من الشريعة؟

عجباً لدوران الزمان! .. إذ كيفصار هؤلاء حكّاماً حتّى يتصدّروا للقضاء والإفتاء، بعد أن جذبوا إليهم من وعّاظ السلاطين ذلك العدد الذي تمكّنوا من خلاله من أن يقولوا كلّ ما يريدون!!

قال سعيد بن جبير: كان رجاء بن حيوة يعدّ من أفقه فقهاء الشام، ولكن كنت إذا حرّكته، وجدته شاميّاً يقول: قضى عبد الملك بن مروان بكذا وكذا «(3)».

وأحسبك- بعد هذا- قد عرفت عبد الملك، وعرفت موقفه من الشريعة.

إذا كان هذا هو حال الحكّام، وهذه هي حال الشريعة .. فكيف بأُولئك الناس في وضوئهم، بعد أن أحكم الحاكم قبضته، وأعلن عن منهجه المخالف للنبيّ (ص) وسنّته؟!

وتراه يؤكّد لزوم الأخذ بفقه عثمان. قال عبد الملك فيماقال: ... فالزموا ما في مصحفكم الذي حملكم عليه الإمام المظلوم، وعليكم بالفرائض التي جمعكم عليها إمامكم المظلوم رحمه اللَّه، فإنّه قد استشار في ذلك زيد بن ثابت، ونعم المشير كان للإسلام رحمه اللَّه، فأحكما ما أحكما، واستقصيا ما شذّ عنهما «(4)».


1- صحيح البخاريّ 1: 140.
2- صحيح البخاريّ 1: 166 باب فضل صلاة الفجر في جماعة، فتح الباريّ 2: 109.
3- انظر: ترجمة رجاء بن حيوة في طبقات الفقهاء وتهذيب الكمال 9: 154.
4- البداية والنهاية 9: 68.

ص:199

فهل يمكن الاطمئنان بمرويّات الحكّام في الوضوء والحال هذه؟!

وماذا يعني إكراه الزهريّ على تدوين السنّة الشريفة؟ ولماذا يستحي أن يكتبها للسلطان، ولا يكتبها للناس؟

وما معنى كتاب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: عليكم بابن شهاب [الزهريّ] فإنّكم لا تجدون أعلم بالسنّة الماضية منه!

وكيف يستتر بعد هذا معنى ومقصود كلام الزهريّ: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل!!

وقول عطاء- فقيه الحكومة-: كانت عائشة أفقه الناس وأحسنهم رأياً في العامّة!!

وهل يصحّ قول ابن عمر: لا أُقاتل في الفتنة، وأُصلّي وراء مَن غلب «(1)»؟

فما معنى قوله تعالى: «فقاتلوا التي تبغي حتّى تفي ء إلى أمر اللَّه» «(2)»

إذَاً؟

وهل أنَّ الشرعيّة للأقوى من ضمن مفاهيم الشريعة الإلهيّة، حتّى يستمدّوا من شريعة الغاب رؤاهم؟!

ولماذا تصدر أمثال هذه الرؤى عن: ابن عمر، وابي هريرة، وأشباههما؟

وكيف يجرؤ البعض أن ينسب إلى ابن عمر الإقلال في الحديث؟! في حين نراه يروي أكثر من 2000 حديثاً، فهل هذا هو المقلّ، أم المُقِلّ أُمّ سلمة (زوجة الرسول) وأبو ذرّ وعمّار وغيرهم من المخالفين للحكّام؟!

ولا ندري أنصدّق الواقع، أم نصدّق ما قاله الشعبيّ: جالست ابن عمر سنة


1- طبقات ابن سعد 4: 149.
2- الحجرات: 9.

ص:200

فما سمعته يحدّث عن رسول اللَّه «(1)»؟

وكيف نصدّق ما نقله ابن سعد والذهبيّ عن الإمام الباقر وأنّه قال في ابن عمر إنّه أحذر أصحاب النبيّ إذا سمع من رسول اللَّه شيئاً ألّا يزيد ولا ينقص «(2)» وأقوال عائشة والنصوص الأُخرى تكذّب هذا الخبر!

وكيفصار أبو هريرة من الأدوات الفاعلة في المخطّط الامويّ، حتّى أنَّه ليعرف متى يأتي قطعان الشام، ويدعو إلى إطاعتهم وعدم سبّ الظالمين؟!!

قال العجّاج الراجز: قال لي أبو هريرة: من أين أنت؟

قلت: من أهل العراق.

قال: يوشك أن يأتيك بقطعان الشام [أي خدمهم وعمّال الزكاة] فيأخذواصدقتك، فإذا أتوك فتلقّهم بها. فإذا دخلوها، فكن في أقاصيها، وخلِّ عنهم عنها؛ وإيّاك أن تشتمهم، فإنَّك إن سببتهم ذهب أجرك، وأخذواصدقتك، وإنصبرت .. جاءت في ميزان عملك يوم القيامة «(3)».

وفي كتاب الأموال لأبي عبيد: انّ رجلًا جاء إلى أبي هريرة فقال: أأُخبّئُ منهم كريمة مالي؟

قال: لا، إذا أتوكم فلا تعصوهم، وإذا أدبروا فلا تسبّوهم، فتكون عاصياً خَفَّفَ عن ظالم، ولكن قل: هذا مالي، وهذا الحقّ، فخذ الحقّ وذر الباطل، فإن أخذه فذلك، وإن تعداه إلى غيره جمعا لك في الميزان يوم القيامة «(4)».

نعم؛ قد طرح الحكّام هذه الرؤى لئلا يقف أحد أمام تصرّفاتهم، لترك ما للَّه للَّه وما لقيصر لقيصر، ولتخدير الأُمّة، وترويضها على الابتعاد عن التدخّل في أجواء الحكم والحاكم، والاكتفاء بالخروج إلى الصلاة أيّام الجُمع، لتجريدهم من روح النصيحة، وجعلهم أُناساً بلا مسؤوليّة؛ حتّى لا يقف


1- الإصابة 2: 349 عن مجاهد.
2- طبقات ابن سعد 4: 144، سير أعلام النبلاء 3: 213.
3- الشعر والشعراء لابن قتيبة: 392.
4- كتاب الأموال: 412.

ص:201

أحدهم أمام نهبهم لبيت مال المسلمين، ولكي يطمئنَّ الحكّام ويصفو لهم الجوّ في تعدّيهم حدود اللَّه وهم منغمسون في حياة اللهو والمجون في لياليهم الحمراء بين الغواني والقيان في قصورهم الباذخة.

والأدهى من كلِّ ما تقدّم أن تصير ميتةُ الخارج على أمثال هؤلاء- في حساب دينهم- ميتة جاهليّة!!

ومهما يكن فإنّ هذا الموضوع متشعّب طويل قد ألجأنا منهج البحث في الإشارة إلى شي منه في هذا السياق لتوضيح طرق التمويه الحكوميّة، حتّى يقف المطالع على الوجه الكريه للأمويين، وكيف كانوا يتلاعبون بالأحكام، ويحرِّفون الفرائض عن جهات شرائعها، فتصير الأحكام عندهم تابعة للأهواء؛ حين تركوا السنّة من بغض عليّ! فيقرّبون مناوئي عليّ، ويجعلونهم مراجع للحديث والإفتاء ولزوم الجمود على آرائهم وعدم التخطّي إلى غيرها!!

فترى معاوية يبذل أربعمائة ألف درهم لسمرة بن جندب لقاء نقله ل (رواية) في أنَّ الآية: «ومِنَ الناس مَن يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللَّه» قد نزلت في ابن ملجم «(1)» قاتل عليّ!

قال المدائني عن عصر معاوية: وظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء المراؤون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا من مجلسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنَّها حقّ، ولو علموا أنَّها باطلة لما رووها ولما تديّنوا بها «(2)».


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 73.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 59.

ص:202

وبعد هذا يتّضح لنا كلام جعفر بن محمَّد الصادق بكلِّ دقة وجلاء؛ حين قال: «أتدري لِمَ أُمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامّة؟

قلت: لا!

فقال: إنَّ عليّاً لم يكن يدين اللَّه إلّا خالَفَتْه عليه الأُمَّة إلى غيره؛ إرادة لإبطال أمره. وكانوا يسألون أمير المؤمنين عن الشي ء لا يعلمونه، فإذا أفتاهم جعلوا له ضدَّاً من عندهم ليلبسوا على الناس «(1)».

خلاصة وآراء

ونلخص ما مرَّ في نقاطٍ ثلاث:

الأُولى: إنَّ الحكومة الأمويّة تبنَّت تدوين السنّةالنبويّة، وقد اتّضح لك حالها وكيفيّة تحريفها للمفاهيم، وإبدالها بأُخرى .. وتبيّن لك أنّ ذلك في العهد المرواني، وهو من أشدِّ الأزمنة وطأةً على الشريعة، وكان الفقه يؤخذ قبل ذلك من أمثال ابن عمر وعائشة وأبي هريرة! وأنَّ ابن عمر قد أرشد المسلمين للأخذ بفقه عبد الملك بن مروان من بعده!!

الثانية: إنَّ تدوين السنّة النبويّة جاء بإكراهٍ من السلطان، وهذا ما يبرهن على أنَّ للحكومة فيه مآرب وأهدافاً سياسيّة، أشرنا إلى بعضها، ابتداءً بتدوين ما ترتضيه وحذف ما لا ترتضيه، وانتهاءً بتأصيل أُصول هي بعيدة عن الشريعة وواقع النظرة الإنسانيّة، وعرفنا أنَّ فقه عليّ هو ممّا لا ترتضيه الحكّام ولا ينسجمون وإيّاه.


1- راجع بحث التعادل والتراجيح من أُصول الإماميّة.

ص:203

الثالثة: إنَّ فكرة التدوين من قبل الحكّام نشأت بعد ثوران الرأي العام ضدَّ الأمويين بمقتل الحسين لما نتج عنها من انشداد المسلمين إلى أهل البيت وإصرارهم على ضرورة العمل بالسنّة؛ بالإضافة إلى وقوف بعض الصحابة أو التابعين أمام الحكّام التزاماً بالسيرة العمليّة لرسول اللَّه، ممّا حدى بالحكومة أن تفكّر بجدّيّة في مسألة تبنِّي تدوين السنّة، لمحاصرة ما عسى أن يستجدّ أمامهم من مشكلات في المستقبل.

وقد قلنا سابقاً إنَّ اتّجاه الناس كان هو التحديث عن رسول اللَّه، لقول عثمان: (إنَّ ناساً يتحدّثون عن رسول اللَّه)؛ أمَّا نهج الخليفة والحكومة، فقد كان الأخذ بالرأي ومعارضة الذين يتحدّثون وفق المدوّنات!

وكان النهجان على تضادّ؛ فالحكّام لا يسمحون لهؤلاء في التحدّث بكلام الرسول، لأنَّ فيه توعية الناس ووقوفهم على الاجتهادات الخاطئة، أمّا أُولئك كانوا يحدّثون الناس رغم كلّ الضغوط والملابسات!

فقد جاء في سنن الدارميّ:

إنَّ رجلًا جاء إلى أبي ذرّ؛ وقال له: ألم تُنْهَ عن الفتيا؟

فرفع رأسه؛ فقال: أرقيب [أنت] عَلَيَّ؟ .. لو وضعتم الصمصامة على هذه- وأشار إلى قفاه- ثمَّ ظننت أنّي أنفذ كلمة سمعتها من رسول اللَّه (ص) قبل أن تجيزوه عَلَيَّ، لأنفذتها «(1)».

وقال معاوية: ما بال رجال يتحدّثون عن رسول اللَّه (ص) أحاديث قد كنّا نشهده، ونصحبه فلم نسمعها منه .. فقام عبادة بن الصامت وعارضه «(2)».

لقد كان معاوية يريد التشكيك بحجّيّة أحاديث هؤلاء الرجال- ليبقى هذا التشكيك على مدى الأجيال- إلّاأنَّ موقف عبادة بن الصامت ومعارضته إيّاه قد ذهبت بجهود معاوية سدى!

تبيّن وفق ما قلناه أنّ الحكّام لمَّا رأوا منافسيهم يتسلَّحون بسلاح الحديث،


1- سنن الدارميّ 1: 136، صحيح البخاريّ 1: 27، حجّيّة السنّة: 3- 464.
2- صحيح مسلم 3: 1210/ 80 باب الصرف وبيع الذهب من كتاب المساقاة.

ص:204

ناوروهم بالدخول إليهم من تلك الزاوية ومن ذلك المنفذ حتى وصل الامر بالزهري المكره على التروي فان يتول: حضور المجلس بلا نسخه ذل، وكان يامر بنشر الكتب «(1)» نعم ان السياسة جدّت لتطبيق ما رسم بحذافيره، وقد نجحوا في ذلك إلى حدٍّ بعيد ..! فأدخلوا في الحديث ما لا يحصى من الموضوعات؛ وقرَّبوا القصَّاصين ليرووا ما يحلوا لهم.

فقد ذكر ابن حجر: أنَّ معاوية بن أبي سفيان كلَّف كعب الأحبار لِأن يقصَّ بالشام.

قال الشيخ أبو جعفر الاسكافيّ: إنَّ معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليّ تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل على ذلك جعلًا يُرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه، منهم: أبو هريرة، وعمرو بن العاصّ والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين: عروة بن الزبير «(2)».

وقال ابن عرفة، المعروف بنفطويه: إنَّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني أُميّة، تقرّباً إليهم بما يظنّون أنَّهم يرغمون به أُنوف بني هاشم «(3)».

وقال الإمام محمَّد عبدة:

إنَّ عموم البلوى بالأكاذيب حقّ على الناس في دولة الأمويين! فكثر الناقلون وقلَّ الصادقون، وامتنع كثير من أجلّة الصحابة عن الحديث إلّالمن يثقون بحفظه «(4)».

وقال الأُستاذ أحمد أمين:

... ومن الغريب، أنَّنا لو اتّخذنا رسماً بيانيّاً للحديث لكان شكل هرم، طرفه


1- انظر حليه الاولياء 3: 366، البداية والنهاية 9: 345.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 63، المعرفة والرجال للبسيوي ت 277 ه ترجمة أبي هريرة.
3- النصائح الكافية: 89، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 46.
4- شيخ المضيرة: 202، عن تاريخ الإمام محمَّد عبده 2: 347.

ص:205

المدبَّب هو عهد الرسول (ص)، ثمَّ يأخذ في السعة على مرِّ الزمان، حتّى نصل إلى القاعدة، فهي أبعد ما تكون عن عهد الرسول، مع أنَّ المعقول كان العكس، فصحابة الرسول أعرف الناس بحديثه، ثمَّ يقلّ الحديث بموت بعضهم مع عدم الراوي عنه وهكذا.

ولكنَّا نرى أنَّ أحاديث العهد الأمويّ أكثر من أحاديث عهد الخلفاء الراشدين، وأحاديث العصر العبّاسيّ أكثر من أحاديث العهد الأمويّ «(1)».

ثمَّ يعلّل ذلك بسبب نشاط حركة الهجرة في طلب الحديث، ثمَّ يضيف إليه عامل سعي اليهود والنصارى في محاولة مسخ الشريعة، متناسياً دور السلطة وأهدافها في إبعاد الخطّ الإسلاميّ وتحريف مجراه.

والذي يؤسفنا حقَّاً أن نرى كتَّاباً قد وصلوا إلى الحقيقة، لكنَّهم يعزون الإسرائيليّات إلى كيد اليهود، ودورهم في تحريف الإسلام ولم يذكروا الأيدي الأمويّة!

وهنا نتساءل:

هل يقوى اليهود- الذين كانوا يعطون الجزية، وهمصاغرون- على ممارسة دورهم الهدّام بعيداً عن أيّ دعم من قبل السلطة الحاكمة؟

وكيف نرى ابن حجر قد حصر الوضع في الحديث في: الخوارج والروافض وغيرهم من المبتدعة!! .. حيث قال في مقدمة فتح الباري: ثمَّ حدث في أواخر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار، لمّا انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والرافضة «(2)»!

فهل يمكن للروافض أن يضعوا الأحاديث وينشروها بين المسلمين، في الوقت الذي كانوا فيه يعانون من الاضطهاد والتشريد والتقتيل؟!


1- ضحى الإسلام 2: 128- 129.
2- فتح الباري المقدّمة: 4.

ص:206

وهل إنَّ بدايات وضع الحديث قد جاءت على يد هؤلاء حقّاً؟!

وكيف يتهجّم ابن حجر على طوائف من المسلمين، ويترك الكلام عن تأثيرات الحكّام في الأحكام الشرعيّة ورغبتهم الجامحة في وضع الحديث، خصوصاً في العهد العبّاسيّ؟!

لا ندري كيف نسب ابن حجر الوضع إلى الخوارج والرافضة- مع علمنا بأنَّهم من المخالفين للحكّام دوماً- ولم يَعْزُ ذلك إلى بني أُميّة الذين أسلموا تحت أسنّة الحِراب، وما انفكّوا عن محاربة الإسلام حتّى آخر لحظة قبل دخولهم فيه مكرهين!!

وهل بإمكان الرافضة أن يضعوا الحديث، فيتمكّنوا من تفريق وحدة الأُمَّة، بكلِّ تلك السعة وذلك الشمول، وهم المضطهدون الملاحقون من قبل عيون الحاكم المتسلط على الرقاب بقوّة السلاح، وفي عصر التدوين الحكوميّ بالذات؟!

وإذاكان الرافضة يرفضون فقه الحاكم القائل: (لوقال برأسه كذا، قلنا بسيفنا كذا) .. فهل من المعقول أن يسمح ذلك الحاكم بانتشار فقه وحديث رافضيهم؟!

نعم؛ إنّ الرافضة ما كانوا يقوون على مواجهة شدّة هيجان تيّار الحكومة جهرة، وما كانوا يمارسون عباداتهم على سنّة النبيّ (ص) إلّاخفية .. وإليك هذا الخبر لتزداد وضوحاً:

العبادة عند الرافضة!

أخرج أحمد وبسنده إلى أبي مالك الأشعريّ؛ إنَّه قال لقومه:

اجتمعوا أُصلّي بكمصلاة رسول اللَّه؛ فلمَّا اجتمعوا

قال: هل فيكم أحد غيركم؟

قالوا: لا؛ إلّاابن أُخت لنا.

ص:207

قال: ابن أُخت القوم منهم.

فدعا بجفنة فيها ماء فتوضّأ، ومضمض واستنشق، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً «(1)»، ومسح رأسه وظهر قدميه.

ثمَّصلّى بهم، فكبَّر ثنتين وعشرين تكبيرة «(2)».

فأبو مالك الأشعريّ كان يريد تعليم قومه وضوء وصلاة رسول اللَّه؛ لكنَّه كان يتخوَّف من الحكّام وبطشهم فتساءل ليطمئنّ «هل فيكم أحد غيركم؟»، وهذا دليل على أنَّ المسلمين لم يكونوا مختارين في ممارسة عباداتهم، بل كانوا يجبرون على إتيان ما يريده الحكّام، وأنَّ المتخلِّف في أخذ الأحكام عنهم يُعدُّ في قاموس هؤلاء (رافضيّاً) من الرافضة!

أعلام المسلكين في العهد الأمويّ

توصلنا فيمامضى إلى أنَّ هناك من كانوا يمثّلون الامتداد لنهج الناس- الذين يتحدَّثون عن رسول اللَّه (ص)- في هذا العهد؛ وهم:

1- عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق.

2- عبد اللَّه بن عبّاس (حبر الأُمَّة).

3- أنس بن مالك (خادم الرسول).

وأمَّا الذين مثَّلوا الامتداد لنهج الخليفة عثمان وناصروا مسلك الحكومة؛ فهم:

1- عائشة بنت أبي بكر.


1- وسنوضّح كيفيّة الغسل الثالث عند مدرسة المسح وأتباع السنّة النبويّة في الفصل الأوّل من هذه الدراسة.
2- مسند أحمد 5: 342 ومن وقاحة المتعصبة واتباع السلطان أنهم غيّروا هذا النص في المصنف لعبد الرزاق 2: 63 وجعلوا الوضوء فيه غسلي، لكن الحقيقة لا تخفى على الباحث، لان الوضوء الغسلي لا موجب للخوف فيه!!

ص:208

2- الرُّبَيِّع بنت معوّذ بن عفراء.

3- الحجّاج بن يوسف الثقفيّ.

علماً، بأنَّ عائشة- كما أسلفنا- نراها تدعو إلى لزوم غسل الرجلين في هذا العهد رغم مخالفتها لرأي عثمان؛ لا لأنَّها رأت رسول اللَّه فعل ذلك، بل لأنَّه قال: (ويلٌ للأعقاب من النار!) ... فإنَّها لو كانت تريد دعوة أخيها عبد الرحمن إلى غسل رجليه، للزمها أن تستدلّ بفعل النبيّ (ص) لا بقوله، إذ يتعسّر الاستدلال بهذه الجملة على المطلوب.

ولنا في الفصل الثاني من هذه الدراسة «الوضوء في الكتاب واللغة» وقفة مع أحاديث (أسبغوا الوضوء) و (أحسنوا الوضوء) و (ويل للأعقاب)، ومدى دلالتها على لزوم غسل الرجلين وتثليث الغسلات وسندرس قيمة التحسينيات التي عدّت من اقسام المصالح، وكيفيّة استغلال الحكّام هذه المفاهيم لترسيخ وضوء الخليفة الثالث.

ومن المؤسف أن نرى الفقهاء قد عَدُّوا الأحاديث السابقة دليلًا ثالثاً- بعد الكتاب والسنّة- على لزوم غسل الرجلين؛ وهو ممّا يعضد كون المدرسة العثمانية في الوضوء قد أخذت طابعاً فقهيّاً، وأنّ العلماء جاؤوا ليدعموها بالدليل وينفوا الضعيف عنها بالتأويل، بغية إشاعتها، ومحاولة لتطبيع العامّة عليها.

فاتّضح ولحدِّ الآن أنَّ الناس في الوضوء هم:

1- عليّ بن أبي طالب.

2- عبد اللَّه بن عبّاس.

3- طلحة بن عبيد اللَّه.

4- الزبير بن العوّام.

5- سعد بن أبي وقّاص.

ص:209

6- عبد اللَّه بن عمر (قبل مقتل عثمان).

7- عائشة بنت أبي بكر (قبل مقتل عثمان).

8- محمَّد بن أبي بكر (كما في كتاب عليّ إليه لمَّا ولّاه مصر).

9- عبد الرحمن بن أبي بكر.

10- أنس بن مالك.

مع علمنا أنَّ المروي عن ابن عمر كان هو المسح، فقد أخرج الطحاويّ بسنده، عن نافع، عن ابن عمر، إنَّه كان إذا توضّأ ونعلاه في قدميه مسح ظهور قدميه بيديه؛ ويقول: كان رسول اللَّه يصنع هكذا «(1)»!

إلّا أنَّه غيَّر موقفه في العهد الأمويّ، ونُقلت عنه أحاديث في غسله الثلاثيّ للأعضاء ولا ننفي أن تكون تلك الأقوال المنسوبة إليه قد وضعت من قبل الأمويين، وأنّه لم يقل بها أصلًا مع تأكيدنا لتعاونه مع الدولة.

وعليه .. فإنَّ وضوء الناس في العهد الأمويّ لم يكن ضعيفاً أمام أنصار الخليفة والحكومة، لكنَّه أخذ في الضعف شيئاً فشيئاً حتّى انحصر ببعض التابعين وأهل بيت رسول اللَّه، إذ إنَّ الحكومة بما لها من قوّة إعلاميّة وقدرة تنفيذيّة كانت وراء ترسيخ فقه عثمان. وقد مرَّ عليك أنَّ عبد الرحمن بن أبي بكر وأخاه محمَّداً، وكذا ابن عمر كان وضوؤهم هو المسح، وذلك يدلِّل ويؤكِّد على أنَّ سيرة المسلمين كانت هي المسح منذ عهد النبيّ الأكرم (ص) حتّى عهد الشيخين «(2)»، لما اتّضح لك من قبل من عدم وجود الخلاف في عهدهما، وترى الآن فعل أبنائهما في الوضوء.

وإنَّ مواقف الصحابة وأبنائهم من أمثال أنس بن مالك وعبد اللَّه بن عبّاس وعبد الرحمن بن أبي بكر، كانت ذات بُعد توجيهي، وهي تومئ إلى ديمومة


1- شرح معاني الآثار 1: 35/ 160.
2- أمّا ما نسب إلى الخليفة عمر بن الخطاب من أنَّه كان يغسل رجليه، فهو ممّا نبحثه في الجزء الثاني من هذه الدراسة إن شاء اللَّه تعالى.

ص:210

خطِّ السنّة النبويّة، رغم مخالفة الحكّام له.

لقد أوصلنا البحث إذاً إلى أنَّ البعض من العشرة المبشّرة، وزوجات النبيّ، وخدمه، وبعض كبار الصحابة من أمثال ابن عبّاس وعليّ بن أبي طالب و ...

قد نقلوا لنا الوضوء الثنائيّ المسحيّ وعدّوه سنّة نبويّة يجب العمل بها.

بهذا .. فقد وقفنا على بعض خلفيّات المسألة، واتّضح لنا جهل مَن يقول:

هذا هو وضوء الرافضة أو الشيعة فقط، بل عرفت بأنَّه وضوء رسول اللَّه، ووضوء كبار الصحابة.

لماذا إذَن؟!

بعد هذا نتساءل: لماذا لا نرى قائلًا بالمسح في المذاهب الأربعة اليوم رغم مشروعيّته منذ زمن الرسول إلى هذا العهد ورغم تناقل الفقهاء والمحدّثين ذلك في كتبهم؟ وكيفصار المسلمون لا يقبلون ذلك الوضوء وينظرون إليه بارتياب واستنكار؟! ولماذا يتّهم القائل بالمسح بالزندقة والابتداع والخروج من الدين، رغم ثبوته والتزام كبار الصحابة به وفعلهم له؟!

وكيف يقول ابن كثير: ومَن أوجب من الشيعة مسحها كما يمسح الخف، فقد ضلَّ وأضلَّ «(1)»، في حين نراه بعد أسطر من كلامه هذا ينقل عن جملة من الصحابة- يزيدون على العشرة- أنّهم قد كانوا يقولون بالمسح!

وكذا الحال بالنسبة للشهاب الخفاجيّ في قوله: ومن أهل البدع، مَن جوَّز المسح على الأرجل بدون الخف، مستدلًا بظاهر الآية «(2)».

وقال الآلوسيّ: لا يخفى أنَّ بحث الغسل والمسح، ممَّا كثر فيه الخصام، وطالما زلَّت الأقدام ...


1- تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2: 45.
2- حاشية الشهاب على البيضاويّ 3: 221.

ص:211

إلى أن يقول: ... فلنبسط الكلام في تحقيق ذلك، رغماً لأُنوف الشيعة السالكين من كلِّ سبل حالك «(1)».

كيف يتحامل هؤلاء على الشيعة، والصحاح المعروفة مليئة بما يدلُّ على مشروعيّة المسح؟!

وهل إنَّ أتباع رأي فقهي لا يرتضيه الآخرون، يُعدُّ في قاموس ابن كثير والخفاجيّ وأضرابهما ضلالة؟

أَلَم يكن معنى الضلالة، هو الابتعاد عن الطريق، وهل إنَّ الشيعة الإماميّة قد ابتعدوا حقّاً عن وضوء رسول اللَّه (ص)، أم إنَّهم قد ثبتوا عليه رغم سياسات الحكّام الضاغطة؟

وهل أنَّ المسح على الأرجل هو وضوء المبتدعة، أم إنّها سنّة رسول اللَّه وما نزل به القرآن؟

وهل أنَّ أُولئك الصحابة- الذين رووا المسح- كذبوا على رسول اللَّه، أم إنَّه (ص) فعل ما يوقع الناس في الالتباس- والعياذ باللَّه- أم إنّ السياسة بوسائلها الإعلاميّة هي التي شوهت هذه السنّة خلال العصور، لدواعٍ لها؟!

ألَم يكن وضوء الشيعة هو وضوء الناس الّذين مثَّلوا الامتداد لوضوء النبيّ الأكرم (ص)، بعد أن عارضوا عثمان، وتمسّكوا بوضوء رسول اللَّه (ص) وكانوا يتحدّثون عنه؟

أوَلَم تكن معارضتهم لعثمان، من أجل الثبات على السنّة النبويّة المباركة وتخطئتهم لاجتهاداته؟

فكيف يصحّ إذاً أن يُرمى الشيعة بالابتعاد عن خطِّ السنّة، وهم الثابتون عليه رغم كيد وقساوة الحاكم العامل بالرأي التارك للسنّة النبويّة؟!


1- روح المعاني 6: 74.

ص:212

إنَّ نقل الأخبار الحواريّة والعينيّة لخلاف الناس مع الحكومة، نحسبه كافياً لرسم مَعْلَم الخلاف بين الأُمَّة، وأنَّهم لا يستقرّون ولحدِّ العهد الأمويّ على وضوء واحد، بل كان لكلا الوضوءين أنصار وأتباع يذودون عمّا رووه وارتأوه.

وإضاءةً لهذه المسألة نذكر نصوصاً أُخرى لصحابة آخرين لم ترد أسماؤهم لحدِّ الآن، لكي نقف على ضعف وضحالة تلك النسب المكذوبة إلى مدرسة المسح، ولإثبات أنَّ المسح هو حقيقة فعل رسول اللَّه وكبار الصحابة وهو ما نزل به الوحي من عند اللَّه (عزّ وجلّ).

أسماء بعض الصحابة الّذين قالوا بالمسح

عباد بن تميم بن عاصم المازني «(1)»

أخرج الطحاويّ بسنده، عن عباد بن تميم، عن عمّه [عبد اللَّه]: إنَّ النبيّ توضّأ، ومسح على القدمين؛ وأنَّ عروة كان يفعل ذلك «(2)».

وأخرج ابن الأثير بسنده، عن عباد بن تميم، عن أبيه؛ قال: رأيت رسول اللَّه توضّأ، ومسح على رجليه «(3)».

وجاء في الإصابة، عن عباد بن تميم المازنيّ، عن أبيه؛ قال: رأيت رسول اللَّه يتوضّأ، ويمسح على رجليه.

قال: ورجاله ثقات «(4)».

وقال الشوكانيّ: أخرج الطبرانيّ، عن عبادة بن تميم، عن أبيه؛ قال: رأيت


1- هو ابن أخ عبد اللَّه بن زيد بن عاصم المازنيّ الأنصاريّ صاحب حديث الوضوء.
2- شرح معاني الآثار 1: 35/ 162، وعروة هنا هو ابن الزبير الذي سيأتي ذكره بعد قليل.
3- أسد الغابة 1: 217.
4- الإصابة 1: 185.

ص:213

رسول اللَّه يتوضّأ، ويمسح على رجليه «(1)».

قال ابن حجر: روى البخاريّ في تاريخه، وأحمد في مسنده، وابن أبي شيبة، وابن أبي عمر، والبغويّ، والباورديّ .. وغيره، كلُّهم من طريق أبي الأسود.

وجاء في كنز العمَّال: مسند تميم بن زيد، عن عبادة بن تميم، عن أبيه؛ قال:

رأيت رسول اللَّه توضّأ، ومسح بالماء على لحيته ورجليه.

(ش، حم، خ في تاريخه، والعدنيّ، والبغويّ، والباورديّ، وأبو نعيم قال في الإصابة: رجاله ثقات) «(2)».

وهكذا رأينا أنّ عبّاداً هذا، قد روى الوضوء المسحيّ عن رسول اللَّه بطريقين:

الأوَّل: عن أبيه، تميم بن زيد المازنيّ، وقد جاءت أسانيده في أغلب المصادر.

الثانى: عن عمّه عبد اللَّه بن زيد بن عاصم وهو ما أخرجه الطحاويّ في شرح معاني الآثار.

ولم ترد عنه عن عمّه رواية في الوضوء الثلاثيّ الغسليّ، وهذا ما يعضد ويرجِّح أن يكون المروي عن عبد اللَّه بن زيد بن عاصم المازنيّ- عمّ عبّاد- في الثنائي المسحيّ هو الصحيح عنه، وبه يضعف المنسوب إليه من الوضوء الثلاثيّ الغسليّ، وهذا ما سنبحثه في الفصل الأوّل من هذا الكتاب بإذن اللَّه تعالى.

أوس بن أبي أوس الثقفيّ

أخرج المتّقي بسنده إلى أوس بن أبي أوس الثقفيّ، أنَّه رأى النبيّ أتى كظامة


1- نيل الأوطار 1: 210.
2- كنز العمَّال 9: 429/ 26822.

ص:214

قوم بالطائف فتوضّأ، ومسح على قدميه «(1)».

وأخرج الحازميّ بسنده إلى أوس، أنَّه رأى النبيّ أتى كظامة قوم بالطائف فتوضّأ، ومسح على قدميه «(2)».

وأخرج الطبريّ بسنده عن أوس؛ قال: رأيت رسول اللَّه أتى سباطة قوم فتوضّأ، ومسح على قدميه «(3)».

قال الشوكانيّ: أخرج أبو داود، عن حديث أوس بن أبي أوس الثقفيّ، أنَّه رأى رسول اللَّه أتى كظامة قوم (بالطائف) فتوضّأ، ومسح على نعليه وقدميه «(4)».

وأخرج ابن الأثير في أسد الغابة، وأحمد في مسنده، والمتّقي في الكنز وغيرهم، بسندهم عن أوس بن أبي أوس، أنَّه قال: رأيت رسول اللَّه توضّأ، ومسح على نعليه، ثمَّ قام إلى الصلاة «(5)».

يوقفنا اختلاف الروايات عن أوس- بورود المسح على القدمين تارة، وعلى النعلين أُخرى- على واحد من أُمور ثلاثة:

الأوَّل: عدم عناية الرواة في ضبط الحديث عنه، ويحتمل أن يكون نقلهم عنه أنَّه مسح على النعلين، هو تسامح منهم، باعتقادهم أنّ كلا اللفظين يدلّان على حقيقة واحدة في حين أنّ المسح على النعلين غير المسح على القدمين.

الثاني: التأكيد في المسح على النعل، هو منصنع الحكّام، فقد عرفنا أنَّهم قد قاموا بتدوين السنّة الشريفة، وليس من البعيد اختلاقهم هذا الحديث عنه (ص) وغيره.


1- كنز العمَّال 9: 476/ 27042.
2- الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار 1: 61.
3- تفسير الطبريّ 6: 86.
4- نيل الأوطار 1: 209، سنن أبي داود 1: 41/ 160.
5- أسد الغابة 1: 140: مسند أحمد 4: 8 و 9 و 10، كنز العمَّال 9: 476 ح 27041.

ص:215

الثالث: القول بما ذهب إليه أحمد بن محمَّد المغربيّ، في كتابه (فتح المتعال في أوصاف النعال)، والشيخ الطوسيّ في التهذيب: بأنَّ الوضوء في النعال العربيّة لا تمنع المتوضي من المسح على قدميه حال لبسه وتنعّله «(1)».

وعليه .. فإنَّصدور المسح عنه- كما بيّناه سابقاً- ثابت؛ أمَّا القول بزيادة لفظ (نعليه) في هذه الرواية، كما حكاه ابن أبي داود والشوكانيّ، أو تبديل لفظ (قدميه) ب (نعليه) كما جاء في خبر ابن الأثير .. فلا يمنعان من إثبات المطلوب، ولا يخدشان في حجّيّة الخبر.

وقد وجدنا لدى ابن عبد البرّ في الاستيعاب تأييداً لما ذهبنا إليه، يقول:

ولأوس بن حذيفة- وهو اسم أبي أوس- أحاديث منها: المسح على القدمين «(2)». وإن قال: في إسناده ضعف!!

رفاعة بن رافع

أخرج ابن ماجة، بسنده إلى رفاعة بن رافع، أنَّه كان جالساً عند النبيّ؛ فقال: «إنَّها لا تتمّصلاة لِأحد حتّى يسبغ الوضوء كما أمره اللَّه تعالى، يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين «(3)»».

وأخرج الطحاويّ في شرح معاني الآثار، خبر رفاعة مسنداً كذلك «(4)».

قال السيوطيّ: أخرج البيهقيّ في سننه، عن رفاعة بن رافع: إنَّ رسول اللَّه قال للمسي ءصلاته: «إنَّها لا تتمّصلاة أحدكم حتّى يسبغ الوضوء كما أمره اللَّه، يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين» «(5)».


1- تهذيب الأحكام 1: 65، من لا يحضره الفقيه 1: 30.
2- الاستيعاب 1: 120.
3- سنن ابن ماجة 1: 156/ 460، ومثله في تفسير الطبريّ.
4- شرح معاني الآثار 1: 35/ 161.
5- الدرّ المنثور 2: 262.

ص:216

وقد أخرج هذا الحديث كلٌّ من: ابن أبي داود في سننه «(1)»، والنسائيّ «(2)»، والحاكم «(3)».

وقال الحاكم: إنَّهصحيح على شرط الشيخين .. ووافقه على ذلك الذهبيّ في تلخيصه.

وقال العينيّ: حسَّنه أبو عليّ الطوسيّ، وأبو عيسى الترمذيّ، وأبو بكر البزَّاز وصحّحه: الحافظ ابن حبّان، وابن حزم «(4)».

نرى في جميع هذه النصوص جملة: (حتّى يسبغ الوضوء كما أمره اللَّه) التي تشير إلى مسلك الرأي، وأنَّهم سيؤوّلون ويجتهدون في معنى الإسباغ- وسيقف القارئ على ذلك في الفصل الثاني من هذه الدراسة- وقد وقفت سابقاً على كلام الحجّاج وتعليله بأنَّه: (أقرب إلى الخبث)؛ أو قول عائشة لعبد الرحمن:

(إنَّ رسول اللَّه قال ويل للأعقاب من النار) أو انَّه (ص) قال: (أسبغوا الوضوء) وأنَّ عائشة وابن عمر وأبا هريرة وعبد اللَّه بن عمرو بن العاصّ قد أدرجوا هاتين الجملتين معاً للدلالة على الغسل؛ وقد مثّل علماء الحديث للإدراج بها.

فيحتمل أن يكون رسول اللَّه (ص) قد أراد بقوله: «أن يسبغ كما أمره اللَّه به» الإشارة إلى أنَّ الإسباغ يتحقّق بغسلتين لا أزيد، لما تواتر عنه (ص) وثبت عند الفريقين، امّا تحقّق الإسباغ بثلاث مرَّات فهذا ما لا تقبله مدرسة المسح وأتباع أهل البيت، وسنتعرّض إلى ذلك مفصّلًا في الفصلين الأوّل والثاني.


1- سنن أبي داود 1: 227/ 858، وكذا سنن الدارميّ 1: 305.
2- سنن النسائيّ 2: 225، وكذا في سنن ابن ماجة 1: 156/ 460.
3- مستدرك الحاكم 1: 241.
4- عمدة القاري 2: 240.

ص:217

ومن الظريف هنا أن نذكر عبارة لمحشّي سنن ابن ماجة، حيث يقول؛ إنَّ قوله: «يمسح برأسه ورجليه» يجب حمله على الغسل بأدلَّة خارجيّة، كما حمل القرآن عليه!

كانت هذه نماذج أُخرى لوضوءاتصحابة آخرين، تراهم يمسحون ويؤكّدون على أنَّ المسح هو من وضوء النبيّ (ص)، عرضناها لدحض اتّهامات المغرضين الذاهبين لكلِّ سبيل حالك!

ونأتي بنماذج أُخرى لوضوءات بعض التابعين، وبعض أهل البيت، حتّى يتبيّن لنا استمرار خطّ المسح، للتأكيد على أنَّ المسح ليس من مبتدعات الروافض والشيعة، كما يقولون.

وضوء بعض التابعين وأهل البيت

عروة بن الزبير والوضوء:

مرَّ سابقاً خبر عبّاد بن تميم عن عمّه زيد بن عاصم المازنيّ-صاحب حديث الوضوء- وانّه أخبر بأنّ رسول اللَّه كان يتوضّأ ويمسح على رجليه، ونصّ الخبر هو:

أخرج الطحاويّ بسنده عن عبّاد بن تميم، عن عمّه: انّ النبيّ توضّأ ومسح على القدمين، وان «عروة» كان يفعل ذلك «(1)».

ففي هذا النصّ ترى عروة بن الزبير يمسح على القدمين.

وجاء في المصنّف لعبد الرزّاق، عن هاشم بن عروة، أنّ أباه كان يقول بالمسح على الرجلين، لكنّه رجع عنها إلى الغسل، لقوله: «وأرجلكم إلى الكعبين»، والنصّ:

عبد الرزّاق عن معمر عن هشام بن عروة، انّ أباه قال: إنّ المسح على الرجلين رجع إلى الغسل في قوله: «وأرجلكم إلى الكعبين» «(2)».


1- شرح معاني الآثار 1: 35/ 162.
2- المصنّف لعبد الرزّاق 1: 21، المصنّف لابن أبي شيبة 1: 31- ح 9.

ص:218

وقد اختلف الرجاليون في هشام «(1)» قدحاً ومدحاً، وفيما نسبه إلى أبيه.

فقال يعقوب بن شيبة: ثبت، ثقة، لم ينكر عليه شي ء إلّابعدماصار إلى العراق، فإنّه انبسط في الرواية عن ابيه، فأنكر ذلك عليه أهل بلده، والذي يرى أنّ هشاماً يسهل لأهل العراق انّه كان لا يحدّث عن أبيه إلّابما سمعه منه، فكان تسهله أنّه أرسل عن أبيه ممّا كان يسمعه من غير أبيه عن أبيه.

وقال عبد الرحمن بن يوسف بن خراش: كان مالك لا يرضاه، وكان هشامصدوقاً تدخل أخباره في الصحيح، بلغني انّ مالكاً نقم عليه حديثه لأهل العراق.

وقال عليّ بن محمّد الباهليّ، عن شيخ من قريش: أهوى هشام بن عروة إلى يد أبي جعفر المنصور يُقَبّلها فمنعه، وقال: يا ابن عروة إنّا نكرمك عنها، ونكرمها عن غيرك.

قال شعبة: لم يسمع هشام حديث أبيه في مسِّ الذكر، قال يحيى، فسألت هشاماً؟ فقال: أخبرني أبي.

توفي هشام بن عروة، ومولى للمنصور في يوم واحد، فخرج المنصور بهما، فبدأ بهشام بن عروة فصلّى عليه وكبّر عليه أربع تكبييرات بالقرشيّة، وكبّر على هذا خمس تكبيرات بالهاشميّة.

وفي رواية، قال:صّلّينا على هذا برأيه، وعلى هذا برأيه.

أمّا عروة بن الزبير، (أبو هشام) فهو أخو عبد اللَّه، وكان بينه وبين أخيه عبد اللَّه بن الزبير عشرون سنة.

وعلى ضوء ما تقدّم نستبعد أن يكون عروة بن الزبير قد رجع عن رأيه في المسح على القدمين إلى القول بالغسل، وما أخذ به ابنه هشام ضعيف لما عرفت


1- جميع الأقوال اللاحقة أُخذت من تهذيب الكمال 30: 238- 241.

ص:219

من حاله ولما قدّمه من دليل وذكره من تعليل وهي القراءة القرآنيّة، مع العلم ان سندرس الوجوه القرآنية لاحقاً.

الحسن البصريّ والوضوء:

هو من أعلام التابعين، حضر يوم الدار «(1)».

وولي القضاء في زمن عمر بن عبد العزيز «(2)».

قال أبو هلال الراسبيّ، عن خالد بن رباح الهذليّ: سئل أنس بن مالك عن مسألة، فقال: سلوا مولانا الحسن.

قالوا: يا أبا حمزة نسألك، تقول سلوا الحسن مولانا؟

قال: سلوا مولانا الحسن، فإنّه سمع وسمعنا، فحفظ ونسينا «(3)».

قال الذهبيّ في سير الأعلام: قال قائل: إنمّا أعرض أهل الصحيح عن كثير ممّا يقول فيه الحسن: عن فلان، وإن كان ممّا ثبت لُقِيّهُ فيه لفلان المُعين، لأنّ الحسن معروف بالتدليس، ويدلّس عن الضعفاء، فيبقى في النفس من ذلك، فانّنا وإن ثبّتنا سماعه من سمرة، يجوز أن يكون لم يسمع فيه غالب النُسخة التي عن سمرة. واللَّه العالم «(4)».

كان هذا بعض الشي ء عن الحسن البصريّ، وفي مدحه الكثير، وقد مرّ عليك سابقاً كلام أنس بن مالك- خادم الرسول- وكيف كان يوصي الناس للأخذ عن مولانا الحسن!!

قال الزهريّ: العلماء أربعة: ابن المسيّب بالمدينة، والشعبيّ بالكوفة،


1- راجع ترجمته في تهذيب الكمال 6: 96.
2- سير أعلام النبلاء 4: 588.
3- تهذيب الكمال 6: 104.
4- سير أعلام النبلاء 4: 588.

ص:220

والحسن البصريّ بالبصرة، ومكحول بالشام «(1)».

فالحسن كان له اتّصال وثيق بالحكّام، وصدور هذه الأقوال فيه إنّما جاء لهذا الغرض، حتّى قيل بأنّ السياسة الأمويّة كانت مبتنية على دعامتين: لسان الحسن وسيف الحجّاج ولولاهما لوئدت الدولة المروانيّة!

والآن نتساءل عن موقفه في الوضوء، وهل إنّه كان يدعو إلى مسح الأرجل أم إلى غسلها، والنصوص المنقولة عنه تحتمل كلا الوجهين؟

جاء في الاحتجاج للطبرسيّ: عن ابن عبّاس قال: لمّا فرغ عليّ من قتال أهل البصرة، وضع قتباً على قتب ثمّصعد عليه فخطب، فحمد اللَّه وأثنى عليه، فقال:

«يا أهل البصرة، يا أهل المؤتفكة، يا أهل الداء العُضال، أتباع البهيمة، يا جند المرأة، رغا فأجبتم، وعُقر فهربتم، ماؤكم زُعاق، ودينكم نفاق، وأخلاقكم دقاق»؛ ثمّ نزل يمشي بعد فراغه من خطبته فمشينا معه، فمرّ بالحسن البصريّ وهو يتوضّأ فقال: يا حسن إسبغ الوضوء.

فقال: يا أمير المؤمنين، لقد قتلت بالأمس أُناساً يشهدون أن لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، يصلّون الخمس، ويسبغون الوضوء!

فقال أمير المؤمنين: فقد كان ما رأيت، فما منعك أن تعين علينا عدوّنا؟

فقال: واللَّه لأَصدُقنَّك ياأمير المؤمنين، لقد خرجت في أوّل يوم فاغتسلت وتحنّطت وصببت عَلَيّ، وأنا لا أشكّ في أنّ التخلّف عن أُمّ المؤمنين عائشة هو الكفر، فلمّا انتهيت إلى موضع من الخربة ناداني منادٍ: يا حسن، إلى أين؟! ارجع فإنّ القاتل والمقتول في النار، فرجعت ذعراً، وجلست في بيتي، فلمّا كان في


1- مقدّمة تحفة الأحوذيّ: 359.

ص:221

اليوم الثاني، لم أشكّ انّ التخلّف عن أُمّ المؤمنين عائشة هو الكفر، فتحنّطت ...

وخرجت أريد القتال حتّى انتهيت إلى موضع من الخربة، فناداني منادٍ من خلفي: يا حسن، ارجع فإنّ القاتل والمقتول في النار.

قال عليّ: ... أفتدري من ذلك المنادي؟

قال: لا.

قال عليّ: ذاك أخوك إبليس، وصَدَقك انّ القاتل والمقتول منهم في النار.

فقال الحسن البصريّ: الآن عرفت يا أمير المؤمنين أنّ القوم هلكى «(1)».

وفي أمالي المفيد، عن الحسن البصريّ: لمّا قدم علينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب البصرة مرّ بي وأنا أتوضّأ، فقال: يا غلام، أحسن وضوءك يحسن اللَّه إليك، ثمّ جازني، فأقبلت أقفو أثره، فحانت منّي التفاتة، فنظر إليَّ فقال: يا غلام، ألك حاجة؟

قلت: نعم، علّمني كلاماً ينفعني اللَّه به.

فقال: يا غلام، منصدق اللَّه نجا، ومن أشفق على دينه سلم من الردى، ومن زهد من الدنيا قرّت عينه بما يرى من ثواب اللَّه .. «(2)» إلى آخر الخبر.

فعلى خبر الاحتجاج، وما نقلناه عنه من حضوره يوم الدار، وتعاطفه مع الأمويين، يُحتمل أن يكون الحسن البصريّ من الدعاة إلى الغسل ومن المستفيدين من مصطلح أسبغ الوضوء للتدليل عليه، وانّ الإمام عليّاً أراد بقوله: (يا حسن أسبغ الوضوء) أراد الإزدراء والتنقيص بما يذهب إليه الحسن في الوضوء.

لكنّ هذا الاحتمال في غاية البعد، إذ لا يتواءم ذلك مع خلق الإمام، بل


1- الاحتجاج: 171.
2- أمالي المفيد: 77.

ص:222

وعلى ضوء النصوص اللاحقة يتأكّد العكس، إذ إنّ الحسن كان من المقلّين في ماء الوضوء، والإمام عليّ جاء يؤكّد على لزوم الإسباغ وإحسان الوضوء وإعطاء الوضوء حقّه.

فقد جاء في مصنّف ابن أبي شيبة وعبد الرزّاق، انّه كان يقول بالمسح على القدمين.

حدّثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن، انّه كان يقول: إنّما هو المسح على القدمين.

وكان يقول: يمسح ظاهرهما وباطنهما «(1)».

وجاء في مصنّف عبد الرزّاق: عن معمر، عن قتادة، عن عكرمة والحسن قالا في هذه الآية: «يا أيّها الذين أمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين» «(2)».

قالا: تمسح الرجلين «(3)».

قال الجصّاص: قرأها الحسن بالخفض، وتأوّلوها على المسح «(4)».

وقولنا السابق أنّ الحسن كان له اتّصال وثيق بالحكّام، أو إنَّه ولي القضاء في زمن عمر بن عبد العزيز وغيرها، لا يعني أنّ جميع أرائه مستقاة من السلطان، بل إنّ دوره في الفقه كان كدور سفيان الثوريّ وأبي حنيفة وأمثالهما من الّذين كانت لهم شخصيّة علميّة مستقلّة، وإنّ تعاطف هؤلاء العلماء مع الدولة كان تارة لأجل خوفهم من الاصطدام بالسلطة، وأُخرى لتقارب وجهات النظر بينهما، وإليك هذا النصّ عن الحسن البصريّ لتقف على الحقيقة


1- المصنّف لابن أبي شيبة 1: 30 ب 17 ح 2.
2- المائدة: 6.
3- المصنّف 1: 18 ح 53.
4- أحكام القرآن 2: 345.

ص:223

أكثر.

قال محمّد بن موسى الحرش: حدّثنا ثمامة بن عبيدة، قال: حدّثنا عطيّة بن محارب، عن يونس بن عبيد، قال: سألت الحسن، قلت: يا أبا سعيد إنّك تقول:

قال رسول اللَّه، وإنّك لم تدركه!

قال: يا ابن أخي، لقد سألتني عن شي ء ما سألني عنه أحد قبلك، ولولا منزلتك منّي ما أخبرتك، إنّي في زمان كما ترى- وكان في عمل الحجّاج- كلّ شي ء سمعتني أقول: قال رسول اللَّه، فهو عليّ بن أبي طالب، غير أنّي في زمان لا أستطيع أن أذكر عليّاً «(1)».

وقد اشتهر عنه أنّه عندما كان يريد التحديث عن عليّ يقول: قال أبو زينب.

وبعد أن نقلنا هذا النصّ عنه والنصوص الأُخرى، ينبغي أن ندرس أحاديث الحسن البصريّ- كغيرها من أقوال الأعلام- لتبيّن لنا أنّها تحت أيّ ظروفصدرت، إذ عرفت بأنّه كان يتخوّف- في كثير من الأحيان- من السلطة ولا يُحدِّث عن عليّ إلّاكناية، فلا يستبعد أن تكون بعض آرائهصدرت تحت ظروف سياسيّة خاصّة، وأنّه كان لا يؤمن بها ويخشى من نسبة تلك الأخبار إليه، وأنّ أمره لابنه بحرق كتبه دليل عليها.

نقل الذهبيّ في سير الأعلام: عن موسى بن إسماعيل: حدّثنا سهل بن الحصين الباهليّ، قال: بعثت إلى عبد اللَّه بن الحسن البصريّ، ابعث إلَيّ بكتب أبيك، فبعث إلَيّ أنّه لمّا ثقل، قال لي: اجمعها، فجمعتها له وما أدري ما يصنع بها فأتيت بها.

فقال للخادم: اسجري التنور، ثمّ أمر بها فأحرقت غيرصحيفة واحدة، فبعث بها إليّ وأخبرني أنَّه كان يقول: اروِ ما في هذه الصحيفة، ثمّ لقيته بعد،


1- تهذيب الكمال 6: 124.

