مسألة التكتف في الصلاة

اشارة

مولف:مجمع العالمي لاهل البيت

تحرير محل النزاع

من جملة ما وقع الخلاف فيه بين مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وبعض المذاهب الاُخري مسألة التكتّف في الصلاة، وقد تذكر بعناوين اُخري، كالتكفير والقبض، وكلها تشير الي معني واحد، وهو: وضع المصلّي يده اليمني علي اليد اليسري، فوق السرّة أو تحتها في حال الصلاة. ولقد أجمع المسلمون بشتي مذاهبهم علي عدم وجوب التكتف في الصلاة ثم دار الخلاف فيه بين المذاهب _ بعد نفي الوجوب _ علي عدة آراء هي: 1 _ الاستحباب مطلقاً، في الصلاة الواجبة والمستحبة; وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة، وذكر النووي أن أبا هريرة وعائشة وآخرين من الصحابة وعدداً من التابعين مثل: سعيد بن جبير والنخعي وأبو مجلد، وعدداً من الفقهاء مثل: سفيان وإسحاق وأبو ثور وداود وجمهور العلماء علي هذا القول [1] . 2 _ الجواز في الصلاة المستحبة، والكراهة في الصلاة الواجبة. روي هذا الرأي ابن رشد القرطبي عن إمامه مالك [2] وذكر النووي: أن عبدالحكم روي عن مالك الوضع، فيما روي ابن القاسم عنه الإرسال، وهو الأشهر [3] ، ونقل السيد مرتضي عن مالك والليث بن سعد أنهما يريان القبض لأجل طول القيام في النافلة [4] . 3 _ التخيير بين الوضع والإرسال، رواه النووي عن الأوزاعي [5] . 4 _ الحرمة والمبطلية للصلاة وهو رأي الإمامية المشهور في المسألة، وادعي السيد المرتضي الاجماع عليه [6] ، ونقل النووي في المجموع أن عبدالله بن الزبير والحسن البصري والنخعي وابن سيرين كانوا يرون الإرسال ويمنعون التكتف [7] . والآراء الثلاثة الاُولي يمكننا أن نعتبرها وجوهاً للجواز بالمعني الأعم من الكراهة والاستحباب. فتكون مسألتنا دائرة بين قولين أساسيين هما: الجواز والحرمة، فإذا انتفت الحرمة وثبت

الجواز أمكننا الانتقال بعد ذلك الي البحث في وجوه الجواز وما يتفرع عليها من القول بالكراهة والاستحباب والتخيير، وإذا انتفي الجواز وثبتت الحرمة لم يبق وجه للقول بالاستحباب والتخيير وانتفت الحاجة الي البحث فيهما. وحينئذ، فالمفتاح الأساس للبحث في هذه المسألة هو السؤال التالي: ماهو الأساس في كون الشيء في العبادة جائزاً أو حراماً؟ وهل التكتف في الصلاة ينطوي علي سبب للتحريم أم لا؟

التكتف في الصلاة بدعة أم سنة

لقد اتفق الفقهاء من مختلف المذاهب الإسلامية علي أن العبادات توقيفية لا يتم إثبات شيء منها إلاّ بدليل من الكتاب والسُنّة، فإذا تم الدليل القرآني أو النبوي علي جزئية جزء في عبادة من العبادات فهو، وإلاّ كان إدخال ذلك الجزء في العبادة وإتيانه بقصد التقرب علي أنه جزء حراماً قطعياً عند جميع فقهاء المسلمين، لصدق البدعة عليه، وكونه حينئذ من الافتاء بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالي. والبحث هنا يدور بين طرفين: أحدهما ينفي وجود دليل شرعي علي التكتف، ويثبت بذلك كونه بدعة وتشريع محرّم، وآخر يحاول أن يثبت وجود دليل شرعي عليه، بمعني أن القائل بالحرمة قائل بكون التكتف بدعة وتشريع محرّم، والقائل بجوازه أو استحبابه قائل بكونه سُنّة نبوية. وحينئذ، ففي مناقشتنا لهذه المسألة لابد وأن نستعرض أدلة القائلين بالجواز والاستحباب، ثم ننظر هل أنّها أدلة حقيقية تعود الي الكتاب والسُنّة أم لا؟!

