موجزا مختصرا الصحيح من تاريخ الاسلام

اشارة

مولف:ابوالعباس بن كمال

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

الصحيح من تاريخ الاسلام

بسم الله الرحمن الرحيم علي أساس «القرآن والاحاديث المتواترة» التي تُجمع عليها الامة بكل فِرَقها - وَالْحَمْدُلِلّهِ الَّذي لَوْ حَبَسَ عَنْ عِبادِه مَعْرِفَةَ حَمْدِه عَلي مآ اَبْلاهُمْ مِنْ مِنَنِهِ الْمَتابِعَةِ، وَاَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ الْمُتَظاهِرَةِ، لَتصرَّفُوا في مِنَنِهِ فَلَمْ يَحْمُدَوُهُ، وَتَوَسَّعُوا في رِزُقِه فَلَمُ يَشُكُروهُ - وَلَوْ كانُوا كَذلِكَ لَخَرَجُوا مِنْ حُدوُدِ الاِْنْسانِيَّةِ اِلي حَدِّ الْبَهيمِيَّةِ فَكانُوا كَما وَصَفَ في مُحْكَمِ كِتابِه: اِنْ هُمْ اِلاّ كَالاَْنْعامِ بَلْ هُمْ اَضَلُّ سَبيلاً. - اَلّلهُمَّ فَصَلِّ عَلي مُحَمَّد اَمينِكَ عَلي وَحْيِكَ، وَ نَجيبِكَ مِنْ خَلْقِكَ، وَ صَفِيِّكَ مِنْ عِبادِكَ، اِمامِ الرَّحْمَةِ، وَ قائِدِ الْخَيْرِ، وَمِفْتاحِ الْبَرَكَةِ. - اَلّلهُمَّوَ اَتْباعُ الرُّسُل وَ مُصَدِّ قوُهُمْ مِنْ اَهْلِ الاَْرْضِ عَلي جَميعِهِمُ السَّلامُ. - اَلّلهُمَّ وَ اَصْحابُ مُحَّمَد خاصَّةً الَّذينَ اَحْسَنُوا الصَّحابَةَ وَ الَّذينَ اَبُلَوُا الْبَلاءَ الْحَسَنَ في نَصْرِه، وَ كانَفُوُهُ، وَ اَسْرَعُوآ اِلي وِفادَتِه، وَ سابَقُوا اِلي دَعْوَتِه، وَ اسْتَجابُوا لَهُ حَيْثُ اَسْمَعَهُمْ حُجَّةَ رِسالاتِه فصلّ عليهم و علي التابعين لهم باحسان الذين يقولون: ربنا اغفرلنا ولا خواننا الذين سبقونا بالايمان.

ص: 4

المقدمة

أهم بحث ينتهي بنا الي معرفة «تاريخ الاسلام الصحيح»، ولو موجزاً هو معرفة الصحابة. فمن جهة كان أصحاب رسول الله هم الذين آزروه ونصروه وأيّدوه يوم كان الاسلام غريباً، واستطاعوا بتأييد الله وحمايته ان يَدْعوا رسول الله الي المدينة وينصروه كنصرتهم لأحد أعضاء اسرتهم بل أفضل من ذلك. ومن هؤلاء الصحابة من جاءوا بالرسول وبني هاشم - الحماة الوحيدين لرسول الله في شعب أبي طالب - الي المدينة، وأنقذوا الاسلام من الغربة التي كان يواجهها، ونصروا رسول الله في الحرب وفي السِلم، وكان لهم النصيب الأوفر - بعد تأييد الله ونصره - في توطيد قوّة الاسلام وقدرة رسول الله يوماً بعد آخر. وعلي صعيد آخر وقف هؤلاء الصحابة - بعد رسول الله - رغم ما ظهر بينهم من اختلاف ونزاع، وقفة رجل واحد ضد العدو الأجنبي، وذادوا عن حمي الاسلام بجدارة، ومضوا قدماً في الفتوحات ووسعوا رقعة بلاد الاسلام، رغم ان الاختلافات الداخلية التي نشبت بينهم حول قيادة الأمة كانت في ما بعد سبباً لاندلاع حروب أهلية

ص: 5

نخرت جسم الاسلام، واضعفت المسلمين، ونجم عنها بروز مزيد من الاختلافات والنزاعات، وأدت الي ظهور المزيد من المذاهب والفرق، حتي بلغ عدد الفرق التي ظهرت بين المسلمين ثلاثاً وسبعين فرقة وهي - باستثناء فرقة واحدة - كلها ضالة ومصيرها الي النار (1) بشهادة رسول الله الذي قال: ستفترق امّتي من بعدي ثلاث وسبعين فرقة; واحدة ناجية، واثنان وسبعون في النار. ومن الطبيعي ان البحث لمعرفة من هي الفرقة الناجية متعذّر من غير البحث حول الصحابة الذين كانوا بمثابة المؤسسين أو الرؤساء الاوائل لهذه الفرق. ورؤساء الفرق - كما صرّح القرآن الكريم - لا يفترقون يوم القيامة عن فرقهم. وكِلا الامام والمأموم يدخلان سوية، أما الي الجنة وأما الي النار. قال تعالي في كتابه الكريم: (يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسِم بِإِمَ-مِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَ-بَهُو بِيَمِينِهِي فَأُوْلَ-ل-ِكَ يَقْرَءُونَ كِتَ-بَهُمْ وَ لاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (2) . (وَقَالَ الرَّسُولُ يَ-رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَ-ذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُورًا) (3) . وقال رسول الله (4) مشيراً الي الصحابة من قريش: يُهلك الناسَ هذا الحي من قريش. يقول البعض بأنّه لا ينبغي البحث في ما يخص الصحابة; لأن

ص: 6


1- 1. سنن ابن ماجة، باب افتراق الأُمّة.
2- 2. سورة الاسراء، الآية 71.
3- 3. سورة الفرقان، الآية 30.
4- 4. نقله البخاري في كتاب المناقب، ومسلم في كتاب الفتن، ونقله آخرون متواتراً.

الصحابة كلهم عدول وعلي الطريق القويم، رغم ما وقع بينهم من اختلاف ونزاع، وما حصل بينهم من اراقة لدماء بعضهم الآخر، وما نجم عن ذلك من ظهور الفرق الضالّة. ان هذا القول، يتعارض مع قول الله تعالي في كتابه الكريم: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) (1) . (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِنم بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَ-تُ وَأُوْلَ-ل-ِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (2) . ويتعارض مع الآيات التي نزلت في شأن المنافقين، والآيات التي نزلت في اقامة الحد علي بعض الصحابة، إضافة الي انه يتنافي ويتناقض مع قول رسول الله الذي قال فيه ان ثلّة من أصحابي يرتدون من بعدي ويبتدعون البدع فيدخلون النار ولا تخرجهم شفاعتي منها. بل يتعذّر عقلاً أن تكون الغالبية العظمي من الفرق الاسلامية ضالة ومن اهل النار، ويكون رؤساؤها الاوائل الذين بذروا بذور الاختلاف بين ابناء الأمة، وكانوا سبباً في ظهور هذه الفرق، كلهم من أهل الجنّة من غير استثناء. وبعبارة اخري لا يمكن ان تكون الفرق المتناقضة والمتعارضة في ما بينها كلها علي الطريق المستقيم، وان يكون كل رؤساء هذه الفرق، الذين سلكوا هذه المسالك من أجل الاستيلاء علي السلطة، من اهل الجنّة، وان يكون اتباعهم الذين اقتفوا خُطاهم عن عمي، من أهل النار. ان هذا لا يمكن ابداً، بل كما قال الله في كتابه العزيز ان

ص: 7


1- 5. سورة آل عمران، الآية 103.
2- 6. سورة آل عمران، الآية 105.

الامام والمأموم اما كلاهما في الجنة أو كلاهما في النار، لا بل ان الإمام يسبق المأموم لأنهما اذا دخلا الجنّة فالامام أسبق ومقدّم علي المأموم لأنّه كان هادياً لأتباعه إلي طريق الجنّة. وأما اذا كان مصيره الي النار، فان قائد الضلال أول من يدخل النار; لأنه هو الذي قاد اتباعه الي دخول النار. ولكن من هي الفرقة الناجية التي تدخل الجنّة؟ هل هم الذين ساروا خلف الاكثرية، وهي تلك الاكثرية التي تخلّت عن رسول الله في ساعة الخطر مثلما حصل في معركتي أحد وحنين وغيرهما، حين فر القوم وتركوا الرسول وحده، او حين تركوا الرسول قائماً عندما سمعوا صوت اللهو والتجارة. وهل الفرقة الناجية هي تلك التي اتّبعت السلاطين حيثما ساروا، واتبعوا حتي يزيد بن معاوية، شارب الخمر الزاني بالمحارم الذي استباح مدينة رسول الله ثلاثة أيام لجيشه ليفعل ما يشاء في اعراض واموال أهل المدينة، حيث أنجبت نساء الصحابة والتابعين بعد تسعة أشهر من تلك الواقعة ألف ولد زنا؟ وحتي ان يزيد بن معاوية انكر رسالة رسول الله. فهل اتباع امثال هولاء السلاطين هم الفرقة الناجية (لانهم اكثرية)؟ ومَن قُتِلوا علي طريق النهي عن منكر يزيد واتباعه من أهل النار (لانهم اقلية)؟ اذاً من وما الذي يجب ان تتبعه الامة بعد رسول الله؟ يقول البعض ان الامة يجب ان تتبع السُنّة. وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان، اذ ينبغي ان تتبع الامّة سنة نبيّها. ولكن اية سُنّة؟ هل هي السنّة التي ضاعت اليوم في خضم الاحاديث المتعارضة والمتناقضة؟ وبعض هذه الاحاديث

ص: 8

ينص علي ان رسول الله قال: اتبعوا من بعدي السلطان، بينما تعارض هذا الحديث أحاديث اخري تقول عليهم باتباع الأكثرية، حتي وان ثارت هذه الاكثرية علي السطان وقتلته، أو أسلمت له قيادها. وتقول احاديث اخري: تمسّكوا بعدي بالقرآن والعترة (والأئمة من أهل بيتي). وكل واحدة من هذه الفرق تتمسك بما لديها من كتب وتقر بصحّة ما ورد فيها. هذه الكتب التي تضم بين دفّتيها هذه الاحاديث المتعارضة والمتناقضة واذا كانت كل فرقة لا تقبل إلا كتابها، فمن الطبيعي ان هذه الأمة لن تسير ابداً باتجاه الوحدة، ولا تهتدي الي الطريق المستقيم الذي هو طريق واحد لا يتعدد، إلاّ اذا بحثت الامور «علي أساس القرآن والاحاديث المتواترة التي تُجمع عليها الامة بكل فِرَقها»، ونقّبت جذور كل معتقد وافتراض مسبق، وأعادت النظر في القضايا التالية: 1- هل كان الصحابة كلهم عدول بغير استثناء؟ 2- هل كل الاحاديث المتعارضة والمتناقضة التي نقلها الصحابة صحيحة ومطابقة للحق؟ 3- هل كان الرسول قد وضع الحلول الكفيلة بازالة الاختلاف من بعده، وأوصي الصحابة بسبيل النجاة؟ 4- ان كان قد بيّن لهم سبيل النجاة، فما هو ذلك السبيل؟

ص: 9

نظرية عدالة جميع الصحابة بلا استثناء

مقدمة حول منهج البحث والافتراضات المسبقة

قبل الدخول في صلب البحث لابد من تبيان مسألتين: أ- اتباع منهج مقبول لدي جميع المسلمين لكي لا يكون فيه ثمة شك او ترديد. ب- ثم السير علي أساس ذلك المنهج الصحيح، للبحث حول صحّة الافتراضات المسبقة. الافتراضات المسبقة: الافتراض الاول: حول عدالة جميع الصحابة الافتراض الثاني: حول صحّة الاحاديث والكتب الحديثية الكثير من المسلمين لا يناقشون هذه القضايا; وانما يقرّون عدالة جميع الصحابة وصحّة بعض الكتب تعبّداً، ويتّخذون منها افتراضات مسبقة لبحثهم واستدلالاتهم، في حين ان البحث والاستدلال مفيدان حتي في القضايا الثابتة وحتي في ما يتعلّق باصول الدين. أ- مناهج البحث: هناك منهجان للبحث: 1- المنهج الجدلي.

ص: 10

2- المنهج الاستدلالي. - يقوم المنهج الجدلي علي أساس الاستدلال بالقضايا المسلّم بها عند الطرف المقابل لاجل اسكاته، حتي وان كانت هذه القضايا المسلّم بها غير مقبولة عند من يستند اليها ويستدل بها. - وأما المنهج الاستدلالي فهو يقوم علي الاستدلال بامور يقينية مقبولة عند الجميع. - منهجنا استدلالي وليس جدلياً نروم في كتابنا هذا اتباع المنهج الاستدلالي. ومن الواضح ان المنهج الاستدلالي يستدعي ان تكون مقدّماته من الامور اليقينيّة; وهي عبارة عن البديهيات وكذا المتواترات كما هو الحال بالنسبة الي القرآن الكريم عند المسلمين. ايضاح: شِكل المنهج الجدلي هو اننا نستدل بكتب الآخرين لإثبات صحّة كلامنا. وهذا المنهج الجدلي منهج يقوم علي النقض وليس اسلوباً للاقناع، ويمكن الطعن في صوابه، وهو لو ان احداً اراد الاستدلال لاثبات شيء للطرف المقابل، يقول له: اذا كنت تقر بصحّة مالدينا من الروايات، فلدينا روايات اكثر صراحة ودلالة علي ما نقول. في حين ان المنهج الاستدلالي مقبول لدي الجميع، ويقوم علي الاستدلال بالبديهيات والمتواترات. ب- الافتراضات المسبقة اول الافتراضات المسبقة، عدالة جميع الصحابة بلا استثناء. ايضاح: الرواة علي قسمين: 1- الراوي الصحابي. 2- الراوي غير الصحابي، أي التابعي.

ص: 11

الصحابة هم المسلمون الذي شاهدوا رسول الله ونقلوا عنه روايات. ويذهب معظم المسلمين وهم «اتباع اصحاب السلطة» الي ان جميع الصحابة عدول بلا استثناء. ولهذا السبب لا يوجد عندهم كتاب يبحث في احوال الصحابة ويقسّمهم الي عادل وفاسق ومنافق. وهم - في كتبهم الرجالية - عندما يصل الدور الي الصحابة لا يتطرّقون أبداً الي بحث عدالة الراوي الصحابي; وذلك لأنهم يقولون بأن الصحابة كلهم عدول (1) علي الاطلاق، ولا يحق لنا الطعن في عدالة صحابي. وهذا الافتراض المسبق هو ما تقوم عليه كتب أتْباع اصحاب السلطة، وهو ان كل الصحابة عدول من غير استثناء. بينما يقول اتباع عترة رسول الله الذين يعتبرون أنفسهم اتباع اهل البيت بتقسيم الصحابة الي: صحابي عادل، وصحابي غير عادل.

استدلال انصار نظرية عدالة جميع الصحابة علي ان الصحابة

كلهم عدول من غير استثناء

الاستدلال العقلي: ومن الادلة التي يعتمدونها في هذا المجال هو اذا كان لدينا شك في عدالة صحابي، واردنا اثبات عدالته، فينبغي الرجوع الي شهادة صحابي آخر علي عدالته. وهنا يعود بنا البحث الي هذا الشاهد، وكيف نعلم عدالته؟ وهكذا نقع في الدور (وكلّ ما يستلزم الدور

ص: 12


1- 7. وهذا ما يذهب إليه كل من ابن حجر، وابن عبد البر، والخطيب، والحاكم النيسابوري وغيرهم.

محال). ولهذا السبب لا نستطيع اثبات عدالة أي من الصحابة. وبالنتيجة تنقطع علاقتنا بالرسول. ورد في كتاب الاصابة لابن حجر، وفي كتاب تهذيب التهذيب وهما من كتب الرجال عند اتباع اصحاب السلطة ما يلي: الذين ينتقصون احداً من اصحاب رسول الله يريدون ان يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسُنّة، والجرح بهم أولي وهم زنادقة (1) .

ص: 13


1- 8. قال ابن حاتم الرازي في مقدمة كتاب الجرح والتعديل: الصحابة عدول الامّة وائمة الهدي وحجج الدين. وقال ابن عبد البر في مقدّمة كتاب الاستيعاب: ثبتت عدالة جميعهم. وقال ابن الاثير في مقدمة كتاب اسد الغابة: الصحابة كلهم عدول. وجاء في الفصل الثالث من كتاب الاصابة لابن حجر، ص 17 - 18، مايلي: الذين ينتقصون أحداً من الصحابة يريدون ان يجرجوا شهودنا ويبطلوا الكتاب والسنة. وجاء مثل هذا في كتاب الكبائر للذهبي، ص 238. واستدلّ الخطيب علي اثبات عدالتهم بآيات: «كنتم خير امة اخرجت للناس» (آل عمران، الآية 110) وهذا الخطاب موجّه للامة ولا يختصّ بالصحابة. واستدل كذلك بالآية: (وَكَذَ لِكَ جَعَلْنَ-كُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَي النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (سورة البقرة، الآية 143) وهذا أيضاً خطاب للامة ولا يختصّ بالصحابة. واستدل كذلك بالآية: «والسابقون الاولون من المهاجر والانصار والذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم» (سورة التوبة، الآية 100). واستدل كذلك بالآية: «ياايها الذين آمنوا حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين» واستدل كذلك بقوله تعالي: (لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَ-جِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَ-رِهِمْ وَ أَمْوَ لِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَ رِضْوَ نًا وَ يَنصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُو أُوْلَ-ل-ِكَ هُمُ الصَّ-دِقُونَ) (سورة الحشر، الآية 8)، وستدلوا علي ذلك ايضاً باحاديث كثيرة مثل: خبر الواحد الكاذب: «اصحابي كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم». يعني ان اتبعتم الوليد الفاسق اهتديتم وان اتبعتم معاوية الباغي اهتديتم وان اتبعتم الصحابة الذين قتلوا عثمان اهتديتم وان اتبعتم مسلم بن عقبة الذين اباح الزّنا بنساء الصحابة اهتديتم لكن حديث: «ياعمار تقتلك الفئة الباغية» المتواتر، يناقض ادلة عدالة جميع الصحابة واحاديث متواترة اخري علي ان بعض الصحابة يدخل جهنم ولا تنفعهم شفاعة الشافعين واحاديث اخري.

هذا هو الدليل العقلي الذي يقولون به لاثبات عدالة جميع الصحابة. ولابد اولاً من مناقشة هذا الدليل العقلي. ثم ننتقل بعده الي ذكر الادلة النقلية; أي الاستدلال بالآيات والروايات.

بحث حول هذا الاستدلال

أولاً: من الواضح كوضوح الشمس في رابعة النهار بأن الشك في عدالة جميع الصحابة، واثارة التساؤلات والشكوك حولهم، سيؤدي بالنتيجة الي انقطاعنا عن سنّة رسول الله صلوات الله عليه. ولكن أي فريق وأي مسلم يشك في عدالة جميع الصحابة بشكل عام وبالمجموع الكلي؟ فبعض الصحابة عدالتهم ثابتة بالمتواتر من اقوال رسول الله كأبي ذر، والمقداد، وعلي بن ابي طالب، وبلال، وسلمان، وعمّار، وأمثالهم الكثيرون (وان كانوا لا يمثّلون الا عدداً قليلاً من بين الصحابة. ويتفق كل المسلمين علي ان رسول الله وصف هؤلاء الافراد بالعدالة وبشّر بأنهم من أهل الجنّة. ولهذا السبب تقر الامة كلّها عدالتهم انطلاقاً من وجود أحاديث متواترة عن رسول الله في تقواهم وعدالتهم. ويمكن الاستناد الي شهادة هؤلاء الصحابة

ص: 14

العدول المُجمع عليهم، للاستدلال علي عدالة قسم آخر من الصحابة. وعلي هذا الأساس ينبغي ان يكون هناك كتاب في علم الرجال للتمييز بين الصحابة العدول وغير العدول. وأتْباع عترة رسول الله لديهم مثل هذا الشيء في كتبهم الرجالية. وبوجود مثل هؤلاء الافراد العدول من الصحابة (الذين ثبتت عدالتهم بما تواتر من شهادة رسول الله، و...) لا تنقطع ايدينا عن سنّة الرسول، حتي اذا شككنا في عدالة قسم آخر من الصحابة. نذكر علي سبيل المثال ان علياً نشأ في بيت رسول الله وكان بمثابة الابن، وكان علي الدوام ملازماً للرسول ومدافعاً عنه. ومن الطبيعي ان مثل هذا الشخص لديه اطلاع تام علي حالات الرسول، وافعاله، وأقواله. وبالنتيجة فان وجود مثل هؤلاء الصحابة الذين تُجمع الأمة علي عدالتهم يجعل من غير الصحيح ان نقول بأننا اذا اردنا الشك في عدالة البعض - كالوليد بن عقبة (1) شارب الخمر - ستنقطع ايدينا عن رسول الله صلوات الله عليه. وبالنتيجة لا يتحقق الدور المحال هنا; لأن عدالة رسول الله ثابتة علي اعتبار ان الله قد اصطفاه وائتمنه علي وحيه. وعدالته لا تحتاج الي تأييد وشهادة شخص آخر. وهو - أي الرسول - قد شهد علي عدالة هؤلاء الافراد - الذين ذكرناهم - ووصلتنا شهادته بالتواتر. ثانياً: كيف يمكن القول بعدالة جميع الصحابة من غير استثناء، في حين بيّن القرآن فسق بعضهم، كما هو الحال بالنسبة الي الوليد بن

ص: 15


1- 9. هذا ما ذكره مسلم في باب شرب الخمر، والبخاري في مناقب عثمان،.... في تفسير آية النبأ (إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُم بِنَبَإ فَتَبَيَّنُواْ) من سورة الحجرات. [

عقبة (شارب الخمر) الذي دلّت علي فسقه آية النبأ من سورة الحجرات، وقد وردت قصّة شربه للخمر في اخبار متواترة نقلها حتي البخاري (1) المؤيد لبني أُميّة؟ أو كيف يمكن القول بعدالة المنافقين من الصحابة الذين وصفهم الله تعالي في سورة (المنافقون) بالكذب، وكان عددهم كبيراً (2) .

الاستدلال بآيات القرآن علي عدالة جميع الصحابة (بلا استثناء)

اشاره

1- (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُو أَشِدَّآءُ عَلَي الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَل-هُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَ نًا) (3) . استندوا الي دلالة الآية المذكورة آنفاً للقول بعدالة كل من كانوا مع الرسول. الآية الاخري التي استدلوا بها علي عدالة كل المهاجرين والانصار من الصحابة: (وَ السَّ-بِقُونَ الاَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَ-جِرِينَ وَالاَْنصَارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَ-ن رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُواْ عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّ-ت) (4) . فبما ان الله تعالي اعلن في هذه الآية عن رضاه عن السابقين من الصحابة من المهاجرين والانصار الذين آمنوا بالرسول، ووعدهم الجنّة; إذاً فكل الذين هاجروا، وكذا الأنصار، عدول.

ص: 16


1- 10. في باب مناقب عثمان.
2- 11. سورة المائدة، الآية 100.
3- 12. سورة الفتح، الآية 29.
4- 13. سورة التوبة، الآية 100.

الآية الثالثة حول المهاجرين من الصحابة: 3- (لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَ-جِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَ-رِهِمْ وَ أَمْوَ لِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَ رِضْوَ نًا وَ يَنصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُو أُوْلَ-ل-ِكَ هُمُ الصَّ-دِقُونَ) (1) . وهي ان الله تعالي شهد في هذه الآية علي ان كل من هاجروا مع الرسول صادقون. الآية الرابعة حول اصحاب الشجرة: 4- (لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ...) (2) .

بحث حول هذا الاستدلال

ان الله الذي انزل هذه الآيات، هو الذي أنزل سورة (المنافقون) أيضاً. فبحق من نزلت سورة (المنافقون)؟ لابد وانها نزلت قطعاً بحق بعض أصحاب الرسول ممن كانوا منافقين، وهي (سورة المنافقين) لم تنزل بحق التابعين أو الاجيال اللاحقة أو بحقّ أمم اخري. لقد وصف الله عز وجل بعض من تظاهروا بالاسلام وكانت لهم صحبة مع الرسول بالمنافقين، في أول سورة العنكبوت، وأول سورة البقرة وأول سورة «المنافقون». جاء في أول سورة «المنافقون» ما يلي: (إِذَا جَآءَكَ الْمُنَ-فِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ

ص: 17


1- 14. سورة الحشر، الآية 8.
2- 15. سورة الفتح، الآية 18.

لَرَسُولُهُو وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَ-فِقِينَ لَكَ-ذِبُونَ) (1) . واضافة الي سورة «المنافقون» هناك سور كثيرة اخري تحدثت عن النفاق، ومنها اوائل سورة البقرة، وهذه السورة نزلت في السنة الاولي للهجرة; أي قبل صلح الحديبية، وحتي قبل معركة بدر. وفيها قال تعالي: (وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَ مَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) (2) ثم يقول بعد ذلك (يُخَ-دِعُونَ اللَّهَ...). وهناك سور اخري تتحدث عمّا قبل الهجرة حيث اشارت الي حالة النفاق والمنافقين من الصحابة حتي قبل الهجرة. والمثال علي ذلك سورة العنكبوت (الم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ - وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَ-ذِبِينَ). (وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنَ-فِقِينَ) (3) فهذه السورة نزلت قبل الهجرة. والدليل علي ذلك ان آية الأمر بالهجرة وردت فيها. وكذا الحال بالنسبة الي الآية السادسة من سورة الحجرات فهي تحمل دلالة علي فسق بعض الصحابة، وهي الآية المعروفة بآية النبأ: (...إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُم بِنَبَإ فَتَبَيَّنُواْ) (4) . وقد نزلت بحق الوليد بن عقبة، الذي كان من أصحاب الرسول

ص: 18


1- 16. سورة «المنافقون»، الآية 1.
2- 17. سورة البقرة، الآية 8.
3- 18. سورة العنكبوت، الآية 11.
4- 19. سورة الحجرات، الآية 6.

باعتراف الجميع، وقد كلّفه الرسول بمهام عدّة مرّات، ولا يشك احد في صحبته. فهذه الآية تأمر صراحة بعدم الاستماع لكلام هذا الفاسق. أي ان هذا الصحابي فاسق، اذ انه كذب في قضية وألبس علي الناس. طبعاً هناك من يبرر فعله ويزعم بأنه لم يقصد الكذب، ولكن الله تعالي صرّح بأنه فاسق وكاذب. وهذه ليست الآية الوحيدة الدالة علي فسق الوليد، بل كل المسلمين يقرّون ذلك، ونذكر علي سبيل المثال انه ورد في المجلد الرابع من كتاب البخاري، باب عثمان بن عفان، ومن باب هجرة الحبشة عن عثمان بن عفان وفي بقية كتب الحديث والتاريخ ان علياً قد اقام الحدّ علي الوليد، لقضية نوجزها في ما يلي: ان عثمان بن عفان اثناء خلافته ولّي الوليد علي الكوفة (بسبب قرابته لأنه كان اخوه لامه). وفي احدي الليالي شرب الخمر ودخل المسجد فصلّي بهم صلاة الصبح اربع ركعات، ثم التفت اليهم وقال: هل ازيدكم؟ فخرج رهط من اهل الكوفة في امره الي عثمان. فاستدعاه عثمان الي المدينة، وجلده علي ابن ابي طالب بعد ان ثبت عليه شرب الخمر. وخلاصة الكلام هي ان امثال هذه القضايا كانت كثيراً ما تحصل. وقد وردت في المصادر المختلفة ومنها في كتاب البخاري، في باب كتاب الحدود، في باب شرب الخمر، وحد الزنا، وحد المحارب، وغيرها ان هذه الحدود واحكام القصاص اقيمت في زمن رسول الله علي بعض الصحابة. وهناك آيات تدل علي ان بعض الصحابة كانوا فاسقين: (وَالسَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) (1) .

ص: 19


1- 20. سورة المائدة، الآية 38.

وكذلك آية النبأ: (إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُم بِنَبَإ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمَام بِجَهَ--لَة فَتُصْبِحُواْ عَلَي مَا فَعَلْتُمْ نَ-دِمِينَ) (1) التي نزلت بحق الصحابي الوليد بن عقبة (2) . وكذلك نقلت كتب الحديث في ابواب الحدود بشكل متواتر ان اول من اُقيم عليهم حد الزنا بالمحصنة، وحدّ المحارب، وحد السرقة وغيرها من حدود الذنوب الكبيرة في عهد رسول الله كانوا من اصحاب رسول الله من قبائل بني مخزوم وبني أسلم وغيرها. وهناك من هؤلاء الصحابة ممن اقيم عليه الحد في عهد الرسول أو بعد عهد الرسول مثل قدامة بن مضعون وهو صحابي بدري، وقد اقيم عليه الحد بسبب شرب الخمر، وكذا الوليد بن عقبة الذي اقيم عليه الحد للسبب نفسه، وغيرهما. كما ان هناك آيات تبيّن ان الكثير من الصحابة كانوا ضعفاء الايمان، ومن هذه الآيات الآية الاخيرة من سورة الجمعة، وهي: (وَ إِذَا رَأَوْاْ تِجَ-رَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَ تَرَكُوكَ قَآل-ِمًا). وتوضيح ذلك هو ان الناس كانوا يصلّون الجمعة خلف رسول الله، وفي تلك الاثناء قُرعت الطبول معلنة وصول قافلة تجارية، فتركوا الرسول قائماً وحده وذهبوا وراء التجارة والدينار. ونقل جميع الرواة (كما ورد في تفسير سورة الجمعة) بأنه بقي اثنا عشر شخصاً

ص: 20


1- 21. سورة الحجرات، الآية 6.
2- 22. اوردها مسلم في باب حد شرب الخمر، واوردها البخاري في الباب المتعلّق بعثمان يعني الاعتراف باجراء الحد علي الوليد.

وراء الرسول. وبعد ذلك قال رسول الله بأن هؤلاء النفر لو كانوا قد ذهبوا أيضاً لأرسل الله ناراً تحرق الجميع. أي انهم اقترفوا ذنباً كبيراً حين تركوا الرسول قائماً وحده في صلاة الجمعة من اجل التجارة. وفي الحروب وقع ما هو اسوأ من ذلك; ففي معركة اُحُد بقي مع الرسول من قريش رجلان فقط، هما علي والحمزة وكلاهما من بني هاشم. وقد استشهد الحمزة. وبقي من الانصار سبعة، أما الاكثرون فقد فرّوا وتركوا الرسول والمؤمنين الذين بقوا معه حتي قُتلوا جميعاً لقلّتهم الا رسول الله ونفرين من قريش واما الاكثرون ففرّوا ليحافظوا علي أرواحهم. ولابدّ من الاشارة الي انّ عدد أفراد هذا الجيش كان ألفاً حين خرجوا من المدينة، ولكن رجع ثلاثمائة منهم عند منتصف الطريق فبقي سبعمائة. ألَم يكن نصف هذا الجيش من البدريين؟ فلماذا فرّوا إذاً؟ وذهب آخرون وجلسوا فوق جبل اُحد ليبحثوا عن طريق للتخلّص من ذلك المأزق، وأرادوا العودة الي المدينة ليطلبوا من عبد الله بن أُبي ليشفع لهم عند أبي سفيان، أملاً في أن يصفح عنهم. لاحظوا كيف غضب الله عليهم في سورة آل عمران، حين يقول لهم: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَ-هَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّ-بِرِينَ - وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) (1) . وتبين عندذاك بأن هناك عدد قليل من الصحابة الذين بقوا مع رسول الله.

ص: 21


1- 23. سورة آل عمران، الآيتان 142 - 143.

وتكشف هذه الاية ان قليلاً من الصحابة كانوا راسخي الايمان، وبعد عدّة آيات من سورة آل عمران أي في الآية 152 ورد ذمٌ اشد لهذه الجماعة من الصحابة وقيل صراحة (عصيتم). أي علي العكس مما يزعمونه في ان الصحابة لا يخطأ أي منهم ولا يعصون الله: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُو إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِي حَتَّي إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَ-زَعْتُمْ فِي الاَْمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنم بَعْدِ مَآ أَرَل-كُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاَْخِرَةَ). اذاً هذه الآية تريد ان تبيّن بأن الصحابة الذين ثبتوا وقاوموا كانوا يريدون الآخرة، واما الذين عصوا وتركوا ساحة القتال فهم آثمون ويريدون الدنيا. ثم لدينا آيات اخري تقول ان من يريد الدنيا فمصيره الي جهنم: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُو فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُو جَهَنَّمَ يَصْلَ-ل-هَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا - وَ مَنْ أَرَادَ الاَْخِرَةَ وَ سَعَي لَهَا سَعْيَهَا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَ-ل-ِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) (1) أي ان كل من يريد الدنيا ومتاعها كالحصول علي الغنائم او الوصول الي سدّة الحكم، نعجّل لمن نشاء منهم بلوغ غايته. ولكن بعد ان يأكل الغنيمة ويستمتع بالرئاسة، ويحصل علي ما يريد في الدنيا، يأتي بعد ذلك دور جهنم حيث يخلد فيها. أي ان صغري القضية تفهم من سورة آل عمران، وتفهم كبراها من سورة الاسراء، وذلك علي الترتيب التالي: تفيد سورة الاسراء ان من يريد الدنيا فهو من أهل جهنم; وبعض الصحابة ارادوا الدنيا، وهذا يُفهم من سورة آل عمران في

ص: 22


1- 24. سورة الاسراء، (الآيتان 18 - 19.

قوله: (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا). اذاً فالنتيجة التي نستخلصها هي ان أكثر الصحابة كانوا يريدون الدنيا (كالحصول علي الغنائم، والوصول الي السلطة، وحب الرئاسة، وكل ما هو دنيوي) او كانوا ضعفاء الايمان، والله تعالي يعجّل لمن يشاء منهم نيل تلك المآرب، ولكن في الآخرة يكون نصيبهم العذاب الأبدي. وبشهادة القرآن ان امثال هؤلاء الذين يريدون الدنيا كانوا في أحد، وكانوا أيضاً في بدر. ولكن يوجد في مقابل هؤلاء من يريدون الآخرة. وقد اثبتوا عملاً انهم لا يبتغون الدنيا، وانما يبتغون الآخرة ويرومون الحصول عليها بأي ثمن كان، وان كلّفهم ذلك حياتهم، وسينال هؤلاء جزاءهم وهو افضل الجزاء. وهناك مجموعة اخري من الآيات جاءت بهذا المضمون وهي تثبت هذا المعني صراحة، ولا تحتاج الي أي توضيح، كقوله تعالي: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَ--لَهُمْ فِيهَا وَ هُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ - أُوْلَ-ل-ِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الاَْخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ) (1) . وقوله تعالي في سورة الشوري: (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَْخِرَةِ نَزِدْ لَهُو فِي حَرْثِهِي وَ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِي مِنْهَا وَ مَا لَهُو فِي الاَْخِرَةِ مِن نَّصِيب) (2) . ويفهم من التوضيحات التي مرّت علينا آنفاً ان قضية حب الدنيا والرغبة فيها كانت موجودة في السنة الثالثة للهجرة; أي في وقت

ص: 23


1- 25. سورة هود، الآيتان 15 - 16.
2- 26. سورة الشوري، الآية 20.

معركة اُحد. واذا رجعنا الي الوراء قليلاً، نلاحظ في سورة البقرة، وهي السورة التي نزلت في السنة الاولي للهجرة، بأن الله تعالي قد تحدّث فيها عن موضوع النفاق; اذ ورد فيها ما يلي: (وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَ مَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) (1) ; والمعني انهم منافقون. اذاً فهذه الآية تصرّح بوجود منافقين بين المسلمين حتي في السنة الاولي للهجرة. اذاً يتضح لنا انه كان هناك بين المسلمين منافقون، وحتي في السنة الاولي لهجرة الرسول. وهذه حقيقة يجب اقرارها.

هل كان هناك نفاق بين السابقين من الصحابة

ولو قال قائل بأن السابقين - والمراد بالسابقين من أسلموا قبل الهجرة - كلهم عدول. فجوابه نطقت به سورة العنكبوت. وهذه السورة مكية;انها نزلت قبل الهجرة. والدليل علي ذلك ان الأمر بالهجرة قد ورد فيها. ومن الطبيعي ان الأمر بالهجرة قد نزل قبل الهجرة وليس بعدها. قال الله عز وجل في هذه السورة في وصف بعض السابقين من الصحابة: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَ-نِ الرَّحِيمِ - الم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ - وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَ-ذِبِينَ) (2) ... (وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنَ-فِقِينَ) (3) .

ص: 24


1- 27. سورة البقرة، الآية 8.
2- 28. سورة العنكبوت، الآيات 1 - 3.
3- 29. سورة العنكبوت، الآية 11.

ويبدو ان هذه الآية نزلت حتي قبل الهجرة الي الحبشة، ومع ذلك فهي تتحدث عن النفاق في ذلك الوقت. ولو اردنا الاقتراب اكثر الي ان نصل الي السنة الاولي من البعثة، فعلينا ان ننظر الي السور التي نزلت قبل سورة العنكبوت; واحدي هذه السور هي سورة المدّثر. هذه السورة من اوائل السور التي نزلت علي قلب النبي الكريم; أي في السنوات الاولي للبعثة. ومع ذلك نلاحظ ان الله جل وعلا يقول فيها: (... وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَ الْكَ-فِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَ-ذَا مَثَلاً) (1) أي ان الكافرين ومن قلوبهم مرض يعترضون علي الله ويقولون ماذا يريد بهذا؟ وهنا نلاحظ ان الله جعل الي جانب الكافرين مجموعة اخري اطلق عليها تسمية «الذين في قلوبهم مرض». وهذه المجموعة منفصلة عن الكفار أي انها ليست من الكفار. يقول الله تعالي في هذه الآية ان هناك طائفتان من الناس يعترضون علي ارادتي: الطائفة الاولي: هم الكفار. والطائفة الثانية: الذين في قلوبهم مرض. ومعني هذا الكلام ان هذه الطائفة من المسلمين وليس من غيرهم. هذه الطائفة في الحقيقة هم المنافقون الذين يصفهم الله تعالي بهذه الصفة في عدّة مواضع في القرآن الكريم، نذكر منها ما ورد في اول سورة البقرة، حيث قال تعالي: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا). اذاً يمكن القول ان

ص: 25


1- 30. سورة المدّثر، الآية 31.

النفاق قد ظهر وتبلور في السنة الاولي من البعثة. وقد اعلن الله عز وجل عن رضاه عن المسلمين الاوائل في الآية المائة من سورة التوبة، كما ذكرنا ذلك سابقاً. ولكن عدا المسلمين الاوائل الذين سبق الحديث عنهم ولم يكن فيهم منافقون، يحتمل وجود النفاق بين غيرهم سواء كانوا من السابقين أم من غير السابقين. الاستدلال الذي يستدل به «مؤيدو نظرية عدالة جميع الصحابة»، حول النفاق قبل الهجرة هو ان الاسلام كان قبل الهجرة يعيش في غربة وكان المسلمون يتجرّعون انواع التعذيب والأذي. ومن الطبيعي ان مثل هذه الظروف لا يوجد فيها أي دافع أو مصلحة للنفاق، بل تكاد تنعدم المبررات او الظروف المساعدة لوجوده. ولكن بعد الهجرة وفي اعقاب فتح مكة توفّرت الظروف المساعدة لنشوء النفاق بعدما غدا المسلمون أصحاب سلطة وقوّة. وكان من الممكن ان يُسْلم البعض خوفاً علي حياتهم. أي ان وجود النفاق قبل الهجرة ممتنع عقلاً. وهذا الاستدلال له جوابان: الجواب الاول: جواب نقض، وهو وجود آيات في سورة العنكبوت وسورة المدّثر يشير فيها الله تعالي الي وجود النفاق في ذلك الوقت;زمن ما قبل الهجرة. فكيف يمكن نفي وجود النفاق مع وجود مثل هذه الآيات. الجواب الثاني: جواب حل، وهو ان المنافقين ليسوا كلهم من جنس واحد. فهناك النفاق الذي يأتي نتيجة الخوف. ومن الطبيعي ان هذا النوع من النفاق توفّرت له موجباته من بعد الهجرة وبعدما صارت

ص: 26

للاسلام قوّة وشوكة. كما هو الحال بالنسبة الي ابي سفيان الذي دفعه الخوف علي حياته الي اعلان اسلامه، بينما كان قلبه علي منهج النفاق. ولكن هل النفاق ينحصر في هذا النوع فقط وهو ما يمكن ان نطلق عليه تسمية دخول الاسلام خوفاً؟ ألا يُحتمل ان يكون هناك قوم اسلموا في أول البعثة بدافع التجسس علي المسلمين أو لاغراض سياسية مستقبلية، أو طمعاً في نيل شيء من المعونات التي كان يقدّمها رسول الله من اموال خديجة لفقراء المسلمين، وما شابه ذلك من الأسباب والدوافع؟ يمكن ان نطلق علي هذا النوع تسمية دخول الاسلام طمعاً. حتي لو تحاشينا اطلاق تسمية المنافقين علي من اسلموا طمعاً في مصالح دنيوية، واعتبرناهم افراداً في قلوبهم مرض حب الدنيا، جرياً وراء الوصف الذي ورد في سورة المدّثر. وبالنتيجة فمن الواضح بأنَّ من يحملون مثل هذه الدوافع الدنيوية اذا شعروا يوماً بأنهم لم يحققوا مآربهم، فهم أما ان يتجهوا نحو الكفر (إن امكن ذلك) أو ان ينتهجوا اسلوب النفاق (إن كانوا قد اسلموا من قبل). وعلي كل الاحوال فانَّ ايمانهم ليس الايمان الحقيقي الذي يرتضيه الله. ولغرض تسليط مزيد من الضوء علي هذا الموضوع نعود الي الوراء مرّة اخري وننظر الي زمان ما قبل البعثة، ونطرح السؤال التالي: هل كان الناس - أو عدد منهم علي الأقل - يعلمون بانه سيظهر نبي وسوف يسود دينه وسلطته في كل العالم، وانه سيحقق انتصارات كبري؟ أم كانوا يجهلون ذلك؟ الشيء الذي نفهمه من القرآن والاحاديث المتواترة هو ان التوراة،

ص: 27

والانجيل، والزبور، والانبياء السابقين قد بشروا أو وعدوا بظهور نبي الاسلام. مثلما هو الحال في الوقت الحاضر حيث تبشر المذاهب الاسلامية أو حتي غير الاسلامية بظهور الامام المهدي. وقبل بعثة النبي أيضاً كانت كتب التوراة والانجيل والزبور قد وعدت بظهور نبي آخر الزمان وبيّنت علاماته، وان دينه سينتشر في العالم كله، ويغلب علي الاديان الاخري وينسخها. وكان الناس واتباع الاديان الاخري يتوقعون وينتظرون ظهوره، كما هو الحال بالنسبة الي سلمان الفارسي الذي غادر بلاد فارس وتوجّه الي الحجاز استناداً الي العلامات التي ذكرت له بأن نبي آخر الزمان سيظهر في الحجاز. ونذكر من تلك العلامات ان النبي موسي كان يقول لأمّته: يا بني اسرائيل سيظهر من اخوانكم نبي يركب الجمل و... (1) ، ومراده من راكب الجمل، انه عربي; وذلك لأن ركوب الجمال صفة يختص بها العرب. وكذلك اخبر النبي عيسي - عندما ولد - بظهور نبي آخر الزمان، وهذا ما بيّنه الله تعالي في الآية الشريفة: (وَ إِذْ قَالَ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ يَ-بَنِي إِسْرَ ءِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَل-ةِ وَ مُبَشِّرَما بِرَسُول يَأْتِي مِنم بَعْدِي اسْمُهُو أَحْمَدُ...) (2) . وتكشف هذه الآية ان النبي عيسي قد بين لأتباعه كل علامات وخصائص نبي الاسلام وحتي انه ذكر لهم اسمه. وكذلك ورد في الآية 75 من سورة الأعراف قوله تعالي:

ص: 28


1- 31. سِيَر أعلام النبلاء، ج1، ص 519.
2- 32. سورة الصف، الآية 6.