ص:224

فأخبرني به مشافهة بمثل ما أدّى الرسول «(1)» وقد جاء عن عروة بن الزبير أنه احرق كتبه كذلك «(2)».

يتحصّل ممّا تقدّم أنّ الحسن البصريّ كان من كبار التابعين القائلين بالمسح، ومن كلامه نستشف انّه من القائلين بتثنية الغسلات.

قال الجصّاص- بعد كلامه الأوّل-: والمحفوظ عن الحسن البصريّ استيعاب الرِّجْل كلّها بالمسح، ولست أحفظ عن غيره ممّن أجاز المسح من السلف هو على الاستيعاب أو على البعض «(3)».

إبراهيم النخعيّ والوضوء:

جاء في طبقات ابن سعد (ترجمة إبراهيم):

1- قال: أخبرنا أحمد بن عبد اللَّه بن يونس، قال: حدّثنا فضيل بن عياض عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: من رغب عن المسح فقد رغب عن السنّة، ولا أعلم ذلك إلّامن الشيطان.

قال فضيل: يعني تركه المسح.

2- قال: أخبرنا أحمد بن عبد اللَّه بن يونس، قال: حدّثني جعفر الأحمر عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: من رغب عن المسح فقد رغب عن سنّة النبيّ (ص) «(4)».

فالمعروف عن النخعيّ انّه كان موالياً لأهل البيت «(5)».

وكلامنا هذا لا يعني أنّ جميع الأقوال المنسوبة إليه كانت مستقاة من عليّ،


1- سير أعلام النبلاء 4: 584.
2- انظر تهذيب الكمال 20: 19.
3- أحكام القرآن للجصّاص 2: 345.
4- الطبقات الكبرى لابن سعد 6: 275.
5- انظر كلام الدكتور رواس قلعه چي فيه: موسوعة فقه إبراهيم النخعيّ 1: 139.

ص:225

بل قد يكون بين تلك الأقوال ما نُسب إليه ولم يقل به، وقد يكون فيها ما أخطأ في استنباطه، لكنّ الذي تلزم الإشارة إليه هو دوره المخالف للحجّاج الثقفيّ- الداعي للوضوء الغسليّ- وأنّه قد انضمّ إلى ثورة الأشعث ضدّه وأفتى بجواز لعنه «(1)».

وانّ عدم رواية الإمام مالك في موطّئه- برواية يحيى بن يحيى الليثيّ- حديثاً واحداً لإبراهيم النخعيّ، وغياب اسمه بين رجال الموطّأ في كتاب (إسعاف المبطأ برجال الموطّأ) للسيوطيّ رغم جلالة قدره وكونهصيرفي الحديث «(2)» لدليل على دور أيدي السياسة في الحديث والفقه.

وهكذا الحال بالنسبة إلى رؤيته عن أبي هريرة.

قال الذهبيّ: ونقموا عليه- أي على إبراهيم- لقوله: لم يكن أبو هريرة فقيهاً «(3)».

وكان يقول: كان أصحابنا يَدَعون حديث أبي هريرة.

وقال: ما كانوا يأخذون بكلّ حديث أبي هريرة إلّاما كان منصفة جنّة أو نار أو حثّ على عمل أو نهي عن شرّ جاء في القرآن «(4)».

ولم يختصّ إبراهيم فيما قاله عن أبي هريرة بل قال ذلك طائفة أُخرى من الكوفيين «(5)».

وقد ثبت أنّ نهج علقمة وابن مسعود وإبراهيم واحد «(6)»، ولو قارنّا الواحد منهم إلى الآخر لحصل لدينا انّ إبراهيم النخعيّ يقول بالمسح إذ إنّ عبد الرزّاق روى في مصنّفه عن معمر عن قتادة: أنّ ابن مسعود قال: رجع إلى غسل


1- الطبقات الكبرى، لابن سعد 6: 279.
2- انظر: تهذيب التهذيب 10: 314، الجرح والتعديل 2: 144- 145.
3- انظر: ميزان الاعتدال 1: 75.
4- البداية والنهاية 8: 113.
5- البداية والنهاية 8: 113.
6- انظر: تهذيب التهذيب 7: 177، تذكرة الحفاظ، موسوعة ابراهيم النخعي 1: 163.

ص:226

القدمين في قوله: «وأرجلكم إلى الكعبين» «(1)».

وفي نقل هذا المعنى عن ابن مسعود عناية، امّا أن يراد به انّه أرجع الضمير في «أرجلكم» إلى الغسل وكونها معطوفة على الوجوه والأيدي لا على الرؤوس حتّى يمكن الاستدلال عليها في المسح، وفي هذا بحث مفصّل بين الأعلام سنتعرّض إليه في الفصل الثاني من هذه الدراسة إن شاء اللَّه تعالى، ولكنّ المتبادر من الجملة ليس هذا.

أو أن يراد منه أنّ ابن مسعود رجع إلى القول بالغسل بعد أن كان يقول بالمسح. ولوصحّ هذا فأين قوله بالجواز حتّى نقول انّه قد رجع عنه يا ترى؟!

نعم، انّها أقوال متناثرة لو قرن بعضها إلى بعض لحصلنا على النتيجة.

فقد روي عن إبراهيم النخعيّ كرهه الإسراف في الوضوء وعدم لزوم تخليل اللحية والدلك فيها، وكان يقول: تشديد الوضوء من الشيطان لو كان فضلًا لأوثر به أصحاب محمّد (ص) «(2)».

أو قوله: لم يكونوا يلطمون وجوههم بالماء، وكانوا أشدّ استبقاءً للماء منكم في الوضوء، وكانوا يرون أنّ ربع المدّ يجزي من الوضوء، وكانوا أصدق ورعاً وأسخى نفساً وأصدق عند البأس «(3)».

وفي قوله هذا تعريض بالذين يزيدون في الوضوء ويلتمسون الفضل بالغسل! وقد قال عنهم: من رغب عن المسح، فقد رغب عن السنّة، ولا أعلم ذلك إلّامن الشيطان.

وبذلك كان يريد أن يدلّل على أنّ فعله تابع لفعل الصحابة وانّه من أنصار مدرسة التعبّد المحض لا الرأي والاجتهاد، فإنّه لو رأى الصحابة قد مسحوا


1- المصنّف 1: 20، كنز العمال 9: 434 عب، طب والدر المنثور.
2- انظر: المغني 1: 117، كنز العمّال 9: 473/ 27024.
3- كنز العمّال 9: 473/ 20726.

ص:227

على ظفر لمسح عليها فقط، ولا يعمم المسح إلى جميع الرجل أو يتعدّى فيها إلى الغسل، فاستمع لما رواه أبو حمزة عن إبراهيم أنَّه قال:

لو أنّ أصحاب محمّد (ص) لم يمسحوا إلّاعلى ظفر ما غسلته التماس الفضل، وحسبنا من إزراء على قوم أن نسأل عن فقههم ونخالف أمرهم «(1)».

الشعبيّ

قال السيوطي: أخرج عبد الرزّاق بن جاروه، وابن أبي شيبة- في سننه-، وعبد بن حميد، وابن جرير في- تفسيره-، عن الشعبيّ؛ أنَّه قال: نزل جبرئيل بالمسح على القدمين، ألا ترى أنَّ التيمّم أن تمسح ما كان غسلًا، ويلغى ما كان مسحاً «(2)».

أخرج الطبريّ بسنده، عن ابي خالد، أنَّه: كان يقرأ الشعبيّ «وأرجلكم» بالخفض «(3)».

وقال قبلها: إنَّ جماعة من قرّاء الحجاز والعراق قرؤوا: «وأرجلكم» في الآية بخفض الأرجل، وتأوّلها: إنَّ اللَّه إنَّما أمر عباده بالمسح للرجلين في الوضوء دون الغسل .. فذكر أسماءهم، وذكر من جملتهم عامر الشعبيّ «(4)».

وقد أخرج عبد الرزّاق بسنده إلى الشعبيّ انّه قال: (أمّا جبرئيل فقد نزل بالمسح على القدمين) «(5)».

وقال النيسابوريّ:

اختلف الناس في مسح الرجلين وغسلهما، فنقل القفّال في تفسيره، عن ابن


1- الطبقات الكبرى لابن سعد 6: 274.
2- الدرّ المنثور 2: 262، المصنّف 1: 30/ 7، تفسير الطبريّ 6: 82.
3- تفسير الطبريّ 6: 83.
4- تفسير الطبريّ 6: 82.
5- المصنّف لعبد الرزّاق 1: 19/ 56.

ص:228

عبّاس، وأنس بن مالك، وعكرمة، والشعبيّ: إنَّ الواجب فيهما المسح، وهو مذهب الإماميّة.

ثم قال: وحجّة مَن أوجب المسح قراءة الجرِّ في «أرجلكم» عطفاً على «رؤوسكم»، ولا يمكن أن يقال: إنَّه كسر على الجوار، كما في قوله:

* جحر ضبّ خرب*

لأنَّ ذلك لم يجئ في كلام الفصحاء؛ وفي السنّة وأيضاً إنَّه جاء: لا لبس ولا عطف بخلاف الآية «(1)».

فالشعبيّ- كما قرأت- كان يقول بالمسح رغم كلّ الضغوط السياسيّة والاجتماعيّة الحاكمة آنذاك.

فقد أخرج أبو نعيم بسنده، عن الشعبيّ؛ أنَّه قال:

أُتي بي إلى الحجّاج مُوثَقاً، فلمَّا انتهيت إلى باب القصر، لقيني يزيد بن أبي مسلم؛ فقال: إنّا للَّه يا شعبيّ! لما بين دفتيك من العلم، وليس بيوم شفاعة، بؤ للأمير بالشرك والنفاق على نفسك، فبالحري أن تنجو. ثمَّ لقيني محمَّد بن الحجّاج فقال لي مثل مقالة يزيد.

فلمَّا دخلت عليه؛ قال: وأنت يا شعبيّ فيمن خرج علينا وكثّر؟

قلت: أصلح اللَّه الأمير؛ أحزن بنا المنزل ...

ثمَّ سأله الحجّاج عن الفريضة في الأُخت، وأُمّ الجدِّ؟ فأجابه الشعبي باختلاف خمسة من أصحاب الرسول فيها: عثمان، زيد، ابن مسعود، عليّ، ابن عبّاس .. ثمَّ بدأ بشرح كلام ابن عبّاس.

فقال له الحجّاج: فما قال فيها أمير المؤمنين- يعني عثمان-؟ فذكرها له.

فقال الحجّاج: مُر القاضي فليمضها على ما أمضاها عليه أمير المؤمنين


1- تفسير غرائب القرآن تفسير الطبريّ 6: 73- 74.

ص:229

عثمان «(1)».

هذه هي سياسة الحكومة، معلنةصريحة، فالذي يجب أن يتبعه القاضي ويفتي به في المنازعات، هو رأي عثمان لا غير!!

وقول الحجّاج (وأنت يا شعبي فيمن خرج علينا وكثر) إشارة إلى أنَّه خرج عن طاعة السلطان وأخذ يفتي الناس ناقلًا آراء الآخرين بجنب رأي عثمان، وقد عرفت عنه أنَّه كان لا يحبِّذ الأخذ بالرأي، بل يؤكِّد على لزوم اتّباع المأثور، وإن كان يقول بها تحت ظروف خاصّة، وستقف في الفصل الاول على سياسة الحكّام أكثر ممّا قلناه، وأنَّهم كانوا لا يحبِّذون نقل حديث رسول اللَّه، بل يفضِّلون نقل اجتهادات الشيخين لقول عثمان عن السنّة (إلّا ما عمل في زمن الشيخين) ولثبات سياسة الحكّام بتقوية مكانة الصحابة وعدّهم عدولًا يجب الأخذ بقولهم، وأنَّ نقل الحديث المخالف لاجتهادات الصحابة كان ممَّا يغضب السلطان!

وأنَّ كلام يزيد بن مسلم، لمَّا لقيه عند باب القصر (للَّه يا شعبيّ لما بين دفتيك من العلم)؛ وقول الشعبيّ: (انَّما هلكتم بأنَّكم تركتم الآثار، وأخذتم بالمقاييس) «(2)» إشارة إلى هذه الحقيقة .. فلو كان الشعبيّ قد رأى بين الآثار الموجودة عنده ما يصفه عثمان من وضوء رسول اللَّه، لما قال: (نزل جبرئيل بالمسح على القدمين)! ولأدّى ما عليه من الفضل لعبد الملك بن مروان، الذي ثبت في التاريخ أنَّه كان حظيّاً عنده.

إنّ إصرار الشعبيّ على المسح إذن، دليل على أصالته، وأنَّه وضوء رسول اللَّه، وكبار الصحابة .. لا أنَّه وضوء عليّ والرافضة- كما يدّعون- فقط.

بعد هذا كلّه، كيف يتأتّى للشعبيّ- وقد انخرط في سلك الدولة- أن يتوضّأ


1- حلية الأولياء 4: 325.
2- حلية الأولياء 4: 320.

ص:230

بوضوء عليّ، وهو الذي أقسم باللَّه بأنَّ عليّاً دخل حفرته وما حفظ القرآن «(1)» ..

بل وقد كذَّب كلّ مَن نادى بحبِّ عليّ و أشار إلى مناقبه وفضائله، كما فعله مع الحارث الهمدانيّ وغيره؟!

عكرمة

أخرج الطبريّ في تفسيره بسنده، عن يونس؛ أنَّه قال: حدَّثني مَنصحب عكرمة إلى واسط؛ قال: فما رأيته غسل رجليه [إنَّما كان] يمسح عليهما حتّى خرج منها «(2)».

وبسنده، عن عبد اللَّه العتكي، عن عكرمة؛ أنَّه قال: ليس على الرِجلين غسل، إنَّما نزل فيهما المسح «(3)».

وقال القرطبيّ- بعد كلام طويل-: ... وكان عكرمة يمسح رجليه؛ وقال:

ليس في الرجلين غسل إنّما نزل فيهما المسح «(4)».

وقال الرازيّ في تفسيره (ما مضمونه): ذهب عكرمة إلى وجوب المسح في الرجلين دون غسلهما «(5)».

وفي تفسير النيسابوريّ: اختلف الناس في مسح الرجلين، والمنقول عن عكرمة: إنَّ الواجب فيهما المسح «(6)».

أخرج عبد الرزّاق عن معمر عن قتادة عن عكرمة والحسن، قالا في هذه الآية «يا أيّها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين» قالا: تمسح


1- القرطين لابن مطرف الكنانيّ 1: 158، وعنه في البيان للسيّد الخوئيّ: 537.
2- تفسير الطبريّ 6: 83.
3- تفسير الطبريّ 6: 82، وانظر: المصنّف لعبد الرزّاق 1: 19/ 55.
4- تفسير القرطبيّ 6: 92.
5- التفسير الكبير للرازيّ 11: 161.
6- تفسير غرائب القرآن تفسير الطبريّ 6: 73.

ص:231

الرجلين «(1)».

وعنه عن ابن عبّاس قال: افترض اللَّه غسلتين ومسحتين، ألا ترى انَّه ذكر التيمّم فجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين، وقال رجل لمطر الورّاق: من كان يقول المسح على الرجلين؟

فقال: فقهاء كثيرون «(2)».

قال الجصّاص، في أحكام القرآن: قرأ ابن عبّاس، والحسن، وعكرمة، وحمزة، وابن كثير: «وأرجلكم» بالخفض، وتأوَّلوها على المسح «(3)».

وقد نقل الخطيب في (الفقيه والمتفقّه) أنّ عكرمة أنكر مسح الخفّين فقلت له: انّ ابن عبّاس بلغني أنّه كان يمسح؟

قال عكرمة: ابن عبّاس إذا خالف القرآن لم يؤخذ به «(4)».

ومن هذا الكلام نفهم أصالة المسح، ووجود ترابط بين القول بالمسح على الرجلين وإنكار المسح على الخفّين!

وعلى ضوء ما سبق استبان انّ موقفه من الوضوء لدليل واضح على أنَّ وضوء عليّ هو وضوء رسول اللَّه، إذ لو كان الوضوء المسحي هو وضوء علي وحده لما تبعه رجال من أمثال الشعبيّ وعكرمة أبداً؛ لأنَّ المعروف عن عكرمة أنَّه أوَّل مَن نشر رأي الخوارج في المغرب، وهو القائل بأنَّ قوله تعالى: «إنَّما وليكم اللَّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون» «(5)»

نزلت في أبي بكر، خلافاً لجميع المفسرين «(6)»، وهو


1- المصنّف لعبد الرزّاق 1: 18/ 53.
2- المصنّف لعبد الرزّاق 1: 19/ 54.
3- أحكام القرآن 2: 345.
4- الفقيه والمتفقّه 1: 76.
5- المائدة: 55.
6- تفسير ابن كثير 2: 119، تفسير القرطبيّ 6: 221، تفسير الطبريّ 6: 186، الكشّاف 1: 649.

ص:232

القائل أيضاً بأنَّ آية التطهير نزلت في نساء النبيّ، واشتهر عنه انّه كان يصيح في الأسواق: ليس كما تذهبون إليه، إنّما نزلت في نساء النبيّ، كما كان يدعو الناس- من بغضه لعليّ وأهل بيته- إلى المباهلة في آية التطهير «(1)».

ولم يوافقه في ذلك إلّامقاتل بن سليمان ونفر آخر، وله أحاديث أُخرى كلّها تدلِّل على بغضه وانتقاصه من عليّ.

وقد نقل ابن أبي الحديد عن أبي جعفر الاسكافيّ: أنّ عروة بن الزبير كان من الذين استخدمهم معاوية لرواية أخبار قبيحة في عليّ تقتضي الطعن فيه والبراءة منه.

وقد مرّ عليك كلام الزهريّ في عروة وعائشة وانّه يتّهمهما في عليّ!

وعليه، فإنَّ مجي ء أسماء أُناسٍ، كأنس بن مالك، والشعبيّ، وعكرمة، وعروة بن الزبير وغيرهم في سجلِّ الوضوء الثنائيّ المسحيّ، يقوم دليلًا على أصالة هذا الخطّ، وأنَّ هذا الوضوء هو وضوء رسول اللَّه حقّاً.

محمَّد بن عليّ الباقر

أخرج الكليني بسنده، عن زرارة؛ قال: قال أبو جعفر (ع): «ألا أحكي لكم وضوء رسول اللَّه»؟

فقلنا: بلى.

فدعا بقعب فيه شي ء من ماء، فوضعه بين يديه، ثمَّ حسر عن ذراعيه، ثمَّ غمس فيه كفَّه اليمنى؛ ثمَّ قال: «هكذا، إذا كانت الكفُّ طاهرة»؛ ثمَّ غرف مِلأها ماء، فوضعها على جبينه؛ ثمَّ قال: «بسم اللَّه» وسدله على أطراف لحيته. ثمَّ أمرَّ يده على وجهه وظاهر جبينه، مرَّة واحدة. ثمَّ غمس يده اليسرى فغرف بها


1- تفسير الطبريّ 22: 7- 8، تفسير القرطبيّ 14: 182- 184، المعارف لابن قتيبه: 258.

ص:233

مِلأها. ثمَّ وضعه على مرفقه اليمنى، فأمرَّ كفَّه على ساعده حتّى جرى الماء على أطراف أصابعه. ثمَّ غرف بيمينه مِلأها، فوضعه على مرفقه اليسرى، فأمرَّ على كفَّه على ساعده حتّى جرى الماء على أطراف أصابعه، ومسح مقدم رأسه، وظهر قدميه، ببلَّة يساره، وبقيّة بلَّة يمناه «(1)».

وفيه، عن عمر بن أُذينة، عن زرارة وبكير؛ أنَّهما سألا أبا جعفر (ع) عن وضوء رسول اللَّه .. فدعا بطست، أو تور فيه ماء، فغمس يده اليمنى، فغرف بها غرفة، فصبَّها على وجهه، فغسل بها وجهه؛ ثمَّ غمس كفَّه اليسرى، فغرف بها غرفة، فأفرغ على ذراعه اليمنى، فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكفِّ، لا يردها إلى المرافق؛ ثمَّ غسل كفَّه اليمنى، فأفرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق، وصنع بها مثل ماصنع باليمنى؛ ثمَّ مسح رأسه، وقدميه، ببلل كفِّه، لم يحدث لهما ماءً جديداً؛ ثمَّ قال: «ولا يدخل أصابعه تحت الشراك».

قال: ثمَّ قال: «إنَّ اللَّه يقول: «يا أيُّها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم» فليس له أن يدع شيئاً من وجهه إلّاغسله؛ وأمر بغسل اليدين إلى المرفقين، فليس له أن يدع من يديه إلى المرفقين شيئاً إلّا غسله، لأنَّ اللَّه تعالى يقول: «فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق»؛ ثمَّ قال: «وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين»، فإذا مسح بشي ء من رأسه أو بشي ء من قدميه، ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع، فقد أجزأه».

قال: فقلنا: أين الكعبان؟

قال: ها هنا .. يعني: المفصل دون عظم الساق.

فقلنا: هذا ما هو؟

فقال: هذا عظم الساق، والكعب أسفل من ذلك «(2)».


1- الكافي 3: 25/ 4.
2- الكافي 3: 25/ 5.

ص:234

ورواه الشيخ الطوسيّ في التهذيب والاستبصار مع اختلاف في بعض الألفاظ «(1)».

وأخرج الطوسيّ بسنده، عن ميسّر، عن أبي جعفر (ع)؛ قال: «ألا أحكي لكم وضوء رسول اللَّه؟ .. ثمَّ أخذ كفَّاً من ماء فصبَّها على وجهه، ثمَّ أخذ كفَّاً فصبَّها على ذراعه، ثمَّ أخذ كفَّاً آخر فصبَّها على ذراعه الأُخرى، ثمَّ مسح رأسه وقدميه، ثمَّ وضع يده على ظهر القدم؛ ثمَّ قال: «هذا هو الكعب» .. قال: راوياً بيده إلى أسفل العرقوب؛ ثمَّ قال: «إنَّ هذا هو الظنبوب» «(2)».

وأخرج الكليني بسنده، عن محمَّد بن مسلم، عن الباقر (ع)؛ أنَّه قال: «ألَا أحكي لكم وضوء رسول اللَّه؟

قلت: بلى.

قال: فأدخل يده في الإناء ولم يغسل يده، فأخذ كفَّاً من ماء فصبَّه على وجهه، ثمَّ مسح جانبه حتّى مسحه كلّه، ثمَّ أخذ كفَّاً آخر بيمينه فصبَّه على يساره، ثمَّ غسل به ذراعه الأيمن، ثمَّ أخذ كفَّاً آخر فغسل به ذراعه الأيسر، ثمَّ مسح رأسه ورجليه بما بقي في يديه «(3)».

وبسنده، عن زرارة؛ قال: حكى لنا أبو جعفر (ع) وضوء رسول اللَّه .. فدعا بقدح، فأخذ كفَّاً من ماء فأسدله على وجهه ثمَّ مسح وجهه من الجانبين جميعاً، ثمَّ أعاد يده اليسرى في الإناء فأسدلها على يده اليمنى ثمَّ مسح جوانبها، ثمَّ أعاد اليمنى في الإناء فصبَّها على اليسرى، ثمَّصنع بها كماصنع باليمنى، ثمَّ مسح بما بقي في يده رأسه ورجليه، ولم يعدهما في الإناء «(4)».


1- التهذيب 1: 56/ 158، الاستبصار 1: 57/ 168.
2- التهذيب 1: 75/ 190.
3- الكافي 3: 24/ 3.
4- الكافي 3: 24/ 1، التهذيب 1: 55/ 157.

ص:235

تلخّص

توقفنا النصوص السابقة على أمرين:

1- استمرار اختلاف المسلمين فيصفة وضوء رسول اللَّه حتّى عهد الإمام الباقر (الذي توفّى سنة 114 ه)، إذ نرى زرارة وبكيراً يسألانه عن وضوء رسول اللَّه، أو نرى الباقر يحكي لهم ذلك الوضوء «حكى لنا أبو جعفر وضوء رسول اللَّه» أو قوله «ألا أحكي لكم وضوء رسول اللَّه» .. ففي الجملتين دلالة على أهميّة طرح هذا الوضوء في ذلك العصر الذي ضاعت فيه تعاليم السماء فقد كان أنس وغيره من الصحابة يبكون على حال الشريعة! .. لأنَّ الناس- وعلى مرِّ الأيّام- أخذوا يتطبَّعون شيئاً فشيئاً بسيرة الحكّام، رغبةً أو رهبةً، إذ ليس بين المتبقين من الصحابة مَن بإمكانه الوقوف أمام اجتهادات الحكّام، بل أخذ الناس في تدوين السنّة حسبما يرتضيه الحكّام! وقد أراد الإمام محمَّد بن عليّ الباقر أن يحكي وضوء رسول اللَّه لبعض أصحابه، لتبقى وثيقة تاريخيّة تشريعيّة في تاريخ المسألة، وليرتفع اللبس والخلط بين الناس، بوقوفهم على حقيقةصفة وضوء رسول اللَّه (ص) وسيرة أهل بيته فيه!!

2- عرفنا على ضوء ما تقدَّم أنَّ للوضوء الثنائيّ المسحيّ أصالة .. إذ نرى أنس بن مالك والشعبيّ وعكرمة وعروة- رغم مخالفتهم لعليّ بن أبي طالب-، قد رووا هذا الوضوء عن الرسول، ورأوه انَّه هو المنزل من السماء لا غير، وأنَّ الحكّام- رغم اتّباعهم سياسة العنف فى ترسيخ الشريعة التي يرغبون تطبيقها (مَن قال برأسه كذا، قلنا بسيفنا كذا)- لم يتمكّنوا من مجابهة الوضوء المسحيّ؛ ولا نرى (التقيّة) تعمل- في الوضوء- عند أئمّة أهل البيت حتّى أواخر عهد الأمويين، ومن يراجع مرويّات الباقر في الكتب الحديثيّة الأربعة يجد الإمام يصف وضوء رسول اللَّه وهو غير مكترث بما قيل أو يقال؛ وأنَّ الأمويين كانوا يجاملون الصحابة والتابعين، كأنس بن مالك ومحمَّد بن عليّ الباقر وعبد اللَّه بن

ص:236

عبّاس في وضوئهم ولم يواجهوهم بالعنف، كما كانوا يواجهون الآخرين، وقد وقفت على حديث أبي مالك الأشعريّ، وكيف كان خائفاً من بيان وضوء النبيّ أوصلاته لقومه.

حتى وصل الأمر بالناس- في الوضوء- أن يعترضوا على فقهاء الدولة لمنعهم مسح الرجلين، متّخذين اعتقاد الغالبيّة بمشروعيّته أُسلوباً في المواجهة.

فقد أخرج عبد الرزّاق عن ابن جريح، قال: قلت لعطاء: لِمَ لا أمسح بالقدمين كما أمسح بالرأس، وقد قالها جميعاً؟

قال: لا أراه إلّامسح الرأس وغسل القدمين، انّي سمعت أبا هريرة يقول:

ويل للأعقاب من النار.

قال عطاء: وانَّ أُناساً ليقولون هو المسح، وأمّا أنا فأغسلهما «(1)».

وأخرج الطحاويّ عن عبد الملك قال: قلت لعطاء: أبلغك عن أحد من أصحاب رسول اللَّه انَّه مسح القدمين؟

قال: لا «(2)».

وترى عطاء يبتّ في أنّ «الكعبين» داخلان في الغسل، مع علمه بأنّ هذا يخالف جمعاً غفيراً من الصحابة، لسؤالهم إيّاه: لِمَ لا أمسح بالقدمين كما أمسح بالرأس، وقد قالها جميعاً؟

فيقول لأبي جريح عندما سأله: قوله «وأرجلكم إلى الكعبين» ترى الكعبين فيما يغسل من القدمين؟

قال: نعم، لا شكّ فيه «(3)».

وقد أخرج عبد الرزّاق عن محمَّد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة عن


1- المصنّف لعبد الرزّاق 1: 20/ 58.
2- شرح معاني الآثار 1: 41/ 220.
3- المصنّف لعبد الرزّاق 1: 25/ 78.

ص:237

عثمان ابن أبي سويد انَّه ذكر لعمر بن عبد العزيز المسح على القدمين فقال: لقد بلغني عن ثلاثة من أصحاب محمَّد، أدناهم ابن عمّك المغيرة بن شعبة، أنَّ النبيّ غسل قدميه «(1)».

وهناك نصوص كثيرة من هذا القبيل تدلّ جميعاً على وجود خيوط ومؤشّرات لكلا الاتّجاهين، وأنَّ الخلفاء ومن يدور في مدارهم كانوا يؤكّدون على الغسل ويعدّونه سنّة رسول اللَّه، أمّا الناس فكانوا يعترضون على عطاء،- فقيه الحكومة- ويذكرون مشروعيّة المسح على القدمين عند عمر بن عبد العزيز- خليفة المسلمين-.

هذا، وانَّ حالة المداراة للصحابة أو التابعين في الوضوء لم تستمر كثيراً بل نرى سياسة الحكّام تتغيّر في العهد العبّاسيّ، إذ نرى ظاهرة التقيّة تجري في بعض روايات الصادق والكاظم، وهذا ينبئ بأنَّ الحكّام قد اتّخذوا سياسةً جديدةً في العهد العبّاسيّ، وستقف- بعد قليل- على أُصول تلك السياسة.

وبذلك .. فقد عرفنا مشروعيّة المسح، وأنَّ جمعاً غفيراً من الصحابة والتابعين كانوا يمسحون على أرجلهم ناسبين ذلك الفعل إلى رسول اللَّه (ص) وليس إلى عليّ! وقد ذكرنا أسماء عشرة منهم، وها نحن نضيف إليهم آخرين:

11- أبو مالك الأشعريّ.

12- عباد بن تميم المازنيّ.

13- تميم بن زيد المازنيّ.

14- عبد اللَّه بن زيد المازنيّ «(2)».

15- عروة بن الزبير.


1- المصنّف لعبد الرزّاق 1: 21/ 61، والكنز تحت رقم 2197.
2- حسبما رواه ابن أخيه عنه في شرح معاني الآثار، وما جاء عنه في المصنّف لابن أبي شيبة.

ص:238

16- الحسن البصريّ.

17- إبراهيم النخعيّ.

18- علقمة بن قيس.

19- عبد اللَّه بن مسعود.

20- أوس بن أبي أوس الثقفيّ.

21- رفاعة بن رافع.

22- الشعبيّ.

23- عكرمة.

24- محمَّد بن عليّ الباقر.

وهنا .. نعاود السؤال: لماذا يرمى القائلون بالمسح بالزندقة، إن كان ذلك الفعلصحيح النسبة إلى النبيّ (ص) وأتى به كبار الصحابة والتابعين؟!

وما يعني هذا التهجّم على الرافضة أو الشيعة .. ألَم يكونوا معذورين في فعلهم باتباعهم سنّة النبيّ (ص)؟!

ولِمَ يرمونهم بالضلالة والبدعة .. أتقديراً لثباتهم على خطِّ السنّة النبويّة، أم استنصاراً للعصبيّة وطاعة للسلطة؟!

وضوء الزيديّة

لربَّ سائل يسأل: كيف يمكن الاطمئنان إلى استنتاجكم، ونحن نرى الزيديّة يتوضَّؤون وفق ما رووه عن الإمام زيد بن عليّ بن الحسين، عن أبيه، عن رسول اللَّه: وأنَّ رسول اللَّه توضّأ وفق ما حكاه عثمان بن عفَّان.

فلوصحَّ تحليلكم، وكان وضوء الخليفة عثمان بن عفَّان عبارة عن تشريع سياسيّ، فكيف يتوضّأ الإمام زيد بوضوئهم؟

ص:239

وحدة المرويّات عند العلويين

ثبت في التاريخ أنَّ بني علي بن أبي طالب- الحسنيِّين منهم والحسينيّين سواء- كانوا على فقه واحد، ولم يختلفوا في الأحكام وكان فقههم غير فقه الحكام؛ وإليك بعض النصوص:

1- وقت العصر عند الطالبيّين:

جاء في مقاتل الطالبيّين: بأنَّ رجلًا عرض على الرشيد؛ فقال: يا أمير المؤمنين؛ نصيحة!

فقال لهرثمة: إسمع ما يقول!

قال الرجل: يا أمير المؤمنين؛ إنَّها في أسرار الخلافة.

فأمره أن لا يبرح، ثمَّ خلا به واستمع إلى خبره ...

قال الرجل: كنت في خان من خانات حلوان، فإذا بيحيى بن عبد اللَّه بن الحسن ابن عليّ في دراعةصوف غليظة، وكساءصوف أحمر غليظ؛ ومعه جماعات ينزلون إذا نزل، ويرتحلون إذا ارتحل، ويكونون معه ناحية، فيوهمون مَن رآهم أنَّهم لا يعرفونه، وهم أعوانه! مع كلِّ واحد منهم منشور بياض يؤمن به إن عرض له.

قال: أوَ تعرف يحيى؟

قال: قديماً؛ وذلك الذي حقَّق معرفتي بالأمس له.

قال: فصفه لي.

قال: مربوع، أسمر، حلو السمرة، أجلح، حسن العينين، عظيم البطن.

قال: هو ذاك؛ فما سمعته يقول؟

قال: ما سمعته يقول شيئاً، غير أنّي رأيته ورأيت غلاماً له أعرفه، لمَّا حضر وقتصلاته، أتاه بثوب غسيل، فألقاه في عنقه، ونزع جبَّته الصوف ليغسلها،

ص:240

فلمَّا كان بعد الزوال،صلَّىصلاة ظننتها العصر، أطال في الأولتين، وحذف الأخيرتين.

فقال له الرشيد: للَّه أبوك! لجاد ما حفظت؟ .. تلكصلاة العصر، وذلك وقتها عند القوم؛ أحسن اللَّه جزاءك، وشكر سعيك؛ فما أنت؟ وما أصلك؟

فقال: أنا رجل من أبناء هذه الدولة، وأصلي مرو، ومنزلي بمدينة دار السلام، فأطرق مليَّاً؛ ثمَّ قال ... «(1)»- الخبر-.

يُفْهِمُ هذا النصّ أنَّ الخلاف الفقهيّ بين الخليفة وبني الحسن كان هو المعيار الشاخص في معرفتهم للطالبيين، وخصوصاً في الظروف السياسيّة والوقائع الاجتماعيّة؛ وإنَّك ستتعرّف لدى حديثنا عن العهد العبّاسيّ على كيفيّة استخدام الحكّام المذهب كوسيلة لعزل أبناء عليّ بن أبي طالب عن المسلمين، بل اعتبارهم مارقين وخارجين عن الإسلام! في حين أنَّ الأُصول لتؤكِّد على أنَّهم لا يقولون بشي ء إلّاوكانوا قد توارثوه كابر عن كابر، وأنَّ أغلب حديثهم هو عن رسول اللَّه (ص).

إنَّ إشاعة الخلاف المذهبيّ بين أوساط الأُمَّة، إنَّما حرَّكته النوازع والغايات السياسيّة، وما جاء إلّالعزل الشيعة عن غيرهم؛ فقول الرشيد للرجل: (للَّه أبوك! لجاد ما حفظت؟ تلكصلاة العصر، وذلك وقتها عند القوم) ليؤكِّد تلك الحقيقة.

وبهذا، فلا يمكن أن يختلف أبناء عليّ في حكم ضروريّ يمارسه المسلم عدّة مرَّات في اليوم.

ولو تابعنا رأي الإمام زيد في وقت العصر لرأيناه نفس رأي الإمام الصادق وعبد اللَّه بن عبّاس وغيرهم من أهل البيت.


1- مقاتل الطالبيّين: 466- 467.

ص:241

جاء في مسند الإمام زيد- باب أوقات الصلاة-: حدَّثني زيد بن عليّ، عن أبيه، عن جدِّه (رضي اللَّه عنهم)، عن عليّ بن أبي طالب (كرم اللَّه وجهه): قال رسول اللَّه: «إنَّه سيأتي على الناس أئمَّة بعدي يميتون الصلاة كميتة الأبدان، فإذا أدركتم ذلك فصلّوا الصلاة لوقتها، ولتكنصلاتكم مع القوم نافلة، فإنَّ ترك الصلاة عن وقتها كفر» «(1)».

وفيه كذلك: سمعت الإمام الشهيد أبا الحسين زيد بن عليّ رضي اللَّه عنه- وقد سئل عن قوله تعالى «أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ...»- فقال رضي اللَّه عنه: دلوك الشمس زوالها، وغسق الليل ثلثه حتّى يذهب البياض من أسفل السماء، «وقرآنَ الفجر إنّ قرآنَ الفجر كان مشهوداً» تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار.

وقال زيد بن عليّ رضي اللَّه عنه: (أفضل الأوقات أوّلها، وإن أخّرت فلا بأس) «(2)».

فالإمام زيد يريد الإشارة إلى أنّ أوقات الصلاة ثلاثة كما قال سبحانه في محكم كتابه وكما يعمل به شيعة عليّ.

وأنَّ وقت فضيلةصلاة العصر، هو بعد الانتهاء منصلاة الظهر، وهو ما يذهب إليه الإمامان الباقر والصادق.

ويحتمل أن يكون قول الإمام زيد في الخبر الأوّل (فإنَّ ترك الصلاة عن وقتها كفر) إشارة إلى فعل الأمويين ودورهم في تغيير أوقات الصلاة ولزوم دعوة المؤمنين وإصرارهم لإتيانها في أوقاتها؛ لما ورد في فضيلة الصلاة لوقتها، ودحضاً لعمل الُمحدِثين في الشريعة واستجابة لما أخبر به النبيّ (ص): سيكون عليكم أُمراء تشغلهم أشياء عن الصلاة حتّى يؤخّروها، فصلّوها لوقتها «(3)».


1- مسند الإمام زيد: 88، وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة نحوه.
2- مسند الإمام زيد: 88.
3- مسند أحمد 5: 315.

ص:242

وجاء في الأنساب للبلاذريّ أنَّ أهل مصر أرسلوا وفداً لعثمان بسبب تلاعب ابن أبي سرح بمواقيت الصلاة.

وفي تاريخ المدينة لابن شبّة: فخرج من أهل مصر سبعمائة إلى المدينة فنزلوا المسجد، وشكوا إلى أصحاب النبيّ (ص) في مواقيت الصلاة ماصنع ابن أبي سرح بهم «(1)».

وقد ثبت في التاريخ أنَّ سليمان بن عبد الملك أعاد الصلاة إلى أوقاتها «(2)». وفي نقل هذا الخبر عن الخليفة إشارة إلى أنَّ اعتراض المسلمين على الحكّام- في مسألة أوقات الصلوات- كان جماهيريّاً، وأنَّ الخليفة قد استجاب لطلبهم حين رأى مصلحته في ذلك.

وقد أخرج البخاريّ فيصحيحه- باب تضييع الصلاة عن وقتها- حديثين عن أنس، أحدهما عن غيلان عن أنس قال: ما أعرف شيئاً ممّا كان على عهد النبيّ!

قيل: الصلاة؟!

قال: أليس ضيّعتم ما ضيّعتم فيها!

والآخر عن عثمان بن أبي رواد قال: سمعت الزهريّ يقول: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي.

فقلت: ما يُبكيك؟

فقال: لا أعرف شيئاً ممّا أدركتُ إلّاهذه الصلاة، وهذه الصلاة قد


1- تاريخ المدينة 4: 1158.
2- راجع: البداية والنهاية 9: 187، وغيره من كتب التاريخ.

ص:243

ضيّعت «(1)».

هذا، وقد رُوِيَ عن الإمام الصادق قوله:

لكلِّصلاة وقتان، وأوَّل الوقتين أفضلهما، ولا ينبغي تأخير ذلك عمداً، ولكنَّه وقت مَن شُغِل، أو نسي، أو سها، أو نام، وليس لِأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتاً إلّامن عذر، أو علَّة «(2)».

وسأل عبيد بن زرارة الصادق عن وقت الظهر والعصر؛ فقال: إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر جميعاً، إلّاأنَّ هذه قبل هذه، ثمَّ أنت في وقت منهما جميعاً حتّى تغيب الشمس «(3)».

وقد أيد موقف أهل البيت بعض الصحابة منهم ابن عباس «(4)».

وعائشة وانها قالت: كان رسول اللَّه يصلّي العصر والشمس لم تخرج من حجرتها.

وفي آخر: إنَّ رسول اللَّهصلّى العصر والشمس في حجرتها، لم يظهر الفي ء من حجرتها.

وفي ثالث: كان النبيّ يصليصلاة العصر والشمس طالعة في حجرتي لم يظهر الفي ء بعد «(5)».

وأخرج البخاريّ- في باب وقت العصر-؛ قال: سمعت أبا أمامة يقول:

صلَّينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثمَّ خرجنا حتّى دخلنا على أنس بن مالك، فوجدناه يصلّي العصر

فقلت: يا عمّ! ما هذه الصلاة التيصلَّيت؟

قال: العصر؛ وهذهصلاة رسول اللَّه التي كنَّا نصلِّي معه «(6)».


1- صحيح البخاريّ 1: 141.
2- تهذيب الأحكام 2: 39/ 123، الاستبصار 1: 276/ 1003.
3- تهذيب الأحكام 2: 24/ 68 و 26/ 73، الاستبصار 1: 246/ 881، من لا يحضره الفقيه 1: 139/ 647.
4- أنظر مسند أحمد 1: 221، 283، شرح معاني الآثار 1: 160/ 966، 967، صحيح البخاريّ 1: 143 و 147. الموطّأ 1: 144/ 4، سنن أبي داود 2: 6/ 1210، صحيح مسلم 1: 489/ 49، 490/ 54، 491 و 492/ 57، 58.
5- صحيح البخاريّ 1: 144، الموطّأ 1: 4/ 2.
6- صحيح البخاريّ 1: 144، 145.

ص:244

وغيرها الكثير وجاء في مقاتل الطالبيّين، عن الحسن بن الحسين؛ قال:

دخلت أنا والقاسم بن عبد اللَّه بن الحسين بن عليّ بن الحسين، نغسِّل أبا الفوارس عبد اللَّه بن إبراهيم بن الحسين، وقدصلّينا الظهر،

فقال لي القاسم: هل نصلّي العصر؟ .. فإنَّا نخشى أن نبطى ء في غسل الرجل [يعني به أبا الفوارس].

فصلّيت معه .. فلمَّا فرغنا من غُسله، خرجت أقيس الشمس، فإذا ذلك أوَّل وقت العصر، فأعدت العصر .. فأتاني آتٍ في النوم؛ فقال: أعدت الصلاة وقدصلَّيت خلف القاسم؟!

قلت:صلَّيت في غير الوقت!

قال: قلبُ القاسم أهدى من قلبك «(1)».

فاتّضح ممّا سبق أنَّ موقف الطالبيّين- سواء الحسنيّ منهم أو الحسينيّ- وكذا بعض الصحابة كعبد اللَّه بن عبّاس (حبر الأُمَّة) وأنس بن مالك (خادم الرسول) وعائشة (زوج النبيّ) وغيرهم، كان هو الجمع، أو نراهم يقررون الجمع.

2- المسح على الخُفَّين:

1- أخرج أبو الفرج الأصفهانيّ أخبار بعض المندسِّين فيصفوف يحيى بن عبد اللَّه بن الحسن؛ فقال:صحبه جماعة من أهل الكوفة، فيهم ابن الحسن بنصالح بن حيّ .. كان يذهب مذهب الزيديّة البتريّة في تفضيل أبي بكر وعمر


1- مقاتل الطالبيّين: 617.

ص:245

وعثمان في ست سنين من إمارته، وإلى القول بكفره في باقي عمره، يشرب النبيذ، ويمسح على الخفّين .. وكان يخالف يحيى في أمره، ويفسد أصحابه.

قال يحيى بن عبد اللَّه: فأذَّن المؤذِّن يوماً، وتشاغلتُ بطهوري، وأُقيمت الصلاة، فلم ينتظرني وصلَّى بأصحابي فخرجت، فلمَّا رأيته يصلِّي، قمت أُصلّي ناحية، ولم أُصَلِّ معه، لعلمي انَّه يمسح على الخفّين .. فلمَّاصلّى؛ قال لأصحابه:

علام نقتل أنفسنا مع رجل لا يرى الصلاة معنا، ونحن عنده في حال مَن لا يرضى مذهبه؟ «(1)».

2- وروى زيد بن عليّ، عن أبيه، عن جدّه الحسين بن عليّ (رضي اللَّه عنهما)؛ قال: إنَّا ولد فاطمة (رضي اللَّه عنها) لا نمسح على الخفّين ولا العمامة ولا كُمّه ولا خمار ولا جهاز «(2)».

وروى قول جدّه عليّ بن أبي طالب: «سبق الكتاب الخفّين» «(3)» .. وقد مرَّ عليك كلامه في عهد عمر.

3- وروى ابن مصقلة، عن الإمام الباقر؛ أنَّه قال: فقلت: ما تقول في المسح على الخفّين؟

فقال: «كان عمر يراه ثلاثاً للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم؛ وكان أبي لا يراه في سفر ولا حضر» .. فلمَّا خرجت من عنده، وقفت على عتبة الباب؛ فقال لي:

«أقبل» .. فأقبلت عليه .. فقال: «إنَّ القوم كانوا يقولون برأيهم فيخطئون ويصيبون؛ وكان أبي لا يقول برأيه».

وقد أيد موقف أهل البيت كل من ابن عبّاس، وعائشة إذ المنقول عنهما انَّهما قالا: لئن تقطع قدماي أحبُّ إلَيَّ من أن أمسح على الخفَّين. و: لَأن أمسح على جلد حمار، أحبُّ إلَيَّ من أن أمسح على الخفَّين. وغيرهما ... «(4)».

أمَّا فيما يخصّ ابن عمر، فقد قال عطاء: كان ابن عمر يخالف الناس في المسح


1- مقاتل الطالبيّين: 468.
2- مسند الإمام زيد: 74.
3- مسند الإمام زيد: 75.
4- انظر: التفسير الكبير 11: 163.

ص:246

على الخفّين، لكنَّه لم يمت حتّى وافقهم «(1)».

وبهدا تبيّن لنا أنَّ فقه بني الحسن والإمام زيد والإمام الباقر، وحتّى عبد اللَّه ابن عبّاس .. كان واحداً في المسح على الخفّين، وأنّه لم يكن بينهم أدنى اختلاف، لكنَّ متفقّهة الحاكمين ينسبون إلى عليّ وبنيه القول بالمسح على الخفّين .. وحتى في جزئيّات مسائله.

3- حيَّ على خير العمل:

روى أبو الفرج الأصفهانيّ أنّ إسحاق بن عيسى بن عليّ ولي المدينة، في أيّام موسى الهادي، فاستخلف عليها رجلًا من ولد عمر بن الخطّاب، يُعرف بعبد العزيز بن عبد اللَّه، فحمل على الطالبيّين، وأساء إليهم، وأفرط في التحامل عليهم، وطالبهم بالعرض عليه كلّ يوم وكانوا يعرضون في المقصورة، وأخذ كلّ واحد بكفالة قريبه ونسيبه فضمن الحسين بن عليّ، ويحيى بن عبد اللَّه بن الحسن: الحسن بن محمَّد بن عبد اللَّه بن الحسن ... ثمَّ عرضهم يوم الجمعة ..

فدعا باسم الحسن بن محمَّد، فلم يحضر؛ فقال ليحيى والحسين بن عليّ:

لتأتياني به أو لأحبسنَّكما، فإنَّ له ثلاثة أيّام لم يحضر العرض، ولقد خرج وتغيَّب؛ أريد أن تأتياني بالحسن بن محمَّد.

فقال له الحسين: لا نقدر عليه، هو في بعض ما يكون فيه الناس، فابعث إلى آل عمر بن الخطّاب، فاجمعهم كما جمعتنا، ثمَّ اعرضهم رجلًا رجلًا، فإن لم تجد فيهم من غاب أكثر من غيبة الحسن عنك، فقد أنصفتنا.

فحلف العمريّ بطلاق زوجته وحرمة مماليكه، ليضربنَّ الحسين ألف سوط، وليركبنَّ إلى سويقة فيخرِّبها، و ...

فوثب يحيى مغضباً، وأعطاه العهد بأن يأتيه إليه .. فبعث إلى الحسن بن


1- التفسير الكبير 11: 164.

ص:247

محمَّد أن يأتي؛ فجاء يحيى، وسليمان، وإدريس- بنو عبد اللَّه بن الحسن- وعبد اللَّه بن الحسن الأفطس، وإبراهيم بن إسماعيل طباطبا، وعمر بن الحسن بن عليّ بن الحسن بن الحسين بن الحسن، وعبد اللَّه بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن عليّ، وعبد اللَّه بن جعفر بن محمَّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب .. وأرسلوا إلى فتيان من فتيانهم ومواليهم، فاجتمعوا .. ستة وعشرين رجلًا من ولد عليّ، وعشرة من الحاجّ، ونفر من الموالي.

فلمَّا أذَّن المؤذِّن للصبح .. دخلوا المسجد، ثمَّ نادوا: (أحد، أحد)، وصعد عبد اللَّه بن الحسن الأفطس المنارة التي عند رأس النبيّ (ص)، عند موضع الجنائز؛ فقال للمؤذِّن: أذِّن ب «حيَّ على خير العمل» .. فلمَّا نظر إلى السيف في يده أذَّن بها. وسمعه العمريّ، فأحسَّ بالشرِّ، ودهش وولَّى هارباً، فصلَّى الحسين بالناس الصبح؛ ودعا الشهود العدول الذين كان العمريّ أشهدهم عليه أن يأتي بالحسن إليه، ودعا بالحسن؛ وقال للشهود: (هذا الحسن قد جئت به، فهاتوا العمريّ وإلّا واللَّه خرجت من يميني، وممَّا عَلَيَّ).

ولم يتخلَّف عنه أحد من الطالبيّين إلّاالحسن بن جعفربن الحسن بن الحسن، فإنَّه استعفاه فلم يكرهه، وموسى بن جعفر بن محمَّد؛ فقال له: أنت في سعة «(1)».

وجاء في مسند الإمام زيد:

حدّثني زيد بن عليّ (رضي اللَّه عنه)، عن أبيه علي بن الحسين (رضي اللَّه عنه)؛ إنَّه كان يقول في أذانه: «حيَّ على خير العمل؛ حيَّ على خير العمل» «(2)».

وروى عن الحسين بن عليّ-صاحب فخّ- أنّه قد أذّن بها «(3)».

قال القوشجيّ، في شرحه للتجريد- في مبحث الإمامة-: إنَّ عمر قال وهو


1- مقاتل الطالبيّين: 443- 447 مختصراً.
2- مسند الإمام زيد: 83.
3- انظر: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 276.

ص:248

على المنبر: أيُّها الناس! ثلاث كنَّ على عهد رسول اللَّه، وأنا أنهى عنهنَّ، وأُحرِّمهنَّ، وأُعاقب عليهنَّ: متعة النساء، ومتعة الحجّ، وحيِّ على خير العمل.

ثمَّ اعتذر القوشجيّ عن الخليفة بقوله: إنَّ ذلك ليس ممَّا يوجب قدحاً فيه، فإنَّ مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهاديّة ليس ببدع لكن اعتداءه عن الخليفة لا معنى له! لانه لو كان معذوراً فلِمَ يُوجب على نفسه العقوبة إذَن؟ أوَلَم يقل: (وأُعاقب عليهنَّ)؟!

وإذا كان الإتيان بها غير جائز، فَلِمَ كان ابن عمر وأمامة بن سهل وغيرهما يقولون في أذانهم (حيّ على خير العمل)، كما حكاه ابن حزم في المحلّى «(1)»؟!

وبهذا .. عرفنا كذلك أنَّ الطالبيّين جميعاً كانوا يتحيَّنون الفرص المناسبة للدعوة إلى السنَّة الشريفة، وإرجاع الناس إليها .. وإنَّ ابن النباح كان يقول في أذانه: حيّ على خير العمل؛ حيّ على خير العمل .. فإذا رآه عليّ؛ قال: «مرحباً بالقائلين عدلًا، وبالصلاة مرحباً وأهلًا» «(2)».

ويدلُّ هذا النصّ، وغيره، على أنَّ أتباع السنَّة النبويّة كانوا قلَّة في عهده، إذ إنَّ معظمهم قد أخذوا بكلام الخليفة عمر بن الخطّاب وسيرته، واعتادوا على ذلك، سوى أهل البيت وبعض الصحابة!

4- الصلاة على الميّت:

يختلف بنو عليّ مع الآخرين في عدد التكبيرات على الميّت، فهم يؤكِّدون على أنَّها خمس تكبيرات، أمَّا عمر فقد جمعهم على الأربع، لما كانوا يختلفون فيه!


1- انظر كذلك السيرة الحلبية 2: 98 باب بدا الاذان ومشروعيته ومناظرات في الشريعة الاسلامية للدكتور عبد المجيد تركي: 284، ومجلة تراثنا عدد 32 ص 324.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 187/ 890، وعنه في وسائل الشيعة 5: 418/ 6973.