ادلة القائلين بمشروعية التكتف في الصلاة

اشاره

استدلّ القائلون بمشروعية التكتف واستحبابه في الصلاة بعدّة روايات، وببعض الوجوه الاستحسانية، كقول النووي: «قال أصحابنا: ولأن وضع اليد علي اليد أسلم له من العبث، وأحسن في التواضع والتضرّع» [8] . ولابد من إلقاء نظرة علي ما استدلوا به من تلك الروايات وهذه الوجوه بالنحو التالي: 1 _ إن أهم ما استدلوا به من الروايات ثلاث روايات هي: حديث سهل بن سعد المروي في صحيح البخاري، وحديث وائل ابن حجر المروي في صحيح مسلم والذي أخرجه البيهقي في ثلاثة أسانيد، وحديث عبدالله بن مسعود المروي في سنن البيهقي. وفيما يلي نصّ كل حديث منها مع ما أورد عليه من الملاحظات النقدية:

حديث سهل بن سعد

روي البخاري عن ابن حازم، عن سهل بن سعد، قال: كان الناس يُؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمني علي ذراعه اليسري في الصلاة، قال أبو حازم: لا أعلمه إلاّ يَنمي ذلك الي النبي (صلي الله عليه وآله) [9] . قال إسماعيل: [10] «يُنمي ذلك» ولم يقل «يَنمي». والكلام في دلالة هذا الحديث علي المطلوب، فالراوي يقول في أول الحديث: كان الناس يؤمرون، تُري من هو الآمر؟ النبي (صلي الله عليه وآله) أم الصحابة؟ يجيب ابن حجر علي هذا السؤال بقوله: «إن قول الصحابي كنا نؤمر بكذا يصرف بظاهره الي من له الأمر وهو النبي (صلي الله عليه وآله) لأن الصحابي في مقام تعريف الشرع فيحمل علي من صدر عنه الشرع، ومثله قول عائشة: كنا نؤمر بقضاء الصوم، فإنه محمول علي أن الآمر بذلك هو النبي (صلي الله عليه وآله)» [11] ، وهذا هو رأي جمهور علمائهم كما نصّ عليه السيوطي في تدريب الراوي [12] . وفي هذا التفسير مجازفة لا تخفي علي اللبيب،

خاصة عندما يجري تطبيقه علي كل الحالات من كل الصحابة، فكيف يتأتي لنا إثبات أن قول الصحابي: «كنا نؤمر بكذا» يدل علي أن النبي هو الآمر بذلك؟ فهذا قول مجمل، وليس هناك ما يدل علي أن الصحابي قد جاء به لحكاية أوامر النبي (صلي الله عليه وآله) فلعله يقصد به حكاية افتاءات سائر الصحابة له في اُمور لم يقف عليها هذا الصحابي فيراجع سائر الصحابة فيها فيقال له: افعل كذا كفتوي منهم في الأمر. وكون الصحابي في مقام بيان الشرع وتعريفه يستلزم نسبة هذه الأوامر الي النبي (صلي الله عليه وآله) مباشرة فإن الصحابي غرضه بيان الشرع ببيان الأوامر النبوية المباشرة وأوامر الصحابة الناشئة عن فهمهم لسُنّة النبي (صلي الله عليه وآله) أو مروياتهم عنه، وقول الصحابي: «كنّا نؤمر بكذا» أظهر دلالة في حكاية أوامر الصحابة من حكاية أوامر النبي (صلي الله عليه وآله) لأن الصحابي يفتخر ويشعر بشرف النسبة الي الرسول حينما يصرح بأوامر النبي (صلي الله عليه وآله) التي وجهها اليه، فلو كان يريد حكاية أوامر النبي (صلي الله عليه وآله) فمن الأفضل بالنسبة اليه أن يصرّح بذلك ولا يأتي بكلام مجمل، وردّ السيوطي في تدريب الراوي علي من تساءل: لِمَ لم يقل الصحابي في هذه الموارد قال رسول الله (صلي الله عليه وآله)؟ بأنهم _ أي الصحابة _ «تركوا الجزم بذلك تورعاً واحتياطاً» [13] . وردّه هذا ينفع السائل ولا ينفع السيوطي نفسه، فإن الصحابي في هذه الموارد إنّما تورع عن نقل النصّ ولم يتورّع عن الجزم بالحكم، فإذا كان جازماً بأن هذا الحكم قد قاله الرسول (صلي الله عليه وآله) كان بإمكانه أن يقول: أمرنا النبي (صلي الله عليه وآله) بكذا