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُْمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُو مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَل-ةِ وَالإِْنجِيلِ). وكذلك قال الله تعالي في آية اخري: (الَّذِينَ ءَاتَيْنَ-هُمُ الْكِتَ-بَ يَعْرِفُونَهُو كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ) (1) . أي ان علماء أهل الكتاب يعرفون النبي محمد كما يعرفون ابناءهم من غير ان يخالجهم أي شك او ترديد فيه، وتنطبق عليه كل صفات وعلامات رسول آخر الزمان، وهو ذلك النبي الموعود. وورد تعبير آخر مشابه لهذا التعبير تماماً في الآية 20 من سورة الانعام. فهل هناك دليل أسطع من هذا؟ فالله تعالي كأنّه يقول بأنه من الواضح لهم ان هذا نبي كوضوح الشمس في رابعة النهار. وفضلاً عن كل ذلك فقد أشار تبارك وتعالي في الآيتين 75 و76 من سورة البقرة الي قضية اخري تسترعي الانتباه، وهي ان بعض اليهود قد تظاهروا بالاسلام، وعندما كانوا يلقون المسلمين كانون يقولون لهم: اننا كنا نعلم بظهور نبي الاسلام، ونعلم بأنه يقضي علي عبادة الأصنام. ولكنهم عندما كانوا يخلون مع بعضهم كانوا يتلاومون، ويقولون: لماذا تخبرون المسلمين بكل شيء؟ ألا تعلمون ان هذا الكلام يساعد المسلمين علي اثبات أحقيّة دينهم؟ أليس لكم عقل ينهاكم عن إفشاء هذه الاسرار للمسلمين؟ وقال أيضاً في آية اخري وهي الآية 157 من سورة الاعراف بأن أهل الكتاب يعرفون النبي محمد بكل خصائصه واوصافه. وخلاصة الكلام هي ان كل من كانت لديه أدني معلومات عن الكتب

ص: 29


1- 33. سورة البقرة، الآية 146.

السابقة فلابد وانه كان يعرف نبي الاسلام، ويعلم بأنه هو نبي آخر الزمان. وعلي صعيد آخر لم يكن مشركو مكّة أناس انطوائيين ومجرّدين من الوعي والمعرفة; بل كانوا يعيشون في موطن كمكّة، وهو موضع يفد إليه الناس من جميع انحاء جزيرة العرب لزيارة الكعبة وينقلون إليه كل ما يدور من اخبار جزيرة العرب. بالاضافة الي ذلك كانت مكّة مدينة تجارية تنطلق منها القوافل التجارية الي جميع ارجاء جزيرة العرب والي الشام وغيرها من بقاع منطقة الشرق الاوسط، وتأتي إليها قوافل كثيرة من بقاع شتّي. ويمكن القول بأنه لا يحدث حدث في مكّة إلاّ وينتقل خبره بسرعة الي كافة ارجاء شبه جزيرة العرب. ولا يحصل شيء مهم في ارجاء جزيرة العرب الا ويتناهي خبره إلي أسماع أهالي مكّة. وعلي اية حال فقد كان مشركومكّة يعلمون - عن طريق أهل الكتاب - بأن محمداً رسول الله، خاصة بعدما رأوا منه معجزات، ولكن الشيء الوحيد الذي كان يصعب عليهم قبوله هو ان المتعصّبين من المشركين لم يكونوا قادرين علي التخلّي عن أصنام بقوا عاكفين علي عبادتها سنوات طويلة، ولم يكن من السهل عليهم نبذ معتقدات آبائهم واجدادهم. ولذلك قالوا لرسول الله انّك اذا اعترفت بأصنامنا ولم تظهر لها العداء فاننا نقبل كل ما تقول. وفي خضم تلك الظروف والملابسات كان هناك أناس اذكياء ودهاة وانتهازيّون ممن كانوا يطمحون الي ان يجلبوا لأنفسهم منفعة دنيوية في ظل وجود هذا النبي الخاتم. في تلك الاثناء اندفع البعض بنيّة خالصة ومن اجل الوصول الي

ص: 30

الحق والحقيقة، وقدموا من بلاد قاصية واعتنقوا الاسلام، وآمنوا بالرسول وقاوموا في هذا السبيل الي حدّ التضحية بالنفس. ولكن في تلك الأثناء كان البعض يحدّثون انفسهم ويقولون: لابد ان هذا الحزب سوف ينتشر في العالم، ويستولي علي زمام الحكم ومن المؤكد ستكون وراءه منافع كثيرة. وعلي صعيد آخر كانوا يسمعون من الرسول الذي اثبتت معجزاته حقّانيّته، انه وعد بفتح خزائن كسري وقيصر. فكان هؤلاء يقولون لأنفسهم: لماذا لا يكون لنا نصيب من هذه المصالح. فلنؤمن ولو من اجل الحصول علي منافع دنيوية. وعند حلول الامتحان الالهي سقطت كل هذه الأقنعة بشكل أو آخر. وكشف الله عن ذلك قبل الهجرة في سورة العنكبوت في قوله: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ). وقد حان الآن وقت الامتحان. وكان اول امتحان، امتحان شعب أبي طالب، وما حصل فيه من حصار اقتصادي صارم، حيث بلغت الضغوط علي بني هاشم واصحاب رسول الله - صلوات الله عليه - حداً لا يُطاق; وكان انين اطفال بني هاشم يتناهي الي اسماع ذوي القلوب المتحجّرة من أهالي مكّة ولكن من غير أن يؤثر فيها. وكان شبّان ورجال بني هاشم يقتاتون علي التمر ولا يكاد احدهم يحصل علي تمرة واحدة في اليوم بل علي نصف تمرة احياناً. وفي تلك الظروف كانت اوضاع بني هاشم تثير الأسي في قلوب بعض الناس حتي ان بعض الكفار والمشركين في مكّة رقّوا لهم، مثلما فعل حكيم بن حزام (ابن اخ خديجة) الذي كان يجلب التمر لبني هاشم

ص: 31

خفية وبعيداً عن اعين المشركين. والسؤال الذي يتبادر الي الأذهان هنا هو: في تلك الظروف العصيبة التي دفعت بعض المشركين من اقارب خديجة الي تقديم العون لبني هاشم، اين كان كبار الصحابة من غير بني هاشم؟ ومن المؤكد انهم لم يكونوا في الشِعب; لأن الشعب كان فيه بنو هاشم فقط. اذاً فهم كانوا في مكّة، ولم يدخلوا مع الرسول في الشعب، بل ولم يرسلوا له تمرة واحدة، ولم يقدّموا ادني مساعدة للرسول في تلك المدّة الطويلة التي اقترنت بظروف عصيبة وضغوط لا تُطاق. هؤلاء الذين اسلموا في الظاهر لم ينفعوا الرسول حتي في الظروف التي كان يبادر فيها بعض مشركي وكفّار مكّة - من اقارب خديجة - الي تقديم العون خفية الي بني هاشم عندما تتوفر لهم الفرصة لهذا العمل احياناً. ولكن مسلمي قريش من غير بني هاشم لم يقدّموا أي عون للرسول في ذلك الظرف الصعب. إذاً نلاحظ بأن هؤلاء القريشيين من غير بني هاشم لم تكن لهم مواقف مشرقة قبل الهجرة. وأما ما بعد الهجرة فقد قلنا بأن مواقفهم كانت عبارة عن مخالفة الرسول في معركة بدر، والفرار في معركة أحد، وكذلك الفرار في معركة حنين. وقد اقر المؤرخون والمحدّثون (ومنهم البخاري) بأنهم قد فرّوا من المعركة. فقد نقل البخاري رواية عن ابي قتادة جاء فيها: «وانهزم المسلمون وانهزمت معهم فاذا بعمر بن الخطاب في الناس». وخاطب القرآن الكريم في سورة التوبة المسلمين بما يلي: (ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) (1) . ونقل البخاري عند ذكره لغزوة حنين، وكذلك ذكر مسلم في باب

ص: 32


1- 34. سورة التوبة، الآية 25.

الانفال بأن أبا قتادة قال بأن الناس قد انهزموا وانهزمت أنا معهم، ورأيت في تلك الاثناء بأن عمر قد انهزم أيضاً. وذكر أيضاً عند حديثه عن غزوة احد (ونقل البخاري عند حديثه عن غزوة خيبر في فضيلة اسماء بنت عميس، ونقل مسلم في باب فضائل الصحابة عند ذكر فضائل جعفر بن ابي طالب واسماء بنت عميس ونقل آخرون أيضاً) خبراً متواتراً وهو ان عمر بن الخطاب دخل علي حفصة واسماء عندها فقال عمر حين رأي اسماء: من هذه؟ قالت: اسماء بنت عميس. قال عمر الحبشية هذه البحرية هذه؟ فقالت اسماء: نعم. فقال عمر: سبقناكم بالهجرة فنحن احق برسول الله - صلوات الله عليه - منكم. فغضبت وقالت كلمة كذبت يا عمر كلا والله كنتم مع رسول الله - صلوات الله عليه - يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار أو في ارض البعداء البغضاء في الحبشة وذلك في الله وفي رسوله. وأيم الله لا اطعم طعاماً ولا اشرب شراباً حتي اذكر ما قلت لرسول الله فلما قالت اسماء لرسول الله صلوات الله عليه - فقال رسول الله ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم انتم اهل السفينة هجرتان... وقد ذكرنا بأن من الصحابة السابقين الذين هاجروا الي الحبشة - قبل الهجرة الي المدينة - عبيد الله بن جحش زوج ام حبيبة التي اصبحت في ما بعد زوجة رسول الله. فهذا الرجل كان قد أسلم في مكّة وهاجر الي الحبشة. وهناك وعدهم نصاري الحبشة بالاموال ليردوهم عن دينهم; فطمع هذا الرجل وتعجّل الحصول علي المال الذي كان قد أسلم من اجله، ولم يصبر علي أمل ان يحقق لهم

ص: 33

الرسول الثراء، وبمجرّد ان لاحظ بأن الظروف قد تهيّأت له ارتد عن الاسلام. أي ان هذا الرجل كان من السابقين، حيث كان قد أسلم قبل الهجرة ولكن اسلامه كان من اجل الدنيا كما بيّنت ذلك سورة العنكبوت، وأدي الامتحان ولكن فشل فيه، فصار من أهل النار. ومن هؤلاء الاشخاص أيضاً عبد الله بن خطل الذي هاجر مع الرسول، ووقف الي جانب رسول الله في المدينة وكان من السابقين من المهاجرين. وقد بعثه رسول الله لأمر مع عدد من الغلمان، فقتل عبد الله الغلمان في الطريق لخلاف وقع بينهم أو لسبب آخر، وفر الي مكّة والتحق بالمشركين. ومن هؤلاء الاشخاص أيضاً عبد الله بن ابي سرح أخو عثمان من الرضاعة، اسلم وهاجر الي المدينة، فارتد كافراً ورجع الي مكة وأخذ يثير الدعايات ضد رسول الله أكثر من أي شخص آخر. وكان يقول لقريش اني لأقول من نفسي مثل ما يجيء به فما يغيّر عليَّ فأنا أنزل مثل ما ينزل. فانزل الله تبارك وتعالي فيه: (وَمَنْ أَظْ-لَمُ مِمَّنِ افْتَرَي عَلَي اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ). سنأتي علي ذكر عاقبة هذين الشخصين ثم نستأنف الكلام عن الآخرين. ففي فتح مكّة أمر رسول الله جيش المسلمين ان لا يتعرضوا لمن لا يقاتلهم ولا يؤذوا أحداً من الناس واستثني من ذلك عدّة اشخاص منهم عبد الله بن خطل، وعبد الله بن ابي سرح ممن كانوا قد اقترفوا جرائم قتل، أو جنايات اخري. فقد أمر رسول الله ان يُقتلوا حيثما وجدوا حتي وان كانوا متعلّقين بأستار الكعبة. وقد

ص: 34

وجدوا عبد الله بن خطل الي جانب استار الكعبة فقتلوه هناك. وأما عبد الله بن ابي سرح فقد اختبأ في دار عثمان عدّة أيام الي ان هدأت الأوضاع، فجاء به عثمان قد أخذ بيده ورسول الله في المسجد. فقال: يارسول الله، إعف عنه، فسكت رسول الله ثم أعاد فسكت، ثم أعاد، فسكت رسول الله. فلمّا مر قال رسول الله لأصحابه: ألم أقل من رآه فليقتله؟ فقال رجل: كان عيني عليك يارسول الله ان تشير إليَّ فاقتله. فقال: ان الانبياء لا يقتلون بالاشارة. وقد نقلت كتب التاريخ هذه الحادثة. وكان هذا الشخص سبباً في قتل عثمان لاحقاً. فقد عيّنه عثمان في زمن خلافته والياً علي مصر، ونصب أخاه من امّه الوليد والياً علي الكوفة. وهذا الوالي يعني الوليد بن عقبة هو الذي فعل تلك الفضيحة الكبري في الكوفة. وأما عبد الله بن ابي سرح فقد انزل الكثير من الأذي والبلاء في أهالي مصر; فقتل من شاء منهم من الابرياء وسجن من شاء وحكم فيهم بما هو أسوأ من حكومة كسري وقيصر، الي ان اجتمع الناس هناك وساروا الي المدينة للتظلّم عند عثمان. وقد تظاهر عثمان بأنه قد قبل شكواهم ووعدهم ان يستبدله بوال آخر. ولكنه كتب إليه سرّاً بأن يقتل هذه الجماعة (التي قدمت عليه للشكوي) متي ما وصلت الي مصر وبعث ذلك الكتاب بيد مبعوث علي جمل سريع. وفي الطريق الي مصر شاهدت تلك الجماعة مبعوث عثمان وشكّوا في أمره، وفتّشوا ما كان معه فوجدوا في قربة الماء كتاب عثمان الذي يأمر فيه واليه علي مصر بقتل هؤلاء المتظلّمين القادمين من

ص: 35

مصر. فرجعوا الي المدينة وقتلوا عثمان. وقد ورد سرد هذه القضيّة بالتفصيل في كتب التاريخ. وأما ما قيل بأنه كانت لعمار وعلي يد في قتل عثمان فليس صحيحاً. وانّما كان عمار من بين من حاصروا دار عثمان، مثلما كان طلحة بينهم أيضاً وقد منع طلحة الماء عن عثمان. ولكن الذي قتل عثمان هم اولئك النفر الذين قدموا من مصر، والذين غضبوا علي عثمان وقالوا بأنه اذا اريد لنا ان نُقتل ظلماً فينبغي أوّلاً قتل أساس الظلم وهو عثمان. وخلاصة الكلام هي ان عبد الله بن ابي سرح الذي لم يؤمن بالله قط قد انتهي الي هذه العاقبة، وكان علي الدوام مصدراً للفتن والمظالم. - ومن الصحابة الآخرين أيضاً حاطب بن ابي بلتعة. والغاية من ذكر هذا الشخص هي ان البعض يزعم بأن كل البدريين من أهل الجنّة مهما فعلوا وان الله يثيبهم الجنّة جزاءً علي مشاركتهم في هذه المعركة، حتي وان عصوا لاحقاً او اقترفوا ذنوباً كبيرة (1) فقد شارك حاطب بن ابي بلتعة في معركة احد أيضاً، وقد أمره رسول الله بحماية جبل أُحد، وقال له ولمن معه: لا تتركوا موضعكم هذا سواء رأيتمونا انتصرنا علي العدو أم انتصر العدو علينا. ولكن هذا الرجل بمجرد ان رأي هزيمة المشركين طمع في ما تركوه من اموال، وغادر مكانه ونزل من الجبل علي وجه السرعة للحصول علي الغنائم. فاستغل خالد بن الوليد تلك الثغرة والتفّ منها علي المسلمين، مما أدي الي هزيمة المسلمين ومقتل حمزة سيد الشهداء.

ص: 36


1- 35. راجع: البخاري في باب غزوة فتح خيبر، وكتب التاريخ، وكتب التفسير في تفسير الآيات الاولي من سورة الممتحنة.

والخيانة الاخري التي ارتكبها هذا الشخص هي ان رسول الله عندما أمر المسلمين بالتجهّز والاستعداد لفتح مكّة، أوصاهم بكتمان الأمر لغرض الاحتفاظ بمبدأ المباغتة وسلب أهالي مكّة أية مقدرة علي المقاومة. ولكن هذا الصحابي; أي حاطب، كتب سراً كتاباً الي أهل مكّة يخبرهم فيه بما عزم عليه رسول الله، وبعث ذلك الكتاب بيد امرأة تدعي سارة، لتوصله الي مكّة. وقد اطلع رسول الله عن طريق الغيب علي هذه المؤامرة التي فعلها حاطب. ومن الطبيعي ان الشخص المتديّن لا يُقدم علي مثل هذا العمل ابداً. وقد نقل هذه القضية كل من البخاري ومسلم (1) ، ولكنهما اضافا اليها تلك الاكذوبة الاولي التي تزعم بأنَّ رسول الله قال: «لعل الله اطلع علي أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. والقول بأن يعملوا ما شاءوا وانه يدخلهم الجنّة، فيه مخالفة لصريح القرآن. فقد جاء في أول سورة الحجرات، ما يلي: (يَ-أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَ تَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لاَ تَجْهَرُواْ لَهُو بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَن تَحْبَطَ أَعْمَ--لُكُمْ وَ أَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ) (2) حيث كان بعض البدريين (3) يرفعون اصواتهم فوق صوت النبي فنزلت هذه الآية تأمرهم بأن لا ترفعوا

ص: 37


1- 36. في غزوة فتح مكّة، و....
2- 37. سورة الحجرات، الآية 2.
3- 38. هذا ما نقله البخاري، في ابواب التفسير، في تفسير سورة الحجرات - وابواب الاعتصام بالكتاب والسنة; ونقله الترمذي في ابواب تفسير القرآن، ونقله أيضاً النسائي واحمد وغيرهما متواتراً.

اصواتكم فوق صوت النبي، والا فان ذلك يحبط اعمالكم فتكونون من أهل النار، وانتم يا أهل بدر اذا اذنبتم فستكونون من أهل النار. ولكن نلاحظ أن هؤلاء يزعمون بأن لأهل بدر ان يفعلوا ما شاءوا فان الله يدخلهم الجنّة. وفضلاً عن ذلك فانَّ رسول الله الذي كان بدرياً بل وأسمي من البدريين، كان يقول: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْم عَظِيم) (1) وهو من يصفه الباري تعالي في كتابه الكريم بالخلق العظيم (وَ إِنَّكَ لَعَلَي خُلُق عَظِيم) (2) . ورغم كل ذلك فقد قال عنه في موضع آخر: (وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاَْقَاوِيلِ - لاََخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ - ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) (3) . اذاً فحينما لا يحق للرسول ان يقترف ادني معصية، وحينما يرفع هذان الشخصان صوتهما فوق صوت النبي تنزل آية تحذرهما بأن هذا السلوك يُحبط أعمالهما رغم انهما من أهل بدر، فكيف يمكن القول بأن الله يغفر لأهل بدر مهما فعلوا؟ وقد نصّت سورة الحجرات علي ما يلي: (لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَ تَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لاَ تَجْهَرُواْ لَهُو بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَن تَحْبَطَ أَعْمَ--لُكُمْ وَ أَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ). - ومن البدريين الآخرين قدامة بن مظعون، أخو عثمان بن مظعون. كان عثمان بن مظعون تقياً، وكان اخوه قدامة الصحابي البدري يشرب

ص: 38


1- 39. سورة يونس، الآية 15; سورة الانعام، الآية 15.
2- 40. سورة القلم، الآية 4.
3- 41. سورة الحاقة، الآيات 44 - 46.

الخمر ولكنه اخو زوجة عمر بن الخطاب، وقد أرسله عمر الي احدي الولايات، فانكب علي معاقرة الخمر هناك - مثلما فعل الوليد بن عقبة - فاضطر عمر الي جلده. هذا الرجل كان من البدريين. كانت هذه أمثلة لأشخاص شهدوا بدراً. فهل نستطيع بعدما ذكرنا من مواقفهم ان تقول بأن جميع من شهدوا معركة بدر عدول؟! فان كانوا عدولاً فلماذا يُجلدون؟ ولماذا تصدر من بعضهم مواقف خيانية؟ ولماذا يعلن الله غضبه علي حاطب في اول سورة الممتحنة ويقول: (يَ-أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَ-دًا فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَ مَآ أَعْلَنتُمْ وَ مَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ - إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَ يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ - لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَ لاَ أَوْلَ-دُكُمْ يَوْمَ الْقِيَ-مَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (1) وقد ذكر الله عز وجل هذه الجملة مقرونة بأداة الشرط «إن»; أي انهم لم يهاجروا كلهم في سبيل الله، وانّما كانت في قلوب قسم منهم مآرب اخري. وقد كشف الله ذلك بقوله: تسرّون اليهم بالمودّة، وأنا اعلم بما اخفيتم وما أعلنتم. ومن يفعل ذلك فقد ضلّ. ويتفق الجميع علي ان هذه الآية نزلت في حاطب بن بلتعة. اذاً فان كان بين الصحابة مثل هؤلاء الاشخاص

ص: 39


1- 42. سورة الممتحنة، الآيات 1 - 3.

فهل يجوز لنا أخذ ديننا وأحاديثنا عن أمثال هؤلاء الذين أراد احدهم ان يقضي علي الاسلام وعلي النبي بواسطة تلك الرسالة التي بعثها الي مشركي مكّة؟! هناك في كتاب البخاري رواية مفادها ان جري الحديث أمام عائشة عن أحد البدريين، فشتمته عائشة، فقيل لها: «بئس ما قلت، تسبّين رجلاً شهد بدراً» فذكرت قول أهل الإفك. أي قالت ان بعض البدريين من قالوا بالإفك، وهو اتهام احدي نساء النبي بالزنا، وهذه القضية أشارت اليها الآية 11 من سورة النور، حيث قال تعالي: (إِنَّ الَّذِينَ جَآءُو بِالاِْفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِي مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الاِْثْمِ وَ الَّذِي تَوَلَّي كِبْرَهُو مِنْهُمْ لَهُو عَذَابٌ عَظِيمٌ). فهؤلاء - بناءً علي ما نقله البخاري - من البدريين، وقد اقترفوا اثماً عظيماً، ووصفهم الله بالآثمين، ووعد في قرآنه الكريم بالعذاب العظيم لبعضهم، حيث نصّت الآية المذكورة علي ما يلي: (وَ الَّذِي تَوَلَّي كِبْرَهُو مِنْهُمْ لَهُو عَذَابٌ عَظِيمٌ). ذكرنا في اوائل البحث الآيات التي استدل بها البعض علي اثبات عدالة جميع الصحابة، ومنها الآية الشريفة: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُو أَشِدَّآءُ عَلَي الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَل-هُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَ نًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (1) واستدلوا علي ذلك بالقول بأن كل من مع رسول الله اشداء علي الكفار رحماء بينهم، ويكثرون من الصلاة، وكل هذه الصفات كناية عن العدالة. ولكننا قلنا في الرد علي هذا الرأي بأن

ص: 40


1- 43. سورة الفتح، الآية 29.

هناك معنيين محتملين في هذه الآية: 1- القيود التي تتضمّنها الآية الشريفة قيود توضيحية، وهو ما ينتهي الي التناقض مع سائر الآيات فيما لو قلنا بأن جميع الصحابة عدول بلا استثناء. 2- ان تكون هذه القيود احترازية، أي ان من يكون مع الرسول ينبغي ان تتجسد فيه هذه الصفات. اذاً فالذي لا تتوفر فيه هذه الصفات فهو ليس مع النبي في الحقيقة حتي وان كان في الظاهر معه; أي انه ليس من أصحابه. وهذا يعني بطبيعة الحال ان الصحابة الذين يفرون أمام الكفار ولا تراحم بينهم، خارجون من هذه الفئة. وقلنا بأننا اذا اخذنا بالاحتمال الأول فسيؤدي ذلك الي ايجاد تناقض في القرآن علي النحو التالي وهو ان الله سبحانه وتعالي يقول هنا بأن أصحاب الرسول لا يفرون في المعركة، بينما يقول في موضع آخر بأن أصحاب رسول الله فرّوا في المعركة ولجأوا الي الجبال. ويقول هنا بأنهم يكثرون من الصلاة بينما يقول في موضع آخر بأنهم اذا رأوا تجارة تركوا الصلاة خلف النبي وهرعوا الي تلك التجارة، ويقول أيضاً في موضع آخر بأنهم اذا سيقوا الي الحرب فكأنّما يساقون الي الموت ويراد قبض ارواحهم. وفي ضوء ذلك فما هو المعني المراد من الآية «اشداء علي الكفار»؟ ومن جانب آخر لدينا روايات متواترة تفيد بأن بعض هؤلاء الصحابة قد سلوا سيوفهم علي بعضهم وقتلوا الكثير من المسلمين مثلما فعل طلحة والزبير حيث فرّا أمام الكفار في معركة احد وفي معركة حنين، بينما ساروا تحت قيادة عائشة وهاجموا أهل البصرة

ص: 41

وقتلوا الكثير من مسلمي البصرة الذين لم تكن لهم يد في مقتل عثمان ولم يكن لهم علم بمقتله أصلاً. ثم ان كل الدماء التي اريقت ظلماً وعدواناً كانت علي يد أمثال هؤلاء الصحابة الذين فروا من المعركة، وارتكبوا أفضع الجرائم وقاموا بأكبر فساد في الارض. فكم قتل معاوية من الناس الأبرياء؟! وكم قتل ولاة وأمراء معاوية من المسلمين. فقد ذبح بسر بن أرطأة طفلي عبيد الله بن العباس أمام عين امّهما فجنّت امهما. وقتل عمر بن سعد بن ابي وقاص - الذي كان من الصحابة - سيد شباب أهل الجنّة الحسين سبط الرسول، وقتل حتي طفله الرضيع. فكان جنكيز خان قائد المغول اكثر رحمة ورأفة منهم في مواضع كثيرة. وفي ضوء ما ذكرناه كيف تصدق علي أولئك الصحابة صفة (رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ) (1) والحقيقة هي انهم ما كانوا يتحلّون بأي من هذه الصفات. ولكي لا تكون هذه الآية في تعارض مع الآيات الأخري ولا مع ما لدينا من المتواترات، فلابد ان نحمل القيود التي وردت في الآية الشريفة التي ذكرناها آنفاً، علي محمل القيود الاحترازية. ولا بأس بأن نشير هنا الي ان بعض الصحابة قالوا بأنهم جلسوا مع رسول الله ومشوا معه، وصلوا خلفه، وما شابه ذلك، واعتبروا ذلك منقبة لهم. ولكن الله عز وجل قال في رد هذا الوهم بأن من يكونون مع رسول الله لا يفرون في المعركة ويتراحمون في ما بينهم. وهذا ما كشفت عنه الآية 62 من سورة النور، والآية 29 من سورة الفتح. وهنا نود ان نسلّط الضوء علي هذا الموضوع من زاوية اخري، وهو ان

ص: 42


1- 44. سورة الفتح، الآية 29 (وَ الَّذِينَ مَعَهُو أَشِدَّآءُ عَلَي الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ).

الحرف «مع» في قوله «والذين معه» يفيد معنيين; أحدهما بمعني الوجود مثل وجود الله مع الناس حيث ان الله موجود مع كل الناس: (وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) (1) . والآخر بمعني المناصرة والمؤازرة: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّ الَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (2) ، كأن أقول: انا معك ولستُ معه; أي انني اناصرك واعاضدك. والحرف «مع» في هذه الآية مشترك لفظي بين معنيين. فالذين كانوا يقولون نحن مع رسول الله، يقصدون انهم موجودون الي جانبه اينما ذهب. أما الشيء الذي يُعتبر منقبة ويدعو الي الفخر فهو المعية بالمعني الثاني; أي مناصرة ومؤازرة رسول الله (صلوات الله عليه). وقد أراد الله تعالي في هذه الآية ان يكشف عن هذا التلابس ويزيل هذا الخلط وهو ان الوجود مع رسول الله شيء آخر غير مناصرته. وانصار رسول الله هم من لا يتركونه وحده في المعركة. وأما وجود الأبدان الي جانب الرسول فلا يُعتبر دليلاً علي المناصرة، والمثال الواضح علي ذلك هو قوله تعالي: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّ الَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ). فاذا كان المعني هو الوجود والحضور فان الله موجود مع جميع الناس، ولا يقتصر وجوده علي المحسنين، فهو تعالي موجود مع الفسّاق أيضاً. ولكن اذا اخذنا المعيّة بمعني النصرة، فهو عز وجل مع المتقين ومع المحسنين فقط.

ص: 43


1- 45. سورة الحديد، الآية 4.
2- 46. سورة النحل، الآية 128.

اذاً فليس كل معيّة فخراً ومنقبة. فمن يريد اغتيال الرسول، او يقوم بأعمال التجسس فهو أيضاً مع الرسول، وموجود الي جانبه، ولكن ليس في ذلك منقبة ولا مفخرة له. اذاً لو اخذنا هذه المعية بمعني الوجود فسيكون هناك تناقض، ولا يستقيم المعني إلا اذا اخذنا بالوجه الثاني منها وهو بمعني النصرة والمؤازرة. وهذه الآية واحدة من أهم الآيات التي يتخذ منها البعض، وخاصة الوهابيين، اداة للمناورة حيث ينبغي الالتفات الي ان المعني سيكون علي النحو التالي: ان اصحاب رسول الله الذين معه اشداء علي الكفار ورحماء بينهم... وهو ان قسماً من الصحابة كانوا يتحلّون بهذه الصفة. وهناك آية اخري من هذه الآيات وهي الآية الثامنة من سورة الحشر: (لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَ-جِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَ-رِهِمْ وَ أَمْوَ لِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَ رِضْوَ نًا وَ يَنصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُو أُوْلَ-ل-ِكَ هُمُ الصَّ-دِقُونَ). يفسر انصار عدالة جميع الصحابة هذه الآية علي النحو التالي: كل من هاجروا مع رسول الله صادقون من غير استثناء. ولكن ينبغي الرد عليهم. بالقول بأن هذا الكلام يصح فيما لو ثبت ان هجرتهم جميعاً كانت لرضا الله; وذلك لأن الآية نصّت علي انهم «يبتغون فضلاً من الله ورضواناً»; أي الذين هاجروا لنيل رضا الله وليس لاغراض دنيوية. ولو عدنا الي الوراء وألقينا نظرة اخري علي سورة الممتحنة، نلاحظ ان الله عز وجل يوجّه الخطاب الي بعض المهاجرين مثل حاطب بالقول: (إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَ-دًا فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي).

ص: 44

اذاً يفهم من ذلك بأنه لم تكن كل هجرة في سبيل الله وانما هاجر البعض طلباً لاغراض دنيوية، ومنهم اولئك الذين فرّوا في غزوة احد وفي غزوة حنين، او اولئك الذين أدّي طمعهم في الغنائم في معركة احد الي هزيمة المسلمين، او الذين انسلّوا من صلاة الجمعة عند سماع طبول التجارة. وقد ورد في روايات متواترة (1) عن رسول الله انّه قال بأن كل امرء ينال ما هاجر من اجله; فإن كانت هجرته من اجل الآخرة فسينالها، ومن كانت هجرته للدنيا فهجرته الي ما هاجر إليه. أي انهم لم يهاجروا كلهم في سبيل الله، وانما هاجر قسم منهم في سبيل الله فيما هاجر آخرون طلباً للدنيا. وجاء أيضاً في سياق تلك الآية ما يلي: «ينصرون الله ورسوله». وهناك نقاش أيضاً في صغري هذه القضية، وهو هل يمكن ان يوصف الذين فرّوا عند الخطر وحضروا حين تقسيم الغنائم بأنهم ينصرون الله ورسوله. وبالاضافة الي ذلك فقد لاحظنا في سورة آل عمران بأن الله خاطب هؤلاء المقاتلين الذين شهدوا معركة احد بالقول: (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاَْخِرَةَ)، فهل من جاء ليصيب شيئاً من الدنيا او ليقوم بعمل تجسسي ضد المسلمين، يمكن ان يوصف ب- «ينصرون الله»، أم انه جاء لنيل حاجة دنيوية؟! اذاً فهذا القيد «يبتغون» قيد احترازي; أي ان هؤلاء المهاجرين صادقون بشرط ان يكونوا قد هاجروا في سبيل الله أولاً، وان يكونوا قد نصروا الله ورسوله حقاً وحقيقة ولم يفرّوا. واذا كانت هذه الآية دالة علي عدالة وصدق جميع المهاجرين، فانها تقع علي طرف

ص: 45


1- 47. نقلها البخاري ومسلم أيضاً وغيرهما.

نقيض مع الآيات الاخري، ومع السُنّة المتواترة; لأن الصحابة كان فيهم المنافقون والفاسقون. اذاً هذه الآية لا تدل علي صدق جميع المهاجرين، وانما جاءت في مدح من لم يفرّوا ولتبيّن بأن هؤلاء هم الصادقون. والصادقون حقاً هم من هاجروا لله واستقاموا حتّي النهاية، ونصروا الله ورسوله في المواطن الضرورية، وباتوا علي فراش الرسول وعرّضوا انفسهم للخطر في مواضع مثل شعب ابي طالب، في الوقت الذي كان فيه الكثيرون ينامون رغداً في منازلهم. والآية الاخري التي يستدلون بها وسبق ان ذكرناها هي الآية 100 من سورة التوبة وهي: (وَ السَّ-بِقُونَ الاَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَ-جِرِينَ وَالاَْنصَارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَ-ن رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُواْ عَنْهُ...). ولو اردنا ان نأخذ كلمة «الاولون» بانّها مجرّد تفسير توضيحي لكلمة «السابقون» فسيكون ذلك لغواً، في حين ينبغي القول بأن الله اراد هدفاً معيّناً من خلال الإتيان بهذا القيد، وهو ان هذا القيد قيد احترازي والمراد هو الاولون من السابقين. وهذا هو المعني الصحيح للآية. ومعني هذا ان الاوائل من سابقي الصحابة صالحون مطلقاً من غير قيد أو شرط، ولكن بقية السابقين وسائر الناس صالحون بشرط اتباع اوائل السابقين; أي اتباع أول رجل وأول امرأة من المهاجرين والأنصار، وليس الثاني و.... وفي ضوء ما سبق ذكره فان هذه الآية لا تدل علي عدالة جميع الصحابة، وانما تدل علي عدالة أَوَّلي المسلمين.

ص: 46

اذاً اولو المسلمين، مرضيون مطلقاً عند الله وهم اهل الجنّة والآخرون بشرط الاتباع للاولين. نتناول في الفصل التالي بيان معني كلمة «الأوّلون» بشكل اكثر تفصيلاً.

من هم أول المسلمين

نصت الآية 100 من سورة التوبة علي ما يلي: (وَ السَّ-بِقُونَ الاَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَ-جِرِينَ وَالاَْنصَارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَ-ن رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُواْ عَنْهُ). أول المسلمين من الرجال علي (1) ، ومن النساء خديجة (2) ، وهما من المهاجرين طبعاً. وأما من الأنصار فأولهم اسلاماً اسعد بن زرارة وذكوان. ويريد تعالي ان يبيّن في هذه الآية ان هؤلاء مرضيون عند الله بمطلق القول. وكذلك من يتّبعون الاولين باحسان فهم مرضيّون

ص: 47


1- 48. لأن رسول الله دعا اولاً اهل بيته ومن في بيته وكان تحت تربيته علي بن ابي طالب من الطفولة. ولذا تواترت الاخبار في انه اول من أسلم. وهذا يناسب تبليغ رسول الله. وبعد ذلك دعا من بني هاشم مثل جعفر بن ابي طالب و... وروي الطبري عن محمد بن سعيد قال: قلت لابي: أكان ابو بكر أولكم اسلاماً؟ قال: لا بل اسلم قبله خمسين. وهذا يوافق ما ورد في اسلام ابي بكر انه كان بعد الفترة السرية التي استمرت ثلاث او خمس سنوات، بعد ان انذر النبي عشيرته الاقربين وبعد ان أُمر بالصدع بالامر ودعوة الناس عامة كما نقل ابن كثير في السيرة النبوية ان ابا بكر لقي رسول الله وقال احق ما تقول قريش يامحمد من تركك ألهتنا... وعن السيرة الحلبية قال ابو بكر: فلما قدمت مكة في التجارة استبشروا وظنّوا انه فتح عليهم بقدومي فتح، واجتمعوا الي وشكوا ابا طالب - وهذا كان بعد اربع أو ست سنوات من اعلان دعوته صلي الله عليه و سلم.
2- 49. لأن رسول الله دعا اولاً اهل بيته ومن في بيته وكان تحت تربيته علي بن ابي طالب من الطفولة. ولذا تواترت الاخبار في انه اول من أسلم. وهذا يناسب تبليغ رسول الله. وبعد ذلك دعا من بني هاشم مثل جعفر بن ابي طالب و... وروي الطبري عن محمد بن سعيد قال: قلت لابي: أكان ابو بكر أولكم اسلاماً؟ قال: لا بل اسلم قبله خمسين. وهذا يوافق ما ورد في اسلام ابي بكر انه كان بعد الفترة السرية التي استمرت ثلاث او خمس سنوات، بعد ان انذر النبي عشيرته الاقربين وبعد ان أُمر بالصدع بالامر ودعوة الناس عامة كما نقل ابن كثير في السيرة النبوية ان ابا بكر لقي رسول الله وقال احق ما تقول قريش يامحمد من تركك ألهتنا... وعن السيرة الحلبية قال ابو بكر: فلما قدمت مكة في التجارة استبشروا وظنّوا انه فتح عليهم بقدومي فتح، واجتمعوا الي وشكوا ابا طالب - وهذا كان بعد اربع أو ست سنوات من اعلان دعوته صلي الله عليه و سلم.

عند الله أيضاً. أي ان المجموعة الثانية يرضي عنها الله أيضاً ولكن بشرط أن تتبع المسلمين الأولين باحسان: (وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَ-ن رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ). أي علي جميع الصحابة اتّباعهم. وقد وردت هذه الآية في سورة التوبة التي يري البعض انها آخر سورة نزلت من القرآن، ولكنها في الواقع من اواخر السور. عندما نزلت سورة التوبة في اواخر حياة النبي، كانت خديجة قد توفيت، ولم يبق من المهاجرين الاوائل الا علي، وأما من اوائل المسلمين من الانصار، فهو اسعد بن زرارة الذي كان قد توفّي في السنة الاولي للهجرة). ومن بعد رسول الله لم يبق من هؤلاء الثلاثة الاوائل من المسلمين الا علي. اذاً فالنتيجة التي تُفهم من هذه الآية هي انّه يا ايها المسلمون إِتَّبِعوا علي بن ابي طالب; لأنّه عدا الاولين، يشترط في من يريدون دخول الجنّة ونيل رضا الله ان يكونوا «اتبعوهم باحسان». وعلي هذا الأساس فالمسلمون علي صنفين: 1- الأولون وهم القادة والأئمة. 2- سائر المسلمين وهم تبع لهم، وينحصر ذلك في من يتّبعونهم باحسان وهم اتباع علي وشيعته. ولكن هل كانت عائشة او كان طلحة والزبير ومعاوية تبعاً صالحاً وحسناً لعلي اول المسلمين؟

القرآن و مجهولية اكثر المنافقين

وبعد ان اتضح لدينا بأنه كان هناك بين الصحابة منافقون حتي قبل الهجرة، فالسؤال الذي يتبادر الي الأذهان هو: هل كان كل المنافقين معروفون أم لا؟ قال تعالي في الآية 101 من سورة التوبة: (وَمِنْ

ص: 48

أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَي النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)أي ان من اهل المدينة من تمرّسوا علي النفاق واتقنوه الي درجة انك ايها الرسول مع ما لديك من مقدرة عقلية، لم تستطع معرفة نفاقهم ولم تعلم بانهم منافقون، وان الله فقط يعلمهم «لا تعلمهم نحن نعلمهم». وهذه القضية «قضية مجهولية الكثير من المنافقين» علي درجة كبيرة من الأهمية; وسبب أهميتها هو ان البعض يزعم بأن المنافقين كانوا معروفين، واذا عزلناهم جانباً يبقي الصحابة الآخرون كلهم عدول ويمكن الوثوق باقوالهم، بينما تقول الآية 101 من سورة التوبة بأن هذا الكلام غير صحيح بل ان الكثير من منافقي المدينة الذين كانوا ملتفّين حول رسول الله (صلوات الله عليه) كانوا مجهولين وكانوا يتقنون النفاق الي درجة ان رسول الله الذي كان اعقل الناس، استعصت عليه معرفتهم ولم يلتفت الي نفاقهم. وهذا يعني ان بقيّة الناس بطريق اولي لم يعرفوهم وبالنتيجة فقد صدّقوا رواياتهم. أي انهم اذا نقلوا حديثاً عن رسول الله كان بقية الصحابة وسائر الناس يصدّقونهم حتي وان كان ذلك الحديث موضوعاً أو كاذباً. وأما بالنسبة الي تمرّسهم في النفاق ومهارتهم فيه، فيُعزي الي ان النفاق علي نوعين: احدهما: نفاق سطحي يمكن كشفه بسهولة من لحن القول ومن اعمال الفرد وسلوكه وكلامه، ولا تستعصي معرفة هذا النوع من النفاق. والآخر: نفاق عميق كأن يتخفّي المرء وراء سبعة حجب - كما يُقال - ثم يأكل الخبز والخل لكي يُهيّء الأجواء للوصول الي مآربه كالرئاسة مثلاً، ويحاول مثل هذا المنافق ان لا يكشف عن ذاته ولو

ص: 49

مستقبلاً. وجملة «مردوا علي النفاق» تعني هذا النوع من النفاق. يقول الله تعالي ايها النبي انهم انغمسوا في النفاق الي درجة انك مع ما لديك من عقل ومعرفة وذكاء، تعجز عن معرفتهم; أي يُظن في الظاهر بأنهم علي ايمان كامل ولا يظن احد منهم النفاق وحتي النبي نفسه ما كان يعلم نفاقهم. وهذه الآية تكشف صراحة عن وجود منافقين كان يُظن بأنهم مؤمنين حقيقيين. وهناك شاهد آخر يبرهن علي ان الكثير من المنافقين الفاعلين كانوا غير معروفين، ولهذا هدد الله بفضحهم في معركة الاحزاب: (لَّ-ل-ِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَ-فِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً) (1) . يقول الله تعالي في هذه الآية بأن المنافقين اذا لم يكفّوا عن اثارة الفتن التي تعصف بالمدينة فسوف نكشف عنهم ونفضحهم لكي لا يتمكنوا من مجاورة الرسول. أي انهم لازالوا مجهولين لدي الناس ويعيشون الي جوار رسول الله، ولو عرفهم الناس لقطّعوهم ارباً ارباً. وهناك شاهد آخر يثبت عدم معرفة المسلمين بهؤلاء المنافقين، وهو قوله تعالي: (وَلَوْ نَشَآءُ لاََرَيْنَ-كَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَ-هُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَ--لَكُمْ) (2) وهذا يعني ان الرسول لم يكن يعرفهم، فما بالك بالناس العاديين. فهذه الآية تبيّن صراحة بأن المنافقين كانوا مجهولين. وفي ضوء كل هذه الآيات كيف يتسنّي لهم القول بأنَّ المنافقين كانوا كلهم معرفون.