ص:249

فقد جاء في مقاتل الطالبيّين:

حدّثني يحيى بن عليّ، وغير واحد؛ قالوا: حدّثنا عمر بن شبّة؛ قال: حدّثنا إبراهيم بن محمَّد بن عبد اللَّه بن أبي الكرام الجعفريّ؛ قال:

1-صلّى إبراهيم بن عبد اللَّه بن الحسن على جنازة بالبصرة، فكبَّر عليها أربعاً ..

فقال له عيسى بن زيد: لِمَ نقصتَ واحدة، وقد عرفت تكبير أهلك؟

قال: إنَّ هذا أجمع للناس، ونحن إلى اجتماعهم محتاجون، وليس في تكبيرة تركتها ضرر إن شاء اللَّه.

ففارقه عيسى واعتزله؛ وبلغ أبا جعفر [أي المنصور] فأرسل إلى عيسى يسأله أن يخذّل الزيديّة عن إبراهيم، فلم يفعل، ولم يتمّ الأمر حتّى قتل إبراهيم، فاستخفى عيسى بن زيد؛ فقيل لأبي جعفر: ألا تطلبه؟

فقال: لا واللَّه؛ لا أطلب منهم رجلًا بعد محمَّد وإبراهيم، أنا أجعل لهم بعد هذا ذكراً؟!

قال أبو الفرج الأصفهانيّ: وأظنُّ هذا وهماً من الجعفريّ الذي حكاه، لأنَّ عيسى لم يفارق إبراهيم في وقت من الأوقات، ولا اعتزله، قد شهد معه باخمرى حتّى قتل إبراهيم، فتوارى عيسى إلى أن مات «(1)» ... ثمَّ أتى بخبر عدم مفارقة عيسى لإبراهيم فيص 413.

في النصِّ المذكور عدَّة أُمور ينبغي التدبّر فيها:

أ- لِمَ نقصت واحدة، وقد عرفت تكبيرة أهلك؟

ب- إنَّ هذا أجمع للناس، ونحن إلى اجتماعهم محتاجون.

ج- ليس في تكبيرة تركتها ضرر إن شاء اللَّه؛ ففارقه عيسى واعتزله.


1- انظر: مقاتل الطالبيّين: 335 و 408 إلى 413.

ص:250

د- بلغ أبا جعفر، فأرسل إلى عيسى يسأله أن يخذّل الزيديّة عن إبراهيم؛ فلم يفعل، ولمَّا قتل إبراهيم، اختفى.

ويؤيِّد موقف عيسى الفقهيّ ما جاء في مسند الإمام زيد:

2- حدّثني زيد بن عليّ، عن أبيه، عن جدِّه عليّ (رضي اللَّه عنهم) في الصلاة على الميّت؛ قال: تبدأ في التكبيرة الأُولى: بالحمد والثناء على اللَّه تبارك وتعالى؛ وفي الثانية: الصلاة على النبيّ؛ وفي الثالثة: الدعاء لنفسك والمؤمنين والمؤمنات؛ وفي الرابعة: الدعاء للميِّت، والاستغفار له؛ وفي الخامسة: تكبِّر وتسلِّم «(1)».

3- وما أخرجه أحمد في مسنده، عن عبد الأعلى؛ قال:صلَّيتُ خلف زيد ابن أرقم على جنازة، فكبِّر خمساً ..

فقام إليه أبو عيسى- عبد الرحمن بن أبي ليلى- فأخذ بيده فقال: نسيت؟!

قال: لا؛ ولكنِّيصلَّيت خلف أبي القاسم خليلي (ص)، فكبَّر خمساً، فلا أتركها أبداً «(2)».

4- روى البغويّ من طريق أيّوب بن النعمان، عن زيد بن أرقم، مثله «(3)».

5- وأخرج الطحاويّ بسنده، عن يحيى بن عبد اللَّه التميميّ؛ قال:صلَّيت مع عيسى- مولى حذيفة بن اليمان- على جنازة، فكبِّر عليها خمساً .. ثمَّ التفت إلينا؛ فقال: ما وهمت، ولا نسيت، ولكنّي كبَّرت كما كبَّر مولاي، وولي نعمتي- يعني حذيفة بن اليمان-صلَّى على جنازة، فكبَّر عليها خمساً، ثمَّ التفت إلينا؛ فقال: ما وهمت، ولا نسيت، ولكنّي كبَّرت كما كبَّر رسول اللَّه «(4)».

وبعد هذا فقد وقفت على بعض الأخبار عن ولد عليّ وأنّهم كانوا لا


1- مسند الإمام زيد: 149.
2- مسند الإمام أحمد بن حنبل 4: 370، شرح معاني الآثار 1: 494/ 2827، التلخيص: 112 رقم 257.
3- الإصابة 2: 22.
4- شرح معاني الآثار 1: 494/ 2828.

ص:251

يكبّرون على الميّت إلّاخمساً! وقد جاء في مقاتل الطالبيّين: انّ الحسن بن عليّصلّى على الإمام عليّ وكبّر خمس تكبيرات «(1)».

إنّ الدسّ، ووضع الأحاديث المعارضة المختلقة هي منصنيعة الأمويين، لكي يتمكَّنوا من تضعيف روايات السنَّة أمام السواد الأعظم من هذه الأُمَّة الممتحنة!

إنَّ مواقف أهل البيت المسطَّرة علىصفحات التاريخ لَتدلِّل، بكلِّ وضوح، على أنَّ أُصولهم واحدة واتجاههم واحد، وأنَّهم ما حادوا يوماً عن منهج عليّ بن أبي طالب الذي هو التجسيد الحقيقي لما أراده رسول اللَّه (ص) وبيَّنه فعلًا وقولًا وتقريراً.

وأنَّ ظاهرة التشكيك في فقه العلويين، ونقل المتناقضات عنهم، ما هي إلّا خطَّة حكوميّة قد وضعت لبنة أساسها الحكومة الأمويّة، وسارت على منوالها الحكومة العبّاسيّة، كما سنبيّن فيما بعد.

استبان من هذا كلّه أنَّ فقه الإمام زيد لا يبتعد عن فقه عبد اللَّه بن الحسن ومحمَّد الباقر وجعفر الصادق، بل كلّهم سليل بيت النبوَّة، وأبناء عليّ والزهراء، وأنَّ الارتباط والائتلاف الدينيّ ملحوظ بينهم، وقد وقفت على بعض النصوص الدالة على ذلك.

فلو كان مذهب زيد غير مذهب الباقر والصادق، لما ترحَّموا عليه، ولما كان يُذكر بتلك الجلالة في كتب الرجال عند الشيعة، ولما قالوا عنه بأنَّه يعرف ناسخ القرآن من منسوخه، وأنَّه سيّد أهله، و ...

وكذا الحال بالنسبة إلى بني الحسن، فقد دعا الصادق لهم وهملت عيناه بالدمع لما راى يخرج بهم في محامل «(2)».


1- مقاتل الطالبيّين: 41، وكذا في درر الأحاديث النبويّة بالأسانيد اليحيويّة: 22، 93.
2- مقاتل الطالبيين: 219- 220.

ص:252

والملاحظ في سند الصحيفة السجادية يدرك هذه الحقيقة باوضح معالمها اذ الصحيفة الموجوده عن عبد اللَّه بن الحسن هي كالموجوده عند الصادق «فنظرت واذا هما امر واحد ولم أجد حرفاً منهما يخالف ما في الصحيفة الاخرى».

مبرّرات الخلاف

وعليه .. فلو كان ثمَّة اختلاف بينهم، لحمل على ثلاثة عوامل:

1- سيطرة الروح الثوريّة على بني الحسن والزيديّة.

2- محاولة الحكّام إشاعة الفرقة بينصفوف الطالبيّين.

3- نجاح الفقهاء الآخرين في احتواء الزيديّة.

أمّا العامل الأوّل:

فهو سيطرة الروح الثوريّة على بني الحسن وجماعة زيد، واستغلال الحكّام والمندسّين هذه الروح لتشكيكهم في أقوال الصادق وحمل وتفسير كلمات الإمام محمَّد الباقر وجعفر بن محمَّد الصادق لبني الحسن على أنّها كانت بدافع الحسد والتنافس أو الخوف من القتال، وما شابه ذلك!

لكنَّ المدقّق في أقوال الباقر والصادق لا يستشم فيها شيئاً من هذا؛ فأقوالهما لا تشير إلى تخطئتهم لقيام محمَّد النفس الزكيّة أو ثورة زيد بن علي أو ... بقدر ما هي ايضاح وكشف أنَّ جهودهم ليست تثمر الثمرة المرجوّة؛ لأنَّ الظروف التى كانت سائدة، لا هي ظروف ثورة ولا الزمان زمان ثورة، وهذا ما عرفوه ببصائرهم، وما ورثوه عن آبائهم في تحليلهم ومعرفتهم للوقائع

ص:253

والأحداث.

جاء في مقاتل الطالبيّين، عن ابن داحة:

إنَّ جعفر بن محمَّد قال لعبد اللَّه بن الحسن: «إنَّ هذا الأمر، واللَّه ليس إليك، ولا إلى ابنيك، وإنَّما هو لهذا- يعني السفَّاح- ثمَّ هذا- يعني المنصور- ثمَّ لولده من بعده، لا يزال فيهم حتّى يُؤمِّروا الصبيان، ويشاوروا النساء» ..

فقال عبد اللَّه: واللَّه يا جعفر؛ ما أطلعك اللَّه على غيبه، وما قلت هذا إلّا حسداً لابني!

فقال: «لا واللَّه! ما حسدت ابنك، وإنَّ هذا- يعني أبا جعفر المنصور- يقتله على أحجار الزيت، ثمَّ يقتل أخاه بعده بالطفوف، وقوائم فرسه في الماء».

ثمَّ قام مغضباً يجرُّ رداءه .. فتبعه أبو جعفر المنصور؛ فقال: أتدري ما قلت يا أبا عبد اللَّه؟!

قال: «إي واللَّه أدريه، وإنَّه لكائن» «(1)».

ثمَّ قال الراوي: فلمَّا ولي أبو جعفر الخلافة، سمَّى جعفراً الصادق، وكان إذا ذكره قال: قال لي الصادق جعفر بن محمَّد كذا وكذا، فبقيت عليه «(2)».

وقد جاء في الاقبال للسيد ابن طاووس ماكتبه الامام الصادق لعبد اللَّه بن الحسن يعزيه عماصار اليه، وفيه: الى الخلف الصالح والذرية الطيبة من ولد أخيه وابن عمه اما بعد ... «(3)».

وبهذا يفهم أنَّ الاختلاف بين عبد اللَّه بن الحسن، وجعفر بن محمَّد، لم يكن مذهبيّاً، بل إنَّه ناشئ عن سوء فهم بني الحسن والزيديّة مواقف الصادق، إذ أنَّ في كلمة الصادق: «إلى الخلف الصالح» إشارة إلى كونه لم يحد عن الجادّة؛ وكذا الأمر بالنسبة إلى الإمام زيد بن عليّ بن الحسين، فقد جاء في تاريخ الشام، عن


1- قال ابن خلدون في تاريخه في الفصل الثالث والخمسين 1: 589 عن الإمام الصادق ع:« وقد صحّ عنه انّه كان يحذّر بعض قرابته بوقائع تكون لهم، فتصحّ كما يقول، وقد حذر يحيى- ابن عمّه زيد- من مصرعه وعصاه، فخرج وقتل بالجوزجان كما هو المعروف، وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنّك علماً وديناً وآثاراً من النبوّة، وعناية من اللَّه بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطيّبة» انتهى بلفظه.
2- مقاتل الطالبيّين: 255- 256.
3- إقبال الأعمال: 579.

ص:254

عمرو بن القاسم: إنَّ جعفر بن محمَّد ذكر عمّه زيداً فترحّم عليه وقال: «كان واللَّه سيّداً، واللَّه ما ترك فينا لدنيانا ولآخرتنا مثله».

وجاء في «الخطط المقريزيّة»، عن جعفر بن محمَّد، أنَّه قال لجماعة تبرَّؤوا من بيعة زيد بن عليّ: «برئ اللَّه ممّن تبرَّأ من عمّي زيد».

وذكر ابن حجر في ترجمة حكيم بن عيّاش، في الإصابة:

جاء رجل إلى جعفر بن محمَّد الصادق، فقال له: سمعت حكيم بن عيّاش ينشد هجاءكم بالكوفة.

فقال: «هل علقت منه بشي ء؟»

فقال: سمعته يقول:

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ولم نر مهديّاً على الجذع يُصلبُ

وقِسْتُم بعثمان عليّاً سفاهة وعثمان خير من عليّ وأطيب

فرفع يديه وهما ترعشان، وقال: «اللّهمَّ إن كان عبدك كاذباً فسلِّط عليه كلبك» .. فبعثه بنو أُميّة إلى الكوفة، فبينا هو يدور في سككها، إذ افترسه الأسد، واتّصل خبره بجعفر، فخرَّ ساجداً ثمَّ قال: «الحمد للَّه الذي أنجزنا وعده» «(1)».

وقد روي عنه انّه قال: (لعن اللَّه قاتله وخاذله، وإلى اللَّه أشكو ما نزل بأهل بيت نبيّه بعد موته، ونستعين باللَّه على عدوّنا وهو المستعان).

وجاء في عيون الأخبار: لمّا خرج زيد بن موسى بن جعفر على المأمون، وظفر المأمون به، عفاه لمكان الرضا منه؛ فقال للرضا: يا أبا الحسن؛ لئن خرج أخوك، وفعل ما فعل، فلقد خرج قبله زيد بن عليّ، فقتل، ولولا مكانك منّي لقتلته.


1- الإصابة 1: 395.

ص:255

فقال الرضا: «يا أمير المؤمنين؛ لا تقس أخي زيداً إلى زيد بن عليّ، فإنّه من علماء آل محمَّد، غضب للَّه فجاهد أعداءه حتّى قتل في سبيله؛ ولقد حدّثني أبي انّه سمع أباه جعفراً يقول: رحم اللَّه عمّي زيداً، إنّه دعا إلى الرضا من آل محمَّد، ولو ظفر لوَفى بما دعا إليه، وقد استشارني في خروجه؛ فقلت له: يا عمّ إن رضيت أن تكون المقتول بالكناسة فشأنك» «(1)».

ففي قول الصادق إشارة إلى إخبار الرسول وإخبار عليّ بن أبي طالب والحسين بن عليّ، وغيرهم: «بأنَّ رجلًا من ولده يصلب بالكناسة» «(2)».

وحدة المواقف الدينيّة

اتّضح ممّا مضى انَّ مذهب الإمام زيد لا يخالف مذهب الباقر والصادق، وكذا الحال بالنسبة إلى بني الحسن، وإن اختلفوا في بعض المواقف السياسيّة، إذ كيف يمكن تصوّر مخالفة زيد لِأخيه الأكبر محمَّد الباقر، وكلاهما ابنا عليّ بن الحسين بن عليّ، والجميع يشهد بفضلهما وجلالة قدرهما ومكانهما من الفقه والشريعة؟!.

فقد روي عن الإمام زيد أنّه قال: «من أراد الجهاد فإليّ، ومن أراد العلم فإلى ابن أخي».

كما قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق: «القائم إمام السيف، والقاعد إمام علم» «(3)».

وهذا ما يبيّن أنَّ أهل البيت كانوا يواجهون الحكّام على الصعيدين العلميّ والسياسيّ. ومن المعلوم أنَّ الاختلاف في المنهجيّة والأُسلوب، لا يعني


1- عيون الأخبار 1: 194/ 1، وقريب منه في تهذيب تاريخ دمشق 6: 20.
2- عيون الأخبار 1: 195، 196/ 2، 4، مقاتل الطالبيين: 130.
3- انظر: جهاد الشيعة للدكتورة سميرة الليثيّ: 190، ومقدمة الصحيفة السجادية كذلك.

ص:256

الاختلاف في العقيدة وأُصول التشريع؛ وكان أهل البيت من المعتقدين بضرورة الحفاظ على كلا الأُسلوبين في مجال تبيين الأحكام والسياسة، من أجل استمرار المواجهة على مرِّ الأيّام.

وصحيح أنَّ القيام والقعود خطّان متوازيان، لكنّهما يصبّان في هدف واحد مشترك، وهو دوام نهج السنّة النبويّة الشريفة، ولهذا السبب نرى في تاريخ الشيعة تيارين حاكمين عبر جميع فترات تاريخهم، التيّار الثوريّ الرافض، والتيّار المنتظر المحافظ، ومن التيارين السالب والموجب- كما يقول علماء الفيزياء- يحدث النور، وهكذا الأمر بالنسبة للحركة، فهي لا تنتج إلّابتقديم رجل وتأخير أُخرى وكلاهما ضروريّ للتقدّم والسير. فصدور بعض النصوص عن الصادق في زيد أو غيره، لا يعني التشكيك في قيامه، بل يرجح أن يكونصدور تلك الأخبار عنه عبارة عن موقف تكتيكيّ اقتضته الظروف السياسيّة الخاصّة آنذاك. ولأجل ذلك قال الرسول عن الحسن والحسين أنّهما إمامان قاما أو قعدا!

وعليه، فوحدة الفكر والمذهب والمنحى السياسيّ بين بني الحسن والزيديّة والجعفريّة لا انفصام لها، إذ لو لم تكن كذلك، لما رأينا يحيى بن عبد اللَّه بن الحسن يخاطب جعفر بن محمَّد الصادق ب «حبيبي».

فقد جاء في مقاتل الطالبيين:

كان يحيى يسمّيه (أي الصادق) حبيبي، وكان إذا حدَّث عنه قال: (حدَّثني حبيبي جعفر بن محمَّد) «(1)».

وكان الصادق قد أوصى إليه، كما أوصى إلى ابنه موسى وأُمّ ولد كانت عنده بأُمور «(2)».


1- مقاتل الطالبيين: 464.
2- مقاتل الطالبيين: 464.

ص:257

ألا ترى أنّ هذه الكلمات تدلّ على وحدة الهدف وتقارب الفكر والاستدلال؟

وإذا لم يكونا متحدين، فكيف يولّي أبو السرايا: إبراهيمَ بن موسى بن جعفر اليمن، وزيدَ بن موسى بن جعفر الأهواز «(1)»؟

وكيف يقف عليّ بن جعفر بن محمَّد بن عليّ بن الحسين أمام الجعفريّصاحب البصرة أيّام المنصور «(2)»؟

وإذا لم يكونا على وفاق في الأمر، فبِمَ نفسِّرُ هذا الخبر:

حدّثنا إبراهيم بن إسحاق القطّان؛ قال: سمعت الحسين بن عليّ (صاحب فَخّ)، ويحيى بن عبد اللَّه؛ يقولان: «ما خرجنا حتّى شاورنا أهل بيتنا، وشاورنا موسى بن جعفر، فأمرنا بالخروج» «(3)».

ولمّا جاء الجند برؤوس شهداء فخ إلى موسى والعبّاس، وعندهم جماعة من ولد الحسن والحسين، لم يتكلّم أحد منهم بشي ء إلّاموسى بن جعفر؛ فقال له: هذا رأس الحسين؟

فقال: «نعم؛ إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، مضى واللَّه مسلماً،صالحاً،صوّاماً، قوّاماً، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله» فلم يجيبوه «(4)».

فإذا كانوا على اختلاف في الفقه، فهل يمكنصدور مثل هذا النصّ من قبل


1- مقاتل الطالبيين: 533.
2- مقاتل الطالبيين: 534.
3- مقاتل الطالبيين: 457.
4- مقاتل الطالبيين: 453.

ص:258

موسى بن جعفر؟ وهل يمكن أن يقول يحيى بن عبد اللَّه بن الحسن للصادق:

«حبيبي»؟

وكذا الحال بالنسبة للحسين بن عليّ ويحيى في قولهما: «ما خرجنا حتّى شاورنا أهل بيتنا، وشاورنا موسى بن جعفر، فأمرنا بالخروج»؟

وعلى ضوء ذلك، فما الفاصل بين وضوء بني الحسن والزيديّة إذَن؟ فهل كانا يمثّلان خطّين متضادّين، أم هما على وفاق فيه؟

وهل انَّ وضوء عليّ بن الحسين وزيد بن عليّ وعبد اللَّه بن الحسن كان موافقاً لوضوء عثمان بن عفّان وعبداللَّه بن عمرو بن العاص والربيّع بنت معوّذ، أم انّهم يعتقدون بما حكاه عليّ بن أبي طالب وأوس بن أبي أوس وعبد اللَّه بن عبّاس؟

إنَّ المتتبِّع لموضوع الوضوء في كتب الحديث والرجال ليقف على حقيقة قد تكون جليّة، خلاصتها: أنّ بني هاشم لم يكونوا يمسحون على الخفّين، ولا يغسلون الرجلين، بل يدعون إلى مسح الأرجل، وكانت لهم مواقف اعتراضيّة على من نسب الغسل إلى رسول اللَّه (ص):

أ- اعتراض ابن عبّاس على الربيّع بنت معوّذ.

ب- كلام عليّ بن أبي طالب في الرحبة: «هذا وضوء من لم يُحْدِث».

ج- وقوله: «لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدم أولى بالمسح من ظاهره، إلّاانّي رأيت رسول اللَّه توضّأ هكذا».

د- ما سيأتي في العهد العبّاسيّ من هذه الدراسة من أقوال الصادقين من آل رسول اللَّه، وأنّهم عَدُّوا الغسل الثالث للأعضاء وغسل الرجلين بدعة وليس من فعل رسول اللَّه، واعترضوا على من يذهب إلى ذلك الرأي.

فظاهرة الغسل- كما عرفت- حكوميّة، ولم تكسب شرعيّتها من القرآن «(1)»، لاعتراض ابن عبّاس على الربيّع، وقوله: «أبى الناس إلّاالغسل،


1- سيتّضح لك ذلك أكثر في الفصل الثاني من هذه الدراسة.

ص:259

ولا أجد في كتاب اللَّه إلّاالمسح»؛ وقول أنس بن مالك والشعبيّ وعكرمة:

«نزل القرآن بالمسح» .. وما إلى ذلك من النصوص التي سلف ذكرها.

أمّا الآن، فمع نصّ آخر نستشفّ منه:

موقف عليّ بن الحسين في الوضوء:

أخرج البيهقيّ في السنن الكبرى، عن سفيان بن عيينة؛ قال: حدّثنا عبد اللَّه ابن محمَّد بن عقيل: أنَّ عليّ بن الحسين أرسله إلى الربيّع بنت معوّذ ليسألها عن وضوء رسول اللَّه (ص)، فذكر الحديث فيصفة وضوء النبيّ (ص)، وفيه قالت:

«... ثمَّ غسل رجليه ...» .. قالت: «وقد أتاني ابن عمّ لك- تعني ابن عبّاس- فأخبرتُه، فقال: ما أجد في كتاب اللَّه إلّاغسلتين ومسحتين» «(1)».

في النصّ المذكور إشارات عديدة يهمّنا منه بعض أُمور:

1-صدور هذا النصّ في العهد الأمويّ، إذ إنَّ عبد اللَّه بن محمَّد بن عقيل قد توفي سنة 145، وعليّ بن الحسين سنة 92، وبه يكون عبد اللَّه بن محمَّد قد ولد في العهد الأمويّ.

2- كون عبد اللَّه بن محمَّد بن عقيل أصغر سنّاً، وموقعاً اجتماعيّاً من عليّ ابن الحسين، لفارق الوفاة إذ عدّ أصحاب الطبقات ابن عقيل من الطبقة الرابعة من التابعين وابن الحسين من الثانية.

3- لا يعني إرسال عليّ بن الحسين ابن عمّه عبد اللَّه بن محمَّد بن عقيل إلى الربيّع لأجل الوقوف على حكم الوضوء، إذ لا يعقل أن لا يعرف عليّ بن


1- السنن الكبرى 1: 72.

ص:260

الحسين أو عبد اللَّه- وهما ابنا رسول اللَّه، وعاشا في بيت النبوّة- حكمَ أمر عباديّ، يمارسه المسلم عدّة مرّات في اليوم؛ ثمَّ كيف يُعقل أن يكون عليّ بن الحسين وهو بهذا العمر لا يعرف الوضوء، وأبوه الحسين بن عليّ، وعمّاه الحسن وابن الحنفيّة، أضف إلى ذلك كونه أحد أئمّة المسلمين وفقهاء أهل البيت؟!

فهل يمكن قبول كون الأمر تعليميّاً، وراوي الخبر السابق سفيان بن عيينة يقول عنه: (ما كان أكثر مجالستي مع عليّ بن الحسين، وما رأيت أحداً أفقه منه) «(1)»؟!

وحدَّث عبد اللَّه محمَّد القرشيّ؛ قال: كان عليّ بن الحسين إذا توضّأ اصفرَّ لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يغشاك؟

فيقول: «أتدرون لمن أتأهّب للقيام بين يديه؟» «(2)».

فمن هذه حاله، هل يصدّق أن لا يعرف حكم الوضوء، فيرسل عبد اللَّه بن محمَّد بن عقيل إلى الربيّع ليسألها عن وضوء رسول اللَّه، ليأخذ منها؟!

ومن هو عبد اللَّه بن محمَّد بن عقيل؟ ألَم يكن ابن زينب الصغرى- بنت عليّ ابن أبيّ طالب- وخاله ابن الحنفيّة و ... وهل يصدّق أن لا يعرف- مثل هذا- حكم الوضوء؟

فما الغاية من الإرسال والسؤال إذَن، إنصحّت الرواية؟

من الجليّ أنَّ إرسال عليّ بن الحسين ابن عمّه عبد اللَّه بن محمَّد بن عقيل إلى الربيّع وسؤالها عن الوضوء لم يكن استفهاميّاً تعليميّاً كماصوّره البعض، بل هو استفهام إنكاريّ منهم على ما تدّعيه، ومعناه: كيف بنا- ونحن أهل البيت- لا نعرف ما تروينه عن رسول اللَّه (ص)!

ويتأكّد هذا المدعى بقولها له: «وقد أتاني ابن عمّ لك»، وعدم بيانها لصفة وضوء رسول اللَّه، إذ إنَّ موقف ابن عبّاس كان اعتراضيّاً، وكذا الحال بالنسبة


1- تهذيب الكمال 20: 386.
2- مختصر تاريخ دمشق 17: 236، سير أعلام النبلاء 4: 392، طبقات ابن سعد 5: 216، حلية الأولياء 3: 133، تهذيب الكمال 20: 390.

ص:261

إلى موقف عبد اللَّه.

هذا، وإنَّ عدم مجي ء عليّ بن الحسين إليها ينبئ بأنَّه لا يريد أن يعطي لوضوئها المشروعيّة بمجيئه إليها، وأنَّ إرسال عبد اللَّه، وهو يومئذٍصغير السنّ، يكفي في التدليل على اعتراضهم على هذا الأمر.

وقد أراد البعض- بنقلهم رواية عن عبد اللَّه بن محمَّد بن عقيل، عن الربيّع؛ بأنَّه (ص): «مسح رأسه، ومسح ما أقبل منه وما أدبر، وصدغيه وأُذنيه مرَّة واحدة» «(1)»- إثبات كون عبد اللَّه من القائلين بالمسح الشموليّ في الرأس، كما يقول بذلك الإمام مالك!

إنَّ قول الربيّع: «وقد أتاني ابن عمّ لك ...» ليشير بكلّ وضوح إلى معرفتها وتوجّهها لمغزى سؤال ابن عقيل وكونه استنكاريّاً وليس حقيقيّاً، وهي بذلك أرادت أن تفهمه بأنّها ثابتة على رأيها على الرغم من عدم استساغة العلويين لما قالته، هذا أوّلًا.

وثانياً: في سند هذه الرواية، رجال أمويّون غير معتمدين في السند كمحمَّد ابن عجلان القرشيّ- مولى فاطمة بنت الوليد بن عتبة- الذي أغرق الرجاليون في (مدحه!) حتّى نقل عن ابنه عبد اللَّه انَّه قال: (حُمل بأبي أكثر من ثلاث سنين) «(2)»!

ثالثاً: المنقول في حديث عبد اللَّه بن محمَّد بن عقيل عن الربيّع في حكم الرأس لا يرد في الوضوءات البيانيّة الأُخرى المحكيّة عن عثمان وغيره، إلّافي حديث عبد اللَّه بن زيد بن عاصم المازنيّ وما حكى عن معاوية.

وعليه، فلا يمكن القول بأنَّ ذلك سنّة متّبعة كان رسول اللَّه (ص) يفعلها على نحو التشريع، مضافاً إلى أنَّ المروي عن جابر- بطريق عبداللَّه بن محمَّد بن


1- سنن الترمذيّ 1: 26/ 34.
2- تهذيب الكمال 21: 107.

ص:262

عقيل- عن رسول اللَّه انّه قال: إذا توضّأ أدار الماء على مرفقيه «(1)»؛ أو قوله:

رأيت رسول اللَّه يدير الماء على المرافق ... ممّا يؤكّد حقيقة أُخرى تخالف ما نسب إليه، وسنشير إليها لاحقاً إن شاءاللَّه تعالى.

ولأجل مواقف ابن عقيل نرى ابن سعد يذكر عبد اللَّه بن محمَّد بن عقيل في الطبقة الرابعة ويقول عنه: (منكر الحديث، لا يحتجّون بحديثه، وكان كثير العلم) «(2)».

وقال الحسن بن علي الحلوانيّ عن علي بن المدائنيّ، عن بشر بن عمر الزهرانيّ: (كان مالك لا يروي عنه) «(3)».

وقال يعقوب بن شيبة، عن علي بن المدائنيّ: (لم يدخل مالك في كتبه ابن عقيل ولا ابن فروة) «(4)».

لماذا؟ ألِعَدمصِدقه، أم لمواقف الإمام مالك من العبّاسيين وعدم ارتضائهم للطالبيين؟ أم لشي ء آخر؟!

ولماذا يترك ابن سعد حديثه مع شهادته بكثرة علمه؟!

وهل إنَّ عدم رواية مالك حديثاً عنه دليل على ضعفه حقّاً؟ فلو كان كذلك فالإمام عليّ بن أبي طالب هو أوّل الضعفاء في منطق المدائنيّ ومالك ومَن يقول بهذا، إذ ليس لعليّ حديث في الموطّأ، قيل إنَّه لمّا سئل عن ذلك قال: إنَّه لم يكن بالمدينة «(5)»!!

وكيف نرى الإمام مالكاً يستجيب للمنصور في كتابة الموطّأ، مع علمه بوجود من هو أعلم منه «(6)»؟!


1- السنن الكبرى للبيهقيّ 1: 56 باب إدخال المرفقين في الوضوء.
2- تهذيب الكمال 16: 80، تهذيب التهذيب 6: 14 عن الطبقات.
3- الضعفاء للعقيليّ: 2: 299، وعنه في تهذيب الكمال 16: 80، وتهذيب التهذيب 6: 14.
4- الكامل لابن عدي 4: 1447، تهذيب الكمال 16: 80، تهذيب التهذيب 6: 14.
5- انظر: مقدّمة موطّأ مالك، بقلم الدكتور محمد كامل حسين جك وغيرها.
6- انظر: المصدر السابق وغيره من كتب التراجم عن الإمام مالك.

ص:263

وما يعني كلام المنصور له: هل أخذت بأحاديث ابن عمر؟

فقال: نعم.

فقال المنصور: خذ بقوله، وإن خالف عليّاً وابن عبّاس «(1)»!

هل هناك منهجان في التحديث عن رسول اللَّه، يتزعّم أحدهما ابن عمر وهوى الحكّام، والآخر عليٌّ وابن عبّاس؟ وما دلالة مثل هكذا نصوص؟ وهل تراه يضعّف ابن عقيل حقّاً؟

فإن كان ضعيفاً وكذّاباً عند الإمام مالك، فكيف تأخذ المالكيّة إذَنْ بحديثه في مسح جميع الرأس؟!

عود على بدء

نرجع إلىصلب الموضوع للتأكيد على وحدة الطالبيين فكريّاً وفقهيّاً وسياسيّاً، بعدما عرفت اتجاه علي بن الحسين وابن عقيل وابن عبّاس وعليّ بن أبي طالب في الوضوء، ومن خلاله يمكننا معرفة وضوء الإمام زيد بن عليّ بن الحسين، وأنّه لم يكن موافقاً للربيّع وقد سردنا مواقف غيرهم من بني هاشم كابن عبّاس، أخذاً عن آبائهم.

قال الشيخ أبو زهرة في كتابه «تاريخ المذاهب الإسلاميّة» عن الإمام زيد:

(.... قد مات أبوه عام 94 ه، أي وهو في الرابعة عشرة من عمره، فتلقى الرواية عن أخيه محمّد الباقر، الذي يكبره بسنّ يسمح بأن يكون له أباً، إذ إنّ الإمام جعفر بن محمّد الباقر كان في سنّ الإمام زيد رضي اللَّه عنهم أجمعين.


1- طبقات ابن سعد 4: 147.

ص:264

وما كان من المعقول أن يجمع الإمام زيد وهو في سنّ الرابعة عشرة كلّ علم أهل البيت، فلابدّ أن يكمل أشطره من أخيه، الذي تلقى علم أبيه كاملًا. وقد كان الباقر إماماً في الفضل والعلم، أخذ عنه كثيرون من العلماء، ورووا عنه، ومن هؤلاء أبو حنيفة شيخ فقهاء العراق. وقد نال الباقر فضل الإمامة العلميّة حتّى إنّه كان يحاسب العلماء على أقوالهم وما فيها من خطأ وصواب ... «(1)»)

والآن نتساءل:

كيف جاء هذا النقل عن الإمام زيد إذن؟ وهل حقّاً أنَّه حدّث أصحابه عن أبيه عن جدّه بذلك؟ أم إنَّ الأخبار تظافرت عنه دون معرفة ملابسات الحكم الشرعيّ؟! وإنَّا بطرحنا العاملين الثاني والثالث- من أسباب اختلاف الطالبيين- سنوضح إن شاء اللَّه جواب هذا السؤال وغيره.

وأمّا العامل الثاني «(2)»:

فهو محاولة الحكّام إشاعة حالة الفرقة والخلاف بين الطالبيين، لتضعيفهم ثمّ احتوائهم فكريّاً وسياسيّاً.

فقد مرَّ عليك خبر ابن الحسن بنصالح بن حيّ مع يحيى بن عبد اللَّه بن الحسن في (المسح على الخفّ)، وكيف كان يخالف يحيى في أمره، ويفسد أصحابه عليه، وقول يحيى بن عبد اللَّه: (فأذَّن المؤذِّن يوماً، وتشاغلت بطهوري وأُقيمت الصلاة، فلم ينتظرني، وصلّى بأصحابي .. فخرجت، فلمّا رأيته يصلّي قمت أُصلّي ناحية، ولم أُصلِّ معه لعلمي انّه يمسح على الخفّين).

ففي الجملة الأخيرة إشارة إلى انَّ يحيى بن عبد اللَّه وغيره من أهل البيت كانوا لا يرون مشروعيّة الصلاة خلف الذي يمسح على الخفّين، وكذا لا يرون الاقتصار على التكبيرة الرابعة فيصلاة الميّت. وإذا ظهر منهم ما يخالف مذهبهم فإنّما جاء امتثالًا لأمر الرسول (ص) بلزوم الحفاظ على وحدة الصفّ


1- تاريخ المذاهب الإسلاميّة: 653.
2- قد مرّت الإشارة إلى العامل الأوّل فيما مضى من هذا الكتاب.

ص:265

الإسلاميّ وعدم الانشغال بجزئيّات الشريعة، ولا يدلّ موقفهم ذلك على كون هذا الفعل المأتي به هو سنّة رسول اللَّه!

نعم، إنَّ أبن الحسن بنصالح بن حيّ كان يريد بثّ الفرقة فيصفوف أصحاب يحيى وإثارة المشاعر بقوله: (علام نقتل أنفسنا مع رجل لا يرى الصلاة معنا، ونحن عنده في حال من لا يرتضى مذهبه؟) فالإمام يحيى لا يرتضي الصلاة خلفه لعدم رعايته لحقوق الإمرة والاخوّة وسعيه في بثّ الفرقة بين المجاهدين.

وقد استغلّ أبن الحسن بنصالح الخلاف المذهبيّ في إثارة هذه النعرة بينصفوف الثوّار، وهو ما كان يسعى إليه الحكّام ويبذلون من أجله الأموال.

وحكى يحيى بن عبد اللَّه نصّاً آخر عن دور ابن حيّ التخريبي فيصفوف الثوّار، فقد جاء في مقاتل الطالبيين:

(... وأهديت إليّ شهدة في يوم من الأيّام، وعندي قوم من أصحابي فدعوتهم إلى أكلها، فدخل (ابن حيّ) فى إثر ذلك؛ فقال: هذه الإثرة! أتأكله أنت وبعض أصحابك دون بعض؟!

فقلت له: هذه هديّة أُهديت إليّ وليست من الفي ء الذي لا يجوز هذا فيه.

فقال: لا؛ ولكنَّك لو وليت هذا الأمر لاستأثرت ولم تعدل.

وأفعالٌ مثل هذا من الاعتراض «(1)»).

وجاء في مقاتل الطالبيين كذلك: إنَّ إدريس بن عبد اللَّه بن الحسن أفلت من وقعة فخ وكان الرشيد يتابع خبره، فلمّا بلغه انَّه قدم مصر متوجّهاً إلى افريقية غمَّ كثيراً لعدم إمكانه القبض عليه، فشكا ذلك إلى يحيى بن خالد؛ فقال: أنا أكفيك أمره، ودعا سليمان بن جرير الجزريّ، وكان من متكلّمي


1- مقاتل الطالبيين: 468.

ص:266

الزيديّة البتريّة، ومن أُولي الرئاسة فيهم، فأرغبه ووعده عن الخليفة بكلّ ما أحبّ على أن يحتال لإدريس حتى يقتله، ودفع إليه غاليةً مسمومة، فحمل ذلك وانصرف من عنده، فأخذ معهصاحباً له وخرج يتغلغل في البلدان حتى وصل إلى إدريس بن عبد اللَّه فمتَّ إليه بمذهبه؛ وقال: إنَّ السلطان طلبني لما يعلمه من مذهبي فجئتك، فأنس به واجتباه، وكان ذا لسان وعارضة، وكان يجلس في مجلس البربر فيحتجّ للزيديّة ويدعو إلى أهل البيت كما كان يفعل، فحسن موقع ذلك من إدريس إلى أن وجد فرصة لإدريس؛ فقال له: جعلت فداك، هذه قارورةُ غاليةٍ حملتها إليك من العراق ليس في هذا البلد من هذا الطيب شي ء؛ فقبلها وتغلَّل بها وشمَّها وانصرف سليمان إلىصاحبه، وقد أعدَّ فرسين، وخرجا يركضان عليهما.

وسقط إدريس مغشياً عليه من شدَّة السمّ، فلم يعلم من بقربه ما قصّته، وبعثوا إلى راشد مولاه، فتشاغل به ساعة يعالجه وينظر ما قصّته.

فأقام إدريس في غشيته هاتِهِ نهاره حتى قضى عشيّاً، وتبيّن راشد أمر سليمان فخرج في جماعة يطلبه ... «(1)» الخبر.

كانت هذه إحدى طرق التصفية الجسديّة عند الحكّام، وقد وقفت على أُسلوبهم وكيفيّة استغلالهم المذهب كسلاح ضدَّ الطالبيين، وأنَّ سليمان بن جرير مع كونه من متكلّمي الزيديّة البتريّة وأُولي الرئاسة فيهم، تراه يدخل ضمن المخطّط، وأنَّ جملة سليمان: (انَّ السلطان طلبني لما يعلمه من مذهبي) فيها إشارة إلى أنَّ فقه الطالبيين هو غير فقه السلطان وأنَّ الحكّام استخدموا الشريعة لصالح السياسة ليتعرّفوا على الطالبيين وفق ما يؤدّونه من العبادات!

ومن خلال موقف سليمان نصل إلى انّه كان من المندسّين الفكريين فيصفوف الزيديّة، ومن ثمَّ استخدمه السلطان للغدر والخيانة.


1- مقاتل الطالبيين: 489.

ص:267

وبهذا، تجلّى لنا أنَّ الحكّام قد اتّبعوا طرقاً لاحتواء الزيديّة، منها:

1- دسّ علماء السوء بينصفوفهم، وكانت مهمّتهم: محاولة إبعاد الفصائل الثوريّة الزيديّة عن فقه عليّ بن أبي طالب.

2- بثّ النعرات المذهبيّة بينصفوف الزيديّة.

3- محاولة خلق فجوة خلاف بين الطالبيين وغيرهم، وسواها الكثير.

أمّا العلويون فكانوا- بقدر المستطاع- يسعون للمحافظة على وحدتهم سياسيّاً وفكريّاً، ممّا دعا المنصور لأن يعتب على الزيديّة لتعاونهم مع بني الحسن بقوله: (ما لي ولبني زيد! وما ينقمان علينا؟! ألم نقتل قتلة أبيهما ونطلب بثأره ونشفيصدورهما من عدوّهما «(1)»)؟!

وكيف لا ينقمون على العبّاسيين وهم يرون بأُمِّ أعينهم ذلك الدور التخريبيّ الذي يمارسونه والذي فاق دور وممارسات الأمويين خسّة وحقداً!

وأمّا العامل الثالث:

فهو احتواء بعض الفقهاء لثورة زيد بن عليّ.

من الثابت في كتب التاريخ انَّ الإمام نعمان بن ثابت (أبا حنيفة) كان من المؤيّدين للثورات العلويّة، كثورة زيد بن علي بالكوفة، ومحمّد النفس الزكيّة في المدينة، وأخيه إبراهيم في البصرة، وكان من الداعين للخروج على السلطان الفاسد.

ومن الطبيعي أن تؤثِّر هذه المواقف على نفسيّات المجاهدين ممّا يولّد لديهم حالة من التعاطف مع الإمام أبي حنيفة، مضافاً إلى أنَّ أُصول فقه أبي حنيفة كانت توافق الرأي وترتسم وفق القياس، وانّه كان يجادل مخالفيه الفقهيين


1- مقاتل الطالبيين: 406- 407.

ص:268

ويبيّن لهم وجوهاً من الرأي ممّا كان يعجب كثيراً من الناس، هذا من جهة.

ومن جهة ثانية، كان الإمام أبو حنيفة يعيش في الكوفة، ويرى انَّ غالب أهلها علويّون فكراً، فكان عليه أن يتسلّح بسلاح الحديث والمأثور إلى جوار ما يحمله من الاستدلال والرأي، فذهب إلى المدينة للاستزادة من حديث محمّد الباقر وجعفر الصادق لتقوية مكانته الاجتماعيّة في الكوفة أكثر من ذي قبل.

قال المستشرق رونلد سن:

إنَّ الشيعة كانوا يحترمون ويجلّون أبا حنيفة لصلاته الودّيّة بالإمام جعفر الصادق، وقد ازداد إعجابهم به حينما قال عن العبّاسيين: إنَّهم لو أرادوا بناء مسجد وأمروه بإحصاء الآجر فانَّه لا يفعل، لأنَّهم فاسقون والفاسق لا يتولّى الإمامة «(1)».

أمّا الإمامان الباقر والصادق فكانا يتخوّفان على شيعتهم من الإمام أبي حنيفة وأشاروا عليهم بالحيطة والحذر من آرائه لمخالفتها أُصول مدرستهم (مدرسة السنّة والتعبّد) بل ولموافقة اجتهاد الإمام أبي حنيفة للرأي والقياس، في حين يرى أهل البيت أنّ دين اللَّه- أي التشريع- لا يقاس بالعقول.

هذا، وإنَّ القول بالرأي لا يدلّ على كون قائله من المتأثّرين بالحكومة قطعاً، أو هو من أتباع السياسة الأمويّة، بل انَّ الفقيه قد يوافق السلطان في رأيه وقد لا يوافقه، ومن ذلك ما قلناه في مسألة الوضوء العثمانيّ، فإنَّ ذهاب أبي حنيفة إلى وضوء عثمان لا يعني انَّه قد استجاب للسلطان أو تأثّر بالأجواء الحاكمة، بل انّه تبنّى هذه الوجهة لموافقتها للأُصول التي رسمها لنفسه وبنى عليها فقهه.

وعليه، فإنَّ توافق الآراء بين أبي حنيفه والحكومه لا يعني تطابق السياسة


1- عقيدة الشيعة: 143.

ص:269

والمنحى، وقد عرف عن الإمام أبي حنيفة انّه كان الوحيد في الكوفة الذي يترحّم على عثمان بن عفّان «(1)».

ولنوضّح ما قلناه بتقرير آخر:

مضى على الوضوء العثمانيّ إلى أيّام ثورة الإمام زيد بن عليّ ما يقارب القرن من الزمن، فلا يعقل أن لا يترك هذا الوضوء بصماته على الحديث ومواقف التابعين، مع ما عرفت من سعي الحكومة في تبنّي فقه الخليفة عثمان ونشر آرائه، مضافاً إلى أنَّ مدرسة عثمان في الوضوء- كما سيتّضح لك لاحقاً- كانت تبتني على الرأي والاستحسان. وهذه الرؤية كانت تتّحد في بعض أُصولها مع فكر الإمام أبي حنيفة، فذهاب أبي حنيفة إلى الوضوء الثلاثيّ الغسليّ إنَّما جاء لاعتقاده بصحّة تلك الأحاديث المنقولة وموافقتها لأُصول مذهبه وليس لتأثّره بالاتّجاه الحكوميّ، إذ إنّه قد حضر عند عطاء بن رباح في مكّة، ونافع مولى ابن عمر في المدينة، وأخذ عن عاصم بن أبي النجود، وعطيّة العوفيّ وعبد الرحمن بن هرمز مولى ربيعة بن الحارث، وزياد بن علاقة، وهشام بن عروة وآخرين، وغالب هؤلاء كانوا يتّحدون في الفكر والآراء.

وعلى هذا، تكون الزيديّة قد تأثّرت بالفقه الحنفيّ للعلاقات والمواقف التي وقفها الإمام لهم، فإنَّهم قد تمسّكوا بالفقه الحنفيّ وتركوا ما كان رسمه لهم زيد من فقه آبائه عن رسول اللَّه (ص)، وذلك لعاملين:

1- خلوّ الكوفة من علماء الزيديّة- بعد مقتل الإمام زيد- وانشغال الطالبيين بمقارعة الظالمين، وبذلك تهيّأت الأرضيّة لأبي حنيفة لاحتوائهم فكريّاً لقربه إليهم مكانيّاً وسياسيّاً.

2- ابتعادهم عن فقهاء الطالبيين الموجودين في المدينة، كعبد اللَّه بن الحسن وجعفر بن محمّد الصادق، وسعي المندسّين فيصفوف الثوّار لبثِّ روح


1- انظر تاريخ المذاهب الاسلامية: 261 عن الانتقاء لابن عبد البر: 130

ص:270

الفرقة بينصفوفهم وإشاعة كون عبد اللَّه بن الحسن ليس بفقيه ولا يجوز الرجوع إليه، وأنَّ جعفر بن محمّد لا يمكن الأخذ عنه لتقاعسه عن الجهاد مع زيد، وما شاكل ذلك من الشبهات، كلّ ذلك ليحصروا الأخذ في الإمام أبي حنيفة.

وقد ثبت في علم الاجتماع أنَّ الخلاف بين الأقارب- سواء في العقيدة أو النسب- يكون أكثر وضوحاً من الخلاف بين الأباعد، فلو لحظنا- مثلًا- الخلاف بين الشيعي والسنّي- في العقائد وغيرها- لرأيناه يشغل كثيراً من وقت المسلمين، مع تقارب نظرهم واستقائهم من أُصول واحدة واتّحادهم في كثير من الميادين والأُصول، في حين لا نرى مثل هذه المواجهة بين المسلم وبين اليهوديّ أو المسيحيّ مع اختلافهم معهم في أكثر من أمر؛ وهكذا الأمر بالقياس إلى الخلاف النسبيّ بين الأقارب؛ فإنَّ الخلاف بين الإخوة وبين الأعمام تظهر ملامحه سريعاً على عكس الخلاف بين الأباعد. ولمّا كان الفقه الزيديّ يستوحي فقهه من العترة وأنّ الإمام جعفر بن محمّد الصادق هو ابن أخ الإمام زيد بن عليّ، فإنّ المندسّين بينصفوف الزيديّة يسعون لتكدير الموقف بين الزيديّة والجعفريّة عن طريق رفع مستوى التوقّعات وطرح بعض الشبهات، ليبعدوا أنظار الزيديّة عن أعلام الطالبيين في المدينة، حتى يسهل الالتفاف حولهم لاحتوائهم فكريّاً.

وتبيّن بهذا أنَّ القريب دوماً يتوقّع من قريبه- أكثر من البعيد أو المختلف معه- أن يؤازره وينصره، وأن يسير معه، وحينما لايلمس هذا التعاون- رغم ما بهذا من مسوّغات وأدلّة- نراه يبتعد شيئاً فشيئاً عن قريبه، ولربّما بلغ به الأمر أن يجعله في ضمن أعدائه ومناوئيه، وخصوصاً إذا لحظنا بُعد المسافة بين الكوفة والمدينة ووجود أعلام كالإمام أبي حنيفة في الكوفة!

ولأجل كلّ هذا، نرى بصمات الفقه الحنفيّ ظاهرة على الفقه الزيديّ،

ص:271

ويمكننا أن نعدَّ أكثر من ثلثيه مأخوذاً عن الإمام أبي حنيفة، وقد أكّد هذه الحقيقة الشيخ محمّد بخيت- مفتي الديار المصريّة في أوانه- في تقريظه لمسند الإمام زيد بن عليّ، بقوله:

أمّا بعد، فانَّي اطّلعت على هذا المجموع الفقهيّ الذي جمعه الإمام عبد العزيز بن إسحاق، المنسوب بالسند الصحيح إلى الإمام الشهيد زيد بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ ابن أبي طالب كرم اللَّه تعالى وجهه،صهر الرسول وزوج البتول بضعة الرسول (ص)، وقرأته على راويه حضرة الأُستاذ الشيخ عبد الواسع، فوجدته مجموعاً جمع من المسائل الفقهيّة والأحكام الشرعيّة ما هو مدلّل عليه بالآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة، وهو موافق في معظم أحكامه لمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، وحيث إنَّ مذهب الزيديّة في العلوم الشرعيّة لم يشتهر في الديار المصريّة ... «(1)».

وبهذا، يحتمل أن يكون مجي ء الإمام أبي حنيفة إلى المدينة- مضافاً إلى تقوية مكانته الاجتماعيّة في الكوفة- إنّما كان لاختراقصفوف الشيعة الإماميّة.

أمّا حيطة الإمام جعفر بن محمّد الصادق وتركيزه على الأخذ بالمأثور وترك الرأي والقياس وتنظيمه لحلقات الدرس وقوله: «ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقّهوا» وتأكيده على الفقه .. فإنّه هو الذي أحبط بادرة الإمام أبي حنيفة في محاولة اختراقه للفقه الشيعيّ، بخلاف الزيديّة الذين انشغلوا بالحرب والكفاح المسلّح وعدم وجود أئمّة من أهل البيت بينهم ممّا أدّى إلى خلق فجوة وفراغ فقهيّ عندهم اضطرّهم إلى الالتجاء لفقه أبي حنيفة.


1- من مقدمة مسند الامام زيد بن علي: 36، وحكى المامقانيّ في تنقيح المقال 1: 336 عن الوحيد البهبهاني في ترجمة الحسين بن علوان إنّ الزيديّة في الفروع مثل العامّة.

ص:272

بين وضوء زيد ووضوء الزيديّة

وعلى هذا فالوضوء المتداول بين الزيديّة اليوم لم يكن وضوء الإمام زيد ابن عليّ، إذ إنَّه ليس بوضوء أبيه عليّ بن الحسين، وليس بوضوء جدّه عليّ بن أبي طالب وليس بوضوء أخيه الباقر، ولا ابن أخيه الصادق، وليس بوضوء ابن عمّه عبد اللَّه بن محمّد بن عقيل، ولا هو وضوء عبد اللَّه بن عبّاس وغيرهم من الطالبيين، بل هو وضوء الإمام أبي حنيفة وفق ما ثبت عندهم من الأُصول والمباني، ومثل هذا الحكم الشرعيّ كثير في فقه الزيديّة. قد جاء في مقدمة مسند الإمام زيد:

وممّا جرى عليه الناس ولم يعرفوا سبب ذلك هو عدم ذكر آل رسول اللَّه (ص) في الكتابة في كتبهم في الصلاة. وسبب عدم ذكرها أنَّ الأمويّة شدّدت في ذكر الآل كما هو مشهور من قتلهم وتشريدهم في البلاد، حتى إنَّ الحجّاج منع من التحديث عن عليّ كرّم اللَّه وجهه، حتى كان الحسن البصريّ وجماعة من التابعين إذا رووا حديثاً وكانوا في الجوامع لم يقدروا أن يصرّحوا بذكر عليّ خوفاً من سيف الحجّاج، فكانوا يقولون: وعن أبي زينب عن النبيّ (ص) فجرى الناس على ذلك من عدم ذكر الآل، والآن بحمد اللَّه زال المانع وذلك الزمن المخوف، والآن كتبُ الهند وبعض الكتب المصريّة الحديثة وأمثالها الذين أهلها متنوّرون،صاروا يذكرون الآل في الصلاة بعد ذكر النبيّ فيجعلونها من جملة الصلاة، والصلاة على النبيّ التي لايذكر فيها تسمّى الصلاة البتراء المنهيّ عنها كما في الحديث: «لاتصلّوا عليَ الصلاة البتراء».