ولا يذكر نص قول النبي (صلي الله عليه وآله)، وكم من حديث في الكتب الستة جاء بهذه الصياغة، فإعراض الصحابي عن ذكر النبي (صلي الله عليه وآله) في هذه الأوامر يدل علي وجود نكتة دفعته لذلك، وهو يشهد لصدورها عن غير النبي أكثر مما يشهد لصدورها عنه (صلي الله عليه وآله) ولا أقل من الاجمال في ذلك، ومع ثبوت هذا الاجمال لا يجوز لنا نسبة هذه الأوامر الي الرسول (صلي الله عليه وآله)، والنتيجة الفقهية المترتبة علي ذلك أن أحاديث الأوامر لا يصح الاحتجاج بها كأدلة برأسها، وإنّما يصح الاستشهاد والاستئناس بها في تأييد أدلّة اُخري. هذا من ناحية عامة، ومن ناحية اُخري خاصة بهذا الحديث نجد فيه شاهداً اضافياً يشهد لعدم صدور هذا الأمر عن النبي (صلي الله عليه وآله) وهو قول أبي حازم في ذيل ذلك الحديث: لا أعلمه إلاّ ينمي ذلك الي النبي. فإن كلام أبي حازم هذا يفيد أن حديث سهل بن سعد في نفسه لا يثبت كون الأمر المذكور فيه صادراً عن النبي (صلي الله عليه وآله)، فقد يكون صادراً عنه (صلي الله عليه وآله) وقد يكون صادراً عن غيره، ولكي يقطع هذا الترديد احتاج أبو حازم الي هذا الذيل ليبين قناعته الشخصية بأن غرض سهل بن سعد من هذا الحديث نسبة الأمر المذكور فيه الي النبي (صلي الله عليه وآله)، ويغلق احتمال صدوره عن غيره. وهذا يؤكد أن الأصل في أحاديث الأوامر انها مجملة، وان نسبة هذه الأوامر الي النبي تحتاج الي دليل، وأبو حازم لم يبين دليله فيما ذهب اليه، فكلامه حجة علي نفسه، ولا يصح أن يكون حجة لغيره في اثبات ذلك، فلا يصح الاحتجاج بحديث سهل

بن سعد في هذه المسألة.

