ثم اهتديت

اشارة

سرشناسه : سماوي، محمد تيجاني، 1936 - م.

عنوان و نام پديدآور : ثم اهتديت/ محمد السماوي التيجاني. رسالة الكوكب النوراني في ترجمةالتيجاني/ محمد الحسون ؛ تحقيق و تعليق مركز الابحاث العقائدية.

مشخصات نشر : قم: مركزالابحاث العقائدية ، 1429ق. = 1387.

مشخصات ظاهري : 765ص.

فروست : سلسلةالرحلة الي الثقلين؛ 18.

شابك : 964-8629-21-8

وضعيت فهرست نويسي : برون سپاري.

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتابنامه: ص. [745] - 760 ؛ همچنين به صورت زيرنويس.

موضوع : سماوي، محمد تيجاني، 1936 - م.

موضوع : شيعه -- دفاعيه ها و رديه ها

شناسه افزوده : حسون، محمد، 1338 -

شناسه افزوده : مركز الابحاث العقائديه (قم)

رده بندي كنگره : BP212/5 /س8ث8 1387

رده بندي ديويي : 297/212

شماره كتابشناسي ملي : 1274830

الاهداء

كتابي متواضع لا تكلف فيه، هو قصة رحلة، قصة اكتشاف جديد، ليس اكتشافا في عالم الاختراعات التقنية أو الطبيعية، ولكن في دنيا المعتقدات في خضم المدارس المذهبية والفلسفات الدينية. ولما كان الاكتشاف يعتمد أولا علي العقل السليم والفهم القويم الذي ميز الإنسان عن بقية المخلوقين. فإنني أهدي كتابي إلي كل عقل سليم، يمحص الحق فيعرفه من بين ركام الباطل، ويزن الأقوال بميزان العدل فيرجح كفة المعقول، ويقارن الكلام والأحاديث فيتبين المنطقي من المعسول، والقوي من المهزول، قال تعالي: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب). إلي كل هؤلاء أهدي كتابي هذا، راجيا منه سبحانه وتعالي أن يفتح بصيرتنا قبل بصرنا وأن يهدينا وينور قلوبنا ويرينا الحق حقا لا غبار عليه فنتبعه، ويرينا الباطل باطلا لا لبس فيه فنجتنبه، ويدخلنا في عباده الصالحين إنه سميع مجيب. محمد التيجاني السماوي [ صفحه 7]

ديباجة

الحمد لله رب العالمين، خلق الإنسان من سلالة من طين، فجعله في أحسن تقويم، وفضله علي سائر المخلوقين، وأسجد له ملائكته المقربين، وكرمه بالعقل الذي يبدل شكه باليقين، وجعل له عينين ولسانا وشفتين وهداه النجدين، وأرسل له رسلا مبشرين ومنذرين لينبهوه ويمنعوه من ضلالات إبليس اللعين، وعهد إليه أن لا يعبد الشيطان لأنه له عدو مبين، وأن يعبد الله وحده ويتبع صراطه المستقيم، علي بصيرة وإيمان وعلم يقين، وأن لا يقلد في عقيدته الأصحاب والأقربين والآباء الأولين، الذين أتبعوه من قبلهم بلا أدلة واضحة ولا براهين، ومن أحسن قولا ممن دعا إلي الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين. وصلوات ربي وسلامه وتحياته وبركاته علي المبعوث رحمة للعالمين، ناصر المظلومين والمستضعفين، ومنقذ البشرية من ضلالة

الجاهلين، إلي هداية المؤمنين الصالحين، سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله نبي المسلمين، وقائد الغر المحجلين، وعلي آله الطيبين الطاهرين الذين اصطفاهم الله علي سائر المخلوقين، ليكونوا قدوة المؤمنين، ومنار العارفين وعلامة الصادقين المخلصين وأوجب مودتهم في القرآن [ صفحه 8] الكريم، بعد أن أذهب عنهم الرجس، وجعلهم من المعصومين ووعد من ركب سفينتهم بالنجاة ومن تخلف عنهم كان من الهالكين، وعلي أصحابه الكرام الميامين، الذين نصروه وعزروه ووقروه وباعوا أنفسهم لنصرة الدين، وعرفوا الحق فبايعوه بيقين، وثبتوا بعده علي المنهاج القويم ولم يغيروا ولم يبدلوا وكانوا من الشاكرين، فجزاهم الله خيرا عن الإسلام والمسلمين. وعلي التابعين لهم والسائرين علي هديهم إلي يوم الدين. ربي تقبل مني فأنت السميع العليم، واشرح لي صدري فأنت الهادي إلي حق اليقين، واحلل عقدة من لساني فأنت واهب الحكمة لمن تشاء من عبادك المؤمنين، رب زدني علما وألحقني بالصالحين. [ صفحه 9]

لمحة وجيزة عن حياتي

لا زلت أذكر كيف أخذني والدي معه إلي مسجد الحي الذي تقام فيه صلاة التراويح في شهر رمضان، وكان عمري عشر سنوات، وقدمني إلي المصلين الذين لم يخفوا إعجابهم بي. كنت أعلم منذ أيام إن المؤدب [1] رتب الأمور لكي أشفع [2] بالجماعة ليلتين أو ثلاثا، وجرت العادة أن أصلي خلف الجماعة مع مجموعة من أطفال الحي وأنتظر وصول الإمام إلي النصف التالي من القرآن الكريم أي إلي سورة مريم، وبما أن والدي حرص علي تعليمنا القرآن في الكتاب [3] وفي البيت خلال حصص ليلية يقوم بها إمام الجامع وهو من أقاربنا مكفوف البصر يحفظ القرآن الكريم، وبما أني حفظت النصف في تلك السن المبكرة أراد المؤدب أن يظهر فضله واجتهاده من خلالي فعلمني مواقع الركوع