قيل: يا رسول اللَّه، وما الصلاة البتراء؟

قال: «أن تصلّوا عَلَيَّ ولا تصلّوا على آلي».

وأخرج الدارقطنيّ والبيهقيّ في حديث: «منصلّى عليَّ ولم يصلِّ على أهل

ص:273

بيتي لم تقبل منه» وأخرج مسلم وغيره ... «(1)».

هذا، ولو سلّمنا جدلًا بأنَّ الإمام زيد بن عليّ كان قد توضّأ وغسل رجليه- مع انّا قد أوضحنا عدم وقوع ذلك- فهو لا يدلّ على مشروعيّة ذلك الفعل وكونه سنّة رسول اللَّه، إذ إنَّ الإمام زيداً كان موقفه موقف الإمام العادل الذي يجب عليه التحلّي بجميع فضائل الإمام العادل المجاهد ضدَّ أئمَّة الجور، وأن يحذر كلّ الحذر من إشغال أصحابه في الجزئيّات والفروع، خوفاً من وقوع الخلاف بينهم، وقد التفّ بالفعل حوله أغلب الفرق الإسلاميّة، حتّى المرجئة والخوارج، فيحتمل أن يكون الإمام زيد قد أتى بالوضوء الغسليّ رعاية لحال غالبيّة الجند ووحدة الصفّ وإن كان لا يعتقد بمشروعيّته، وقد لحظ مثل هذا الموقف في كلام إبراهيم بن عبد اللَّه بن الحسن في الصلاة على الميّت وقوله: (هذا أجمع لهم، ونحن إلى اجتماعهم محتاجون، وليس في تكبيرة تركتها ضرر إن شاء اللَّه) «(2)».

وقدصدرت عن الصادق نصوص كثيرة فيصلاة الجماعة مع العامّة رعاية للصفِّ الإسلاميّ ولزوم الصلاة معهم؛ فقال: «ومنصلّى معهم في الصفِّ الأوّل كمنصلّى خلف رسول اللَّه في الصفِّ الأوّل» «(3)».

وقوله: «يا إسحاق، أتصلّي معهم في المسجد؟»

قلت: نعم.

قال: «صلِّ معهم، فإنَّ المصلِّي معهم في الصفِّ الأوّل كالشاهر سيفه في سبيل اللَّه» «(4)».

وقوله: «إذاصلّيت معهم، غفر اللَّه لك بعدد من خالفك» «(5)».


1- مقدمة مسند الإمام زيد: 34.
2- مقاتل الطالبيين: 406.
3- من لا يحضره الفقيه 1: 250/ 1126، أمالي الصدوق 300/ 14، الكافي 3: 380/ 6.
4- تهذيب الأحكام 3: 277/ 809.
5- من لا يحضره الفقيه 1: 265/ 1211.

ص:274

تلخّص ممّا سبق

بهذا عرفت أنَّ موقف الإمام زيد في الوضوء لا يمكن أن يخالف موقف جعفر بن محمّد الصادق وبني الحسن، بل إنَّ فقه الجميع واحد كما رأيت دعوتهم وتأكيدهم على وحدة الصفِّ الإسلاميّ في أُمور متشعّبة ومختلفة.

وإنَّ الخلاف لو حدث بينهم إنّما كان لأحد العوامل التالية:

1- سيطرة الروح الثوريّة على بني الحسن والزيديّة وتأثّرهم بأقوال المندسّين بينصفوفهم وقناعتهم بتلك الشبهات، مثل أنَّ جعفر بن محمَّد الصادق لا يجوز الأخذ بكلامه لقعوده عن القتال مع زيد والنفس الزكيّة و ...!

2- دور الحكّام في اتّساع الفجوة بين الزيديّة والإمام الصادق، بل التمهيد وبصورة غير مباشرة إلى الأخذ بفقه الإمام أبي حنيفة.

3- حصول فراغ فكريّ في الطائفة الزيديّة- بعد مقتل الإمام زيد بن عليّ عام 120- لمدّة تقارب الثلاثين عاماً، أي حتّى عام 150، وهي المدّة التي استطاع الفكر الحنفيّ أن يخترق خلالهاصفوف الفقه الزيديّ.

وقلنا بأنَّ تعلّق الزيديّة بفقه الإمام أبي حنيفة كان لعاملين:

أ- قرب الإمام أبي حنيفة منهم مكانيّاً وسياسيّاً، وتعاطفه مع المجاهدين منذ عهد الإمام زيد وحتّى قيام محمَّد النفس الزكيّة بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة.

ب- عدم وجود فقيه من أهل البيت في الكوفة، ولو حَسِبْنا الإمام يحيى بن زيد هو الفقيه من أهل البيت فإنَّه لم يعش إلّاخمس سنوات بعد والده وقد

ص:275

خذلته الزيديّة. وإن قلنا إنّه أحمد بن عيسى بن زيد، فإنّ جُلَّ فقهه مأخوذ من تلامذة الإمام أبي حنيفة، وكذا الأمر بالنسبة إلى القاسم بن إبراهيم الرسنيّ الحسنيّ، ويحيى بن الحسين بن القاسم، وغيرهم من أعلام العلويين.

والذي يؤكّد حقيقة ما قلناه من تبدّل الفقه الزيديّ وبُعده عن آراء زيد، هو اضطراب مباني الفقه الزيديّ اليوم، فتراها ملفّقةً وخليطاً من مباني عدّة مذاهب.

إلى هنا ننهي الكلام عن الوضوء في العهد الأمويّ، وننتقل إلى دراسة الوضوء حتّى نهاية العصر العبّاسيّ الأوّل.

ص:276

العهد العباسيّ الأوَّل (132- 232 ه)

اشارة

طال العهد العباسيّ أكثر من خمسة قرون، وقد حفل بأحداث سياسيّة وتيّارات فكريّة وحركة علميّة، ومظاهر حضاريّة، فلايمكننا بهذه العجالة اعطاءصورة تفصيليّة وتقديم فكرة شاملة لها، بل نقتصر في الكلام عن العهد العباسيّ الأوَّل- أي من عام 132 لغاية 232- إذ تأسّست فيه المذاهب الأربعة، ونظراً لعناية الحكّام بالجانب الثقافي والسعي في تدوين العلوم، أحببنا تناول موضوع واحد من تلك المواضيع الكثيرة المتشعّبة، لنسلّط عليه الضوء، ألَا وهو:

الفقه ودور الحكّام فيه

المعروف عن الحركة العباسيّة- في بداية أمرها- انّها كانت حركة دينيّة تدعو إلى (الرضا من آل محمّد). وقد شمل هذا الشعار بالفعل جميع فصائل المعارضة الإسلاميّة ضد الأمويّين، إذ أنَّه شعار جماهيري نبع من ضمير الأُمّة، أدركته الأُمّة وتفاعلت معه، منذ مقتل الحسين بن عليّ بكربلاء وسبي

ص:277

نسائه إلى الشام، وحتّى سقوط الدولة الأمويّة.

فتراهم قد تستّروا بغطاء (الرضا من آل محمّد) ليحرّفوا مسيرة الثورة ويُزوّروا آمال الجماهير المؤمنة.

ولا شكّ أنّ الدعوة تحت هذا الشعار تعني كون الأمر إلى آل البيت النبويّ، وهم: عليّ وأبناؤه الميامين والمضطهدون في العهد السابق، الذين تحمّلوا ألوان الأذى وأنواع الرزايا والمحن، من سمّ الحسن المجتبى، وقتل الحسين الشهيد، وسبّ عليّ بن أبي طالب .. وأنّ الدعوة تحت هذا الشعار تعني أنّ الناس كانوا يدركون موضع أهل البيت، بل يسعون إلى إيصال الحقّ لأهله.

غير إنّ بني الأعمام- عندما وصل الأمر إليهم- قد قلبوا للعلويّين ظهر المجنّ، فسعوا لتحريف معنى الآل والتأكيد على أنّ هذا اللقب والشعار كان لهم هم دون العلويّين، فانّهم المعنيّون بآل محمّد، ثمّ راحوا يعضدون مدّعاهم بالشاهد تلو الشاهد، وقد رغّب الحكّام الشعراء لنظم الشعر في ذلك فأخذت القصائد تنشد تلو القصائد «(1)».

والحقّ أنَّ الثابت في التاريخ هو أنّ العبّاس بن عبد المطّلب- جدّ العبّاسيين الأوّل- وابنه عبد اللَّه كانوا من الحماة والمدافعين عن عليّ بن أبي طالب في كلّ الظروف والمواقف، وإنّ ما حفظه التاريخ من كلامهم ومواقفهم ليؤكّد على أنّهم كانوا يؤمنون بخلافة عليّ، بل كانوا يصرّحون بوصاية الرسول لعليّ بن أبي طالب. وقد تناقلت المصادر أنّ العبّاس بن عبد المطّلب قد تخلّف عن بيعة أبي بكر، ولم يشارك في اجتماع السقيفة، بل بقي بجنب عليّ يجهّزان الرسول حتّى واروه التراب، دعماً لعليّ، وكذا موقفه في الشورى.

وإنّا لا نرى ضرورة في تفصيل هذه الأُمور ونقتصر فيه على ما دار بين الرشيد وشريك القاضي بحضور المهدي العبّاسيّ:


1- انظر: تاريخ بغداد 13: 142- 143.

ص:278

قال الرشيد لشريك القاضي: ما تقول في عليّ بن أبي طالب؟

قال: ما قال فيه جدّك العبّاس وعبد اللَّه.

قال: وما قالا فيه؟

قال: فأمّا العبّاس فمات وعليّ عنده أفضل الصحابة، وكان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عمّا ينزل من النوازل، وما احتاج هو (ع) إلى أحد حتّى لحق باللَّه. وأمّا عبد اللَّه فانّه كان يضرب بين يديه بسيفين، وكان في حروبه رأساً منيعاً وقائداً مطاعاً. فلو كانت إمامته على جور، كان أوّل من يقعد عنها أبوك لعلمه بدين اللَّه وفقهه في أحكام اللَّه، فسكت المهدي، ولم يمض بعد هذا المجلس إلّاقليلًا حتّى عزل شريك «(1)».

لكنّا، ماذا نقول عن الأبناء وموقفهم من عليّ وأبنائه، فحبّ السلطان وزخارف الدنيا قد أعمى بصائرهم، فنراهم يقدّمون الدين فداءً للدنيا، والشريعة قرباناً للسلطان، وصاروا يدّعون ما ليس لهم، فنرى الأحكام الإلهيّة في عهدهم تأخذ طابعاً سياسيّاً ويستخدمون الدين ضد الدين كما عهدناه سابقاً في الحكم الأمويّ، فتتأصّل فيه آراء فقهيّة وترى وضع الأحاديث ينسابُ ويتتالى تقرّباً إلى السلطان، وأنّ القارئ سيقف على بعضها، حينما يقتضي السياق بيان ذلك.

وسنبيّن حال الوضوء في هذا العهد وهل تأثّر بالسياسة أم بقي بعيداً عن المجريات الحكوميّة؟ وذلك بعد تقديمنا عرضاً تاريخيّاً للعهد العبّاسيّ الأوّل، ودور الحكّام في حدوث المذاهب الفقهيّة ودعمهم لها، وما أصاب العلويين من الظلم، وأنَّه كان أضعاف ما أصابهم في عهد الأمويين، حتّى قال الشاعر:

فليت ظلم بني مروان دام لنا وليت عدل بني العبّاس في النارِ

وكذلك:

تاللَّه ما فعلتْ أُميّة فيهمو معشارَ ما فعلتْ بنو العبّاسِ

ولعلّ فيما عرضناه ما يساهم في معرفة واقع الأُمّة الاجتماعيّ والسياسيّ، ويوقفنا على ملابسات اختلاف المسلمين في الأحكام الشرعيّة.

وإنّ الخوض في مثل هذه البحوث من شأنه أن يقدّم للفقيه والمحقّق الباحث ومَن يُعنى بمسائل الخلاف بين المسلمين وغيرهم رؤية دقيقة وتكشف عن أُمور لم تُدْرس من قبل في مجال الفقه والشريعة، مع أنّها بحوث كانت جديرة بالدراسة قبل اليوم، وخصوصاً في الفروع الفقهيّة المختلف فيها بين الأُمّة. وإنّ محاولتنا في الوضوء هي خطوة أُولى في هذا الباب، نأمل أن تتبعها محاولات أُخرى من قبل الأعلام.

وإذ كانت هذه المحاولة- التي قدّمناها في الوضوء- هي حديثة عهد ولم يقدم فيها نموذج تطبيقيّ لحدّ الآن، كان التفصيل في بعض المجالات وخصوصاً تاريخ حدوث المذاهب وبيان أسباب اختلاف المسلمين ضروريّاً في غاية الضرورة، إذ لا يعقل أن يختلف المسلمون إلى هذا الحدّ في بيان حكم اللَّه الواحد، والمنزل في الكتاب المتّفق عليه عند الجميع، والمبيّن من قبل الرسول المعروف عند الجميع وإمكان تصحيح كلّ النقولات عنه (ص) وذلك لإيماننا:

بعدالة كلّ الصحابة، أو قولنا بمعذورية الأخذ بأيّهم لقوله (ص): (أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم)، وكيف يصحّ الاختلاف في أُمّة هي خير الأُمم لقوله تعالى «كنتم خير أُمّة أُخرجت للناس ...»، والآن نتساءل:

هل حقّاً أنَّ رأي الجميع حجّة؟ وكلّ القواعد المرسومة في الفقه هي قواعدصحيحة سديدة تماماً لا مجال فيها لخطأ أو اشتباه؟!

أم إنّ هناك بعض المفاهيم والرؤى حكوميّة المنبع يجب التوقّف عندها ومعاودة النظر؟!


1- تاريخ بغداد 9: 292.

ص:279

ص:280

تغيير بعض المفاهيم الروائيّة

هل يصحّ ما قيل عن اختلاف الأُمّة وأنّ هذا الاختلاف رحمة للمؤمنين، لأنّهم في الخيار: من أيِّ مذهب شاؤوا أخذوا؟!

وكيف يتطابق هذا المفهوم مع ما قيل عن رسول اللَّه (ص): (ستفترق أُمّتي إلى نيّف وسبعين فرقة. فرقة ناجية، والباقي في النار)؟!

ومن هي تلك الفرقة الناجية؟

وكيف تكون الفرقة الناجية واحدة من بين الجميع، ويكون عمل الجميعصحيحاً؟ ولِمَ لم يَقل النبيّ (ص) مثلًا: كلّها ناجية وواحدة في النار؟!

أليس هناك تضارب بين هذه الروايات إن لم نقل التناقض؟!

وما هو حكم اللَّه الأحد والمنزل في الكتاب الواحد؟

وهل حقّاً أنّ مفهوم (اختلاف أُمّتي رحمة) هو ما قاله فقهاء العامّة، أم ما قاله الصادق من آل محمّد وهو في معرض جوابه عن اعتراض السائل: إذا كان اختلافهم رحمة، فباجتماعهم نقمة؟! قال جعفر بن محمّد الصادق: ليس حيث ذهبت ويذهبون- يعني في تفسير هذا الحديث- إنّما قصد رسول اللَّه (ص) اختلاف بعضهم إلى بعض، يعني يسافر بعضهم إلى بعض وينظر إليه ويقصده لأخذ العلم عنه، واستدلّ على ذلك بقوله تعالى: «فلولا نَفَرَ من كلّ فرقه منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون» ثمَّ أضاف قائلًا: فإذا اختلفوا في الدينصاروا حزب إبليس.

وعلى ضوء هذا التفسير نفهم بأنّ اللَّه تعالى أرسل النبيّ (ص) بوحدة العقيدة لا للاختلاف فيها كما يريده الحكّام، وأنّ الآيات القرآنيّة تؤكّد على الاعتصام بحبل اللَّه ونبذ التفرّق سواء في الفقه أو في العقيدة، وتشير بوضوح إلى أنّصراطه مستقيم لا التباس فيه ولا التواء، لقوله تعالى «وانّ هذاصراطي مستقيماً فاتّبعوه، ولا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله، ذلكم

ص:281

وصّاكم به لعلّكم تتّقون» «(1)».

بعض خيوط السياسة العبّاسيّة

إنّ الخلفاء في الفترة الأُولى من العهد العبّاسيّ بالخصوص أخذوا يرسمون الخيوط العامّة لسياستهم المستقبليّة في إبعاد بني عليّ وفاطمة وعزلهم إلى الأبد عن الجماهير المسلمة. ومؤشّرات ذلك المخطّط كثيرة، نقدّم بعضها على نحو الإجمال:

1- التأكيد على أنّ خلافتهم كانت شرعيّة، وأنّهم هم آل الرسول المَعْنِيّون في الأحاديث النبويّة الشريفة، ومنه كسبوا الشرف وأضْفَوا الشرعيّة على ممارساتهم وتصحيح ادّعاءاتهم الدينيّة، وأنّهم يريدون تطبيق ما أمر به الرسول وتطبيق سنّته وإحياء دينه، ولهذا تلقّبوا بألقاب تحمل هذا المعنى:

الهادي، المهدي، الرشيد، المنصور، الناصر لدين اللَّه، المعزّ لدين اللَّه، المتوكّل على اللَّه و ...

هذه القضايا كلّها تدلّل على أنّهم قد استخدموا الدين لخدمة أهدافهم السياسية، حتّى نراهم يدّعون بأنّ العمّ يحجب البنت عن الإرث؛ لكي يحرموا أبناء فاطمة الزهراء بنت محمّد رسول اللَّه من كلّ شي ء، وحتّى يكون العبّاس- عمّ النبيّ- هو الوارث الشرعيّ!

2- توسعة دائرة النقاش العلمي بين الفقهاء وأولاد عليّ، وتنظيم الحلقات العلميّة بين المذاهب الكلاميّة؛ لتكثير الشبهات والتشكيك في الإسلام، لكي يحرجوا من يدّعي العلم من أهل بيت النبوّة وفقهاء بني فاطمة، ثمّ يسقطوهم اجتماعيّاً وعلميّاً وسياسيّاً.

3- الدعوة إلى ترجمة كتب اليونان والهند والفرس وإدخال بعض علومهم


1- الأنعام: 153.

ص:282

كالفلسفة و .. ضمن العلوم الإسلاميّة، مع ما تحمل من شبهات برهانيّة عقليّة لنفس الغرض السابق، وإشغال أئمّة المسلمين بإجابة تلك المسائل وإبعادهم عن معترك الصراع السياسيّ والكفاح المسلح ضد السلطة، وليكونوا تحت أنظار وسيطرة الحكومة ورقابتها دائماً.

4- لصق تهمة الزندقة بمعارضيهم، فقد جاء: إنّ شريك بن عبد اللَّه القاضي كان لا يرى الصلاة خلف المهدي، فأحضره وتكلّم معه.

فقال له المهدي في جملة كلامه: يا ابن الزانية!!

فقال شريك: مه مه يا أمير المؤمنين، فلقد كانتصوّامة قوّامة.

فقال له المهدي: يا زنديق لأقتلنّك.

فضحك شريك، وقال: يا أمير المؤمنين، وإنّ للزنادقة علامات يعرفون بها: شربهم القهوات واتّخاذهم القينات!

فأطرق المهدي «(1)».

5- السعي إلى تقوية البُنية العلميّة لأولاد الخلفاء، وتخصيص مربّين لهم يعلّمونهم كلّ شي ء، حتّى يمكنهم بذلك الحفاظ على المُلك بابتكار طُرُق وحلول سياسيّة جديدة تواكب المرحلة.

وبهذا عرفنا: أنّ الحركة العلميّة في العهد العبّاسيّ لم تكن خالصةً لنشر العلم، بل كانت تستبطن أمراً سياسيّاً كذلك، وأنّ دور الخلفاء وسعيهم لاحتواء الفقهاء والمحدّثين والقرّاء والشعراء .. كان ملحوظاً فيه الجانب السياسيّ وتطبيق الأهداف التي ترسمها الحكومة في الشريعة.

النفس الزكيّة والمنصور

إنّ استفادة الحكّام من الشريعة لمصلحة الحكم والنظام لم تكن وليدة


1- البداية والنهاية 10: 157.

ص:283

ساعتها، بل هي خطّة، رُسِمتْ أُصولها وبذرت نواتها في أواخر عهد الشيخين، وأثمرت في العهد الأمويّ، وأينعت في العهد العبّاسيّ؛ ومن يقرأ رسالة محمّد (ذي النفس الزكيّة) إلى المنصور يؤمن بأنَّ النزاع بينهم كان في المفاهيم، وأنّ محمّداً كان يدّعي أنَّه أحقّ بالأمر، لأنّه هو من الآل، فقد جاء في جواب محمّد (ذي النفس الزكيّة) على رسالة المنصور التي أعطاه فيها الأمان:

(فإنّ الحقّ حقّنا، وإنّما ادّعيتم هذا الأمر بنا، وخرجتم له بشيعتنا، وحظيتم بفضلنا، وإنّ أبانا عليّاً كان الوصيّ، وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولدُه أحياء؟).

ثمّ افتخر على المنصور بانتسابه إلى فاطمة بنت رسول اللَّه، وإلى خديجة أُمّ المؤمنين، وإلى الحسن والحسين سبطي رسول اللَّه (ص).

وسَخِرَ من الأمان الذي عرضه المنصور عليه؛ فقد عرف بأنّه ينكُثُ العهود والمواثيق إذ المنصور كان قد أعطى البيعة لمحمّد بن عبد اللَّه مرّتين إحداهما بمكّة في المسجد الحرام، والأُخرى عندما خرج من بيته فقد أخذ بزمام فرسه وقال: (هذا مهديّنا أهل البيت) «(1)» فمحمّد أراد الإشارة إلى هذه الحقيقة؛ فقال:

«وأنا أولى بالأمر منك، وأوفى بالعهد، لأنّك أعطيتني من العهد والأمان ما أعطيته رجالًا قبلي، فأيّ الأمانات تعطيني، أمان ابن هبيرة؟! أم أمان عمّك عبد اللَّه بن عليّ؟ أم أمان أبي مسلم؟!».

ولمّا وصل إلى المنصور كتاب محمّد غضب غضباً شديداً، وفكّر في أن يسحب منه كلّ ما يتّكئُ عليه، ويغيّر المفاهيم التي يستند عليها الطالبيّون، منها كونهم أولاد فاطمة، ويجب أن تكون الخلافة فيهم، أو أنّ الرسول قد أوصى إلى عليّ من بعده، .. وخصوصاً لما أيقن بان «الناس» ينظرون اليهم كسوقه فقد جاء في رسالة المتصور لعمه عبد الصمد بن علي (... ونحن بين قوم


1- مقاتل الطالبيين: 239.

ص:284

رأونا بالامس سوقه، واليوم خلفاء «(1)» ...).

فالمنصور إذ أراد أن يغيّر هذه الأُصول ركّز في جوابه لمحمّد على قضايا:

1- نفي كون النفس الزكيّة هو ابن رسول اللَّه لقوله تعالى: «ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم» بل هو ابن بنت الرسول، وأنّ هذه النسبة لا تجوّز الميراث ولا تورث الخلافة بل لا تجوز لها الإمامة.

2- ثمّ ذكر المنصور في جوابه لمحمّد أمراً آخر وهو: إنّ المسلمين اختاروا أبا بكر وعمر وعثمان خلفاء دون عليّ بن أبي طالب؛ ليرغم بقوله هذا أنف محمّد وغيره من الطالبيين، وقوله: «دون عليّ» إشارة إلى دور الحكومة العبّاسيّة في إبعاد عليّ ونهجه وعدم عدّه حتّى رابعاً من الخلفاء الأربعة .. إلى أن عُدّ كذلك في عهد أحمد بن حنبل، وتقريب الشيخين وعثمان بل كلّ الصحابة والسير على نهجهم دون عليّ (ع).

فالحكومة الأمويّة قد رجّحت عثمان على سائر الخلفاء الراشدين لكونه منهم، فقرّبوا نهجه وأبعدوا نهج عليّ لبغضهم إيّاه، فانحسر فقه عليّ وخطّ السنّة آنذاك. وعندما تسلّم العبّاسيّون زمام السلطة احتضنوا نهج الشيخين، وأبعدوا عثمان بغضاً للأمويّين، وعليّاً بغضاً للعلويّين، فبقيت السنّة النبويّة (نهج عليّ) في اضطهاد طيلة فترة الحكمين الأمويّ والعبّاسيّ.

3- ويفهم من رسالته وأُصول سياسته أنَّه رأى من الضروري الاستعانة بالفقهاء وتقريبهم إليه، لاكتساب الشرعيّة والوقوف على المبررات والحلول في المواقف الحرجة، إذ إنَّه بتقريبه الفقهاء والعلماء قد جمع في قبضته بين السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة في آن واحد.

ولا غرابة في أُسلوب المنصور هذا- وهو الداهية- وفي كيفيّة استغلاله للشريعة، وقد كانت هذه هي سيرة أغلب الحكّام من قبله، إذ كانت الاستعانة


1- تاريخ الخلفاء: 267.

ص:285

بالشريعة خير طريقة للتعرّف على مخالفيهم وخصومهم، وقد مرّ عليك سابقاً كيفيّة تشخيص ابن أبي سرح- والي عثمان على مصر- لمحمّد بن أبي حذيفة على أنّه من مخالفي عثمان وذلك على أثر تكبيرة الإحرام أو الجهر بالقراءة والبسملة.

وقد عرفت أنّ الصحابة كانوا يعترضون على هذه السياسة، وقد أرسلوا وفداً إلى عثمان بسبب تغيير ابن أبي سرح أوقات الصلاة ليتعرّف عن طريق هذا الأُسلوب على مخالفيهم.

فالحكّام- وكما قلنا- كانوا يريدون التعرّف على من يخالفهم في الرأي بتأكيدهم على بعض المفردات العباديّة المختلف فيها بين الصحابة، إذ إنّ الملتزم بخطّ السنّة النبويّة لا يمكنه- رغم كلّ الظروف- أن يتخلّى عمّا يعتقد به إلّاأن تكون حالة خاصّة تستوجب التستّر دفعاً للتهلكة عن النفس.

وعليه، فقد عرفت انّ الدعوة للأخذ بالأحكام السلطانية واتّباع الحاكم «وان ضرب ظهرك وأخذ مالك» هي دعوة سلطويّة بذرت نواتها في أواخر عهد الشيخين وعهد عثمان، ثمّ نَمَت في العهد الأمويّ، ونضجت في العهد العبّاسيّ. ويؤكّد هذ المعنى قضايا كثيرة منها دعوة عبد اللَّه بن عمر الأُمّة إلى الأخذ بفقه عبد الملك بن مروان، وكلام سعيد بن جبير عن رجاء بن حيوة- أحد الفقهاء السبعة في العهد الأمويّ- وقوله: ولكن كنت إذا حرّكته وجدته شاميّاً يقول قضى عبد الملك بن مروان بكذا وكذا.

وإنّ منادي الدولة الأمويّة كان ينادي: أن لا يفتي إلّاعطاء بن رباح، ومنادي الدولة العبّاسيّة: ألَا لا يفتي الناس إلّامالك بن أنس وابن أبي ذؤيب.

ومنها إرسال نافع الديلمي مولى ابن عمر إلى مصر ليعلّمهم السنن، وتصدّر سليمان بن أبي موسى ومكحول للإفتاء بدمشق، وما قاله الذهبيّ عن عبد اللَّه بن ذكوان وانّه: وَلِيَ بعض أُمور بني أُميّة.

ص:286

وبهذا اتّضح بأنّ الحكّام كانوا يستغلّون الشريعة لمصالحهم السياسية ولكشف المخالفين، وأنّ العبّاسيين كانوا أذكى في تعاملهم في هذه المسألة من الأمويين إذ كانوا يفرضون آراءهم تحت غطاء البحوث العلميّة والمناقشات الحرّة ليتصيّدوا في الماء العكر.

مطارحةٌ بين الصادق وأبي حنيفة

نقل الإمام أبو حنيفة قصّة حواره مع الإمام جعفر بن محمّد الصادق فقال:

قال لي أبو جعفر المنصور: يا أبا حنيفة إنّ الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمّد فهيّئ له من المسائل الشداد. فهيأت له أربعين مسألة، والتقينا بالحيرة.

ثمّ قال: أتيته، فدخلت عليه وجعفر بن محمّد عن يمينه، فلمّا بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر بن محمّد ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور، فسلمت عليه، وأومأ، فجلست، ثمّ التفتَ إليه وقال: يا أبا عبد اللَّه هذا أبو حنيفة! فقال:

نعم، ثمّ التفتَ إليّ فقال: يا أبا حنيفة ألقِ على أبي عبد اللَّه من مسائلك. فجعلت ألقي عليه فيجيبني، فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربّما تابعنا، وربّما تابعهم، وربّما خالفنا جميعاً، حتّى أتيت على الأربعين مسألة، وما أخلّ منها بمسألة.

ثمّ قال أبو حنيفة: انّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس «(1)».

والنصّ السابق يوقفنا على عدّة أُمور:

1- استغلال المنصور الإمام أبا حنيفة رغم كونه من المخالفين للحكّام ومن الذين لم يقبلوا مهنة القضاء في العهدين الأمويّ والعبّاسيّ، أمّا حينما دخل الاقتراح تحت إطار النقاش العلميّ بين الأئمّة وبيان الاقتدار الفقهيّ، فإنّ أبا


1- انظر: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 53، عن مناقب أبي حنيفة للموفق 1: 73، جامع أسانيد أبي حنيفة 1: 222. وانظر تذكرة الحفّاظ 1: 166- 167.

ص:287

حنيفة ساهم في المناظرة، مع علمه بأنّ الصادق من فقهاء أهل البيت ومن أولاد عليّ، ومن الذين يكنّ لهم الاحترام ويعترف بفضلهم وعلمهم. وإنّ قوله (دخلني من الهيبة لجعفر بن محمّد ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور) لَيؤكّد على هذه الحقيقة وتدلّ على أنّ إعداد أربعين مسألة إنّما جاء بطلب حكوميّ وتحت غطاء نشر العلم وبثّ المعارف.

2- إنّ اللقاء كان معدّاً له من قبل المنصور، لقول أبي حنيفة «قال لي أبو جعفر المنصور: يا أبا حنيفة انّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد فهيى ء له من المسائل الشداد»، وقول المنصور لأبي حنيفة «ألق على أبي عبد اللَّه مسائلك، فجعلت ألقي عليه فيجيبني» .. يفهم منه أنّ المبادرة في السؤال كانت بيد أبي حنيفة وأنّ الإمام الصادق لم يسبق بما سيطرحه أبو حنيفة من مسائل لكي يستعدّ للإجابة، وأنّ قول أبي حنيفة (وما أخلّ منها بمسألة) ثمّ قوله (انّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس) يؤكّدان على انّ الصادق كان أعلم أهل زمانه.

3- إنّ جملة «فيجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربّما تابعنا وربّما تابعهم، وربّما خالفنا جميعاً» تنبى ء عن وجود ثلاثة خطوط فكريّة في الشريعة:

أ- قول أهل العراق.

ب- قول أهل المدينة.

ج- قول أهل البيت.

وإنّ مدرستَي العراق والمدينة- كما ستعرف- كانتا مدرستين في قبال مدرسة أهل البيت، إذ كان بعضهم يفتي طبق الأثر والآخر طبق الرأي، ولم يكونوا على اختلاف مع السلطة، بل نراهم دوماً يخضعون لها ويأمرون بمسايرتها ويرون وجوب إطاعة السلطان برّاً كان أم فاجراً، ويقولون بجواز

ص:288

الصلاة- وهي عمود الدين- خلفه.

وانّ جملة أبي حنيفة «فربّما تابعنا، وربّما تابعهم، وربّما خالفنا جميعاً» تؤكّد على أنّ الأحاديث المروية عن النبيّ (ص) في المدوّنات ليست جميعهاصحيحة النسبة إليه (ص)، فترى الصادق- وهو من أهل البيت- وأهل البيت أدرى بما فيه يوافق أهل العراق لصحة مرويّاتهم عن رسول اللَّه تارة، ويوافق أهل المدينة لصحّة نقلهم عنه (ص) تارةً أُخرى وفي ثالثة يخالفهم جميعاً ويبيّن موقف أهل بيت الرسالة فيه.

وعليه، فإنّ موافقته لإحدى هاتين المدرستين تدلّ على وجود جذور لمدرسة أهل البيت عندهم. وبه يردّ كلام الدكتور محمّد كامل حسين في مقدّمته لموطأ مالك: «ويروي الشيعة عن طريقه (أي الصادق) أحاديث لا نجدها إلّافي كتب الشيعة» «(1)».

كما يردّ كلام ابن سعد في طبقاته حيث قال: «إنّ جميع ما روي عن الباقر لا يحتجّ به» «(2)».

فإنّ كلامهما يفنّده كلام أبي حنيفة، ويُفنّده الواقع الفقهيّ للمسلمين، ويدلّك على أنَّه ليس من الحقيقة بشي ء، وإنّما هو محض تعصّب وتجنّ على فقه المسلمين.

وبذلك تبيّن لنا أنّ فقه الصادق ليس بأجنبيّ عن فقه الصحابة؛ فقد ترى شيئاً منه تارة عند أنس وشيئاً آخرَ عند عائشة وغيره عند حذيفة وهكذا ...

وبهذه يمكننا القول عن فقه الصادق أنَّه فقه رسول اللَّه (ص) إذ نراه تارة عند الإمام أبي حنيفة وأُخرى عند مالك وثالثة عند آخر.

أمّا إذا رأيته يشذّ عن آراء الجميع ويقول بشي ء آخر فيلزم التحقيق في


1- موطّأ مالك: المقدّمة اك.
2- انظر كتاب الإمام الصادق لأسد حيدر 1: 440 عن الطبقات.

ص:289

أطرافه، لنتبيّن إن كان هناك رواسب حكوميّة ونزعات إقليميّة وظروف اجتماعيّة وسواها؟!!

هذا وقد علّق الأُستاذ أبو زهرة بعد نقله قصّة الإمام أبي حنيفة مع الصادق فقال:

وقدصدق أبو حنيفة فيما قال؛ لأنّ العلم باختلاف الفقهاء وأدلّة آرائهم، ومناهج استنباطهم يؤدّي إلى الوصول إلى أحكم الآراء، سواء أكان من بينها أم من غيرها، فيخرج من بعد ذلك بالميزان الصحيح الذي يوزن به الآراء، ويخرج بفقه ليس بفقه العراق وليس بفقه المدينة وهو لون آخر غيرهما، وإن كانت كلّها في ظلّ كتاب اللَّه تعالى وسنّة رسوله «(1)».

هذا، وقد عرفت أنّ العبّاسيين لم ينجحوا في تطبيق مخطّطهم في الإزراء بالصادق والغَلَبة عليه علميّاً كما كانوا يهدفون وقد أنبأك الإمام أبو حنيفة عن ذلك، بل إنّ هذه المناقشات قد عزّزت منزلة الصادق علميّاً واجتماعيّاً، فأخذ الإقبال عليه يزداد يوماً بعد يوم، وإنّ قبائل بني أسد ومخارق وطيّ وسليم وغطفان وغِفار والأزد وخزاعة وخثعم ومخزوم وبني ضبّة وبني الحارث وبني عبد المطّلب أخذت ترسل فلذات أكبادها إلى الإمام للتعلّم «(2)» بل نرى كبار العلماء والمحدّثين يقصدونه للاستزادة من علمه كيحيى بن سعيد الأنصاريّ، وابن جريح، ومالك بن أنس، وأبي حنيفة، والثوريّ، وابن عيينة، وشعبة، وأيّوب السجستانيّ وفضيل بن عياض اليربوعيّ وغيرهم «(3)».

وليس هناك أحد يمكنه التعريض بعلم الإمام الصادق والمساس بمكانته، فالجميع يعترفون بأنّ مدرسته أنجبت خيرة العلماء وصفوة المجتهدين وجهابذة العلم والدين، وأنّ الحضارة الإسلاميّة والفكر العربيّ بالخصوص


1- تاريخ المذاهب الإسلاميّة: 693.
2- انظر: جعفر بن محمّد، سيّد الأهل.
3- انظر: الإمام الصادق لأسد حيدر 1: 39، عن مطالب السؤول 2: 55.

ص:290

لمدين لهذا العَلَم الفطحل.

أمّا المنصور فكان يسعى- كما ذكرنا- لتضعيف مكانة الصادق علميّاً واجتماعيّاً. إلّاأنّ جهوده ذهبت سدىً، لكنّه بعد ذلك عرّج على شيعة عليّ والصادق للنيل منهم، فقد نُقل عنه أنَّه أتى الكوفة، قبل تأسيس بغداد، مع خمسمائة من جنده وهو يزعم أنّ أهلها من شيعة محمّد بن عبد اللَّه (النفس الزكيّة) فأمرهم بصبغ ملابسهم باللون الأسود، حتّى قيل بأنّ دور الصباغةصارت لا تتمكّن من القيام بمهامها، وأنّ البقّالين كانوا يصبغون ثيابهم بالأنقاش (المداد) ويلبسون السواد «(1)».

وكذا نقل عنه أنَّه استغلّ- في أوائل خلافته- النزاع الفكريّ الذي حدث بين أهل العراق وأهل المدينة، فأخذ يقوّي جانب العراقيين ويشدّ أزر الإمام أبي حنيفة وأصحابه ويستغلّ الموالي ليحطّ بذلك أنفة العرب، وخصوصاً المدنيين منهم الّذين كانوا يصرّحون بعدم شرعيّة خلافة بني العبّاس.

التزام الحكّام الفقه المغاير للعلويين

والباحثون يعلمون انّ تقوية مدرسة أهل الرأي قبال أنصار الأثر كان له بُعد سياسيّ، وانّه إجراء مؤقت وليس بسياسة عامّة للحكّام ولا دائمة، وانّ المنصور قد استفاد بالفعل من هذا التقريب كما رأيت في مناظرة أبي حنيفة مع الصادق، لكنّا نراه فيما بعد يغيّر سياسته مع الفقهاء، ويسعى لتقريبهم، فيطلب من الإمام مالك بن أنس أن يكتب موطّأه ويقول له: اجعل العلم يا أبا عبد اللَّه علماً واحداً.

فقال مالك: إنّ أصحاب رسول اللَّه تفرّقوا في البلاد فأفتى كلّ في مصره بما رأى، وانّ لأهل البلد- يعني مكّة- قولًا، ولأهل المدينة قولًا، ولأهل العراق


1- مقاتل الطالبيين: 319.

ص:291

قولًا تعدّوا فيه طورهم.

فقال المنصور: أمّا أهل العراق فلا أقبل منهمصِرْفاً ولا عدلًا، وأمّا العلم عند أهل المدينة، فضع للناس العلم «(1)».

فإنّ جملة المنصور: (أمّا أهل العراق فلا أقبل منهمصرفاً ولا عدلًا) فيها إشارة إلى يأسه منهم لكونهم علويين عقيدةً، ولوجود أبي حنيفة بينهم الذي لم يكن على وفاق مع الحكّام.

ولأجل ذلك نرى المنصور يولي مالكاً عناية خاصّة ويطلب منه أن يكتب الموطّأ ويقول له: (لنحمل الناس إن شاء اللَّه على علمك وكتبك ونبثّها في الأمصار، ونعهد إليهم ألَا يخالفوها، ولا يقضوا بسواها).

قالصاحب كتاب «موقف الخلفاء العبّاسيّين من أئمّة المذاهب الأربعة»:

فإذا تأمّلنا آراء مالك فيما يتعلّق بقضيّة التفضيل بين الخلفاء الراشدين، نجد الإمام ينفرد عن غيره، فهو يرى أنّهم ثلاثة لا أربعة، وهو يجعل خلافة الراشدين في أبي بكر وعمر وعثمان، ويجعلهم في مرتبة دونها سائر الناس. وأمّا عليّ فإنّه في نظره واحد من جملة الصحابة، لا يزيد عنهم بشي ء «(2)».

وقد عزا البعض من الكتّاب سبب تعديل المنصور سياسته نحو أهل الأثر وتقريبه لمالك بن أنس والطلب من مالك أن يضع الموطّأ بقوله «ضعه فما أحد أعلم منك «(3)»» انّه كان خوفاً من ازدياد نفوذ الإمام الصادق سياسيّاً وعلميّاً، إذ انّ اجتماع أربعة آلاف راوٍ عنده كلّ يوم يأخذون عنه العلم لم يكن بالشي ء السهل على الخليفة، وانّ تقوية هذه الحلقة تعني تضعيف المخطّط الحكوميّ والسياسة العامّة للبلاد «(4)».


1- انظر: الإمام مالك للدكتور مصطفى الشكعة: 133، عن ترتيب المدارك: 30- 33.
2- موقف الخلفاء العبّاسيّين: 170.
3- انظر: الأئمّة الأربعة للشرباصيّ: 92، إسلام بلا مذاهب: 415، الأئمة الأربعة لشكعة: 412.
4- انظر: مالك بن أنس للخولي: 371.

ص:292

لكنّا نرجّح أن يكون- الطلب مضافاً إلى ما قيل- كان يخضع إلى عامل سياسيّ آخر، أملته عليهم الظروف السياسيّة الحاكمة آنذاك، خصوصاً بعد قيام النفس الزكيّة فى المدينة وأخيه إبراهيم في البصرة، فالمنصور قد شدّد سياسته ضدّ العلويين بعد الظفر بمحمّد وأخيه إبراهيم، وانّك ستقف لاحقاً على نماذج من تلك السياسة المبتنية على الرعب والإرهاب وأساليب كشف المخالفين والمناوئين وفق عباداتهم وفقههم، وبذلك يحتمل أن يكون طلب المنصور من مالك تدوين السنّة جاء لتأصيل الفقه والحديث وتوحيد العلم وإبعاد فقه الطالبيّين واعتبار آرائهم شواذّ من بين الآراء.

هذا والمعروف انّ مالكاً قد وضع الموطّأ وما كان يفرغ منه حتّى مات المنصور «(1)»، أي أنّه ألّفه في أواخر عهد المنصور.

موقف آخر

جاء في غالب كتب التاريخ أنّ سفيان الثوريّ لقي المنصور بمنى سنة 140 أو 144 واعترض على إسراف المنصور وتبذيره ..

فقال له المنصور: فإنّما تريد أن أكون مثلك؟

فقال الثوريّ: لا تكن مثلي، ولكن كن دون ما أنت منه، وفوق ما أنا فيه

فقال له المنصور: أُخرج.

فخرج الثوريّ من عنده وأتى الكوفة فجعل يأخذ عليه ما يفعل بالمسلمين من الجور والقهر، فصبر عليه المنصور مدّة، وأخيراً أمر بأخذه،


1- انظر: حياة مالك لأبي زهرة: 180، ترتيب المدارك 1: 192.

ص:293

فاختفى. ولمّا مات أبو جعفر 158 ظنّ الثوريّ أنّ الخلاف الذي بينه وبين الحكومة قد دفن معه، وكان قد عاش الشدّة حين اختفائه بمكّة، فجاء إلى المهديّ وسلّم عليه تسليم العامّة.

فقال له المهديّ: يا سفيان، تفرّ منّا ههنا وههنا، وتظنّ أنّا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك، فقد قدرنا عليك الآن، إنّما تخشى أن نحكم فيك بهوانا؟

قال سفيان: إن تحكم فيّ بحكم، يحكم فيك ملك قادر يفرّق بين الحقّ والباطل.

فقال الربيع للمهديّ- وكان قائماً على رأس سفيان-: ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟ ائذن لي أن أضرب عنقه.

فقال له المهديّ: اسكت ويلك! وهل يريد هذا وأمثاله إلّاأن نقتلهم فنشقى بشقاوتهم، اكتبوا عهده على قضاء الكوفة على أن لا يعترض عليه في حكم «(1)».

فالحكّام وبتولية الفقهاء القضاء كانوا يريدون القضاء على شخصيّتهم، وما نقلناه كان خير شاهد على ذلك.

فقد نقل المباركفوري في تحفة الأحوذيّ عن شعيب بن جرير أنَّه طلب من سفيان الثوريّ أن يحدّثه بحديث السنّة، فقال: اكتب بسم اللَّه الرحمن الرحيم: القرآن كلامٌ غير مخلوق ....

إلى أن يقول: يا شعيب لا ينفعك ما كتبت حتّى ترى المسح على الخفّين، وحتّى انّ إخفاء بسم اللَّه الرحمن الرحيم أفضل من الجهر، وحتّى تؤمن بالقدر، وحتّى ترى الصلاة خلف كلّ برّ وفاجر، والجهاد ما مضى إلى يوم القيامة، والصبر تحت لواء السلطان جائراً أو عادلًا.

فقلت: يا أبا عبد اللَّه، الصلاة كلّها؟

قال: لا، ولكنصلاة الجمعة والعيدين،صلِّ خلف من أدركت، أمّا سائر


1- تاريخ بغداد 9: 152- 153، مقدّمة تفسير سفيان الثوريّ/ طبعة دار الكتب العلميّة- بيروت- 1403.

ص:294

ذلك فأنت مخيّر لا تُصلّي إلّامن تثق به وتعلم انّه من أهل السنّة «(1)».

وهذا النصّ يوقف القارئ على انّ أُصول سياسة الحكّام كانت مبتنية على مخالفة عليّ في نهجه وفقهه، وانّ في قول سفيان (يا شعيب لا ينفعك ما كتبت حتّى ترى المسح على الخفين) إشارة إلى أنّ السنّة الحكوميّة هي القول بالمسح على الخفّين وإخفاء بسم اللَّه الرحمن الرحيم و ... وكلّ هذه القضايا مخالفة لفقه عليّ بن أبي طالب ونهجه، بل إنّها لتؤكّد على إطاعة السلطان برّاً كان أم فاجراً!

كانت هذه هي سياسة المنصور، وتراها مبتنية على الترهيب والترغيب، والمطالع في هذا النصّ يقف على دهاء المنصور وكيف كان يتعامل مع كلّ فرد حسب نفسيّته. وننقل نصّاً آخر يوضّح طريقة اختباره لأعدائه وطرق تجسّسه، وإنّ نقل هذه النصوص يعطي للمطالعصورة قد تكون قريبة من الواقع.

طلب المنصور عقبة بن مسلم بن نافع من الأزد يوماً وأناط به مهمّة، فقال له: إنّي لأرى لك همّة وموضعاً، وانّي أريدك لأمر أنا معنيّ به.

قال: أرجو أن أصدّق ظنّ أمير المؤمنين؟

قال: فأخفِ شخصك وائتني في يوم كذا، فأتيته ..

فقال: انّ بني عمّنا هؤلاء قد أبوا إلّاكيداً لملكنا، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا يكاتبونهم، ويرسلون إليهم بصدقات وألطاف، فاخرج بكسىً وألطاف حتّى تأتيهم متنكّراً بكتاب تكتبه عن أهل القرية، ثمّ تسير ناحيتهم، فإن كانوا نزعوا عن رأيهم فأحبب واللَّه بهم وأقرب، وإن كانوا على رأيهم علمت ذلك، وكنت على حذر منهم، فاشخص حتّى تلقى عبد اللَّه بن الحسن متخشّعاً، فإن


1- تحفة الأحوذيّ: 352 المقدّمة.

ص:295

جبهك- وهو فاعل- فاصبر، وعاوده أبداً حتّى يأنس بك، فإذا ظهر لك ما قبله فاعجل عَلَيّ.

ففعل ذلك، وفعل به حتّى آنس عبد اللَّه بناحيته، فقال له عقبة: الجواب؟

فقال: أمّا الكتاب فإنّي لا أكتب إلى أحد، ولكن أنت كتابي إليهم فاقرأهم السلام، واخبرهم أنّ ابني خارج لوقت كذا وكذا؟

فشخص عقبة حتّى قدم على أبي جعفر فأخبره الخبر «(1)».

وقد امتحن المنصور الصادق وعبد اللَّه بن الحسن وابنيه محمّداً وإبراهيم وغيرهم من الطالبيين في عدّة قضايا وأراد أن يقف على رأيهم من الأموال والسياسة، فانخدع عبد اللَّه بن الحسن وابناه وغيرهم بطرق التمويه العبّاسيّة، أمّا الصادق فكان الوحيد من البيت العلويّ الذى لا تخدعه الأساليب «(2)».

وممّا نقله المؤرّخون أنّ المنصور كان يسعى في استمالة الصادق وجذب عطفه للنظام، وكان يقول له: لِمَ لا تغشانا كالناس؟

فأجابه الصادق: ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنيك فيها، ولا تراها نقمة حتّى نعزّيك عليها.

ويقول له في نصٍّ آخر: تصحبنا لتنصحنا؟

فقال له الصادق: من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك.

هذه الأساليب كانت لا تجدي نفعاً ولا تثمر إذ إنّ الصادق كان يرى المنصور يتلاعب بالأحكام وإنّه قد جعل الشريعة جسراً يعبر عليه إلى مقاصده كالأمويّين .. فكيف به يتعاون مع شخص كهذا.

ولما اتّضح للمنصور أنّه لا يمكنه التوافق مع الإمام واحتواء العلويين


1- انظر: مقاتل الطالبيين: 211- 212، والطبريّ وغيره من المؤرّخين.
2- انظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 4: 220.

ص:296

فكريّاً وسياسيّاً وخصوصاً بعد مقتل النفس الزكيّة .. بدأ يغيّر سياسته متّخذاً التضليل والعنف أُصولًا في سياسته.

وقد زادت سياسة التنكيل والبطش بالعلويين بعد قمع ثورتَي النفس الزكيّة في المدينة وإبراهيم في البصرة، فجمع المنصور بني هاشم في الربذة وأثقلهم بالحديد والضرب بالسياط حتّى اختلطت بدمائهم ولحومهم، ثمّ حملهم إلى العراق على أخشن مركب وتوجّه بهم إلى الكوفة، وأودعهم ذلك السجن المظلم الضيّق الذي لا يُعرفُ فيه الليل من النهار إلّابأجزاء كان يرتّلها عليّ بن الحسن بن الحسن بن الحسن «(1)».

وسلّط عليهم شرطة جفاة بعيدين عن الرقّة كابتعاده عن الإنسانيّة فعذّبوهم بأمره، كما إنّه أمر أن تترك أجساد الموتى منهم في السجن، فاشتدّت رائحة الجثث على الأحياء، فكان الواحد منهم يخرّ ميّتاً إلى جنب أخيه.

ولمّا قتل إبراهيم بن عبد اللَّه أرسل برأسه إلى أبيه مع الربيع وهو في السجن. وكان أبوه عبد اللَّه يصلّي، فقال له أخوه إدريس: اسرع فيصلاتك يا أبا محمّد، فالتفت إليه وأخذ رأس ولده، وقال: أهلًا وسهلًا يا أبا القاسم، واللَّه لقد كنتَ من الذين قال اللَّه عزّ وجلّ فيهم: «الّذين يوفون بعهد اللَّه ولا ينقضون الميثاق والذين يصِلون ما أمر اللَّه به أن يوصل ...»

فقال له الربيع: كيف أبو القاسم في نفسه؟

قال: كما قال الشاعر:

فتى كان يحميه من الذلّ سيفُه ويكفيه أن يأتي الذنوب اجتنابُها

ثمّ التفت إلى الربيع فقال: قل لصاحبك قد مضى من يومنا أيّام والملتقى القيامة؟ فمكثوا في ذلك السجن، لا يعرفون أوقاتصلاتهم إلّابأجزاء من


1- انظر: مقاتل الطالبيين: 192- 194، وتاريخ الطبريّ.

ص:297

القرآن .. حتّى كانت نهاية أمرهم أن أمر المنصور بهدم السجن على الأحياء منهم «(1)» ليذوقوا الموت من بين ألم القيود وثقل السقوف والجدران. وكان منهم من سمّر يديه بالحائط.

وقد ذكر المؤرّخون ومنهم الطبريّ بأنّ المنصور لمّا عزم على الحجّ دعا ريطة بنت أبي العبّاس امرأة المهدي- وكان المهديّ بالريّ- فأوصاها بما أراد وعهد إليها ودفع إليها مفاتيح الخزائن على أن تدفعها للمهديّ، فلمّا قدم المهديّ من الريّ إلى مدينة السلام دفعت إليه المفاتيح وأخبرته عن المنصور انّه أخذ عهداً منها ألّا يفتحه أحد حتّى يصحّ عندها موته، فلمّا انتهى إلى المهديّ موت المنصور وولي الخلافة فتح الباب ومعه ريطة، فإذا أزح كبير فيه جماعة من قتلى الطالبيين وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم، وإذا فيهم أطفال ورجال شباب ومشايخ عدّة كثيرة، فلمّا رأى ذلك المهديّ ارتاع وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها وعملوا عليها دكّاناً.

وبهذا الأُسلوب كانوا يريدون السيطرة على العلويّين فكريّاً وسياسيّاً.