حديث وائل بن حجر

وقد روي هذا الحديث بصور متعددة: روي مسلم، عن وائل بن حجر: أنّه رأي النبي رفع يديه، حين دخل في الصلاة كبّر، ثم التحف بثوبه، ثمّ وضع يده اليمني علي اليسري، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما، ثم كبّر فركع [14] .... وهذا الحديث يحكي سنة فعلية للرسول (صلي الله عليه وآله) والسُنّة الفعلية مجملة لا يتميز فيها الوجوب عن الاستحباب والإباحة، ولا يتميز فيها الاختيار عن الاضطرار. وفي الحديث شواهد تفيد أن عمل النبي (صلي الله عليه وآله) هذا ربّما كان لأجل غرض آخر غير حكاية الأمر الشرعي، فالراوي يقول: ثم التحف بثوبه ثم وضع يده اليمني علي اليسري، فلعلّ عمل النبي (صلي الله عليه وآله) كان لأجل الاحتفاظ بالثوب والحيلولة دون وقوعه، ويشهد لذلك أيضاً، أن الراوي أضاف قائلاً: «فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب»، وهذا يعني أن النبي (صلي الله عليه وآله) قد اعتني بيديه عناية خاصة حتي أدخلهما في الثوب ولما أراد الركوع أخرجهما منه، فلعلّه كان في مرض، فوضع يده علي الاُخري ليحتفظ بالرداء من التزلزل، وأدخل يديه فيه تحفظاً عليهما من البرد ومع وجود مثل هذه الشواهد التي من شأنها أن تصرف فعل النبي (صلي الله عليه وآله) من حكاية حالة طبيعية الي حكاية حالة اضطرارية لا يمكننا الجزم بدلالة الحديث علي سنّة نبوية في الصلاة. ولا أقل من اجمال الحديث. وورد الحديث نفسه عن وائل بن حجر في مصادر اُخري مثل سنن البيهقي [15] بدون هذه الشواهد، ولكن وجود هذه الشواهد السلبية في متن من متون الحديث يرفع الاطمئنان عن باقي المتون، فربما سقطت من لسان

الرواة في بقية الأسانيد، هذا إضافة الي ما في أسانيد الحديث من مناقشات مذكورة في الهامش.

حديث عبدالله بن مسعود

روي البيهقي مسنداً عن ابن مسعود (رضي الله عنه) أنّه كان يصلي فوضع يده اليسري علي اليمني فرآه النبي (صلي الله عليه وآله) فوضع يده اليمني علي اليسري [16] . يلاحظ عليه: _ مضافاً الي أنّه من البعيد أن لا يعرف مثل عبدالله بن مسعود ذلك الصحابي الجليل ماهو المسنون في الصلاة مع أنّه من السابقين في الإسلام _ أنّ في السند هشيم بن بشير وهو مشهور بالتدليس [17] . هذه أهم الروايات التي أوردوها في هذه المسألة، وهناك روايات اُخري لا تخلو كذلك من مناقشة في سندها أو متنها. 2 _ أما ما استدلّوا به من وجوه استحسانية كقولهم: وضع اليد علي اليد أسلم له من العبث وأحسن في التواضع والتضرع، فإن الشريعة لو كانت تثبت بمثل هذه الأقوال لاضمحل الدين، فالإنسان إنّما وظيفته التعبد بالشريعة، ولو جعل مذاقه هو المقياس للحلال والحرام أصبحت النتيجة عكسية وهي تبعية الشريعة للإنسان بدلاً عن تبعية الإنسان للشريعة، وقد يستحسن الإنسان وجهاً وتخفي عليه وجوه اُخري أهم وأكبر، فمن أين نثبت أن الشريعة قد أمضت هذا الوجه ولم تمض وجهاً استحسانياً آخر خفي علينا وربّما كان أهم وأكبر؟ كالقول الذي ذكره القرطبي في رد التكتف: بأنه من باب الاستعانة وأنه ليس مناسباً لأفعال الصلاة بسبب ذلك [18] . نعم، الوجوه الاستحسانية تنفع في تقرير وتثبيت وتأييد ما أثبتته الشريعة بأدلة من الكتاب والسُنّة، فالاستحسان ليس دليلاً وإنّما هو يأتي في مرحلة ما بعد الدليل. 3 _ إن مسألة التكتف في الصلاة من موارد الابتلاء اليومي المتكرر، وقد عاش المسلمون مع