ص: 50


1- 50. سورة الاحزاب، الآية 60.
2- 51. سورة محمد، الآية 30.

اما الفاسقون من الصحابة، فلو رجعنا الي كتب الحديث عند جميع المسلمين، ولاحظنا شأن نزول الآيات المتعلّقة بالحدود، مثل حد الزنا، وحد شرب الخمر، وما الي ذلك، لوجدنا ان اول من نزلت فيهم كانوا من الصحابة وقد اقيمت عليهم تلك الحدود. اذاً لو قلنا بأن جميع الصحابة كانوا عدولاً ولم يكن فيهم فاسق ولا منافق، فان في قولنا هذا مخالفة لصريح القرآن، ومخالفة للمتواترات من الاحاديث. ومن الطبيعي ان مثل هذا الاعتقاد بعدالة جميع الصحابة (حتّي المنافقين والفّساق منهم) يتعارض مع القرآن والسنّة المتواترة ويوجب الارتداد لأنه تكذيب لله ولرسوله. ان القول بأن جميع الصحابة عدول وليس فيهم منافق ولا فاسق ينطوي علي تكذيب القرآن الذي يصرّح بأنهم كان فيهم الفاسق والمنافق. سبق ان نقلنا عن البعض قولهم بأن هناك دليل عقلي علي عدالة جميع الصحابة وهو قولهم: «لو شككنا بعدالة بعض الصحابة لانقطعنا عن سنّة رسول الله» ثم نقلنا قول صاحب كتاب تهذيب التهذيب الذي أفرط في الرأي حين قال: «الذين ينتقصون احداً من اصحاب رسول الله يريدون ان يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسُنّة». ثم عُرض نقض لهذا الاستدلال وهو أنه ثبت في القرآن والسنّة المتواترة بأن بعض الصحابة عدول وبعضهم فاسقون ومنافقون. ولهذا السبب لا يمكن القول بأن جميع الصحابة بلا استثناء عدول حتي اولئك الذين وصفهم القرآن والسنّة المتواترة بأنهم منافقون او فاسقون. ونريد الآن ان نقول بأن القضية علي العكس مما قاله صاحب

ص: 51

تهذيب التهذيب لأنه الله تعالي قال بأن الصحابة فيهم الفاسق والمنافق، وفيهم العادل. وكذلك نصّت الاحاديث النبوية علي هذا المعني أيضاً. وكان الصحابة يعتقدون ازاء بعضهم الآخر بهذا الرأي نفسه وهو ان بعض الصحابة فاسقون ومنافقون، وليس هناك صحابي واحد يؤيد صحّة رأي تهذيب التهذيب. بل ان هذا الاعتقاد ب-«عدالة جميع الصحابة بدون استثناء» بدعة ابتدعها أنصار بني امية لاحقاً. ولم يكن في زمان الصحابة صحابي واحد يعتبر جميع الصحابة عدول بلا استثناء; ولهذا السبب فقد كانوا يتحاربون ويُفسّق بعضهم الآخر، ويقتل بعضهم الآخر. وعلي العموم يمكن القول بأن الصحابة يجمعون علي عكس ما ذهب إليه أمثال (1) صاحب تهذيب التهذيب. والنتيجة التي نريد التوصّل اليها تقع علي طرف نقيض من كلام تهذيب التهذيب، وهي لو ان مؤلف هذا الكتاب التفت الي ما يعنيه كلامه، وما الذي يستلزمه قوله بان «جميع الصحابة عدول بلا استثناء»، لكان هو نفسه مرتداً. فلو التفت مؤلف تهذيب التهذيب لعلم ان كلامه هذا يعني تكذيب

ص: 52


1- 52. ورد في مقدمة كتاب الجرح والتعديل لابن حاتم الرازي - قال ابن حاتم: «الصحابة عدول الامة وائمة الهدي وحجج الدين»; ومقدمة كتاب الاستيعاب لابن عبد البر، قال: «ثبت عدالة جميعهم»; وقال ابن الاثير في مقدمة كتاب اسد الغابة: «الصحابة كلهم عدول»; وفي الفصل الثالث من كتاب الاصابة لابن حجر، ص 17 - 18: «الذين ينقصون الصحابة يريدون ان يجرحوا شهودنا ويبطلوا الكتاب والسنة». وجاء هذا أيضاً في كتاب الكبائر للذهبي، ص 238. واستدلّ الخطيب علي اثبات عدالتهم بالآية: (كنتم خير امة اخرجت للناس). وهذا طبعاً خطاب للامة ولا يختصّ بالصحابة.

الله ورسوله، ومن البديهي ان كل من يكذّب الله ورسوله فهو مرتد. ولكننا نقول عسي ان يكون انصار «عدالة جميع الصحابة بلا استثناء» قد قالوا هذا الكلام جهلاً. اذاً فالقضية علي العكس مما قال به مؤلف تهذيب التهذيب حين قال بأن من يشك في عدالة بعض الصحابة مرتد. ولكن واقع الحال عكس ذلك; أي ان من يقول بعدالة جميع الصحابة وينكر وجود المنافقين والفاسقين بينهم، ويلتفت الي ان القول بأن جميع الصحابة عدول بلا استثناء، ينطوي علي تكذيب «لله الذي صرّح بفسق الوليد بن عقبة، ولا يعتبر المنافقين من الصحابة عدول»، فهو في الواقع مرتد. هل كان المنافقون كثيرين بين الصحابة؟ من الافضل هنا ان نري ما يقوله القرآن. فقد ورد في القرآن الكريم ما يلي: (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَي مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّي يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (1) يقول البعض احياناً بأن المنافقين لم تكن تُطلق عليهم تسمية المؤمنين. ولكن القرآن يُسمّي المنافقين مؤمنين أحياناً; وذلك لأنهم في الظاهر مؤمنين. يقول الله تعالي في هذه الآية اننا لا نترك المؤمنين علي ما هم عليه ولا نقبل ايمانهم بسهولة، بل نختبرهم ونبلوهم ليُعلم الخبيث من الطيب. والطيب من يكون علي ايمان خالص لا تشوبه شائبة، والخبيث يراد به المنافق ومن في قلبه مرض.

ص: 53


1- 53. سورة آل عمران، الآية 179.

اذاً الآية 179 من سورة البقرة تقول ان هناك بين الصحابة من هو طيب، وهناك من هو خبيث ومنافق. ثم تأتي الآية 100 من سورة المائدة لتقول: (قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ...)ايها الرسول لا يستوي عندي الخبيث والطيب، وان كانت كثرة الخبيث مدعاة لتعجّبك; أي ان الخبثاء بين المؤمنين في زمن الرسول كانوا من الكثرة بحيث حتي الرسول - صلوات الله عليه - كان يتعجّب من ذلك. ومن الأدلة الاخري علي كثرة المنافقين وطلاب الدنيا بين الصحابة ما حصل في غزوة الأحزاب حيث ادت اشاعاتهم الي اثارة الهلع في نفوس أهل المدينة وكادت ان تدفعهم لاستسلام للعدو. وقد هددهم الله ان هم لم يسكتوا، فسيفضحهم للناس، حيث ورد في الآية 60 من سورة الاحزاب، ما يلي: (لَّ-ل-ِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَ-فِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً).

ص: 54

الافتراض المسبق الثاني صحة أحاديث الكتب الستة

الرواة العدول والرواة المنافقون والفاسقون

خلاصة ما توصلنا إليه من القرآن الكريم حول «الصحابة» هو ان «الصحابة» لم يكونوا علي نمط واحد. وبالنتيجة فان الروايات التي نقلها «الصحابة» ودوّن قسم منها في الكتب التي دُوّنت في القرنين الثاني والثالث، تُقسم الي مجاميع مختلفة: 1- مجموعة روايات الأقلية المؤمنة حقيقة; أي الصحابة العدول. 2- مجموعة روايات عدد من الصحابة الفاسقين والظالمين. 3- مجموعة روايات اكثرية الصحابة وهم أهل الدنيا، الذين تركوا رسول الله وحيداً في غزوتي أحد وحنين عند مواجهة الخطر، وتركوا رسول الله وحده قائماً في صلاة الجمعة عند سماع صوت اللهو والتجارة. وتوجّهوا من بعد رسول الله الي حيث ما كانت مصالحهم الدنيوية، وسكتوا أمام البدع وامام الظالمين، أو وضعوا الاحاديث لصالح الظلمة لقاء الحصول علي المال، ونسبوا تلك الاحاديث الي رسول الله، أو اراقوا دماء الابرياء. وهذا التقسيم الثلاثي للصحابة وأحاديثهم ينطبق علي الاحاديث التي نسبوها الي رسول الله في السنوات الاولي بعد وفاته وفي منتصف القرن الأول.

ص: 55

اما دور السلاطين في نقل الاحاديث ووضعها وتدوين كتب الحديث والتاريخ: من ذا الذي يستطيع إنكار دور السلاطين في الترويج لمذهب معيّن او تمجيد وتعظيم شخصية، واسدال ستار النسيان علي شخصية اخري؟ نذكر علي سبيل المثال ان بني هاشم كانوا هم الحُماة الوحيدون لرسول الله في شعب ابي طالب، وكان علي في كل ليلة يستبدل مكانه بمكان رسول الله، ويضع سيفه الي جانبه مجرّداً لكي يُقتل فداءً لرسول الله فيما لو اغار عليه المشركون ليلاً وارادوا قتله، هذا في ما يتعلّق بعهد ما قبل الهجرة. وأما بعد الهجرة، فمتي ما شعر المسلمون بالهزيمة وتركوا الرسول بين ايدي الاعداء العُتاة، مثلما حصل في غزوتي أحد وحنين، كان علي والحمزة من بني هاشم هما اللذان ثبتا في ساحة المعركة، وجعلا من انفسهما درعاً له ويصدّا عنه سهام الاعداء. وكان معاوية في جيش الشرك الي جانب ابيه ابي سفيان يشاهد مآثر علي في جيش الاسلام، وكان معاوية قد رأي بأم عينه قبل ذلك مقتل اخيه وخاله وجدّه المشركين علي يد عليّ وبني هاشم في معركة بدر الكبري. ولكن بقي معاوية وابو سفيان وسائر بني امية مصرّون في غزوة الاحزاب وغيرها علي عدائهم لله ولرسوله، الي ان شاهدوا علي حين غرّة ان موطنهم مكة قد حوصر تماماً من قبل رسول الله، وخضع له، وانهم سيقتلون ان لم يُعلنوا اسلامهم، فاضطروا الي التظاهر بالاسلام. وبعد ان تمكنوا - بعد رسول الله - من حكم الشام بأمر ابي بكر

ص: 56

وعمر، وصار اولاد ابي سفيان ولاة علي الشام ابتداءً بيزيد بن ابي سفيان، ومن بعده معاوية بن ابي سفيان، ومن بعد ابي بكر وعمر حين آلت الخلافة الي عثمان بن عفان الاموي، أضحت كل بلاد المسلمين بيد بني امية، غير ان حكومة عثمان الاموي سقطت بسبب دعمه غير المحدود لأقاربه. وعادت خلافة المسلمين الي علي بن ابي طالب من بني هاشم. وأما «معاوية» الذي شاهد من قبل تضحيات علي في غزوات رسول الله، ووصايا رسول الله بعلي وعترته، فقد شهر سيف الانتقام ضد الاسلام وضد قائد المسلمين علي بن ابي طالب تحت ذريعة الانتقام لدم عثمان (الذي لم يكن لعلي أي يد في قتله وانما كانت عائشة هي التي أمرت بقتله وكان معاوية قد تهاون في نصرته) وخرج معاوية عن طاعة الامام المفترض الطاعة، ولم يرحم حتي الاطفال، بل ذبح قائده الصحابيُ بسر بن أرطأة طفلي عبيد الله بن العباس أمام عيني امهما مما ادي بها الي الجنون. ورغم ان معاوية بن ابي سفيان كان قد سمع من رسول الله قوله بأن بغض علي بن ابي طالب علامة النفاق، فانه كان يظهر بغضه لعلي (1) ، وقد قاتل علياً (2) وأمر بسبّه في صلاة الجمعة. وبعد استشهاد علي بن ابي طالب وتسلط معاوية علي العالم الاسلامي، أمر ان يُسب

ص: 57


1- 54. مسلم، ابواب مناقب الانصار: حب الانصار وحب علي علامة الايمان وبغضهما علامة النفاق.
2- 55. ابن ماجة، ابواب المناقب، مناقب الحسن والحسين. قال رسول الله لعلي وفاطمة والحسن والحسين: انا سلم لمن سالمتم وحرب لمن حاربتم.

علي منابر صلاة الجمعة أوّلَ القوم اسلاماً واكثرهم فداءً لرسول الله، واقدم علي قتل ابناء واصحاب علي بن ابي طالب; فقد سمّ معاوية أحد سبطي رسول الله وأحد سيدي شباب أهل الجنّة (1) وهو الحسن بن علي، ثم قتل أصحاب علي مثل حجر بن عدي ذلك الصحابي الجليل العابد الزاهد وصحبه، لا لجرم اقترفوه وانّما لأنهم كانوا من الموالين لعلي بن ابي طالب ولأنّهم امتنعوا عن سبّه، ثم قتل ميثم التمار وسائر أصحاب علي، من اجل التمهيد لكي يستخلف علي المسلمين من بعده ابنه يزيد شارب الخمر والزاني بالمحارم. وبعدما تسلّط يزيد علي رقاب المسلمين سار فيهم بسيرة أبيه، ولما قام سبط رسول الله الحسين بن علي للأمر بالمعروف والنهي عن منكر يزيد، وثار ضد ظلم وفسق وفجور يزيد، لم يتورّع يزيد بن معاوية عن قتل الحسين بن علي وسائر أهل بيته وهم أهل بيت رسول الله الذين قدموا برفقة الحسين نحو الكوفة. وقتل حتي الطفل الرضيع وصرّح انه ثأر من بني هاشم لدماء اجداده واقاربه الذين قتلوا في بدر. وبعد مقتل الحسين سيّر يزيد جيشاً بقيادة مسلم بن عقبة الي المدينة فقتل من قتل من أهلها واستباحها لجيشه ثلاثة أيام ليفعلوا ما يشاءون بأموال الناس وأرواحهم واعراضهم (2) .

ص: 58


1- 56. نقل الترمذي وابن ماجه وغيرهما، قال رسول الله: الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة.
2- 57. تاريخ الطبري وغيره من كتب التاريخ. وجاء ذكر ذلك في كتاب البخاري في باب غزوة بدر حول واقعة الحرّة.

ثم هجم جيش «يزيد» علي مكّة، واحرق أستار بيت الله وارتكب الكثير من الاعمال الشنيعة. وسار خلفاء يزيد من بني أمية من الشق المرواني علي هذا النهج الذي اختطه معاوية ويزيد في قتل أئمة العترة وأهل البيت وموالي علي بن ابي طالب، واستمر في لعن علي من فوق منابر صلاة الجمعة. سؤال: فمن الذي كان يجرأ في مثل تلك الظروف علي ذكر مناقب علي بن ابي طالب وعترة الرسول؟ إلاّ ان يكون قد وطّن نفسه علي الموت. وهكذا فقد أُسدل ستار النسيان غالباً علي الأحاديث النبوية التي وردت في فضائل علي بن ابي طالب. بل حصل علي العكس من ذلك، إذ كان بنو أمية يميلون الي عثمان بسبب نسبه الأموي، ورغم ان عثمان قُتل علي يد المصريين بالتعاون مع أصحاب رسول الله، ولم يدفن الصحابة جثة عثمان ثلاثة أيام، الي ان جاء اقارب عثمان من بني أمية ودفنوه في حش الكوكب وهو مقبرة لليهود; لأن أصحاب رسول الله لم يسمحوا بدفنه في مقبرة المسلمين; لأنهم لم يعتبروه مسلماً، اذ ان دفن المسلم من الأمور المسلّم بها في الإسلام. ولكن بعد مضي قرن من تسلط سلاطين وحكام بني امية علي المسلمين وما قاموا به من دعايات واسعة، اختلقوا لعثمان بن عفان الكثير من المناقب والفضائل التي لو صحّت واحدة منها فقط وكان قد سمع بها أصحاب رسول الله، لما اقدموا علي قتله قط، أو كانوا قد أذنوا علي الاقل بدفنه في مقبرة المسلمين. ان احاديث الفضائل التي وضعوها لعثمان تتناقض نوعياً مع سيرته في عهد رسول الله، ومنها ان عثمان فرّ في غزوة

ص: 59

أُحد (1) ، وبقي متخفياً خلف الجبال ثلاثة أيام الي ان تأكد بأن المعركة قد انتهت كليّاً ولم يعد هناك ثمة خطر يتهدده (2) ، أو انه لم يشهد غزوة بدر، ولم يبايع رسول الله في بيعة الشجرة. حيث اخذ موالوه يضعون الأحاديث التي يبررون بها مواقفه هذه. وعلي اية حال فان عثمان الاموي بما كانت له من هذه المواقف في أيام رسول الله، وما فعله بعد أن آلت إليه الخلافة من تعطيل احكام الله ونهب المال علي يد أقاربه وتسليط اخيه شارب الخمر علي الكوفة، واخيه في الرضاعة عبد الله بن ابي سرح - الذي ارتد في زمان رسول الله - علي مصر، وقتله المصريين ظلماً وعدواناً، وغير ذلك من الاعمال والمواقف، تحوّل عثمان الاموي - بعد قرن من تسلط بني امية علي السلطة والحكم - الي صاحب فضائل مختلقة، بينما نُسيت معظم الفضائل الحقيقية لعلي بن ابي طالب. وعلي صعيد آخر، بعد قرن من حكم خصوم علي بن ابي طالب، تربي الجيل الجديد علي افكار المخالفين لعلي بن ابي طالب، وعلي فضائل عثمان الموضوعة وعلي فضائل من جاءوا بعثمان الي سدّة الحكم. وكان كُتاب «الكتب الستّة» من هذا الجيل الذي تربّي في ظل العهد الأموي، او كان آباؤهم واساتذتهم ممن تربّوا في ظل ذلك العهد.

ص: 60


1- 58. البخاري، باب مناقب عثمان.
2- 59. تفسير الفخر الرازي، سورة آل عمران، تفسير الآية: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَي الْجَمْعَانِ).

تأليف الكتب في القرن الثاني و...: وأما بالنسبة الي الأحاديث التي نسبوها في القرن الثاني الي رسول الله، فقد كان معظمها من اختلاق التابعين، وهذه الاحاديث الموضوعة نوعياً يقرب عددها من المليون حديث. وبالنتيجة فان الكتب التي دوّنت في القرنين الثاني والثالث مثل كتاب مالك، وابي حنيفة، والشافعي، واحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم، والترمذي، وابي داوود، وابن ماجه، خرجت من هذه الأكداس من الاحاديث التي تم اختلاق معظمها علي يد التابعين الذين كانوا يميلون الي بني امية، ولم يهتم الا القليل النادر منهم برواية الاحاديث التي رواها الصحابة حقيقة. ولا تكاد تمثل أحاديث التي وردت في هذه الكتب عن الصحابة العدول بالقياس الي احاديث المنافقين المجهولين واكثرية أهل الدنيا من الصحابة الاّ قطرة من بحر. حيث دأب كل مؤلف - في القرنين الثاني والثالث - وفقاً لميوله ومذهبه، الي فرز مجموعة من الاحاديث واطلق عليها تسمية الصحيح، مثل كتاب صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وغيرها، وكذلك سنن ابي داوود، وسنن ابن ماجة، وبقية السنن والمسانيد، وغيرها. ومشكلة «هذه الكتب التي دوّنت في القرنين الثاني والثالث» أدهي واعظم; وذلك لأنه جري تقسيم الروايات التي نقلت عن الصحابة حقاً بعد رسول الله وفقاً للمجاميع المختلفة من الصحابة، فكانت روايات الصحابة العدول، وروايات الصحابة المنافقين والفاسقين وأهل الدنيا. وبعد مضي قرن، حيث لم يعد بامكان أحد من الناس الذين عاشوا في القرن الثاني والثالث ان يسألوا رسول الله أو العدول من أصحابه

ص: 61

حول مدي صحّة تلك الاحاديث، وجدوا انفسهم عند ذلك مضطرين الي اخذ الأحاديث عن التابعين أو عن تابعي التابعين. وبالنتيجة فقد كانت هناك أهمية بالغة لعدالة او نفاق هؤلاء التابعين الذين نقلوا أحاديث رسول الله الي مؤلّفي هذه الكتب; لأنه كان من الممكن ان يكون هناك منافقون مجهولون بين التابعين نسبوا كذباً أحاديث الي الصحابة العدول وصدّقها الناس وقبلوها منهم بدون الانتباه الي ان هذا الراوي التابعي من المنافقين المجهولين، وانه ينسب كذباً هذا الحديث الموضوع الي عدول الصحابة من امثال سلمان وابي ذر والمقداد وغيرهم، بمجرّد ان يسمعوهم يقولون بأن حذيفة او سلمان او غيرهما نقل عن رسول الله كذا وكذا. ولهذا السبب بلغ عدد الاحاديث في القرن الثاني عند تأليف الكتب الأولي ما يقارب المليون حديث، وقد نقل منها البخاري ومسلم واصحاب السنن والمسانيد ما يوافق ميلهم ومذهبهم. نذكر علي سبيل المثال ان البخاري ومسلم واصحاب السنن والمسانيد نقلوا احاديث حتي عن مبغضي علي بن ابي طالب الذين يعتبرون من المنافقين بشهادة رسول الله (لا يحب علياً الاّ مؤمن ولا يبغضه الاّ منافق)، كما فعلوا حين نقلوا (كما فعل البخاري) عن رئيس الخوارج عمران بن حطان الذي مدح عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي، او حين نقلوا عن اسحاق بن سويد العدوي الذي كان يقول صراحة اني ابغض علي بن ابي طالب، وكان يكثر من ذم علي رغم قول رسول الله: «يا علي لا يحبّك الاّ مؤمن ولا

ص: 62

يبغضك إلاّ منافق» (1) ، او حين نقلوا عن حريز بن عثمان الذي لم يكن يخرج من المسجد الا بعد ان يلعن علي بن ابي طالب سبعين مرّة، أو حين نقلوا عن سمرة بن جندب الذي كان يبيع الخمر و... (2) ، أو حين نقلوا عن عبد الرحمن بن ابراهيم المشهور بدحيم الشامي مبغض علي، أو حين نقلوا عن عكرمة ومعاوية ابن ابي سفيان الباغي علي الامام المفترض الطاعة وقاتل عمّار، وقاتل طفلي عبيد الله بن العبّاس، وغيرهم من الرواة الآخرين الذين كان من مشاهير مبغضي علي وكانوا يلعنونه علي الدوام. وأما بقية الرواة الذين نقلت عنهم هذه الكتب فقد كانوا غالباً من مبغضي علي بن ابي طالب او من اعوان الظلمة وتاركي الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في فسق يزيد وظلمه وظلم بن امية وفسقهم; أي ان هذه الرواة لم يكونوا عدولاً. نقل مسلم في باب الامارة انه حتي ابن عم معاوية وهو عبد الله بن عمرو بن العاص لم يستطع ان ينكر ظلم معاوية وفسقه وفجوره العلني عند جوابه لسائل سأله امام الملأ العام، عن الداعي الذي يدعوهم لاطاعة معاوية الذي يأمرهم بأكل الحرام واراقة الدم الحرام.

ص: 63


1- 60. ورد في كتاب مسلم، ابواب الايمان، ان علي بن ابي طالب قال: عهد النبي اليَّ انه لا يحبّني الاّ مؤمن ولا يبغضني الاّ منافق. الترمذي، ابواب المناقب; النسائي في مناقب وفضائل علي بن ابي طالب.
2- 61. نقل مسلم حول بيع سمرة الخمر في كتاب البيع، في ابواب المساقاة. وقد نقل البخاري هذا الحديث أيضاً، ولكن بما ان سمرة كان من الرواة الذين نقل عنهم فقد وضع بدل اسمه كلمة فلان; لكي لا يعلم القاريء ان سمرة بن جندب كان بياع خمر. وقد ورد في سنن ابي داوود ان رسول الله قال لسمرة: أنت مضار.

والمثير للانتباه في هذا السياق هو ان كل واحد من اصحاب هذه الكتب، اثني علي كتابه ووصف بقية الكتب بانّها ضعيفة وغير معتبرة. نذكر علي سبيل المثال ان احمد بن حنبل (المتوفي في القرن الثالث، في عام 241ه-) نقل في مسنده «ثلاثين ألف حديث» اختارها من بين سبعمائة ألف حديث وفقاً لميوله ومذهبه. أي انه اعتبر ثلاثين الف حديث فقط من بين كل تلك الأحاديث مطابقة لمعتقده. في حين اعتبر البخاري (المتوفي في القرن الثالث; في عام 256ه-) اكثر أحاديث احمد بن حنبل غير صحيحة، واورد في كتابه ما مجموعه «ألفي حديث» من غير تكرار; أي ما مجموعه واحد من خمسة عشر من أحاديث مسند احمد. وهذا يعني ان البخاري اختار اقل من واحد من كل ثلاثمائة من الاحاديث التي كانت موجودة حينذاك (يعني من مليون حديث). ولم يكن هذا الاختيار بناءً علي كونها احاديث صحيحة; فالكثير من هذه الاحاديث التي اختارها البخاري تتعارض مع بعضها ومع القرآن، وبالنتيجة فهي اكثرها احاديث مكذوبة، وانما اختارها البخاري لأنها تتطابق مع مذهبه. واعتبرها احاديث صحيحة (أي انها كانت تنسجم مع مذهب آبائه). نقل ابن عبد البر في كتاب الانتقاء ان البخاري يعتبر أبا حنيفة باطلاً وضالاً، ويعتبر في كتابه أَنّ القياس ضلالة. واعتبر «البخاري» في كتاب تاريخه الكبير «الشافعي» ضعيفاً وغير معتبر. وكان «مالك» مرتزقاً عند سلاطين بني العباس من امثال المنصور قاتل الامام جعفر الصادق. وجُلد «احمد بن حنبل» من قبل السلطان

ص: 64

بسبب نقله احاديث كاذبة. والاحاديث المتعارضة والمتكاذبة والموضوعة (في مسند احمد اكثر من سائر الكتب).

مذاهب المسلمين

ولا تنحصر فرق المسلمين بهذه الفرق الاربعة التي تسير وفقاً لأهواء السلاطين والولاة، وانّما هناك فرقة اخري وهي التي تتبع اهل البيت، مثل المذهب الجعفري. وبالاضافة الي الفرق الاربعة الاخري وهي الحنبلية والحنفية والشافعية والمالكية يكون المجموع خمس فرق. ويوجد بين هذه الفرق الخمسة تضاد وتناقض شاسع، ومن غير الممكن ان تكون هذه الفرق الخمسة كلّها حقّة; لأن الحق واحد لا أكثر. ومن غير الممكن ان تكون الفرقة الحقّة من بين الفرق الاربعة: الحنبلية، والحنفية، والمالكية، والشافعية التي توجب طاعة السلطان والحاكم حتي وان كان جاهلاً بالدين وظالماً. في حين ان الله تعالي لم يوجب قط طاعة الجاهل والظالم، بل ان طاعة الظالم تتناقض مع طاعة الله لأن الله تعالي يأمر بالعدل والاحسان وينهي عن الظلم والفسق، بينما الظالم والفاسق يأمر بالظلم والفسوق. اذاً هذه المذاهب الاربعة، وهي الحنبلي، والحنفي، والمالكي، والشافعي، التي تأمر بطاعة السلطان مطلقاً حتي وان لم يكن مستنبطاً للاحكام الصحيحة من الدين، وحتي ان كان ظالماً. فهذه المذاهب الاربعة تأمر بخلاف حكم الله، وهي فرق ضالة، اضافة الي انها لا تتبع العترة الهادية التي أمر الله في حديث الثقلين باتباعها والتمسّك بها. والمذهب الجعفري هو المذهب الوحيد الذي يتمسك بأهل البيت

ص: 65

ويتّبع الثقلين اللذين أمر رسول الله بالتمسّك بهما من بعده وهما القرآن والعترة، والعترة هي المبيّنة للسنّة الصحيحة بشهادة رسول الله. اضافة الي كل ذلك لم يكن لأي من هذه المذاهب الاربعة: الحنبلي، والحنفي، والمالكي، والشافعي، أي وجود في القرن الأول حتي تكون طاعة احدها واجبة. واما القول وجوب طاعة أحد هذه المذاهب الاربعة فهو من بدع القرنين الثاني والثالث. في حين ان الائمة من أهل البيت والعترة الهادية كانوا موجودين علي الدوام وأوّلهم علي بن ابي طالب وثانيهم الحسن بن علي، وثالثهم الحسين بن علي (الذي ثار ضد فسق وفجور يزيد واستشهد في سبيل النهي عن المنكر) ومن بعد الحسين بن علي ابنه علي بن الحسين، ومن بعده ابنه الامام محمد بن علي المعروف بالباقر، ثم جعفر بن محمد المعروف بالامام الصادق. وهذان الإمامان (أعني الامام الباقر والامام الصادق) من ائمة العترة، وقد نقلا عن طريق علي بن الحسين بن ابي طالب، السُنّة الصحيحة لرسول الله الي اتباعهم في القرن الثاني. وهذه هي الفرقة الوحيدة التي تنقل السنّة الحقيقية، وتتبع السنّة الحقيقية، وهي واجبة الاتّباع استناداً الي حديث الثقلين «كتاب الله وعترتي» الذي نقله مسلم والترمذي وآخرون متواتراً. وليس هناك في القرآن والسنّة دليل علي وجوب طاعة المذاهب الاربعة التي تتبع السلاطين والولاة حتي فاسقهم وظالمهم. وقد نقل مسلم (المتوفي في القرن الثالث; في عام 261ه-) وحده اربعة آلاف حديث لا تكرار فيها، أي ضِعف ما نقله البخاري (أي ان نصف أحاديث مسلم لا تعتبر عند البخاري حجّة). ويمكن القول

ص: 66

بعبارة اخري ان البخاري لم ينقل نصف أحاديث مسلم ولم يكن يعتبرها صحيحة. كما ان مسلم لم ينقل بعض أحاديث البخاري لانه يري تلك الاحاديث كاذبة مثل حديث ابن عمر انه قال: كنا نخيّر بين الناس في زمن النبي فنخير ابا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان. ولكن الكثير من احاديث البخاري نفسه - الذي نقل من الأحاديث أقل مما نقله الآخرون - تتعارض مع بعضها أو مع القرآن، او مع السنّة المتواترة. وهناك كفر واكاذيب كثيرة في أحاديث البخاري. وقد اكتفينا هنا بذكر هذه المقتطفات علي سبيل المثال لا الحصر، وهذا غيض من فيض.

الاحاديث الكاذبة أو التحريفات والتناقضات

نستعرض في ما يلي نماذج من الاكاذيب والتناقضات التي تكتنف تلك الاحاديث: 1- رؤية الله: حديث: «سترون ربكم كما ترون هذا القمر». 2- نزول الله من السماء الي الارض: ان الله ينزل في الثلث الأخير من كل ليلة من السماء الي الارض ويبقي علي الارض حتي آذان الفجر، ثم يعود بعد ذلك الي السماء: «يتنزّل ربنا تبارك وتعالي كل ليلة الي سماء الدنيا» (1) . وهاتين الروايتين كاذبتان طبعاً استناداً الي ما يلي: أوّلاً: لم يلتفت البخاري الي ان الارض تدور حول الشمس، وان نصف الارض الآخر غير المقابل للشمس يكون ليلاً علي الدوام،

ص: 67


1- 62. البخاري، ج 7، ص 149 (طبعة دار الفكر، بيروت، 1401ه-).

وان الليل يغطّي نصف الارض الي يوم القيامة، كما ان الثلث الاخير من الليل موجود علي الدوام في قسم من الارض الي يوم القيامة. واذا كان الله ينزل من السماء - حسب ما يدّعي - ويمكث علي الارض في الثلث الاخير من الليل، فهذا يعني انه يبقي علي الارض الي يوم القيامة; وذلك لأن الليل والثلث الاخير من الليل موجود في قسم من الارض الي يوم القيامة، وانما يتبدّل موضعه حول الارض لا غير. ثانياً: يقول القرآن الكريم: (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْء مُّحِيطًا) (1) ; أي ان الله محيط بكل شيء وليس محاطاً بحيث يُري، أو ان يكون داخل الاشياء; لأن الله لا يحتاج الي مكان وانما هو موجود في كل مكان. (وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) (2) . ثالثاً: اذا قلنا بأن الله في السماء أو في الارض، فذلك يعني انه غير موجود في مواضع اخري. رابعاً: اذا كان الله في العرش أو في الارض أو في أي موضع آخر، فذلك يعني انه يحتاج الي مكان. وان كان الأمر كذلك فأين كان قبل خلق المكان والعرش؟ وان لم يكن بحاجة الي مكان - كما يقول القرآن - فان القول بأن الله في كذا مكان يخالف القرآن. وخلاصة الكلام هي ان هذه الأحاديث خلاف الواقع، وهي كاذبة قطعاً. وقد نقل البخاري ومسلم وامثالهما الكثير من الاكاذيب حول الله بل وحتي حول رسول الله (صلوات الله عليه)، وحول الصحابة. وهذه الاحاديث لا تنسجم مع بعضهما، بل انها متضاربة ومتعارضة ومتكاذبة.

ص: 68


1- 63. سورة النساء، الآية 126.
2- 64. سورة الحديد، الآية 4.

العصمة: اورد البخاري في ابواب المناقب من كتابه حول عمر بن الخطّاب بأن رسول الله قال لعمر: يا ابن الخطّاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً قط الا سلك غير فجّك. وهذا الكلام يعني انك يا عمر معصوم. بينما روي البخاري ومسلم وغيرهما ان عمر فر من ساحة المعركة في غزوة أحد وفي غزوة حنين، وترك الرسول وحده بين ايدي اولئك الاعداء الشرسين. وقد اعتبر الله في سورة آل عمران اولئك الفارين بأنهم قد عصوا: (وَعَصَيْتُم مِّنم بَعْدِ مَآ أَرَل-كُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاَْخِرَةَ) (1) . وقال عنهم في موضع آخر: (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَ-نُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ) (2) . أي ان الله عز وجل يبيّن في هذه الآية بأن جميع اولئك الذين فرّوا انما اتبعوا سبيل الشيطان في حين ينقل البخاري ما يخالف كلام الله وهو ان عمر الذي كان بين الفارين (3) لم يتّبع سبيل الشيطان. وهو ينسب وهذه الاكذوبة المخالفة لكلام الله الي النبي. ومن الطبيعي ان الكذب علي الله ورسوله من الكبائر، واذا جاء ذلك الكذب في شهر رمضان أبطل الصوم. ولهذا لا يمكن التعويل علي قول البخاري لأنه كذب علي الله ورسوله في كتاب أحاديثه كذبات كبري. ومن

ص: 69


1- 65. سورة آل عمران، الآية 152.
2- 66. سورة آل عمران، الآية 155.
3- 67. اورده البخاري ومسلم وغيرهما في غزوة حنين.

المعروف ان قراءة ونقل هذه الأحاديث الكاذبة في شهر رمضان يبطل الصوم. 4- آمَنُ الناسِ: نقل البخاري في كتابه في فصل المناقب ان آمَنَ الناس عند رسول الله ابو بكر: «إنَّ آمَنَ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر» (1) مع انه لم يثبت مع الرسول في غزوة أحد من قريش الا رجلان; أحدهما الحمزة سيد الشهداء، والآخر علي بن ابي طالب. وبعد شهادة الحمزة كان علي هو الرجل الوحيد من قريش الذي ثبت مع رسول اللهودافع عنه. ومن الانصار كان هناك سبعة أو تسعة رجال. وفي خيبر وحنين لم يثبت مع رسول الله إلاّ علي، وأما بقية الصحابة فقد فرّوا كلّهم (2) . وقبل الهجرة أيضاً بقي في شعب أبي طالب علي وجعفر وبنو هاشم وهم الذين دافعوا عن رسول الله. وأما بقية الصحابة فلم يذهبوا الي الشعب ولا ساعة واحدة. ولم يجلبوا لرسول الله ولبني هاشم تمرة واحدة رغم انهم شارفوا علي الموت من شدّة الجوع. وبذلك فقد تعاونوا عملياً مع المشركين في محاصرة النبي. رغم ان بعض المشركين من اقارب خديجة مثل ابي البختري الذي كان يقدّم لبني هاشم كمية من التمر خفية. ولهذا السبب عندما نزلت آية الخمس وجعل رسول الله سهماً منه

ص: 70


1- 68. سنن الترمذي، ج 5، ص 270.
2- 69. البخاري، غزوة حنين. وجاء في سورة التوبة ما يلي: (ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ). وروي الحاكم النيسابوري في المستدرك انه بعث رسول الله أبا بكر الي خيبر، فسار بالناس وانهزم.

لذوي القربي، اعترض عثمان الاموي علي ذلك وقال: لماذا فضل الله بني هاشم علينا؟ فقال: انهم لم يفارقوني في جاهلية ولا اسلام (1) أي انكم تركتموني في شعب أبي طالب وفي ساحة المعركة عند ظهور الخطر الجاد. حديث أسماء: ولو غضضنا النظر عن كل هذه الامور، فان حديث رسول الله حول اسماء بنت عميس يكفي، وهو ما نقله البخاري ومسلم وجاء في مناقب أسماء بنت عميس. فهي بعد ان رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن ابي طالب (وكان ذلك في السنة السابعة للهجرة) كانت جالسة في دار حفصة بنت عمر بن الخطاب وتتحدثان، اذ دخل عمر علي حفصة فوجد اسماء عندها. فقال عمر حين رأي أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس. قال عمر: الحبشية هذه البحرية؟ فقالت اسماء: نعم. فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله منكم، فغضبت وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار أو في ارض العدي البغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله. وايم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتي اذكر ما قلت لرسول الله، ونحن كُنا نُؤذي ونُخاف، فسأذكر ذلك لرسول الله، والله لا اكذب ولا ازيد علي ذلك. فلمّا جاء النبي قالت: يانبي الله ان عمر قال كذا وكذا. فقال رسول الله: ما قلت؟ قالت: قلت كذا وكذا. فقال رسول الله: ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أهل السفينة هجرتان.

ص: 71


1- 70. الاموال، ابو عبيد في ابواب الفيء والخمس; تاريخ المدينة، ابن شبّة.

قصّة اسماء هذه نقلتها كتب الحديث في باب مناقب اسماء بنت عميس بشكل متواتر وحتي البخاري نفسه نقل هذا في «مناقب اسماء بنت عميس» وهو ان رسول الله قال لأسماء بنت عميس: انتم مهاجروا الحبشة افضل من عمر بن الخطاب واصحابه (واصحاب عمر من امثال ابي بكر وطلحة والزبير وغيرهم)، وانتم احق بي منهم; لانكم مهاجري الحبشة هاجرتم الي الحبشة هجرتين، واما عمر وأصحابه فقد هاجروا هجرة واحدة. فان كانت امرأة مثل اسماء بنت عميس وكل مهاجري الحبشة افضل من عمر واصحاب عمر واقرب منهم الي رسول الله، فكيف يمكن ان يقول رسول الله عن بعض من هاجروا هجرة واحدة (وتركوا الرسول وحده في شعب أبي طالب وفي ساحة المعركة): انت أفضل وآمَن ممن هاجروا هجرتين ولم يتركوني وحدي ولم يفروا عني؟! المفارق للسلطان والمفارق لجماعة المسلمين: 5- حديث: من كره من اميره شيئاً فليصبر فانه من خرج من «السلطان» شبراً مات ميتة جاهلية (1) . 6- حديث: من رأي من اميره شيئاً يكرهه فليصبر فانه من فارق «الجماعة» شبراً فمات الا مات ميتة جاهلية (2) . يقول في حديث «من رأي من اميره شيئاً» انه يجب الصبر علي ما يراه من الامير من اشياء يكرهها، وينبغي ان لا يعترض عليها; لأن مفارقة

ص: 72


1- 71. البخاري، كتاب الاحكام; مسلم، كتاب الامارة وغيرها من اتباع السلاطين.
2- 72. البخاري، كتاب الأحكام; مسلم، كتاب الامارة، وغيرهما من اتباع السلاطين.