علماً بأنَّ الشيعة كانوا لا يرون قيمة للسلطان لانّه لا يتمسّك بحكم الشرع ولا يتنزّه عن الظلم ولا يتورّع عن محارم اللَّه، هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى كانوا يرون أحقّيّة أهل البيت بالأمر، وانّ رسول اللَّه قد أوصى لهم وانّهم الدعاة إلى أمره ومن الذين لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم.

فإنّ هذا المعنى والمفهوم كان لا يرضي الخليفة العبّاسيّ إذ كان ينظر إليهم نظرة خصم لا تلين قناته ولا يعمل الإرهاب عمله فيهم، واعتبرهم رافضة يجب التنكيل بهم لإنّ الإعراض عن طلبات السلطان يعني الرفض، والرفض غالباً ما يردف التنكيل والتحزّب وإلصاق التهم والخروج عن الدين!

هذا، وإنّ الحكومة العبّاسيّة لم تكتف بسياسة تقديم الشيخين وإخراج عليّ


1- انظر: مروج الذهب 3: 299، الكامل في التاريخ 5: 551 وغيره.

ص:298

من بين الخلفاء الأربعة، بل أمعنت أكثر، فراحت تلصق التهم بجعفر بن محمّد الصادق والادعاء بأنّه يقول انّي إله أو نبيّ أو ينزل عَلَيَّ الوحي وما شابه ذلك، بعد أن يئسوا من احتوائه، والخدش في عقيدته وأفكاره! وقد كانت تهمة نزول الوحي وغيرها من أهم المشاكل التي لاقاها الإمام الصادق إذ إنّ بعض السذّج من الناس وبسطاء العقيدة كانوا يتفاعلون مع هذه الشائعات الحكوميّة لما يرون من ملكات باهرة عند الإمام ومن فقه رفيع وكرامات قدسيّة وقد كانصائد الهنديّ ومحمّد بن مقلاس ووهب بن وهب القاضي والمغيرة بن سعيد وسالم بن أبي حفصة العجليّ وغيرهم .. ممّن كانوا يبثّون الأحاديث المغالية في الأئمّة.

وقد كذّبهم الإمام وأعطى قاعدة عامّة لأصحابه فقال: «لا تقبلوا علينا حديثاً إلّاما وافق القرآن والسنّة أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة، فإنّ المغيرة ابن سعيد لعنه اللَّه دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها، فاتّقوا اللَّه ولا تقبلوا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا» وغيرها.

بهذه النصوص كان الأئمّة يسعون لدفع تهم المتّهمين وافتراء المفترين ويعملون لتوعية البسطاء والمغفّلين للوقوف أمام إشاعات الساسة والمغرضين.

والآن لنرجع إلى ما ألزمنا به أنفسنا من البحث في أطراف الحركة العلميّة في العهد العبّاسيّ وسعي الخلفاء لاحتواء الفقهاء سياسيّاً وفكريّاً، فالخلفاء رغم جهودهم المتواصلة لم يوفّقوا لاحتواء الإمامين جعفر الصادق وأبي حنيفة. أمّا الإمام مالك فقد تعاون مع السلطة ودخل في سلكها بعد الفتنة والإطاحة بثورة النفس الزكيّة وأخيه إبراهيم فدوّن لها الموطّأ، ونحن نعلم بأنّ الإمام مالكاً- وقبل توجّه الحكومة إليه- لم تكن له تلك المكانة، وانّ والده أنس بن مالك بن أبي عامر لم يكن معروفاً عند العلماء ولم يفصح التاريخ بشي ء

ص:299

من حياته ولا تاريخ وفاته، بل كلّ ما كان يقال عن مالك بأنّه أخو النضر، وذلك لشهرة النضر بن أنس أخو مالك، وهو الذي روى عن ابن عبّاس.

ونقل أبو بكر الصنعانيّ: أتينا مالك بن أنس فحدّثنا عن ربيعة الرأي- وهو أُستاذ مالك ومعلّمه- فكنّا نستزيده، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة وهو نائم في ذاك الطاق؟ فأتينا ربيعة، فقلنا: كيف يحيط بك مالك ولم تحط أنت بنفسك؟

فقال: أما علمتم أنّ مثقالًا من دولة خير من حِمل علم «(1)».

وفي هذا النصّ إشارة إلى دور السياسة والحكومة في ترسيخ المذاهب وتقديم المفضول مع وجود الفاضل «(2)»!

وقد جاء في تاريخ بغداد انّ أبا العبّاس أمر لربيعة الرأي بجائزة فرفض أن يقبلها، فأعطاه خمسة آلاف درهم ليشتري بها جارية فامتنع عن قبولها «(3)».

أمّا الإمامان الصادق وأبو حنيفة فلم يُثنِهما المنصور عمّا رسماه لنفسيهما وهو مقاطعة السلطة، لكنّ الحكّام تمكّنوا- بمرور الايّام- من احتواء نهج الإمام أبي حنيفة بتقريبهم الإمام أبي يوسف ومحمّد بن الحسن الشيبانيّ والحسن بن زياد اللولويّ، وإناطة القضاء والإفتاء بهم. وكان ذلك بالطبع بعد وفاة أبي حنيفة. لكنّهم رغم كلّ المحاولات لم يمكنهم اختراقصفوف الشيعة لتولي عدول من أهل البيت شؤون قيادتهم، فكانوا ينفون عن فكرهم بدع المبدعين. وإنّ سياسة العصيان المدني الذي رسمه الأئمّة وأرشدوا إليه شيعتهم في الخروج عن طاعة السلطان الفاجر وتأكيدهم على عدم جواز المرافعة إلى الحكّام والركون إليهم، وقولهم: «الفقهاء أُمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركبوا إلى السلاطين فاتّهموهم»، ودعوتهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


1- انظر: طبقات الفقهاء لأبي إسحاق: 68، تاريخ بغداد 8: 424، الاحكام لابن حزم 1: 246.
2- قد ذهبت أغلب المذاهب الإسلاميّة إلى ذلك، انظر: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 183.
3- تاريخ بغداد 8: 425.

ص:300

رغم الرقابة المشدّدة عليهم، كلّها سبل هادفة لتوعية الأُمّة واطلاعها على الحقيقة، إذ إنّ عدم التعاون يعني رفض الحكّام ويعني سلب أهليّة الحاكم لتولّي الحكم، وإنّهم ولاة جور وانّ قول الصادق:

«أيّما مؤمن قدّم مؤمناً في خصومة إلى قاض أو سلطان جائر، فقضى عليه بغير حكم اللَّه، فقد شركه في الإثم».

وقوله: (ما أحبّ أن أعقد لهم- أي الظلمة- عقدة أو وكيت لهم وكاء، ولا مدّة بقلم. إنّ الظلمة وأعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم اللَّه بين العباد).

وقوله: «أيّما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حقّ فدعاه إلى رجل من إخوانكم ليحكم بينه وبينه، فأبى الّا أن يرافعه إلى هؤلاء، كان بمنزلة الذين قال اللَّه عزَّ وجلَّ فيهم: «ألم تر الذين يزعمون انّهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به».

وسئل الصادق عن قاضٍ بين قريتين يأخذ من السلطان عن القضاء الرزق؟

فأجاب: «انّ ذلك سحت، وانّ العامل بالظلم والمعين له والراضي به كلّهم شركاء».

وعليه فقد عرفت أنّ الشيعة سمّوا بالرافضة لرفضهم التعاون مع الحكّام لا لرفضهم الإسلام كما ينادي به أعوان الظلمة!

قال الشيخ محمّد جواد مغنيه «وبهذا نجد السر الاول والتفسير الصحيح لقول أحمد أمين وغيره بان التشيع كان ملجأ لكل من اراد هدم الاسلام، لان الاسلام في منطق أحمد امين واسلافه يتمثل في شخص الحاكم جائراً كان أو عادلًا، فكل من عارضه أو ثار عليه فقد خرج على الاسلام» «(1)».


1- الشيعة والحاكمون: 29.

ص:301

فهذه النصوص تدلّل على تضاد في الرؤى والأهداف بين السلطة وأهل البيت، وانّصدور هذه النصوص عن أئمّة أهل البيت في تلك الفترة يعني أنّ الحكومة غير شرعيّة. ومن الطبيعيّ أن تكون هذه الرؤية ممّا يزعج الحكّام إذ يرون السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة في أيديهم، وهم يسعون بما يقدّمونه من آراء أن ينالوا ثقة الناس، فكيف يُسمح لهؤلاء أن يحطّوا من لا يرون قيمة للسلطان؟!

وعليه فإنّ مخالفة الشيعة للحكّام لم تكن لغصبهم الخلافة وكونهم خلفاء غير شرعيين فحسب بل لجهلهم بكتاب اللَّه وسنّة نبيّه. وستقف على أقوالهم لاحقاً.

انّ السلطة الحاكمة اعتبرت هذا التصوّر خروجاً عن الطاعة، ومن هنا كانوا يعدّون اتّهامهم الأئمّة وشيعتهم بسوء العقيدة والخروج عن الإسلام، ثمّ دعوة وعّاظ السلاطين للنيل منهم والتهجّم عليهم، ضرورة سياسيّة يفرضها الواقع الاجتماعي. وانّ تهمة الغلو في الأئمّة وما واكبها من مصاعب كان من تأثيرات السياسة، وإنّ الساسة كانوا وراءها، فانّهم لم يكتفوا بما أشاعوه عن الصادق بل نسبوا إلى مخالفيهم السياسيين الآخرين كسفيان الثوريّ وأبي حنيفة تُهماً أيضاً، وذلك لأنّ الإمام أبا حنيفة ناصر الثورات العلويّة كثورة زيد بن عليّ ومحمّد النفس الزكيّة وإبراهيم الإمام وإنّه كان يفتي برأي عليّ بن أبي طالب، وقال بأنّ الخلافة هي حقّ ولد عليّ من فاطمة، وذهب إلى أنّ عليّاً كان محقّاً في قتاله أهل الجمل، وقال عن يوم الجمل: سار عليّ فيه بالعدل وهو أعلم المسلمين في قتال أهل البغي، وقوله: ما قاتل عليّاً إلّاوعلي أولى.

وقال: انّ أمير المؤمنين عليّاً إنّما قاتل طلحة والزبير بعد أن بايعا وخالفا.

فإنّه بنقله هذه النصوص كان يريد الإشارة إلى سياسة الحكّام في الحديث،

ص:302

وانّه قد ترك الكثير من هذه الأحاديث الحكوميّة لعرفانه بدور السلطة في وضع الحديث وليس كما علّله مقدّم كتاب المنذريّ «(1)» وابن خلدون «(2)» من انّه قد ترك الحديث لأنّ كثيراً من الزنادقة في عصره كانوا يضعون الأحاديث وأنّ أهل الغفلة من المحدّثين كانوا يروونها، وانّ الإمام قد تركها لذلك!

وكلامنا هذا عن الإمام أبي حنيفه لا يعني أنّه كان شيعيّاً أو انّ الإمام الصادق قد رضي عنه أو ترضّى عليه، أوصحّح رؤاه العقائديّة والفقهيّة أو أخذ عنه، بل نقول إنّ كثيراً من الطعن الذي لحقه كان بسبب بعض مواقفه المعارضة للحكومة والمؤيّدة للعلويين وغيرهم من أعداء خطّ السلطة العقائديّ الفقهيّ، فأن أهل البيت كانوا لا يرتضون القياس ولا الاحكام المبتنية عليه.

قال الأُستاذ عبد الحليم الجندي: لو كانت الحكومة تدرك بأنّ أبا حنيفة يعتنق مذهب التشيّع لما تركته يلقي دروسه في الكوفة- مركز السنّة- سنوات عديدة «(3)»!

وهناك نصوص حواريّة كثيرة بين الصادق وأبي حنيفة تؤكّد رفض الصادق لآرائه القياسيّة. وقد ألّف علماء الشيعة وأصحاب الأئمّة في ردّ القياس كتباً كثيرة، لكنّ المهمّ الذي نؤكّد عليه هو دور السياسة في احتواء الفقهاء فكريّاً وسياسيّاً وبثّهم الدعايات والتهم الشائنة ضدّ من لم يمكن احتواؤهم، بل إنّهم قد جنّدوا الطاقات والعلماء الآخرين لكي ينسبوا إليهم ما لم يقولوه، أو لكي يحرّفوه أو ليضخّموه فيصبغوهصبغة هو بعيد عنها. وقد وقفت على دور أبي هريرة والسيّدة عائشة وابن عمر والزهريّ وفقهاء المدينة السبعة في العهد الأمويّ. وعرفت شدّة تأكيد الحكومة على الأخذ بأقوالهم. ومرّ عليك قول ابن عمر وإرجاعه الناس للأخذ بفقه عبد الملك بن مروان وجاء عن المنصور


1- انظر: الترغيب والترهيب 1: 13 المقدّمة.
2- المقدّمة: 410.
3- انظر: أبو حنيفة: 213.

ص:303

أنه سال مالك عن اراء ابن عمر وقال له: خذ بها وإن خالف علياً وابن عباس، وفي نص آخر: يا مالك، أراك تعتمد على قول ابن عمر دون أصحاب رسول اللَّه؟

فقال: يا أمير المؤمنين، إنه آخر من بقى عندنا من أصحاب رسول اللَّه، فاحتاج الناس اليه، فسألوه وتمسكوا بقوله.

فقال المنصور: يا مالك، عليك بما تعرف أنه الحق ولا تقلدن علياً وابن عباس «(1)». وقد عرفت أنّ فقهاء الحكومة قبل مالك وأبي يوسف في العهد العبّاسيّ كانوا: ابن شبرمة وابن أبي ليلى، وقد بقيا إلى عهد متأخّر، وأنّ الحكّام أمكنهم تقريب أبي يوسف واستمالته للتأثير على معتنقي الحنفيّة، فكان أوّل من قُلِّد منصب قاضي القضاة في الإسلام.

وقدصرّح أكثر من واحد من المؤرّخين أنّ أبا يوسف اختلف عن أُستاذه في توليه المناصب العامّة في الدولة العبّاسيّة لفقره خاصّة) «(2)».

وعليه، فإنّ ابن شبرمة وابن أبي ليلى وأضرابهما كانوا فقهاء الدولة منذ أواخر العهد الأمويّ وحتّى زمن أبي العبّاس السفّاح وشطراً من خلافة المنصور، وإنّ المنصور بتقريبه مالكاً وإعطائه المكانة العليا، وتوحيد الحديث والفقه على يده قد قلّل من نفوذ الآخرين!

ومنذ أواخر عهد المنصور وحتّى أواخر عهد الرشيد تمكّنت الحكومة من السيطرة على الاتّجاهين: اتّجاه الرأي واتّجاه الأثر، وذلك بتقريبهم أبا يوسف ومحمّد بن الحسن الشيبانيّ في بغداد وتقليدهم منصب القضاء، ووجود مالك في المدينة من قبل في ركابهم.


1- انظر الامام الصادق والمذاهب الاربعه 1: 504.
2- انظر: الفهرست: 286.

ص:304

رأي آخر

وبعد هذا العرض السريع الذي بيّنا فيه بعض الرؤى، نحاول أن نطرح رؤية أُخرى هي في سبب تسمية المذهب الشيعيّ الاثني عشريّ بمذهب جعفر ابن محمّد الصادق.

ذلك أنّ ما قيل بأنّ الإمام عاش بين فترة الشيخوخة الأمويّة والطفولة العبّاسيّة، وأنّ هذه الفترة كانت مواتية لنشر المذاهب، لم تكن السبب الوحيد في ذلك، بل هناك أُمور أُخر، منها: دور الحكّام في الأحكام الشرعيّة واحتواؤهم للفقهاء والمحدّثين والقرّاء وسواهم.

فإنّ الصادق لمّا رأى دورهم في تدوين الحديث ثمّ تأصيل المذاهب وتقريب المحدّثين والقرّاء والشعراء، والاهتمام بالحركة العلميّة، كان واضحاً لديه أنّ هذه المبادرة الحكوميّة هي ثورة ثقافيّة ضدّ الأُصول العقائديّة والفقهيّة والتاريخيّة للمسلمين. فالإمام أبو حنيفة يبثّ أفكاره في الكوفة مركز العلويين، وبين أفكاره وما يطرحه من رؤى ما يخالف الصريح من كلام الرسول. والإمام مالك يسيطر على مركز الدعوة الإسلاميّة ويفتي الناس بالمدينة. والليث بن سعد يفتي الناس بمصر. وقيل إنّ أهل مصر كانوا ينتقصون من عثمان، فنشأ فيهم الليث فحدّثهم بفضائل عثمان. والأوزاعيّ يفتي الناس بالشام وقد عُرف انحرافه عن أهل البيت، فكان في كلّ مصر فقه خاصّ واعتقاد خاصّ يبتعد في غالبه عن الأُصول النبويّة والآراء الفقهيّة الصحيحة في القليل أو الكثير.

ولمّا رأى الصادق دعم الحكومة لهؤلاء الفقهاء- تلويحاً وتصريحاً- أحسّ بالخطر وضرورة مواجهة الغزو الفكريّ والفورة الثقافيّة التي شنّتها الحكومة العبّاسيّة على النهج العلويّ، فكان أن بدأ في مواجهة هذه الحملة مواجهة في غاية الجدّ، وأخذ أصحابه في التوجّه إلى الفقه وتعلّم الأحكام وقد تخوّف على

ص:305

شيعته من تأثّرهم بالخطوط الفكريّة العاملة آنذاك، فأخذ يوضّح لهم ما وصل إليه من كلام رسول اللَّه، ويعنعن إسناده إليه (ص) حتّى لا تكون ذريعة بيد المغرضين للنيل منه.

وبهذا تبيّن تلويحاً سبب عدم مشاركة الإمام الصادق في الثورات العلويّة، إذ نراه يتبنّى مسألة هي أهم بكثير ممّا عليه المقاتلون إذ انّهم يرابطون على الثغور العسكريّة، في حين كان الصادق يرابط على ثغور العقيدة والفكر.

وإنّ توزيع الإمام الصادق البحوث العلميّة والنشاطات المعرفيّة التي تحتاج إليها الساحة بين أصحابه لهو أمر ثابت في التاريخ.

فقد أمر أبان بن تغلب أن يجلس في المسجد ويفتي الناس.

وأوكل إلى حمران بن أعين الإجابة عن مسائل علوم القرآن.

وعيّن زرارة للمناظرة في الفقه.

ومؤمن الطاق للمساجلة في الكلام.

والطيّار للمناظرة في الإمامة وغيرها.

وهشام بن الحكم للمناظرة في الإمامة والعقائد.

وبطون الكتب حافلة بمحاورات هؤلاء الأصحاب ومناظراتهم، وقد أشارت كتب الفهارس إلى أسماء ما ألّفوه في كلّ الميادين، حتّى أُحصي ما دوّنوه في عصره فكانت أربعمائة مؤلَّف لأربعمائة مؤلِّف في الحديث فقط، وهي التي عُرفت بالأُصول الأربعمائة التي عليها مدار الفقه الشيعيّ.

بعد هذا لا نشكّ أن تكون السلطة وراء طرح بعض الآراء الفقهيّة التي لا يقبلها الطالبيّون، إذ إنّ في طرح تلك الرؤى تأصيلًا لنهج وفقه الحكومة وتعرّفاً على مخالفيها، وانّ الأحكام الفقهيّة خير ميدان للتعرّف على الرافضة ومن لا يقبل سلطان الدولة. وقد مرّ عليك سابقاً خبر الرجل الذى جاء الرشيد مخبراً بمكان اختفاء يحيى بن عبد اللَّه بن الحسن وتعرّفه عليه إثر جمعه

ص:306

بين الصلاتين، وقول الرشيد له: للَّه أبوك لجادَ ما حفظت تلكصلاة العصر وذلك وقتها عند القوم.

وقول سليمان بن جرير لإدريس بن عبد اللَّه بن الحسن: انّ السلطان طلبني لِما يعلمه من مذهبي، فجئتك ...

وقد نقلنا قبل ذلك حديث أبي مالك الأشعريّ، وكيف كان يتخوّف من إتيانصلاة رسول اللَّه، ويقول: هل فيكم أحد غيركم؟

فقالوا: لا، إلّاابن أُخت لنا.

قال: ابن أُخت القوم منهم، فدعا ...

وغيرها الكثير. وهي جميعها تؤكّد على أنّ الفقه الإسلاميّصار يستقي منابعه من طريقين:

1- السلطان ومن يعمل معه.

2- الطالبيّون، وقد انحصر هذا الخطّ بجعفر بن محمّد الصادق وآله.

وانّ الفقهاء والمحدّثين والقرّاء غالباً كانوا يدورون في فلك السلطان يرسمون القواعد ويوقفون الخليفة على الحلول، وكان الخليفة يُقرِّب من العلماء من يخدم أهداف السلطان ويُبعد من لا يرتضي التعاون معه بل يرفضه!

فقد نقل المؤرّخون: أنّ الرشيد أعطى الأمان ليحيى بن عبد اللَّه بن الحسن، ثمّ ظفر به وبعد ذلك سعى لنقض الأمان، فاستعان بالفقهاء لتسويغ غدره هذا.

نترك تفاصيل الخبر لأبي الفرج الأصفهانيّ، قال في سياقه خبر مقتل يحيى ابن عبد اللَّه بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب:

ثمّ جمع له الرشيد الفقهاء وفيهم: محمّد بن الحسنصاحب أبي يوسف القاضي، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وأبو البختري وهب بن وهب، فجمعوا في مجلس وخرج إليهم مسرور الكبير بالأمان، فبدأ محمّد بن الحسن فنظر فيه

ص:307

فقال: هذا أمان مؤكّد لا حيلة فيه، وكان يحيى قد عرضه بالمدينة على مالك، وابن الدَّراورديّ وغيرهما، فعرفوه أنَّه مؤكّد لا علّة فيه.

قال: فصاح عليه مسرور وقال: هاته، فدفعه إلى الحسن بن زياد اللؤلؤيّ فقال بصوت ضعيف: هو أمان.

واستلبه أبو البختريّ وهب بن وهب فقال: هذا باطل منتقض، قد شقّ عصا الطاعة وسفك الدم فاقتله، ودمه في عنقي!

فدخل مسرور إلى الرشيد فأخبره فقال له: اذهب فقل له: خرّقه إن كان باطلًا بيدك، فجاءه مسرور فقال له ذلك، فقال: شقّه يا أبا هاشم.

قال له مسرور: بل شقّه أنت إن كان منتقضاً.

فأخذ سكيناً وجعل يشقّه ويده ترتعد حتّىصيّره سيوراً، فأدخله مسرور على الرشيد فوثب فأخذه من يده وهو فرح وهو يقول له: يا مبارك يا مبارك! ووهب لأبي البختريّ ألف ألف وستمائة ألف، وولّاه القضاء وصرف الآخرين، ومنع محمّد بن الحسن من الفتيا مدّة طويلة، وأجمع على إنفاذ ما أراده في يحيى بن عبد اللَّه «(1)».

بهذه الطريقة كانوا يستخدمون الفقهاء، ويغيّرون الأحكام الشرعيّة.

وإنّ السياسة العبّاسيّة- كغيرها من السياسات- كانت مبتنية على الترغيب والترهيب، وانّ الطالبيين من أبناء عليّ كانوا أكثر الناس ظلامة.

ولو درسنا حال يحيى بن عبد اللَّه بن الحسن، وهو أحد الطالبيين، وما جرى عليه من الظلم لوقفت على الحقيقة، ولننقل خبر يحيى بن الحسين بن زيد بن عليّ بن الحسين وكيف كان يريد الالتقاء بعمّه عيسى بن زيد.

قال يحيى بن الحسين بن زيد: قلت لأبي: يا أبه، إنّي أشتهي أن أرى عمّي


1- مقاتل الطالبيين: 479- 480.

ص:308

عيسى بن زيد، فإنّه يقبح بمثلي أن لا يلقى مثله من أشياخه، فدافعني عن ذلك مدّة، وقال: إنّ هذا أمر يثقل عليه، وأخشى أن ينتقل عن منزله كراهية للقائك إيّاه فتزعجه.

فلم أزل به أُداريه وألطف به حتّى طابت نفسه لي بذلك، فجهّزني إلى الكوفة وقال لي: إذاصرت إليها فاسأل عن دور بني حي، فإن أُدللت عليها فاقصدها في السكّة الفلانيّة، وسترى في وسط السكّة داراً لها بابصفته كذا وكذا، فاعرفه واجلس بعيداً منها في أوّل السكّة، فإنّه سيقبل عليك عند المغرب كهل طويل مسنون الوجه قد أثّر السجود في جبهته، عليه جبّةصوف، يستقي الماء على جمل [وقد انصرف يسوق الجمل] لايضع قدماً ولا يرفعها إلّا ذكر اللَّه عزًّ وجلًّ ودموعه تنحدر، فقم وسلّم عليه وعانقه، فإنّه سيذعر منك كما يذعر الوحش، فعرّفه نفسك وانتسب له، فإنّه يسكن إليك ويحدّثك طويلًا، ويسألك عنّا جميعاً ويخبرك بشأنه ولا يضجر بجلوسك معه، ولا تطل عليه وودّعه، فإنّه سوف يستعفيك من العودة إليه، فافعل ما يأمرك به من ذلك.

فإنّك إن عُدت إليه توارى عنك، واستوحش منك وانتقل عن موضعه، وعليه في ذلك مشقّة!!

فقلت: أفعل كما أمرتني، ثمّ جهّزني إلى الكوفة وودّعته وخرجت، فلمّا وردت الكوفة قصدت سكّة بني حَيّ بعد العصر، فجلست خارجها بعد أن تعرّفت الباب الذي نعته لي، فلمّا غربت الشمس إذا أنا به قد أقبل يسوق الجمل، وهو كما وصف لي أبي: لا يرفع قدماً ولا يضعها إلّاحرّك شفتيه بذكر اللَّه، ودموعه تَرَقرق في عينيه وتذرف أحياناً، فقمت فعانقته، فذعر منّي كما يذعر الوحش من الإنس. فقلت: يا عمّ، أنا يحيى بن الحسين بن زيد ابن أخيك، فضمّني إليه وبكى حتّى قلت قد جاءت نفسه! ثمّ أناخ جَمَلَه وجلس معي فجعل يسألني عن أهله رجلًا رجلًا، وامرأة امرأة، وصبيّاًصبيّاً، وأنا أشرح له أخبارهم وهو يبكي، ثمّ قال:

ص:309

يا بني أنا أستقي على هذا الجمل الماء، فأصرف ما أكتسب- يعني من أُجرة الجمل إلىصاحبه وأتقوّت باقيه، وربّما عاقني عائق عن استقاء الماء فأخرج إلى البريّة- يعني بظهر الكوفة- فألتقط ما يرمي الناس به من البقول فأتقوّته!

وقد تزوّجت إلى هذا الرجل ابنته وهو لا يعلم من أنا إلى وقتي هذا! فولدت منّي بنتاً، فنشأت وبلغت وهي أيضاً لا تعرفني ولا تدري من أنا، فقالت لي أُمّها: زوّج ابنتك بابن فلان السقّاء- لرجل من جيراننا يسقي الماء- فإنّه أيسر منّا وقد خطبها، وألحّت عَلَيَّ، فلم أقدر على إخبارها بأنّ ذلك غير جائز، ولا هو بكف ءٍ لها، فيشيع خبري فَجَعَلَتْ تلحّ عليَّ فلم أزل أستكفي اللَّه أمرها حتّى ماتت بعد أيّام، فما أجدني آسى على شي ء من الدنيا أساي على أنّها ماتت ولم تعلم بموضعها من رسول اللَّه (ص)!

قال: ثمّ أقسم عَلَيَّ أن أنصرف ولا أعود إليه وودّعني.

فلمّا كان بعد ذلكصرت إلى الموضع الذي انتظرته فيه لأراه فلم أره، وكان آخر عهدي به «(1)».

نعم، إنّ وضع الطالبيين كان هكذا، بل أسوأ حالًا، نكتفي منه بهذا العرض التاريخيّ الموجز، وننتقل إلى حديث الوضوء ودَور الطالبيين في ترسيخ ما سمعوه عن آبائهم من وضوء رسول اللَّه.

المنصور والوضوء

جاء في كتاب الرجال للكشيّ عن حمدويه وإبراهيم ابني نصير، عن محمّد ابن إسماعيل الرازيّ، عن أحمد بن سليمان، عن داود الرقيّ قال: دخلت على أبي عبد اللَّه- أي الصادق- فقلت له: جعلت فداك، كم عدّة الطهارة؟


1- مقاتل الطالبيين: 409- 410.

ص:310

فقال: «ما أوجبه اللَّه فواحدة، وأضاف إليها رسول اللَّه واحدة لضعف الناس، ومن توضّأ ثلاثاً ثلاثاً فلاصلاة له»، أنا معه في ذا حتّى جاءه داود بن زربي، فسأله عن عدّة الطهارة؟

فقال له: «ثلاثاً ثلاثاً، من نقص عنه فلاصلاة»!

قال: فارتعدتْ فرائصي، وكاد أن يدخلني الشيطان، فأبصر أبو عبد اللَّه إلَيّ وقد تغيّر لوني، فقال: «اسكن يا داود، هذا هو الكفر أو ضَرْب الأعناق».

قال: فخرجنا من عنده، وكان ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور، وكان قد أُلقي إلى أبي جعفر أمر داود بن زربي، وأنّه رافضيّ يختلف إلى جعفر بن محمّد.

فقال أبو جعفر: إنّي مطّلع إلى طهارته، فإن توضّأ وضوء جعفر بن محمّد- فإنّي لأعرف طهارته- حقّقت عليه القول وقتلته.

فاطّلع وداود يتهيّأ للصلاة من حيث لا يراه، فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثاً ثلاثاً كما أمره أبو عبد اللَّه، فما تمّ وضوؤه حتّى بعث إليه أبو جعفر المنصور فدعاه.

قال: فقال داود: فلمّا أن دخلت عليه رحّب بي وقال: يا داود قيل فيك شي ء باطل، وما أنت كذلك، قد اطلعت على طهارتك وليس طهارتك طهارة الرافضة، فاجعلني في حلّ، وأمر له بمائة ألف درهم!

قال: فقال داود الرقيّ: التقيت أنا وداود بن زربي عند أبي عبد اللَّه، فقال له داود بن زربي: جعلت فداك، حَقَنْتَ دماءنا في دار الدنيا، ونرجو أن ندخل بيمنك وبركتك الجنّة.

فقال: «فعل اللَّه ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين».

فقال أبو عبد اللَّه لداود بن زربي: «حَدِّثْ داود الرقيّ بما مرّ عليكم حتّى

ص:311

تسكن روعته».

قال: فقال أبو عبد اللَّه: «لهذا أفتيتُه، لأنّه كان أشرف على القتل من يد هذا العدو» ثمّ قال: «يا داود بن زربي توضّأ مثنى مثنى ولا تزيدنّ عليه، فإنّك إن زدت عليه فلاصلاة لك» «(1)».

فالحكومة والحكّام بتقويتهم للخلافات الفقهيّة السابقة بين الصحابة وتبنيهم لآراء المخالفين لعليّ وولده، كانوا يسعون إلى إثارة الرأي العامّ ضدّ أتباع عليّ والآخذين بفقه جعفر بن محمّد الصادق بحجّة أنّهم قد خرجوا عن إرادة الأُمّة وأتوا بالذي لا تأنسه العامّة، وأنّ الخروج عن الجماعة فسق!!

والإمام الصادق كان لا يريد إعطاء المبرّر بيد الحكّام للنيل من شيعته ومواليه. ومن خلال انتهاجه التقيّة كان يريد الحفاظ على المؤمنين من شيعته وصونهم من بطش السلطة، وقد نقل عنه بأنّه مسح أُذنيه «(2)» وعنقه «(3)» وأخذ ماءً جديداً لمسح الرأس «(4)» بل مسح جميع رأسه «(5)» وغسل رجليه «(6)»، فتحمل جميع هذه الروايات على التقيّة لِما عُلم من مذهبه في الوضوء ولِما ثبتصدوره عنه.

هذا وانّ ضغط الحكّام على الصادق وغيره من أئمّة أهل البيت لم يقتصر على الوضوء بل كانوا يريدون توحيد المسلمين على فقه مالك بن أنس وفي جميع أبواب الفقه لقول المنصور له: (لنحمل الناس على علمك) أو قوله:

(لنجعل العلم علماً واحداً).

وقد ثبت في التاريخ أنّ السلطة حصرت الإفتاء أيّام الموسم بمالك، وكان


1- رجال الكشيّ: 312 رقم 564، التهذيب 1: 82/ 214، الاستبصار 1: 71/ 219، الوسائل 1: 443.
2- وسائل الشيعة 1: 405 ح 1052.
3- وسائل الشيعة 1: 411 ح 1070 و 1072.
4- وسائل الشيعة 1: 408 ح 1060 و 1061 و 1062.
5- وسائل الشيعة 1: 412 ح 1071.
6- مستدرك الوسائل 1: 327.

ص:312

مناديها يهتف: لا يفتي الناس إلّامالك؟! وجاء عن مالك انه كان يعترض على من يخالف رأيه واجماع أهل المدينة، فقد جاء في كتابه الى الليث بن سعد: اعلم رحمك اللَّه أنه بلغني أنك تفتي الناس باشياء مختلفه، مخالفه لما عليه جماعة الناس عندنا وبلدنا الذي نحن فيه ... «(1)»».

وقد جاء في وسائل الشيعة بأنّ الصادق كان يقول بناقضيّة القُبلة للوضوء وكذا مَس باطن الدبر والإحليل «(2)» وغيرها. وقد حمل فقهاء الشيعة تلك الأخبار على التقيّة، وبرهنوا على انّ تلك الأخبار- كغيرها من أخبار التقيّة- تدلّ بنفسها على نفسها بأنّهاصدرت تقيّة لمخالفتها للنصوص القرآنيّة والثابت الصحيح من مرويّاتهم.

فقد جاء في التهذيب والاستبصار عن سماعة أنّه سأل الصادق عن الرجل لمس ذَكَرَه أو فرجه أو أسفل من ذلك وهو قائم يصلّي، يعيد وضوءه؟

فقال: «لا بأس بذلك، إنّما هو من جسده» «(3)».

وجاء في تفسير العيّاشيّ عن قيس بن رمّانة أنّه سأل الصادق: أتوضّأ ثمّ أدعو الجارية فتمسك بيدي فأقوم فأُصلّي، أعَلَيَّ وضوء؟

قال: «لا».

قال: يزعمون أنّه اللمس؟

قال: «لا واللَّه، ما اللمس إلّاالوقاع»- يعني الجماع- ثمّ قال: «كان أبو جعفر- أي الباقر- بعدما كَبُرَ يتوضّأ ثمّ يدعو الجارية فتأخذ بيده فيقوم فيصلّي» «(4)».

نعم، انّصدور مثل هذه الروايات عن الصادق تدلّل على انّ الوضع الديني لم يكن عاديّاً، بل نرجّح- على فرضصدور الروايات عنه- أنّصدورها كان


1- أثر الاحكام المختلف فيها للدكتور دبب البغا: 435 عن ترتيب المدارك 1/ 36.
2- وسائل الشيعة 1: 272 ح 712، عن التهذيب 1: 22/ 56 و 45/ 127، الاستبصار 1: 88/ 280 و 284.
3- التهذيب 1: 346/ 1015، الاستبصار 1: 88/ 283.
4- تفسير العيّاشيّ 1: 243/ 142.

ص:313

في السنين الثلاث الأخيرة من عمره الشريف، أي بعد الإطاحة بثورتي النفس الزكيّة في المدينة وأخيه إبراهيم الإمام بالبصرة.

وإنّ الواقف على مجريات الأحداث في العهد العبّاسيّ وخصوصاً في النصف الثاني من عهد المنصور إلى أواخر عهد الرشيد، والعارف بأساليب الحكّام والإرهاب ضدّ أولاد عليّ وشيعته .. يدرك مدى الظلم الواقع على أهل البيت آنذاك. وقد مرّ عليك سابقاً خبر ريطة وجثث الهاشميين وتسليم تلك الخزانة للمهديّ العبّاسيّ، وخبر يحيى بن عبد اللَّه بن الحسن وان عيسى عمه لم يكن قادراً أن يصرّح بأنّ بنته هي بنت رسول اللَّه وليس له أن يزوّجها لذلك السقّاء. وقرأت قبلها عن بني الحسن وكيف سامهم المنصور إذلالًا وأودعهم بطون السجون المظلمة بحيث كانوا لا يعرف وقت الصلاة فيها إلّابتلاوة عليّ ابن الحسن بن الحسن بن الحسن «(1)».

إنّ من يقف على هذه الأُمور يدرك أنّ التقيّة كانت هي السبيل الأوحد لبقاء فقه العلويين ونهجهم، علماً بأنّ التقيّة لم تكن نفاقاً كما يطرحه البعض، إذ إنّ النفاق هو إظهار الإيمان مع كتمان الكفر. أمّا التقيّة فهي إظهار المسايرة والموافقة والعمل بخلاف الواقع لحفظ الدماء والأعراض وما شابه ذلك، وكتمان الإيمان .. ضماناً لاستمرار مسيرة الخطّ الإسلاميّ الأصيل.

بعبارة أُخرى: الكافرون هم الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، مثل قوله: «وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا* وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤن».

فهذا .. إيمان ظاهر+ كفر باطن/ نفاق.

أمّا أهل التقيّة فمثلهم مثل مؤمن آل فرعون، لقوله تعالى: «وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه».


1- مقاتل الطالبيين: 192 و 194.

ص:314

وقد ذهب إلى العمل بالتقيّة أكثر العلماء وقد ثبت عن الإمام أبي حنيفة أنّه أباح قذف المحصنات وترك الصلاة والإفطار في شهر رمضان تقيّة وحيث كان مكرهاً، وهكذا الحال بالنسبة إلى مالك فإنّه اتّقى الأمويّين والعبّاسيّين واستدلّ بقوله تعالى «إلّاأن تتّقوا منهم تقاة» على جواز التقيّة في معرض حديثه عن طلاق المكره، امّا الإمام الشافعيّ فلا يرى كفّارة على الإنسان الذي حلف باللَّه كذباً تحت الإكراه، والنوويّ الشافعيّ لا يرى القطع بحقّ السارق كرهاً وهكذا الحال بالنسبة إلى الأحناف والظاهريّ والطبريّ والزيديّ «(1)».

فعليه، إنّ مشروعيّة التقيّة ثابتة في التاريخ، وقد عمل بها الرسول (ص) مع المشركين. وانّ قضيّة عمّار مشهورة قد أنزل اللَّه فيها آية، وقد مرّ عليك خبر مؤمن آل فرعون، ونحن على اطمئنان بأنّ المسلم الذي لا يقرّ بالتقيّة سيمارسها حتماً لو نزل به الظلم والإرهاب وعاش ظروف الشيعة، وإنّ التقيّة حقيقة فطريّة يتمسك بها الإنسان في المهمّات والملمّات.

المهديّ العبّاسيّ والوضوء

تولى المهديّ العبّاسيّ الخلافة عام 158 بعدما امتنع عيسى بن موسى وليّ عهد المنصور عن التنازل إلى ابنه محمّد المهديّ، فبدأ سياسته بالنظر في المظالم، والكفّ عن القتل وإطلاق سراح السجناء السياسيين، حتّى نرى الحسن بن زيد يبايع المهديّ بصدر منشرح ونفس طيّبة.

ورأى المهديّ انّ الحجاز، وخصوصاً بعد مقتل محمّد النفس الزكيّة، أصبحت مركزاً رئيسيّاً من مراكز الحركة الشيعيّة، فرحل إليها عام 160


1- نقل الأُستاذ ثامر العميديّ في كتابه« واقع التقية عند الفرق الاسلام من غير الشيعة الامامية» آراء علماء المسلمين في التقية فراجع.

ص:315

ليستميل إليه أهلها حتّى لا يشاركوا العلويين في حركاتهم، فأعلن المهديّ في الحجاز بداية سياسة جديدة والعفو العامّ، وبالغ في التقرّب إليهم، حتّى قيل بأنّ عدد الثياب المهداة إلى أهالي مكّة مائة وخمسون ألف ثوب، وصرف عليهم أموالًا طائلة واهتم بالأماكن المقدّسة فيها.

والشيعة كانوا على حيطة من سياسة المهديّ وتعاملوا معها بحذر، إذ إنهم عرفوا ان المنصور نصح المهدي بقوله: (يا بني انّي قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام قبلها، ولست أخاف عليك إلّاأحد رجلين: عيسى بن موسى- ولي عهد المنصور سابقاً، وعيسى بن زيد أخو الحسن الذي بايع المهدي أولًا- فأمّا عيسى بن موسى فقد أعطاني من العهود والمواثيق ما قبلته، وواللَّه لو لم يكن إلّاأن يقول قولًا لما خفته عليك، فاخرجه من قلبك. وأمّا عيسى بن زيد فانفق هذه الأموال واقبل هؤلاء الموالي واهدم المدينة حتّى تظفر به ثمّ لا ألومك).

علماً بأنّ عيسى كان قد اتّخذ الكوفة مركزاً لنشاطه السياسيّ بعد أن كان في البصرة يقاتل العبّاسيين مع إبراهيم حتّى قتل، فالعبّاسيّون كانوا يراقبون تحرّكات الشيعة للوقوف على مكان عيسى وغيره من المجاهدين. وكانوا يسعون للعثور عليهم على ضوء ما يمارسونه من عبادات. وقد مرّت عليك النصوص السابقة وكيف تعرّفوا على يحيى، وانّ سليمان بن جرير جاء إلى إدريس وقال: انّ السلطان طلبني لما يعلمه من مذهبي.

ومن المستحسن أن نذكر خبراً آخر عن عيسى بن زيد حتّى تتاكد ما قلناه عن ظلامة الطالبيين، ثمّ نعرّج بك على رواية الوضوء في هذا العهد.

جاء في مقاتل الطالبيين عن المنذر بن جعفر العبديّ عن ابنه، قال: خرجت أنا والحسن وعلي بنصالح ابنا حيّ، وعبد ربّه بن علقمة، وجناب بن نسطاس مع عيسى بن زيد حجّاجاً بعد مقتل إبراهيم، وعيسى بيننا يستر نفسه في زيّ

ص:316

الجمّالين، فاجتمعنا بمكّة ذات ليلة في المسجد الحرام، فجعل عيسى بن زيد والحسن بنصالح يتذاكران أشياء من السيرة، فاختلف هو وعيسى في مسألة منها- وغالباً ما كانوا يختلفون- فلمّا كان من الغد دخل علينا عبد ربّه بن علقمة فقال: قدم عليكم الشفاء فيما اختلفتم فيه، هذا سفيان الثوريّ قد قدم، فقاموا بأجمعهم فخرجوا إليه، فجاءوه وهو في المسجد جالس، فسلّموا عليه.

ثمّ سأله عيسى بن زيد عن تلك المسألة، فقال: هذه مسألة لا أقدر على الجواب عنها لأنّ فيها شيئاً على السلطان (مع العلم انّ الثوريّ كان من المخالفين للسلطان وكان متوارياً عن الأنظار).

فقال له الحسن: إنّه عيسى بن زيد، فنظر إلى جناب بن نسطاس مستثبتاً.

فقال له جناب: نعم، هو عيسى بن زيد، فوثب سفيان فجلس بين يدي عيسى وعانقه وبكى بكاءً شديداً واعتذر إليه ممّا خاطب به من الردّ، ثمّ أجابه عن المسألة وهو يبكي. وأقبل علينا فقال: انّ حبّ بني فاطمة والجزع لهم ممّا هم عليه من الخوف والقتل والتشريد ليبكي من في قلبه شي ء من الإيمان.

ثمّ قال لعيسى: قم بأبي أنت، فاخف شخصك لا يصيبك من هؤلاء شي ء نخافه، فقمنا فتفرّقنا «(1)».

وبذلك تأكّد لنا وحدة كلمة الطالبيين- حسنيين وحسينيين- وأنّ فقههم كان غير فقه الحكّام، وأنّ الحكّام كانوا يستخدمون الشريعة للتعرّف عليهم.

وقد قدّمنا شواهد، وإليك نصّاً آخر:

أخرج الشيخ الطوسيّ بسنده إلى داود بن زربي قال: سألت الصادق عن الوضوء؟

فقال لي: «توضّأ ثلاثاً ثلاثاً».


1- مقاتل الطالبيين: 415- 416.

ص:317

ثمّ قال لي: «أليس تشهد بغداد وعساكرهم؟!».

قلت: بلى.

قال [داود]: فكنت يوماًأتوضّأ في دارالمهديّ، فرآني بعضهم وأنالاأعلم به.

فقال: كذب من زعم أنّك رافضي وأنت تتوضّأ هذا الوضوء.

قال: فقلت: لهذا واللَّه أمرني «(1)».

وقد نقل الطبريّ لنا نصّاً يكفينا تعريفاً بالمهديّ وشدّة بغضه لعليّ، فقد جاء في الطبريّ أن القاسم بن مجاشع التميميّ عرض على المهديّ وصيّته- وكان فيها بعد الشهادة بالوحدانيّة ونبوّة محمّد «وأنّ عليّ بن أبي طالب وصيّ رسول اللَّه ووارث الإمامة من بعده»- فلمّا بلغ المهديّ إلى هذا الموضع رمى بالوصيّة ولم ينظر فيها «(2)».

الرشيد والوضوء

جاء في الإرشاد للمفيد: عن محمّد بن الفضل قال: اختلفت الرواية من بين أصحابنا في مسح الرجلين في الوضوء، أهو من الأصابع إلى الكعبين أم من الكعبين إلى الأصابع؟

فكتب عليّ بن يقطين إلى أبي الحسن موسى بن جعفر: جعلت فداك، إنّ أصحابنا قد اختلفوا في مسح الرجلين، فاّن رأيت أن تكتب إلَيّ بخطّك ما يكون بحسبه، فعلت إن شاء اللَّه.

فكتب إليه أبو الحسن: «فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء، والذي آمرك به في ذلك أن تتمضمض ثلاثاً وتستنشق ثلاثاً، وتغسل وجهك ثلاثاً، وتخلّل شعر لحيتك وتغسل يدك إلى المرفقين ثلاثاً، وتمسح رأسك كلّه،


1- التهذيب 1: 82/ 214، الاستبصار 1: 71/ 219، وسائل الشيعة 1: 443.
2- انظر: تاريخ الطبريّ 8: 176 حوادث 169.

ص:318

وتمسح ظاهر أُذنيك وباطنهما، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً، ولا تخالف ذلك إلى غيره».

فلمّا وصل الكتاب إلى عليّ بن يقطين، تعجّب ممّا رسم له ممّا أجمع العصابة على خلافه، ثمّ قال: مولاي أعلمُ بما قال، وأنا ممتثل أمره، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحدّ، ويخالف ما عليه جميع الشيعة، امتثالًا لأمر أبي الحسن.

وسُعي بعليّ بن يقطين إلى الرشيد، وقيل له: إنّه رافضيّ مخالف لك. فقال الرشيد لبعض خاصّته: قد كثر عندي القول في عليّ بن يقطين، والقرف- أي الاتّهام- له بخلافنا، وميله إلى الرفض، ولست أرى في خدمته لي تقصيراً، وقد امتحنته مراراً، فما ظهر منه عليّ ما يُقرف به، وأحبّ أن أستبرى أمره من حيث لا يشعر بذلك فيتحرّز منّي

فقيل له: إنّ الرافضة يا أمير المؤمنين تخالف الجماعة في الوضوء فتخفّفه، ولا ترى غسل الرجلين، فامتحنه من حيث لا يعلم بالوقوف على وضوئه.

فقال: أجل، إنّ هذا الوجه يظهر به أمره.

ثمّ تركه مدّة وناطه بشي ء من الشغل في الدار حتّى دخل وقت الصلاة، وكان عليّ بن يقطين يخلو في حجرة في الدار لوضوئه وصلاته، فلمّا دخل وقت الصلاة وقف الرشيد من وراء حائط الحجرة بحيث يرى عليّ بن يقطين ولايراه هو، فدعا بالماء للوضوء، فتمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه، وخلّل شعر لحيته وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً، ومسح رأسه وأُذنيه، وغسل رجليه، والرشيد ينظر إليه، فلمّا رآه الرشيد فعل ذلك لم يملك نفسه حتّى أشرف عليه بحيث يراه، ثمّ ناداه: كذب [يا عليّ بن يقطين] من زعم أنّك من الرافضة، وصلحت حاله عنده.

وبعد ذلك ورد عليه كتاب من أبي الحسن: «ابتدئ من الآن يا عليّ بن يقطين، توضّأ كما أمر اللَّه، اغسل وجهك مرّة فريضة وأُخرى إسباغاً، واغسل

ص:319

يديك من المرفقين كذلك، وامسح بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما كان يخاف عليك، والسلام» «(1)».

العبّاسيّون وتأصيل المذاهب الأربعة

قدّمنا سابقاً عناية الحكومة العبّاسيّة بالفقه المخالف لآل البيت واحتواء العبّاسيّين لخطّي الأثر والرأي. لما في انتشار مذهب آل البيت من تضعيف لخطّ الحكومة وتقوية لمنافسيهم على منصب الخلافة.

وإنّ احتواءهم لخطّي الأثر والرأي هو تعضيد لحكمها وتمسّك بالصفة الشرعية، لأنّ روّاد الخطّ الأوّل لا يرتؤون شرعيّة الخلافة العبّاسيّة خلافاً لروّاد الخطّ الثاني، فإنّهم انخرطوا في سلك الدولة وترعرعوا في أحضانها وتولّوا منصب القضاء، واستغلّت الدولة قدراتهم وطاقاتهم العلميّة فيصالحها، ولذلك ترى الحكومة العبّاسيّة تؤكّد على رفض آراء الخطّ الأوّل، وإن كان عبد اللَّه بن عبّاس- جدّهم الأعلى- من روّادها والدعاة إليها.

بعد كلّ ذلك نحاول المرور سريعاً بالمذاهب الأربعة التي أُصّلت آنذاك قبال مذهب عليّ وعبد اللَّه بن عبّاس وأهل البيت، لنأخذ فكرة إجماليّة عنها، وكيف أنّ هذه المذاهب جعلت الوضوء الثلاثيّ الغسليّ الذي ركّزت عليه الحكومة العبّاسيّة كنقطة من نقاط الاختلاف التي يمكن من خلالها معرفة مخالفيها العقائديّين والفقهيّين.

مذهب الإمام أبي حنيفة

وأوّل مذهب يطالعنا في ذلك العصر وأقدمه هو مذهب الإمام أبي حنيفة،


1- الإرشاد 2: 227، المناقب لابن شهرآشوب 4: 288، الخرائج والجرائح 1: 335/ 26، أعلام الورى: 293، البحار 48: 38/ 14، وسائل الشيعة 1: 444/ 1173، جامع أحاديث الشيعة 2: 291.

ص:320

فإنّ الإمام أبا حنيفة كان من أوائل الذين تقدّموا لمبايعة أبي العبّاس السفّاح في جملة من بايعه من الفقهاء، حيث أنّ الناس كانوا يتشوّقون لحكم وعدهم بإقامة العدل والسنّة لينقذهم من جور الأمويّين.

لكنّ أبا حنيفة سرعان ما أدرك انحراف العبّاسيّين وشراءهم لضمائر بعض الفقهاء والعلماء، فابتعد عن السلطة ورفض أن يتولّى القضاء للمنصور العبّاسيّ رغم كلّ السبل التي اقتفاها لاحتوائه، فكلّما ازدادوا إلحاحاً عليه ازداد ابتعاداً عنهم ورفضاً لتولّي القضاء، حتّى وصل الأمر إلى سجنه وتعذيبه، وقيل: انّه مات مسموماً على أيدي العبّاسيّين.

وعلى كلّ حال فإنّه لم يدوّن فقهه للسلطان ولا لغيره، اللّهمّ إلّاوريقات باسم «الفقه الأكبر» في العقائد نسبت إليه، ولم يصحّ ذلك على وجه القطع واليقين.

ثمّ إنّ السلطات بعد وفاة الإمام أبي حنيفة استطاعت أن تحتوي اثنين من أكبر تلامذته، هما: أبو يوسف القاضي، ومحمّد بن الحسن الشيبانيّ اللذين كانا ينسبان كلّ ما وصلا إليه من رأي إلى أبي حنيفة!

وكان أبو يوسف قد انضمَّ إلى السلطة العبّاسيّة أيّام المهديّ العبّاسيّ سنة 158 وظلّ على ولائه أيّام الهادي والرشيد!

وقد ذكر المؤرّخون سبب اتّصال أبي يوسف بالرشيد وتوثيق علاقاته معه: أنّ بعض القوّاد حنث في يمين، فطلب فقيهاً يستفتيه فيها، فجي ء بأبي يوسف، فأفتاه أنَّه لم يحنث، فوهب له دنانير وأخذ له داراً بالقرب منه واتّصل به.

فدخل القائد يوماً على الرشيد فوجده مغموماً، فسأله عن سبب غمّه، فقال: شي من أمر الدين قد حزبني، فاطلب لي فقيهاً أستفتيه؛ فجاءه بأبي يوسف.