الرسول (صلي الله عليه وآله) أكثر من عقدين من الزمن يصلي معهم وبحضورهم كل يوم ما لا يقل عن خمس مرات، ولو كان النبي (صلي الله عليه وآله) يصلي بهذه الكيفية للزم من ذلك وضوح المسألة لدي الصحابة بما فيه الكفاية، والأمر ليس كذلك، فإن روايات التكتف محصورة بعدد من الصحابة. ويكتنفها الغموض ومبتلاة بأسانيد نوقش في أكثرها. وبأزاءها روايات معارضة أنكرت ذلك. ومع حالة كهذه كيف يتاح لنا التصديق بأن النبي (صلي الله عليه وآله) كان يقبض بيمينه علي شماله في كل صلواته أو أكثرها كما يقتضي القول باستحباب ذلك في الصلاة؟ 4 _ وردت في مقابل أحاديث القبض أخبار تنفيه حتي قال القرطبي في بداية المجتهد: «أنه قد جاءت آثار ثابتة نقلت فيها صفة صلاته عليه الصلاة والسلام ولم ينقل فيها أنه كان يضع يده اليمني علي اليسري... ورأي قوم أن الأوجب المصير الي الآثار التي ليس فيها هذه الزيادة لأنها أكثر...» [19] وعلي هذا فقه مالك الذي يُعتبر فقيه المدينة لشدة تأكيده علي عمل أهل المدينة باعتباره عملاً متلقي عن الصحابة، وهو في مظنة الإصابة. ومن جملة الروايات المعارضة للقبض في الصلاة حديث أبي حميد الساعدي الذي رواه غير واحد من المحدّثين، ونحن نذكره بنصّ البيهقي، قال: أخبرناه أبو علي عبدالله الحافظ: فقال أبو حميد الساعدي: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله (صلي الله عليه وآله)، قالوا: لِمَ، ما كنت أكثرنا له تبعاً، ولا أقدمنا له صحبة؟! قال: بلي، قالوا: فأعرض علينا، فقال: كان رسول الله (صلي الله عليه وآله) إذا قام الي الصلاة رفع يديه حتي يحاذي بهما مَنْكَبيه، ثم يكبر حتي يقرّ كل عضو منه في موضعه معتدلاً، ثم يقرأ ثم

يكبّر ويرفع يديه حتي يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه علي ركبتيه، ثم يعتدل ولا ينصب رأسه ولا يقنع، ثم يرفع رأسه، فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتي يحاذي بهما منكبيه، حتي يعود كلّ عظم منه الي موضعه معتدلاً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يهوي الي الأرض فيجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه فيثني رجله اليسري فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ثم يعود، ثم يرفع فيقول: الله اكبر، ثم يثني برجله فيقعد عليها معتدلاً حتي رجع أو يقرّ كلّ عظم موضعه معتدلاً، ثم يصنع في الركعة الاُخري مثل ذلك، ثم إذا قام من الركعتين كبّر ورفع يديه حتي يحاذي بهما منكبيه، كما فعل أو كبّر عند افتتاح الصلاة، ثمّ يصنع مثل ذلك في بقية صلاته، حتي إذا كان في السجدة التي فيها التسليم أخّر رجله اليسري وقعد متوركاً علي شقّه الأيسر، فقالوا جميعاً: صدق، هكذا كان يصلّي رسول الله (صلي الله عليه وآله) [20] . والذي يوضح صحة الاحتجاج الاُمور التالية: أ _ تصديق أكابر الصحابة [21] وبهذا العدد لأبي حميد يدلّ علي قوّة الحديث، وترجيحه علي غيره من الأدلّة. ب _ إنّه وصف الفرائض والسنن والمندوبات ولم يذكر القبض، ولم ينكروا عليه، أو يذكروا خلافه، وكانوا حريصين علي ذلك، لأنّهم لم يسلّموا له أوّل الأمر أنّه أعلمهم بصلاة رسول الله (صلي الله عليه وآله)، بل قالوا جميعاً: صدقت هكذا كان رسول الله (صلي الله عليه وآله) يصلّي، ومن البعيد جداً نسيانهم وهم عشرة، وفي مجال المذاكرة. ج _ الأصل في وضع اليدين هو الإرسال، لأنّه الطبيعي فدلّ الحديث عليه. د _ لا يقال إنّ هذا الحديث عام