السلطان مفارقة للاسلام. ومن يفارق اميره فيموت، فانه يموت ميتة جاهلية أي علي غرار ميتة أهل الجاهلية حيث لم يكن الاسلام قد جاء وكان الناس كفاراً. أي ان معارضة السلطان توجب ارتداد وكفر كل من يعارضه: فانه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية. واما الحديث الثاني: من رأي من اميره شيئاً...، فقد جاء علي العكس من ذلك; لأنه يقول بأن كل من يري من اميره شيئاً يكرهه يجب ان يصبر عليه; وذلك لأنَّ مفارقة جماعة المسلمين كفر; أي ان المرء اذا مات في مثل هذه الحالة أي حالة مفارقة جماعة المسلمين فانه يموت ميتة جاهلية; أي انه يموت كافراً: من فارق «الجماعة» شبراً فمات الا مات ميتة جاهلية. وهذا يعني ان أحد هذين الحديثين يقول بأن مفارقة «السلطان» توجب الكفر، بينما يقول الحديث الآخر ان مفارقة «جماعة المسلمين» توجب الكفر، وليس مجرّد مفارقة السلطان; وذلك لأنه من الممكن ان تفارق جماعة المسلمين - مثلما حصل في عهد عثمان - السلطان وتعترض عليه. وفي الحديث الثاني اعتبر مفارقة جماعة المسلمين علّة مباشرة أو علّة اصلية للكفر، في حين اعتبر في الحديث الأوّل مفارقة السلطان علّة اصلية ومباشرة للكفر، سواء كانت مفارقة السلطان ملازمة لمفارقة جماعة المسلمين أو في معزل عنها. وبالنتيجة في الوقت الذي تفارق فيه جماعة المسلمين السلطان وتعلن رفضها له او معارضتها لحكمه كما حصل في عهد عثمان «وفقاً للحديث الاول فان جماعة المسلمين من الصحابة هي التي كفرت وميتتها ميتة جاهلية; وذلك لأنه في الحديث الاول اعتبرت مفارقة السلطان

ص: 73

نفسها سبباً أصلياً للكفر» حتي وان كان المفارقون للسلطان هم جماعة المسلمين والصحابة الذين خاصموا عثمان فان ميتتهم جاهلية. - واما عكس الحديث الثاني اعتبرت مفارقة جماعة المسلمين العلة الأصلية للكفر، حتي وان كان المفارق هو السلطان نفسه، فالسلطان نفسه يعتبر كافراً بسبب مفارقته لجماعة المسلمين وميتته ميتة جاهلية وان كان عثمان، بينما اذا فارقت جماعة المسلمين السلطان، مثلما حصل في عهد عثمان، حيث خرج المهاجرون والانصار علي عثمان وخالفوه لأنه حكم بغير ما انزل الله، ولم يأخذ بسنّة رسول الله، وسلط اقاربه الفاسقين الظلمة علي رقاب الناس، وقسّم اموال بيت المال بينهم (1) وفي عهد حكم الوليد (2) بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، كان هذا الخليفة يكثر من شرب الخمر، وزنا بمحارمه - كما فعل يزيد بن معاوية - وما الي ذلك من الافعال الشنيعة، ولم يستجب لنصائح من نصحوه ولم يكف عن تلك المحرّمات والفسق والفجور. فهجم عليه جماعة من المسلمين وعزلوه عن الخلافة. وطبقاً للحديث الأول فان هذه الجماعة من الصحابة والانصار الذين خرجوا علي سلطانهم عثمان وفارقوه، وكذلك هذه الجماعة من

ص: 74


1- 73. قالت عائشة لابن عباس: اياك ان تردّ الناس عن هذا الطاغية. وهذا القول رواه البلاذري. وروي الطبري وابن شبه وابن سعد وغيرهم قول عائشة في عثمان بن عفان الاموي: اقتلوا نعثلاً فقد كفر. وكذا رواه المدائني، وابو الفداء، وابو مخنف، وقيس بن حازم، وابن عبد ربه، وابن الاثير، وابن قتيبة في الامامة والسياسة وغيرهم متواتراً.
2- 74. المستدرك، الحاكم النيسابوري، ج 4، ص 494.

المسلمين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر (الذين عزلوا الوليد بن يزيد بن عبد الملك عن السلطنة) كلاهما جماعتان كافرتان ومن اهل النار وميتتهما ميتة جاهلية، لأنهما خرجتا علي سلطانهما. وكل من يخرج علي السلطان يموت ميتة جاهلية. ولكن طبقاً للحديث الثاني فان مفارقة جماعة المسلمين علّة أصلية ومباشرة للفكر. وبناءً علي هذا الحديث فان عثمان بن عفان هو الذي فارق جماعة المسلمين وهو من أهل جهنم وقد مات ميتة جاهلية، وليس المهاجرون والانصار الذين خالفوه وازاحوه عن السلطة والحكم (بقتله). ولو قلنا بأن كلا حديثي البخاري صحيحان، فالنتيجة هي ان عثمان كافر ومن أهل النار لانه فارق جماعة المسلمين، وكذلك جماعة المهاجرين والانصار كعائشة وطلحة وغيرهما الذين خرجوا علي سلطان زمانهم، فهم أيضاً كفار ومن اهل النار (1) . اضافة الي ذلك فان السلطان الظالم الذي يحكم بغير ما انزل الله كافر بنص الآية 44 من سورة المائدة; أي انه طاغوت ويجب الكفر به استناداً الي الآية 60 من سورة النساء. ولهذا السبب ثارت عائشة ضد عثمان وامرت بقتله، حيث كانت قد قالت بأنَّ عثمان حكم بغير ما انزل الله ولم يعمل بسنّة رسول الله، اذاً فهو طاغوت وتجب مخالفته، فاقتلوه.

ص: 75


1- 75. أي ان هذه الاحاديث الكاذبة نقلها البخاري وكذلك نقلها مسلم. واما قول البعض بأنه «اذا نقل البخاري ومسلم كلاهما حديثاً فمعني ذلك ان هذا الحديث متواتر ومتفق عليه وصحيح» فهو قول كاذب.

اليكم في ما يلي نص الآية 60 من سورة النساء: (أَلَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَي الطَّ-غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِي وَيُرِيدُ الشَّيْطَ-نُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَ-لاَم بَعِيدًا) أي أن طاعة الطاغوت - وهو من يحكم بغير ما انزل الله - حرام والكفر به واجب. وجاء في الآية 44 من سورة المائدة: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَ-ل-ِكَ هُمُ الْكَ-فِرُونَ). والجدير بالذكر ان أبا بكر منع سهم ذوي القربي من الخمس (1) ، ولم يعط فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة خمس خيبر. وهذا يعني انه لم يحكم بما انزل الله - سورة الانفال، الآية 41 (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُو وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي وَالْيَتَ-مَي وَالْمَسَ-كِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللَّهِ)ويمكن الاطلاع علي مزيد من المعلومات في هذا المجال عند الرجوع الي غزوة خيبر، وابواب الخمس. وايضاً بعث ابو بكر خالد بن الوليد الي الصحابي العادل مالك ابن نويرة. وعندما دخل خالد بن الوليد علي مالك، استسلم مالك مباشرة وقال سأعطيك الزكاة لتأخذها لأبي بكر، وقبل منه خالد ذلك. ولكن كانت لمالك امرأة جميلة ولما رآها خالد عمد الي قتل مالك وزنا بامرأته مباشرة. وقد اشتكي (2) بعض من كان معه الي

ص: 76


1- 76. سنن ابي داوود، باب بيان مواضع الخمس; مسند احمد، ج 4، ص 83.
2- 77. تاريخ الطبري، حوادث سنة 11 للهجرة، قال ابن الاثير وابو الفداء والزبيدي ان خالد رأي امرأة مالك جميلة، وقال مالك لامرأته: لأُقَتُلُ من أجلك.

ابي بكر فعل خالد وطالبوه باقامة حد زنا المحصنة عليه، والاقتصاص لدم مالك منه. ولكن ابا بكر (الذي كان يحب خالد كثيراً) عطل حد الزنا عنه، ولم يقده به. ولكن في موضع آخر نلاحظ ان أبا بكر احرق مسلماً اسمه فجاءة في مقبرة البقيع لمجرّد انه اثار غضبه، مع العلم ان الحرق لم يكن هو الحد الشرعي له (1) فحكم يقيناً بغير ما انزل الله. ولابد من الاشارة الي ان عمر بن الخطاب أرسل المغيرة بن شعبة

ص: 77


1- 78. امر ابو بكر بنار فالقي فيها شخصاً مقمّطاً (أي موثوق اليدين والرجلين) في مقبرة البقيع وكان اسمه اياس ولقبه الفجاءة. وكان يقطع الطريق ويخيف الناس ويسلب اموالهم. وحكم هذا الشخص في القرآن هو حكم المحارب ويجب ان يُنفي، أو يُشنق أو يُقتل أو تُقطع يده ورجله. ومن الطبيعي ان الحرق خلاف حكم القرآن. وقد احرق ابو بكر هذا الشخص. ذكر هذه الحادثة الطبري في حوادث السنة الحادية عشرة قبل الحديث عن بني تميم. وذكرها أيضاً ابن كثير في تاريخه. بينما نصّت الآية 33 من سورة المائدة علي ما يلي: (إِنَّمَا جَزَ ؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُو وَيَسْعَوْنَ فِي الاَْرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَ-ف أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاَْرْضِ ذَ لِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الاَْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). وكذلك ورد في الآية 44 من هذه السورة نفسها، ما يلي: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَ-ل-ِكَ هُمُ الْكَ-فِرُونَ). (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَ-ل-ِكَ هُمُ الظَّ--لِمُونَ). (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَ-ل-ِكَ هُمُ الْفَ-سِقُونَ). وقد عفا ابو بكر عن خالد بن الوليد الذي قتل مالكاً وزنا بزوجته لأن خالد كان صديقاً لابي بكر، وعطل حكم الله فيه.

(وكان من المقربين إليه) والياً علي أحد المدن، فزنا المغيرة هناك بامرأة عاهرة اسمها ام جميل. وجاء اربعة من أهالي تلك المدينة الي عمر ليشهدوا عنده علي زنا المغيرة، وقد شهد ثلاثة منهم بما رأوا. فشق علي عمر حين شهد هؤلاء الثلاثة. وكما ورد في كتاب كنز العمال فانه لمّا شهد هؤلاء الثلاثة وهم ابو بكرة (مولي رسول الله) ونافع وشبل بزنا المغيرة بن شعبة (والي عمر)، شق علي عمر ذلك. وقال ابو الفرج الاصفهاني في هذا المجال انه لما شهد الشاهد الاول عند عمر تغيّر لذلك وجه عمر، ثم جاء الثاني فشهد فانكسر لذلك انكساراً شديداً، ثم جاء الثالث فشهد فكأن الرماد نثر علي وجه عمر!!. فلما جاء زياد رفع عمر رأسه إليه وصاح صيحة: ما عندك انت يا سلح العقاب؟! (1) . وقال عبد الكريم بن رشيد ناقل هذا الخبر، ثم ان ابا عثمان النهدي الذي كان حاضراً في ذلك المجلس صاح صيحة تحكي صيحة عمر: لقد كدت ان يُغشي عليَّ لصيحته (2) .

ص: 78


1- 79. كان زياد بن ابيه غالباً ما يرتدي ثياباً بيضاء، فكان عمر يسمّيه لذلك سلح العقاب، تشبيهاً له بذرق العقاب الذي يكون ابيض عادة. ومن الطبيعي ان هذا السلوك يتنافي مع طبيعة الحاكم الاسلامي، ويبعد عن اخلاق خليفة المسلمين بعد السماء عن الارض.
2- 80. تاريخ اليعقوبي (م 292م)، ج 2، ص 136، طبعة النجف الأشرف، موضوع أيام عمر ابن الخطاب; الأغاني، ابو الفرج الاصفهاني (م 356م)، ج 14، ص 328، دار الحياة - بيروت. وج 16، ص 98، دار احياء التراث العربي، بيروت، تحت عنوان: «اخبار المغيرة بن شعبة ونسبه».

ومن الواضح طبعاً ان صيحة عمر علي زياد، وتكبيره من شدّة الفرج بعد امتناع الشاهد الرابع - زياد - عن الاداء بشهادة صريحة علي زنا المغيرة، تمثّل دليلاً قاطعاً علي ان انكسار عمر كان بسبب الشهادة الصريحة للشهود الثلاثة علي زنا واليه المغيرة بن شعبة!! وبعد ذلك عزل عمر المغيرة عن ولاية البصرة وولاه علي الكوفة. وقد ذكر جماعة من المؤرخين ان تلك الواقعة قد اتّخذت وسيلة للتندّر. فقد ذكر محمد بن سيرين كان الرجل من أهل البصرة يقول لصاحبه اذا بالغ في الدعاء عليه: غضب الله عليك كما غضب امير المؤمنين علي المغيرة; عزله عن البصرة، واستعمله علي الكوفة (1) !... (ومن المعروف ان ولاية الكوفة اعظم وأهم من ولاية البصرة). ومما يسترعي الانتباه هنا ان صيحة عمر علي الشاهد الرابع وغضبه عليه واهانته له من خلال مخاطبته بسلح العقاب، انما أراد ان يعلمه بأنَّه (أي عمر) غير راض عن ادلائه بشهادة صريحة توجب الرجم، واشارة منه إليه بأن يكتم شهادته. وعندما كتم الشاهد الرابع شهادته ولم يدلِ بشهادة صريحة ضد صاحب عمر، كبّر عمر من شدّة الفرح ولم يعد قادراً علي اخفاء سروره. ثم ان عمر لم يوكل مهمة جلد الشهود الذين لم يستطيعوا اتمام

ص: 79


1- 81. عيون الاخبار، ابن قتيبة، (م 276م)، المجلد الثاني، ج 1، الجزء الثاني; انساب الاشراف، البلاذري، المجلد الاول، ص 491 - 492; معجم البلدان، ياقوت الحموي، كلمة «بصرة»; تاريخ الأسلام، الذهبي (م 748م)، ج «عهد معاوية بن ابي سفيان» سيرة المغيرة بن شعبة. وقائع سنة 50 للهجرة، حرف الميم.

شهادتهم بشهادة رابعة، الي الأشخاص المكلّفين باجراء الحدود، وانّما أوكلها الي المتّهم نفسه وهو المغيرة الزاني (الذي كان قطعاً عارياً مع امرأة أجنبية في لحاف واحد) لكي يجلدهم بكل قوّة انتقاماً لشهادتهم ضده. مع العلم ان عمر لم يجلد المغيرة ولو سوطاً واحداً من باب التعزير رغم ان الرجال الاربعة قد شهدوا كلّهم بانهم رأوه في خلوة عارياً وملاصقاً لأمرأة اجنبية عارية. لقد كان عمر شديد الوفاء لاصحابه، فعندما سمع بأن ولاته اختلسوا اموالاً طائلة وان هناك اشاعات عظيمة قد انتشرت بشأنهم وان الشعراء قد نظموا اشعاراً في التشهير بتلك الاختلاسات الهائلة، وان الناس قد اوشكوا علي الثورة ضد تلك الاوضاع، أمر ببقائهم في مناصبهم ولكن عليهم ان يعيدوا نصف ما اختلسوه الي بيت المال، أما النصف الآخر فقد اعطاه لهم; لكي يُسكت الناس من جهة، ويسترضي الولاة من جهة اخري (1) . وهذا الموقف معاكس تماماً لموقف علي بن ابي طالب الذي قال - عندما أصبح خليفة - في أخذ الاموال المختلسة من بيت المال: «والله لو وجدته قد تزوّج به النساء ومُلِك به الإماء لرددته». كما ان ما

ص: 80


1- 82. تاريخ الطبري; فتوح البلدان للبلاذري; العقد الفريد، المجلد الاول; معجم البلدان، المجلد الثاني; تاريخ ابن كثير، المجلد السابع والثامن; تاريخ السيوطي; السيرة الحلبية; الاصابة، المجلد الثالث وغيره; هذا بيت من الشعر نظمه ابو المختار يزيد بن قيس بن يزيد في كتاب بعثه الي عمر بن الخطاب: فلا تدعن اهل الرساتيق والقري++ يخونون مال الله في الادم الحمر وقاسمهم أهلي فداؤك انهم++ سيرضون ان قاسمتهم منك بالشطر.

سار عليه علي من تقسيم بيت المال بالسويّة (1) مثلما كان يفعل رسول الله، ادي الي ان يثور عليه طلحة والزبير والكثير من وجوه المهاجرين والانصار الذين اعتادوا علي قبض المزيد من الاموال في عهد عمر (2) وعثمان، فخرجوا علي علي واتّبعوا عائشة التي

ص: 81


1- 83. كتاب الاحكام السلطانية، باب قسم الفيء والغنيمة: عن عبادة بن الصامت قال: فقسمه (رسول الله) بين المسلمين علي السواء; سنن ابي داوود، باب موضع الخمس: كان ابو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول الله غير انه لم يكن يعطي قربي رسول الله ما كان النبي يعطيهم. كان رسول الله يقسم الغنائم بين المسلمين بالتساوي ولكن ابا بكر لم يعط سهم ذوي القربي من الخمس. ثم ان عمر فعل ذلك، وبالاضافة الي ذلك نقض مبدأ التقسيم بالتساوي الذي كان يسير عليه رسول الله. البخاري، ابواب غزوة بدر، في تفضيل عمر بعضاً علي بعض: كان عطاء البدريين خمسة آلاف وقال عمر لافَضِّلَنَّهم علي من بعدهم. وذكر ابو عبيد في كتاب الاموال انّه أبي عمر بن الخطاب ان يرث احد من الاعاجم احداً من العرب الا ان يكون ولد في العرب - متجاهلاً بذلك خطبة رسول الله يوم الحج الاكبر: ايها الناس انما المؤمنون اخوة... ليس لعربي علي عجمي فضل الا بالتقوي. سنن ابن ماجة في ابواب النكاح، وباب ضرب النساء: عن الاشعث بن قيس قال ضفت عمر ليلة فلما كان في جوف الليل قام الي امرأته يضربها فحجزت بينهما فلما آوي الي فراشه قال لي يا اشعث احفظ عني شيئاً، سمعت من رسول الله: لا يُسئل الرجل فيما ضرب امرأته، مسند احمد، جلد 1، ص 20.
2- 84. بدّل عمر النهج الذي كان سائداً في تقسيم الفيء بالسوية، وخالف المساواة بين المسلمين، وكان يعطي العجم من الفيء بقدر ما يعطي الغلمان; اي انه كان يحتقر العجم. نقل البخاري في باب معركة بدر في تفضيل البدريين، وباب هجرة النبي وفي مواضع اخري أيضاً، ونقل آخرون أيضاً مثل ابي عبيد بن سلاّم في كتاب الاموال في ابواب الخمس والفيء، وابن شبّة في تاريخ المدينة، وابن سعد في كتاب الطبقات الكبري، وغيرهم ان عمر بدّل سنّة رسول الله في تقسيم الفيء بالسوية، وكان يعطي نساء رسول الله وخاصة بنته وبنت ابي بكر; أي حفصة وعائشة اكثر مما يعطي غيرهن من بيت المال، وأباح لصديقه معاوية حريّة التصرّف ببيت المال. وكان يعتبر المسلمين من غير العرب ادني مكانة من العرب ويعتبر العرب افضل من غيرهم. وكان يعطي الغلمان من بيت المال اقل مما يعطي اسيادهم، ويقول بأنَّ العجم لا يرث من العرب، كما ورد ذلك عن عمر في الجزء الثاني من الموطأ في صفحة 12. وقد اخرج عمر غير العرب من المدينة في آخر حياته، ولكنه ابقي غلام المغيرة في المدينة رغم انه كان أعجمياً وسبب ذلك ان المغيرة كان من اصحابه. وقد نقل ابن شبّة في كتاب تاريخ المدينة ان عمر أمَر بأن لا يدخل المدينة أحد من العلوج. وكان عمر يقول بأنَّ الرجل مهما ضرب امرأته فانه لا يُسأل فيما ضرب امرأته. ورد هذا القول في الجزء الثاني من مسند احمد، الصفحة 20، نقلاً عن الاشعث بن قيس.

كانت مبغضة لعلي وهجموا علي البصرة ونهبوا ما كان في بيت المال وقتلوا الكثير من الابرياء. أي انهم خرجوا علي الإمام المفترض الطاعة. وقد قال علي بن ابي طالب عن اصحاب الجمل الذين هاجموا البصرة وقتلوا كثيراً من الأبرياء: فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين الا رجلاً واحداً متعمّدين لقتله بلا جرم لحلَّ لي قتل ذلك الجيش كلّه; اذ حضروه فلم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان ولا يد، دع ما انهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة التي دخلوا بها عليهم. - وأما ما ورد حول عائشة فان رسول الله كان قد أشار الي مسكنها

ص: 82

فقال: هاهنا الفتنة من حيث يطلع قرن الشيطان (1) . ويمكن القول بايجاز بأنه عندما يُقسم الصحابة في عهد رسول الله الي عادل وفاسق ومنافق وطالب دنيا، وكان بعضهم في عهد رسول الله قد اقيم عليه حد الزنا، وحد السرقة، وحد شرب الخمر، وحد الزنا بالمحصنة، وحد المحارب. وبعد عهد رسول الله اقيمت الحدود علي آخرين منهم، مثل قدامة بن مضعون وهو من اهل بدر، والوليد بن عقبة اللذين أُقيم عليهما حد شرب الخمر. وكان بعضهم مثل الصحابي سمرة بن جندب (2) ، يبيع الخمر، وبعضهم قتلة اطفال كما هو الحال بالنسبة الي معاوية (3) وبسر بن ارطأة، وقد خرجوا

ص: 83


1- 85. البخاري، ج 4، ص 46، باب ما جاء في بيوت ازواج النبي صلوات الله عليه. وقد نقل البخاري هذا الحديث متواتراً.
2- 86. المصدر السابق.
3- 87. نقل مسلم في كتابه، في كتاب الامارة، ان معاوية كان يأمر الناس بأكل المال الحرام وسفك الدم الحرام. وكان سمرة بن جندب - بعد رسول الله- يبيع الخمر. وقد ذكر ذلك مسلم في كتاب البيوع في ابواب المساقاة، في باب تحريم الخمر والميتة والخنزير والأصنام، عن عمرو بن دينار قال: اخبرني طاووس انه سمع ابن عباس يقول: بلغ عمر ان سمرة باع خمراً، فقال: قاتل الله سمرة، ألم يعلم ان رسول الله قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فجملوها وباعوها. ومن الجدير بالذكر ان سمرة من رواة البخاري في كتاب الحيض، والصلاة، والجنائز، والبيوع، والشهادات، وبدء الخلق، والتفسير، والأطعمة، والأدب، والتعبير. وقد نقل البخاري هذا الحديث الذي قال فيه ان سمرة كان يبيع الخمر، وان عمر قال: قاتله الله... ولكن بما ان سمرة كان من رواة كتابه فانه لم يذكر اسمه صراحة وانما كنّي عنه بالقول: فلان كان بيبع الخمر، لكي لا يعلم القاريء بان سمرة الذي هو من رواة كتاب البخاري كان بائع خمر. وهذا يعني ان البخاري مخادع لأنه كنّي عن اسم سمرة بفلان. نقل البخاري هذا الحديث في كتابه في ابواب البيع، في باب حرمة بيع الخمر ودهن الميتة (ج 3، ص 40). نقل المدائني في كتاب الاحداث ان معاوية منع نقل الاحاديث النبوية في فضائل علي بن ابي طالب والعترة، وشجع الناس علي نقل احاديث في فضائل عثمان الاموي وابي بكر وعمر. وانه لابد من عدم نقل أي حديث قاله رسول الله في فضائل علي بن ابي طالب، والاتيان بدلاً منه بأحاديث توضع في فضائل ابي بكر وعمر وعثمان وتبث بين الناس، بل ولابد من اختلاق مطاعن ومعايب وتهم ونسبتها الي علي بن ابي طالب، وتوجّه الناس الي وضع الاحاديث من اجل نيل الصِلات. وكان معاوية يعطي مزيداً من الاموال للصحابة وحفاظ القرآن وخاصة ظاهري الصلاح منهم الذين يقدمون علي هذا العمل; وذلك لأنَّ الناس البسطاء المتديّنين يقعون تحت تأثير هذا النوع من الرواة اكثر من غيرهم، ويبادرون الي نقل أحاديثهم الي الآخرين. ومن الطبيعي ان الآخرين عندما يسمعون هذا النوع من الاحاديث الموضوعة من لسان اولئك المتديّنين البسطاء يظنّونها احاديث صحيحة، ويتقبّلونها عن اخلاص. وعدا المدائني ذكر ابو جعفر الاسكافي وآخرون هذه الامور وقالوا بأنَّ معاوية كان يضع الأحاديث، وكان من جملة الصحابة الوضّاعين سمرة بن جندب وابو هريرة وعكرمة وغيرهم. ونقل الطبري ان سمرة بن جندب قال بعد عزله عن ولاية البصرة: والله لو اني اطعت الله كما اطعت معاوية لما عذّبني أبداً. وذكر مسلم في اول كتابه ان اكثر الأحاديث الكاذبة كانت من الصالحين: لم تر اهل الخير في شيء اكذب منه في الحديث. ونقل البخاري في كتاب العلم الذي يقع في الجزء الأوّل من كتابه، في باب اثم من كذب علي النبي، ان عبد الله بن الزبير قال لأبيه الزبير بن العوام صحابي رسول الله: اني لا أسمعك تحدّث عن رسول الله كما يحدّث فلان وفلان؟ قال: (ما اني) افارقه ولكن سمعته يقول: من كذب عليَّ فليتبَوّء مقعده من النار. والظاهر ان مراد الزبير من فلان وفلان الذين يحدّثون كثيراً عن رسول الله احدهما ابو هريرة الذي كان ينسب الكثير من الاحاديث الي رسول الله، وينقل احياناً احاديث متعارضة، والآخر اما انس بن مالك او عبد الله بن عمر او عائشة. أي ان هؤلاء كانوا ينسبون احاديث كاذبة الي رسول الله.

علي إمام مفترض الطاعة مثل علي بن أبي طالب والحسن بن علي، وسيطروا علي الحكم. وكذلك الحال بالنسبة الي بعض نساء رسول الله مثل عائشة التي كانت في عهد رسول الله تفشي اسرار داره الي اعدائه. ولهذا السبب نزلت فيهن آيات من سورة التحريم، وصرحت بزيغ قلوبهن: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا). وشبّههن الله تعالي بامرأتي نوح ولوط اللتين لم يغن عنهما ذلك (كونهن زوجتي نبيين) من الله شيئاً ولم يمنع دخولهما النار. وبعد رسول الله عملن خلافاً لأمر رسول الله الذي أمرهن بأمر الله تعالي بعدم الخروج من بيوتهن: (وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)فخرجت عائشة من بيتها وهجمت - مع من خرج معها - علي اهل البصرة وقتلوا عدداً من الناس الأبرياء، وخرجوا علي امام زمانهم علي بن ابي طالب ومهّدوا بذلك السبيل لظهور الخوارج وعصيان معاوية الجائر. وكان سبب كل ذلك بغض علي. رغم ان عائشة هي التي

ص: 84

كانت أمرت بقتل عثمان، حيث قالت انه قد حكم بغير ما انزل الله، (ومن يحكم بغير ما انزل الله) فهو طاغوت وطاعته حرام، وقتله واجب. ووصفته بالطاغية وقالت «هذا الطاغية». واصدرت أمراً بقتله حين قالت: «اقتلوا نعثلاً». وكان نعثل اسم رجل يهودي طويل اللحية. ولم يكن لعائشة أي عذر في قتل عدد من الابرياء من أهالي البصرة عند الهجوم علي تلك المدينة.

ص: 85

آخر وصايا رسول الله للصحابة

القرآن و وصايا رسول الله

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَ حِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَ-بَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنم بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَ-تُ بَغْيَام بَيْنَهُمْ فَهَدَي اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِي وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَي صِرَ ط مُّسْتَقِيم) (1) . قال رسول الله: «لتفترقنَّ أُمَّتي علي ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار» (2) . وقال الله العزيز في كتابه الكريم: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِنم بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَ-تُ وَأُوْلَ-ل-ِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (3) . وقال أيضاً في القرآن المجيد: (يَ-أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَْمْرِ

ص: 86


1- 88. سورة البقرة، الآية 213.
2- 89. سنن ابن ماجة، باب افتراق الامم.
3- 90. سورة آل عمران، الآية 105.

مِنكُمْ فَإِن تَنَ-زَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (1) . وقال أيضاً: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّ--لِمِينَ) (2) . وقال رسول الله: «اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا». وصايا رسول الله: قلنا بانه علي الرغم من وجود اكثرية من الصحابة تميل الي الدنيا وكانت من بينهم جماعة تحب الرئاسة، وجماعة اخري حاقدة، وفئة اخري منافقة ومثيرة للفتن. وفي ظل وجود مثل هذه المخاطر التي كانت بمثابة نار تحت الرماد لعهد ما بعد رسول الله كان من الطبيعي أن يقع الصحابة وعموم المسلمين في الفتنة والفرقة والضلال لولا أن يكون الله والرسول قد وضعا علامة ومناراً يهتدي به الصحابة من بعد رسول الله ويستدلّوا به علي ما يقيهم عثرات الطريق، والا فليس للصحابة من ذنب بل هم معذورون فيما لو وقعوا في الفتنة والاختلاف والضلال، وتكون الحجّة في ذلك علي الله سبحانه، وعلي رسوله. ويمكن ايجاز ذلك بالقول بأنه لو لم يجعل الله ورسوله للصحابة مناراً يستدلون به علي واضح الطريق ويميّزون به بين الحق والباطل ويهتدون به من الوقوع في الضلال، فكان لا مناص لهم من الوقوع في مهاوي الفتنة والفرقة والضلال، ولا حجة عليهم في ذلك وانما

ص: 87


1- 91. سورة النساء، الآية 59.
2- 92. سورة البقرة، الآية 124.

الحجّة علي الله وعلي الرسول. - ولكن ان كان الله ورسوله قد وضعا العلامة والمنار للصحابة وللمسلمين بحيث يستطيعون عند رؤيته التمييز بين الحق والباطل، والاهتداء به من اجل اجتناب الوقوع في متاهات الفرقة والضلال، فلا حجة علي الله ورسوله في ما يقع بعد الرسول من الفرقة والضلال، وانّما الحجّة في ذلك علي اولئك الصحابة الذين تجاهلوا ذلك المنار وتغاضوا عنه عن علم وعمد، يدفعهم الي ذلك دافع حب الرئاسة، فانحرفوا علي اثر ذلك عن طريق النجاة. وكانت النتيجة انهم كانوا سبباً في تفرّق الأمّة، ويبقي اثم فرقة وضلال الأمة الي يوم القيامة في اعناق اولئك الذين كانوا يتحركون بدوافع من الاحقاد وحب الرئاسة. وهناك سؤال يراود الاذهان وهو: هل ان الحجّة في ما جري من ضلال وفرقة الصحابة، علي الله والرسول؟ أم ان الحجة في ذلك تقع علي طلاّب الرئاسة من الصحابة؟ والجواب عن هذا السؤال واضح جداً عقلاً وهو ان الله ورسوله قد بيّنا للناس كل ما هو كفيل بهدايتهم الي التقوي وتوجيههم الي سبيل النجاة والوحدة، ولا حجة في ذلك علي الله ورسوله. وليس ادلُّ علي ذلك من الآيات القرآنية والاحاديث المتواترة علي هذا الأمر العقلي الذي تقتضيه العدالة والرحمة الالهية الواسعة، حيث يقول تعالي في قرآنه الحكيم: (وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمَام بَعْدَ إِذْ هَدَل-هُمْ حَتَّي يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ) (1) .

ص: 88


1- 93. سورة التوبة، الآية 115.

أي انهم إن ضلّوا فلا حجة علينا في ذلك وانما يعزي سبب ذلك الي الاهواء والنزوات التي تأتي عن علم وعمد لا عن جهل. فهذه الفئة من الصحابة كانوا من قبل ضالّين فهداهم الله وبيّن لهم كل سبل التقوي واجتناب الضلال. وكذلك ثبت في التاريخ بالتواتر بأن أهل الشام لم يكونوا يعتبرون علياً مؤمناً وذلك بفعل تأثير الاعلام الذي كان يمارسه معاوية، في حين كان معاوية علي معرفة تامة بمدي ايمان علي حتي قبل ان يسلم وحينما كان في صف المشركين في معركة بدر وأُحد والاحزاب، ولم ينس تضحيات وإقدام علي بن ابي طالب في الدفاع عن الاسلام وعن رسول الله، الا ان حبّه للرئاسة ورغبته في الانتقام لاقاربه الذين قُتِلوا في بدر وأُحد بيد علي، دفعاه الي شنّ تلك الحملة الاعلامية المسمومة ضد علي (1) . وقال الله أيضاً في قرآنه الكريم: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) (2) . (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِنم بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَ-تُ) (3) . ومن غير الممكن ان يكون الله قد اوجب الوحدة علي المسلمين، وحرّم عليهم الفرقة، الا وقد بيّن لهم سبيل الحفاظ علي الوحدة

ص: 89


1- 94. (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنم بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَ-تُ بَغْيَام بَيْنَهُمْ). سورة البقرة، الآية 213.
2- 95. سورة آل عمران، الآية 103.
3- 96. سورة آل عمران، الآية 105.

واجتناب الفرقة. وقد أمر الله عز وجل في الآية 59 من سورة النساء، بعدما أمر بطاعة الله والرسول واولي الأمر: (أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَْمْرِ مِنكُمْ); لأنه من الممكن حصول افتراق ونزاع بين الصحابة في ما يخص تفسير ومصداق اولي الأمر، لذلك فقد بيّن لهم في اعقاب ذلك مباشرة سبيل ازالة الاختلاف، حيث قال مباشرة بعد الامر بطاعة الله والرسول واولي الأمر: (فَإِن تَنَ-زَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ) (1) . فهو تعالي يقول: إنَّ اختلفتم في شيء فارجعوا فيه الي الله والرسول، ولم يأمر بالرجوع الي الله والرسول واولي الأمر، لما قد يقع بينهم من اختلاف في تفسير وتعيين مصداق اولي الأمر. ولذلك فقد بيّن بأنَّ السبيل الي ازالة الاختلاف في معرفة وتعيين اولي الامر هو الرجوع الي الله والي الرسول، اذ انه معني ومصداق ذلك كان معروفاً وواضحاً لدي جميع الصحابة ولا اختلاف بينهم في معرفة الله والرسول. إذاً يُستفاد من هذه الآية ان الله تعالي كشف في هذه الآية للصحابة ان السبيل الي رفع النزاع يكمن في الرجوع الي الله والرسول، ولو لم يُحل الاختلاف من خلال الرجوع الي الله والي الرسول لما كان الله عز وجل قد جعل ذلك الرجوع كفيلاً بازالة ما بينهم من الاختلاف. اذاً يتّضح بأن الله ورسوله قد بيّنا للصحابة في القرآن والسنّة الواقعية

ص: 90


1- 97. سورة النساء، الآية 59.

السبيل الصحيح لمعرفة اولي الأمر، وبالنتيجة بيّنوا لهم السبيل الكفيلة بتبديد الاختلاف (حيث يتسنّي لهم حينذاك الوصول الي السنّة الواقعية بسهولة). ولكن من غلبهم حب الرئاسة من الصحابة، والذين في قلوبهم مرض حب الدنيا والحقد علي المضحّين من أصحاب رسول الله، وكذلك المنافقين المجهولين منهم، خالفوا عن علم وعمد - بدافع من المصالح الشخصية - المنار والعلم الذي نصبه لهم الله ورسوله. مثلما حصل في معركة احد، حيث ساقت المطامع الشخصية والرغبة في الحصول علي الغنائم تلك الجماعة التي اوكل اليها رسول الله مهمة حراسة الجبل واوصاهم بعدم مغادرة اماكنهم حتّي وان شاهدوا المسلمين انتصروا، فتركوا أحد عن علم وعمد طمعاً في الحصول علي المغانم، وكانت النتيجة حصول فراغ في عقبة احد فاستغلها العدو للالتفات علي المسلمين وانزل بهم هناك هزيمة فادحة. ولذلك قال الباري تعالي في سورة آل عمران في وصف اولئك الصحابة: (وَعَصَيْتُم مِّنم بَعْدِ مَآ أَرَل-كُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاَْخِرَةَ) (1) . وتُطلق كلمة العاصي علي من يرتكب ذنباً عن علم وعمد، لا عن جهل وخطأ. واولئك الذين غادروا جبل أحد رغبة في الحصول علي مزيد من الغنائم، هم الذين حوّلوا نصر المسلمين الي هزيمة عندما خالفوا أمر الرسول الذي أوصاهم «بملازمة مواقعهم وعدم التخلّي عنها مالم يأذن لهم حتي وان رأوا ان المسلمين قد انتصروا

ص: 91


1- 98. سورة آل عمران، الآية 152.

وان المعركة قد انتهت». وهكذا الحال بالنسبة الي اكثرية الصحابة الذين تركوا رسول الله في ساحة المعركة بين الاعداء وانهزموا حفاظاً علي أنفسهم، فارتكبوا بذلك ذنباً كبيراً وهو الفرار من الجهاد وترك الرسول في موقف خطير يهدد حياته. ولهذا السبب «ونظراً الي عدم وجود ضمانة علي عدم اقتراف الصحابة لأي ذنب، اذا فعمل اكثرية الصحابة لا يُعد حجّة». وبالنتيجة فان اتباعهم لا يُنجي من الضلال، وهم ليسوا اسوة، وعمل الصحابة لا يُعتبر دليلاً علي الصحّة ولا علي الجواز، وانما قول الصحابة العدول في نقل سنّة رسول الله حجّة. نعود الي صلب الموضوع لنبيّن بأنَّ الله تعالي قال في كتابه الكريم بانني قد بيّنت لأولئك الذي انجيتهم من الضلال; أي الصحابة، كل سبل التقوي، ومنها سبيل الحفاظ علي الوحدة في المسار الحق. إذاً فتفرّقهم وضلال بعضهم عن سبيل الحق لا يمكن ان يأتي عن جهل، وانما يأتي لدوافع ومآرب شخصية. وأما بالنسبة الي التابعين فمن المحتمل ان تكون بعض اعمالهم عن جهل; وذلك لأن الذين بيّن لهم الله سبل التقوي والوحدة علي طريق الحق هم الصحابة، وأما التابعين كأهل الشام مثلاً فانه من المحتمل ان يكون معاوية وانصاره قد اضلوهم منذ البداية بأكاذيبهم، وسدّوا عليهم المنافذ التي تتيح وصول السنّة النبوية الحقيقية الي اسماعهم مثل الاحاديث النبوية الواردة في فضائل علي بن ابي طالب وما شابه ذلك. وهكذا الحال بالنسبة الي التابعين في سائر البلاد الاخري.