ص:321

قال أبو يوسف: فلمّا دخلت إلى ممرّ بين الدور، رأيت فتىً حسناً أثر المُلك عليه [الظاهر انّه الأمين بن الرشيد] وهو في حجرة في الممر محبوس، فأومأ إليَّ بإصبعه مستغيثاً، فلم أفهم عنه إرادته، وأُدخلتُ إلى الرشيد، فلمّا مثلت بين يديه، سلّمت، ووقفت.

فقال لي: ما اسمك؟

قلت: يعقوب، أصلح اللَّه أمير المؤمنين.

قال: ما تقول في إمام شاهد رجلًا يزني، هل يحدّه؟

قلت: لا يجب ذلك.

قال: فحين قلتها سجد الرشيد، فوقع لي أنّه قد رأى بعض أولاده الذكور على ذلك، وأنّ الذي أشار إليَّ بالاستغاثة هو الابن الزاني!

قال: ثمّ رفع رأسه وقال: ومن أين قلت هذا؟

قلت: لأنّ النبيّ (ص) قال: «ادرؤوا الحدود بالشبهات»، وهذه شبهة يسقط الحدّ معها.

فقال: وأيّ شبهة مع المعاينة؟

قلت: ليس توجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى، والحكم في الحدود لا يكون بالعلم.

قال: ولِمَ؟

قلت: لأنّ الحدّ حقّ اللَّه تعالى، والإمام مأمور بإقامة الحدّ، فكأنّه قدصار حقّاً له، وليس لأحد أخذ حقّه بعلمه، ولا تناوله بيده، وقد أجمع المسلمون على وقوع الحدّ بالإقرار والبيّنة، ولم يجمعوا على إيقاعه بالعلم.

قال: فسجد مرَّة أُخرى، وأمر لي بمال جليل، ورزق في الفقهاء في كلّ شهر، وأن ألزم الدار.

ص:322

قال: فما خرجت حتّى جاءتني هدية الفتى وهدية أُمّه وأسبابه، فحصل لي من ذلك ماصار أصلًا للنعمة، وانضاف رزق الخليفة إلى ما كان يجريه عَلَيَّ ذلك القائد.

ولزمت الدار، فكان هذا الخادم يستفتيني، وهذا يشاورني، فأفتي وأشير، فصارت لي مكنة فيهم، وحرمة بهم، وصِلاتهم تصل إليّ وحالتي تقوى. ثمّ استدعاني الخليفة وطاولني واستفتاني في خواصّ أمره وأنس بي، فلم تزل حالي تقوى معه حتّى قلّدني قضاء القضاة «(1)».

هذا حال أشهر تلامذة الإمام أبي حنيفة الناشر لفقهه والمدوّن لآرائه. وقد وقفت على دَور الدولة في الأخذ بفتواه والعمل برأيه وجعله قاضياً للقضاة، وجلوسه في البيت لإفتاء الناس!!

أمّا محمّد بن الحسن الشيبانيّ، فهو ثاني أبرز تلامذة أبي حنيفة، وقد درس عليه وناظر وسمع الحديث، لكن غلب عليه الرأي.

قدم بغداد ودرس فيها، ثمّ خرج إلى الرقّة وفيها هارون الرشيد، فولّاه قضاء الرقّة، وأخرجه هارون معه إلى الري فمات بها.

كان ملازماً للسلطة العبّاسيّة وألّف في الفقه الكثير.

منها كتاب «الجامع الصغير» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، و «الجامع الكبير»، وله مؤلّفات فقهيّة أُخرى، منها: (المبسوط في فروع الفقه) و (الزيادات) و (المخارج من الحيل) و (الأصل) و (الحجّة على أهل المدينة) وغيرها من الكتب «(2)».

فهذا حال التدوين عند أصحاب أبي حنيفة والمسائل التي سار عليها طائفة كبيرة من المسلمين.


1- نقلنا النصّ عن نشوار المحاضرة 1: 253، وانظر: وفيّات الأعيان ذلك.
2- الأعلام للزركليّ 6: 80.

ص:323

وبذلك اتّضح لك دور السلطة في انتشار مذهب أو التعتيم على آخر، وأنّ مهنة القضاء وتوجّه الحكّام إلى البعض من العلماء كان له الدور الأكبر في تعرّف الناس على ذلك المذهب أو الفقيه. وقد عرفت بأنّ ازدياد عدد أتباع هذا المذهب أو ذاك يرجع إلى العوامل الجانبيّة والسياسيّة لا المقوّمات الأساسيّة وقوّة دليل المذهب، بل لمسايرته الساسة جنباً إلى جنب.

مذهب الإمام مالك

بعد يأس المنصور من احتواء الإمام أبي حنيفة، توجّه إلى الإمام مالك ليكتب له (الموطّأ)، وقال له: انّه سيحمل الناس على ذلك، ويجعل العلم علماً واحداً!

وبعد وفاة المنصور تمكّن المهديّ العبّاسيّ من احتواء كلا الخطّين، إذ أناط إلى أبي يوسف مهنة القضاء وقرّبه إليه، في حين كان المنصور قبله قد كسب الإمام مالكاً، وقد قرأت ذلك سابقاً وعرفت تفانيه في خدمة المنصور.

وقد نقل عن الإمام مالك انّه قال للمنصور: «لو لم يرك اللَّه أهلًا لذلك ما قدّر لك ملك أمر الأُمّة، وأزال عنهم الملك من بعد نبيّهم ولقرّب هذا الأمر إلى أهل بيته. أعانك اللَّه على ما ولّاك وألهمك الشكر على ما خوّلك، وأعانك على ما استرعاك».

واتّخاذ هذا الموقف من قبل مالك لمصالح الحكّام جعل أُستاذه ربيعة الرأي يبتعد عنه ويكرهه، لأنّه كان لا يداهن السلطان ولا يرتضي التعامل معهم، فلذلك هجر الناس- تبعاً للحكومة- ربيعة الرأي، والتفّوا حول مالك.

وجاء عن المنصور انه قال لمالك: «يا عبد اللَّه، ضع هذا العلم ودوّنه، وتجنّب فيه شواذ عبد اللَّه بن مسعود ورخص ابن عبّاس وشدائد ابن عمر، واقصد إلى أوسط الأُمور وما اجتمع عليه الأئمّة والصحابة، لنحمل الناس إن

ص:324

شاء اللَّه على علمك وكتبك ونبثّها في الأمصار، ونعهد إليهم ألّا يخالفوها ولا يقضوا بسواها» «(1)».

فاستجاب مالك لطلب المنصور، وألّف (الموطّأ) مع علمه بأنّ أهل العراق لا يستجيبون لما كتبه، لكنّ المنصور طمأنه بأنّه سيحملهم عليها بالقوّة والسلطان!!

فصار (الموطّأ) دستور الحكومة، وأوّل كتاب دوّن في الحديث للدولة العبّاسيّة.

وروى أن القزاز قرأ الموطأ على مالك ليعلمه للرشيد ويبيّنه، وكان القزّاز هذا قد أخذ أربعين ألف مسألة عن مالك «(2)».

وأمر الرشيد عامله على المدينة بأن لا يقطع أمراً دون مالك، واشتهر عن الرشيد أنّه كان يجلس على الأرض أمامه لاستماع حديثه.

قال ابن حزم: مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان، مذهب أبي حنيفة، فإنّه لمّا ولي أبو يوسف القضاء كان لا يولّي قاضياً إلّامن أصحابه والمنتسبين إلى مذهبه، والثاني مذهب مالك ... «(3)».

فلاحظ كيفصار فقه رسول اللَّه يدوّن من قبل الحكّام الذين لا يهمّهم إلّا الحكم!!

وكيف استغلّوا الفقهاء لترجيح الآراء المخالفة لفقه الطالبيّين وأنصار التعبّد المحض، ليكون نهجاً في الحياة دون فقه أهل البيت.

وقد طمأن مالك المنصور بأنّ الفقه سيبقى في أيديهم وليس لأهل البيت نصيب فيه، فجاء فيما قاله:


1- الإمامة والسياسة 2: 150.
2- طبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازيّ: 148.
3- وفيّات الأعيان 6: 144.

ص:325

يا أمير المؤمنين، لا تفعل، أمّا هذا الصقع فقد كفيتكه، وأمّا الشام ففيه الرجل الذي علمته- يعني الأوزاعيّ- وأمّا أهل العراق فهم أهل العراق!!

وأنّ جملة (وأمّا الشام ففيه الرجل الذي علمته) تعني عداءهُ وبغضه لأهل البيت، وأنّها هي المطلوبة، أي أنّك قد حصلت على النتيجة دون مقدّمات.

وقد عُرِفَ عن المنصور أنّه كان يعظّمه ويراسله لما عرف عنه من الانحراف عن آل محمّد.

قال الدهلويّ في حجّة اللَّه البالغة: (فأيّ مذهب كان أصحابه مشهورين وأُسند إليهم القضاء والإفتاء واشتهرت تصانيفهم في الناس، ودرسوا درساً ظاهراً انتشر في أقطار الأرض، لم يزل ينتشر كلّ حين. وأيّ مذهب كان أصحابه خاملين، ولم يولّوا القضاء والإفتاء، ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين) «(1)».

هذا بالنسبة إلى المذاهب الحكوميّة، أمّا مذهب أهل البيت فلم يكن يُسمح بتداوله، بل إنّ اتباع هذا المذهب، بممارساتهم الطقوس الدينيّة والعبادات الشرعيّة، يعرفون أنّهم من المخالفين لنظام السلطة.

هذا وانّ أشهر كتب المذهب المالكيّ هي: المدوّنة، الواضحة، العتيبة، الموازنة.

مذهب الإمام الشافعيّ

أمّا الإمام الشافعيّ، فإنّه ارتبط بالفقه المالكيّ وحفظ الموطّأ منذصباه، وأحبّ أن يتّصل بمالك فأخذ كتاباً من والي مكّة الى والي المدينة ليُدخله على مالك، فلمّا وصل إلى المدينة وقدّم إلى واليها الكتاب، قال الوالي: إنّ المشيّ، من جوف المدينة إلى جوف مكّة حافياً راجلًا أهون عَلَيّ من المشي إلى باب


1- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 2: 11، عن حجّة اللَّه البالغة 1: 151.

ص:326

مالك، فلست أرى الذلّ حتّى أقف على بابه.

يبدو من هذا الكلام أنّ الشافعيّ أراد الاتّصال بمالك بعد سطوع نجمه وارتقاء محلّه عند العبّاسيّين، حتى أنّ والي المدينة يشعر بالذلّة والتصاغر أمام مالك والوقوف ببابه!

وقد طالت تلمذة الشافعيّ على يد مالك ما يقارب تسع سنين، ثمّ إنّ الشافعيّ أملق أشدّ الإملاق بعد موت مالك فرجع إلى مكّة، وصادف ذلك أن قدم إلى الحجاز والي اليمن، فكلّمه بعض القرشيين، فأخذه الوالي معه، وأعطاه عملًا من أعماله، وهي ولاية نجران.

ثمّ وشي به عند الرشيد بتهمة كونه ذا ميول علويّة ويحاول الخروج على الحكم، فأرسلوه إلى بغداد مكبّلًا بالحديد، فتبرّأ من تهمة انخراطه مع العلويين، وأكّد إخلاصه للسلطة وشهد لهصديقه محمّد بن الحسن الشيبانيّ- الذي كان قد تعرّف عليه عندما كان يدرس عند مالك ثلاث سنين،- بأنّه ثقة ومن أتباع الدولة، فخلّى سبيله.

وبعد هذا توطّدت علاقته وصلاته بالشيبانيّ، فأخذ يدرس عليه آراء أبي حنيفة في الرأي والقياس.

إذَن فالشافعيّ أخذ من كلا المدرستين (1- مدرسة الرأي والقياس، بواسطة محمّد بن الحسن؛ 2- مدرسة الأثر، من مالك بن أنس)، فكان نتاجه مدرسة جديدة خاصّة به أشاعها في مصر بعدما عاد إليها من بغداد عام 199 ه مع أميرها العبّاس بن عبد اللَّه بن العبّاس.

وأنَّه بدأ في تقوية بناء مدرسته، فهاجم مالكاً لتركه الأحاديث الصحيحة لقول واحد من الصحابة أو التابعين أو لرأي نفسه، وهاجم أبا حنيفة وأصحابه لأنّهم يشترطون في الحديث أن يكون مشهوراً ويقدّمون القياس على خبر الآحاد وإنصحّ سنده، وأنكر عليهم تركهم بعض الأخبار لأنّها

ص:327

غير مشهورة وعملهم بأحاديث لم تصحّ لأنّها مشهورة، فاستاء منه المالكيّون وأخذوا يبتعدون عنه، لأنّه أخذ يغيّر آراءه القديمة التي كان يقول بها سابقاً والتي كانت موافقة لرأي مالك في الغالب- ويرسم مكانها رأيه الجديد المتّخذ على ضوء القياس والرأي المخلوط بالأثر. ولمّا استقر مذهبه الجديد شغب عليه بعض عوامّ أصحاب مالك فقتلوه «(1)».

وقد وردت طعون على الشافعي كعدم نقل البخاريّ ومسلم حديثاً عنه فيصحاحهم، وما نقله أحمد بن حنبل عن الشافعيّ قوله: أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منّا؛ وقول أبي ثور: ما كان الشافعيّ يعرف الحديث، وإنّما كنّا نوقفه عليه ونكتبه «(2)»، وغيرها، لكنّا نحتمل كونها طعوناً عصبيّة، فإنّ ترك البخاريّ ومسلم التحديث عن الشافعيّ لم يكن دليلًا على الجرح فيه، إذ لم يكن ذلك دائراً مدار الواقع، فإنّ الصحيح هو ماصحّ عندهما وإن كان مخالفاً للواقع، فنراهما كثيراً مايرويان عن أشخاص ضعاف أو عرفوا بالكذب، وعُدّت تلك الروايات بمنزلة الصحاح، وانّ المؤاخذات على البخاريّ لم تنحصر بهذا فقط.

وعلى هذا يحتمل أن يكون عدم تحديث البخاريّ ومسلم، وغيرها من الطعون المذكورة فيه، إنّما جاءت لقوله: إنّ عليّ بن أبي طالب هو الإمام الحقّ في عصره، وأنّ معاوية وأصحابه كانوا الفئة الباغية. وقد اتّخذ الشافعيّ في كتاب السِّيَر من فقهه سنّة عليّ (ع) في معاملة البغاة، وإظهاره حبّ آل محمّد رغم وقوف الحكّام في طريق ذلك، وقد اشتهر عنه قوله:

إن كان رفضاً حبّ آل محمّد فليشهد الثقلان انّي رافضي

فهذه المواقف كانت لا ترضي الحكّام، وهي التي أوجدت نسبة تلك الطعون وأمثالها فيه.


1- معجم الأُدباء 17: 289.
2- البداية والنهاية 9: 327، طبقات الحنابلة 1: 282، آداب الشافعيّ: 95 .. اعتماداً على ما نقله أسدحيدر في الإمام الصادق والمذاهب الأربعة عنها، انظر 2: 244.

ص:328

مذهب الإمام أحمد بن حنبل

وُلد الإمام أحمد بن حنبل في عهد المهديّ سنة 164 ه، ونشأ ببغداد وتربّى بها، واتّجه إلى طلب العلم وهو ابن خمس عشرة سنة، ورحل إلى الأقطار، وكتب عن الشيوخ، وأخذ عن الشافعيّ واتّصل به اتّصالًا وثيقاً، ولازمه مدّة إقامته في بغداد. وكان أوّل تلقيه العلم على القاضي أبي يوسف المتوفى سنة 182، وصرّح أحمد بأنّه كان أوّل مَن كتب عنه الحديث، إلّاأنّه لم يبق طويلًا معه، وانصرف إلى فقه الأثر الذي كان يمثّله هشيم بن بشير الواسطيّ، ولازمه إلى أن توفي هشيم سنة 183.

وقد أخذ عن كثير من المحدّثين، وأخذ على نفسه أن يلتزم مدرسة الأثر ويخالف مدرسة الرأي والقياس، فقرأ على محدّث البصرة عبد الرحمن بن مهدي الموطّأ لمالك أربع مرّات، وكان معجباً بالشافعيّ، وتصدّر للتحديث في مسجد الخيف سنة 198، وقيل: انّه ما أفتى ولا درّس حتّى بلغ سنّ الأربعين في سنة 204 ه!!

وقد أيّد العبّاسيّين منذصباه، فروى فيهم حديثين انفرد بهما، يبشر فيهما بظهور أبي العبّاس السفّاح والدولة العبّاسيّة وشعارها السواد «(1)»، وكان يقول:

(إنّ العبّاس أبو الخلفاء) «(2)».

وثبت على ولائه رغم ما أصابه من محنة خلق القرآن وضربه بالسياط.

وقد استفتاه جماعة في الخروج على الواثق فرفض ذلك وأقرّ خلافته بقوله:

(إنّ الخارج عليه شاقّ لعصا المسلمين ومخالف للآثار عن رسول اللَّه).

ويعزى تحرّجه عن أخذ أموال بني العبّاس لكونها مغصوبة، لا خدشة في مشروعيّة خلافتهم!


1- البداية والنهاية 10: 53 و 61.
2- إسلام بلا مذاهب للشكعة: 466.

ص:329

وكان يرى عليّاً رابع الخلفاء الراشدين، في الوقت نفسه لم يلتزم أن يكون معاوية باغياً على الإمام عليّ- كما ذهب إليه الشافعيّ.

والجدير ذكره أنّ الإمام أحمد لم يشتهر كباقي أصحاب المذاهب، ويرجع البعض سبب ذلك إلى أنّه كان محدّثاً ولم يكن فقيهاً، حتّى قيل إنّ شهرته كانت بسبب عدم قوله بخلق القرآن وقد قال بها بعدما ضرب ثمانية وثلاثين سوطاً أيّام المعتصم. ولمّا تولّى الواثق أعاد امتحان أحمد، لكنّه لم يُصِبْه بأذى، واكتفى بمنعه من الاجتماع بالناس، فأقام أحمد مختفياً لا يخرج إلى الصلاة ولا إلى غيرها حتّى مات الواثق.

وتولّى المتوكّل الخلافة سنة 232 ه واشتدّت وطأته على العلويين، وعُرِفَ ببغضه لأهل البيت، وطرد المعتزلة من حاشيته، ونكّل بابن أبي دُواد ومحمّد ابن عبد الملك الزيّات وصادر أموالهم، وأخذ يقرّب أصحاب الحديث ويأمر المحدّثين أن يجلسوا للناس ويتحدّثوا إليهم، وأعطاهم الأموال والمكانة، حتّى أنّ ابن كثير نقل أنّ تولية يحيى بن أكثم كانت بمشورة الإمام أحمد بن حنبل «(1)»، وفي نصّ آخر انّ المتوكّل قال له: يا أحمد، انّي أريد أن أجعلك بيني وبين اللَّه حجّة فأظهرني على السنّة والجماعة، وما كتبته عن أصحابك عمّا كتبوه عن التابعين ممّا كتبوه عن أصحاب رسول اللَّه «(2)».

وقد وشى بعضهم بأحمد عند المتوكّل بأنّه يشتم آباءه ويرميهم بالزندقة، فأمر المتوكّل بضرب ذلك الرجل الواشي، وعندما سئل عن ذلك قال:

(لأنّه قذف هذا الشيخ الرجل الصالح أحمد بن حنبل) «(3)».

نعم، لقد استمع المتوكّل إلى أقوال الجواسيس بأنّ أحمد يُؤوي أحد العلويين الهاربين من المتوكّل، فأمر بكبس داره وتفتيشها، فلمّا تحقّقوا من


1- البداية والنهاية 10: 330.
2- التنبيه والردّ لابن الحسين الملطيّ: 17.
3- البداية والنهاية 10: 354.

ص:330

كذب ذلك عفا عنه المتوكّل «(1)».

وكان المتوكّل يصله بصلات سَنِيّة، ويعطف عليه، وعيّن له في كلّ شهر أربعة آلاف درهم، وطلبه إلى سامراء ليتبرّك برؤياه، وينتفع بعلمه، فامتنع أحمد، ثمّ قبل ذلك «(2)».

وروي عنه أنّه قال: (ما أرى الرافضة على الإسلام) «(3)».

فقد كسب عطف المتوكّل حتّى قيل: إنّ بعض أُمراء المتوكّل قالوا له: إنّ أحمد لا يأكل لك طعاماً ولا يشرب لك شراباً ولا يجلس على فراشك ويحرّم ما تشربه.

فقال المتوكّل لهم: واللَّه لو نشر المعتصم وكلّمني في أحمد ما قبلت منه «(4)»!

*** بعد عرضنا السريع لنشوء المذاهب الأربعة، نستطيع أن نفهم وبكلّ وضوح أنّ روايات الوضوء المرويّة في هذه الكتب هي نسخ متكرّرة من الوضوء العثمانيّ والفقه المخالف لمدرسة التعبّد وما ذهب إليه عليّ بن أبي طالب وابن عبّاس.

لأنّ الفقه والرواية- كما قلنا- نشآ وترعرعا في أحضان الحكومتين الأمويّة والعبّاسيّة، وقد وقفت على دورهم التخريبيّ في الشريعة واحتوائهم بالفقهاء وبعض التابعين، لإبعاد الناس عن الأخذ بفقه عليّ، إذ إنّهم كانوا يتصوّرون أنّ الأخذ بفقه عليّ هو مقدّمة لإبعادهم عن الحكم وتقرّب الناس إلى أهل بيت النبوّة، وهذا ما كان يزعج الحكّام ولا يُرضيهم، فتراهم يؤكّدون على الأخذ بكلام ابن عمر وإن خالف عليّاً وابن عبّاس. وإليك نصّاً آخر:


1- مناقب أحمد لابن الجوزيّ: 36.
2- البداية والنهاية 10: 350.
3- المناقب لابن الجوزيّ: 214.
4- البداية والنهاية 10: 354.

ص:331

دخل مالك بن أنس على المنصور فقال له: يا مالك مالي أراك تعتمد على قول ابن عمر دون أصحاب رسول اللَّه؟

فقال مالك: يا أمير المؤمنين إنّه آخر من بقي عندنا من أصحاب رسول اللَّه (ص) فاحتاج الناس إليه، فسألوه وتمسّكوا بقوله.

فقال: يا مالك عليك بما تعرف أنّه الحقّ عندك، ولا تقلّدنّ عليّاً وابن عبّاس «(1)».

بعد هذا لا يمكننا الاطمئنان إلى مرويّات هذه الكتب بلا تحقيق وتمحيص سنداً ودلالة وزيادة ونقيصة، وبدون معرفة الملابسات التاريخيّة لصدور الأحكام، لأنّ ما تحتوي عليه ممّا طالته السياسة. وقد عرفت أنّها تريد تدوين ما ترتضيه وترك ما لا ترتضيه.

الوضوء الثلاثى الثلاثيّ الغسليّ في العصر العبّاسيّ

بعد أن أخذناصورة عن تأسيس المذاهب الأربعة، ووقفنا على أهداف الحكّام من احتواء الفقهاء، وتدوين الفقه وحصره بهذه المذاهب، لابدّ من ملاحظة السير التاريخيّ لمسألة الوضوء في هذا العصر، ولابدّ من نقل آراء علماء المذاهب فيه رواية وفتوىً، ثمّ مقابلتها بآراء أئمّة مذهب التعبّد المحض (مذهب أهل البيت)، وتشخيص امتداد موارد الخلاف التي حدثت في عهد عثمان، وما أُضيف إليها من جزئيّات وفروع في العصور اللاحقة.

إنّ التثليث في غسل الأعضاء وغسل الأرجل كان المدار الأوّل للاختلاف بين المسلمين في عهد عثمان، لكنّا نراه يتطوّر، فنرى ابن عمر يغسل رجليه سبع مرّات ويعدّ الوضوء هو الإنقاء.


1- انظر: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 504- 505.

ص:332

ويروى عن معاوية أنّه توضّأ للناس، فلمّا بلغ رأسه غرف غرفة من ماء فتلقّاها بشماله حتّى وضعها على وسط رأسه حتّى قطر الماء أو كاد يقطر، ثمّ مسح من مقدّمه إلى مؤخّره ومن مؤخّره إلى مقدّمه «(1)».

أمّا مدرسة التعبّد المحض فلم ترتض هذا التغيير في الوضوء، لأنّها تعدّ الوضوء من الأُمور التوقيفيّة التعبّديّة التي يجب فيها الرجوع إلى الشرع، وأنّ الوضوء لم يكن عندهم هو الإنقاء حسب قول ابن عمر، بل هو إتيان ما أمر به اللَّه، ونزل به القرآن، وأكّد عليه الرسول. وقد وقفت سابقاً على كلام أنس بن مالك مع الحجّاج وقوله: (نزل القرآن بالمسح)، وكلام ابن عبّاس مع الربيّع (أبى الناس إلّاالغسل ولا أجد في القرآن إلّاالمسح) وغيرهم.

وتأكيد الجميع على لزوم اتّباع ما نزل به الوحي وأتى به رسول اللَّه على نحو السنّة.

أمّا ما رواه ابن عمر عن رسول اللَّه أنّه (ص) قال لمّا أتى بالغسل الثالث (هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي) فليس فيه دلالة على كون الفعل قد جي ءَ به على نحو السنّة، بل هو أدلّ على عدم مشروعيّة هذا الفعل للناس واختصاصه به (ص)، لإتيانه به بعد الثاني الذي هو فضل وقوله (ص) عنه:

«يعطى عليه كفلين» أو «يؤجر عليه مرّتين»، وهو معنى آخر للسنّة، وتصريحه (ص) في الغسل الثالث: بقوله «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي» لتدلّ على أنّها من مختصّاته، إذ لا معنى لفضل بعد فضل!! وعليه فإنّ هذا الحديث لنفي التثليث أدلّ من كونه دليلًا له.

أمّا موضوع أخذ معاوية غرفة ماء جديد في الوضوء (ووضعها على وسط رأسه حتّى قطر الماء أو كاد يقطر، ثمّ مسح من مقدّمه إلى مؤخّره ومن مؤخّره إلى مقدّمه) فلم يشاهد في الوضوءات البيانيّة الأُخرى- إلّاالمحكي عن عبداللَّه


1- سنن أبي داود 1: 31/ 124.

ص:333

ابن زيد بن عاصم، والربيّع بنت معوّذ، وحتّى أنّصحاح مرويّات الخليفة عثمان ليس فيها ذلك.

وانّا سنشير إلى كيفيّة نسبة هذا الخبر إلى عبد اللَّه بن زيد والسير الفقهيّ لهذه المسألة وغيرها من التفريعات في الفصول اللاحقة من هذا الكتاب، لكنّ الذي يجب الإشارة إليه هنا هو: إنّ موضوع مسح الرأس قد تغيّر من أيّام معاوية وأخذ يفقد حكمه، حتّى ترى فقهاء المذاهب اليوم يجوّزون غسل الرأس بدلًا من مسحه، وإن ذهب البعض منهم إلى القول بالكراهة!

بعد ذلك لا نرى للمسح حكماً إلزاميّاً في وضوء مسلمي المذاهب الأربعة اليوم «(1)»!

كانت هذه إشارة عابرة إلى هذا الأمر نترك تفصيلها إلى الأجزاء الأُخرى من الكتاب.

ولنعد إلى أصل البحث وبيان الوضوء الثلاثيّ الغسليّ عند أئمّة المذاهب:

1- الفقه الحنفيّ

اتّفقت الحنفيّة على هذا الوضوء الثلاثي الغسلي والمراجع لكتبهم المهمّة كأحكام القرآن للجصّاص (م 370)، وشرح معاني الآثار للطحاويّ (م 321)، وبدائع الصنائع للكاسانيّ (م 587)، وعمدة القاري للعينيّ (م 855)، وشرح فتح القدير لابن همام (م 681)، والمبسوط للسرخسيّ (م 483)، والفتاوي


1- جاء في الفقه على المذاهب الأربعة للجزيريّ 1: 57 عند بيانه وضوء الحنفيّة: وإذا غسل رأسه مع وجهه، أجزأه عن المسح. وعن وضوء المالكيّة 1: 58 قال: الفرض الرابع: مسح جميع الرأس من منابت شعر الرأس إلى نقرة القفا من الخلف علماً بأنّهم يشترطون أخذ ماء جديد للرأس، وبإمرار المكلّف يده من منابت الشعر إلى نقرة القفا يحصل الغسل!! وقال عن وضوء الشافعيّة 1: 61 إذا غسل رأسه بدل مسحها، فإنّه يجزئه ذلك، ولكنّه خلاف الأَولى.. أمّا عن وضوء الحنابلة 1: 62 فقال: وغسل الرأس يجزئ عن مسحها، كما قال غيرهم، بشرط إمرار اليد على الرأس، وهو مكروه كما عرفت.

ص:334

الهنديّة وغيرها، يقف على ما قلناه.

وإليك نصّاً أخذناه من كتاب المبسوط للسرخسيّ، إذ مرّ عليك أنّ محمّد ابن الحسن الشيبانيّصنّف ما فرعه أبو حنيفة وأسمى كتابه (المبسوط)، ثمّ اختصر محمّد بن أحمد المروزيّ ذلك الكتاب فسمّاه (بالمختصر)، ثمّ جاء شمس الدين السرخسيّ فشرح المختصر وسمّاه (المبسوط). ونحن نأخذ آراء أبي حنيفة من هذا الكتاب لما عرفت، ونقتصر على نقل متن المختصر للمروزيّ إن لم نحتج إلى شرح السرخسيّ، فقد جاء في الوضوء عنه:

«ثمّ يغسل وجهه ثلاثاً، ثمّ يغسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ثمّ يمسح برأسه وأُذنيه مرّة واحدة».

والمسنون في المسح مرّة واحدة بماء واحد عندنا، وفي المجرّد عن أبي حنيفة ثلاث مرّات بماء واحد «ثمّ يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثاً ثلاثاً» «(1)».

2- الفقه المالكيّ

نهجت المالكيّة نَهْج الخليفة عثمان بن عفّان في الوضوء، ومن يقرأ في كتبهم المهمّة يقف على هذه الحقيقة، كأحكام القرآن للقرطبيّ (م 340)، وأحكام القرآن لابن العربيّ (م 543)، وبداية المجتهد لابن رشد (م 595)، وغيرها من كتبهم حتّى المدوّنة الكبرى والموطّأ لمالك. وإليك نصّاً أخذناه من الموطّأ (كتاب الطهارة، الحديث الأوّل في باب العمل في الوضوء):

«حدّثني يحيى بن مالك، عن عمرو بن يحيى المازنيّ، عن أبيه، انّه قال لعبد اللَّه بن زيد بن عاصم، وهو جدّ عمرو بن يحيى المازنيّ، وكان من أصحاب رسول اللَّه: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول اللَّه يتوضّأ؟


1- المبسوط للسرخسيّ 1: 6- 8.

ص:335

فقال عبد اللَّه بن زيد: نعم، فدعا بوضوء، فأفرغ على يده، فغسل يديه مرّتين، ثمّ تمضمض، واستنثر ثلاثاً، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً، ثمّ غسل يديه مرّتين إلى المرفقين، ثمّ مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدّم رأسه ثمّ ذهب بهما إلى قفاه، ثمّ ردّهما، حتّى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثمّ غسل رجليه» «(1)».

لم يحدّد مالك في الموطّأ غسلات الوضوء بمرّة ولا مرّتين، ولا ثلاث مرّات، ولم يبوّب باباً في الافراد والتثنية والتثليث، وإنّما اقتصر على هذه الرواية التي لم يرد فيها إلّاتثليث غسل الوجه وغسل الرجلين، لكنّ ابن رشد القرطبيّ المالكيّ قال: «اتّفق العلماء على الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة هو مرّة مرّة إذا أسبغ وأنّ الاثنين والثلاث مندوب إليها» «(2)».

فالمالكيّة استنتجوا من قول مالك وسائر المرويات أنّ التثليث أيضاً مندوب إليه، وأنّه وضوء مجز وإن كان يتحقّق فعله بواحدة على نحو الإسباغ.

ولابن العربيّ في أحكام القرآن تحقيق انفرد به، وهو: «إنّ قول الراوي انّ النبيّ (ص) توضّأ مرّتين وثلاثاً، أنَّه أوعب بواحدة، وجاء بالثانية والثالثة زائدة، فإنّ هذا غيب لا يدركه بشر، وإنّما رأى الراوي أنّ النبيّ (ص) قد غرف لكلّ عضو مرّة فقال: توضّأ مرّة، وهذاصحيحصورة ومعنى، ضرورة أنّا نعلم قطعاً انّه لو لم يوعب العضو بمرّة لأعاد، وأمّا إذا زاد على غرفة واحدة في العضو أو غرفتين فإنّنا لا نتحقّق أنّه أوعب الفرض في الغرفة الواحدة وجاء ما بعدها فضلًا، أو لم يوعب في الواحدة ولا في الاثنين حتّى زاد عليها بحسب الماء وحال الأعضاء في النظافة، وتأتي حصول التلطّف في إدارة الماء القليل والكثير عليها، فيشبه- واللَّه أعلم- انّ النبيّ (ص) أراد أن يوسّع على أُمّته بأن يكرر لهم الفعل، فإنّ أكثرهم لا يستطيع أن يوعب بغرفة واحدة، فجرى مع


1- الموطّأ لمالك 1: 18/ 1.
2- بداية المجتهد 1: 13.

ص:336

اللطف بهم والأخذ لهم بأدنى أحوالهم إلى التخلّص؛ ولأجل هذا لم يوقت مالك في الوضوء مرّة ولا مرّتين ولا ثلاثاً إلّاما أسبغ.

قال: وقد اختلفت الآثار في التوقيت، يريدُ اختلافاً يبيّن أنّ المراد معنى الإسباغ لاصورة الأعداد. وقد توضّأ النبيّ (ص) كما تقدّم، فغسل وجهه بثلاث غرفات، ويده بغرفتين، لأنّ الوجه ذو غضون ودحرجة واحْدِيداب، فلا يسترسل الماء عليه في الأغلب من مرّة، بخلاف الذراع فإنّه مسطّح فيسهل تعميمه بالماء وإسالته عليها أكثر ممّا يكون ذلك في الوجه.

فإن قيل: فقد توضّأ النبيّ (ص) مرّة مرّة وقال: «هذا وضوء لا يقبل اللَّه الصلاة إلّابه»، وتوضّأ مرّتين مرّتين وقال: «من توضّأ مرّتين مرّتين آتاه اللَّه أجره مرّتين»، ثمّ توضّأ ثلاثاًثلاثاً وقال: «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، ووضوء أبي إبراهيم»، وهذا يدلّ على أنّها أعداد متفاوتة زائدة على الإسباغ، يتعلّق الأجر بها مضاعفاً على حسب مراتبها.

قلنا: هذه الأحاديث لم تصحّ، وقد ألقيت إليكم وصيّتي في كلّ وقت ومجلس ألّا تشتغلوا من الأحاديث لما لا يصحّ سنده، فكيف يبتني مثل هذا الأصل على أخبار ليس لها أصل؛ على أنّ له تأويلًاصحيحاً، وهو أنَّه توضّأ مرّة مرّة وقال: «هذا وضوء لا يقبل اللَّه الصلاة إلّابه»؛ فإنّه أقلّ ما يلزم، وهو الإيعاب على ظاهر هذه الأحاديث بحالها، ثمّ توضّأ بغرفتين وقال: «له أجره مرّتين في كلّ تكلف غرفة ثواب»، وتوضّأ ثلاثاً وقال: «هذا وضوئي»، معناه الذي فعلته رفقاً بأُمّتي وسنّة لهم، ولذلك يكره أن يزاد على ثلاث؛ لأنّ الغرفة الأولى تسنّ العضو للماء، وتذهب عنه شعث التصرّف، والثانية تَرْحَض [أي تغسل] وضر [الوضر: وسخ الدسم واللبن] العضو، وتدحض وَهجه، والثالثة تنظّفه، فإن قصرت درْبَة أحدٍ عن هذا كان بدويّاً جافياً، فيعلّم الرفق حتّى يتعلّم، ويُشْرَع له سبيل الطهارة حتّى ينهض إليها، ويتقدّم، ولهذا قال من قال:

ص:337

(فمن زاد على الثلاث فقد أساء وظلم) «(1)».

قلت: لنا تحقيق آخر قريب لما قاله ابن العربيّ سنذكره في الفصل الأوّل من هذه الدراسة، فتابع معنا.

3- الفقه الشافعيّ

كتب علماء الشافعيّة كثيراً في الأحكام، وبمراجعتنا لكتبهم المهمّة يمكننا الوقوف على وضوئهم، وأنّه لا يختلف في الأُصول عن المذاهب الأُخرى، فتراه متأثّراً بما حكاه الخليفة عثمان بن عفّان عن رسول اللَّه. وأهم كتب الشافعيّة هي:

اختلاف العلماء للمروزيّ (م 294)، والأُمّ للشافعيّ (م 204)، والمختصر للمزنيّ (م 264)، ومعالم السنن للخطابيّ (م 388)، والمهذّب للفيروزآباديّ (م 476)، والمجموع للنوويّ (م 676)، وفتح الباري للعسقلانيّ (م 852)، وغيرها.

وقد حكى الشافعيّ ذلك الوضوء عن ابن عبّاس وأنَّه قال: (توضّأ رسول اللَّه (ص) فأدخل يده في الإناء فاستنشق وتمضمض مرّة واحدة ثمّ أدخل يده فصبّ على وجهه مرّة وصبّ على يديه مرّة ومسح برأسه وأُذنيه مرّة واحدة) «(2)».

ثمّ نقل بعدها رواية عن حمران مولى عثمان عن عثمان أنّه توضّأ بالمقاعد ثلاثاً ثلاثاً «(3)».

ثمّ قال الشافعيّ: وليس هذا اختلافاً، ولكنّ رسول اللَّه (ص) إذا توضّأ


1- أحكام القرآن لابن العربيّ 2: 582- 583.
2- الأُمّ 1: 31- 32.
3- الأُمّ 1: 32.

ص:338

ثلاثاً وتوضّأ مرّة، فالكمال والاختيار ثلاث، واحدة تجزئ، فأحبّ للمرء أن يوضئ وجهه ويديه ورجليه ثلاثاً ثلاثاً ويمسح برأسه ثلاثاً،

ويعمّ بالمسح رأسه، فإن اقتصر في غسل الوجه واليدين والرجلين على واحدة تأتي على جميع ذلك أجزأه، وإن اقتصر في الرأس على مسحة واحدة بما شاء من يديه أجزأه ذلك. وذلك أقل ما يلزمه، وإن وضّأ بعض أعضائه مرّة وبعضها اثنين وبعضها ثلاثاً أجزاه، لأنّ واحدة إذا أجزأت في الكلّ أجزأت في البعض منه.

ثمّ نقل رواية عبداللَّه بن زيد بن عاصم، ثمّ قال بعدها: (ولاأحبّ للمتوضئ أن يزيد على ثلاث، وإن زاد لم أكرهه إن شاء اللَّه) «(1)».

4- الفقه الحنبليّ

لا يختلف الوضوء عند الحنابلة في الأُصول مع المذاهب الأُخرى، والكلّ يستقي مصدره من الأحاديث السابقة الذكر. وقد مرّ كلام عن أسباب إحداث عثمان هذا الوضوء وكيفيّة تبنّي الحكّام للوضوء بغضاً للطالبيّين، وسبباً في التعرّف عليهم. وللإمام أحمد مضافاً إلى مسنده كتابان يمكن الرجوع إليهما لأخذ الأحكام منهما، أحدهما مسائل ابنه عبد اللَّه بن أحمد، والآخر مسائل أحمد التي جمعها أبو داود سليمان بن الأشعث السجستانيّ.

علماً أنّ أشهر كتاب عند الحنابلة في الفقه هو المغني لابن قدامة (م 620)، والمحرر في الفقه لابن تيميّة (م 652)، والإنصاف للمرداويّ (م 885)، وقد أخذنا بعض الروايات عن المسند لنقف على حقيقة الحال.

أخرج أحمد بسنده عن بسر بن سعيد عن عثمان أنّه توضّأ بالمقاعد


1- الأُمّ 1: 32.

ص:339

وغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ثلاثاً، ثمّ مسح برأسه ورجليه ثلاثاً ثلاثاً «(1)».

وأُخرى عن بسر بن سعيد عن عثمان أنّه توضّأ ثلاثاً ثلاثاً «(2)».

وروى أيضاً رواية أُخرى عن حمران عن عثمان، أنَّه غسل وجهه ثلاث مرّات، ثمّ غسل يديه إلى المرفقين ثلاث مرّات، ثمّ مسح برأسه ... ثمّ غسل رجليه إلى الكعبين ثلاث مرّات.

ورابعة عن حمران عن عثمان أنّه توضّأ بالمقاعد: ... فغسل ثلاثاً ثلاثاً.

وقد تتبّعنا روايات عثمان في مسند أحمد، فرأيناه ينقل المرويات الثلاثيّة عنه (ص) وليس فيها حتّى رواية واحدة أنّه (ص) توضّأ المرّة أو المرّتين. أمّا الروايات الثلاثيّة فهي أكثر من اثنتي عشرة رواية، وفي بعضها انّه مسح برأسه ثلاثاً وثلّث غسل الرجلين، اللّهمّ إلّارواية واحدة جاء فيها (ومسح برأسه وظهر قدميه) «(3)».

وفي الحديث الأوّل: (ثمّ مسح برأسه ورجليه ثلاثاً) «(4)».

فنلاحظ أنّ أحمد نقل الوضوء العثمانيّ الموافق لرأي المتوكّل وحكومة بني العبّاس، الذي هو امتداد لنهج الأمويّين وعثمان بن عفّان.

وينسب هذا الوضوء كذلك إلى عليّ بن أبي طالب «(5)»! ولا نريد أن نتّهم الإمام أحمد بالكذب أو الوضع، فقد نقل الكثير من فضائل عليّ، لكنّه والفقهاء الثلاثة الآخرين تتلمذوا في العهدين الأمويّ والعبّاسيّ، وكانوا على اتّصال بالحكّام، وأخذوا العلم عن أساتذة أمويّين وعبّاسيّين، فكان ما تلقّوه قد تأثّر بالحكّام، فلا تراهم ينقلون رأي عليّ بن أبي طالب وعبد اللَّه بن عبّاس وأوس


1- مسند أحمد 1: 67.
2- مسند أحمد 1: 67- 68.
3- مسند أحمد 1: 58.
4- مسند أحمد 1: 67.
5- مسند أحمد 1: 78 و 82، 103، 110، 114.

ص:340

ابن أبي أوس وعبّاد بن تميم وغيرهم في الوضوء إلّانادراً، وفي أغلب الأحيان محرّفاً.

فتلخص ممّا سبق وكما سترى، أنّ المذاهب الأربعة تتّحد في وضوئها وتشترك فيما بينها في النقاط التالية:

1- محبوبيّة الغسل الثالث في الأعضاء الغسليّة، والتأكيد على أنّه سنّة رسول اللَّه.

2- لزوم غسل الأرجل وأنّ رسول اللَّه قد فعله.

3- غسل اليدين مع المرفقين.

4- جواز غسل الرأس، وإن ذهب البعض إلى كراهته!

أمّا أعضاء الوضوء وأركانه فهي عند المسلمين واحدة- اتباعاً للتنزيل-:

1- غسل الوجه. 2- غسل اليدين. 3- مسح الرأس. 4- الأرجل. وإنّ اختلافهم في الأرجل هل تمسح أم تغسل، وإنّ الرأس يمسح ببعضه أم كلّه و ..

تحصّل ممّا سبق أنّ المذاهب الأربعة اتّفقت على تثليث الأعضاء الغسليّة، وجواز غسل الرجلين ثلاثاً أيضاً.

وحتّى إنّنا نراهم يجوّزون غسل الرأس بدل المسح، لكنّ البعض منهم ذهب إلى القول بالكراهة!

بذلك يمكننا أن نطلق على المدرسة الوضوئيّة في العهد العبّاسيّ الأوّل مدرسة «تثليث الغسلات وغسل الممسوحات».

وقد تبيّن للمطالع أنّ علومهم أخذت تدوّن وتكثر تفريعاتها وتختلف طرق الاستدلال لها، وتأصّلت المذاهب فتوائيّاً بعد أن كانت روائيّاً، وصيغت المسائل الشرعيّة بشكل فتاوى لا محيص عنها.

ففرائض الوضوء تكون عند الإمام أبي حنيفة أربعة:

ص:341

1- غسل الوجه.

2- غسل اليدين مع المرفقين.

3- مسح ربع الرأس، ويقدّر الربع بقدر الكف كلّها، وإذا غسل رأسه مع وجهه أجزأه عن المسح، ولكنّه يكره.

4- غسل الرجلين مع الكعبين، وقالوا: إنّ غسل العضو كلّه بالماء مرّة واحدة فرض والغسلة الثانية والثالثة سنّتان مؤكّدتان على الصحيح.

وأمّا فرائض الوضوء في مذهب المالكيّة، فهي سبعة:

1- النيّة.

2- غسل الوجه.

3- غسل اليدين مع المرفقين.

4- مسح جميع الرأس، وإذا غسل رأسه، فإنّه يكفيه عن المسح إلّاأنّه مكروه.

5- غسل الرجلين مع الكعبين.

6- الموالاة.

7- دلك الأعضاء الغسليّة، وقالوا: إنّ الغسلة الثانية والثالثة في كلّ مغسول حتّى الرجلين يعدّ من الفضائل.

وهي في مذهب الشافعيّة ستّة:

1- النيّة.

2- غسل الوجه.

3- غسل اليدين مع المرفقين.

4- مسح بعض الرأس ولو قليلًا، وإذا غسل رأسه بدل المسح أجزأه، ولكنّه خلاف الأَوْلى وليس بمكروه.

ص:342

5- غسل الرجلين مع الكعبين.

6- الترتيب بين الأعضاء الأربعة المذكورة في القرآن.

وقالوا: إنّ الغسلة الثانية والثالثة سنّة مستحبّة، مندوب إليها، وكلّها بمعنى واحد.

وهذه الفرائض في مذهب الحنابلة ستّة أيضاً:

1- غسل الوجه.

2- غسل اليدين مع المرفقين.

3- مسح جميع الرأس، وغسل الرأس يجزئ عن المسح وهو مكروه.

4- غسل الرجلين مع الكعبين.

5- الترتيب.

6- الموالاة.

وقالوا: إنّ الغسلة الثانية والثالثة في المغسولات سنّة مستحبّة مندوب إليها، وكلّها بمعنى واحد «(1)».

الوضوء الثنائي المسحيّ في العصر العبّاسيّ

بعد أن تكوّنت لديناصورة عن المذاهب الأربعة، ووقفنا على أهداف الحكّام من احتواء الفقهاء، وبيّنا جذور الوضوء الثلاثيّ وكيفيّة تأثّر المذاهب الأربعة به في العهد العبّاسيّ .. لابدّ من ملاحظة السير التاريخيّ لمسألة الوضوء وكيفيّته عند نهج «التعبّد المحض» في هذا العصر، والمتمثّل بأهل البيت (ع).

وإذا أخذنا بعين الاعتبار معاصرة كلّ من الإمام أبي حنيفة ومالك للدولة الأمويّة وتتلمذهم فيها، فإنّ الإمام الشافعيّ وأحمد كاناصورتين مكرّرتين


1- أخذنا فرائض الوضوء من كتاب الفقه على المذاهب الأربعة للجزيريّ: المجلّد الأوّل، باب الوضوء. فراجع.

ص:343

لفقه مالك وأبي حنيفة في العهد العبّاسيّ، وإن كان لكلّ منهما أُصول يختصّ بها.

إنّه لابدّ هنا من معرفة رأي أئمّة أهل البيت وكيفيّة امتداد وضوئهم في العصر العبّاسيّ.

نبدأ بذكر وضوء محمّد بن عليّ بن الحسين (الباقر) والذيصدر في العهد الأمويّ، ثمّ نردفه بوضوء الأئمّة من ولده مبيّنين سرّ تأكيدهم على بيان بعض الجزئيّات في الوضوء، علماً أنّ الباقر- كما قلنا سابقاً- كان لا يتّقي في الوضوء، إذ إنّ الوضوء الذي يصفه لا يمكن الخدش فيه، فتراه يؤكّد على المرّة والمرّتين، وهو ثابت في الأحاديث النبويّة المتواترصدورها في الصحاح والمسانيد عنه (ص)، وأنّ رسول اللَّه (ص) قد توضّأهما. أمّا تأكيد عثمان على الغسل الثالث فمختلف فيه، وعليه فإنّ ما طرحه الباقر متفّق عليه بين المسلمين ولا اختلاف فيه.

والآن لنسرد بعض الروايات المرويّة عنه:

1- قال عن زرارة: قال أبو جعفر (أي الباقر): «ألَا أحكي لكم وضوء رسول اللَّه (ص)؟»

قلنا: بلى، فدعا بقعب فيه شي ء من ماء، فوضعه بين يديه، ثمّ حسر عن ذراعيه، ثمّ غمس فيه كفّه اليمنى، ثمّ قال: «هكذا، إذا كانت الكفّ طاهرة»، ثمّ غرف بملئها ماءً، فوضعه على جبينه، ثمّ قال: «بسم اللَّه»، وسدله على أطراف لحيته، ثمّ أمَرَّ يده على وجهه وظاهر جبينيه مرّة واحدة. ثمّ غمس يده اليسرى، فغرف بها فملأها، ثمّ وضعه على مرفقه اليمنى، فأمرَّ كفّه على ساعده حتّى جرى الماء على أطراف أصابعه. ثمّ غرف بيمينه ملأها، فوضعه على مرفقه اليسرى، فأمرَّ كفّه على ساعده حتّى جرى الماء على أطراف أصابعه، ومسح مقدّم رأسه وظهر قدميه ببلّة يساره وبقيّة بلّة يمناه.

قال: وقال أبو جعفر: «إنّ اللَّه وتر، يحبّ الوتر، فقد يجزيك من الوضوء

ص:344

ثلاث غرفات: واحدة للوجه، واثنتان للذراعين، وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك، وما بقي من بلّة يمينك ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلّة يسارك ظهر قدمك اليسرى».

قال زرارة: قال أبو جعفر: «سأل رجل أمير المؤمنين عن وضوء رسول اللَّه، فحكى له مثل ذلك» «(1)».

2- وجاء عن زرارة وبكير أنّهما سألا أباجعفر عن وضوء رسول اللَّه (ص)، فدعا بطشت أو تور فيه ماء، فغمس يده اليمنى، فغرف بها غرفة، فصبّها على وجهه، فغسل بها وجهه، ثمّ غمس كفّه اليسرى، فغرف بها غرفة، فأفرغ على ذراعه اليمنى، فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكفّ، لا يردّها إلى المرفق، ثمّ غمس كفّه اليمنى، فأفرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق، وصنع بها مثل ماصنع باليمنى، ثمّ مسح رأسه وقدميه ببلل كفّه لم يحدث لهما ماءً جديداً، ثمّ قال:

«ولا يدخل أصابعه تحت الشراك»، قال: ثمّ قال: «إنّ اللَّه تعالى يقول «يا أيّها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم» فليس له أن يدع شيئاً من وجهه إلّاغسله، وأمر بغسل اليدين إلى المرفقين، فليس له أن يدع من يديه إلى المرفقين شيئاً إلّاغسله، لأنّ اللَّه تعالى يقول «فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق»، ثمّ قال: «وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين» فإذا مسح بشي ء من رأسه أو بشي ء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع، فقد أجزأه».

قال: فقلنا: أين الكعبان؟

قال: «ها هنا»، يعني المفصل دون عظم الساق.

فقلنا: هذا ما هو؟


1- الكافي 3: 25/ 4، من لا يحضره الفقيه 1: 24/ 74، وما رواه الإمام الباقر عن أمير المؤمنين قد جاء في كنز العمّال 9: 448/ 26908 وعهد الإمام عليّ من هذا الكتاب.

ص:345

فقال: «هذا من عظم الساق، والكعب أسفل من ذلك» «(1)».

وإنّ في جملة (لا يردّها إلى المرافق) و (ثمّ مسح رأسه وقدميه ببلل كفّه لم يحدث لهما ماءً جديداً) إشارة إلى فعل بعض الناس في ردّ الماء إلى المرفق وفي المسح بماء جديد، وهو ربّما يعدّونه من سنّة رسول اللَّه، فالراوي أراد أن يؤكّد على أنّ ما شاهده من وضوء الباقر ليس فيه شي ء من هذا الذي يُقال.

3- وعن بكير بن أعين، عن أبي جعفر، أنّه قال: «ألَا أحكي لكم وضوء رسول اللَّه (ص)؟»، فأخذ بكفّه اليمنى كفّاً من ماء فغسل به وجهه، ثمّ أخذ بيده اليسرى كفّاً فغسل به يده اليمنى، ثمّ أخذ بيده اليمنى كفّاً من ماء فغسل به يده اليسرى، ثمّ مسح بفضل يديه رأسه ورجليه «(2)».