وقد خصّصته أحاديث القبض، لأنّه وصف وعدّد جميع الفرائض والسنن والمندوبات وكامل هيئة الصلاة، وهو في معرض التعليم والبيان، والحذف فيه خيانة، وهذا بعيد عنه وعنهم. ه_ _ بعض من حضر من الصحابة هذه الحادثة قد روي أحاديث القبض، ولم يعترض علي أبي حميد الساعدي لعدم ذكره القبض.

التكتف من منظار أهل البيت

يتّضح مما سبق أن القول بالتكتف لم يثبت عليه أثر دال من الكتاب ولا السُنّة، وحينئذ فتوقيفية العبادات وهي أمر يسلّم فقهاء المسلمين جميعاً به تقتضي حرمة التكتف لكونه تشريعاً محرّماً. وإذا نظرنا في الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في المقام وجدناها تؤكد علي نفي التكتف عن الصلاة ونسبته الي عمل المجوس بما يعمّق حرمته، ويجعلها تشريعاً محرّماً من جهة، وتشبّه بالكفار من جهة ثانية. فقد روي محمد بن مسلم عن الصادق أو الباقر (عليهما السلام) قال: قلت له: الرجل يضع يده في الصلاة، وحكي اليمني علي اليسري؟ فقال: ذلك التكفير، لا يُفعل. وروي زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: وعليك بالإقبال علي صلاتك، ولا تكفّر، فإنّما يصنع ذلك المجوس. وروي الصدوق بإسناده عن علي (عليه السلام) أنّه قال: لا يجمع المسلم يديه في صلاته، وهو قائم بين يدي الله عزّوجل، يتشبّه بأهل الكفر، يعني المجوس [22] . هذا من الناحية السلبية، ومن الناحية الايجابية وردت روايات عن الأئمة تبيّن صفة الصلاة ولم يرد فيها ذكر للتكتف: منها: رواية حماد بن عيسي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال، قال: «ما أقبح بالرجل أن يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة؟»، قال حماد: فأصابني في نفسي الذل، فقلت: جعلت فداك فعلّمني الصلاة، فقام أبو عبدالله مستقبل

القبلة منتصباً فأرسل يديه جميعاً علي فخذيه، قد ضمّ أصابعه وقرّب بين قدميه حتي كان بينهما ثلاثة أصابع مفرجات، واستقبل بأصابع رجليه جميعاً لم يُحرفهما عن القبلة بخشوع واستكانة، فقال: الله أكبر، ثم قرأ الحمد بترتيل، وقل هو الله أحد، ثم صبر هنيئة بقدر ما تنفس وهو قائم ثم قال الله أكبر وهو قائم، ثم ركع وملأ كفّيه من ركبتيه مفرجات، وردّ ركبتيه الي خلفه حتي استوي ظهره، حتي لو صُبّ عليه قطرة ماء أو دهن لم تزل لإستواء ظهره وتردّد ركبتيه الي خلفه، ونصب عنقه، وغمض عينيه ثم سبّح ثلاثاً بترتيل وقال: سبحان ربي العظيم وبحمده، ثمّ استوي قائماً، فلمّا استمكن من القيام قال: سمع الله لمن حمده، ثمّ كبّر وهو قائم، ورفع يديه حيال وجهه، وسجد، ووضع يديه الي الأرض قبل ركبتيه فقال: سبحان ربي الأعلي وبحمده ثلاث مرات، ولم يضع شيئاً من بدنه علي شيء منه، وسجد علي ثمانية أعظم: الجبهة، والكفين، وعيني الركبتين، وأنامل إبهامي الرجلين، والأنف، فهذه السبعة فرض، ووضع الأنف علي الأرض سنّة، وهو الإرغام، ثم رفع رأسه من السجود فلما استوي جالساً قال: الله أكبر، ثم قعد علي جانبه الأيسر، ووضع ظاهر قدمه اليمني علي باطن قدمه اليسري، وقال: استغفر الله ربي وأتوب اليه، ثم كبّر وهو جالس وسجد الثانية وقال: كما قال في الاُولي ولم يستعن بشيء من بدنه علي شيء منه في ركوع ولا سجود، وكان مجنّحاً، ولم يضع ذراعيه علي الأرض، فصلّي ركعتين علي هذا. ثمّ قال: «يا حمّاد هكذا صلّ، ولا تلتفت، ولا تعبث بيدك وأصابعك، ولا تبزق عن يمينك ولا عن يسارك ولا بين يديك» [23] . تري أنّ الروايتين بصدد بيان كيفية