ص: 92

أقول ان الصحابة وحدهم (وليس التابعين) هم الذين اتيحت لهم منافذ الإطلال علي ذلك النبع الزلال، وهم الذين سمعوا قول رسول الله حين قال: اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً. هناك طبعاً من عكّر صفو هذا النبع الصافي بالأكاذيب وبتضليل التابعين، وهم طلاّب الرئاسة والمنافقون المجهولون من الصحابة الذين خرجوا عن طوع العترة الهادية، وتحوّلوا بالنتيجة الي قادة للفرقة والضلال، من امثال عكرمة ومعاوية وغيرهما، من مبغضي علي بن ابي طالب الذين وضعوا الأحاديث الكاذبة ونسبوها الي رسول الله، وخلطوا الحقائق علي التابعين وأضلوهم بالاخبار المتعارضة والمتضاربة، فزيّفوا حديث الثقلين واستبدلوا فيه كلمة «عترتي» بكلمة «سنّتي» لكي لا يتسنّي لأتباعهم معرفة وتمييز الاحاديث الصحيحة من الأحاديث الموضوعة (اي تلك الاحاديث التي تستهويهم)، وهكذا يبقون حياري تائهين بين الأخبار المتعارضة. في حين ان الناس لو فكّروا قليلاً لوجدوا ان هذا الحديث: «اني تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما لن تضلّوا ابداً; كتاب الله وسنّتي» الذي وردت فيه كلمة «سنّتي» مكذوب علي رسول الله، علي خلاف الحديث المتواتر الذي وردت فيه عبارة كتاب الله وعترتي (الذي هو حديث متواتر وصحيح. وقد نقله في تاريخه الكبير البخاري ومسلم في كتابه المعروف واصحاب السنن والمسانيد وغيرهم متواتراً). أما الحديث الذي وردت فيه عبارة كتاب الله وسنّتي فضعيف وغير متواتر نقلاً وغير مقبول عقلاً; وذلك لأن السنّة بعد رسول الله

ص: 93

مختلف فيها ولا يمكن ان تؤدّي الي حل الاختلاف، اضافة الي ذلك لم ينقل حديث «كتاب الله وسنتي» مسلم والبخاري والسنن والمسانيد وليس من سند صحيح له، ولم يرد الا في موطأ مالك من غير سند. أضف الي كل ذلك ان ابن هشام نقل في سيرته، وابن حجر في صواعقه هذا الحديث الصحيح المتواتر «كتاب الله وعترتي»، الي جانب الحديث الضعيف وغير المسند كتاب الله وسنّتي. خاصّة وان ابن هشام نقل حديث «كتاب الله وسنّتي» عن ابن اسحاق من غير سند كامل، في حين ان كتاب السيرة لابن اسحق لا يوجد فيه مثل هذا الحديث الذي فيه «كتاب الله وسنتي». وفي القرنين الخامس والسادس وما تلاهما رتّبوا لحديث كتاب الله وسنّتي اسناداً. كما فعل الخطيب البغدادي الذي نقل هذا الحديث عن طريق سيف بن عمر وهو معروف بالكذب لدي اصحاب كتب الجرح والتعديل، يزعم انه نقل هذا الحديث عن اسحاق الاسدي، عن صباح بن محمد، عن ابن حازم، عن ابي سعيد الخدري (وتكشف كتب التاريخ ان شأن ابي سعيد الخدري كشأن عبد الله بن عمر، لم يبايع علياً بسبب بغضه له). وابو سعيد الخدري نفسه هو ناقل الحديث الصحيح والمتواتر «كتاب الله وعترتي». وبالاضافة الي ابي سعيد الخدري فقد نقل هذا الحديث وبهذا النص أيضاً «كتاب الله وعترتي» زيد بن أرقم في كتاب مسلم وفي السنن والمسانيد وغيرها من عدّة طرق. وقد نقل حديث «كتاب الله وعترتي جابر بن عبد الله، وخزيمة بن ثابت، وسهل بن سعد، وحذيفة بن اُسَيْد، وزيد بن ثابت، وضميرة

ص: 94

الأسدي، وعبد الله بن عباس، وعلي بن ابي طالب، وابو رافع، وابو الهيثم بن التيهان، وابو ذر الغفاري، وابو هريرة، وام سَلَمة، وام هانيء بنت ابي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمر، وعدد كبير آخر من الصحابة. ونقل عدد لا يُحصي من تابعي القرن الاول حديث كتاب الله وعترتي عن جماعة من الصحابة. وكذلك الحال في القرنين الثاني والثالث وما بعدها إذ لا يبقي هناك ثمة شك أو ترديد في صحّة حديث كتاب الله وعترتي. واما خبر الواحد المجهول كتاب الله وسنّتي الذي نقله فقط مالك في الموطأ من غير سند، وابن هشام والصواعق عن اتباع السلاطين، فكان من غير سند صحيح. واما في القرن الخامس وما بعده فقد انفرد بنقله الحاكم النيسابوري فقط، عن انصار معاوية الباغي، من امثال عكرمة وابي هريرة (الذي كان يلعن علياً في مدّة ولايته علي المدينة) وهما من اعداء علي بن ابي طالب ومن اعداء العترة الطاهرة، حيث كان وضع الأحاديث ضد علي والعترة الهادية من الاساليب التي انتهجها معاوية وجلاوزته. قال رسول الله في علي «ياعلي لا يبغضك الا منافق». يعني ولا يوجد بين اعداء علي مؤمن واحد. وانما كلهم منافقون من غير استثناء. وهذا القول شهادة من رسول الله علي ان جميع اعداء علي بلا استثناء منافقون في حين اننا نعلم بأنه لم يكن احد من الصحابة اشد بغضاً لعلي من معاوية واعوانه من امثال عكرمة واضرابه. وهم كلهم - بشهادة رسول الله - منافقون. وقد شهد الله علي المنافقين - في أول سورة المنافقون - بأنهم كلهم كذّابون:

ص: 95

(وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَ-فِقِينَ لَكَ-ذِبُونَ). (صدق الله العظيم) - اما بالنسبة الي كذب سيف بن عمر الذي نقل عنه الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه المتفقّه حديث «كتاب الله وسنّتي»، فكل علماء الجرح والتعديل يعتبرون سيف بن عمر كذاباً. نذكر منهم علي سبيل المثال: ابن حاتم (المتوفي عام 327) الذي ترك حديثه، ويحيي بن معين (المتوفي عام 233) اعتبره ضعيف الحديث وانّ فلساً خير منه، وأبا داوود اعتبره كذاباً. واعتبره النسائي (المتوفي عام 303) ضعيفاً. ونقل كل من ابن عون (المتوفي عام 365)، والحاكم (المتوفي عام 405)، والخطيب البغدادي نفسه، وابن عبد البر (المتوفي عام 463) عن ابن حبّان قوله: «سيف متروك الحديث و...». - سيف بن عمر هذا هو ذلك الكذّاب الذي اختلق قصّة تاسيس المذهب الشيعي علي يد عبد الله بن سبأ. ونقل الطبري هذه القصّة المختلفة المكذوبة عن سيف، وأثار بذلك الشكوك حول صحّة واعتبار سائر اقواله. في حين ان عمر نفسه نقل قضية افتراق علي وفاطمة وشيعة علي عن عمر بن الخطاب وابي بكر، وجاء ذلك في كتاب البخاري في ابواب الحدود، في باب حد الحبلي. أي أن افتراق اتباع علي عن اتباع السلاطين حصل بعد رحلة رسول الله مباشرة، وليس كما زعم سيف بن عمر. - وعلي اية حال فانَّ السنّة التي ضاعت في خضم الاخبار المتضاربة والمتعارضة، وصارت موضع اختلاف ومصدراً للاختلاف ولم يعد يُعرف صحيحها من كذبها «وتلاشت السنّة الحقيقية بين الأحاديث المتعارضة». فكيف يمكن للشيء الذي اضحي - من بعد رسول الله

ص: 96

- مجهولاً ان يستنقذ الامة من هذا الاختلاف، ومن الضياع الناتج عن هذا الاختلاف. فان كان رسول الله قد عيّن ما يزيل الاختلاف والضلال من بعده، فمن المحال ان لا يزول ذلك الاختلاف عند الرجوع الي ما عيّنه الرسول، والذي عيّنه الرسول هم العترة مثل علي بن ابي طالب وبقية الأئمة من العترة الهادية. حيث يمكن من بعد رسول الله معرفة السنّة الصحيحة لرسول الله من بين الاخبار المتعارضة من خلال الرجوع الي العترة الهادية، ويمكن الفرز عند ذاك بين السنّة الواقعية والاخبار الزائفة الكاذبة. وذلك لأن علي بن ابي طالب الذي هو من العترة كامل الايمان، ولديه علم تام بكل القرآن والسنّة وهو مبيّن للسنّة الواقعية. وعندما يسأل الناس من العترة الهادية تتبيّن لهم السنّة الواقعية. ولكنهم اذا رجعوا بعد رسول الله الي الاحاديث المختلف فيها بين ابناء الأمّة، فمن المحال ازالة ذلك الاختلاف. والسنّة المختلف فيها بعد رسول الله لا يمكن ان تكون بحد ذاتها مزيلة للاختلاف. اذ ان الاختلاف بشأن الاحاديث كان مدعاة لاختلاف المذاهب والفرق. أي ان الاحاديث المتضاربة والمتكاذبة والمختلف فيها كانت بحد ذاتها مصدراً للاختلاف علي الدوام وليس مصدراً لحل وازالة الاختلاف. اذاً فقد اتضح بأن هناك فارق بين هذين الخبرين المتعارضين وأحدهما (حديث الثقلين المتواتر)، وان مهمّة ازالة الاختلاف تتكفّل بها - من بعد القرآن - العترة الهادية، أي علي بن ابي طالب،

ص: 97

(والأئمة من العترة) الذين هم عالمون بالسُنّة الواقعية كلها، والآخر حديث ضعيف وهو الذي وردت فيه عبارة «كتاب الله وسنّتي» واوكل فيه رفع الاختلاف في السُنّة الي نفس السنة المختلف فيها. ومن المحال ان تكون السنّة المختلف فيها قادرة علي حل ما تختلف فيه الأُمّة. اذاً تبيّن بأن الحديث الصحيح الذي إن تمسكت به الامة فانّها ستدرك السنّة الواقعية، ولا تقع في الضلال بعد رسول الله، اضافة الي القرآن هي العترة. والحديث المعارض له هو «الذي جعل السنة المختلف فيها بعد رسول الله، هي سبيل لاجتناب الوقوع في الضلال». ومن البديهي ان هذا الحديث موضوع وهو من اختلاق المنافقين المجهولين (اعداء علي واعداء عترة رسول الله). ان اتباع العترة وأهل بيت رسول الله كعلي بن ابي طالب، والحسن بن علي، والحسين بن علي، وعلي بن الحسين، والامام الباقر، والامام الصادق، من ذرية فاطمة سيّدة نساء اهل الجنّة، هم الاتباع الحقيقيون لسنّة رسول الله، وهم اهل السنّة الواقعيّون، وهم اتباع القرآن والسنّة الواقعية. في حين ان «قادة ما سوي العترة»، وفقاً لمفهوم حديث الثقلين «كتاب الله وعترتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا»، ماهم الا قادة ضلال. لقد ازاحوا عترة رسول الله الهادية عن علم وعمد. وادّي انحراف القيادة السياسية الي زرع الاختلاف وألقوا مستقبل الامّة في احضان بني اميّة، وقادوا الامّة الي التناحر والقتال. واما علي الصعيد العلمي فبما انّهم كانوا جهلة وغير قادرين علي قيادة الامة علمياً فقد وضعوا

ص: 98

اول واعظم فاصل وتفرقة وهو فصل القيادة العلمية عن القيادة السياسية، وهو ما حصل بعد رسول الله مباشرة حين ابعدوا علياً عن القيادة السياسية. وبما ان القابضون علي السلطة السياسية لم يكونوا يريدون للناس أن يتّبعوا العترة الهادية (العالمة بالقرآن والسنّة) (1) اتباعاً تاماً حتي في القضايا العلمية، وكانوا هم عاجزين عن الاجابة عنها. ولذلك كانوا يحيلون الناس الي افراد مختلفين وكثيرين. ومن ذلك انها كانوا يحيلون من لديه سؤال حول تفسير القرآن الي شخص، ويحيلون من لديه سؤال فقهي الي شخص آخر (2) ، وما شابه ذلك. وكان اكثر ما يثير حنقهم الرجوع الي العترة الهادية. وبالنتيجة فقد ادّي تخبّط الناس في القضايا الفقهية والعقائدية والقرآنية وما شابه ذلك، الي ظهور الاختلاف في المذاهب العقائدية والفقهية. وفضلاً عن الفصل بين القيادة السياسية والقيادة العلمية، فقد تم تجزئة وتقسيم القيادة العلمية أيضاً (حيث ظهر هناك قادة

ص: 99


1- 99. وذلك لأن احدي هذه المسائل العلمية هي اختصاص الشؤون القيادية بالعترة الهادية سواء في السياسة أم في القضايا الاخري لكي لا يقع الناس في الضلال، وذلك يعني في ما يعنيه عدم مشروعية خلافة غير العترة. [
2- 100. خطب عمر بن الخطاب في الجابية حول ارجاع الناس الي غير العترة الهادية فقال: من اراد ان يسأل عن القرآن فليأت ابي بن كعب ومن اراد ان يسأل عن الحلال والحرام فليأت معاذ بن جبل ومن اراد ان يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ومن اراد ان يسال المال فليأتني فانّي له خازن. الاموال، ابو عبيد; سنن البيهقي، المجلد السادس، ص 210; مستدرك الحاكم، المجلد الثالث، ص 271; العقد الفريد، المجلد الثاني، ص 132; معجم البلدان، المجلد الثالث، ص 33; سيرة عمر لابن الجوزي، ص 87.

عقائديون، وقادة فقهيون، وقادة...). ثم ان القيادة السياسية نفسها تجزّأت (واتخذ كل شعب من الشعوب الاسلامية لنفسه قيادة، وانهمكوا في التناحر والحروب في ما بينهم بدلاً من محاربة الكُفّار). والضعف الذي يعيشه العالم الاسلامي يُعزي سببه الي انعدام القيادة الواحدة بينهم. ولو ان العترة الهادية العالمة بكل القرآن والسنّة، كعلي بن ابي طالب اخذت بزمام القيادة السياسية، لكانت القيادة العلمية والسياسية موحّدة في شخص واحد، مثلما كان الحال في عهد رسول الله. ولما كان يحصل في ظل حكمه أي انحراف عن الحق او أي افتراق في صفوف الامة. وبالنتيجة فان الذين شتتوا شمل الامّة هم اولئك الذين ازاحوا علياً (وهو من عترة رسول الله) العالم الكامل بالقرآن والسُنّة، وهم الذين تسببوا في حصول هذه الفرقة والضلال. وكان دافعهم لذلك هو حب الرئاسة (1) لا غير. فهل يُعقل ان الرسول (الذي حرّم الفرقة الي يوم القيامة) لم يعيّن للامّة لمرحلة ما بعد وفاته، ما تتمسك به ويكون لها اماناً من الفرقة السياسية، والاعتقادية، والفقهية، ومع ذلك فقد اوجب عليها الوحدة وحرّم عليها الفرقة الي يوم القيامة. وهذا لايعني بطبيعة الحال إلاّ تكليفاً بما لا يُطاق (2) بل النبي عيّن للأمّة لمرحلة ما بعد وفاته ما ان

ص: 100


1- 101. قال رسول الله مخاطباً أصحابه: ستحرصون علي الامارة وتكون ندامة يوم القيامة.
2- 102. نقل البخاري في ابواب الغزوات، في باب عمرة القضاء ان عمر قال: اقضانا علي بن ابي طالب. ومع ذلك يكفينا قول رسول الله حين قال: ما إن تمسكتم بهما (كتاب الله والعترة) لن تضلوا ابداً.

تتمسك به يكون لها اماناً من الفرقة السياسية والاعتقادية والفقهية.

رسول الله يعين ما هو ضروري لحفظ وحدة المسلمين

كل مجتمع، اسلامي كان او غير اسلامي، لابد له من امير وحاكم، وهذه ضرورة عقلية لا ينكرها عاقل. بيد ان حاجة المجتمع الاسلامي الي امام، فهو شيء اعلي من وجود الحاكم; وذلك لأن وجود الحاكم ضروري في كل الاحوال، لكي يمنع وقوع الفوضي في المجتمع، ولا احد ينكر ذلك. ولكن الحاجة تدعو الي وجود الإمام لمنع خطأ وانحراف وافتراق الأمّة، وذلك استناداً الي المعطيات التالية: أولاً- وجود أي حاكم لا يمثل (ضمانة لتحقيق العدالة التامّة) مانعاً تاماً من الوقوع في الضلال. ثانياً- ان الحاكم من غير العترة الهادية (حتي وان كان عادلاً) لا يمكن ان يكون معصوماً من الخطأ. (ولا يمكنه منع وقوع الفرقة التي تأتي نتيجة لنقل الاحاديث المتعارضة). ولهذا فمن المناسب البحث في وصايا رسول اللهالتي وردت في خطبة غدير خم، وفي اثناء مرضه الذي انتهي بوفاته، وقوله (1) في خطبة غدير خم: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، وقوله أيضاً: اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله

ص: 101


1- 103. نقل البخاري هذا الحديث في تاريخه الكبير، ونقله ايضاً بقية المؤلفين في السنن والمسانيد وكتب التاريخ.

وعترتي، ما ان تمسكتم بهما لن تضلّوا. ولكن مسلم نقل في كتاب حديثه المعروف، القسم المتعلّق بالثقلين فقط; أي القرآن والعترة، وقال بأن رسول الله اوصي بذلك كثيراً. بينما نقلت كتب السنن ومسند احمد وكتب التاريخ مزيداً من الجُمل حول هذا الموضوع، وهو ان رسول الله قال: ما إن تمسكتم بالقرآن والعترة من بعدي لن تضلوا ابداً. والسؤال الذي يُثار هنا هو: لماذا نقل البخاري ومسلم و... هذا الحديث ناقصاً علي الرغم مما له من الأهمية؟ اذ ان كل واحد منهما نقل قسماً منه ولم ينقلاه كاملاً. ويمكن الحصول علي جواب هذا السؤال من خلال اجراء مزيد من البحث والتحقيق في هذا المجال; وذلك لأن رسول الله في غدير خم جعل قيادة الامة من بعده للعترة الهادية، وليس لمن يسيطرون علي زمام الامور من غير العترة. ولهذا السبب لم ينقل اتباع السلاطين قصّة غدير خم اصلاً، أو انهم حذفوا منها ذلك القسم الذي يعتقدون بأنه ناقض لمذهبهم ويكشف عدم مشروعية خلافة أبي بكر وعمر (لانهما لم يكونا من العترة).

لزوم الرجوع الي القرآن والسنة المتواترة لمعرفة اولي الأمر المفترضي الطاعة

(أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَْمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَ-زَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (1) . بيّن الله تبارك وتعالي في هذه الآية من تجب طاعتهم في الاسلام،

ص: 102


1- 104. سورة النساء، الآية 59.

وهم: الاول: الله. الثاني: الرسول. الثالث: أولي الأمر. ولكن لما كان الناس في ذلك العصر يعرفون الله ورسوله، وكانوا بحاجة الي تعريف من يعرّفهم بأولي الامر سواء من حيث المعني او من المصداق، ويبيّن لهم من هم، اذ من المحتمل ان يكون ذلك موضع خلاف ونزاع بين الناس. ولذلك قال تعالي في مواصلة هذه الآية مباشرة: (فَإِن تَنَ-زَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ). أي انكم اذا اختلفتم في تفسير وتعيين مصداق اولي الأمر، فارجعوا الي الله والي الرسول (ولم يقل ارجعوا الي اولي الأمر; وذلك لأن موضوع «اولي الأمر» قد يكون هو نفسه موضع اختلاف ونزاع). ولهذا السبب يجب الرجوع الي الله والي الرسول حتي لمعرفة اولي الأمر. ويتضح من ذلك ان لدي الله والرسول جواب واف حول معرفة اولي الامر، وإلاّ لما أرجع الباري تعالي الناس الي هذين المرجعين. وهكذا ينبغي لنا الرجوع الي القرآن والسنّة لمعرفة اولي الأمر المفترضي الطاعة الذين امرنا الله بطاعتهم بعد رسول الله. ومن المؤكد ان اولي الامر المفترضي الطاعة هو قائد وامام الامة بعد رسول الله; اذ نصّت الآية 83 من سورة النساء علي ما يلي: (وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الاَْمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِي وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُوْلِي الاَْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنم-بِطُونَهُو مِنْهُمْ).

ص: 103

أي اذا تناهي الي اسماعهم خبر حول الأمن والمخاطر يسارعون الي بثّه، ولكن لو ردّوه الي رسول الله او الي أولي الامر منهم، يستطيعون استنباط واستكشاف جوابه ورد الفعل المناسب له من القرآن والسنّة.ان الصحابة ليس لهم مثل هذه القدرة الاستنباطية. بل ان قدرة الاستنباط هذه، خاصّة بالرسول وأولي الامر. ويُستفاد من هذه الآية ان رسول الله واولي الامر اعلم الامة بالقرآن والسنة، بل انهم اعلي من الاعلم; ويجب القول ان رسول الله واولي الامر هم العالمون الكاملون بالقرآن والسنّة. وهذا يعني ان استنباط احكام الحوادث الجديدة منحصر بهم، ورسول الله واولو الأمر هم فقط القادرون علي مثل هذا الاستنباط. وفي سورة البقرة عندما اعترض بنو اسرائيل علي تعيين طالوت ملكاً عليهم، قال لهم الله: (وَزَادَهُو بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) (1) (يعني ان الاعلمية من ملاكات نصب الامام من الله).

ص: 104


1- 105. سورة البقرة، الآية 247. اضافة الي ان هناك احاديث تدل علي أعلمية علي (وهو من العترة) اضافة الي انه تربّي في حجر الرسول، ونشأ منذ صغره في بيته، وله علم اكثر من بقية الصحابة بقول وفعل رسول الله. ومن تلك الاحاديث قول رسول الله: انا دار الحكمة وعلي بابها. وقد نقل الترمذي في ابواب المناقب من كتابه، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، وغيرهم، هذا الحديث بألفاظ اخري كما يلي: انا مدينة العلم وعليّ بابها فمن اراد المدينة فليأت بابها. ونقل الحاكم في المستدرك، (ج 3، ص 126); والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد وغيرهم، ما يلي: أقضاهم علي. ونقل الترمذي في باب فضائل اصحاب النبي، قال عمر: اقضانا علي. نقله البخاري في ابواب تفسير قوله تعالي: (مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَة أَوْ نُنسِهَا).

وكذلك يستفاد من قوله تعالي: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَ مِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّ--لِمِينَ) (1) بأن الله عز وجل لا يجعل الظالم قائداً واماماً. وبالنتيجة فان اولي الامر وامام المسلمين - اضافة الي لزوم كونهم اعلم الامّة - يجب ان يكونوا عادلين ومعصومين أيضاً. هذا فضلاً عما يفهم من الآية الشريفة (أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَْمْرِ مِنكُمْ)بأنه من غير الممكن ان يكون مصداق أولي الأمر فرداً ظالماً; وذلك لأن الله تعالي الذي حرّم الظلم وحرّم حتي التعاون علي الظلم، من غير الممكن ان يقوّي حكومة الظالم من خلال الأمر بوجوب طاعته، فيكرّس بذلك ظلمه. هذا ناهيك عمّا يستلزمه هذا من تناقض في الآية نفسها; وذلك لأن الظالم عندما يأمر بالظلم مثل ضرب أو جرح او قتل انسان بريء او طفل او رضيع او يأمر بشرب الخمر وترك الفرائض الدينية، ان كانت اطاعته واجبة فذلك يستلزم ترك طاعة الله، خاصة اذا كان هو يشرب الخمر، ويريد القضاء علي الدين. وخلاصة الكلام هي اننا نستفيد من هذه الآية ان ظالماً مثل يزيد بن معاوية الذي ما كان يتورّع عن ارتكاب أي ظلم وحرام كشرب الخمر (2) .

ص: 105


1- 106. سورة البقرة، الآية 124.
2- 107. كتب التاريخ.

والزنا بالمحارم (1) وحتي انه أمر بقتل (2) سبط رسول الله وأحد سيدي شباب اهل الجنّة، وهو الحسين بن علي (من العترة الهادية) وطفله الرضيع علي الأصغر، وابن اخيه غير البالغ وهو القاسم، وقتل ذرية رسول الله. ثم انه أمر بالهجوم علي المدينة والاستيلاء عليها واستباحتها ثلاثة أيام (3) لجيشه ليفعل ما يشاء بارواح الناس واموالهم واعراضهم ابتداءً من الصحابة وحتي التابعين (4) ، فقتلوا كثيراً من الناس حتي بلغت الدماء الي قبر النبي في المسجد، وزنا افراد جيش يزيد بكثير من نساء الصحابة وبناتهم بحيث ولد بعد تسعة اشهر من ذلك التاريخ ما يربو علي ألف نغل. ثم ان يزيد نظم اشعاراً صرّح فيها بكفره وعدم ايمانه برسالة النبي الهاشمي حين قال: لعبت هاشم بالملك فلا++ خبر جاء ولا وحي نزل ليت اشياخي ببدر شهدوا++ جزع الخزرج من وقع الأسل قد قتلنا القرم من ساداتكم++ وعدلنا ميل بدر فاعتدل فاهلّوا واستهلوا فرحاً++ ثم قالوا يا يزيد لا تُشل لست من خندف ان لم انتقم++ من بني احمد ما كان فعل فهل يمكن القول بأن يزيد من اولي الامر الواجبي الاتباع والطاعة

ص: 106


1- 108. كتب التاريخ.
2- 109. كتب التاريخ.
3- 110. تاريخ الطبري، واقعة الحرّة، في احداث سنة 61 - 62 - 63، وغير ذلك.
4- 111. البخاري، ابواب غزوة بدر (ج 5، ص 20) في الاعتراف بواقعة الحرّة.

لمجرّد انه كان حاكماً علي المسلمين وان اولئك الذين اقترفوا الكثير من المظالم بأمره، أو الذين انكروا رسالة النبي - حسب تعبيره - من اهل الجنّة؟ وألم تكن تلك المظالم والمخالفات لدين الاسلام هي التي أثارت الامّة الاسلامية ضد يزيد وبني اميّة، وأحدثت شرخاً عظيماً بين المسلمين؟ ولولا ثورة المسلمين ضد بني أمية وقضائهم عليهم، لاستمر منع تدوين الحديث النبوي (وهو ما كان يُمارس في عهد بني امية) ولتواصلت اعمال بني اميّة الهادفة الي القضاء علي الدين، ولو انها استمرت الي عدّة قرون اخري لكانت سنّة رسول الله قد طُمست كلياً ولقُضي علي الاسلام قضاءً مبرماً. عند الرجوع الي القرآن نلاحظ ان الله قد حرم الظلم والحاكم الظالم ونهي عن التعاون علي الظلم، واوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصة عند الحاكم الجائر، وغير ذلك من المباديء، وهذا يمثّل أوضح دليل علي ان هذا الظالم لم يكن ولي امر مفترض الطاعة من قبل الله ورسوله، بل ان الله أوجب محاربته والتصدّي له، لاسيما انه يمثّل مصداقاً للطاغوت، والكفر بالطاغوت واجب: (أَلَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَي الطَّ-غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِي) (1) . هذه الآيات القرآنية التي تحرم حكم الظالم وتأمر بالكفر به وتوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي التي دفعت الناس الي الثورة

ص: 107


1- 112. سورة النساء، الآية 60.

ضد بني اميّة، واجتثاث حكمهم من اساسه. وحتي عندما ثار الصحابة ضد عثمان الاموي، فهم قد استندوا الي هذه الآيات والروايات. وهذا الواقع هو الذي جعل حتي عائشة تصف عثمان بالطاغوت وتأمر بقتله (1) وقالت ان عثمان لا يعمل بأحكام من القرآن والسنّة النبوية بل انه يحكم بغير ما أنزل الله. وقد ورد في القرآن الكريم ما يلي: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَ-ل-ِكَ هُمُ الْكَ-فِرُونَ) (2) . وكما ينقل فان عمر بن الخطّاب كان قد تنبّأ بمثل هذا المصير لعثمان الاموي، وحذّره من ذلك، حيث وصفه بأنه كلِف باقاربه، وقال له: كأني بك وقد قلدتك قريش هذا الأمر فحملت بني امية وبني أبي معيط علي رقاب الناس، وآثرتهم بالفيء، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك علي فراشك ذبحاً (3) ويبدو ان عمر بن الخطاب كان قد أخذ هذه النبوءة عن رسول الله حين قال - كما يروي - بأن حكم بني امية علي الناس حرام، واذا بلغت بنو امية اربعين اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله نحلاً وكتاب الله دغلاً (4) ويسومون الناس غاية الظلم. وفي عهد رسول الله أيضاً كان عثمان بن عفان الاموي ممن انهزموا في

ص: 108


1- 113. انساب الاشراف، البلاذري; تاريخ الطبري; وغيرهما.
2- 114. سورة المائدة، الآية 44.
3- 115. نقلت ذلك بعض كتب التاريخ.
4- 116. نقل الحاكم النيسابوري عن ابي ذر قال: سمعت رسول الله - يقول اذا بلغت بنو امية اربعين اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله نحلاً وكتاب الله دغلاً (وفي زمن عثمان بلغوا اربعيناً).

معركة أحد واختبأ في الجبال ثلاثة أيام (1) ، ولم يجابه مشركي قريش، وكان كثيراً ما يلقي من المسلمين اللوم والتقريع علي ذلك الموقف (2) . وجاء في القرآن الكريم ان الله تعالي قال لابراهيم اني جاعلك للناس اماماً. فسأله ابراهيم ان يجعل من ابنائه وذريته اماماً وقائداً للناس. فقال له الله: ان عهدي لا يشمل الظالمين (اي ان من شروط الامامة والقيادة العدالة) ولا يمكن ان يجعل الله علي الناس اماماً وحاكماً ظالماً: (وَ إِذِ ابْتَلَي إِبْرَ هِيمَ رَبُّهُو بِكَلِمَ-ت فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَ مِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّ--لِمِينَ) (3) . وهذا يعني ان الامام وولي الأمر يجب ان يكون - كما نصّت علي ذلك الآية 83 من سورة النساء - عالماً كاملاً بالقرآن والسنة الواقعية، ولديه القدرة علي استنباط الاحكام الصحيحة منهما، كما يجب ان يكون عادلاً، بل ينبغي ان يكون - وفقاً لما ينص عليه حديث الثقلين المتواتر حول العترة - معصوماً من الخطأ أيضاً.

آخر وصية للرسول عند العودة من الحج

في السنة العاشرة من الهجرة، وهي السنة الاخيرة من عمر الرسول، وفي آخر شهر حج يدركه الرسول ولا يبعد عن وفاته بفاصل زمني طويل، توقف عند العودة من الحج في موضع يُقال له

ص: 109


1- 117. البخاري، باب عثمان (يشير الي فرار عثمان وفي كتب التاريخ موجود بتمامه).
2- 118. تفسير الفخر الرازي، في تفسير الآية الشريفة: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ) سورة آل عمران.
3- 119. سورة البقرة، الآية 124.

غدير خم، وألقي خطبة اورد فيها - بعد حمد الله والثناء عليه - جملة من المواعظ ثم اشار فيها الي قرب اجله وانه موشِكٌ علي الرحيل، وكان ذلك خبراً مؤلماً هز اعماق المسلمين. ثم تطرق الي ما ينبغي ان يفعله المسلمون من بعد رحيل قائد معصوم وجامع لكل خصال الكمال مثل رسول الله، وما الذي يجب ان يفعلوه في شؤونهم السياسية والعلمية وما شابه ذلك. خاصة وان الصحابة كانوا قد سمعوا من رسول الله انه قال بأنه سيتسلّط علي الناس من بعدي ائمة ضلال، وان اصحابه سيدخلون النار يوم القيامة أفواجاً بسبب ما ابتدعوه من بدع من بعده، ولا ينجو منهم الا القليل النادر. واليك في ما يلي نص قوله: «فاذا زمرة حتي اذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلّم فقلت اين؟ قال الي النار قلت وما شأنهم؟ قال: انهم ارتدوا علي ادبارهم القهقري - فلا يخلص منهم الا مثل همل النعم» (1) . وقال صلوات الله عليه في موضع آخر: «يكون من بعدي ائمة لا يهتدون» (2) . وفي ضوء ما ورد في حديث الثقلين حول العترة يتّضح بأن مراد رسول الله من أئمة الضلال، هم القادة من غير العترة. لكن الجمل والعبارات التي قالها رسول الله في خطبة الغدير بعد الإخبار عن قرب وفاته تعرّضت للكثير من الحذف (في نقل) علي خلاف سائر

ص: 110


1- 120. البخاري، ج 7، باب في الحوض.
2- 121. مسلم، كتاب الامارة. وسائر كتب الحديث.

عباراته ومواعظه، او انهم اكتفوا بنقل مقدار منها مما لا يسيء للحكام والسلاطين بعد رسول الله. وكلما كان ناقل الحديث اقرب الي بني امية وابعد عن العترة الهادية كان حذفه من تلك العبارات اكثر. وكلما كان الراوي اكثر مودّة لذوي القربي ومحبّة لهم كان حذفه اقل. نذكر علي سبيل المثال ان البخاري اكتفي في تاريخه الكبير بأوجز العبارات والجمل (مما كان يراه اقلها ضرراً علي مذهبه) من خطبة رسول الله في غدير خم، وقال: قال رسول الله: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه». اما مسلم فقد أشار في كتاب حديثه الي قصّة غدير خم اشارة مقتضبة وعابرة، قال فيها ما يلي: «قام رسول الله يوماً خطيباً فينا بماء يدعي خماً بين مكة والمدينة فحمد الله واثني عليه ووعظ وذكّر ثم قال: «اما بعد الا ايها الناس فانما انا بشر يوشك ان يأتي رسول ربّي فاجيب وانا تارك فيكم الثقلين «اولهما كتاب الله» فيه الهدي والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحثّ علي كتاب الله ورغب فيه ثم قال و«اهل بيتي»، اذكّركم الله في اهل بيتي اذكركم الله في اهل بيتي اذكركم الله في اهل بيتي». وقد سمع ان الراوي سُئِل: فمن أهل بيته؟ أليست نساؤه من أهل بيته؟ قال: لا (1) . كان هذا مقدار ما نقله مسلم من هذه القصّة، وهو كما نلاحظ

ص: 111


1- 122. مسلم، ج 7، ص 122.

مختصر جداً لأنه يقول: «قام رسول الله يوماً فينا خطيباً» ولابد ان تكون الخطبة مطوّلة. وأخبرهم فيها عن قرب وفاته ثم قال اني تارك فيكم شيئين مهمّين احدهما القرآن، والآخر أهل بيتي. وبعدما أخبر عن قرب أجله ذكر أهل بيته ثلاث مرّات. (وورد في احاديث اخري بشكل متواتر; كما ورد عند تفسير آية التطهير، وعند ذكر قصّة المباهلة ان رسول الله ذكر ان مراده من أهل بيته هم ابنته فاطمة وسبطاه الحسن والحسين، وعلي بن ابي طالب. وحتي انه ورد في خبر في تفسير آية التطهير بأن أم سلمة قالت: ألست من اهل البيت يارسول الله؟ فقال: انكِ علي خير. وقد حصر رسول الله معني كلمة أهل البيت - كما ورد في تفسير آية المباهلة، وآية التطهير - في هؤلاء الاربعة فيكونون معه خمسة. اضافة الي ما ورد في حديث غدير خم (1) وهو حديث متواتر أيضاً ان رسول الله ذكر اسم علي بن ابي طالب، بل انه رفع يده ووصفه بأنه مولي المسلمين مثلما انه هو نفسه مولاهم وقال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه». وحتّي البخاري (2) نقل هذه الجملة وهي: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه». لقد نقلت اقوال رسول الله بحذافيرها حتي وان كانت امام شخص واحد او عدّة اشخاص، ومتي ما كان يقول كلاماً فانه كان ينقل بتمامه وكماله. ولكن نلاحظ ان هذه الخطبة السياسية المفصّلة التي أُلقيت علي مسامع ما يزيد علي مائة وعشرين ألف حاج في

ص: 112


1- 123. الغدير يعني بركة الماء، وخُم اسم الموضع الذي كان فيه ذلك الغدير.
2- 124. البخاري في تاريخه الكبير.

غدير خم وتضمّنت مجموعة من الوصايا المهمة وبيّن فيها ما يكفل ازالة الاختلاف، قد نُقلت مبتسرة، وكأن البخاري ومسلم من اتباع السلاطين ومن الرواة المحابين لبني أمية، ولا يروق لهم نقل هذا الحديث السياسي المهم (الذي جعل الخلافة في العترة فقط) بتمامه. والبعض الآخر لم ينقل هذا الحديث بتمامه خوفاً من السلاطين. - أما بالنسبة الي مؤلّفي الكتب فقد نقله البعض منهم بشكل اكمل، والبعض الآخر بشكل أنقص. وكما ذكرنا فان مؤلفي الكتب كلما كان احدهم اشد ميلاً لبني أمية واكثر عداءً لآل بيت رسول الله (عترة رسول الله) فقد نقل الحديث بشكل انقص. وكلّما كان اكثر ميلاً لعترة رسول الله واقل ميلاً لبني امية (او كان لا يميل الي اعداء ذوي القربي) كان ينقل الحديث بشكل اكثر واكمل. نذكر علي سبيل المثال ان الترمذي كان اقل ميلاً الي بني امية بالمقارنة مع البخاري ومسلم، ويميل اكثر منهما الي ذوي قربي رسول الله، وقد نقل في كتاب حديثه جملة: من كنت مولاه فهذا علي مولاه التي قالها رسول الله في خطبة غدير خم. (ونقل أيضاً حديث المباهلة وهو ان رسول الله اخذ معه علي بن ابي طالب والحسنين وفاطمة للمباهلة. وأيضاً في تفسير آية التطهير حيث قال ان رسول الله بعد أن أدخل رسول الله علي بن ابي طالب وفاطمة والحسنين تحت ردائه، دعا لهم وتلا آية التطهير التي نزلت فيهم في سورة الأحزاب. مبيّناً بأن المراد من أهل البيت في المباهلة وفي تفسير آية التطهير هم هؤلاء الاربعة ويكون عددهم مع رسول الله خمسة. وتجدر الاشارة الي ان الترمذي نقل حديثين آخرين حول علي بن

ص: 113

ابي طالب، احدهما حديث رسول الله الذي قال فيه حول علي: 1- «علي مني وانا من علي، ولا يؤدّي عني الا انا أو علي». وهو يكشف ان اهداف رسول الله لا يمكن ان يؤدّيها عن جدارة الا هو أو علي، وان علياً اقرب الناس الي رسول الله. (تجدر الاشارة الي ان البخاري، في ابواب المناقب، اكتفي بذكر قول رسول الله لعلي: «انت مني وانا منك». وكذلك اقتصر في ابواب الغزوات - باب عمرة القضاء - علي هذا القول أيضاً وهو: «انت مني وانا منك»). 2- الحديث الآخر الذي نقله الترمذي هو قول رسول الله: «ان علياً مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي». وهذا الحديث يكشف بعبارة اخري بأن علياً ولي ومولي كل مؤمن بعد رسول الله، وهو يؤيد حديث: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» (1) . وعندما نضع هذه الاحاديث الي جانب حديث المنزلة الذي قال فيه رسول الله عند مسيره الي غزوة تبوك، لعلي بن ابي طالب: «انت منّي بمنزلة هارون من موسي» وهو حديث متواتر. أي مثلما كان هارون خليفة موسي فأنت خليفتي أيضاً، عند ذاك يتضح لنا بكل جلاء معني قول رسول الله في غدير خم. ومع ذلك فحينما نلاحظ

ص: 114


1- 125. نقل ابن ماجة في كتاب سننه، وابن قتيبة في كتاب معارفه، واحمد في مسنده، المقدار التالي من حديث غدير خُم: أقبلنا مع رسول الله في حجته التي حج فنزل في بعض الطريق فأمر الصلوة جماعةً فأخذ بيد عليّ فقال: الست اولي بالمؤمنين من انفسهم؟ قالوا: بلي قال: الست اولي بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلي قال: فهذا ولي من انا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.

النص الكامل لحديث الغدير تتجلي لنا القضية بشكل أوضح. نذكر مثلاً ان «الترمذي» ذكر في كتابه في باب مناقب اهل البيت عن زيد بن ارقم في ما يتعلّق بحديث الثقلين ان رسول الله قال: «اني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي احدهما اعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء الي الارض و«عترتي» اهل بيتي ولن يفترقا حتي يردا علّي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما». وكان رسول الله قد أدلي بحديث الثقلين - عدا ما قاله في غَدير خُم - في ايام الحج في عرفة، وفي مواضع اخري، وفي اثناء مرضه الذي توفي فيه. وقد نقله الترمذي واحمد في مسنده وغيرهما. وإن كان هناك اختلاف في نقل الحديث بسبب اختلاف بيان رسول الله تبعاً لاختلاف المواضع، فقد بيّن بالفاظ مختلفة حقيقة واحدة. او ربّما كان هناك اختلاف في بيان الراوي في النقل بالمضمون، ومضمونها كلها واحد ولا فرق بينها من حديث المعني والمقصد، مثلاً نقل الترمذي عن عبد الله الانصاري قال: رأيت رسول الله في حجّته يوم عرفة وهو علي ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول: «يا ايها الناس اني تركت فيكم ما ان اخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي اهل بيتي». كما انه نقله أيضاً عن طريق ابي ذر وحذيفة. وكان ينبغي طبعاً ان تتعدد الكلمات وان يستخدم رسول الله عبارات متنوعة تبعاً لاختلاف الزمان والمكان لبيان ما ينقذ الامّة من الضلال الي يوم القيامة.

ص: 115

وقد ورد مضمون حديث غدير خم في احاديث اخري أيضاً، مثلاً في حديث السفينة: «مثل اهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجي ومن تخلف عنها غرق» (1) . وحديث: «الحق مع علي وعلي مع الحق» (2) . إلي غير ذلك من الاحاديث الاخري. وحتي آية وجوب مودّة ذوي القربي يمكن ان تؤيد هذا المعني أيضاً، اذ ان علياً من ذوي القربي. وذلك قول الله تعالي: (قُل لاَّ أَسْ-َلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي) (3) . وقوله تعالي: (مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْر فَهُوَ لَكُمْ) (4) . وقوله تعالي: (قُلْ مَآ أَسْ-َلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَي رَبِّهِي سَبِيلاً) (5) . وخلاصة القول هي ان محبتهم طريق الي الله، والسير علي طريق الله هو طريق الاسلام الواقعي والسعادة الأبدية. وجملة: «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره (6) واخذل من خذله». وهذه العبارات التي وردت في سياق حديث

ص: 116


1- 126. المستدرك، ج 5، ص 189.
2- 127. الترمذي، ابواب المناقب: رحم الله علياً اللهم أدِر الحق معه حيث دار.
3- 128. سورة الشوري، الآية 23.
4- 129. سورة سبأ، الآية 47.
5- 130. سورة الفرقان، الآية 57.
6- 131. من يحبّه الله لا يتركه يضل حتي وان قُتِل أو ظُلم. أي ان محبي علي واتباعه الكُمَّل قد يُقتلون ويُظلمون، ولكن لا يضلون أبداً.

الغدير من بعد قوله: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» انّما هي من هذا القبيل; وذلك لأن من يحب اولياء الله ويطيع من اوجب الله اطاعته فان الله يرضي عنه; لأن الله يحب اوليائه وينصرهم ويهديهم الي سواء السبيل، وهم من المهتدين حتي وان قُتلوا مثلما حصل لأبي ذر الغفاري وعمّار بن ياسر. واما الذين يبغضون اولياء الله وخاصة لم يطيعوا من اوجب طاعتهم شرعاً، فان الله يغضب عليهم ولا يهديهم الي سواء السبيل ولا ينصرهم وهم من الضالين حتّي وان تسلّطوا علي الأمّة (مثل معاوية) وقمعوا أو قتلوا مخالفيهم حتي وان كان مخالفوهم من العترة. ولهذا السبب توضح الجملة التالية في حديث غدير خم، هذه القضية بكل جلاء. وكذلك نقلوا في باب مناقب الحسن والحسين، في كتب الحديث، ان رسول الله قال لعلي بن ابي طالب وللحسن والحسين وفاطمة: انا سلم لمن سالمتم وحرب لمن حاربتم (1) . أي لو ان رسول الله كان قدبقي حيّاً،لحارب من حاربوا علياً والحسن والحسين، أي لحارب رسول الله عائشة ومعاوية ويزيد بن معاوية. وهذه الجمل موجودة في روايات حديث الغدير التي ذكرت حادثة غدير خم بتمامها. ويتّضح موقف هذا الحديث من الصحابة والتابعين الذين سلّوا سيوفهم ضد علي. ولا يفوتنا ان نشير الي ان علي بن ابي طالب اول مسلم من سابقي الصحابة وقد ذكر الله في كتابه الكريم: (وَ السَّ-بِقُونَ

ص: 117


1- 132. سنن ابن ماجة، ابواب المناقب.

الاَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَ-جِرِينَ وَالاَْنصَارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَ-ن رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُواْ عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّ-ت تَجْرِي تَحْتَهَا الاَْنْهَ-رُ) (1) انه اول المسلمين مرضي عند الله بقول مطلق. والرضا عن بقية السابقين (وبقية الصحابة والتابعين) مشروط بتبعيّتهم للأوّلين باحسان. واول مسلم آمن بالرسول من المهاجرين والانصار هو علي بن ابي طالب، وخديجة. ومن المهاجرين اسعد بن زرارة وذكوان. واما (الآخرون) الثاني والثالث وغيرهما (فلم يكن أي منهم من الاولين). والوحيد من هؤلاء الثلاثة الاوائل الذي بقي علي قيد الحياة بعد رسول الله هو علي بن ابي طالب، الذي نصّت هذه الآية علي ان اتباعه التام باحسان شرط لمن يريد مرضاة الله (ودخول الجنّة). أي ان الاتباع التام لعلي بن ابي طالب كان واجباً علي جميع الصحابة حسب منطوق الآية المائة من سورة التوبة. في حين لم يكن من الواجب علي عليٍّ اتباع أحد غير الرسول. وهذا هو الفارق الذي يميّز الامام المفترض الطاعة من غيره. وقد نقل حتي امثال الطبري ان رسول الله قال بشأن علي بن ابي طالب، حتي في الأيام الاولي التي آمن فيها بالله ورسوله، وكان اول القوم اسلاماً، حين دعا رسول الله بني هاشم الي وليمة في بيت ابي طالب وسألهم النصرة علي تبليغ هذا الدين، وقال لهم: أيّكم يؤازرني علي هذا الأمر علي ان يكون اخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فاحجم القوم عنها جميعاً، ولم يستجب له الا علي بن ابي طالب.

ص: 118


1- 133. سورة التوبة، الآية 100.

فأخذ برقبة علي وقال: ان هذا اخي ووصيي وخليفتي فيكم (1) .