4- وعن ميسر، عن أبي جعفر، قال: «ألَا أحكي لكم وضوء رسول اللَّه؟»، ثمّ أخذ كفّاً من ماء، فصبّها على وجهه، ثمّ أخذ كفّاً فصبّها على ذراعه، ثمّ أخذ كفّاً آخر فصبّها على ذراعه الأُخرى، ثمّ مسح رأسه وقدميه، ثمّ وضع يده على ظهر القدم، ثمّ قال: «هذا هو الكعب».

قال: وأومأ بيده إلى أسفل العرقوب، ثمّ قال: «إنّ هذا هو الظنبوب»؛ [وفي القاموس: الظنبوب: حرف الساق أو عظمه «(3)»].

من هذا النصّ وما مرّ في رقم (2) نعرف أنّ الاختلاف في مفهوم الكعب والمناقشات فيه قد بدأت ملامحه في عهد الإمام الباقر.

5- عن ابن أُذينة، عن بكير وزرارة بن أعين، أنّهما سألا أبا جعفر عن وضوء رسول اللَّه (ص)؟ فدعا بطشت أو بتور فيه ماء، فغسل كفّيه، ثمّ غمس كفّه اليمنى في التور فغسل وجهه بها، واستعان بيده اليسرى بكفّه على غسل


1- الكافي 3: 25- 26 ح 5، التهذيب 1: 76/ 191 و 81/ 211.
2- الكافي 3: 24/ 2.
3- التهذيب 1: 75/ 190.

ص:346

وجهه، ثمّ غمس كفّه اليمنى في الماء، فاغترف بها من الماء، فغسل يده اليمنى من المرفق إلى الأصابع لا يردّ الماء إلى المرفقين، ثمّ غمس كفّه اليمنى في الماء فاغترف بها من الماء، فأفرغه على يده اليسرى من المرفق إلى الكفّ لا يردّ الماء إلى المرفق، كماصنع باليمنى، ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه، لم يجدّد ماءً «(1)».

في هذا الحديث وما في رقم (2) دلالة على أنّ بعض الناس كانوا يردّون الماء عند غسلهم إلى المرافق ويجدّدون الماء في المسح، فالراوي أراد التأكيد على أنّ الباقر لم يردّ الماء إلى المرفقين في وضوئه ولم يجدّد ماءً عند مسحه!

6- عن جميل بن درّاج، عن زرارة بن أعين، قال: حكى لنا أبو جعفر وضوء رسول اللَّه (ص)، فدعا بقدح من ماء، فأدخل يده اليمنى فأخذ كفّاً من ماء، فأسدلها على وجهه من أعلى الوجه، ثمّ مسح بيده الجانبين جميعاً، ثمّ أعاد اليسرى في الإناء، فأسدلها على اليمنى، ثمّ مسح جوانبها، ثمّ أعاد اليمنى في الإناء، ثمّصبّها على اليسرى، فصنع بها كماصنع باليمنى، ثمّ مسح ببلّة ما بقي في يديه رأسه ورجليه، ولم يعدهما في الإناء «(2)».

7- عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر، انّه قال: «يأخذ أحدكم الراحة من الدهن فيملأ بها جسده، والماء أوسع، ألَا أحكي لكم وضوء رسول اللَّه؟»

قلت: بلى، قال: فأدخل يده في الإناء، ولم يغسل يده، فأخذ كفّاً من ماء، فصبّه على وجهه، ثمّ مسح جانبيه حتّى مسحه كلّه، ثمّ أخذ كفّاً آخر بيمينه، فصبّه على يساره، ثمّ غسل به ذراعه الأيمن، ثمّ أخذ كفّاً آخر، فغسل ذراعه الأيسر، ثمّ مسح رأسه ورجليه بما بقى في يديه «(3)».

وعن أبان وجميل، عن زرارة، قال: حكى لنا أبو جعفر وضوء رسول اللَّه،


1- التهذيب 1: 56/ 158، الاستبصار 1: 57/ 168، الكافي 3: 25/ 5.
2- التهذيب 1: 55/ 157، الاستبصار 1: 58/ 171، الكافي 3: 24/ 1.
3- الكافي 3: 24/ 3.

ص:347

فدعا بقدح، فأخذ كفّاً من ماء فأسدله على وجهه، ثمّ مسح وجهه من الجانبين جميعاً، ثم أعاد يده اليسرى في الإناء، فأسدلها على يده اليمنى، ثمّ مسح جوانبها، ثمّ أعاد اليمنى في الإناء، فصبّها على اليسرى، ثمّصنع بها كماصنع باليمنى، ثمّ مسح بما بقي في يده رأسه ورجليه، ولم يعدهما في الإناء «(1)».

8- عن داود بن فرقد، قال: سمعت أبا عبد اللَّه يقول: «إنّ أبي كان يقول: إنّ للوضوء حدّاً، مَن تعدّاه لم يؤجر. وكان أبي يقول: إنّما يتلدد، فقال له رجل:

وما حدّه؟ قال: تغسل وجهك ويديك، وتمسح رأسك ورجليك» «(2)».

وقد عرّف المجلسيّ معنى «يتلدد» بمن يتجاوز عن حدّ الوضوء ويتكلّف مخاصمة اللَّه في أحكامه، من اللدد وهو الخصومة ونقل ما قاله ابن الأثير في النهاية «(3)».

وعلّق الحرّ العامليّ على الخبر السابق بقوله: (والمراد أنّ من تعدّى حدّ الوضوء فإنّما يوقع نفسه في التحيّر والتردّد والتعب بغير ثواب، لأنّه لم يؤمر بأكثر من مسمّى الغسل والمسح) «(4)».

وقد روينا سابقاً عن الامامين الباقر والصادق في معنى التعدّي، وأنّ الباقر لمّا سئل عن معنى كلام الإمام أمير المؤمنين «هذا وضوء من لم يُحدث»: فأي حدث أحدث من البول؟

فقال: «إنّما يعني بذلك التعدّي في الوضوء، أن يزيد على حدّ الوضوء» «(5)».

وأخرج الكلينيّ بسنده إلى حمّاد بن عثمان، قال: كنت قاعداً عند أبي عبد اللَّه (أي الصادق) فدعا بماء فملأ به كفّه فعمّ به وجهه، ثمّ ملأ كفّه فعمّ به يده


1- الكافي 3: 24/ 1، التهذيب 1: 55/ 157.
2- الكافي 3: 21/ 3.
3- مرآة العقول 13: 67.
4- وسائل الشيعة 1: 387/ 1 انظر: هامش الخبر.
5- معاني الأخبار: 248، وعنه في الوسائل 1: 440.

ص:348

اليمنى، ثمّ ملأ كفّه فعمّ به يده اليسرى، ثمّ مسح على رأسه ورجليه، وقال: «هذا وضوء من لم يُحْدث» يعني به التعدّي في الوضوء «(1)».

وجاء عنه (ع): «إنّما الوضوء حدّ من حدود اللَّه، ليعلم اللَّه من يطيعه ومن يعصيه، وإنّ المؤمن لا ينجّسه شي ء، إنّما يكفيه مثل الدهن» «(2)».

فالإمام الباقر بقوله هذا الكلام أراد التعريض بالذين تعمّقوا، من عند أنفسهم، في الدين وأدخلوا فيه ما ليس منه وأبدلوا المسح بالغسل، وزادوا في عدد الغسلات .. كلّ ذلك اعتقاداً منهم انّه الإسباغ وإتمام للوضوء!

فالباقر بقوله «يكفيه مثل الدهن» أراد الإشارة إلى عدم ضرورة تعدّد الغسلات، وأنّ طهارة الوضوء ليست حقيقيّة، بل هي طهارة حكمية، فالامتثال يتحقّق بإتيانه كالدهن، إذ المؤمن لا ينجّسه شي ء.

وتلخّص ممّا سبق:

1- أنّ الإمام الباقر لا يرتضي الغسل الثالث في الوضوء، ويرى الإتيان به مرّة يسقط ما في ذمّة المكلّف، وقد توضّأها رسول اللَّه (ص). أمّا الغسلة الثانية فهي سنّته (ص) وعليها يعطى الأجر مرّتين، إذ إنّ طهارة الوضوء ليست حقيقيّة- كرفع النجاسة- بل هي طهارة حكميّة يمكن تحقّقها والامتثال بالمرّة، إذ المؤمن لا ينجّسه شي ء ويكفي في طهارته من المقدار كالدهن!

2- لزوم مسح الرأس والأرجل ببللّ يديه؛ فإنّه لمّا توضّأ قال: (هذا وضوء من لم يحدث) ويعني بالمحدث الذي تعدّى في الوضوء!

3- غسل اليدين من المرفقين، فلا يجوز عندهم ردّ الماء إلى المرافق بعد أنصُبَّ عليها.

4- عدم جواز غسل الرأس بل لزوم مسح مقدّمه، وإن مسح بشي ء من


1- الكافي 3: 27/ 8.
2- الكافي 3: 21/ 2.

ص:349

رأسه أجزأه. وهناك اختلافات أُخرى منها في حدّ الوجه ومنها ما يتعلّق بأُمور أُخرى نشرحها مفصّلًا تحت العنوان التالي:

خلافيّات الوضوء في العهد الأمويّ

فقد عرفنا- مضافاً إلى ما سبق- أنّ المسائل الخلافيّة الجديدة في الوضوء في العهد الأمويّ كانت كالآتي:

1- اختلاف المسلمين في جواز ردّ الماء في غسل الذراعين، فذهب بعضهم إلى جوازه، وذهب غيرهم إلى عدم جوازه، وأنّ الراوي بنقله الخبر رقم (2) و (5) أراد أن يشير إلى أنّ الإمام الباقر كان لا يردّ الماء من رؤوس الأصابع إلى المرافق بعدصبّ الماء على المرافق، مؤكّداً أنّ هذا كان فعل النبيّ وهو من جملة وضوئه.

2- اختلافهم في جواز أخذ ماء جديد لمسح الرأس والرجلين، فالراوي بنقله (ثمّ مسح رأسه وقدميه، ببلل كفّه، لم يحدث لهما ماءً جديداً) كما في الخبر (2)، و (ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه، لم يجدّد ماءً) كما في الخبر (5) أراد الإشارة إلى أنّ المسح يمكن تحقّقه بدون وجود الماء، وهو خلاف الغسل، الذي يتوقّف تحقّقه عليه، وأنّ الباقر كان يمسح ببلل كفّه لم يحدث ماءً جديداً لها.

3- جواز المسح بجزء الرأس أو الرجل، بعكس العضو الغسليّ فإنّ الغسل يجب تعميمه واستيعابه لجميع أجزاء العضو المغسول، كما رأيت ذلك في الخبر رقم (2).

4- اختلافهم في معنى ومفهوم الكعب، وأنّ الإمام الباقر أكّد أنّ الكعب هو على قبّة القدم ومعقد الشراك، وليس القبّتان على طرفي الساق، بل الكعب أسفل من ذلك، انظر رقم (2) و (5).

ص:350

5- التأكيد على أنّ المرّة قد أتى بها رسول اللَّه. أمّا المرّتان فهي وضوء رسول اللَّه وسنّته- وهو الملاحظ في أغلب المرويات- وأنّ المتجاوز عن حدّه إنّما يتلدّد.

وقد فسّر الصادق والباقر معنى التعدّي بالزيادة عن الحدّ الذي فرضه اللَّه في كتابه، وأنّ الوضوء المتعدّى هو وضوء المحدث في الدين لقوله «هذا وضوء من لم يحدث».

ومن المسائل التي أثيرت في عهد الإمام الباقر، هي: هل العذار أو الصدغ من الوجه أم لا؟

فجاء الباقر يوضّح لنا حدّ الوجه، وقد سأله زرارة عن ذلك، بقوله:

أخبرني عن حدّ الوجه الذي ينبغي أن يوضّأ الذي قال اللَّه عزّ وجلّ؟

فقال الباقر: «الوجه الذي قال اللَّه وأمر بغسله الذي لا ينبغي لأحدٍ أن يزيد عليه ولا ينقص منه، إن زاد عليه لم يؤجر، وإن نقَص منه أثم: ما دارت عليه الوسطى والإبهام، من قصاص الشعر إلى الذقن.

وما جرى عليه الإصبعان مستديراً، فهو من الوجه. وما سوى ذلك فليس من الوجه».

فقال له: الصدغ من الوجه؟

فقال: «لا» «(1)».

ومن تلك المسائل حكم الأُذنين، هل هو الغسل أم المسح؟

وهل يصحّ ماقاله البعض بأنّ باطن الأُذنين من الوجه وظاهره من الرأس.

وَرَد في الكافي والتهذيب: أنّ زرارة قال: قلت: إنّ ناساً يقولون إنّ بطن الأُذنين من الوجه، وظهرها من الرأس؟


1- من لا يحضره الفقيه 1: 28/ 88، تفسير العيّاشيّ 1: 299 ح 52.

ص:351

فقال الباقر: «ليس عليهما غسل ولا مسح» «(1)».

ولنتكلّم قليلًا على اختلافهم في مفهوم الكعب، لأنّ هذه المسألة من أهم ما طُرح في ذلك العهد.

أخرج الكلينيّ- كما مرّ عليك- حديثاً عن الباقر .. إلى أن يقول: ثمّ قال: ...

«وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين» فإذا مسح بشي ء من رأسه أو بشي ء من قدمه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه».

فقال: فقلنا: أين الكعبان؟

قال: «ها هنا»، يعني المفصل دون عظم الساق.

فقلنا: هذا ما هو؟

قال: «هذا من عظم الساق، والكعب أسفل من ذلك» «(2)».

وفي آخر: ثمّ وضع يده على ظهر القدم، ثمّ قال: «هذا هو الكعب».

قال: وأومأ بيده إلى أسفل العرقوب، ثمّ قال: «إنّ هذا هو».

وجاء في دعائم الإسلام: إنّ الامام الباقر بيّن جواز المسح بالبعض لمكان الباء، بقوله «إنّ المسح إنّما هو ببعضها لمكان الباء في قوله «برؤوسكم» كما في التيمّم «فامسحوا بوجوهكم وأيديكم» وذلك أنَّه علم عزّ وجلّ أنّ غبار الصعيد لا يجري على الوجه ولا كلّ اليدين، فقال: «بوجوهكم وأيديكم»، وكذلك مسح الرأس والرجلين في الوضوء» «(3)».

ونقل الشهيد الأوّل في «الذكرى»، بعد نقله كلام الأصمعيّ: أنَّه الناتئ في أسفل الساق عن يمين وشمال:

وأخبرني سلمة، عن الفرّاء، قال: هو في مشط الرِّجل، وقال هكذا برجله،


1- الكافي 3: 29/ 10، التهذيب 1: 55/ 156، 94/ 249، الاستبصار 1: 63/ 187.
2- الكافي 3: 25/ 5، تفسير العيّاشيّ 1: 298 ح 51.
3- دعائم الإسلام 1: 109.

ص:352

قال أبو العبّاس: فهذا الذي يسمّيه الأصمعيّ الكعب هو عند العرب المنجم.

قال: وأخبرني عن الفرّاء، قال: قعد محمّد بن عليّ بن الحسين في مجلس كان وقال: «هنا الكعبان».

فقالوا: هكذا؟

فقال: «ليس هو هكذا، ولكنّه هكذا»، وأشار إلى مشط رجله.

فقالوا له: إنّ الناس يقولون: هكذا؟

فقال: «هذا قول الخاصّة، وذلك قول العامّة» «(1)».

وجاء عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر: ألَا تخبرني من أين علمت وقلت إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟

فضحك، وقال: «يا زرارة، قاله رسول اللَّه، ونزل به الكتاب من اللَّه عزّ وجلّ؛ لأنّ اللَّه عزّ وجلّ قال: «فاغسلوا وجوهكم» فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل، ثمّ قال: «وأيديكم إلى المرافق» فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين، ثمّ فصل بين الكلام، فقال: «وامسحوا برؤوسكم» فعرفنا حين قال «برؤوسكم» أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثمّ وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه، فقال: «وأرجلكم إلى الكعبين» فعرفنا حين وصلها بالرأس أنّ المسح على بعضها، ثمّ فسّر ذلك رسول اللَّه للناس فضيّعوه» «(2)».

ومن يراجع نصوص الأئمّة من أهل البيت يقف على سير الكثير من التفريعات الفقهيّة، وأنّ ما نقل عن الإمام الباقر وتأكيده على لزوم الترتيب بين أعضاء الوضوء قد يكون ناظراً إلى ما ذهب إليه أمثال أبي حنيفة ومالك من عدم لزوم الترتيب بين أعضاء الوضوء.


1- ذكرى الشيعة: 88، وعنه في البحار 80: 299.
2- الفقيه 1: 56/ 212، الكافي 3: 30/ 4، علل الشرائع: 279/ 1، التهذيب 1: 61/ 168، الاستبصار 1: 62/ 186.

ص:353

وهكذا الحال بالنسبة إلى غيرها من التفريعات الفقهيّة، فالباحث لو قرن كلام الإمام الباقر مع الآراء المطروحة في عصره لعرف الحكم الشرعيّ من زاوية قربه للواقع.

كان هذا بعض الشي ء عن سير المسألة في العهد الأمويّ وما وَرَد عن الإمام الباقر فيه. وسنشير إلى كلمات الأئمّة من ولده ممّن عايشوا الحكم العبّاسيّ ليقف المطالع على حقيقة الحال أكثر وينجلي له المجهول.

خلافيّات الوضوء في العهد العبّاسيّ

إنّ الإمام الصادق- والأئمّة من بعده- قد ساروا على نهج آبائهم، واجهوا المجيزين للمسح على الخفّين بصلابة «(1)»، وأكّدوا أنّ المسح يلزم أن يكون على مقدّم الرأس «(2)»، ولزوم مسح الرجلين، وعدم جواز غسلهما.

وجاء عنه أنّه قال: «إنّ الرجل ليعبد اللَّه أربعين سنة وما يطيعه في الوضوء، لأنّه يغسل ما أمر اللَّه بمسحه» «(3)».

وفي آخر: «إنّه يأتي على الرجل ستّون وسبعون سنة ما قبل اللَّه منهصلاة».

قلت: كيف ذاك؟

قال: «لأنّه يغسل ما أمر اللَّه بمسحه» «(4)».

وقد عارض الإمام الصادق أن تكون الأُذنان من الرأس أو الوجه، لقوله:

«الأُذنان ليسا من الوجه ولا من الرأس» «(5)».

وهذا يُفهِم بأنّ هناك فريقاً من المسلمين يُدخلون الأُذنين في ضمن


1- انظر: قرب الإسناد: 162 حديث 591.
2- انظر: وسائل الشيعة 1: 418.
3- انظر: وسائل الشيعة 1: 422.
4- الكافي 3: 31/ 9، علل الشرائع: 289/ 2، التهذيب 1: 92.
5- الكافي 3: 29/ 2، وعنه في الوسائل 1: 404.

ص:354

الوضوء على اعتبارهما من الوجه، وهناك بعض آخر يدخلهما في ضمن الوضوء باعتبارهما من الرأس، فالصادق أراد الإشارة إلى أنّ الأُذن بنفسها حقيقة مستقلّة لا ربط بينها وبين الرأس والوجه. وعلى فرض اعتبارها من الرأس فذلك لا يوجب مسحها جميعاً، لأنّ المسح كما عرفت يتحقّق بالبعض ولا ضرورة لشموله جميع الرأس.

أمّا ما نسب إلى الصادق من أنّه مسح الأُذنين، أو أخذ ماءً جديداً لرأسه وغيرها، فإنّا لا نستبعدها- لوصحّ عنه- إذ إنَّه كان يعيش- وخصوصاً في أواخر عهد المنصور وظفر المنصور بالهاشميين وإبعادهم إلى الكوفة- في أشدّ حالة من حالات الضغط والإرهاب.

هذا، وقد حصر الصادق نواقض الوضوء في البول والريح والنوم والغائط والجنابة «(1)»، وفي ذلك إشارة إلى عدم ناقضية ما مسّته النار وعدم ناقضية مسّ الذكر وخروج الدم وغيرها ممّا تقوله العامّة اليوم.

إنّ هذه المسائل كانت إذَن من الأُمور المطروحة في عهد الصادق، وقد جاء في الفقيه: عن عمرو بن أبي المقدام، قال: حدّثني من سمع أبا عبد اللَّه يقول: «إنّي لأعجب ممّن يرغب أن يتوضّأ اثنتين اثنتين، وقد توضّأ رسول اللَّه اثنتين اثنتين» «(2)».

وروي عنه أنّه قال: «الوضوء واحدة فرض، واثنتان لا يؤجر، والثالثة بدعة» «(3)».

ثمّ فسّر قوله هذا في رواية أُخرى ب: «الوضوء مثنى مثنى فمن زاد لم يؤجر» «(4)» أي من لم يستيقن أنّ واحدة من الوضوء تجزيه، لم يؤجر على الثنتين


1- راجع وسائل الشيعة 1: 397.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 25/ 80.
3- التهذيب 1: 81/ 212، الاستبصار 1: 71/ 217.
4- التهذيب 1: 80/ 210، الاستبصار 1: 70/ 215.

ص:355

وهكذا الحال بالنسبة للذي يأتي بأكثر من اثنتين.

بهذا الأُسلوب كان الإمام الصادق يواجه الّذين تعدّوا حدود اللَّه في الوضوء. وقدصدرت عنه نصوص كثيرة تؤيّد ما قلناه، منها قوله بعدم جزئيّة المضمضة، معلّلًا ذلك بقوله «لأنّها من الجوف»، فإنّه قال بذلك ليقف أمام اجتهادات أمثال ابن عمر الذي عرف عنه بأنّه كان يقول افتحوا أعينكم عند الوضوء لعلّها لا ترى نار جهنّم!

فترى الصادق يقول: «لا تضربوا وجوهكم بالماء إذا توضّأتم، ولكن شنّوا الماء شنّاً» «(1)».

وقد جاء عن موسى بن جعفر الكاظم نصّ قريب ممّا سبق ..

قال أبو جرير الرقاشيّ: قلت لأبي الحسن موسى: كيف أتوضّأ للصلاة؟

فقال: «لا تعمّق في الوضوء، ولا تلطم وجهك بالماء، ولكن اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله بالماء مسحاً» «(2)».

فموسى بن جعفر أجاب السائل بجواب يستبطن الإشارة إلى شيوع ظاهرة التعمّق في الوضوء والمبالغة فيصبّ الماء إلى حَد الإسراف، وذلك ما حدا بالإمام أن يقدّم له مقدّمة ربّما لا ترتبط بسؤال السائل، لأنّ السائل طلب بيان كيفيّة الوضوء، والإمام أجاب بقوله «لا تعمّق في الوضوء». وفي جواب الإمام دلالة على قضيّة مهمّة، هي شيوع ظاهرة تكثير الغسلات، وغسل الممسوحات، فالإمام قدّم هذه المقدّمة ليوضِّح للسائل ماهيّة الوضوء وأنّه ليس كما يصوّره البعض بلطم الماء بالوجه وإدخاله في العين وعدم جواز ردّ


1- التهذيب 1: 357/ 1072، الاستبصار 1: 69/ 208.
2- قرب الإسناد: 312 الحديث 1215، وعنه في وسائل الشيعة 1: 431.

ص:356

سلام القادم وما شابه؛ فإنّ كلّ هذه من التعمّق المنهيّ عنه في الدين.

وقد حمل الفقهاء المسح- الوارد في ذيل هذه الرواية- أوّلًا على المجاز بمعنى الغسل، ثمّ على الحقيقة، وذلك عين الصواب.

فإنّ الإمام عبَّر عن الغسل هنا بالمسح مجازاً لبيان أنّ المطلوب من الوضوء هو المرّة الواحدة التي يصدق بها الغسل والطهارة الشرعيّة، ولذلك بالغ في إجزائها فعبّر بالمسح على الذراعين، وكان قبلها بيَّنَ غسل الوجه بقوله «اغسله ... مسحاً» فعبّر بالمسح أيضاً مبالغة في إجزاء الغسل المأمور به وعدم إجزاء تكثير الغسلات وغسل الممسوحات؛ دحضاً للمدرسة الوضوئيّة التي تبنّاها أتباع مدرسة الرأي والاجتهاد.

كما روى الكاظم للناس الوضوء الذي أمر اللَّه به نبيّه:

عن عيسى بن المستفاد عن أبي الحسن موسى بن جعفر عن أبيه أنّ رسول اللَّه (ص) قال لعليّ وخديجة لمّا أسلما: «إنّ جبرئيل عندي يدعوكما إلى بيعة الإسلام، ويقول لكما: إنّ للإسلام شروطاً، أن تقولا: نشهد أن لا إله إلّا اللَّه ...».

إلى أن يقول: «وإسباغ الوضوء على المكاره، الوجه واليدين والذراعين ومسح الرأس ومسح الرجلين إلى الكعبين» «(1)».

وفي رواية أُخرى عن الإمام موسى بن جعفر، عن أبيه: «إنّ رسول اللَّه قال للمقداد وسلمان وأبي ذرّ: أتعرفون شرائع الإسلام؟

قالوا: نعرف ما عرّفنا اللَّه ورسوله.

فقال: هي أكثر من أن تحصى: أشهدوني على أنفسكم بشهادة أن لا إله إلّا اللَّه ... والوضوء الكامل على الوجه واليدين والذراعين إلى المرفقين، والمسح على الرأس والقدمين إلى الكعبين لا على خفّ ولا على خمار ولا على عمامة ...

إلى أن يقول: فهذه شروط الإسلام، وقد بقي أكثر» «(2)».


1- الطرف: 5، وعنه في وسائل الشيعة.
2- الطرف: 11، وعنه في وسائل الشيعة.

ص:357

وهذه الرواية تشبه سالفتها في التأكيد على أهميّة الوضوء وأنّه من شرائط الإسلام، ثمّ تبيّن حدوده ومغسولاته وممسوحاته.

وعلى ضوء ما تقدّم تأكّد لدينا أنّ مدرسة الباقر والصادق والكاظم والرضا هي مدرسة واحدة، وأنّها امتداد لمدرسة رسول اللَّه (ص)، فترى الكاظم يقول بقول الصادق، والصادق يقول بقول أبيه، وهكذا إلى نهاية السلسلة، ومن ذلك:

ما جاء عن الهيثم بن عروة التميميّ، قال: سألت أبا عبد اللَّه عن قوله:

«فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق»، فقلت: هكذا؟ ومسحت من ظهر كفّي إلى المرافق.

فالصادق (ع) لم يرتضِ فعل الهيثم ثمّ أمرّ يده من مرفقه إلى أصابعه.

وهو معنى آخر لما نقلناه عن الإمام الباقر، من أنّه كان لا يردّ الماء إلى المرافق.

وهكذا الحال بالنسبة إلى مفهوم التعدّي في الوضوء، فهو واحد عند الباقر والصادق والكاظم وغيرهم من أئمّة أهل البيت.

روى حمّاد بن عثمان، قال: كنت قاعداً عند أبي عبد اللَّه، فدعا بماء فملأ به كفّه فعمّ به وجهه، ثمّ ملأ كفّه فعمَّ به يده اليمنى، ثمّ ملأ كفّه فعمّ به يده اليسرى، ثمّ مسح على رأسه ورجليه، وقال: «هذا وضوء من لم يحدث»، يعني التعدّي في الوضوء «(1)».

وقال: «من تعدّى في وضوئه كان كناقضه» «(2)»، وهي إشارة إلى قوله تعالى


1- الكافي 3: 27/ 8، وعنه في وسائل الشيعة 1: 437 أبواب الوضوء ب 31 ح 8.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 25/ 79.

ص:358

«ومن يتعدّ حدود اللَّه فقد ظلم نفسه».

وقد جاء عن الإمام عليّ بن موسى الرضا- كما في عيون الأخبار- أنّه قال: «الوضوء مرّة فريضة، واثنتان إسباغ» «(1)».

وفي كتابه إلى المأمون العبّاسيّ: «ثمّ إنّ الوضوء كما أمر اللَّه في كتابه: غسل الوجه واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس والرجلين مرّة واحدة».

وفي جملة الإمام «كما أمر اللَّه في كتابه» إشارة إلى أنّ حقيقة الطلب تتحقّق بالمرّة، فلا يجب التكرار فيها. وستعرف أنّ المفروض والمأمور به في الكتاب هو المرّة لا أكثر، وهو فعل رسول اللَّه، وقد تواتر عن الصحابة نقل ذلك عنه (ص).

هذا وقد علّل الإمام عليّ بن موسى الرضا سبب مسح الرأس والرجلين وعدم غسلهما بما يلي:

«... وإنّما أوجب الغسل على الوجه واليدين، والمسح على الرأس والرجلين، ولم يجعل غسلًا كلّه ولا مسحاً كلّه لعلل شتّى:

منها: إنّ العبادة العظمى إنّما هي الركوع والسجود، وإنّما يكون الركوع والسجود بالوجه واليدين، لا بالرأس والرجلين.

ومنها: إنّ الخلق لا يطيقون في كلّ وقت غسل الرأس والرجلين ويشتدّ عليهم ذلك في البرد والسفر والمرض والليل والنهار. وغسل الوجه واليدين أخفّ من غسل الرأس والرجلين، وإنّما وضعت الفرائض على قدر أقل الناس طاقة من أهل الصحّة، ثمّ عمّ فيها القويّ والضعيف.

ومنها: إنّ الرأس والرجلين ليس هما في كلّ وقت باديان وظاهران كالوجه واليدين لموضع العمامة والخفّين والجورب وغيرها ...».

وفي خبر آخر عنه، انّه سئل عن وضوء الفريضة في كتاب اللَّه؟

فقال: «المسح، والغسل في الوضوء للتنظيف».

وجاء عن أيّوب بن نوح، قال: كتبت إلى أبي الحسن أسأله عن المسح على


1- عيون أخبار الرضا 2: 125/ 2.

ص:359

القدمين؟

فقال: «الوضوء المسح، ولا يجب فيه إلّاذاك، ومن غسل فلا بأس» «(1)».

قال الشيخ الحرّ العامليّ: (حمله الشيخ- الطوسيّ- على التنظيف لما مرّ، ويمكن حمله على التقيّة، فإنّ منهم من قال بالتخيير).

وعن المسح على العمامة والخفّين، قال الإمام الرضا: «لا تمسح على عمامة ولا قلنسوة ولا على خفّيك» «(2)».

وفي دعائم الإسلام: ونهوا عليهم السلام عن المسح على العمامة والخمار والقلنسوة والقفازين والجوربين والجرموقين، إلّاأن يكون القبال غير مانع من المسح على الرجلين كليهما «(3)».

وفي فقه الرضا: روي عن العالم: «لا تقيّة في شرب الخمر ولا المسح على الخفّين، ولا تمسح على جوربك إلّامن عذر أو ثلج تخاف على رجليك» «(4)».

ومن كلّ ما مرّ وضح، بما لا مزيد عليه، أنّ نهج التعبّد المحض الذي رسمه اللَّه لنبيّه وقاده عليّ بن أبي طالب وابن عبّاس وكبار «الناس» .. كان قد استمرّ إلى عهد التابعين وتابعي التابعين، ثمّ واصله أئمّة أهل البيت والخلف العدول منهم في أحرج الظروف وأصعبها، ولذلك ترى أحاديثهم الوضوئيّة ووضوءاتهم البيانيّة التي استعرضناها لا تضارب بينها ولا اختلاف، على عكس وضوء المذاهب الأربعة إذ ترى الخلاف بينهم واضحاً ومشهوراً، فالبعض يذهب إلى أنّ فرائض الوضوء سبعة، والآخر يرى أنّها أربعة، وثالث يقول إنّها ستّة، وإن كان الجميع يتّحدون في تثليث الغسلات وغسل الممسوحات!

وهذا يوضّح التأكيد الحكوميّ على بعض المفردات الوضوئيّة وتشديد


1- التهذيب 1: 64/ 180، الاستبصار 1: 65/ 194.
2- فقه الرضا: 68، المستدرك 1: 330 أبواب الوضوء ب 32 ح 1.
3- دعائم الإسلام 1: 110.
4- فقه الرضا: 68، مستدرك وسائل الشيعة 1: 331 أبواب الوضوء ب 33 ح 1.

ص:360

المخالفة مع نهج التعبّد المحض، وهو الذي دعا الإمام الصادق أن يقول:

«الوضوء واحدة فرض، واثنتان لا يؤجر، والثالثة بدعة».

ثمّ فسّر قوله في رواية أُخرى: «أي من لم يستيقن أنّ واحدة من الوضوء تجزئه لم يؤجر على الثنتين» «(1)».

وأنّ زرارة بن أعين روى عنه قوله: «الوضوء مثنى مثنى، من زاد لم يؤجر عليه» «(2)».

وقد سئل مرّة عن الوضوء، فقال: «ما كان وضوء عليّ إلّامرّة مرّة» «(3)».

وسأله بعض خلّص أصحابه وخاصّتهم، عن الوضوء للصلاة، فقال: «مرّة مرّة» «(4)».

وفي رواية أُخرى يقسم باللَّه أنّ وضوء النبيّ ما كان يتوضّأ إلّامرّة مرّة، بقوله: «واللَّه ما كان وضوء رسول اللَّه إلّامرّة مرّة» «(5)».

ثمّ أكّد الإمام على أنّ الوسواس ليس من الإيمان وليس من الطهارة في شي ء، فمن توضّأ أكثر من مرّة وهو يرى أنّ المرّة لا تجزئه لم يكن وضوؤهصحيحاً وكان مخالفاً لما أمر اللَّه به، ولذلك يقول: «توضّأ النبيّ مرّة مرّة، وهذا وضوء لا يقبل اللَّه الصلاة إلّابه».

وقد روي عنه: «إنّ الوضوء حدّ من حدود اللَّه، ليعلم اللَّه من يطيعه ومن يعصيه، وانّ المؤمن لا ينجّسه شي ء وإنّما يكفيه مثل الدهن».

وجاء عنه: «... هذه شرائع الدين لمن أراد أن يتمسّك بها وأراد اللَّه هداه، إسباغ الوضوء كما أمر اللَّه في كتابه الناطق: غسل الوجه واليدين إلى المرفقين،


1- التهذيب 1: 81/ 212، الاستبصار 1: 71/ 217.
2- التهذيب 1: 80/ 210، الاستبصار 1: 70/ 215.
3- الكافي 3: 27/ 9، التهذيب 1: 80/ 207.
4- الكافي 3: 26/ 6، التهذيب 1: 80/ 206، الاستبصار 1: 69/ 211.
5- من لا يحضره الفقيه 1: 25/ 76، الاستبصار 1: 70/ 212.

ص:361

ومسح الرأس والقدمين إلى الكعبين، مرّة مرّة، ومرّتان جائز» «(1)».

وهذه الكلمات إمّاصريحة أو ملوّحة أو ناظرة إلى أنّ تثليث الغسلات بدعة وتعدٍّ ومخالفة لفعل النبيّ وقوله، ولفعل عليّ، ومخالف للإسباغ الذي أمر اللَّه به، ولم يعطِ للفاعل أجراً، بل إنّه يعاقب على فعله.

وقد روى عن الصادق والباقر أنّهما قالا: «إنّ الفضل في واحدة، ومن زاد على اثنتين لم يؤجر» «(2)».

وفي حديث آخر: «إنّ المرّتين إسباغ» «(3)».

وعلى ضوء ما تقدّم تأكّد لدينا أنّ مدرسة الإمام الصادق هي امتداد لمدرسة أبيه الباقر وجدّه عليّ بن الحسين وأنّهم قد أخذوا علمهم عن رسول اللَّه، لأنّه خصّ عليّاً بكتابةصحيفته، وهي الموجودة بعده عند ولده، وقد عرفت أنّهم لا يجيزون في الرأس والرجلين إلّاالمسح، وكذا لا يجيزون تثليث الغسلات ويعدّونها بدعة، إذ إنّ الرسول لا يرتضي للمسلمين فِعْلَهُ!

وقد عرفت أنّهم لم يأخذوا ماءً جديداً لمسح الرأس والرجلين، لما مرّ عليك من أخبار الرواة:

(ثمّ مسح بما بقي في يده رأسه ورجليه ولم يُعِدْهما في الإناء) «(4)».

وفي أُخرى: (ثمّ مسح رأسه ورجليه بما بقي في يديه) «(5)».

وفي أُخرى: (ثمّ مسح بفضل الندى رأسه ورجليه) «(6)».

وفي أُخرى: (ثمّ مسح ببلّة ما بقي في يديه رأسه ورجليه ولم يعدهما في الإناء) «(7)».


1- الخصال 603/ 9.
2- السرائر: 473.
3- وسائل الشيعة 1: 439 أبواب الوضوء ب 31 ح 20.
4- الكافي 3: 24/ 1، التهذيب 1: 55/ 157.
5- الكافي 3: 24/ 3.
6- التهذيب 1: 58/ 162، الاستبصار 1: 58/ 172.
7- الاستبصار 1: 58/ 171.

ص:362

وفي أُخرى: (ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه، لم يجدّد ماءً) «(1)».

وقد مرّ عليك تفسيرهم للإسباغ ومعنى التعدّي في الوضوء والإحداث وهو يختلف عمّا استفادت منه السلطة لتقوية الوضوء العثمانيّ والذي أخذ به الفقهاء في العصور المتلاحقة سواء عن علم أو عن غفلة!! فدوّنوه في كتبهم وبنوا عليه آراءهم الوضوئيّة، ثمّ أخذ بها من جاء بعدهم.

وقد اطّلعت سابقاً على موقف المهديّ العبّاسيّ والمنصور والرشيد في الوضوء، واطّلعت على تنكيلهم بالهاشميين والأئمّة من أهل البيت، خصوصاً بعد الظفر بمحمّد بن عبد اللَّه بن الحسن (النفس الزكيّة) وهو ما جعل الامام الصادق يرشد داود بن زربي إلى التقيّة للحفاظ على دينه ونفسه.

وهكذا الحال بالنسبة إلى عليّ بن يقطين، وقد مرّت عليك رسالة موسى بن جعفر إليه وإرشاده إلى العمل بخلاف ما هو ثابت عنده؛ للنجاة بنفسه والحفاظ على دينه.

وزبدة المرويّ عن نهج التعبّد المحضّ هو أنّ الوضوء المجزي والمأمور به إنّما هو مرّة واحدة، والثانية هي فعل الرسول وسنّته، ومَن تجاوز عن ذلك فلا يؤجر، مع الاخذ بنظر الاعتبار أنّ المقصود من كلامهم وتأكيدهم على المرّة ليس وحدة الصبّ وإن لم يكفِ في الغسل، بل معناه هو تحقّق الغسل الواحد وإن تعدّد الصبّ على العضو، والمرّة الثانية بعدها هي السنّة، أمّا المرّة الثالثة فهي إسراف وإبداع وليست من الدين.

أسماء بعض المؤيّدين للوضوء المسحيّ في العهد العبّاسيّ


1- التهذيب 1: 56/ 158، الاستبصار 1: 57/ 168.

ص:363

اتّضح لنا ممّا سبق تكامل بُنى المدرستين الوضوئيّتين في هذا العصر، فكان روّاد مدرسة الوضوء الثلاثيّ الغسليّ هم فقهاء المذاهب الأربعة. وهؤلاء الفقهاء قد أخذوا بوضوء الخليفة عثمان بن عفّان الذي نسبه إلى رسول اللَّه، إمّا اعتقاداً منهم بصحّة تلك المرويّات عنه (ص) وثبوت طرقها لديهم وحجّيّةصدورها عندهم، وإمّا تأثّراً بالسلطة التي تريد إبعاد الناس عمّا ينسبه أولاد عليّ بن أبي طالب إلى رسول اللَّه، لأنّ مصلحة العبّاسيّين كانت في عزل الناس عن العلويين، وذلك لأمرين:

الأوّل: إمكان التعرّف عليهم للنيل منهم، لأنّهم المخالفون للخلفاء العبّاسيّين والمطالبون بالحكم.

الثاني: رسم المبرّر للتنكيل بالعلويّين لأنّهم خرجوا عن جماعة المسلمين، وسعوا لبثّ الفرقة بينهم، إذ إنّ عبادتهم غير عبادة المسلمين، ووضوءهم غير وضوء المذاهب الأربعة!

نعم، إنّ تأكيدنا على الشقّ الثاني من وجوه الاحتمال في سبب أخذ المذاهب الأربعة برأي عثمان في الوضوء- المارّ الذكر في الصفحات السابقة- إنّما كان بسبب حملة التعتيم الاعلامي التي مارستها السلطة ومنعت العلماء والأساتذة من التفوّه بما يعرّف بوجود ما يعارض ذلك.

وحينما رأيت التأكيد على الوضوء الغسليّ- حتّى شاع بين المسلمين- أحببت أن أكشف عن الوجه الآخر في الوضوء، وأُشير إلى أسماء الذين فعلوا المسح وعملوا به في العهد العبّاسيّ الأوّل، ولا أبغي منه الجرد الكلّيّ للأسماء بل العدد الذي يثبت به ما نقلناه، وحيث وصل عدد القائلين بالمسح- على ضوء الصفحات السابقة- إلى (24)صحابيّاً وتابعيّاً، نضيف إليه أسماء أُخرى مراعين التسلسل السابق:

25- موسى بن جعفر الكاظم.

26- عليّ بن موسى الرضا.

ص:364

27- داود بن فرقد.

28- عليّ بن يقطين.

29- بكير بن أعين.

30- زرارة بن أعين.

31- محمّد بن مسلم.

32- أبان بن عثمان.

33- ابن أبي عمير.

34- عمر بن أُذينة.

35- جميل بن درّاج.

36- عليّ بن رئاب.

37- محمّد بن قيس.

38- الفضل بن شاذان.

39- ابن محبوب.

40- أبو جرير الرقّاشيّ.

41- عليّ بن إبراهيم بن هاشم.

42- عيسى بن المستفاد ... وآخرون من أصحاب الأئمّة.

ولو أردنا أن نضيف أسماء القرّاء الذين قرأوا الآية «وأرجلكم» بالجرّ- كما فعله كبار فقهاء العامّة، والآخرون من أصحاب أئمّة أهل البيت- وندخلهم ضمن هذه القائمة لتجاوز عددهم العشرات ودخل حيّز المئات.

وهنا مسألة يلزم الإشارة إليها، وهي:

إنّ منهج المسح- كما قلنا- كان ذا أصالة، وقد التزم به كبار الصحابة والتابعين ودافعوا عنه، وإنّ الغسل لم يكن متواتراً عند المسلمين- على مرّ الزمان- بل كان بين الأعلام بعض الكلام فيه، فترى آراء القائلين بالمسح تطرح

ص:365

في كتب السلف ويشيرون إلى أنّ هذا الرأي مُستقىً من القرآن، فلو كان غسل الأرجل هو مااتّفق عليه المسلمون فلاداعي لذكرتلك الأقوال في كتب السلف!

وما نحتمله في هذا الأمر هو تواتر عمل المذاهب المنقرضة به. ونحن لو أخذنا من باب المثال رأي ابن حزم الأندلسيّ الذي يمثّل رأي داود الظاهريّ، ورأي ابن جرير الطبريّ «(1)» وهو يمثّل رأي مذهبه الذي عمل به لمدّة من الزمن، لعرفنا أنّ المسح كان مشروعاً في عهدهم إذ تراهم يعملون به.

قال ابن الجوزيّ في المنتظم: كان ابن جرير يرى جواز المسح على القدمين ولا يوجب غسلهما، فلهذا نُسب إلى الرفض، وكان قد رفع في حقّه أبو بكر بن أبي داود قصّة إلى الحاجب يذكر عنه أشياء فأنكرها «(2)».

نعم، لو درس الباحث الشريعة بعيداً عن الرواسب الحكوميه لعرف الكثير منها مصير من يقول بجواز المسح على القدمين وهكذا لزوم القول في المسح على الخفين بغضاً للخوارج والشيعة.

انظر تعاملهم مع العلماء ومن يحمل رؤية لا يستسيغها الحكّام حتّى قيل «بأنّه- أي الطبري- دفن ليلًا ولم يؤذن به أحد، واجتمع من لا يحصيهم إلّا اللَّه، وصلّي على قبره عدّة شهور ليلًا ونهاراً».

وذكر ثابت بن سنان في تاريخه: «انّه إنّما أخفيت حاله لأنّ العامّة اجتمعوا ومنعوا من دفنه بالنهار وادّعوا عليه الرفض، ثمّ ادّعوا عليه الإلحاد» «(3)».

لماذا؟ ألقوله بالمسح الذي لم يقُل به أصحاب المذاهب الأربعة؟!

أم لكتابته عن حديث الغدير «(4)»- في أواخر عمره- وهو ما لا يرضي


1- إقرأ كلام ابن حزم في المحلى 2: 56- 58، وكلام ابن جرير في تفسيره 6: 83.
2- المنتظم 13: 217.
3- المنتظم 13: 217.
4- قال الذهبيّ في تذكرة الحفّاظ 2: 713: رأيت مجلّداً من طرق هذا الحديث لابن جرير، فاندهشت له ولكثرة تلك الطرق. وقال ابن كثير في البداية والنهاية 11: 146: وقد اعتنى بأمر هذا الحديث أبو جعفر محمّد بن جرير الطبريّ صاحب التفسير والتاريخ فجمع فيه مجلّدين أورد فيهما طرقه وألفاظه.

ص:366

السلطان كذلك؟ أم لشي ء آخر؟

وعلى ضوء ما تقدّم عرفت أنّ المصالح السياسيّة للسلطان كانت وراء تدوين ما يرتضيه وحذف ما لا يرتضيه، وانّ تأصيل المذاهب والقول بمشروعيّة رأي الجميع وما يقاربها من آراء كانت دعوة حكوميّة ظهرت سماتها في الفقه والحديث. ومتى أراد الباحث الوقوف على المزيد منها أمكنه الوقوف عليها من خلال استطلاع إجمالي لكتب الفقه والتاريخ.

علماً بأنّ دور السياسة لم يقتصر على تدوين الفقه والحديث، بل انّ دورها في تدوين التاريخ ولغة العرب ليس بأقلّ ممّا مضى. والباحثون يعرفون هذه الحقيقة.

1- قال الأُستاذ جمال الدين الأفغانيّ:

بأيّ نصّ سُدّ باب الاجتهاد، أو أيّ إمام قال: لا ينبغي لأحد من المسلمين بعدي أن يهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث، أو أن يجدّ ويجتهد بتوسيع مفهومه والاستنتاج على ما ينطبق على العلوم العصريّة وحاجيات الزمان وأحكامه، ولا ينافي جوهر النصّ. إنّ اللَّه بعث محمّداً رسولًا بلسان قومه العربيّ ليعلّمهم ما يريد إفهامهم، وليفهموا منه ما يقوله لهم.

ولا ارتياب بأنّه لو فسح في أجل أبي حنيفة ومالك والشافعيّ وأحمد وعاشوا إلى اليوم لداموا مجدّين مستنبطين لكلّ قضية حكماً من القرآن والحديث وكلّما زاد تعمّقهم زادوا فهماً وتدقيقاً. نعم، إنّ أُولئك الفحول من الأئمّة ورجال الأُمّة اجتهدوا وأحسنوا فجزاهم اللَّه خير الجزاء، ولكن لا يصحّ أن نعتقد أنّهم أحاطوا بكلّ أسرار القرآن وتمكّنوا من تدوينها في كتبهم «(1)».


1- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 179، عن خاطرات جمال الدين: 177.

ص:367

2- قال الأُستاذ عبد المتعال الصعيديّ- أحد علماء الأزهر الشريف-:

انّي أستطيع أن أحكم بعد هذا بأنّ منع الاجتهاد قد حصل بطرق ظالمة، وبوسائل القهر والإغراء بالمال. ولا شكّ أنّ هذه الوسائل لو قدّرت لغير المذاهب الأربعة التي نقلّدها الآن لبقي لها جمهور يقلّدها أيضاً، ولكانت الآن مقبولة عند من ينكرها، فنحن إذاً في حلٍّ من التقيّد بهذه المذاهب الأربعة التي فرضت علينا بتلك الوسائل الفاسدة، وفي حلٍّ من العود إلى الاجتهاد في أحكام ديننا، لأنّ منعه لم يكن إلّابطرق القهر، والإسلام لا يرضى إلّابما يحصل بطريق الرضى والشورى بين المسلمين كما قال تعالى في الآية 28 من سورة الشورى: «وأمرهم شورى بينهم» «(1)».

3- قال الدكتور عبد الدائم البقريّ الأنصاريّ:

منع الاجتهاد هو سرّ تأخّر المسلمين، وهذا هو الباب المرن الذي عندما قفل تأخّر المسلمون بقدر ما تقدّم العالم، فأضحى ما وضعه السابقون لا يمكن أن يغيّر ويبدّل لأنّه لاعتبارات سياسيّة. منع الولاة والسلاطين الاجتهاد حتّى يحفظوا ملكهم، ويطمئنّوا إلى انّه لن يعارضهم معارض، وإذا ما عارضهم أحد فلن يسمع قوله، لأنّ باب الاجتهاد قد أُغلق، لهذا جمد التشريع الإسلاميّ الآن، وما التشريع إلّاروح الجماعة وحياة الأُمّة. وانّي أرجع الفتنة الشعواء التي حصلت في عهد الخليفة عثمان والتي كانت سبباً في وقف الفتح الإسلاميّ حيث تحوّلت في عهده الحرب الخارجيّة إلى حرب داخليّة، أرجع ذلك إلى انّ عثمان كان من المحافظين، وقد شرط ذلك على نفسه عندما وافق عبد الرحمن بن عوف على لزوم الاقتداء بالشيخين في كلّ ما يعني دون اجتهاد، عند انتخابه خليفة، ولم يوافق الإمام عليّ على ذلك حينئذٍ قائلًا: إنّ الزمن قد تغيّر، فكان سبب تولّي عثمان الخلافة هو سبب سقوطه «(2)».


1- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 178، عن ميدان الاجتهاد: 14.
2- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 179، عن الفلسفة السياسيّة للإسلام: 21.

ص:368

4- قال الأُستاذ عزّ الدين عبد السلام:

من العجب العجيب أنّ الفقهاء المقلّدين يقف أحدهم على ضعف قول إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً وهو مع ذلك مقلّد فيه، ويترك من شهد الكتاب والسنّة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم، جموداً على تقليد إمامه، بل يتحيّل لظاهر الكتاب والسنّة ويتأوّلهما بالتأويلات البعيدة الباطلة، نضالًا عن مقلّده. ولم يزل الناس يسألون من اتّفق من العلماء، إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصّبوها من المقلّدين، فإنّ أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلّة، مقلّداً فيما قال كأنّه نبيّ مرسل. وهذا نأي عن الحقّ، وبُعد عن الصواب لا يرضى به أحد من أُولي الألباب «(1)».

5- قال جمال الدين بن الجوزيّ:

إعلم انّ المقلّد على غير ثقة فيما قلّد فيه، وفي التقليد إبطال منفعة العقل، لأنّه إنّما خلق للتدبّر، وقبيح بمن أُعطي شمعة يستضي ء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة.

واعلم أنّ عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتّبعون قوله من غير تدبّر فيما قال، وهذا عين الضلال، لأنّ النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل «(2)».

6- قال الدهلويّ:

فأيّ مذهب كان أصحابه مشهورين وأُسند إليهم القضاء والإفتاء واشتهرت تصانيفهم في الناس ودرسوا درساً ظاهراً انتشر في أقطار الأرض، ولم يزل ينتشر كلّ حين. وأيّ مذهب كان أصحابه خاملين ولم يولوا القضاء


1- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 177، عن الإنصاف: 37.
2- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 177، عن تلبيس إبليس: 81.

ص:369

والافتاء ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين «(1)».

فمدرسة أهل البيت لم تكن كغيرها من المذاهب الحكوميّة بل كانت لها سماتها الخاصّة، وعرفت باستقلالها الفكريّ وعدم خضوعها لنظام السلطة، بل في رؤاها تضادّ مع خلفاء الجور ولا تسمح «لأُولي الأمر!» أن يتدخّلوا في شؤونها وتوجيه فكرها بل إنّ أهل البيت دعوا شيعتهم للابتعاد عن الخلفاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وانّ بقاء مذهب كهذا رغم كلّ هذه الملابسات يرجع إلى قوّته الروحيّة وملكاته الربّانيّة، وانّ أمر انتشار غيره من المذاهب لم يكن مثله، وقد قرأت عن تلك المذاهب وانّها ترجع إلى المقوّمات الجانبيّة فيها كتولّيهم للقضاء. وقد رأينا انّ هذه المذاهب نفسها تختلف شدّة وضعفاً لما أُنيط بأصحابها من القضاء والافتاء، فالمذهب الحنفيّ يقوى عندما يكون أبو يوسف وجيهاً في الدولة مقبولًا عند الخلفاء. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الآخرين في العهود الأُخرى.

أمّاانتشار مذهب جعفر بن محمّد الصادق وبقاؤه لحدّ هذا اليوم رغم مخالفة الحكّام فيرجع إلى ملكاته الروحيّة ومقوّماته الذاتيّة، ولا ينكر ذلك أحد.