الصلاة المفروضة علي الناس، وليست فيهما أيّة إشارة الي القبض بأقسامه المختلفة، فلو كان سنّة لما تركه الإمام في بيانه، وهو بعمله يجسّد لنا صلاة الرسول (صلي الله عليه وآله)، لأنّه أخذها عن أبيه الإمام الباقر، وهو عن أبيه عن آبائه، عن أمير المؤمنين، عن الرسول الأعظم _ صلوات الله عليهم أجمعين _ فيكون القبض بدعة، لأنّه إدخال شيء في الشريعة وهو ليس منها. وتبعاً لهذه الأدلة أفتي فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) بحرمة التكتف في الصلاة. قال السيد المرتضي: «وحجتنا علي صحة ما ذهبنا إليه: ما تقدم ذكره من اجماع الطائفة ودليل سقوط الصلاة عن الذمة بيقين، وأيضاً فهو عمل كثير في الصلاة خارج عن الأعمال المكتوبة فيها من الركوع والسجود والقيام، والظاهر أن كل عمل في الصلاة خارج عن أعمالها المفروضة أنه لا يجوز» [24] . وقال الشيخ الطوسي: «لا يجوز أن يَضَع اليمين علي الشمال ولا الشمال علي اليمين في الصلاة لا فوق السرّة ولا تحتها.... دليلنا اجماع الفرقة، فإنهم لا يختلفون في أن ذلك يقطع الصلاة، وأيضاً أفعال الصلاة يحتاج ثبوتها الي الشرع وليس في الشرع ما يدل علي كون ذلك مشروعاً، وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك لأنه لا خلاف أن من أرسل يده فإن صلاته ماضية. واختلفوا إذا وضع إحداهما علي الاُخري، فقالت الإمامية: أن صلاته باطلة فوجب بذلك الأخذ بالجزم» [25] .

خلاصة البحث

إن أشهر الأحاديث التي اعتمدت عليها المذاهب الأربعة في القول باستحباب القبض في الصلاة إما ضعيفة سنداً، أو غير تامة من حيث الدلالة، وعلي فرض وجود أحاديث اُخري خالية عن إشكال سندي أو دلالي، فهي مما لا يسوغ العمل بها لوجود أحاديث صحيحة معارضة لها كحديث أبي

حميد الساعدي الذي مرّ ذكره، وعند التعارض يتساقط المتعارضان ونرجع الي الأصل، وهو إسبال اليدين، لأن القبض تكلّف زائد علي الطبيعة ولم يثبت عليه دليل باتّ. ومما لا اشكال فيه أن إسبال اليدين هو الأحوط، لأن القائل بالقبض لا يوجبه، وإنّما يقول باستحبابه وقد وقع الخلاف فيه، ولم يقع خلاف في جواز إسبال اليدين، فضلاً عن أن القول بعدم جواز القبض هو الثابت في فقه العترة الطاهرة التي أمر المسلمين باتّباعها دون غيرها.