ص: 119


1- 134. كتاب تاريخ الطبري، باب اخبار البعثة وما تلا ذلك من الاحداث الي وقت الهجرة; الكامل في التاريخ، ابن الاثير، ج 2، ص 22; تاريخ ابي الفداء، ج 1، ص 116; مسند احمد، ج 1، ص 331. قال رسول الله لعلي ابن ابي طالب: ان هذا اخي ووصيي وخليفتي عليكم فاسمعوا له واطيعوه. قال رسول الله في خطبة الغدير... علي، اخي ووزيري ووارثي ووصيّي وخليفتي في أُمتي وولي كل مؤمن بعدي، ثم الحسن ثم الحسين ثم تسعة من ولد ابني الحسين واحد بعد واحد القرآن معهم وهم مع القرآن لا يفارقونه ولا يفارقهم حتّي يردّوا عليّ الحوض...». والخطبة طويلة ومفصّلة، وقد اكّد فيها مراراً وكراراً باتباع علي والأحد عشر من اولاده وهم - بعد علي - الحسن بن علي، ثم الحسين بن علي، ثم ابناء الحسين وذريّته وهم تسعة آخرهم مهدي آل محمد الذي يظهر ويملأ الارض عدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً. ومن يريد الاطلاع علي كل خطبة رسول الله التي القاها في غدير خم يمكنه الرجوع الي كتاب فرائد السمطين للسمهودي، وهو من اتباع السلاطين، ويمكنه أيضاً الرجوع الي مصادر شيعة علي بن ابي طالب مثل كتاب اصول الكافي وكتاب الاحتجاج. وقد اكتفينا نحن هنا بنقل النص التالي رعاية للايجاز: نقل صاحب كتاب ينابيع المودّة - رغم انه كان من اتباع السلاطين - ونقل كتاب فرائد السمطين عن ابن عباس ان يهودياً اراد ان يُسلم فسأل رسول الله: من وصيك من بعدك؟ فقال رسول الله: ان وصيّي علي بن ابي طالب وبعده سبطاي الحسن والحسين تتلوه تسعة ائمة من صلب الحسين، قال يا محمد سمّهم لي، قال رسول الله اذا مضي الحسين فابنه علي فاذا مضي فابنه محمد واذا مضي محمد فابنه جعفر فاذا مضي جعفر فابنه موسي فاذا مضي موسي فابنه علي فاذا مضي علي فابنه محمد فاذا مضي محمد فابنه علي فاذا مضي علي فابنه الحسن فاذا مضي الحسن فابنه الحجّة محمد المهدي فهؤلاء اثنا عشر. قال: فاسلم اليهودي. لكن الاشكال الذي يُثار علي ما نقله صاحب ينابيع المودّة وفرائد السمطين هو ان ما نقلوه خبر الواحد، الا ان لا تكون هناك حاجة لهاتين الروايتين. أو ان تصريح رسول الله بمسار الامامة في العترة وآل محمد، وان اولهم علي بن ابي طالب المنصوب للامامة بأمر الله وصار بذلك وصي رسول الله، فصارت بذلك معرفة بقية اوصياء رسول الله امراً واضحاً; وذلك لأن كل وصي يعيّن عند وفاته من يأتي بعده. فعلي بن ابي طالب قد عيّن من بعده ابنه الحسن وصياً له بالنيابة عن رسول الله، وعيّن الحسن بن علي في وصيّته عند وفاته أخاه الحسين بن علي، وعيّن الحسين بن علي من بعده (نيابة عن رسول الله) ابنه الوحيد الذي بقي خلفاً له وهو علي بن الحسين. وعلي هذا المنوال عيّن علي بن الحسين ابنه محمد الباقر، وعيّن محمد الباقر ابنه جعفر بن محمد، وعين جعفر بن محمد أيضاً ابنه موسي بن جعفر، وعيّن موسي بن جعفر ابنه علي بن موسي الرضا، وعين علي بن موسي الرضا ابنه محمد الجواد، وعيّن هو أيضاً ابنه علي، وعيّن علي بن محمد ابنه الحسن بن علي، وكذلك عين الحسن بن علي ابنه محمد المهدي وهو الثاني عشر والاخير من أوصياء رسول الله. ولهذا السبب يُسمّون اتباع الأئمة الاثني عشر من العترة، الفرقة الامامية الاثني عشرية. وهكذا قال رسول الله في حديث متواتر: يكون من بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش. وبيّن في غدير خم خاصيّتين اخريتين لهم، واحداهما انهم من العترة، والاخري ان اولهم علي بن ابي طالب.

وقد ذكر محبو آل رسول الله وعترة النبي من أمثال الحموي وغيره الذين نقلوا حديث الغدير بتمامه ان رسول الله قد بيّن في غدير خم عدّة امور، وهي: اولاً: انه كان يقول علي الدوام بأنه يكون بعدي اثنا عشر خليفة

ص: 120

(= اميراً = اماماً) كلهم من قريش (1) ولكنه لم يعيّنهم بأسمائهم قبل غدير خم، وقد عيّنهم في غدير خم بأسمائهم. من هم اولو الامر الذي ورد ذكرهم في الآية 59 من سورة النساء؟ (أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَْمْرِ مِنكُم)؟ وهذا ما بيّنه الرسول في خطبة غدير خم، وانهم اثنا عشر اماماً من العترة. (حيث كان يقول علي الدوام يكون من بعدي أثنا عشر خليفة واميراً). وقد نقل البخاري ومسلم وغيرهم هذا الحديث الذي نصَّ

ص: 121


1- 135. قول رسول الله بانه يكون من بعده اثنا عشر خليفة، نقله البخاري في آخر كتاب الأحكام، ومسلم في باب الامارة، ومسند احمد، ج 5، ص 90. وكذلك نقله غيرهم في الابواب المعنية بهذه الموضوعات. ونص الحديث هو: (يكون من بعدي اثنا عشر خليفة = اميراً = اماماً) كلّهم من قريش. واما نص حديث غدير خم الذي نقلته مصادر مختلفة في أحاديث متواترة فقد مضي في الصفحات السابقة، ولم يبق لتاركي اتباع العترة من عذر. ولا ريب في ان ائمة العترة هم من آل محمد الذين وجبت الصلاة عليهم في الصلوات الي يوم القيامة. وهذه امارة علي انهم هم أولو الامر الذين فرض الله طاعتهم بعد طاعة الله والرسول الي يوم القيامة، والعترة الهادية الي يوم القيامة ولا يمكن ان يكون اولو الامر من غيرهم ومن مخالفيهم، بل مخالفوهم من المضلين - بمفهوم حديث الثّقلين المتواتر - كتاب الله وعترتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا، يعني ان تمسكتم بغير العترة تضلوا. مثلاً ذكر البخاري في المجلّد السادس في تفسير سورة الاحزاب، باب آية صلوا عليه وسلموا تسليماً - فقيل يارسول الله اما السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلوة - قال: قولوا: اللّهم صل علي محمد وآل محمد كما صليت علي ابراهيم وآل ابراهيم انك حميد مجيد... الحديث. ومثل هذا الحديث نقله مسلم وغيره.

علي انه يأتي بعد الرسول اثنا عشر خليفة. حيث نقله البخاري في آخر كتاب الاحكام، ونقله مسلم في باب الإمارة. وهكذا غيرهما: يكون بعدي اثنا عشر خليفة - يكون بعدي اثنا عشر اميراً. ومجمل القول هو ان رسول الله قال ان علياً مولاكم اللهم انصر من نصره واخذل من خذله (1) وقال رسول الله ايضاً انني تارك فيكم شيئين ثمينين وثقيلين; احدهما القرآن والآخر عترتي أي اهل بيتي وهم أولو الامر والأئمة والخلفاء عليكم والخلفاء الاثنا عشر الذين ذكرتهم سابقاً وقلت بأنه يكون من بعدي اثنا عشر خليفة، وأول هؤلاء الأئمة واولي الامر والخلفاء الواجبي الطاعة هو علي بن ابي طالب وثانيهم الحسن، وثالثهم الحسين بن علي، ثم ابناء الحسين واحد بعد الآخر الي تاسعهم وهو مهدي الأمة الذي يظهر فيملأ الارض قسطاً وعدلاً. وهم لا يفترقون عن القرآن ولا يفترق القرآن عنهم حتي يردوا عليَّ الحوض يوم القيامة (2) وما قصده رسول الله

ص: 122


1- 136. يكون نصر الله في اعانة الشخص علي السير علي طريق الحق وان كان مظلوماً، وخذلان الله له في هذا السياق أيضاً. وبالنتيجة فمن يوكله الله الي نفسه يضل.
2- 137. بما ان أولي الامر بناءً علي ما تفيده الآية 83 من سورة النساء، عالمون وعاملون كاملون بالقرآن والسنّة. وكل حكم يستنبطونه من القرآن والسنّة الواقعية لرسول الله انّما هو حكم الله ورسوله. وبالنتيجة فهو واجب الطاعة بأمر الله ورسوله. وهكذا يبيّن لنا ان الاتباع التام لأولي الامر هو اتباع تام لله ولرسوله، واتباع تام للقرآن والعترة، وهو بالنتيجة اتباع تام لأولي الأمر. وقد امر الله ورسوله باطاعة اولي الامر واعتبرا ذلك من ضروريات الطاعة التامة لله. وهذا هو ما أمر به الله تعالي في قرآنه الكريم من اطاعة الرسول واولي الأمر: (أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَْمْرِ مِنكُم) وهذا من مستلزمات طاعة أولي الامر وهم العترة الهادية الذين يحكمون علي اساس القرآن والسنّة فقط. ولهذا لا يمكن ان ينفصل القرآن عن أولي الأمر.

بقوله الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي هم هؤلاء العترة الهادية وهم الأئمة الاثنا عشر من العترة. والذي نفهمه من منطوق حديث الثقلين وهو ان المتمسكين بالقرآن والأئمة من عترته، هم الناجون من الضلال. ان رسول الله يريد القول بأن كل «الائمة من غيرالعترة» ائمة ضلال من غير استثناء. وخلفاء غير راشدين. أما بالنسبة الي النسائي فقد نقل في خصائصه خلاصة لحديث غدير خم، ورغم ذلك فان هذه الخلاصة جاءت اكمل مما نقله «مسلم» واكمل مما نقله «البخاري» في تاريخه الكبير. ان ما نقله «النسائي» جاء في الحقيقة ملخّصاً جداً ونقل بالمضمون. وننقل في ما يلي نص ما كتبه النسائي في خصائصه في الفقرات التي ورد فيها حديث الثقلين: «كأني دعيت فأجبت، واني تارك فيكم الثقلين احدهما اكبر من الآخر كتاب الله وعترتي اهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فانهما لن يفترقا حتي يردا عليَّ الحوض. ثم قال ان الله مولاي وانا ولي كل مؤمن ثم اخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فهذا وليّه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه».

ص: 123

ونقل محمد بن سعد في «كتاب الطبقات» عن النبي قال: «اني اوشك ان ادعي فاجيب واني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و«عتري» كتاب الله حبل ممدود من السماءِ الي الارض وعترتي اهل بيتي» (1) . «وان اللطيف الخبير اخبرني انهما لن يفترقا حتي يردا عليّ

ص: 124


1- 138. ومما يؤيد هذا المعني انه من بعد علي (وهو من العترة الهادية) هم الأئمة من آل محمد أي الحسن والحسين سبطا رسول الله وسيدا شباب أهل الجنّة ومن بعدهما تسعة من ذرية الحسين أخرهم مهدي الاُمة من آل محمد وهو الذي يملأ الارض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً. وهناك حديث متواتر عن رسول الله حول الصلاة عليهم بعد الصلاة عليه. - ورد في ابواب الصلاة وفي التشهد وفي باب الصلاة علي النبي وفي تفسير آية: (إِنَّ اللَّهَ وَ مَلَ-ل-ِكَتَهُو يُصَلُّونَ عَلَي النَّبِيِّ يَ-أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَ سَلِّمُواْ تَسْلِيمًا). قال رسول الله: قولوا: «اللهم صل علي محمد وعلي آل محمد كما صليت علي آل ابراهيم وبارك علي محمد وعلي آل محمد كما باركت علي آل ابراهيم انك حميد مجيد». ولم يأمر بالصلاة علي غيرهم. وهذا يدل علي ان العترة الهادية والأئمة من آل محمد هم بعد الرسول قادة الأمة بحق من قبل الله ورسوله. وقد نقل كل من البخاري في ابواب التفسير، عند تفسير سورة الاحزاب، وضمن نطاق تفسير الآية الشريفة: (إِنَّ اللَّهَ وَ مَلَ-ل-ِكَتَهُو يُصَلُّونَ عَلَي النَّبِيِّ يَ-أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَ سَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)، ومسلم في ابواب الصلاة، في باب الصلاة علي النبي بعد التشهد وبقية كتب التفاسير والحديث وغيرها، ان الاحاديث الواردة في الصلاة علي آل محمد بعد الصلاة علي محمد، أحاديث متواترة، واما غيرها من الاحاديث التي ورد فيها ذكر الصلاة علي الصحابة او غيرهم فهي احاديث غير متواترة. اضافة الي ان الصحابة كان فيهم منافقون، والصلاة علي المنافق حرام.

الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما». نقل «الحاكم النيسابوري» أيضاً العبارات المذكورة آنفاً عن زيد بن ارقم. ونقل احمد في مسنده عن طريق البراء بن عازب ما يلي: «ألستم تعلمون اني اولي بالمؤمنين من انفسهم؟ قالوا: بلي. قال: الستم تعلمون اني اولي بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلي. قال: فأخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه». ذكرنا سابقاً ان خطبة النبي محمد في غدير خم كانت طويلة ومفصّلة، وقد نقل كل شخص قسماً منهما. واكمل نقل جاء في المعجم الكبير للطبراني، وفي ما نقله الحموي في فرائد السمطين. وكذلك نقل «احمد ابن حنبل» في المجلد الرابع من مسنده، في صفحة 281، و«الطبراني» في المجلد الثالث من تفسيره الكبير، في صفحة 636، و«ابن حجر» في صواعقه، و«الدار قطني»، و«البيهقي»، و«الخطيب البغدادي»، ان رسول الله بعد ذلك وضع عمامته علي رأس علي وأمر الصحابة ان يهنئوه بذلك باعتباره أمير المؤمنين (1) واليك في ما يلي نص ما نقلوه: «ثم ألبسه عمامته وعقد له موكباً وامر اصحابه بتهنئته ففعلوا وفي مقدمتهم «ابو بكر» و«عمر» يقولان بخ بخ لك يابن ابي طالب اصبحت وامسيت ولي كل مؤمن ومؤمنة».

ص: 125


1- 139. نقل الترمذي في سننه ان رسول الله قال: انا دار الحكمة وعلي بابها.

وهكذا فعل الصحابة وهنأوا علي بن ابي طالب وفي مقدّمتهم ابو بكر وعمر وباركوا له ولايته علي الأمّة بعد رسول الله. قال رسول الله: المهدي منا أهل البيت (1) (2) وقال أيضاً: المهدي من ولد فاطمة (3) يعني ان المهدي من ائمة العترة «وائمة العترة» بعد علي بن ابي طالب تكون من ولد فاطمة الحسن والحسين ابنا فاطمة وبعدهما علي بن الحسين سبط فاطمة وبعده محمد بن علي الباقر وبعده جعفر ابن محمد الصادق وبعده موسي بن جعفر وبعده علي بن موسي وبعده محمد بن علي التقي وبعده علي بن محمد النقي الهادي وبعده الحسن ابن علي وآخرهم الثاني عشر من الائمة الاثنا عشر يكون المهدي.

ص: 126


1- 140. سورة الرعد، الآية 7. (إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْم هَاد). لما نزلت هذه الآية وضع النبي صلوات الله عليه يده علي صدر علي بن ابي طالب وقال: «انا المنذر ولكل قوم هاد»، واومأ علي منكب علي بن ابي طالب فقال: «انت الهادي، بك يهتدي المهتدون بعدي». تفسير الطبري، تفسير الرازي، تفسير كنوز الحقائق، مستدرك الحاكم، ج 3، ص 164; كنز العمال، ج 6، ص157. وهذا الحديث موافق لحديث الثقلين المتواتر الوارد في العترة الهادية.
2- 141. سنن ابن ماجة، باب خروج المهدي; وسنن ابي داوود، الجزء الرابع، كتاب المهدي وكذلك في مسند احمد وغيره. وهذا الحديث ايضاً موافق لحديث الثقلين المتواتر الوارد في العترة الهادية.
3- 142. سنن ابن ماجة، باب خروج المهدي; وسنن ابي داوود، الجزء الرابع، كتاب المهدي وكذلك في مسند احمد وغيره. وهذا الحديث ايضاً موافق لحديث الثقلين المتواتر الوارد في العترة الهادية.

الايام الأخيرة من عمر رسول الله

لم تمضِ مدة طويلة علي عودة رسول الله من الحج الي المدينة، أي بعد حوالي الشهرين دُسَّ له السُم ومرض علي اثر ذلك، وكما استبان مما أُخِبرَ به عن طريق الوحي ان مرضه هذه المرّة ينتهي به الي الوفاة. فكان رسول الله آنذاك يقضي الأيام الاخيرة من حياته. وكان من الواضح ان محبّي الرئاسة كانوا يترقّبون وفاته من اجل الاستيلاء علي السلطة بقوّة السيف بعد وفاته لتكون لهم الرئاسة علي المسلمين. ومن هنا فقد كانوا يتتبعون مرض رسول الله بدقّة تامّة، ولم يبتعدوا عن المدينة ولا حتي عن اطراف منزل رسول الله. لكي يتسنّي لهم استغلال الفرصة بعد وفاته والمبادرة علي الاستيلاء علي السلطة بالتعاون مع حلفائهم. وفي تلك الاثناء أمر رسول الله فجأة بتجهيز جيش بقيادة شاب اسمه اسامة وأمر ان يلتحق بهذا الجيش كبار الصحابة من امثال ابي بكر وعمر، وان يسير الجيش نحو تخوم بلاد الروم، وكان مكاناً بعيداً جداً (1) . وقد حاول ابو بكر وعمر ان لا يذهبا برفقة هذا الجيش بحجة قلقهما علي رسول الله وهو في هذه الحالة الخطيرة من المرض. لكن النبي امرهم ان يلتحقوا كلهم بهذا الجيش من غير استثناء ويسيروا نحو حدود بلاد الروم ويبتعدوا عن المدينة بأسرع ما يمكن. واقام اسامة معسكراً خارج المدينة ليلتحق به افراد الجيش ويسير بهم عندما يجتمع إليه العدد الكافي منهم. ولكن ابا بكر وعمر

ص: 127


1- 143. طبقات ابن سعد.

تركا معسكر اسامة ورجعا الي المدينة والي منزل النبي. ولما رأي النبي انّهما رجعا تألّم واكّد عليهما مرّة اخري بالالتحاق بجيش اسامة بأسرع ما يمكن وقال: جهّزوا جيش اسامة،لعن الله المتخلّف عن جيش اسامة (1) . كان من الواضح لكل ذي حنكة سياسية ان النبي كان يريد في هذا الوقت الذي شارف فيه علي مفارقة الدنيا ان يبقي افضل الفرسان، وهو علي بن ابي طالب الي جانبه، ويريد في الوقت ذاته ارسال ابي بكر وعمر الي موضع بعيد عن العاصمة (وكان يريد لهما الخروج في اسرع وقت من المدينة والسير في ركب جيش اسامة الي مواضع بعيدة. وانه كان يريد من وراء ذلك ان تنتقل قيادة الامّة بعد وفاته - التي ظهرت علائم قربها - الي علي بن ابي طالب بسهولة وبدون وجود منافسين. خاصّة وانه لم يجعل قيادة هذا الجيش الي ابي بكر وعمر، وانما جعل قيادته الي شاب اسمه اسامة، لكي لا تكون لديهما حجة او ذريعة بأن علي بن ابي طالب اصغر منّا سناً واننا اكبر منه سناً واولي بقيادة الامّة. وكانت في عمل رسول الله هذا اشارة واضحة الي ان الصحابة المنضوين تحت امرة هذا الجيش لا يصلحون حتي لقيادة هذا الجيش، فما بالك بقيادة الامّة. موقف عمر اثناء وصية النبي عندما اراد رسول الله في آخر ايام حياته ان يكتب وصية للامة لكي لا تتفرق من بعده ولا تضل، ولكنه تألم عندما شاهد فجأة ان ابا بكر

ص: 128


1- 144. طبقات ابن سعد.

وعمر اللذين أُمرا بالالتحاق بجيش اسامة والسير في ركبه الي موضع بعيد، والابتعاد عن المدينة، قد رجعا مرّة اخري وحضرا في مجلسه. وقال رسول الله: اعطوني دواة وكتفاً لأكتب لكم ما لا تضلون بعده. وهذه الجملة التي قالها رسول الله شبيهة تماماً بما قاله في الحج وفي غدير خُم حيث قال هناك: اني تارك فيكم شيئين: القرآن وعترتي، «ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا ابداً». وما ان سمع الحاضرون هذه الجمل من رسول الله «لأكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ابداً» حتي تذكروا ما قاله حول الثقلين في الحج وفي غدير خم، ومنهم عمر بن الخطاب الذي كان بين الحاضرين وادرك بأنّه لو تحوّلت هذه الوصية الي شيء مكتوب، لما بقي هناك مجال لاستيلاء ابي بكر وعمر علي السلطة. ولهذا السبب سارع عمر الي القول بأن الوجع غلب علي النبي وانه يهذي، وحسبنا كتاب الله; أي انه لا حاجة لوصية رسول الله. فصار قسم من الحاضرين يؤيد ما قاله النبي، وقسم يؤيد ما قاله عمر، واختلف الناس فاستاء النبي من تنازع القوم، وقال لهم: لا ينبغي التنازع عند نبي، قوموا عنّي (1) ; أي انني غير راض عنكم ولا اريد رؤيتكم. هذا الحديث المتواتر نقله كل المسلمين، ونقله من عامة المسلمين البخاري في كتابه المعروف، في كتاب العلم، وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة، وفي كتاب بدء الخلق، وأيضاً في كتاب المرض في باب قوموا عنّي، نقل ذلك عن ابن عباس كما يلي: «لما حضر رسول الله الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن

ص: 129


1- 145. البخاري، كتاب العلم، وكتاب الاعتصام. وكذا نقل غير البخاري متواتراً.

الخطاب قال النبي «هلم اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده». فقال عمر ان النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله. فاختلف اهل البيت فاختصموا منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر فلما اكثروا اللغو والاختلاف عند النبي. «قال رسول الله قوموا». ونقل البخاري أيضاً في كتاب الجهاد والسير ما يلي: «فقال ائتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ابداً فتنازعوا ولا ينبغي عند نبيّ تنازع. فقالوا: هجر رسول الله قال دعوني فالذي انا فيه، خير مما تدعوني اليه» (1) . ومعني كلام رسول الله هو ان الموت خير لي من ان اريد ان اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده الي يوم القيامة وانتم لا تريدون ان اكتبه لكم. وقد نقل البخاري هذا الحديث في باب الجزية والموادعة، وفي كتاب بدء الخلق. ونقل مسلم أيضاً في كتاب الوصية، في باب ترك الوصية، ونقل احمد أيضاً في مسنده عن طريق جابر بن عبد الله الانصاري. ونقل محمد بن سعد في «الطبقات الكبري» عن زيد بن أسلم متن اكمل عن ابيه عن عمر بن الخطاب كما يلي: كنا عند النبي بينا وبين النساء حجاب فقال رسول الله اغسلوني

ص: 130


1- 146. نقل كل من البخاري ومسلم وابن سعد وامثالهم هذه العبارات التي قالها رسول الله اثناء وفاته للعمريّين، وهم بذلك يقولون بأن رسول الله عند وفاته لم يكن راضياً عن المجموعة العُمرية وغضب عليهم واعتبرهم السبب في ضلال الأُمّة من بعده.

بسبع قرب وائتوا بصحيفة ودواة اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ابداً فقال النسوة ائتوا رسول الله بحاجته (قال عمر) فقلت أسكتنَ فانّكنَ صواحبه اذا مرض عصرتنّ اعينكنّ واذا صح اخذتنّ بعنقه. فقال رسول الله «هنّ خير منكم». أي ان النبي قال: ان النساء أفضل منكم انتم الصحابة المخالفين لي (1) . ونقل ذلك كل من الهيثمي في مجمعه في المجلّد التاسع، والطبراني في المعجم الاوسط، والمتقي الهندي في كنز العمال، ج3، ص 138. تساؤلات حول هذه الحادثة: 1- هل يكفي القرآن حقاً للحفاظ علي وحدة المسلمين علي طريق الحق، ولا حاجة لبيان أو وصية رسول الله؟ والجواب عن ذلك انه من غير الممكن ان يقول مسلم بأننا بوجود القرآن لا نحتاج الي السنة، او ان القرآن يكفي لصيانة وحدة المسلمين الي يوم القيامة; لأنه لو كان القرآن وحده كافياً لحفظ وحدة الأُمّة علي طريق الحق، لما وقعت الامّة في هذا الاختلاف والانشقاقات المذهبية والفئوية. ولو افترضنا بأنّها عندما تقع في الاختلاف يمكنها ان تحلّه بمجرد العودة الي القرآن، فأنّي يمكن لنا القول بأن القرآن كاف وحده لازالة الاختلاف، في حين ان تفسير القرآن فيه اختلاف، وكل واحدة من فرق المسلمين تتمسك بظهور من ظهورات القرآن لاثبات

ص: 131


1- 147. البخاري ومسلم وابن سعد وامثالهم ممن نقلوا هذه العبارات التي قالها رسول الله للمجموعة العمرية، يريدون القول بأن رسول الله كان عند وفاته ساخطاً علي المجموعة العمرية وكان يعتبرهم سبباً لضلال الامة من بعده.

مدّعاها وصحة مذهبها، وتوظف القرآن لاظهار الحق الي جانبها. نذكر علي سبيل المثال ان احداها تستفيد من ظهور آيات لاثبات عقيدة الجبر، بينما تتمسك اخري بآية غيرها لإبطال عقيدة الجبر، وتتمسك فرقة اخري بآية لاثبات تجسيم الله، وتتشبّث فرقة اخري بآية غيرها لاثبات بطلان التجسيم، وما شابه ذلك. وكيف يكفي القرآن من غير الرجوع الي بيان النبي، في حين أن أياً من الاحكام الالهية كالصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها لا يمكن فهم شروطها ومكوّناتها واوقاتها من القرآن؟ أي انه لا يمكن الاستغناء عن اقوال النبي في ذلك (باعتباره مفسّراً ومبيّناً للقرآن). وقد صرّح الباري تعالي في كتابه الكريم بأن القرآن يحتاج الي توضيح وبيان النبي بقوله: (وَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (1) . (وَ مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَ-بَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ) (2) . إذاً لقد اراد عمر او يُحتمل انه اراد ان يقول بهذه الجُمل ان سول الله مريض، وقد فقد عقله وهو يهذي. والسؤال الذي يُوجّه الي عمر هنا هو هل يمكن من الرسول الهذيان في قضية تتعلق بهداية وضلال الامّة الي يوم القيامة، وقد قال عنه القرآن (وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي - إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَي)؟ وهنا يتبادر الي الأذهان سؤالان، هما: هل قول كل مريض في حال المرض مرفوض مطلقاً؟ والجواب هو ان هذا الكلام باطل;

ص: 132


1- 148. سورة النحل، الآية 44.
2- 149. سورة النحل، الآية 64.

وذلك لأن العقل مادام متزناً فكلام الإنسان مقبول، والمرض لا يمنع من ذلك. وقد قال البخاري في باب وصيّة المريض انه حتي ايماءة المريض حجّة. ولكن ربّما كان عمر يقصد ان الرسول فقد عقله من شدة المرض والعياذ بالله، ولاسيما في قضية تتعلق بهداية الامّة الي يوم القيامة؟ نبحث في ما يلي قول عمر من جانبين: احدهما من جانب ما يقوله القرآن عمّا ينطق به النبي، وهل من الممكن ان ينطق عن هذيان أو عن هويً; وخاصة في ما يتعلّق بهداية الأمّة؟ يقول القرآن: هذا غير ممكن; فقد ورد في سورة النجم: (وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي - إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَي)أي مايقوله النبي وخاصة في مايتعلّق بهداية الأمّة ليس إلاّ وحياً ولا يأتي عن هوي ونزوة، ولا يمكن ان يكون هذياً; لأن الله عز وجل يقول: (إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَي). اذاً فمن يقول بأن كلام النبي هذيان - ولو لمرّة واحدة (وخاصة في ما له صلة بهداية الأمة) - وما يعنيه ذلك من انه ليس وحياً، فقوله مخالف لقول القرآن. اما اذا بحثنا قول عمر من الناحية العقلية والعرفية فهو ان الهذيان يصدق علي من يُحتمل منهم الهذيان، طبعاً فيما اذا صدر منهم كلام يخالف العقل. ولكن كلام رسول الله لم يكن مما يخالف العقل; اذ انه لم يكن سوي تكرار لجمل من حديث الثقلين، ومما كان النبي قد قاله من قبل في موسم الحج وفي غدير خم; أي ما إن تمسكت به الامة فلن تضل الي يوم القيامة، وهذا قول سبق ان اعلنه الرسول في الحج وفي غدير خم، وكان عمر حاضراً هناك ولم يُقل ان النبي

ص: 133

يهذي; لأنه كان بين مائة ألف من المسلمين الذين كانوا قد قَدِموا من مختلف بقاع العالم الاسلامي، ولو سمعوا كلاماً مغايراً للواقع بشأن الرسول لعاقبوا قائله شر عقاب. خاصة وان اكثرية الجموع التي حضرت يومذاك كانت قادمة من المدن الاخري ولم تكن تعرف شخصاً آخر غير رسول الله. وعلي أية حال لم يظهر عمر مخالفة هناك، بل تفيد بعض الروايات انه هنّأَ علياً بمناسبة تعيينه ولياً للمسلمين. إذاً فما قاله النبي اثناء مرضه لم يكن مما يخالف العقل. ولو نظرنا الي موقف عمر من وصيّة أبي بكر في اثناء وفاته، وهل ان عمر لا يجيز حقاً وصية المريض حين وفاته، أم ان ذلك الموقف الحساس اتّخذه عمر بخصوص وصية رسول الله التي كان يريد فيها ان يوصي بالعترة؟ نلاحظ ان ابا بكر لم يكن في حالة طبيعية - كما حكي عمر نفسه - وقد أغمي عليه عدّة مرات اثناء الوصية. وقد اوصي ابو بكر بخلافة عمر من بعده وهو في حالة من الصحو والغيبوبة - كما نقل عمر نفسه - وقد كتب عثمان بن عفان الاموي وصيّة ابي بكر بحضور عمر. ولم يمنع عمر من كتابة وصية ابي بكر مع ما كان عليه من حالة المرض الشديد حيث كان بين الصحو والغيبوبة، ولم يصفه بالهذيان. في حين ان الهذيان ممكن لغير النبي. والهذيان غير ممكن من الرسول فقط (وخاصة في ما يتعلّق بهداية الأمّة)، بل ان كلام النبي - وفقاً لقول الله تعالي - ليس الا وحياً.

ص: 134

إذاً ينبغي الرجوع الي مفاد الوصيّتين وملاحظة الفارق بينهما، لمعرفة ما هو الفارق المائز بينَ وصية النبي ووصية ابي بكر، بحيث حرص عمر علي منع كتابة وصية النبي ولم يمنع كتابة وصية أبي بكر. موقف عمر اثناء وصيّة ابي بكر: كان محتوي وصية أبي بكر استخلاف عمر بن الخطاب من بعده. وأما محتوي وصية النبي فلم يكن تفويض الرئاسة لعمر. بل كانت كتابة هذه الوصية حول العترة، وكان الرسول قد أدلي بها شفاهاً في موسم الحج وفي غدير خم، ومن الطبيعي ان كتابتها كانت ستؤدّي الي تفويت الفرصة علي الجماعة العمرية ومنعها من الاستيلاء علي السلطة من بعد رسول الله; وذلك لأنه ورد في حديث الثقلين ان حفظ الامة من الضلال انما يكون بالاتّباع التام للعترة; أي الاتباع التام لعلي بن ابي طالب وابنائه من ذريّة النبي، وعند ذاك لا تبقي أية فرصة لتسلط ورئاسة الجماعة العمرية علي الامة وهذا هو محتوي وصية رسول الله التي أغضبت عمر. إذاً ليس هناك من حجّة علي الله ورسوله في الاعلان عمّا ينبغي ان تتمسّك به الأُمّة لكي لا تضل الي يوم القيامة، وكما قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمَام بَعْدَ إِذْ هَدَل-هُمْ حَتَّي يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ) (1) . ان اتباع الامّة لغير العترة الهادية يعني اتباعهم لأبي بكر وعمر

ص: 135


1- 150. سورة التوبة، الآية 115.

اللذان فصلا القيادة السياسية عن القيادة العلمية، وادّيا الي استبعاد العترة الهادية ومهّدا السبيل لمجيء بني أُمية الي الحكم مثل عثمان الاموي ومعاوية، وهو ما انتهي بالنتيجة الي وقوع حرب اهلية بين المسلمين وبلغت الفرقة غايتها، وقسِّمت الامة الاسلامية الي أجزاء صغيرة وغدت ضعيفة امام الكفار وواهنة حتي في مقابل ستة ملايين من اليهود. تقسيمات المهاجرين: 1- فئة قربي رسول الله الذين كانوا أشد حماته والذابّين عنه; وهم بنو هاشم الذين لم يفارقوا النبي حتي في مكّة قبل الهجرة ولا حتي في شعب أبي طالب. 2- الفئة الثانية: مهاجرو قريش من غير بني هاشم. وكانوا قبل الهجرة يتظاهرون بالاسلام أمام النبي، ولكنهم لم يؤازروه ابداً في شعب أبي طالب، بل انهم تعاونوا مع المشركين عملياً في الحصار الاقتصادي ضد بني هاشم. وبعد الهجرة أيضاً اتخذوا موقفاً معارضاً من معركة بدر وما كانوا يريدون لها ان تحصل لأنّهم كانوا يكرهون محاربة اقاربهم القريشيين. وقد ورد وصف ذلك الحال في اول سورة الانفال في قوله تعالي: (لَكَ-رِهُونَ - يُجَ-دِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ) (1) وفي معركتي احد وحنين فروا من ساحة المعركة

ص: 136


1- 151. ذكر ذلك مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر، ج 5، ص 17. مسند احمد، ج 3، صص 219 - 257. ونص عبارة مسلم كالآتي: فتكلم ابو بكر فاعرض عنه، ثم تكلم عمر فاعرض عنه....

بمجرّد ان شعروا بهزيمة المسلمين (1) ، وتركوا النبي بين الاعداء. بل انهم اسرّوا البغض والضغينة لبني هاشم بعد مقتل اقاربهم علي يد النبي وبني هاشم في معركتي بدر واحد، مثلما حقد اقاربهم في مكّة علي بني هاشم. وحتي بعدما اجبروا علي التظاهر بالاسلام في اعقاب فتح مكّة بقي بعضهم مثل بني أمية وبني مخزوم يحملون في قلوبهم ذلك الحقد والبغض لرسول الله ولبني هاشم وخاصة علي بن ابي طالب، وبقوا يتحيّنون الفرص للثأر من بني هاشم لدماء اقاربهم المشركين الذين قتلوا في معركتي بدر واحد. وصف العباس بن عبد المطلب للنبي حالة قريش في التعامل مع بني هاشم قبل وبعد معركتي بدر وأحد، علي النحو التالي: دخل العباس بن عبد المطلب علي رسول الله مغضباً وانا عنده فقال: ما اغضبك؟ قال يا رسول الله ما لنا ولقريش اذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة واذا لقونا لقونا بغير ذلك، قال (ربيعة) فغضب رسول الله حتّي احمرّ وجهه ثم قال: والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الايمان حتي يحبكم لله ولرسوله. ثم قال: يا ايها الناس من آذي عمّي فقد آذاني فانما عمّ الرجل صنو ابيه (2) . 3- الفئة الثالثة: المهاجرون من غير قريش، من امثال عمار بن ياسر وابوه وامه الذين كانوا من اليمن أصلاً، والمقداد بن الأسود، وبلال الحبشي، وغيرهم. ولم يكن هناك ثمة عداء بين هذه الفئة

ص: 137


1- 152. البخاري ومسلم وغيرهما في باب غزوة حنين.
2- 153. الترمذي، سنن الترمذي، باب مناقب العباس بن عبد المطلب، نقلاً عن عبد المطلب بن ربيعة.

(اي المهاجرين من غير قريش) وبين بني هاشم، الا اللهم من كان أصلهم من يهود خيبر ومن لف لفّهم، اذ ان هؤلاء اليهود قد اسرّوا في قلوبهم الحقد والضغينة بسبب مقتل أقاربهم من اليهود بأيدي المسلمين وخاصة علي بن ابي طالب، فأبغضوه وابغضوا بني هاشم. وهنالك أيضاً الفئة التي خرجت من ديارها من اجل الاستيلاء علي الرئاسة والسلطة، وتنازعوا في السقيفة، وكان رسول الله قال لهم: «ستحرصون علي الامارة وتكون ندامة يوم القيامة». ننقل ما يلي نص قول عمر بن الخطاب (وقد وردت فيه كلمة مخالفة علي من العترة لسلطة ابي بكر) الذي ورد في كتب الحديث، حيث جاء في ابواب الحدود، في باب حد رجم الحبلي، ما يلي (1) . ثم انه بلغني ان قائلاً منكم يقول والله لو مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترنّ أمرءٌ ان يقول انما كانت بيعة ابي بكر فلتة وتمت قد كان من خبرنا حين توفّي الله نبيّه «ان الانصار خالفونا» واجتمعوا باسرهم في سقيفة بني ساعدة و «خالف عنا علي (2) والزبير ومن معهما» واجتمع

ص: 138


1- 154. البخاري، باب الحدود، باب حد رجم الحبلي.
2- 155. الترمذي: قال رسول الله: رحم الله علياً اللهم ادر الحق معه حيث دار; البخاري قال رسول الله: علي مني وانا منه; الترمذي، قال رسول الله ان علياً مني وانا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي. ونقل البخاري في مناقب علي ان رسول الله قال لعلي: انت مني بمنزلة هارون من موسي. وقال رسول الله: اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا ابداً.

المهاجرون (1) الي ابي بكر فقلت لابي بكر: انطلق بنا الي اخواننا هؤلاء من الانصار. فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا رجلان منهم صالحان فذكرا ما تمالأ عليه القوم فقالا: اين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد اخواننا هؤلاء من الانصار. فقالا: لا عليكم ان تقربوهم، اقضوا امركم. فقلت: والله لنأتينهم. فانطلقنا حتي اتيناهم في سقيفة بني ساعدة فاذا رجل مزمّل بين ظهرانيهم فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة. فقلت: ما له؟ قالوا: يوعك. فلمّا جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم فاثني علي الله بما هو اهله ثم قال: «اما بعد فنحن انصار الله وكتيبة الاسلام وانتم معشر المهاجرين رهط وقد دفّت دافة من قومكم»، فاذا هم يريدون ان يختزلونا من اصلنا وان يحضنونا من الامر فلما سكتَ اردت ان اتكلم وكنت زودت مقالة اعجتني اريد ان اقدمها بين يدي ابي بكر، وكنت اداري منه بعض الحدّة. فلما اردت ان اتكلم قال ابو بكر علي رسلك، فكرهت ان اغضبه. فتكلم ابو بكر وكان هو احلم مني واوقر. والله ما ترك من كلمة اعجتني في تزويري الا قال في بديهتها مثلها او افضل حتي سكت. فقال: ما ذكرتم فيكم من الخير فانتم له اهل، ولن يعرف هذا الامر الا لهذا «الحي من قريش» هم اوسط العرب نسباً وداراً وقد رضيت لكم احد هذين

ص: 139


1- 156. المهاجرون القريشيون (من غير الهاشميين) الذين كانوا يبغضون بني هاشم حسب قول العباس.

الرجلين فبايعوا ايّهما شئتم فاخذ بيدي وبيد ابي عبيدة بن الجراح - وهو جالس بيننا فلم اكره مما قال غيرها، كان والله ان اقدم فاضرب عنقي لا يقربني ذلك من اثم احب الي من ان اتأمّر علي قوم فيهم ابو بكر اللهم الا ان تسول اليّ نفسي عند الموت شيئاً لا اجده الان. فقال قائل الانصار: «انا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا امير ومنكم امير، يا معشر قريش». فكثر اللغط و«ارتفعت الاصوات» حتي فرغ من الاختلاف (قلت): ابسط يدك يا ابا بكر. فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الانصار. ونزونا علي سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة. فقلت: قتل الله سعد بن عبادة. والموضوع الذي يجب ان يبحث في هذا النص المتواتر الذي نقله البخاري ومسلم هو ما قاله ابو بكر وعمر في السقيفة من اجل ازاحة الانصار واستبعادهم عن الخلافة، حيث استندوا في ذلك الي قرابتهما من رسول الله، اذ قال ابو بكر وعمر للانصار: «فاذا هم يريدون ان يختزلونا من اصلنا وان يحضنونا من الامر ولن يعرف هذا الامر الا لهذا الحي من قريش». مع ان رسول الله قال: «يُهلكُ الناسَ هذا الحي من قريش» (1) والذي يشير إليه قول رسول الله هذا في المدينة من القريش ليس الا المهاجرين من قريش.

ص: 140


1- 157. البخاري، كتاب المناقب; مسلم، كتاب الفتن.

وعند مناقشة هذا القول تتبادر الي اذهاننا عدّة تساؤلات منها: اولاً: استدل ابو بكر بالنسب والقرابة من رسول الله لاستحقاق الخلافة، فان كان الأمر كذلك فعلي احق الناس بها لأنه اقرب الناس قرابة الي رسول الله (1) وهو اقرب إليه من ابي بكر وعمر، وكان دفاعه عنه اكثر في شعب ابي طالب وفي المعارك والغزوات. ثانياً: ان كانت الخلافة لا تكون الا في قريش، فلماذا قال عمر اثناء وصيّته الي شوري الخلافة: لو كان سالم مولي ابي حذيفة (وكان من انصاره علي هضم السلطة) حياً لاستخلفته، ولو كان ابو عبيدة حياً لاستخلفته. ولما جعلت الخلافة الي الشوري، مع ان سالم مولي حذيفة كان اعجمياً غير عربي، فما بالك بان يكون قرشياً; أي ان سالم لم يكن من قريش (2) . وقال عمر أيضاً: لو كان معاذ بن جبل حياً لاستخلفته (3) ولما جعلتها الي الشوري. في حين ان معاذ بن جبل كان من الانصار وليس من قريش، بينما قال ابو بكر وعمر في السقيفة بأن الخلافة لقريش وليس للانصار. اذاً فكيف قال عمر عند وفاته: لو كان سالم مولي حذيفة حياً لاستخلفته، او لو كان معاذ بن جبل حياً لاستخلفته، مع انهما لم يكونا من قريش. ثالثاً: اوصي ابو بكر بالخلافة الي عمر. وهذا العمل مخالفة

ص: 141


1- 158. العقد الفريد، ج 4، ص 274; تاريخ الطبري، حوار المهاجرين والانصار في السقيفة.
2- 159. تاريخ الطبري، قصّة الشوري (الشوري العمرية).
3- 160. ابن شبّة، تاريخ المدينة، باب مقتل عمر.

صريحة من أبي بكر لسنّة رسول الله. وذلك لأنه إن كان رسول الله قد عين عليَّ بن ابي طالب في غدير خم خليفة من بعده، فلماذا عارض ابو بكر وعمر وحالا دون وصول علي الي الخلافة؟ وان كانت سيرة رسول الله عدم تعيين خليفة من بعده، (وعدم الوصيّة الي أحد بعينه) وترك الأمة لتختار من ترتضيه، فلماذا لم يترك ابو بكر الأمر للامّة لتختار من بعده من تشاء؟ ولماذا خالف ابو بكر وعمر سيرة النبي أيضاً؟ وكذلك خالف عمر وصيّة النبي اثناء وفاته (عندما طلب النبي القلم ليكتب الوصية)، بينما لم يُخالف كتابة وصية ابي بكر، في حين كان ابو بكر في حالة مرض شديد بحيث كان يُغمي عليه بين الحين والآخر. رابعاً: ان ما طُرح في السقيفة «عبارة عن ان كل فريق كان يريد الرئاسة لنفسه». أي انه كان عبارة عن حب الرئاسة، والأنانية، والمنافع الشخصية. وهذا ما ظهر بكل وضوح من خلال العبارات التي نقلها عمر نفسه حول السقيفة حيث قال بأن الانصار كانوا يريدون الخلافة لأنفسهم، بينما كان المهاجرون الذين حضروا السقيفة يريدونها لأنفسهم. ولم يكن أي من هذين الفريقين يفكّر بمصلحة اكثرية الأمة ولا مصالح الاسلام ولا باستفتاء رأي المسلمين بشكل محايد ولا اتباع وصايا النبي الذي اوصي بعدم مفارقة القرآن والعترة، حيث كانت عترة رسول الله - حسبما نقل عمر - أي علي بن ابي طالب، في الجهة المعارضة تماماً لخلافة ابي بكر وعمر.