قال الدكتور محمد سلام مذكور: ... ووجدت عده مذاهب ما كان للسياسية دخل في تكوينه وتاثيره في منهجه كمذهب الشيعة والخوارج «(2)».

فأهل البيت وشيعتهم منصورون بالحجج والبراهين التي بأيديهم لا يضرّهم مَنْ خالفهم وخذلهم، وقد يحتمل ان يكون المعنى بقوله (ص): «لاتزال طائفة من أُمّتي منصورين قائمين بالحقّ لا يضرّهم من خالفهم وخذلهم» هم لا المحدثين «(3)»!!


1- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 2: 11، عن الحجّة البالغة للدهلويّ 1: 151.
2- مناهج الاجتهاد في الاسلام: 97 الفقيه والمتفقه 1: 5- 6 و 30.
3- انظر: صحيح مسلم 3: 1523/ 170، 174، وصحيح البخاريّ 9: 124- 125، سنن ابن ماجة 1: 4، 5/ 6، 9، 10، الفقيه والمتفقّه 1: 5- 6 و 30.

ص:370

وعليه، انّ حصر المذاهب بهذه الأربعة جاءت لأمر السلطان بيبرس «(1)»، وانّ الحكّام كانوا دائماً يفرضون رأيهم بالقوّة.

انظر ما جاء في شذرات الذهب «(2)»: إنّ القادر العبّاسيّ حمل الناس في سنة 422 على الاعتقاد بما يراه في فضل الصحابة وتكفير المعتزلة بخلق القرآن، وألّف كتاباً يتلى على الناس في كلّ جمعة، كما إنّه حملهم بالقهر على الاعتقاد بالسنّة واستتابة من خالفه من المعتزلة والشيعة، وأخذ خطوطهم بالتوبة وبعث بها إلى السلطان محمود يأمره ببثّ السنّة في خراسان.

تلخّص ممّا سبق أنّ الحكّام سعوا إلى بثّ روح الفرقة بين أفراد الأُمّة بالتزامهم هذا المذهب ضدّ ذاك، ونسبوا إلى معارضيهم من الشيعة سوء العقيدة والخروج عن الإسلام، وأوعزوا إلى الوعّاظ في المساجد والكتّاب والقصّاصين توسعة رقعة هذا الخلاف بين المسلمين. ولا ينكر أحد بأنّ عناية السلطة بجهة، أو فرقة تكسبها الاعتبار والعظمة حسب نظام السياسة لا النظام الطبيعيّ، إذ إنّ الخضوع للسلطان أمر لا مفرّ منه.

لو لم تتدخّل الحكومات في مثل هذه الأُمور لكان أعود على الأُمّة وأصلح لدينها ودنياها، لكنّ الحكومات كانت ترى في وحدة المسلمين الخطر على مصالحها والوقوف على عيوبها والخروج عن طاعتها، فرأت الاستعانة بهذا المذهب ضدّ ذاك، وكان ذلك هو الخيار السهل الذي يمكن إشغال المسلمين به وجرّهم إلى النزاعات التي كانوا بعيدين عنها ممّا كدرصفو الأُمّة وشتّتها بعد الألفة. وقد أفصح التاريخ عن نيّاتهم السيّئة وما يقصدون من وراء ذلك وآزرهم رجال ابتعدوا عن الحقّ والإنسانيّة. وإنّ المطالع لو وقف على المجازر الطائفيّة وحتّى بين المذاهب الأربعة لعرف ما نقوله.


1- الخطط المقريزيّة 3: 232- 235.
2- شذرات الذهب 3: 222 و 186 وغيرها.

ص:371

وعلى أيّ حال فقد تفرّقت الأُمّة كما شاءت السياسة، أو كما شاء ولاة الجور، وحاولوا إعطاء هذه الفرقة أو تلكصفة شرعيّة مع أنّها بعيدة في الواقع كلّ البعد عن روح الإسلام.

فاتّسع الخلاف وعظم الارتباك ووقعت الخصومة، وبذلك نجا الحاكم، ورفع الاستبداد رأسه وافترس كلّ ما وجدهصالحاً للأُمّة، وعجز المصلحون عن معالجة مشاكل الأُمّة، وتبنّت الحكومات مؤاخذة الشيعة، وحاكوا التهم عليهم تقوّلًا بالباطل وابتعاداً عن الحقّ.

فحكموا فيما حكموا على الشيعة انّهم يقولون بتكفير الصحابة، وشتّان ما بين النقد والتكفير، وما بين احترامهم- مع إخضاع أقوالهم للمناقشة وإمكان دراسة نصوصهم- وإضفاء هالة من التقديس والعصمة وسدّ باب المناقشة والحوار المنطقيّ السليم.

ولم يقتصر الحكّام على ذلك بل جاؤوا يحكمون على من يقول الحقّ ويريد التحرّر من الجمود الفكريّ بأنّه رافضيّ، أو نراهم يتركون الحقّ والسنّة الصحيحة لأنّها عمل الرافضة بحجّة أنّ التشبّه بهم غير جائز!

قال ابن تيميّة في منهاجه عند بيان التشبّه بالشيعة: ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبّات، إذاصار شعاراً لهم، فإنّه وإن لم يترك واجباً لذلك لكنّ في إظهار ذلك مشابهة لهم، فلا يتميّز السنّيّ من الرافضيّ. ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة ذلك المستحب.

وقال مصنّف الهداية، من الحنفيّة: انّ المشروع التختّم باليمين، ولكن لمّا اتّخذته الرافضة جعلناه في اليسار.

وقال الغزاليّ: إنّ تسطيح القبور هو المشروع، ولكن لمّا جعلته الرافضة شعاراً لها، عدلنا إلى التسنيم.

وقال الشيخ بن عبد الرحمن في كتاب (رحمة الأُمّة في اختلاف الأئمّة) المطبوع في هامش (ميزان الشعرانيّ 1: 88): السنّة في القبر التسطيح، وهو

ص:372

أولى على الراجح من مذهب الشافعيّ.

وقال أبو حنيفة وأحمد: التسنيم أولى، لأنّ التسطيحصار شعاراً للشيعة.

ذكر الزرقانيّ في (المواهب اللّدنيّة) فيصفة عِمّة النبيّ على رواية عليّ في إسدالها على منكبه حين عمّمه رسول اللَّه، ثمّ ذكر قول الحافظ العراقيّ: إنّ ذلك أصبح شعار كثير من فقهاء الإمامية ينبغي تجنّبه، لترك التشبّه بهم.

فأتباع أهل البيت أمروا بالحيطة من فقه العامّة لمعرفتهم ووقوفهم على دور السياسة في الفقه.

نعم، إنّ تهمة التشيّع كانت أكبر تهمة توجّه إلى الإنسان واخطر من تهمة الزندقه، وعلى ضوئهاصار الناس يبغضون عليّاً والسائرين على نهجه.

قال عليّ بن الحسين: «أحبّونا حبّ الإسلام، فواللَّه ما زال تقولون فينا حتّى بغّضتمونا إلى الناس» «(1)».

وقوله: «ما أكذبكم وما أجرأكم على اللَّه، نحن منصالحي قومنا وبحسبنا أن نكون منصالحي قومنا» «(2)».

قال الزمخشريّ في كيفيّة الصلاة على النبيّ محمّد (ص): وأمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد، فمكروه لأنّ ذلكصار شعاراً لذكر رسول اللَّه (ص)، ولأنّه يودي إلى الاتّهام بالرفض، وقال رسول اللَّه: «من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم».

وقد حكموا على المولى ظهير الدين الأردبيليّ بالإعدام واتّهم بالتشيّع، لأنّه ذهب إلى عدم وجوب مدح الصحابة على المنبر، وانّه ليس بفرض، فقبض عليه وقدّم للمحاكمة وحكم عليه القاضي بالإعدام، ونفّذ الحكم في


1- الطبقات الكبرى 5: 214.
2- الطبقات الكبرى 5: 214.

ص:373

حقّه، فقطعوا رأسه وعلّقوه على باب زويلة بالقاهرة «(1)».

واتّهم خيثمة بن سليمان العابد بالتشيّع من قبل بعض الناس لتأليفه في فضائل الصحابة ومنها فضائل عليّ. قال غيث بن عليّ: سألت عنه الخطيب، فقال: ثقة ثقة.

فقلت: يقال: إنَّه يتشيّع!

فقال: ما أدري، إلّاانّهصنّف في فضائل الصحابة ولم يخصّ أحداً «(2)»!

وقال الذهبيّ عن عبد الرزّاق بن همام: انّهصاحب تصانيف، وثّقه غير واحد وحديثه مخرّج في الصحاح، وله ما ينفرد به، ونقموا عليه التشيّع، وما كان يغلو فيه بل كان يحبّ عليّاً ويبغض من قاتله ... «(3)».

وعن جعفر بن سليمان الضبعيّ: هو من ثقات الشيعة، حدّث عنه سيّار بن حاتم، وعبد الرزّاق بن همام، وعنه أخذ بدعة التشيّع «(4)»!

وقد اتّهم محمّد بن طلحة بن عثمان، أبو الحسن النعّال بالتشيّع والرفض وتعرّض للخطر، لأنّ أبا القاسم نقل عنه، انّه شتم معاوية «(5)»!

وكذا محيي الدين العثمانيّ الأمويّ المتوفى سنة 668، قال ابن العماد في ترجمته: وكان شيعيّاً يفضّل عليّاً على عثمان، مع كونه ادّعى نسباً إلى عثمان، وهو القائل:

أدين بما دان الوصيّ ولا أرى سواه وإن كانت أُميّة مَحتِدي

ولو شهدتصفّين خيلي لأعذرت وساء بني حرب هنالك مشهدي «(6)»


1- شذرات الذهب 8: 173.
2- لسان الميزان 2: 411.
3- تذكرة الحفّاظ 1: 364.
4- تذكرة الحفّاظ 1: 241.
5- انظر: تاريخ بغداد 5: 384.
6- شذرات الذهب 5: 328، مرآة الجنان 4: 169.

ص:374

وكذا حكموا على الحاكم النيسابوريّصاحب المستدرك بأنّه شيعيّ لذكره في كتابه حديث الطائر المشوي وحديث من كنت مولاه فعليّ مولاه «(1)»، وزاد الذهبيّ فيه: انّه تكلّم في معاوية فأوذي «(2)».

وقد اتّهم الشافعيّ بالرفض لحبّه لأهل البيت، وقد ضعّفه ابن معين لاستنقاصه معاوية!

وضرب سليمان بن عبد القويّ المتوفّى في 716- من علماء الحنابلة بمصر- لقوله في عليّ:

كم بين من شكّ في خلافته وبين من قال انّه اللَّه

فقد نسبوا إليه هجاء الشيخين والحطّ من مقام عمر بن الخطّاب لقوله في شرح الأربعين:

إنّ أسباب الخلاف الواقع بين العلماء: تعارض الروايات والنصوص.

وبعض الناس يزعم أنّ السبب في ذلك عمر بن الخطّاب، لأنّ الصحابة استأذنوه في تدوين السنّة فمنعهم مع علمه بقول النبيّ (ص): «اكتبوا لأبي شاة» وقوله «قيّدوا العلم بالكتابة».

فلو ترك الصحابة يدوّن كلّ واحد منهم ما سمع من النبيّ لانضبطت السنّة، فلم يبق بين آخر الأُمّة وبين النبيّ إلّاالصحابيّ الذي دوّنت روايته، لأنّ تلك الدواوين كانت تتواتر عنهم كما تتواتر عن البخاريّ. انتهى.

والأغرب من كلّ هذا ما ذكره ابن كثير في تاريخه، وهو: انّ شهاب الدين


1- تاريخ بغداد 5: 474.
2- وهو ما حكاه العماد الحنبليّ عنه، انظر: شذرات الذهب 3: 177.

ص:375

أحمد المعروف بابن عبد ربّه مؤلّف «العقد الفريد» كان من الشيعة، بل انّ فيه تشيُّعاً شنيعاً، وذلك لأنّه روى أخبار خالد القسريّ وما هو عليه من سوء الحال.

ونصّ الكلام هو:

وقد نسب إليه- أي خالد- أشياء لا تصحّ، لأنّصاحب العقد الفريد كان فيه تشيّع شنيع ومغالاة في أهل البيت، وربّما لا يفهم أحد كلامه ما فيه من التشيّع، وقد اغترّ به شيخنا الذهبيّ فمدحه بالحفظ وغيره «(1)».

حتّى وصل الأمر أن يقال إنّ شخصيّة جابر بن حيّان هي شخصيّة أُسطوريّة، وذلك لثبوت أخذ ابن حيّان علم الكيمياء عن جعفر الصادق «(2)».

قال الرياشيّ: سمعت محمّد بن عبد الحميد قال: قلت لابن أبي حفصة: ما أغراك ببني عليّ؟

قال: ما أحد أحبّ إليَّ منهم، ولكن لم أجد شيئاً أنفع عند القوم منه، أي من بغضهم والتحامل عليهم «(3)».

وابن أبي حفصة هو الذي تحامل على آل عليّ عند المهديّ، فتزاحف المهديّ من مصلّاه حتّىصار على البساط، إعجاباً بما سمع، وقال: كم بيتاً هي؟

قال: مائة بيت، فأمر له بمائة ألف درهم!

نعم، إنّ الفطرة قد تسوق الإنسان لقول الحقّ، لكن يستتبع ذلك اتّهام الرفض والخروج من الدين وشتم بالصحابة وسواها من التهم.

فهل يعقل أن يكون كلّ ما شرّعوه أو نسبوه إلى الشرع شرعيّاً حقّاً؟

وهل إنّ رسول اللَّه (ص) أمر بترك التشبّه بالشيعة وإن وافقوا الحقّ؟

وهل الرافضة هم الذين رفضوا الإسلام، أم الذين رفضوا التعامل مع السلطان الباطل؟؟!

ولماذا يعرف الشيعي دون غيره بالصلاة على محمّد وآل محمّد اليوم؟ وألم


1- تاريخ ابن كثير 10: 22.
2- انظر: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 425.
3- انظر: العقد الفريد.

ص:376

يكن الرسول قد أمر أتباعه بحبّ آل محمّد والصلاة عليهم؟!

ولماذا النيل من عليّ وأولاده، وهل هذا هو ما وصّى به رسول اللَّه إليهم؟!

وما معنى قوله تعالى: «قل لا أسألكم عليه أجراً إلّاالمودّة في القربى» ومن هم القربى، ولماذا خصّ أجر الرسالة بحقّهم؟!

اللّهمَّ إنّا نبرأ إليك ممّا يقوله الحاقدون، ونوالي أصحاب رسولك الذين رضيت عنهم وأخلصوا في الدعوة والجهاد في سبيلك.

ربّنا احكم بيننا وبين قومنا بالحقّ.

ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة.

ربّنا إنّا آمنّا بك واتّبعنا نبيّك واستنَنّا بسنّته، ووالينا أهل بيته وأصحابه الذين نهجوا نهجه واهتدوا بهديه، وسمعوا دعوة الحقّ فتلقّتها نفوسهم بكلّ قبول وصدق، والذين أقاموا الفرائض وأحيوا السنن.

ربّنا انّا آمنّا بنبيّك وتبرأنا من المنافقين الذين مردوا على النفاق ونصبوا لنبيّك الغوائل، ولم يؤمنوا إيمان القلب والجنان، بل إيمان الشفة واللسان وقد ذكرتهم في كتابك.

ونتبرّأ من الذين شاقّوا رسولك وقد قلت في كتابك: «ومن يشاقق الرسولَ من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونُصلِه جهنّم وساءت مصيراً».

ونقول ما قاله عليّ بن الحسين في الصحابة:

«... اللّهمّ وأصحاب محمّد خاصّة الّذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجّة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوّته، والذين هجرتهم العشائر

ص:377

إذ تعلّقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته فلا تنس اللّهم ما تركوا لك وفيك، وارضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك، وكانوا مع رسولك دعاة إليك، واشكرهم على هجرتهم فيك ديارهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ...».

وما قاله الإمام عليّ بن أبي طالب للناس في أهل البيت:

«... فأين تذهبون؟ وأنَّى تؤفكون؟ والأعلام قائمة! والآيات واضحة! والمنار منصوبة! فأين يُتاه بكم؟ بل كيف تعمهون؟ وبينكم عترة نبيّكم، وهم أزمّة الحقّ، وأعلام الدين، والسنّة والصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، ورِدُوهُمْ وُرُودَ الهيم العطاش.

أيّها الناس، خذوا من خاتم النبيّين (ص) انّه يموت من مات منّا وليس بميّت، ويبلى من بلى منّا وليس ببال، فلا تقولوا بما لا تعرفون، فإنّ أكثر الحقّ فيما تنكرون، واعذروا من لا حجّة لكم عليه، وأنا هو، ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر، وأترك فيكم الثقل الأصغر، وركّزت فيكم راية الإيمان، ووقّفتكم على حدود الحلال والحرام ...» «(1)».

وقال في آخر:

«... فاستجيبوا للداعي واتّبعوا الراعي، قد خاضوا بحار الفتن، وأخذوا بالبدع دون السنن، وأرز المؤمنون، ونطق الضالّون المكذِّبون، نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب، ولا تؤتى البيوت إلّامن أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سمّي سارقاً، فيهم كرائم القرآن وكنوز الرحمن ...» «(2)».

وفي ثالث:

«... تاللَّه لقد علمت تبليغ الرسالات، وإتمام العدّات، وتمام الكلمات،


1- نهج البلاغة 1: 152- 153.
2- نهج البلاغة 2: 57/ ط 150.

ص:378

وعندنا أهل البيت أبواب الحكمة وضياء الأمر. ألَا وانّ شرائع الدين واحدة، وسيلة قاصدة، مَن أخذ بها لحق وغنم، ومَن وقف عنها ضلّ وندم ...» «(1)».

وفي رابع يقول (ع) عن أهل البيت:

«... عيش العلم، وموت الجهل، ويخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وصمتهم عن حكم منطقهم. لا يخالفون الحقّ، ولا يختلفون فيه.

هم دعائم الإسلام، وولائج الاعتصام، بهم عاد الحقّ في نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته. عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية، فإنّ رواة العلم كثير ورعاته قليل» «(2)».

وفي خامس:

«... لا يقاس بآل محمّد من هذه الأُمّة أحد، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً. هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفي ء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حقّ الولاية، وفيهم الوصيّة والوراثة ...» «(3)».

إلى آخر كلماته (ع) في أهل البيت، وذمّه للأمويّين وبيان دورهم التضليليّ للأُمّة وإبعادهم عن نهج رسول اللَّه! تنكيلًا بالإسلام وبغضاً لعليّ.


1- نهج البلاغة 1: 232/ ط 116.
2- نهج البلاغة 2: 259/ ط 234.
3- نهج البلاغة 1: 24 ضمن ط 2.

ص:379

وفي الختام

لابدَّ من التأكيد على أنّ ما توصّلنا إليه تاريخيّاً منصفة «وضوء النبيّ» لا يعني تشكيكاً منّا في وضوء الآخرين، بل هذه الدراسة ماهي إلّامحاولة علميّة بطريقة جديدة ورؤية جديدة، رجونا طرحها في الوسط العلميّ بمثابة مناقشة الطالب مع أساتذته، وهو الأمر الذي طالما ألِفْناهُ في معاهدنا العلميّة الإسلاميّة.

وقد جئنا بهذا الأُسلوب في البحث لمّا رأينا الأساتذة والكتّاب والمحقّقين في الجامعات ومراكز التعليم الإسلاميّ قد أغفلوا دراسة التشريع مع ظروفه السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الحاكمة حينصدور الخبر، وأنّ الأخبارصارت عندهم تؤخذ طبق أُصول مذهبيّة خاصّة ومن زاوية محدودة دون مناقشة المتون ومعرفة ظروفصدورها، حتّىصارت تؤخذ وتحاط بهالة لا يمكن مناقشتها فضلًا عن الخدش فيها.

ص:380

وإنّا على ثقة انّ الكشف عن الوجه الآخر لملابسات التشريع وكسر الحواجز النفسيّة عند المسلمين وبيان أدلّة الآخرين والدعوة إلى التصحيح ربّما تثير نقمة دعاة الجمود على السلف والآمرين بكَمِّ الأفواه والأسماع والأبصار عمّا جرى في تاريخ الإسلام واختلاف المسلمين.

والمطالع لهذا الكتاب يؤيّد مدعانا، حيث يقف بين الحين والآخر على أُسلوبنا الحواريّ في البحث للقضايا بجديّة، بعيداً عن جرح مشاعر الآخرين، إذ يرانا نضع التساؤلات والتشكيكات دائماً حتّى على النتائج التي نتوصّل إليها بين الفينة والأُخرى أثناء البحث، ولا نقتصر في طرح التساؤلات على نتائج بحوث الآخرين الوضوئيّة فقط حتّى يصحّ ما قد يمكن أن يقال.

إنّ الهدف الأوّل والأساس في هذا البحث هو الدعوة إلى اتّخاذ منهجيّة جديدة في البحث والوصول إلى حقيقة الفقه الإسلاميّ من أيسر طرقه وأسلمها لا غير.

تمَّ المدخل بفضل اللَّه ومنِّه وسيتلوه ثلاث أجزاء أُخرى.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربِّ العالمين.

ص:381

فهرس المصادر

1- القرآن الكريم.

2- آراء علماء المسلمين، مرتضى الرضوي، بيروت 1411 ه.

3- الأئمّة الأربعة، أحمد الشرباصي، دار الجيل بيروت.

4- الأئمّة الأربعة، مصطفى الشكعة، القاهرة 1979 ه.

5- أبو حنيفة بطل الحريّة والتسامح في الإسلام، عبد الحليم الجندي، القاهرة 1978 م.

6- أبو هريرة، عبد الحسين شرف الدين (ت 1377 ه)، المطبعة الحيدرية النجف 1384 ه.

7- أبو هريرة شيخ المضيرة، محمود أبو رَيّة، دار المعارف مصر 1969 م.

8- أثر الأحكام المختلف فيها، مصطفى البغا.

9- أثر الاختلاف في القواعد الأُصوليّة في اختلاف الفقهاء، مصطفى سعيد الخنّ، مؤسسة الرسالة بيروت 1402 ه.

10- الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، محمد بن عبد اللَّه الزركشي (ت 794 ه)، المكتب الإسلامي بيروت 1405 ه.

ص:382

11- اجتهاد الرسول، نادية شريف العمري، مؤسسة الرسالة بيروت 1408 ه.

12- الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، الوافي المهدي، دار الثقافة المغرب 1404 ه.

13- أحاديث أُمّ المؤمنين عائشة (القسم الأول)، مرتضى العسكري، طهران 1380 ه.

14- الاحتجاج على أهل اللّجاج، أحمد بن عليّ الطبرسي (ت 620 ه)، نشر المرتضى 1403 ه.

15- الأحكام السلطانيّة، محمّد بن الحسين الفرّاء (ت 458 ه)، مكتب الإعلام الإسلامي 1406 ه.

16- الإحكام في أُصول الأحكام، ابن حزم.

17- أحكام القرآن، محمّد بن إدريس الشافعي (ت 204 ه)، دار الكتب العلميّة بيروت 1400 ه.

18- أحكام القرآن، أحمد بن علي الرازي الجصاص (ت 370 ه) دارالفكر بيروت.

19- أحكام القرآن، محمد بن عبد اللَّه (ت 543 ه)، دار المعرفة بيروت.

20- الأخبار الموفقيّات/ الموفقيات، الزبير بن بكار (ت 256 ه)، مطبعة العاني بغداد 1972 م.

21- الإرشاد في معرفة حجج اللَّه على العباد، محمد بن محمد بن النعمان البغدادي (ت 413 ه)، مؤسسة آل البيت قم 1413 ه.

22- الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه)، دار الكتب الإسلامية 1390 ه.

23- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، عبد البرّ النميريّ القرطبي (ت 463 ه)، مكتبة نهضة مصر.

24- أُسد الغابة في معرفة الصحابة، عليّ بن محمد الجزري (ت 630 ه)، دار احياء التراث العربي بيروت.

25- إسلام بلا مذهب، مصطفى الشكعة، القاهرة 1977 م.

ص:383

26- أسماء الصحابة الرواة وما لكلّ واحدٍ منهم من العدد، عليّ بن أحمد الأندلسيّ «ابن حزم» (ت 456 ه)، مكتبة القرآن القاهرة 1991 م.

27- الإصابة في تمييز الصحابة (رحلي)، ابن حجر العسقلاني (ت 852 ه)، مطبعة السعادة مصر 1328 ه.

28- أضواء على السنّة المحمدية/ دفاع عن الحديث، محمود أبو رَيّة، منشورات الأعلمي بيروت.

29- الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، محمد بن موسى الهمداني الحازمي (ت 584 ه)، مطبعة الأندلس حمص 1386 ه.

30- الاعتصام بحبل اللَّه المتين، القاسم بن محمد، الإمام الزيدي (ت 1029 ه)، مطابع الجمعية الملكية الأردن 1403 ه.

31- الأعلام، خير الدين الزركلي (ت 1396 ه)، ط 6، دار العلم للملايين بيروت 1984 م.

32- إعلام الموقعين عن ربّ العالمين 1/ 4، ابن قيم الجوزية (ت 751 ه)، دار الجيل بيروت.

33- إعلام الورى بأعلام الهدى، الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548 ه)، ط 3، دار الكتب الإسلامية.

34- الأغاني 1/ 25، أبي الفرج الأصفهاني (ت 356 ه، 976 م)، دار احياء التراث العربي بيروت.

35- إقبال الأعمال، ابن طاووس (ت 664 ه أو 668 ه)، ط 2، دار الكتب الإسلامية طهران 1390 ه.

36- اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1/ 2، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911 ه)، ط 2، دار المعرفة بيروت، 1395 ه.

37- الأمالي، محمد بن محمد بن النعمان المفيد (ت 413 ه)، المؤتمر العالمي للشيخ المفيد 1413 ه.

ص:384

38- الأمالي، محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه)، مؤسسة الوفاء بيروت 1401 ه.

39- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، أسد حيدر، مكتبة الصدر طهران 1411 ه.

40- الإمامة والسياسة 1/ 2، عبد اللَّه بن مسلم الدينوري (ت 276 ه)، دار المعرفة بيروت 1393 ه.

41- الأُمّ،، محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 ه)، ط 2، دار المعرفة بيروت 1393 ه.

42- الأموال، القاسم بن سلّام أبي عبيد (ت 224 ه)، ط 1، دار الكتب العلمية بيروت 1406 ه.

43- الأنساب، عبد الكريم بن محمد التميمي السمعاني (ت 562 ه)، ط 1، دار الجنان بيروت 1408 ه.

44- أنساب الأشراف،، أحمد بن جابر بن يحيى بن جابر البغدادي البلاذري (ت 279 ه)، مكتبة المثنى بغداد، أُوفسيت.

45- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علي بن سليمان المرداوي (ت 885 ه)، ط 2، دار احياء التراث العربي بيروت 1406 ه.

46- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، محمد باقر المجلسي (ت 1111 ه)، مؤسسة الوفاء بيروت 1403 ه.

47- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع،، أبو بكر بن مسعود الكاساني (ت 587 ه)، ط 2، دار الكتاب العربي بيروت 1402 ه.

48- بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ابن رشد القرطبي (ت 595 ه)، ط 2، دار المعرفة بيروت 1403 ه.

49- البداية والنهاية/ تاريخ ابن كثير، ابن كثير الدمشقي (ت 774 ه)، ط 3، دار الكتب العلمية بيروت 1407 ه.

ص:385

50- بلاغات النساء، ابن أبي طيفور (ت 280 ه)، انتشارات الشريف الرضي قم.

51- البيان في تفسير القرآن، أبو القاسم الخوئي (ت 1413 ه)، ط 5، المطبعة العلمية قم 1394 ه.

52- تاج العروس، محمد مرتضى الحسيني الزبيدي (ت 1205 ه)، أُوفسيت دار الجيل بيروت 1390 ه.

53- تاريخ الإسلام، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748 ه)، ط 2، دار الكتاب العربي 1410 ه.

54- تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، حسن إبراهيم حسن، دار احياء التراث العربي بيروت 1964 م.

55- تاريخ الأُمم والملوك/ تاريخ الطبري، محمد بن جرير الطبري (ت 310 ه) دار التراث بيروت.

56- تاريخ بغداد أو مدينة السلام، أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت 463 ه)، المكتبة السلفية المدينة المنورة.

57- تاريخ الخلفاء، عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي (ت 911 ه)، ط 1، مطبعة السعادة مصر 1371 ه.

58- التاريخ الكبير، اسماعيل بن ابراهيم الجعفي البخاري (ت 256 ه)، دار الكتب العلمية بيروت.

59- تاريخ المدينة المنورة/ أخبار المدينة، زيد بن عمر بن شيبة النميري البصري (ت 173 ه)، دار التراث، الدار الإسلامية بيروت 1410 ه.

60- تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي 1989 م.

61- تاريخ اليعقوبي، أحمد بن إسحاق (ت 292 ه)، دارصادر بيروت.

62- تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبةالدينوري (ت 276 ه)، دارالجيل بيروت.

ص:386

63- تحف العقول عن آل الرسول (ص)، حسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرّاني (ق 4 ه)، ط 5، منشورات المكتبة الحيدرية 1380 ه.

64- تحفة الأحوذي، شرح جامع الترمذي،، محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المبارك فوري (1283- 1353 ه)، ط 1، دارالكتب العلمية بيروت 1410 ه.

65- تدوين السنّة الشريفة، السيد محمد رضا الجلالي، ط 1، مكتب الإعلام الإسلامي 1413 ه.

66- التدوين في أخبار قزوين، عبد الكريم بن محمد القزويني الرافعي (ت 623 ه)، دار الكتب العلمية بيروت 1408 ه.

67- تذكرة الحفّاظ،، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748 ه)، أُوفسيت دار إحياء التراث العربي.

68- تذكرة الخواص، ابن الجوزي (ت 654 ه)، مؤسسة أهل البيت بيروت 1401 ه.

69- ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، ابن عياض (ت 544 ه)، بيروت 1967 م.

70- الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (ت 656 ه)، ط 3، دار احياء التراث العربي 1388 ه.

71- التفسير، محمد بن مسعود بن عياش السلمي العياشي (ت 320 ه) المكتبة العلمية الإسلامية طهران.

72- تفسير روح المعاني، محمود البغدادي الآلوسي (ت 1270 ه) دار احياء التراث العربي بيروت.

73- تفسير سفيان الثوري، دار الكتب العلمية بيروت.

74- تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان (المطبوع بهامش جامع البيان)، حسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري (ت 850 ه)، المطبعة الأميرية مصر 1325 ه.

ص:387

75- تفسير القرآن العظيم/ تفسير ابن كثير، ابن كثير القرشي الدمشقي (ت 774 ه)، ط 1، دار احياء التراث العربي بيروت 1405 ه.

76- التفسير الكبير/ تفسير فخر الرازي، محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين الفخر الرازي (ت 606 ه)، ط 3.

77- تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة/ وسائل الشيعة، الحرّ العاملي (ت 1104 ه)، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث قم 1409 ه.

78- التقرير والتحبير على تحرير ابن الهمام، ابن أمير الحاج (ت 879 ه)، ط 2، دار الكتب العلمية 1403 ه.

79- تقييد العلم، الخطيب البغدادي (ت 463 ه)، دار احياء السنة النبوية 1974 م.

80- التكملة والذيل والصلة لصحاح الجوهري، الحسن بن محمد بن الحسن الصغاني أو الصاغاني (ت 650 ه)، دار الكتب القاهرة 1970 م.

81- تنزيه المختار، السيد عبد الرزّاق المقرم، طبع مع (زيد الشهيد) انتشارات الشريف الرضي قم 1411 ه.

82- تنقيح المقال في علم الرجال، عبد اللَّه بن محمد حسن المامقاني (ت 1351 ه)، المطبعة الرضوية النجف الأشرف 1352 ه.

83- تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني (ت 852 ه)، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية حيدرآباد الهند.

84- تهذيب الأحكام، محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه)، ط 3، دار الكتب الإسلامية طهران 1390 ه.

85- تهذيب تاريخ دمشق الكبير/ تاريخ ابن عساكر، علي بن الحسن بن هبة اللَّه الشافعي (ت 571 ه) ط 2، دار المسير بيروت 1399 ه.

86- تهذيب الكمال، جمال الدين أبي الحجّاج يوسف المِزّي (ت 742 ه)، ط 1، مؤسسة الرسالة بيروت 1413 ه.

ص:388

87- جامع أحاديث الشيعة، السيّد حسين الطباطبائي البروجردي، المطبعة العلمية قم 1399 ه.

88- جامع بيان العلم وفضله، يوسف بن عبد اللَّه بن عبد البر القرطبي النميري (ت 463 ه) دار الكتب العلمية بيروت.

89- جامع البيان في تفسير القرآن/ تفسير الطبري، محمد بن جرير الطبري (ت 310 ه) دار المعرفة بيروت.

90- الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد الخضيري السيوطي (ت 911 ه)، ط 1، دار الفكر بيروت 1401 ه.

91- الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت 671 ه)، دار احياء التراث العربي بيروت، أُوفسيت.

92- الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم الرازي (ت 327 ه)، أُوفسيت عن طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية حيدرآباد الهند.

93- جهاد الشيعة في العصر العباسي الأوّل، سميرة مختار الليثي، ط 2، دار الجيل بيروت 1398 ه.

94- حاشية السنديّ على سنن النسائي (طبع بهامش سنن النسائي بشرح السيوطي)، نور الدين بن عبد الهادي السندي (ت 1138 ه)، ط 1، دار الفكر 1930 م.

95- حجيّة السنّة، عبد الغني عبد الخالق، دار القرآن الكريم بيروت 1407 ه.

96- الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، يوسف بن أحمد بن إبراهيم البحراني (ت 1186 ه)، دار الكتب الإسلامية طهران.

97- حكم الأرجل في الوضوء، السيّد علي الميلاني، طبع المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى الألفية للشيخ المفيد، ط 1، 1413 ه.

98- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أحمد بن عبد اللَّه الأصفهاني (ت 430 ه) دار الفكر بيروت.

ص:389

99- الخرائج والجرائح، سعيد بن هبة اللَّه الراوندي (ت 573 ه)، مؤسسة الإمام المهدي قم 1409 ه.

100- الخصال، محمد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 ه)، جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية قم 1403 ه.

101- خطط الشام، محمد بن عبد الرزاق بن محمد كرد علي (ت 1372 ه).

102- دراسات في الكافي والصحيح، هاشم معروف الحسني.

103- درر الأحاديث النبوية بالأسانيد اليحيوية، يحيى بن الحسين بن القاسم (ت 298 ه)، منشورات الأعلمي بيروت 1402 ه.

104- الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، عبد الرحمن السيوطي (ت 991 ه) المكتبة المرعشية قم 1404 ه.

105- دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام، النعمان بن محمد المغربي (ت 363 ه)، دار المعارف القاهرة 1383 ه.

106- الذخائر والتحف، القاضي رشيد بن الزبير، مصورة مطبعة الكويت 1984 م.

107- ذكرى الشيعة، محمد بن مكي الشهيد الأول (ت 786 ه)، مكتبة بصيرتي قم.

108- ذكر أخبار أصفهان، أحمد بن عبد اللَّه الاصفهاني (ت 430 ه)، طبعة ليدن 1931 م.

109- رجال الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه)، المطبعة الحيدرية النجف 1381 ه.

110- رجال الشيعة في الميزان، عبد الرحمن عبد اللَّه الزرعي، دار الأرقم الكويت 1403 ه.

111- رجال الكشي/ اختيار معرفة الرجال، محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه)، طبعة كليّة الإلهيات في مشهد بمناسبة الذكرى الألفية للطوسي 1348 ه.

ص:390

112- رجال النجاشي، أحمد بن علي النجاشي (ت 450 ه)، مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرّسين قم 1407 ه.

113- رسالة المسح على الرجلين، القاضي نور الدين بن شرف الدين عبداللَّه المرعشي التستري (ت 1019 ه)، مخطوطة في المكتبة الرضوية برقم (2447).

114- رسالة المسح على الرجلين، المفيد البغدادي (ت 413 ه)، ط 1، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد 1413 ه (ضمن ج 9 منه).

115- رسائل الشريف المرتضى.

116- الرواية التاريخية في بلاد الشام، حسين غطوان، دار الجيل 1986 م.

117- روضات الجنات.

118- رياض السالكين.

119- الرياض النضرة في مناقب العشرة، أحمد بن عبد اللَّه المحبّ الطبري (ت 694 ه)، دار الكتب العلمية بيروت.

120- السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، ابن ادريس الحلّي (ت 598 ه)، مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين بقم 1/ 3 سنة 1410 ه.

121- السنة قبل التدوين، محمد عجاج الخطيب، دار الفكر بيروت 1401 ه.

122- السنن، أبو داود السجستاني (ت 275 ه)، دار الفكر بيروت.

123- السنن، الدارمي (ت 255 ه)، دار الفكر القاهرة 1398 ه.

124- السنن، أبو عبد الرحمن النسائي (ت 303 ه)، ط 1، دار الفكر بيروت 1348 ه.

125- السنن، عليّ بن عمر الدارقطني (ت 385 ه)، دار المحاسن للطباعة القاهرة 1386 ه.

126- السنن، ابن ماجة القزويني (ت 275 ه).

127- السنن/ الجامع الصحيح، الترمذي (ت 279 ه)، دارالفكربيروت 1400 ه.

ص:391

128- السنن الكبرى/ سنن البيهقي، أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت 458 ه)، دار المعرفة بيروت.

129- سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي (ت 248 ه)، ط 9، مؤسسة الرسالة بيروت 1413 ه.

130- السيرة الحلبية، علي بن برهان الدين الشافعي الحلبي (ت 1044 ه) دار احياء التراث العربي بيروت.

131- شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب، عبد الحي بن العماد الحنبلي (ت 1089 ه)، دار الكتب العلمية بيروت.

132- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد (ت 655 ه)، ط 2، دار احياء التراث العربي 1965 م.

133- شرح معاني الآثار، أبو جعفر الطحاوي (ت 321 ه)، ط 1، عالم الكتب بيروت 1414 ه.

134- شرح النووي لصحيح مسلم، يحيى بن شرف النوري (ت 677 ه).

135- الشعر والشعراء/ طبقات الشعراء، ابن قتيبة الدينوري (ت 276 ه) دار الكتب العلمية بيروت.

136- الشيعة والحاكمون، منشورات الشريف الرضي قم.

137- الصحاح «تاج اللغة وصحاح العربية»، اسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393 ه)، ط 3، دار العلم للملايين بيروت 1404 ه.

138-صحيح البخاري، أبو عبد اللَّه البخاري (ت 256 ه)، دار الجيل بيروت، أُوفسيت.

139-صحيح مسلم، مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري (ت 261 ه)، ط 2، دار الفكر بيروت 1398 ه.

140- الصحيفة السجادية، الإمام عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (ع).

141-صفوة الصفوة، أبو الفرج ابن الجوزي (ت 597 ه).

ص:392

142- ضحى الإسلام، أحمد أمين (ت 1373 ه)، ط 1، دار الكتاب العربي بيروت.

143- الضعفاء الكبير، محمد بن محمد بن مسلم العقيلي (ت 322 ه)، دار الكتب العلمية بيروت.

144- طبقات الفقهاء، أبو اسحاق الشيرازي الشافعي (ت 476 ه)، ط 2، دار الرائد العربي بيروت 1401 ه.

145- الطبقات الكبرى، محمد بن سعد كاتب الواقدي (ت 230 ه)، دارصادر بيروت.

146- الطرف من المناقب في الذرية الأطائب، ابن طاووس (ت 664 ه)، المطبعة الحيدرية النجف الأشرف.

147- ظهر الإسلام، أحمد أمين (ت 1373 ه) ط 5، دار الكتاب العربي بيروت.

148- عبد اللَّه بن سبأ وأساطير أُخرى، مرتضى العسكري، ط 6، 1413 ه.

149- العبر وديوان المبتدأ والخبر/ تاريخ ابن خلدون، ابن خلدون المغربي (ت 808 ه) منشورات الأعلمي بيروت 1391 ه.

150- العقد الفريد، ابن عبد ربّه الأندلسي (ت 328 ه)، ط 1، دار الكتب العلمية بيروت 1404 ه.

151- عقيدة الشيعة، دوايت رونلدسون، مطبعة السعادة 1946 ه.

152- علل الشرائع، الصدوق (ت 381 ه) ط 2، دار احياء التراث العربي 1385 ه.

153- عمدة القاري في شرحصحيح البخاري، محمود بن أحمد العيني (ت 855 ه)، دار الفكر بيروت.

154- عناية القاضي وكفاية الراضي/ حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي، المكتبة الإسلامية محمّد أزدمير، دياربكر تركيا.

155- العين، أبو عبد الرحمن الفراهيدي (ت 175 ه)، ط 1، دار الهجرة ايران 1405، أُوفسيت.

ص:393

156- عيون أخبار الرضا (ع)، الصدوق (ت 381 ه)، منشورات الأعلمي طهران 1390 ه.

157- الغارات، ابراهيم بن محمد الكوفي الثقفي (ت 283 ه)، ط 2، انتشارات انجمن آثار ملّي ايران.

158- غريب الحديث، ابن الجوزي (ت 597 ه)، ط 1، دارالكتب العلمية 1405 ه.

159- فتح الباري لشرحصحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني (ت 852 ه)، ط 2، دار احياء التراث العربي بيروت 1402 ه.

160- الفتنة الكبرى (ضمن مجموعة طه حسين).

161- الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي (ت 314 ه)، ط 1، دار الفكر 1992 م.

162- فجر الإسلام، أحمد أمين (ت 1373 ه)، ط 11، دار الكتاب العربي بيروت 1975 م.

163- الفردوس بمأثور الخطاب، شيرويه بن شهردار الديلمي (ت 509 ه)، ط 1، دار الكتب العلمية بيروت 1406 ه.

164- الفصول المهمّة في معرفة الأئمة، ابن الصباغ المكي (ت 855 ه)، مطبعة العدل النجف الأشرف.

165- فقه الرضا، المنسوب للإمام عليّ بن موسى الرضا (ع)، ط 1، المؤتمر العالمي للإمام الرضا (ع) مشهد 1406 ه.

166- الفقه على المذاهب الأربعة، الجزيري (ت 1360 ه)، ط 1، دار احياء التراث العربي بيروت 1406 ه.

167- الفقيه والمتفقّه،، الخطيب البغدادي (ت 462 ه)، ط 2، دار الكتب العلمية بيروت 1400 ه.

168- الفهرست، ابن النديم (ت 385 ه)، دار المعرفة بيروت.

169- الفهرست، محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه)، المكتبة الرضوية ومطبعتها النجف الأشرف.

ص:394

170- قاموس الرجال، جماعة المدرسين قم.

171- القاموس المحيط، الفيروزآبادي (ت 817 ه)، أُوفسيت دار الجيل.

172- قرب الإسناد، عبد اللَّه بن جعفر الحميري (ق 3 ه)، مؤسسة آل البيت 1413 ه.

173- القرطين/ مشكل القرآن وغريبه، ابن مطرف أو ابن قتيبة الكناني، دار المعرفة بيروت.

174- القول المبين عن وجوب مسح الرجلين (المطبوع ضمن كتاب كنز الفوائد)، الكراجكي (ت 449 ه)، دار الذخائر قم.

175- الكافي، محمد بن يعقوب الكليني (ت 328 ه)، ط 2، دار الكتب الإسلامية طهران 1362 ه.

176- الكامل في التاريخ/ تاريخ ابن الأثير، ابن الأثير (ت 630 ه)، دارصادر بيروت 1979 م.

177- الكامل في ضعفاء الرجال، ابن عدي الجرجاني (ت 365 ه)، ط 2، دار الفكر بيروت.

178- الكامل في اللغة والأدب، المبرّد النحوي (ت 285 ه)، ط 1، دار الكتب العلمية بيروت 1407 ه.

179- كشف الغمة، علي بن عيسى الإربلي (ت 693 ه)، مكتبة بني هاشمي قم 1381 ه.

180- كفاية الطالب، محمد بن يوسف الكنجي الشافعي (ت 658 ه)، مطبعة الفارابي طهران.

181- كمال الدين وتمام النعمة/ إكمال الدين، الصدوق (ت 381 ه)، جماعة المدرسين قم 1405 ه.

182- كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، عليّ بن حسام الدين المتّقي الهندي (ت 975 ه)، ط 5، مؤسسة الرسالة بيروت 1405 ه.

ص:395

183- لباب التأويل في معاني التنزيل/ تفسير الخازن، عليّ بن محمد بن إبراهيم البغدادي الخازن (ت 725 ه)، دار الفكر بيروت.

184- لسان الميزان، ابن حجر العسقلاني (ت 852 ه)، مؤسسة الأعلمي بيروت 1390 ه، أُوفسيت.

185- مالك بن أنس، أمين الخولي، القاهرة 1951 م.

186- المبسوط، شمس الدين السرخسي (ت 483 ه)، دار المعرفة بيروت 1406 ه.

187- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، نور الدين عليّ بن أبي بكر الهيثمي (ت 807 ه)، ط 3، دار الكتاب العربي بيروت 1402 ه.

188- المجموع شرح المهذّب، النووي (ت 676 ه)، دار الفكر بيروت.

189- مجموعة طه حسين، طه حسين، دار الكتاب اللبناني 1985 م.

190- المحلّى، ابن حزم (ت 456 ه)، دار الآفاق الجديدة بيروت.

191- مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر، ابن منظور (ت 711 ه)، ط 1، دار الفكر بيروت 1405 ه.

192- المختصر في أخبار البشر/ تاريخ أبي الفداء، إسماعيل بن عليّ بن محمد (ت 732 ه)، دار المعرفة بيروت.

193- المدوّنة الكبرى، مالك بن أنس (ت 176 ه)، ط 1، مطبعة السعادة، محافظة مصر.

194- المراجعات، السيّد عبد الحسين شرف الدين العاملي (ت 1377 ه)، طبعات عديدة.

195- مرآة الجنان وعبرة اليقظان، اليافعي المكي (ت 768 ه)، ط 2، منشورات الأعلمي بيروت 1390 ه، أُوفسيت.

196- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، محمد باقر المجلسي (ت 1111 ه)، ط 2، دار الكتب الإسلامية طهران 1394 ه.

ص:396

197- مروج الذهب ومعادن الجواهر، علي بن الحسين بن علي المسعودي (ت 346 ه)، ط 2، دار الهجرة 1404 ه، أُوفسيت.

198- المستدرك على الصحيحين في الحديث، الحاكم النيسابوري (ت 405 ه)، دار الفكر بيروت 1398 ه.

199- مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ميرزاحسين النوري (ت 1320 ه)، مؤسسة آل البيت (ع) لاحياء التراث 1407 ه.

200- المسترشد.

201- المسند، عبد اللَّه بن الزبير الحميدي (ت 219 ه)، عالم الكتب بيروت.

202- مسند الإمام أحمد بن حنبل، دار الفكر بيروت.

203- مسند الإمام زيد، للإمام زيد بن علي، دار الكتب العلمية بيروت.

204- المصنّف، عبد الرزّاق بن همام الصنعاني (ت 211 ه)، منشورات المجلس العلمي الذي أُسس في (سملك، سورت من الهند) طبع في بيروت 1390 ه.

205- المصنّف في الأحاديث والآثار، ابن أبي شيبة (ت 235 ه)، ط 1، دار الفكر بيروت 1409 ه.

206- المعارف، ابن قتيبة الدينوري (ت 276 ه)، ط 1، دار الكتب العلمية بيروت 1407 ه.

207- معاني الأخبار، الصدوق (ت 381 ه) جماعة المدرسين قم 1379 ه.

208- معجم الأُدباء، ياقوت الحموي (ت 226 ه)، ط 3، دار الفكر بيروت 1400 ه.

209- معجم البلدان، ياقوت الحموي (ت 226 ه)، دار احياء التراث العربي بيروت 1399 ه.

210- معجم رجال الحديث، السيّد أبو القاسم الخوئي (ت 1413 ه)، ط 3، مدينة العلم قم 1403 ه.

211- المعجم الصغير، الطبراني (ت 360 ه)، ط 2، دار الفكر بيروت 1401 ه.

ص:397

212- المعجم الكبير، الطبراني (ت 360 ه)، ط 2، دار احياء التراث العربي بيروت 1405 ه، مكتبة ابن تيميّة القاهرة.

213- معجم مقاييس اللغة، أحمد ب فارس ابن زكريّا (ت 395 ه)، أُوفسيت اسماعيليان قم، دار الكتب العلمية.

214- المعرفة والتاريخ، يعقوب بن سفيان البسيوي (ت 277 ه)، مطبعة الإرشاد بغداد 1396 ه.

215- المعرفة والرجال، يعقوب بن سفيان البسيوي (ت 277 ه)، مطبعة الإرشاد بغداد.

216- مع الصادقين، محمد التيجاني السماوي، ط 2، 1411 ه.

217- المغني والشرح الكبير على متن المُقنع، ابن قدامة (ت 620 ه) ومحمد بن أحمد (ت 682 ه)، ط 1، دار الفكر بيروت 1404 ه.

218- مقاتل الطالبيّين، أبي الفرج الأصفهاني (ت 356 ه)، دار المعرفة بيروت.

219- مناظرات في الشريعة بين ابن حزم والباجي.

220- مناقب آل أبي طالب/ مناقب ابن شهر آشوب 1/ 4، محمد بن علي السروي المازندراني (ت 588 ه)، مؤسسة انتشارات علّامة قم.

221- مناقب عليّ بن أبي طالب، ابن المغازلي، المكتبة الإسلامية طهران 1394 ه.

222- مناهج الاجتهاد في الإسلام، محمد سلام مدكور.

223- المنتظم في تاريخ الأُمم والملوك، ابن الجوزي (ت 597 ه)، ط 1، دار الكتب العلمية بيروت 1412 ه.

224- من لا يحضره الفقيه/ الفقيه، الصدوق، ط 5، دار الكتب الإسلامية طهران 1390 ه.

225- منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبويّ،صلاح الدين أحمد الأدلبيّ، ط 1، دار الآفاق الجديدة بيروت 1403 ه.

226- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار/ الخطط المقريزيّة، تقي الدين

ص:398

المقريزي (ت 845 ه)، دار العرفان، الشيّاح لبنان.

227- الموافقات في أُصول الشريعة، إبراهيم بن موسى المالكي الشاطبي (ت 790 ه)، ط 1، دار الكتب العلمية بيروت 1411 ه.

228- موسوعة فقه إبراهيم النخعي، محمد رواس قلعه جي، ط 2، دار النفائس بيروت 1406 ه.

229- موسوعة فقه عبد اللَّه بن عمر، محمد رواس قلعه جي، دار النفائس بيروت 1416 ه.

230- موطّأ مالك، الإمام مالك بن أنس (ت 179 ه) دار احياء التراث العربي بيروت.

231- موقف الخلفاء العباسيين من أئمة المذاهب الأربعة، عبد الحسين علليّ بن أحمد، ط 1، دار قطري بن الفجاءة الدوحة، 1405 ه.

232- ميزان الاعتدال في نقد الرجال، الذهبي (ت 748 ه) ط 1، دار المعرفة بيروت 1382 ه.

233- النزاع والتخاصم، المقريزي أحمد بن علي بن عبد القادر (ت 845 ه)، مكتبة الأهرام بمصر.

234- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، الحلواني حسين بن محمد (ق 5 ه)، مطبعة سعيد مشهد 1404 ه.

235- نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة، التنوخي المحسن بن علي (ت 384 ه)، طبعة سنة 1391 ه.

236- النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية، العلوي محمد بن عقيل (ت 1350 ه)، مطبعة النعمان النجف 1385 ه.

237- النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير المبارك بن محمد الجزري (ت 606 ه) مطبعة اسماعيليان قم.

238- نهج البلاغة، شرح محمد عبده، مطبعة الاستقامة.

ص:399

239- واقع التقية عند المذاهب والفرق الإسلامية، هاشم ثامر العميدي، مركز الغدير 1416 ه.

240- نيل الأوطار من أحاديث سيّد الأخيار، الشوكاني محمدم بن علي (ت 1255 ه) دار الجيل بيروت 1973 م.

241- الوسائل في مسامرة الأوائل، السيوطي عبد الرحمن (ت 991 ه)، دار الكتب العلمية بيروت.

242- الوضوء في الكتاب والسنّة، نجم الدين العسكري، مطبوعات النجاح القاهرة.

243- وفيات الأعيان وأنباء الزمان، ابن خلكان أحمد بن محمد (ت 681 ه) دار الثقافة بيروت.

244- وقعةصفين، نصر بن مزاحم المنقري (ت 212 ه)، المكتبة المرعشية قم 1403 ه.

245- يوم الإسلام، أحمد أمين (ت 1373 ه)، مؤسسة الخانجي مصر/ مكتبة المثنى بغداد.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.