پاورقي

[1] المجموع: 3/313، ط دار الفكر، بيروت.

[2] بداية المجتهد: 1/137، ط دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة العاشرة، سنة 1408 ه_.

[3] المجموع: 3/312.

[4] الانتصار: 140، ط جماعة المدرسين بقم، سنة 1415 ه_.

[5] المجموع: 3 / 312.

[6] الانتصار: 142.

[7] النووي، المجموع: 3 / 311.

[8] النووي، المجموع: 3/313.

[9] ابن حجر، فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 2/ 224، باب وضع اليمني علي اليسري _ ورواه البيهقي في السنن الكبري: 2 / 44، باب وضع اليد اليمني علي اليسري في الصلاة، ح 2326، ط دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الاُولي، سنة 1414 ه_. [

[10] المراد إسماعيل بن أبي أويس شيخ البخاري كما جزم به الحميدي. لاحظ فتح الباري: 2 / 225.

[11] فتح الباري: 224.

[12] تدريب الراوي: 119، ط دار الفكر، بيروت، سنة 1414 ه_.

[13] تدريب الراوي: 120.

[14] صحيح مسلم: 1/ 382، الباب 15 من كتاب الصلاة، باب وضع يده اليمني علي اليسري، ط مؤسسة عز الدين، بيروت، سنة 1407 ه_ وفي سند الحديث «همام» ولو كان المقصود، هو همام بن يحيي فقد قال ابن عمار فيه: كان يحيي القطّان لا يعبأ ب_ «همام» وقال عمر بن شيبة: حدثنا عفان قال: كان يحيي بن سعيد يعترض

علي همام في كثير من حديثه. وقال ابو حاتم: ثقة صدوق، في حفظه. لاحظ هدي الساري: 1 / 267.

[15] سنن البيهقي: 2/43، أورد ثلاثة أحاديث ينتهي سندها بوائل بن حجر، الأول منها يقع همام في سنده وقد مضي الكلام عليه في الهامش السابق، الثاني منها في سنده عبدالله بن جعفر، فلو كان هو ابن نجيح قال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي: متروك، وكان وكيع إذا أتي علي حديثه جزّ عليه، متّفق علي ضعفه. لاحظ / تهذيب التهذيب: 5/174، حرف العين رقم 298. والثالث منها في سنده عبدالله بن رجاء، قال عمرو بن علي الفلاس: كان كثير الخلط والتصحيف، ليس بحجّة. لاحظ هدي الساري: 1/ 437.

[16] سنن البيهقي: 2/44، ح 2327 دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الاُولي، سنة1414ه_.

[17] هدي الساري: 1/ 449.

[18] بداية المجتهد: 1/137.

[19] بداية المجتهد: 1/137.

[20] سنن البيهقي: 2/ 105، ح 2517، سنن أبي داود، باب افتتاح الصلاة، الحديث 730، سنن الترمذي 2: 105، ح 304 باب صفة الصلاة، ط دار الفكر، بيروت 1408 ه_.

[21] وهم عشرة منهم ابو هريرة، وسهل الساعدي، وأبو اُسيد الساعدي، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، ومحمد بن مسلمة. راجع: عون المعبود، شرح سنن أبي داود، باب 116، ح 730.

[22] وسائل الشيعة: 7/ 265 _ 267 باب 15 من أبواب قواطع الصلاة ح 1 و 2 و 7، ط مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).

[23] وسائل الشيعة: 5 / 459 _ 460 باب 1 من أبواب أفعال الصلاة ح 1. والباب يتضمن 19 حديثاً بياناً لكل الصلاة أو لجانب منها، ط مؤسسة آل البيت، قم.

[24] الانتصار: 142، ط جماعة المدرسين بقم المقدسة، سنة 1415 ه_.

[25] الخلاف: 1/321 _ 323، ط

جماعة المدرسين بقم المقدسة، سنة 1413 ه_، الطبعة الثالثة.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.