ص: 142

واما اتباع السلاطين الذين كانوا يريدون اضفاء المشروعية علي حكم ابي بكر من خلال التمسّك بآية الشوري، فلابد من الردّ عليهم بالقول: 1- ان ابا بكر وعمر ما كانا يعتقدان «بانتخاب الحكومة من قبل الامّة» ولهذا السبب لم يفوّض أي منها قضية اختيار خليفته الي الامّة، بل ان ابا بكر اوصي لعمر بالخلافة مثلما اعلن عمر نفسه. كما ان عمر لم يترك الأمر للامّة لتختار من ترضاه وانما عين ستّة اشخاص وامرهم ان يختاروا واحداً من بينهم، وكان من الواضح حتي قبل ان تجتمع بأنها ستختار عثمان; لأنه لم يجعل أياً من اصحاب علي من امثال ابي ذر وعمار بن ياسر وغيرهما في تلك الشوري، في حين كان في تلك الشوري المؤلّفة من ستة اشخاص ثلاثة يُحسبون علي بني امية، وهم عثمان الاموي، والآخر صهر عثمان وهو عبد الرحمن بن عوف، والثالث ابن عم صهره وهو سعد بن ابي وقّاص الذي كان اموياً أيضاً من جهة امّه، ولم يكن موالياً لعلي بل بالعكس كان شديد البغض له. ولذلك لم يبايع علياً بعدما صار علي بن ابي طالب خليفة. والشخص الآخر هو طلحة ابن عم ابي بكر الذي كان يبغض علياً واثبت بغضه له لاحقاً في محاربته له في معركة الجمل. وكما نقل الطبري في قصّة الشوري العمرية، ان عمر قال لهم اذا انقسمت الشوري الي مجموعتين متساويتين، فالرأي للمجموعة التي فيها (صهر عثمان وهو) عبد الرحمن بن عوف. واضربوا رقبة من يكون في الأقلية (ويبدو ان هدف عمر من ادخال علي في مثل هذه الشوري هو ان يكون مع الأقلية ويقتل).

ص: 143

اذاً لم يكن ابو بكر ولا عمر يعتقدان بالشوري والانتخاب الحر. ولهذا قلنا لو انهما كانا يعتقدان بمثل هذا المبدأ لترك ابو بكر الامر للمسلمين ولم يوص بالخلافة لعمر. ولو كان عمر يؤمن بالانتخابات الشعبية لكان: أولاً: لم يعمل بوصية ابي بكر، او كان علي الاقل يخالفها مثلما خالف وصية رسول الله، ويترك الامر للناس. ثانياً: يترك للناس الحرية من بعده ولا يفرض عليهم تلك الشوري الخاصّة، التي كانت نتيجتها فرض عزلة علي علي ابن ابي طالب في تلك الشوري، واختيار عثمان. ثالثاً: يجلس في داره من بعد رسول الله، بدلاً من منازعة الانصار، ومخالفة علي (وهو من العترة الهادية)، ليري من الذي يختاره الناس وباب من يطرقون ومن يتّبعون. كان البعض يقول لو ان عمر كان يعلم بأنَّ الناس يقصدون دارهم وليس دار علي بن ابي طالب (المضحّي لرسول الله وله منه موقع كموقع هارون من موسي) لجلس في داره قطعاً. ولكن رسول الله قال لهم من قبل: «ستحرصون علي الامارة وتكون ندامة يوم القيامة». ولكن اكثرية الناس التي كانت من غير قريش، سواء من الانصار أو من سائر الناس أو غيرهم كانوا يريدون علياً في قرارة نفوسهم. ومع انهم لم يتحركوا ضد هؤلاء المتآمرين خوفاً علي ارواحهم، بيد انهم ثاروا عند انتهاء مدّة حكم رؤوس المتآمرين وخلعوا عثمان المنصوب من قبل حكومة المتآمرين، وقصدوا دار عليّ وانصاعوا لقيادته. ولكن كان الوقت متأخّراً; وذلك لأن معاوية الاموي

ص: 144

المنصوب من قبل ابي بكر وعمر علي بلاد الشام كان قد اخضع تلك البلاد لسلطته تماماً، وكان يرفض الانصياع لحكومة علي. واما عائشة (التي ضرب الله لها ولحفصة مثلاً في سورة التحريم بامرأة لوط وامرأة نوح) فما كانت قادرة ابداً علي الرضا بحكومة علي. ورغم ان الله قد أمرها كزوجة للنبي في سورة الاحزاب (وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)الا انها تمرّدت علي علي وتحالفت مع اعداء علي في الحجاز وتآمرت مع معاوية ولم تترك حكومة عليّ تبسط سلطتها علي كل ارض الاسلام او تستتب لها الامور. واخيراً وفي اعقاب مقتل علي علي يد الخوارج - وهي الحركة التي افرزها هذا التمرد وهذه الحروب - تسلّط الامويون علي المسلمين ثانية. وعلي اية حال، فان انثيال الناس من بعد عثمان علي دار علي وليس دار أحد آخر، يكشف بحد ذاته علي مدي محبّة المسلمين له. كما ان ثورة المسلمين علي اثر شهادة الحسين بن علي، والقضاء علي بني أميّة بيد الموالين للحسين بن علي (سبط رسول الله) يدل علي مدي الوجاهة بين المسلمين لعلي واولاده من آل محمد. ولذلك لو لم يخالف ابو بكر وعمر علياً والعترة الهادية منذ البداية، وفوّضوا زعامة المسلمين (طبقاً لوصايا النبي) بتمامها وكمالها الي علي بن ابي طالب والائمة من عترة آل محمد، لما حصلت اية فرقة وضلال يهدد الاسلام - كما صرّح بذلك نبي الله - بل لكان قد اتيح لعلي بن ابي طالب ان يبسط حكومة العدل التام ولجعل العالم كلّه ينعم بالعدل في ظل حكومة العدل الاسلامي الصحيح، ولما كانت هناك ذريعة بيد اعداء علي باسم مقتل عثمان.

ص: 145

2- فضلاً عن قول الله تعالي في سورة الاحزاب: (وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِن وَ لاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَي اللَّهُ وَ رَسُولُهُو أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَن يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُو فَقَدْ ضَلَّ ضَلَ-لاً مُّبِينًا). أي ان رأي الناس واختيارهم انما يكون حيث لم يأمر الله ورسوله بأي حكم. ولكن حيثما أمر الله ورسوله بشيء، مثل الامر بخلافة العترة الهادية: وهم علي (واولاده الأحد عشر من آل محمد بأمر الله ورسوله)، لا يبقي هناك ثمة موضع لرأي واختيار الامّة في مقابل امر الله ورسوله، لكي يختاروا شخصاً آخر. ولكن خلاصة الأمر هي ان ابا بكر وعمر ما كانا يعتقدان بآيات الشوري ولم يستندا اليها ولم يحتجّا بها، وانّما اوصيابالخلافة لكي لا يتسنّي للناس ان يختاروا من يرتضون للخلافة، هذا اولاً. وأما ثانياً: فحتي لو اختار الناس من يشاؤون فان الله تعالي قد قال في سورة الأحزاب: (وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِن وَ لاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَي اللَّهُ وَ رَسُولُهُو أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ). وقد بين الله للناس واجبهم عندما امرهم بطاعة العترة، ولا يحق لأحد ان يخالف امر الله بأن يختار احداً آخر من غير عترة النبي. - ادّعي فريق آخر بأن خلافة ابي بكر حظيت في ختام الامر بقبول جميع الصحابة واصبحت موضع قبول واجماع الامّة كلّها، وحتي علي بايع ابا بكر. وهذا القول ينقضه عمر نفسه في ما قاله حول منازعته للانصار في السقيفة، ومخالفة علي وانصاره له، حيث قال عمر صراحة: «لقد خالفنا علي واصحابه، وخالفنا الانصار أيضاً.

ص: 146

اضافة الي ان رئيس الانصار من الخزرج; أي سعد بن عبادة لم يبايع أبا بكر وعمر قط الي ان اغتيل. واصابع الاتهام موجهة الي عمر في انه كلّف المغيرة بن شعبة بقتله، وقد قُتِل في الطريق واشيع بأن الجن هم الذين قتلوه (في حين لا يقر أي عاقل بأن الجن ترمي احداً سهماً وتقتله). أما بالنسبة الي عليٍّ فقد هجموا علي داره (1) . اضافة الي ذلك يعني ان الاجماع لم ينعقد علي خلافة ابي بكر فقد ورد في كتب الحديث في باب حد رجم الحبلي، ان بيعة ابي بكر عن قول عمر كانت فلتة; أي ان اجماع الامة في زمن عمر بن الخطاب كان علي ان بيعة ابي بكر كانت فلتة. (2) .

ص: 147


1- 161. راجع: الامامة والسياسة لابن قتيبة; تاريخ الطبري، وغير ذلك.
2- 162. البخاري، ابواب الحدود، باب رجم الحبلي.

ملحقات الكتاب

سورة الأحزاب، الآية 33

(وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَ-هِلِيَّةِ الاُْولَي وَ أَقِمْنَ الصَّلَوةَ وَ ءَاتِينَ الزَّكَوةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُو إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا). هذه الآية شبيهة تماماً بالآية التاسعة والعشرين من سورة يوسف في تغييرها لوجهة الخطاب: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَ-ذَا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنم-بِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِ-ِينَ). فقد جاء الخطاب في اول الآية 29 من سورة يوسف، بصيغة المذكّر (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَ-ذَا)ثم تغيّر الخطابفجأة الي صيغة المؤنث (اسْتَغْفِرِي لِذَنم-بِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِ-ِينَ). وكذلك ورد الخطاب في اول الآية 33 من سورة الاحزاب بصيغة جمع المؤنّث، اضافة الي ان كلمة «بيوت» التي اضيفت اليهن وردت بصيغة الجمع، ولكن آخر الآية جاء الخطاب بصيغة جمع المذكّر مرّتين. ووردت كلمة البيت بصيغة المفرد المحلّي بالالف واللام وهو يفيد ان المراد هو بيت معروف بعينه، وليس كلمة بيوت التي وردت بصيغة الجمع (والمقصود من كلمة بيوت في اول الآية، بيوت زوجات النبي)

ص: 148

وانما قصدت بيتاً معيّناً واكثر المخاطبين في هذا البيت من الذكور. ولهذا ورد الخطاب في هذه الآية بصيغة ضمير المذكر، وهم كما جاء في الحديث المتواتر: النبي، وعلي، والحسن بن علي، والحسين بن علي، وفاطمة الزهراء سيدة نساء اهل الجنّة. (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا). الوجه الآخر من الشبه بين الآيتين المذكورتين آنفاً هو ان الخطاب الي يوسف (في سورة يوسف) جاء من غير تعريض بالضعف واظهار الخطأ من يوسف، واما في الخطاب الي زليخا ففيه تعريض بضعفها واظهار خطئها. (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَ-ذَا)- (وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنم-بِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِ-ِينَ). وفي الآية 33 من سورة الاحزاب وكذا الآيات التي سبقتها، جاء الخطاب الموجّه الي زوجات الرسول فيه تعريض واضح بحب البعض منهن للدنيا، واحتمال وقوعهن في فاحشة مبينة. (يَ-نِسَآءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَ-حِشَة مُّبَيِّنَة يُضَ-عَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَ لِكَ عَلَي اللَّهِ يَسِيرًا). (وَ مَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِي وَ تَعْمَلْ صَ--لِحًا نُّؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا). والظاهر من معني هذه الآية انها قسّمت نساء النبي بحرف «من التبعيضية» الي قسمين: قسم منهن يقنتن لله ويعملن صالحاً، وقسم آخر ليس كذلك.

ص: 149

وهذه الآية التي فيها هذا التعريض بنساء النبي تذكّر المرء بما جاء في سورة التحريم حيث ذكر الله كلاّ من عائشة وحفصة بغضب وقال حتي وان كانت المرأة زوجة لنبي فان ذلك لا يمنع من دخولها النار فيما لو صدر منها عمل غير صالح، مثلما كان الحال بالنسبة الي امراة نوح وامرأة لوط اللتين لم يغن عنهما ذلك من الله شيئاً وادخلتا النار بسبب ما أتيتا به من منكر. وانتما في قلبيكما انحراف وميل الي محاربة الله ورسوله، ولو تظاهرتما علي النبي مرّة اخري فلن يترك الله نبيّه وذلك أنكما اذعتما اسرار بيت رسول الله الذي امركن بعدم اذاعتها وان لا تتجسسن عليه، فقد خنتما الرسول. اليك في ما يلي نص الآية الشريفة: (وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَي بَعْضِ أَزْوَ جِهِي حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِي وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُو وَ أَعْرَضَ عَنم بَعْض فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِي قَالَتْ مَنْ أَمنبَأَكَ هَ-ذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ - إِن تَتُوبَآ إِلَي اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَ إِن تَظَ-هَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَ-ل-هُ وَ جِبْرِيلُ وَ صَ--لِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلَ-ل-ِكَةُ بَعْدَ ذَ لِكَ ظَهِيرٌ). (عَسَي رَبُّهُو إِن طَ-لَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُو أَزْوَ جًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَ-ت مُّؤْمِنَ-ت قَ-نِتَ-ت تَ-ل-ِبَ-ت عَ-بِدَ ت سَ-ل-ِحَ-ت ثَيِّبَ-ت وَ أَبْكَارًا... ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوح وَ امْرَأَتَ لُوط كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَ--لِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْ-ًا وَ قِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّ خِلِينَ - وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِي وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّ--لِمِينَ - وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَ نَ الَّتِي

ص: 150

أحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِمَ-تِ رَبِّهَا وَ كُتُبِهِي وَ كَانَتْ مِنَ الْقَ-نِتِينَ). كما نتذكر أيضاً بأن عائشة عصت من بعد رسول الله أمر ربّها الذي ورد في مستهل الآية الثالثة والثلاثين من سورة الاحزاب، وقال فيه عزّ من قائل: (وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) وخرجت من بيتها وجيّشت الجيوش من افراد من بني امية وغيرهم وخرجوا علي الامام المفترض الطاعة علي بن ابي طالب. وهجموا علي أهل البصرة الذين لم تكن لهم يد في مقتل عثمان، وقتلوا عدداً من الناس الابرياء ونهبوا بيت المال وجعلوا من انفسهم مصداقاً صريحاً للمفسدين في الارض والمحاربين للاسلام، والفئة الظالمة، مما حدا بعلي بن ابي طالب باعتباره الامام المفترض الطاعة الي محاربتهم وايقافهم عند حدّهم. ولكن عائشة بقيت تبغض علي بن ابي طالب الي آخر عمرها وحتي انها كانت تكره ذكره اسمه (1) ولما سمعت خبر استشهاده فرحت وقرّت عينها (2) . ولم يكن هناك من يبغض

ص: 151


1- 163. البخاري في ابواب الغسل والوضوء، وفي ابواب الصلاة باب حد المريض ان يشهد الجماعة; مسند احمد، ج 6، ص 36، عن عائشة وص 228 وص 38; ومسلم في ابواب الصلوة باستخلاف الامام النسائي، جلد 1، ص 134; وابن ماجة، ص 117; وابن سعد في الطبقات، جلد 2، القسمة الثانية، ص 28 - 29.
2- 164. ابن سعد في الطبقات، المجلد الثالث، القسم الاول، ص 27; قالوا وذهب بقتل علي الي الحجاز... فبلغ ذلك عائشة فقالت: والقت عصاها واستقرت بها النوي++ كما قرّ عيناً بالاياب المسافر (وهذا المثل يضرب اذا حصلت الراحة بعد الشدة وحصل الفرح بعد الكرب).

علياً كبغض عائشة له، رغم ان رسول الله قال: لا يبغضه الا منافق أي ان من يكرهون علياً ليس فيهم مؤمن واحد وكلهم منافقون بغير استثناء. ومن المحال ان يكذب رسول الله، فقد نصّت سورة النجم علي ما يلي: (وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي - إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَي)صدق الله وصدق رسوله النبي الكريم. وكان رسول الله قد أخبر مسبقاً بخروج عائشة، حينما كان في المسجد فأشار الي دار عائشة وقال: هاهنا الفتنة من حيث يطلع قرن الشيطان (1) .

ص: 152


1- 165. البخاري، في ابواب الخمس في باب ما جاء في بيوت ازواج النبي صلوات الله عليه، المجلد الرابع، ص 46، قام النبي خطيباً فأشار نحو مسكن عائشة فقال: ههنا الفتنة ثلاثاً من حيث يخرج قرن الشيطان. مسند احمد، ج 2، ص 23، خرج رسول الله من بيت عائشة فقال رأس الكفر من ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان. وكذلك في المجلد الثاني في صفحة 26، نقل ابن سعد في الطبقات، المجلد 8، ص 150، ان النبي قال لازواجه: ايكنّ اتقت الله ولم تات بفاحشة مبينة ولزمت حصيرها فهي زوجتي في الآخرة. وكذلك ابن سعد في نفس المصدر، المجلد 8، ص 150، بسند آخر، وبسند ثالث أيضاً. البخاري في ابواب الفتن (المجلد الثامن، ص 97). عن ابي بكرة قال لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل لما بلغ النبي ان فارساً ملكوا ابنة كسري قال: لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة. البخاري في ابواب الفتن عن ام سلمة: قالت استيقظ رسول الله ليلة فزعاً يقول: سبحان الله ماذا انزل الله من الخزائن وماذا انزل من الفتن، من يوقظ صواحب الحجرات (يريد ازواجه لكي يصلين) رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة. البخاري في المصدر نفسه ان رسول الله قال: من حمل علينا السلاح فليس منا. سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر، (ولاشك أنّ علي بن ابي طالب كان مؤمناً فمن قاتله كان كافراً).

ولكن قد يُتَصَوَّر بأن الخطاب الذي ورد هنا بصيغة جمع المذكّر قد يكون شاملاً لكل بيوت رسول الله ولا يختص بنسائه فقطوانما يشمله هو ونسائه علي حد سواء، وبما انه يدخل ضمن هذه المجموعة، فقد ورد الخطاب بصيغة المذكر (مع فائق احترامنا وتبجيلنا لعظمة ومكانة النبي الكريم). الا ان هذا التصوّر مغلوط ولا يتطابق مع الواقع طبعاً، وان جاء الخطاب في آخر الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحزاب بصيغة المذكر، ووقع الرسول ضمن المخاطبين، ولكن عند النظر الي قرينة الحكم والموضوع نلاحظ ان الحكم لا يشمل نساء النبي لأن الله تعالي قد اشار في هذا الخطاب الجديد، الي مخاطبيه الذين خصّهم بالتطهير حصراً، ثم ان ارادة التطهير في هذه الآية ليست ارادة تشريعية; اذ ان الارادة التشريعية لله بالتطهير والخلوص من الاثم لا يختص بأية أسرة بعينها (بل ان الله قصد في ارادته التشريعية وفي اوامره ونواهيه الشرعية ان لا يذنب كل الناس سواء منهم المؤمن او المنافق او الفاسق، وان يجتنبوا المآثم، وان كان قد صدر منهم ذهب في الماضي وكانوا منافقين أو فاسقين فعليهم ان يتداركوا انفسهم بالتوبة ولا يقعوا في المآثم والذنوب مرّة

ص: 153

اخري. وان كانوا لم يقترفوا أي اثم في الماضي فعليهم ان يحاولوا البقاء في الحاضر والمستقبل علي ما هم عليه من الطهارة ولا يذنبوا). وخلاصة القول هي ان الارادة التشريعية لله تعالي لا تختص بفرد معين ولا بأهل بيت بعينه، رغم ان جملة (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) بدأت بكلمة «انّما» التي تفيد الحصر، وهي ان ارادة التطهير من قبل الله خاصة بأهل هذا البيت دون سواهم. كما تحدثت الآية 41 من سورة المائدة حول المنافقين وبعض الكفار الذين يكفرون بالله عن علم وعمد، وقالت بأن الله لا يريد ان يطهرهم: (أُوْلَ-ل-ِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الاَْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (1) . إذاً فمن غير الممكن ان تكون ارادة الله في هاتين الآيتين إرادة تشريعية; بل ان ارادته في هاتين الآيتين ارادة تكوينية قطعاً. اما بالنسبة الي المخاطبين في آية التطهير (وهم النبي وفاطمة وعلي والحسنين) فبما انهم كانوا يسعون ويحاولون عدم الوقوع في الذنوب والآثام ولا يرتكبون أي ذنب عن علم وعمد، فقد تلطّف بهم الله وصانهم من كل خطأ أو سهو، وذلك بمساعدة ملائكته الذين تكلموا مع مريم العذراء، فهؤلاء الملائكة ينبّهونهم ويحذّرونهم حتي في الحالات الجزئية والطفيفة لكي لا يقعوا في الأثم حتي عن جهل وخطأ، ورغم ان ارتكاب الاثم عن جهل ليس

ص: 154


1- 166. سورة المائدة، الآية 41.

عليه عقوبة اخروية، ولكنه علي اية حال نقص للعبد الخالص لله، أراد الله ان يجنّب عباده المخلصين الخاصين الاخصين من الوقوع فيه، مثلما علّم مريم العذراء بعد ولادة عيسي ان تصوم ثلاثة أيام ولا تكلم الناس، حيث انطق الله وليدها وقال اني رسول الله، لكي يدفع عن امه تهمة الفحشاء، ويبيّن للناس ان آدم صفي الله قد خلق من غير أب وأُم، وان الله الذي خلقه، قادر علي ان يخلق نبياً من انبيائه من غير أب: «ان مثل عيسي كمثل آدم». ورد في اخبار متواترة (1) ان النبي أدخل ابنته فاطمة سيدة نساء أهل الجنّة، وعلياً هارون الأُمّة، والحسنين سيدي شباب أهل الجنّة، تحت كساء وقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي وحماتي... اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً». وعند ذاك نزلت هذه الآية، وكان المخاطبون الخاصّون لضمير جميع المذكّر هم رسول الله وفاطمة وعلي والحسنين، وهي لا تشمل نساء النبي. أي وفقاً للحديث للمتواتر لا تدخل نساء النبي في خطاب جمع المذكّر الوارد في آخر الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحزاب. اضافة الي ذلك فان مثل هذا الخطاب من المستحيل ان يشمل نساء النبي التي وردت الآية السابقة في بعضهن وخاصة عائشة، حيث كان رسول الله غاضباً عليهن لمدّة شهر عند نزول هذه الآية

ص: 155


1- 167. مسلم، ابواب فضائل الصحابة، باب فضائل أهل البيت; الترمذي، ابواب المناقب، باب مناقب أهل البيت.

لأنهن كنّ يطمعن في الحصول علي اكثر مِن حقهنَّ من بيت المال ولهذا السبب كنّ يشمتن برسول الله ويؤذينه (1) . وكان الله قد ذكر في عدّة آيات قبلها انكن ان كنتنّ غير راضيات بهذا المستوي المعاشي والانفاق اليومي يمكنكن ان تطلبن الطلاق وتذهبن لحالكن. وكانت نساء النبي قبل شهر من نزول هذه الآية موضع غضب الله بسبب هذه المطاليب غير المشروعة. اضافة الي ان الله غضب أيضاً علي عائشة وحفصة بسبب تجسسهنَّ علي النبي واذاعة اسراره خارج داره كما ورد في سورة التحريم. وبيّن الله ان المرأة اذا كانت زوجة نبي فان ذلك لا يمنع من دخولها النار ان كانت تستحق دخول النار (2) . وبالاضافة الي هذه الآيات هناك أيضاً أحاديث متواترة ضد نساء النبي، فقد ورد في حديث ان النبي اشار الي مسكن عائشة وقال: من هنا يطلع رأس الكفر (3) وقال أيضاً: هاهنا الفتنة من حيث يطلع قرن الشيطان. وقد اظهرت عائشة بسلوكها بعد النبي بأنّها علي رأس اعداء علي وتبغضه اشد البغض. وكان رسول الله قد قال بأنه ليس بين من يبغضون علياً مؤمن واحد وكلهم منافقون من غير استثناء. وقد قال الله عز وجل في حال المنافقين:

ص: 156


1- 168. الترمذي، ابواب المناقب، باب مناقب أهل البيت; وروي ان ماجة قول رسول الله: انا سلم لمن سالمتم وحرب لمن حاربتم.
2- 169. وصف الله عز وجل في كتابه الكريم وضع هاتين المرأتين بالقول: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) أي ان قلبيكما قد الخرفا.
3- 170. البخاري، كتاب التفسير، سورة التحريم.

(لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) (1) . وبناء علي قول رسول الله بأن علياً لا يبغضه الا منافق، فذلك يعني بأَنَّ عائشة من المنافقين بشهادة رسول الله. وقد قال الله حول المنافقين بأنَّه «لم يرد الله ان يطهّر قلوبهم». وبالنتيجة فذلك يعني ان الله جل وعلا لا يريد تطهير قلوب المنافقين ومنهم عائشة. واذا قلنا بأن آية التطهير التي وردت في سورة الاحزاب تشمل عائشة فاننا نكون قد وقعنا حينذاك في تناقض والحال ان كلام الله لا يناقض بعضه بعضاً. اذاً كما ورد في الحديث المتواتر بأن المخاطبين في المقطع الاخير من الآية الثالثة والثلاثين من سورة الاحزاب، الذي يبدأ بكلمة «انما» هم فقط رسول الله وابنته فاطمة وسبطيه الحسنين وابيهما، علي بن ابي طالب، ولا يشمل نساء النبي، وخاصة عائشة وحفصة اللتان كانتا تبغضان علي بن ابي طالب، ومن المحال ان يشمل التطهير مبغضي ومبغضات علي (2) ; لأن من يبغض علياً - بنص شهادة النبي - من المنافقين; والمنافقون ابغض الخلائق الي الله، لأنهم مع تظاهرهم بالاسلام ومعرفتهم بأحقية الاسلام وصحّة اوامر ونواهي الله ورسوله، غير انهم في باطنهم اختاروا الكفر ومخالفة الله ورسوله. وهؤلاء الاربعة الذين شملتهم آية التطهير الي جانب النبي هم

ص: 157


1- 171. سورة المائدة، الآية 41.
2- 172. لم يرد الله تطهير المنافقين. واضافة الي الآية 41 من سورة المائدة، فقد ورد أيضاً في اول سورة البقرة قوله تعالي: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا)ولو اراد الله تطهيرهم لما قال «فزادهم الله مرضاً».

عترة النبي واهل بيته، وهم من سماهم النبي سادة اهل الجنّة، وهم الذين حضر بهم المباهلة، بعدما وعد نصاري نجران بأن يباهلهم بأهل بيته حيث لم يأخذ معه الا فاطمة وعلي والحسنين، ولم يأخذ ولا واحدة من نسائه. وصرّح في حديث الثقلين الذي ادلي به في حجة الوداع وفي مرض وفاته حيث قال: اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما فلن تضلّوا ابداً. وقد نقل مسلم في كتابه عن الصحابي زيد بن أرقم بأن مصداق العترة وأهل البيت الذي ورد ذكرهم في هذا الحديث، لا يشمل زوجات النبي. فهذا تصريح ادلي به بعض الصحابة وهو ان كلمة العترة وأهل البيت التي وردت في هذا الحديث لا تشمل نساء النبي. بل ومن المحال عقلاً ان تشمل العترة وأهل البيت في هذا الحديث نساء النبي، اذ طبقاً لمفاد المقطع الاول من الآية الثالثة والثلاثين من سورة الاحزاب (وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)، لا يحق لهن الخروج من البيت وقيادة الأُمّة. ومخالفة عائشة لمنطوق هذه الآية عملياً لا يعني الا الضلال، خاصّة وان معركة عائشة مع علي بن ابي طالب الامام المفترض الطاعة وقتل أُناس ابرياء من اهل البصرة ونهب بيت المال هناك، غدا كل ذلك ذريعة بيد معاوية وبني امية ليتمرّدوا ويخرجوا علي الامام المفترض الطاعة وهو علي بن ابي طالب ويقسّموا ارض الاسلام التي كانت حتي ذلك اليوم موحّدة وقوية تحت قيادة امام مفترض الطاعة، وكان جزءاً منها بيد معاوية الذي خرج علي الامام المفترض الطاعة وأفسد في الارض، حتي صار عمل عائشة وبني امية مثالاً يقتدي به كل المفسدين في

ص: 158

الارض ليقسموا ارض الاسلام الكبري والمقتدرة الي اجزاء ودويلات، وصار المسلمون مجزّءون ومتفرّقون وعلي درجة من الضعف بحيث يستطيع بضعة ملايين من اليهود اضطهادهم وممارسة ابشع انواع الظلم بحقّهم. ونتيجة لهذا التشتت الذي أصاب المسلمين - بسبب ما ورثوه عن عائشة وبني اميّة - فقد باتوا عاجزين عن لملمة شتاتهم وجمع كلمتهم والدفاع عن حقّهم. اذاً فالخطاب الالهي الوارد في آخر الآية الثالثة والثلاثين من سورة الاحزاب حول التطهير يشمل اضافة الي النبي، اهل بيته الذي ذكر حديث الثقلين انهم ملازمون للهداية (وهم القادة الوحيدون للامّة من قبل الله ورسوله) ومن المستحيل ان يشمل قادة التفرقة والضلال. وعلي الرغم ان البخاري كان يخفي بغضه لعلي، الا انه كشف هنا عن بغضه لعلي «في كتاب حديثه المعروف»، من اجل ان يجعل عائشة من المشمولين بالآية المذكورة آنفاً علي الرغم من بغضها لعلي، فقال بأن رسول الله كلم عائشة بعد نزول الآية الثالثة والثلاثين من سورة الاحزاب، كلّمها بصيغة جمع المذكر وقال لها: السلام عليكم يا أهل البيت (1) في حين اتضح لنا في ضوء ما مَرَّ من الآيات القرآنية والاحاديث المتواترة بأنه من المحال ان يشمل صيغة جمع المذكّر في هذه الآية (وهي الآية الثالثة والثلاثين من سورة

ص: 159


1- 173. البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة الأحزاب، الآية الثالثة والثلاثين، وهذا يتطالبق مع: البخاري، ج 6، ص 25 (طبعة اسطنبول من ثمان مجلّدات).

الاحزاب) عائشة، فما بالك بأن يخاطب النبي امرأة واحدة بصيغة جمع المذكر، وهو شيء مغلوط في اللغة العربية. وحتي انه من غير الممكن ان يخاطب النبي جميع نسائه بصيغة جمع المذكّر، فما بالك بأن يخاطب واحدة منهن بصيغة الجمع المذكر. وهذه واحدة اخري من اكاذيب البخاري وهي تتناقض مع القرآن والسنّة المتواترة وقواعد اللغة العربية.

تفسير آية أولي الأمر، والطاغوت بالاستعانة بسائر الآيات

الآية 59 من سورة النساء: (يَ-أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَْمْرِمِنكُمْ فَإِن تَنَ-زَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ ذَ لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً). في الآية المذكورة آنفاً أُمِرَ المسلمون الي يوم القيامة بطاعة ثلاث، وطاعة هؤلاء الثلاثة هي الواجبة فقط، وهم الله، والرسول، وأولي الأمر. ومن الطبيعي ان الناس يعرفون الله، ويعرفون الرسول. ولكن كلمة اولي الامر تحتاج الي تفسير، والذي يفسّرها هو رسول الله. مثلما أمر الله تعالي في كتابه الكريم بالصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، وفروع الدين، بشكل اجمالي وترك للنبي مهمة تفسيرها وبيان تفصيلها وشروطها وكيفيّاتها. وكذلك خاطب الله تعالي في سورة النحل رسوله بالقول: (وَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ

ص: 160

يَتَفَكَّرُونَ). (وَ مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَ-بَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَ هُدًي وَ رَحْمَةً لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ). ولهذا فبعدما أمر الله بطاعته وطاعة الرسول واولي الامر، قال بعد ذلك مباشرة: (فَإِن تَنَ-زَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ). ولم يقل «وان تنازعتم في شيء فردّوه الي الله والرسول واولي الأمر». لأنه من الممكن ان يقع النزاع في تشخيص اولي الامر; خاصة وان منزلة اولي الأمر - حسبما تفيد به الآية المذكورة آنفاً - منزلة رفيعة جدّاً وتأتي من بعد الله والرسول، وهو الوحيد الذي يبقي أمره واجباً علي الامّة الاسلامية مطلقاً الي يوم القيامة. واذا لم يشخص بدقّة من هم هؤلاء أولي الأمر، فقد يطمع من لديهم حب الرئاسة في الاستيلاء علي هذا المنصب بعد رسول الله، ويدّعون ولاية الامر علي الناس رغم انهم غير صالحين لهذا المنصب ولا مؤهلين له; وذلك لأن النبي قال: «انا لا نولّي هذا الأمر من سأله ولا من حرص عليه» (1) . وبالنتيجة فان الله العالم بجميع الامور قد بيّن في هذه الآية الشريفة بأنكم إن اختلفتم في شيء فعليكم بالرجوع الي الله والي الرسول. وبعبارة اخري ان تشخيص وتعيين اولي الأمر - وهو أمر قد يقع فيه نزاع واختلاف - ينبغي الرجوع فيه الي الله والرسول. أي

ص: 161


1- 174. البخاري، ج 8، ص 107. طبعة دار الفكر بيروت (وهي طبعة بالاوفسيت عن طبعة استانبول، 1401ه-، 8 مجلّدات).

ان الله والرسول هما المرجع وينبغي الرجوع اليهما في حل أي اختلاف أو نزاع، وحتي انهما المرجع لحل الاختلاف حول تشخيص وتعيين من هم اولي الأمر. وبما ان عبارة وان تنازعتم في شيء وردت مطلقة، وقد تشمل حتي معرفة اولي الامر، لذلك لم يقل «إن تنازعتم في شيء فردّوه الي الله والرسول واولي الامر»; وذلك لأن اولي الأمر ان لم يكونوا قد عُرِّفوا وعيّنوا من قبل الله والرسول، ولم يكن هناك ثمّة اختلاف ونزاع بشأنهم، فقد يكون الموضوع المتنازع فيه مرجعاً لرفع الاختلاف بحد ذاته. ويمكن القول بعبارة اخري يصبح الشيء الذي هو بحد ذاته موضع نزاع واختلاف، يصبح مرجعاً لحل الاختلاف. ولهذا السبب بيّن العزيز الحكيم في الجملة التالية لهذه الآية بأنه اذا وقع بينكم نزاع او اختلاف في شيء فالمرجع الوحيد الذي ينبغي الرجوع إليه لحلّه هو الله والرسول حتي وان كان موضوع التنازع والاختلاف هو مصداق اولي الامر. أي لو وقع بينكم نزاع واختلفتم في تعيين من هم اولي الأمر، لا ينبغي لكم اتخاذ القرار من تلقاء أنفسكم، بل لابد لكم من الرجوع الي الله والي الرسول من اجل التوصّل الي المعرفة الصحيحة لأولي الأمر. ومن المحال ان يعيّن الله مرجعاً لحل الاختلاف من غير ان تكون لدي ذلك المرجع القدرة علي حلّه. إذاً يتضح بأن الصحابة لو كانوا قد رجعوا الي الله ورسوله لمعرفة اولي الأمر، لما وقع بينهم أي نزاع، وحتي لو كان قد وقع شيء من ذلك، لتيسّر لهم حلّه بمجرد الرجوع الي الله والرسول. كما ويتبيّن أيضاً من الآية الشريفة المذكورة آنفاً بأن رسول الله

ص: 162

كان يفسّر سائر الآيات التي تستلزم التفسير; فكان يشرح معناها ويعيّن مصداقها. كما انه بيّن بشكل دقيق المصداق الصحيح لأولي الامر باعتباره الموضوع الاكثر أهمية من بعد معرفة الله ورسوله، ولم يترك أي مجال او ذريعة للاختلاف والفرقة والشطط عن الوحدة التي أُمرت الامة بالمحافظة عليها الي يوم القيامة. ولكن قبل الدخول في بحث السنّة النبوية المتواترة في تعيين اولي الأمر، لابد ان نشير الي ان الآية الشريفة الآنف ذكرها قد كشفت بأن اولي الأمر يجب ان يعيّنوا ويُشخَّصوا من قبل الله ورسوله. وقد عَرض الله تعالي بين ايدينا مزيداً من التوضيحات الكفيلة بمعرفة اولي الأمر في الآية الثالثة والثمانين من السورة نفسها، وذلك في قوله تعالي: (وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الاَْمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِي وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُوْلِي الاَْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنم-بِطُونَهُو مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُو لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَ-نَ إِلاَّ قَلِيلاً) (1) . فقد بيّن الله عز وجل في هذه الآية بأنَّ الصحابة متي ما تناهي الي اسماعهم شيئاً يستشعرون منه الخوف أو ينطوي علي مخاطر، يسارعون الي اشاعته وبثّه بين الآخرين، ولو انهم - بدل ان يشيعوا ذلك الخبر ويبثّوه بين الناس - يسارعون الي ردّه الي النبي أو الي اولي الأمر، فهؤلاء يعرفون الطريق الصحيح للاستنباط من القرآن والسُنّة. أي ان الرسول واولي الأمر هم فقط الذين يعرفون القضايا

ص: 163


1- 175. سورة النساء، الآية 83.

الأمنية والمخاطر - وهي امور تتعلق بالسياسة والحكومة - عن طريق القرآن والسنّة. كما ان اولي الامر من بعد الرسول هم وحدهم (من بين الصحابة والتابعين) الذين يستطيعون استنباط اسس التعامل الصحيح من القرآن والسنّة لحلّ كل قضية سياسية وامنية. أي ان اولي الامر من بعد رسول الله، هم العالمون الكاملون بالقرآن والسنّة، وهم وحدهم القادرون علي التعاطي مع القضايا السياسية والأمنية عن طريق القرآن والسنّة. وعموم الصحابة والتابعين ليست لديهم مثل هذه القدرة الاستنباطية. أي ان اولي الأمر - كالرسول - افراد افذاذ لا نظير لهم في القدرة علي معرفة مصاديق امر الله والرسول. وعندما نضع هذه الآية الي جانب الآية السابعة من سورة الرعد، حيث يقول: (إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْم هَاد)، او الي جانب السنّة النبوية المتواترة حيث يخاطب النبي الامة بالقول: «اني تارك فيكم الثقلين; كتاب الله وعترتي، ما ان تمسكتم بهما لن تضلّوا ابداً» أي ان العترة من بعدي، هم فقط العالمون الكاملون بكل القرآن والسنّة. ويمكنهم استنباط الحكم الصحيح لكل واقعة وقضية امنية وسياسية، من الكتاب والسنّة. وكذا ما ورد في حديث الثقلين الذي يقول فيه صلوات الله عليه بأن التمسّك بالقرآن والسنّة، ينجيكم من الوقوع في الضلال الي يوم القيامة. ويفهم من كل ذلك بأن الله قد جعل بين الامّة اماماً من العترة الي يوم القيامة لتتمسّك به وتتبعه لكي لا تقع في الضلال. وهذا ما يقوله القرآن أيضاً في الآية الشريفة: (لِكُلِّ قَوْم هَاد) وهو ان الله لا يترك أي قوم من غير هاد الي يوم القيامة، بل لابد ان يكون هناك بين الأُمّة

ص: 164

هاد بحق وهو - بناءً علي ما تفيد به السنّة النبوية - امام من العترة. ويمكن ايجاز الكلام بالقول بأنه في ضوء ما تفيد به الآية التاسعة والخمسين من سورة النساء فان المرجع الذي يُصار إليه في رفع كل نزاع ومن جملة ذلك معرفة اولي الأمر، هو الله والرسول. وكذلك استناداً الي ما ذهبت إليه الآية الثالثة والثمانون من سورة النساء، بأن اولي الأمر هم وحدهم القادرون - بعد رسول الله - علي الاستنباط الصحيح من القرآن والسنّة. وهكذا أيضاً بالنسبة الي الآية (لِكُلِّ قَوْم هَاد)، وكذلك ما ورد في حديث الثقلين حيث قال النبي بأنه من بعد القرآن، يبقي الأئمة من العترة النبوية هم وحدهم وسيلة الهداية وهم الهداة الذين رتّبهم الله لهذه المناصب بحق. (أَفَمَن يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي) (1) . هاتان الآيتان اعتبرتا الامام بحق واجب الاتّباع فحسب، وهم الانبياء والأئمة المعينون من الله وهم معصومون وعالمون كاملون. ويتضح من ذلك بأن اولي الأمر، المنصوبين لهذا المنصب من الله ورسوله، وهم وحدهم الهداة بحق، وهم فقط القادرون في جميع الحالات علي الحكم استناداً الي القرآن والسنّة، هم اولئك الهداة بحق الذين قال عنهم الله في كتابه الكريم: (وَ لِكُلِّ قَوْم هَاد). كما ان الرسول قال أيضاً بأن الائمة من العترة هم الهداة بحق الي يوم القيامة. وبالنتيجة من المحال ان يكون الهداة بحق غير اولي الأمر; وذلك لأن الجائز والواجب هو اتباع الهادي بحق فحسب. وبما انه

ص: 165


1- 176. سورة يونس، الآية 35.

بعد طاعة الله والرسول تكون طاعة اولي الامر واجبة فقط، فمن غير الممكن ان يكون ولاة الأمر غير الهداة بحق من العترة، وهم الذين عيّنهم الرسول بأمر الله ليكونوا قادة للامة من بعده، وهم معصومون طبعاً. ونخلص من كل ذلك الي ان اتباع غير الأئمة من العترة وغير الهداة بحق حرام، والأئمة من غيرهم كلهم ائمة ضلال بلا استثناء، ومن المحال ان يكونوا هم اولو الأمر. أما علي الصعيد التاريخي فقد ذكرنا من قبل بأنَّ خلافة ابي بكر وعمر قد انتهت الي خلافة بني امية الذين هدموا الدين ومنعوا كتابة الحديث. ولولا شهادة الامام الحسين بن علي سبط رسول الله وأحد سيدي شباب اهل الجنّة والمشمول بآية التطهير وآية وجوب مودّة ذي القربي، وهي الشهادة التي أدّت في ما بعد الي اندلاع تلك الثورة الشعبية التي انهت حكم بني اميّة، لاستمرت حكومة بني أمية التي ينكر بعض رموزها - كما كان الحال بالنسبة الي يزيد - رسالة النبي، ولاستمر منع كتابة الحديث النبوي، وهو ما كان يعني بطبيعة الحال ان الاسلام كان سيطمَس بعد عدة قرون ولما كان له أي اثر. وقد حرّم الله في كتابه الكريم طاعة الطاغوت: (أَلَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَي الطَّ-غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِي وَيُرِيدُ الشَّيْطَ-نُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَ-لاَم بَعِيدًا) (1) .

ص: 166


1- 177. سورة النساء، الآية 60.

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَي مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَي الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَ-فِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا) (1) . (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) (2) . كان هناك بعض اصحاب الرسول الذين يعتبرون انفسهم مؤمنين بالله وبالكتب السماوية، كان عندما يحصل بينهم وبين بعض اليهود نزاع حول اموال أو اشياء دنيوية اخري، كان عليهم الرجوع الي قاض او الي حكم ليحكم بينهم. ورغم ان اليهودي كان علي استعداد لقبول التحاكم الي النبي، غير ان الصحابي الذي تشير إليه الآية طلب من اليهودي التحاكم الي قاض يهودي (علي خلاف الرجل اليهودي الذي كان يريد الاحتكام الي النبي) لأن الحق كان للرجل اليهودي، والصحابي يعلم بأنهما لو تحاكما الي النبي فسيحكم عليه النبي باعادة الحق الي صاحبه، ولكن لو تحاكما الي قاض يهودي فهو يستطيع دفع القاضي اليهودي الي اصدار حكم لصالحه سواء بالرشوة او بما له من علاقة شخصية معه. وقد ذم الله تعالي في الآية الستين من سورة النساء ذلك الصحابي مبيّناً بأنَّ ذلك الصحابي كان يعتبر نفسه مؤمناً بالله ورسوله والقرآن والكتب السماوية، فكيف يريد التحاكم الي الطاغوت، وهو الحاكم بغير ما انزل الله ليحكم له بغير الحق؟ في حين انه أُمر ان يكفر بالطاغوت.

ص: 167


1- 178. سورة النساء، الآية 61.
2- 179. سورة النساء، الآية 65.

ويفهم من خلال دراسة الآية الستين بأنها نزلت من غير شك في صحابي من صحابة رسول الله احتكم الي قاض يهودي. ومصداق الطاغوت في هذا المجال هو هذا القاضي اليهودي. ولكن ليس هناك ثمة شك أيضاً بأن المصداق الخاص لا يخصص الحكم بذلك الفرد في مجال الاحكام العامّة، وانّما يبقي الحكم عاماً، وخاصّة في الآية 256 من سورة البقرة التي اعتبرت الكفر بالطاغوت بشكل عام ومطلق سبباً للنجاة: (فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّ-غُوتِ وَيُؤْمِنم بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَي) (1) . وكذلك ما ورد في الآية الستين من سورة النساء: (يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَي الطَّ-غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِي). وهذا طبعاً حكم عام ولا يختص بهذا القاضي اليهودي بعينه، وانما يحرم التحاكم الي أي قاض يهودي آخر، بل الي أي شخص آخر يحكم بغير ما انزل الله، سواء كان يهودياً او غير يهودي، يعني كل حاكم لم ينصب من قبل الله. والكفر بمثل هذا الشخص واجب. والقضية التي تثير التساؤل هنا هي ما معني الطاغوت؟ وهل هذه الكلمة صفة مشبّهة أم صيغة مبالغة. والظاهر انها صيغة مبالغة مشتقّة من المصدر طغي، الذي يعني العصيان والتمرّد والخروج عن حد التعادل والاتزان، كما هو الحال بالنسبة الي النهر الذي يكثر ماؤه الي درجة انه يفيض علي الدور والاراضي والمزارع المجاورة له

ص: 168


1- 180. سورة البقرة، الآية 256.

ويدمّرها، وفي مثل هذه الحالة يقولون طغي النهر. أو كما وصف الله فرعون الذي ادّعي الربوبية وطغي وتمرّد علي الله: (اذْهَبْ إِلَي فِرْعَوْنَ إِنَّهُو طَغَي) (1) . أي ان فرعون قد طغي، فهو طاغ، بل انه «طاغوت» أي في أعلي درجات الطغيان; لأنه ادّعي لنفسه اعظم مخالفة لله وهي ادعاء الربوبية. ولاحظنا بأن وصف الطاغوت لا يختص بالقاضي اليهودي، بل ولا يختص بأي قاض لا يحكم بالحق، وانّما يشمل كل قاض لا يحكم بالحق وكل من لا يحكم بما انزل الله، سواء كان فرعون او غير فرعون، بل ويشمل حتي المسلم الذي يحكم بغير ما انزل الله كيزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف الثقفي; لأن القرآن وصف كل من يحكم بغير ما انزل الله بأنه ظالم وفاسق وكافر، علي النحو التالي: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَ-ل-ِكَ هُمُ الظَّ--لِمُونَ) (2) . (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَ-ل-ِكَ هُمُ الْفَ-سِقُونَ) (3) . (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَ-ل-ِكَ هُمُ الْكَ-فِرُونَ) (4) . ولأن الله تعالي قسم في الآية السادسة والسبعين من سورة النساء، المقاتلين الي مجموعتين: 1- المؤمنون حقاً الذين يقاتلون في سبيل الله. 2- الكفار الذين يقاتلون في سبيل الطاغوت.

ص: 169


1- 181. سورة النازعات، الآية 17.
2- 182. سورة المائدة، الآية 45.
3- 183. سورة المائدة، الآية 47.
4- 184. سورة المائدة، الآية 44.

أي ان كل من قاتلوا ضد رسول الله كانوا اتباع الطاغوت سواءً كانوا يهوداً أو مسيحيين روم او مشركي قريش; أي ان ابا سفيان عندما حارب رسول الله كان طاغوتاً. وعندما تحالف اليهود مع ابي سفيان - رغم انهم (يعني اليهود) كانوا يعارضون عبادة الاصنام ولم يكن أي منهم يعبد الأصنام - كانوا يرون ان ابا سفيان الذي يعبد الأصنام خير لهم من محمد والمسلمين. وقد ردّ عليهم الله هذا الرأي المغلوط بقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَ-بِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِوَالطَّ-غُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَ-ؤُلاَءِ أَهْدَي مِنَ الَّذِينَءَامَنُواْ سَبِيلاً) (1) . وكذلك قسّم الله المقاتلين - حسبما تفيد الآية السادسة والسبعين من سورة النساء - الي: 1- مقاتلين في سبيل الله. 2- مقاتلين في سبيل الطاغوت. وفي الآية 257 من سورة البقرة قسم الله الناس الي مجموعتين: المجموعة الاولي: المؤمنون الحقيقيون، وهؤلاء وليّهم الله; لأن رسول الله لا ينطق بشيء من تلقاء نفسه (وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي - إِنْ هُوَإِلاَّ وَحْيٌ يُوحَي)، و(مَا عَلَي الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَ-غُ الْمُبِينُ)وانّما يبيّن احكام الله، والأئمة المنصوبون من قبل الله يبيّنون الاحكام الالهية فقط ويهدون بالحق (يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا). اذاً أتْباع الأنبياء

ص: 170


1- 185. سورة النساء، الآية 51.

والائمة الالهيين يأتمرون بأمر الله فقط ويخضعون لولايته. المجموعة الثانية: تقع في مقابل المؤمنين بالله (الذين وليهم الله) وهم الكفّار وغير المؤمنين الحقيقيين، وهؤلاء وليّهم الطاغوت وهم يأتمرون بأمره. فقد ورد في سورة البقرة ما يلي: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّ-لُمَ-تِ إِلَي النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّ-غُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَي الظُّ-لُمَ-تِ أُوْلَ-ل-ِكَ أَصْحَ-بُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَ--لِدُونَ) (1) . والآن بعد ان اتّضح لنا بأن كل حاكم لم يكن من قبل الله طاغوت، وان الحكومة الالهية هي فقط حكومة النبي والامام المنصوب من الله، وهو من نصبه الله ورسوله يحكم علي أساس القرآن والسنّة الواقعية فقط، يتبيّن لنا عند ذاك بأن الله قد بعث الانبياء ليخرجوا الناس من طاعة غير الله الي طاعة الله ولكي يأتمروا بأمر الله وحده، وهذا هو معني قوله تعالي: (وَ لَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّة رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَ اجْتَنِبُواْ الطَّ-غُوتَ) (2) . وخلاصة القول هي ان كل حاكم غير منصوب من قِبل الله ورسوله، طاغوت يجب الكفر به كائناً من كان (3) .

ص: 171


1- 186. سورة البقرة، الآية 257.
2- 187. سورة النحل، الآية 36.
3- 188. الذين لم يتّبعوا العترة الهادية وازاحوها عن الساحة السياسية عالمين عامدين، لكي يستولوا علي زمام الحكم. ورغم ان ازاحة العترة عن الساحة السياسية يوقع الامّة في الضلال، ويكون في رقابهم اثم ضلال الامّة الي يوم القيامة، وكان رسول الله قال لهم: ستحرصون علي الامارة وتكون ندامة يوم القيامة، وقال لهم بأن حب الدنيا والرئاسة: تهلككم كما اهلكتهم، وقال أيضاً بأنَّ كثيراً من الصحابة يدخلون جهنم بسبب ما يبتدعونه من البدع.

ولدينا شهادة من رسول الله تفيد بأن الحاكم اذا كان من العترة الهادية، أي اذا كان منصوباً من قبل الله تعالي فهو لا يخطيء في قيادة الأُمّة وهو امام حق. وهذا يعني بالنتيجة بأن كل إمام من غير العترة طاغوت، فما بالك إن كان يحكم بغير ما انزل الله، ويفرض عزلة علي عليّ الذي من العترة، ويأتي ببني اميّة الي سدّة الحكم، من بعدما (1) تبيّن من قبل انهم ظلمة ومنافقون استناداً الي شهادة رسول الله الذي قال: من يبغض علياً منافق. ويمكن القول بايجاز: 1- حديث الثقلين حول العترة الهادية التي جعلها النبي من بعده بمثابة منار يُهتدي به ومَعْلَماً للتمييز بين فريق الحق وفريق الباطل. وهذا الحديث مروي بالتواتر وليس فيه من تناقض. 2- من غير الممكن ان يكون اتباع السلطان الذي قد يكون جائراً وحاكماً بغير ما انزل الله وطاغوتاً، أو اتباع الجماعة (التي تخلّت عن النبي في ساحة المعركة وتركته وحده)، دليلاً علي الاحقية والنجاة من الضلال علي الدوام.

ص: 172


1- 189. كما خالفوا النبي في بدر الكبري بعدما تبيّن لهم ان الحق مع النبي (يُجَ-دِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَي الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ)(سورة الانفال، الآية 6).

ومن غير الممكن أيضاً ان يكون أبا بكر وعمر (اللذين لم يكونا من العترة) إمامي هديً وحبلاً يعصم الامّة من الضلال بعدما تخلّيا عن النبي حينما حوصر في شعب أبي طالب وفي ساحة المعركة عندما شعرا بالهزيمة، وخالفا النبي في غزوة بدر وفي صلح الحديبية وعندما اراد ان يكتب وصيّته، وبعد النبي ازاحا عترته عن الساحة، واستعملوا بني امية امثال معاوية وعثمان، مما أدي ذلك بالنتيجة الي تمهيد الظروف الكفيلة بتسلّط بني امية علي رقاب المسلمين، فمحقوا دين الامّة ودنياها وفرّقوا شملها، ثم ان الفضائل التي نسبها اليهما مبغضو علي; أي المنافقون تتناقض تماماً مع ماضيهم وتاريخهم وحتي مع بعض اقوالهم، ومن المحال ان تكون صحيحة (1) ، كما مر من قبل. وليس ثمة شك في ان معاوية بن ابي سفيان، هو قاتل عمار بن ياسر الذي شهد له رسول الله بأنه تقتله الفئة الباغية، فقد قال رسول الله: يا عمار تقتلك الفئة الباغية. لقد تسلط معاوية لا بأمر من الله ورسوله وانّما بمعصية الله الذي أمر (أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَْمْرِمِنكُمْ)بل بمخالفته للامام المفترض الطاعة وهو علي بن ابي طالب، والهجوم علي نفوس واموال واعراض المسلمين،

ص: 173


1- 190. الروايات التي وردت في فضائل ابي بكر وعمر غير متواترة وغير مقبولة عند كل الفرق الاسلامية; وذلك لأن الفرقة الجعفرية واتباعها لم ينقلوا شيئاً منها ولا يقرّون صحّتها، في حين ان جميع المسلمين نقلوا حديث المنزلة وحديث الثقلين وحديث الغدير.

واراقة دماء الابرياء ومنهم عمار بن ياسر. فصار معاوية بذلك حاكماً بغير ما انزل الله، وحتي انّه حسبما نقل مسلم، كان يأمر بأكل المال الحرام واراقة الدم الحرام، وحتي انه دسَّ السم الي الحسن بن علي وهو من ائمة عترة رسول الله الواجبة الاتباع ومن ذوي القربي الذين أوجب الله مودّتهم في كتابه وأحد سيدي شباب أهل الجنّة، وقتله، وأوصي بالخلافة من بعده لابنه الفاسق (1) يزيد الذي قتل الحسين بن علي، (وهو من عترة النبي الواجبة الاتباع وسبط النبي، والسيد الآخر لشباب أهل الجنّة ومن ذوي القربي الذين أوجب الله طاعتهم)، ومن بعد قتل الحسين أمر جيشه بالهجوم علي مدينة النبي واستباحها ثلاثة أيام لجيشه ليفعل ما يشاء بأعراض المسلمين واموالهم وارواحهم، بحيث انه بعد تسعة أشهر من ذلك التاريخ انجبت نساء المدينة ألف ولد زنا. ومن المثير للاشمئزاز ان جيشه قتل هناك حتي الاطفال الرضّع وزنا بنساء الصحابة. وبعدما خرج ذلك الجيش من المدينة سار نحو مكّة فاحرق أستار الكعبة وهدمها. وكان يزيد يقول بكل صلافة بأنَّ محمداً لم يكن رسولاً وانما ادعي الرسالة ليصل الي الرئاسة، وقال أيضاً لعب بنو هاشم بالسلطة والملك: لعبت هاشم بالملك فلا++ خبر جاء ولا وحي نزل وفي ضوء كل ذلك ألا يمكن القول بأنَّ يزيد بن معاوية، وأباه

ص: 174


1- 191. البخاري، غزوة بدر، ج 5، ص 20 -... ثم وقعت الفتنة الثانية يعني الحرّة (اي واقعة الحرة علي يد جيش يزيد بن معاوية) فلم يبق من اصحاب الحديبية احد....

معاوية بن ابي سفيان، مخالفان لله ورسوله ومفسدان في الارض وطغيا علي الله ورسوله بما ارتكباه من أعمال. كما ان عثمان بن عفّان الاموي الذي جاء الي الخلافة بوصيّة من عمر وليس بأمر الله ورسوله وبعد موافقته علي الشرط الذي عُرض عليه وهو ان يسير بسيرة ابي بكر وعمر التي كانت سيرة مخالفة لسنّة النبي، وان يطبّقها بحذافيرها بما يعنيه ذلك من عدم العمل بسنّة النبي التي كان تقوم علي مبدأ تقسيم بيت المال بالسويّة، وانّما العمل بسيرة عمر الذي وضع فروقات في العطاء وميّز بينهم في تقسيم بيت المال، ولم يقسمه بين المسلمين بالتساوي (1) ، او كما فعل ابو بكر الذي منع عن اولاد فاطمة الخمس وسهم ذي القربي، ولم يتمسك بالعترة التي أوصي الرسولُ بالتمسّك بها، وهو علي بن ابي طالب، واستمرّ في منع كتابة الحديث. ولو اردنا سرد الحالات التي خالف فيها ابو بكر وعمر القرآن والسنّة للزم تدوين كتاب مستقل لهذا الغرض. وعلي اية حال فانَّ عثمان الاموي لم يصل الي السلطة بوصية من النبي، بل بالعكس فان النبي قد أمر بالتمسّك بالعترة الهادية واتباعهم وعدم اتّباع غيرهم، وخالف وصية النبي الذي امر باتباع العترة الهادية أي علي بن ابي طالب، ووصل الي السلطة بطاعته لابي بكر وعمر وهما من غير عترة النبي. وعمل عثمان علي استعمال اقاربه الفسقة والظلمة مثل الوليد بن

ص: 175


1- 192. البخاري، غزوة بدر، ج 5، ص 20; ج 6، ص 261; كتاب الاموال، ابو عبيد.

عقبة الصحابي الشارب للخمر، وعبد الله بن ابي سرح الجائر الذي حكم مصر بالقسوة والاستبداد، اضافة الي ما قام به من تقسيم بيت المال بين بني امية من امثال مروان بن الحكم، وغير ذلك من الأعمال التي أثارت سخط الصحابة عليه من المهاجرين والانصار، وقد أمرت عائشة بقتل عثمان الاموي ووصفته بأنه طاغوت. ثم ان أهالي مصر الذين خرجوا علي عثمان بسبب دعمه لأخيه الجائر عبد الله بن ابي سرح، قتلوه وانصرفوا، وقد منع أصحاب النبي دفن جنازة عثمان في قبور المسلمين، لا لأنهم كانوا يعتبروه منافقاً بل انهم كانوا يعتبرونه كافراً. وحتي علي بن ابي طالب (هارون الامة وعترة النبي والمشمول بآية التطهير) لم يقدم علي تكفين ودفن عثمان باعتباره مسلماً (لانه لم يكن يعتبره مسلماً والا فانَّ علياً وهو عترة الني واعظم من دافع عنه وضحّي لأجله من غير الممكن ان يتنصّل ولم يتنصّل قط عن واجب شرعي وهو تكفين الميت المسلم). لقد كان ابو بكر وعمر، وفقاً للتاريخ المتواتر الذي مرَّ ذكره، أول (1) .

ص: 176


1- 193. تركا رسول الله وحده في شعب أبي طالب، وهذا يعني انهم قد اعانوا المحاصِرين عملياً - وفي غزوة بدر عارضا فكرة الحرب وجادلا النبي عن علم وعمد. (كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنم بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَ-رِهُونَ - يُجَ-دِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَي الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ)(سورة الانفال، الآيتان 5 - 6). - وفي غزوة أحد وحنين فرّا من المعركة خلافاً لأمر الله. - وفي صلح الحديبية عارضا الصلح الذي قال به الله ونبيّه. - وفي مرض النبي الذي توفّي فيه، خالفا أمر النبي حينما أمر باحضار دواة وكتف ليكتب لهم كتاباً لا يضلون بعده (البخاري، ج 8، ص 16). - ومن بعد النبي، خالفا أمر النبي الذي أوصي بالتمسك بعترته وهما علي وفاطمة، وخالفا حكم الله الذي جاء في القرآن باعطاء ذي القربي الخمس، ولم يدفع لفاطمة شيئاً من الخمس، وعطّل حكم القرآن بشأن فاطمة، وحكم بغير ما انزل الله، وهو منع سهم ذي القربي. - نقل البخاري، في كتاب الحدود، باب حد الحبلي، بان عمر قال: خالف عنا علي. أي انه عارض خلافة ابي بكر. ونقل البخاري أيضاً في كتاب بدء الخلق، في كتاب غزوة خيبر ما يلي: ان فاطمة بنت النبي ارسلت الي ابي بكر تسأله: 1- ميراثها من رسول الله مما افاء عليه بالمدينة. 2- فدك. 3- وما بقي من خمس خيبر. (الي ان قال) فابي ابو بكر ان يدفع الي فاطمة منها شيئاً فوجدت فاطمة علي ابي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتي توفيت، وعاشت بعد النبي ستة اشهر فلما توفّيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها ابا بكر وصلي عليها زوجها. - ونقله مسلم في كتاب الجهاد والسير. - ونقله ابن سعد في الطبقات الكبري، ج 2، ص 84. - ونقله احمد في مسنده، المجلد الاول، ص 9. - ونقله الترمذي، المجلد الاول، باب ما جاء في تركة النبي.

من خالف العترة الهادية الواجبة الاتّباع، وأول (1) من عمل علي

ص: 177


1- 194. أصبح الحال في زمن ابي بكر وعمر علي العكس مما كان عليه في زمن النبي. ففي زمن النبي كان معاونو النبي والمحيطين به علي وبنو هاشم. ولكن في عهد ابي بكر وعمر أضحي اكثر معاونوهم من بني اُميّة واستُبعد علي وبنو هاشم. وفي عهدهما أيضاً أصبح حكم الشام ملكاً لأبناء ابي سفيان، وصار عثمان الاموي هو الحاكم علي جميع المسلمين بواسطة عمر، وعثمان هذا هو الذي أدّي بتصرفاته واعماله المخالفة للقرآن والسنّة الي ان يثور الصحابة من المهاجرين والانصار وسائر المسلمين، فكان بذلك هو الذي أسس التفرقة الي يوم القيامة. - وقد سار ابو بكر خلاف سيرة رسول الله عندما أوصي بالخلافة من بعده الي عمر الذي فرَّ في غزوات النبي، وهو يعلم بأن علياً لم يفر قط في اية معركة، وانه من عترة النبي، وان اتّباعه والانضواء تحت لواء قيادته يعصم الأمّة من الضلال. قال رسول الله: اني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا. ولو فرضنا - وفرض المحال ليس بمحال - انه كان غير مطلع علي سنّة النبي في هذا المجال، وظَنَّ ان النبي لم يوص بالخلافة لأحد من بعده، فلماذا ترك سنّة رسول الله في عدم الوصية لأحد، وعمد هو الي الوصية بالخلافة لعمر من بعده، ولم يترك الناس لحالهم؟ لقد كان ابو بكر يعلم تماماً بأن النبي عيّن العترة من بعده ائمة بالحق وهداة للناس وقادة للأُمّة، ولكنه خالف سيرة النبي واوصي لعمر من بعده. لأنه لو كانت سنّة النبي وسيرته ان يترك الناس من غير ان يعيّن عليهم خليفة من بعده - وهذا أمر محال طبعاً - لماذا لم يتّبع ابو بكر هذه السنّة النبوية، وجعل قيادة الأمة من بعده لأحد الفارّين من جبهة القتال. وبالاضافة الي علمه بأن النبي قال: «انّا لا نولّي هذا الأمر أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه».ان من يطلب الرئاسة لا يليق لها. فلماذا ترك ابو بكر وعمر المشاركة في دفن النبي وهرعا من دارهما لطلب الرئاسة ودخلا في نزاع مع الأنصار، ومع علي بن ابي طالب عترة النبي واحرقا داره، وسلّوا السيف عليه وعلي الناس واستولوا علي السلطة بهذا الاسلوب؟ أي انّهما استوليا علي الحكم بالتآمر وبتهديد الأمّة، رغم قول رسول الله «من حمل علينا السلاح فليس منا»، وهي تلك المؤامرة التي أُريق فيها دم أعز المسلمين; أعني تلك المؤامرة التي انتهت بمقتل فاطمة الزهراء سيّدة نساء أهل الجنّة. فقد هجمت المجموعة العمرية بتوجيه من أبي بكر علي دار فاطمة الزهراء الشابّة، رغم أنها كانت مشغولة بالعزاء علي النبي، وبعد ان هجموا علي الدار وكسروا الباب احرقوا الدار، واقتادوا علياً موثق اليدين الي ابي بكر وسلّوا عليه السيف وهددوه بالقتل ان لم يبايع. ومن جهة اخري فانهم عندما هجموا علي الدار كانت فاطمة وراء الباب فدفعوا الباب بقوّة وسبّبوا لها اذيً بليغاً، بحيث انها فارقت الحياة بعد بضعة أشهر نتيجة لهذه الجراح وعلي اثر كسر ضلعها; فماتت شهيدة وسقط الطفل الذي في بطنها. وقد أوصت فاطمة علياً عندما شارفت علي الموت، ان لا يخبر أبا بكر وعمر بوفاتها، لكي لا يحضرا جنازتها ولا يصلّيا عليها، كما اوصته ان لا يعلمهما حتي بموضع قبرها لكي لا يحضرا عند قبرها. وكانت فاطمة سيّدة شباب أهل الجنّة عندما فارقت الحياة غاضبة علي ابي بكر وعمر وتدعو عليهما في صلاتها ولم ترض عنهما ابداً، مثلما ان رسول الله منعته الجماعة العمرية من تدوين وصيّته عند وفاته، حتي انه قال لهم: قوموا عنّي... وهذا يعني انه فارق الدنيا وهو غير راض عن الجماعة العمرية; أي عن ابي بكر وعمر. وكان غاضباً علي ابي بكر وعمر، اللذين آذياه بأعمالهما. وقد نقل البخاري في غزوة خيبر ما يلي: فأبي ابو بكر ان يدفع الي فاطمة منها شيئاً فوجدت فاطمة علي ابي بكر حتي توفّيت. وجاء في سنن الترمذي، في باب الخمس، في باب تركة رسول الله ما يلي: فغضبت فاطمة فهجرت أبا بكر حتي توفّيت.

استبعاد وتهميش العترة الهادية، والتمهيد لمجيء الحكم الاموي الذي أساء الي دنيا المسلمين ودينهم. فقد قال النبي: يُهلك امتي هذا الحي من قريش. (هذا ما نقله البخاري في كتابه، في ابواب المناقب; ونقل مسلم في كتاب الفتن، وغيرهما متواتراً) رغم ان ابا بكر قال بعد رسول الله

ص: 178

في السقيفة ان السلطة تكون لهذا الحي من قريش يريد نفسه وابا عبيدة وعمر من غير بني هاشم. ونظراً الي وجوب اتباع العترة الهادية امتثالاً لما أمر به النبي في حديث الثقلين، فالنتيجة التي نصل اليها من خلال ذلك هي ان القريشيين من غير عترة النبي تسبّبوا في ضلال وفرقة الامّة وهلاك الناس، إستناداً الي ما أخبر به رسول الله وشهد به التاريخ.

ما لا يمكن تجاوزه

لا يمكن ان يكتب المرء كتاباً حول الصحابة من غير ان يعرّج علي ذكر فاطمة الزهراء سيّدة نساء اهل الجنّة; لأنه علي الاقل ان فاطمة كان لها في زمن أبيها (رسول الله) عدّة أولاد، ثم انها لم تكن صبيّة غير بالغة، ومن يكون هذا حاله ينبغي ان يعد في عداد الصحابة من غير ترديد. أي ان السيدة فاطمة من الصحابة لاسيما وانها هي وزوجها علي لم تكن لهما سابقة شرك ولا عبداً صنماً، أضف الي انهما من اهل بيت النبي ومن ذوي القربي الذين اوجب الله مودّتهم. الا ان الشيء الذي كان يميّز فاطمة عن بقية الصحابة هو ليس الصحبة; اذ كل المسلمين من النساء والرجال الذين كانوا حول النبي، يدخلون في عداد الصحابة. كما ان كونها بنت الرسول لا يُعد امتيازاً خاصاً لفاطمة; اذ ان زينب وام كلثوم كما ينقل البعض هما أيضاً من بنات الرسول. (وان كان بعض المحققين يري بانَّ زينب وام كلثوم، ابنتا اخت خديجة; أي ابنتا هالة). وعلي فرض ان زينب وام كلثوم كانتا ربيبتي النبي، الا انهما لا تصلان الي منزلة وأهمية

ص: 179

فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، ولم تكن لهما مثل هذه الأهمية قط، بحيث يصطحبهما النبي الي المباهلة، عندما وعد نصاري نجران أن يباهلهم بأهل بيته. وانما اصطحب فاطمة سيدة نساء اهل الجنّة، والحسنين سيدي شباب أهل الجنّة، وعلي بن ابي طالب (هارون الأمّة)، ولم يأخذ معه زينب او ام كلثوم، وكذا لم يأخذ معه أياً من نسائه. وفي قصّة نزول آية التطهير أيضاً، ضم النبي إليه تحت كسائه فاطمة سيدة نساء أهل الجنّة، والحسن والحسين سيدي شباب اهل الجنة، وعلياً هارون الأمّة، ونزلت عند ذاك آية التطهير فيهم وحدهم وليس في زينب وام كلثوم ولا في نساء النبي (اللاتي نزلت آيات من سورة الاحزاب في ذم بعضهم، وكان بعضهن موضع غضبه كما ورد في اول سورة التحريم وضرب مثلاً لهن بامرأة لوط وامرأة نوح اللتين لم يغن عنهما كونهما زوجتي نبيّين شيئاً، ولم يمنع من دخولهما النار، وقد شهد القرآن بانحراف قلبيهما: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)). إذاً فالسيدة فاطمة سيّدة نساء اهل الجنّة متميّزة علي جميع بنات النبي وأفضل منهن، وأفضل من ازواجه، بل أفضل من جميع النساء. بيد ان الشيء الذي جعلها تفضل جميع نساء العالم من الأولين والآخرين، ويجعلها افضل حتي من مريم العذراء هو ما شهد به لها النبي الذي لا ينطق عن الهوي، بأنها «سيّدة نساء أهل الجنّة». ومن المؤكد ان مريم العذراء في الجنّة، ولكن فاطمة تكون هناك سيّدة عليها; لأن فاطمة سيّدة كل نساء الجنّة بشهادة النبي الذي (وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي - إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَي) وهي لم تنل هذه المرتبة

ص: 180

الا لعلو ايمانها وطاعتها لربّها، فجعلها ربّها أفضل من سائر النساء وحتي افضل من مريم العذراء (مريم التي كانت تكلم الملائكة ونزلت عليها مائدة من السماء) وهذا واحد من عوامل افضلية الاسلام علي المسيحية، اذ ان افضل امرأة في الاسلام تتفوق في الأفضلية علي افضل امرأة عند المسيحية وعند سائر اهل الكتاب. وقد نقل عن طريق أهل البيت وآل محمد حول السيّدة فاطمة انها كانت تكلم الملائكة وتكلم حتّي جبرائيل - كما كان الحال بالنسبة الي مريم - ومن ألقاب السيّدة فاطمة «المحدّثة» أي انها تتحدث مع الملائكة. وكذلك ورد في أحاديث أهل البيت وفي أحاديث الأئمة من عترة النبي، ان علي بن ابي طالب هارون الامّة، وامام العترة الهادية الذي هو اول القوم اسلاماً واكثر الصحابة تضحية وفداءً للنبي، كان مثل مريم يحدّث الملائكة أيضاً. وعندما تكون السيّدة فاطمة محدّثة للملائكة، لا يُستبعد أبداً ان يكون علي (الذي تعتبره فاطمة امامها وافضل منها وهارون الأمّة واكثر الصحابة فداءً وتضحية للنبي) بطريق أولي محدّثاً للملائكة أيضاً. وعلي أية حال فان فاطمة سيّدة نساء اهل الجنّة كانت مفخرة الاسلام، وجميع الصحابة، وكان لها مكانة متميّزة بين الصحابة مثلما لمريم مكانة خاصة في المسيحية، ومثلما لها من احترام واهتمام عند اتباع المسيحية. ولكن يبقي هناك ثمة تساؤل يسترعي اهتمام المسلمين وغير المسلمين، وهو لماذا نُسيت هذه المرأة التي تعدّ اعظم مفخرة للمسلمين، بعد وفاة ابيها مباشرة، وأدرج ذكرها طي النسيان؟

ص: 181

1- رغم انها كانت شابّة، توفّيت مبكراً؟ 2- لماذا لم يذكر سبب وفاتها في صفحات التاريخ؟ في حين ان أسباب الوفاة تُذكر عادة. ويقتصر البعض علي ذكر هجوم الجماعة العمرية بأمر أبي بكر علي دار فاطمة وأمر ابي بكر باقتياد علي راغماً ومنهم البلاذري، والأمر باحراق دار فاطمة حتي وان كانت هي فيها (وحتّي وان كان فيها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة وعلي هارون الامّة، وهو الذي قال له رسول الله: انت منّي وانا منك. وقد ورد هذا في تاريخ الطبري، وتاريخ أبي الفداء، والعقد الفريد، وابن عبد ربّه وغيرهم). ويعتبر الشيعة فاطمة شهيدة. وقد ورد في «تهذيب الشيخ»، في زيارتها، ما يلي: «ايتها الصدّيقة الشهيدة». وذكر الصدوق في كتاب «من لا يحضره الفقيه»، وفي عبارة حديث «الكافي» في خطاب علي بن ابي طالب لقبر رسول الله: «وستُنبؤك ابنتك بتظافر امّتك علي هضمها، فاحفها السؤال واستخبرها الحال ويحكم الله وهو خير الحاكمين». وعن «كتاب سليم بن قيس» الذي كان حاضراً في واقعة حرق الدار، ان المغيرة ضرب فاطمة بالسوط. وجاء في «كتاب الملل والنحل للشهرستاني» عن النظام ان عمر ضرب بطن فاطمة حتي القت المحسن من بطنها. ثم ان تاريخ ويوم وفاتها مجهول، وفيه اختلاف بين المسلمين، فلماذا كل ذلك؟ 3- كما ان موضع قبرها مجهول أيضاً، رغم ان قبور سائر اولاد النبي معلومة.

ص: 182

4- نقل كتاب تاريخ المدينة المنوّرة لابن شبّة، عن محمد بن علي بن عمر انه كان يقول: قبر فاطمة بنت رسول الله في البقيع، وكذلك روي عن غير واحد كما انه روي ابن شبّة عن جعفر بن محمد عن ابيه قال دَفَنَ عليٌ فاطمة ليلاً في منزلها الذي دخل في المسجد. فقبرها عند باب المسجد وعن عبد العزيز بن عمران انها دفنت ليلاً ولا يعلم بها كثير من الناس. وحتي ان ابا بكر وعمر لم يحضرا تشييع جنازتها والصلاة عليها، ولا يعلمان حتي موضع قبرها. وكانت فاطمة سيدة نساء اهل الجنّة غاضبة عليهما. وصادر ابو بكر كل اموالها. وحرمها من ميراث أبيها، وأخذ منها فدك التي كان ابوها قد نحلها اياها، وقطع عنها حتي سهم ذوي القربي الذي جعله الله لها في القرآن من الخمس واحرقوا دارها. في حين لم يكن هناك في عهد رسول الله أي تنافر بين فاطمة وابي بكر سوي في السنة الاخيرة التي أوصي فيها رسول الله الامة في موسم الحج وفي غدير خم بالعترة وذوي القربي، وأوجب التمسّك بالقرآن وبالعترة الهادية من بعده، واعتبر التمسّك بهما سبيلا لصيانة الامة من الضلال، وعندما شطأة علي أبي ب انتزع الرئاسة بصعوبة وبعد تناحر مع الانصار ومعارضة من قبل عليّ واصحابه، فكان موقف فاطمة (باعتبارها سيّدة نساء اهل الجنّة) المؤيد لامامة وخلافة علي (1) ، شديد الوطأة علي ابي بكر وعمر.

ص: 183


1- 195. ذكر البخاري في باب رجم الحبلي ان عمر صرّح بمخالفة علي لخلافة ابي بكر. وجاء في تاريخ الطبري ان اصحاب علي اجتمعوا في دار علي، وكره الانصار خلافة ابي بكر (تاريخ الطبري).

ولا يُستبعد ان يكون سخط ابي بكر وعمر من مخالفة فاطمة بصفتها سيدة نساء اهل الجنّة، لرئاستهما هو السبب وراء الاستيلاء علي جميع اموالها وحرمانها من سهم ذوي القربي في خمس خيبر وغيره، وقد أدّي هذا الاجراء وما نجم عنه من حرمانها من ذلك الحق الي ان تعيش فاطمة وعلي والحسنين من اهل بيت النبي (والعترة الهادية وذوي القربي الذين أوجب الله مودّتهم) في غاية الفقر والعسر، وكانت الامور تضيق عليهم يوماً بعد آخر، ودفع فاطمة الي محاكمة ابي بكر في المسجد، حيث حاكمته حول ثلاثة (1) قضايا هي: 1- حرمانها من سهم ذي القربي في الخمس، حيث حرمها ابو

ص: 184


1- 196. جاء في سنن ابي داوود، ج 8، باب الخمس: ابو بكر لم يكن يعطي قربي رسول الله ما كان النبي يعطيهم - كتاب تاريخ المدينة لابن شبّة، باب فضل بن هاشم - البخاري - باب غزوة خيبر: فاطمة بنت النبي ارسلت الي ابي بكر 1- تسأله ميراثها من رسول الله. 2- وفدك. 3- وما بقي من خمس خيبر. فقال ابو بكر ان رسول الله قال: لا نورث ما تركناه صدقة... فابي ابو بكر ان يدفع الي فاطمة منها شيئاً فوجدت فاطمة علي ابي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتي توفيت وعاشت بعد النبي ستّة اشهر فلما توفيت دفنهازوجها علي ولم يؤذن بها ابا بكر وصلي عليها علي. ونقل مسلم هذا الحديث في كتابه، في كتاب الجهاد، ومحمد بن سعد في كتاب الطبقات، وآخرون غيرهم، وكلهم نقلوا هذا الحديث متواتراً.

بكر من سهم ذي القربي في خمس خيبر وغيره خلافاً لصريح القرآن. 2- قضية فدك التي نحلها رسول الله لفاطمة سيّدة نساء اهل الجنّة، وكانت فدك في عهد رسول الله بيد فاطمة، وكانت تنفق من المال الذي يأتيها من فدك. وقد اعاد بعض الحكام الامويين مثل عمر بن عبد العزيز، وبعض الحكام العباسيين مثل المأمون، فدك الي ذرية فاطمة. 3- حول ارث رسول الله من اراضي بني النضير التي كان النبي في حياته ينفق من واردها ولكن ابا بكر اخذ من فاطمة كل هذه الاراضي التي كانت ارثاً من رسول الله، واخذ منها فدك التي كانت نحلة من ابيها لها، وحتي انه حرمها من سهمها في خمس ذي القربي. لم يقدّم ابو بكر اية اجابة حول السبب الذي دعاه الي حرمان فاطمة من سهم خمسها (1) في بيت المال. واجاب فقط عن السؤال الثالث، اراضي بني النضير التي كانت للنبي، فقال ابو بكر: ان النبي لا

ص: 185


1- 197. عن جبير بن مطعم قال: لما قسم رسول الله سهم ذي القربي من خيبر بين بني هاشم وبني المطلب، اتيته انا وعثمان بن عفان فقلنا: يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، ارأيت اخواننا من بني عبد المطلب اعطيتهم ومنعتنا وانما نحن وهم منك بمنزلة واحدة. فقال النبي: انهم لم يفارقوني في جاهلية ولا في الاسلام وانما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، وشبك النبي بين اصابعه. تاريخ المدينة لابن شبّة، باب ذكر فضل بني هاشم; وكتاب الاموال، ابو عبيد، باب الخمس. وكتب اخري.

يورث (1) ولكن فاطمة (التي رأت انه يكذب) ردّت عليه بالقول: أفعلي عمد تركتم كتاب الله اذ يقول: (فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا - يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ) (2) . واذ يقول: (وَ وَرِثَ سُلَيْمَ-نُ دَاوُودَ) (3) . ونقل ابن سعد في الطبقات الكبري: فقال علي: ورث سليمان داود، وقال زكريا: يرثني ويرث من آل يعقوب (4) . اي ان فاطمة قالت بأن رسول الله لا يقول شيئاً يتعارض مع القرآن. فها هو القرآن يقول بأن الانبياء يرثون، وانك يا ابا بكر بشهادة آيات القرآن تكذب علي الرسول حين تقول بان رسول الله قال: نحن الانبياء لا نورث، ورسول الله لم يقل هذا قط. ولم يرد ابو بكر علي كلام علي وفاطمة، ولم يعد لفاطمة اموالها، وحرمها من سهمها من الخمس. وبقيت فاطمة ساخطة علي ابي بكر

ص: 186


1- 198. قسم عمر اراضي بني النضير التي كانت من ارث النبي، بين ازواج النبي، حيث نقل البخاري ما يلي: نقل عبد الله بن عمر ان النبي عامل خيبر بشرط ما يخرج منها من ثمر زرع فكان يعطي ازواجه مأة وسق شعير. فقسم عمر خيبر، فخيّر ازواج النبي ان يقطع لهن من الماء والارض او يمض لهن، فمنهنّ من اختار الارض، ومنهن من اختار الوسق. وكانت عائشة قد اختارت الارض (ج 3، ص 68). لكن عائشة وضعت يدها علي بيت النبي بتمامه واستحوذت حتي علي سهم فاطمة ولم تعط منه شيئاً لورثة فاطمة ولم تأذن بدفن الحسن هناك.
2- 199. سورة مريم، الآيتان 5 - 6.
3- 200. سورة النمل، الآية 16.
4- 201. الطبقات الكبري، ابن سعد، ج 2، ص 315.

وعمر ولم تكلّمهما الي ان توفيت (1) وكانت تدعو عليهما في صلاتها. وقد كتب اتباع الأئمة الاثني عشر من العترة الهادية ومدرسة أهل البيت، وكذلك نقل بعض اتباع ابي بكر وعمر من امثال الطبري وابن قتيبة الدينوري وغيره ان ابا بكر بعد هذه الحادثة امر بالهجوم علي دار علي، واحراق دار علي (هارون الامة) وفاطمة (سيّدة نساء أهل الجنّة من العترة الهادية)، وبعد ان هجم عمر بأمر ابي بكر علي دار علي (وفاطمة سيدا اهل الجنّة) واحرقها (2) ، وكسروا الباب، اقتادوا علياً مغلول اليدين الي ابي بكر.

ص: 187


1- 202. البخاري في باب الخمس; وتاريخ الطبري في حوادث السنة الحادية عشرة.
2- 203. جاء في تاريخ الطبري نقلاً عن زياد بن كليب قال: ذهب عمر بن الخطاب الي دار علي وكان فيها طلحة والزبير وجماعة من المهاجرين وقال: والله لأحرقن عليكم او لتخرجن. - العقد الفريد، ج 2، ص 250; تاريخ ابي الفداء، ج 1، ص 156. قال ابن عبد الله: فاما علي وعباس فقعدا في بيت فاطمة وقال ابو بكر لعمر بن الخطاب: ان ابيا فقاتلهما، فاقبل بقبس من نار علي ان يضرم عليهما، فلقيته فاطمة فقالت: يا ابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا؟ قال نعم. كتاب الجمل: انفذ عمر بن الخطاب قنفذاً وقال له: اخرجهم من البيت فان خرجوا والا فاجمع الحطب علي بابه واعلمهم انهم ان لم يخرجوا للبيعة اضرمت البيت عليهم ناراً. ثم قام بنفسه في جماعة منهم المغيرة بن شعبة الثقفي وسالم مولي ابن حذيفة حتي صاروا الي باب علي فنادي: يا فاطمة بنت رسول الله اخرجي من اعتصم ببيتك ليبايع... كتاب الامامة والسياسة تحت عنوان - كيف كان بيعة علي بن ابي طالب، قال: والذي نفس عمر بيده لتخرجن او لاحرقنّها علي من فيها. فقيل له يا ابا حفص فيها فاطمة، قال: وإن. وكتاب انساب الاشراف للبلاذري; وكتاب الملل والنحل للشهرستاني، فصل النظام.

البخاري - عن عمر بن الخطاب:... انما كانت بيعة ابي بكر فلتة وتمت الا وانها قد كانت كذلك... انه قد كان من خبرنا حين توفي رسول الله صلي الله عليه و سلم ان الانصارخالفوناواجتمعوابأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما... (1) . تاريخ الطبري نقلاً عن زياد بن كليب قال: ذهب عمر بن الخطاب الي دار علي وقال: «والله لأحرقن عليكم او لتخرجن». جاء في كتاب البدء والتاريخ: ولدت فاطمة محسناً وهو الذي يزعم انها اسقطت من ضربة عمر وفي كتاب الفصول لابن الصباغ ذكر ان في اولاد علي بن أبي طالب محسناً الذي كان ساقطاً.

ص: 188


1- 204. البخاري، المجلّد الثامن، الصفحة 26 - كتاب الحدود، باب حدّ رجم الحبلي من الزنا.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.