من التلاوة وراجعني عدة مرات ليتأكد من فهمي... بعد نجاحي في الامتحان وإنهاء الصلاة والتلاوة بالجماعة علي أحسن ما كان يتوقع والدي والمؤدب، انهال علي الجميع مقبلين ومعجبين [ صفحه 10] وشاكرين المعلم الذي علمني ومهنئين والدي والكل يحمد الله علي نعمة الإسلام " وبركات الشيخ ". وعشت أياما سوف لن تمحي من مخيلتي لما لقيته بعد ذلك الحدث من إعجاب وشهرة تعدت حارتنا إلي كل المدينة وطبعت تلك الليالي الرمضانية في حياتي طابعا دينيا بقيت آثاره حتي اليوم، ذلك أني كلما اختلطت علي السبل أحسست بقوة خارقة تشدني وترجعني إلي الجادة، وكلما شعرت بضعف الشخصية وتفاهة الحياة رفعتني تلك الذكريات إلي أعلي الدرجات الروحية، وأوقدت في ضميري شعلة الإيمان لتحمل المسؤولية. وكأن تلك المسؤولية التي حملنيها والدي أو بالأحري مؤدبي لإمامة الجماعة في تلك السن المبكرة جعلتني أشعر دائما بأنني مقصر عن أن أكون في المستوي الذي أطمح إليه أو علي الأقل المستوي الذي طلب مني. لذلك قضيت طفولتي وشبابي في استقامة نسبية لا تخلو من لهو وعبث يسودهما في معظم الأحيان البراءة وحب الاطلاع والتقليد، تحوطني العناية الإلهية لأكون متميزا من بين أخوتي بالرصانة والهدوء وعدم الانزلاق في المعاصي والموبقات. ولا يفوتني أن أذكر أن والدتي رحمها الله كان لها الأثر الكبير في حياتي، فقد فتحت عيني وهي تعلمني قصار السور من القرآن الكريم كما تعلمني الصلاة والطهارة وقد اعتنت بي عناية فائقة لأني ابنها الأول، وهي تري إلي جانبها في نفس البيت ضرتها التي سبقتها منذ سنوات عديدة ولها من الأولاد من يقارب سنها، فكانت تتسلي بتربيتي وتعليمي وكأنها تتباري في سباق مع ضرتها وأبناء زوجها. كما أن اسم التيجاني الذي سمتني

به والدتي له ميزة خاصة لدي عائلة السماوي كلها التي اعتنقت الطريقة التيجانية وتبنتها منذ أن زار أحد أبناء الشيخ سيدي أحمد التيجاني مدينة قفصة قادما من الجزائر ونزل في دار السماوي فاعتنق كثير من أهالي المدينة خصوصا العائلات العلمية والثرية هذه الطريقة الصوفية [ صفحه 11] وروجوا لها، ومن أجل اسمي أصبحت محبوبا في دار السماوي التي يسكنها أكثر من عشرين عائلة وكذلك خارجها ممن لهم صلة بالطريقة التيجانية، لذلك كان كثير من شيوخ المصلين الذين حضروا تلك الليالي الرمضانية التي ذكرتها يقبلون رأسي ويدي مهنئين والدي قائلين له: " هذا فيض من بركات سيدنا الشيخ أحمد التيجاني " والجدير بالذكر أن الطريقة التيجانية انتشرت بكثرة في المغرب والجزائر وتونس وليبيا والسودان ومصر وأن معتنقي هذه الطريقة متعصبون نوعا ما، فهم لا يزورون مقامات الأولياء الآخرين ويعتقدون بأن كل الأولياء قد أخذوا عن بعضهم بالتسلسل ما عدا الشيخ أحمد التيجاني فقد أخذ علمه مباشرة عن رسول الله صلي الله عليه وآله رغم تأخره عن زمن النبوة بثلاثة عشر قرنا ويروون بأن الشيخ أحمد التيجاني كان يحدث بأن رسول الله صلي الله عليه وآله جاءه يقظة لا مناما، كما يقولون بأن الصلاة الكاملة التي ألفها شيخهم أفضل من أربعين ختمة من القرآن الكريم. وحتي لا نخرج عن الاختصار نقف عند هذا الحد من التعريف بالتيجانية ولنا عودة إليهم إن شاء الله في موضع آخر من هذا الكتاب. ونشأت وترعرعت علي هذا الاعتقاد كغيري من شبان البلد فكلنا مسلمون بحمد الله من أهل السنة والجماعة وكلنا علي مذهب الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة غير أننا منقسمون في الطرق الصوفية التي كثرت في شمال إفريقيا

ففي مدينة قفصة وحدها هناك التيجانية، والقادرية، والرحمانية، والسلامية، والعيساوية ولكل من هذه الطرق أنصار وأتباع يحفظون قصائدها وأذكارها وأورادها التي تقام في الحفلات والسهرات بمناسبة عقد القران أو الختان أو النجاح أو النذور ورغم بعض السلبيات فقد لعبت هذه الطرق دورا كبيرا في الحفاظ علي الشعائر الدينية واحترام الأولياء والصالحين. [ صفحه 13]

الحج إلي بيت الله الحرام

كان عمري ثمانية عشر عاما عندما وافقت الجمعية القومية للكشافة التونسية علي انتدابي للمشاركة في المؤتمر الأول للكشافة العربية والإسلامية الذي أقيم في مكة المكرمة ضمن مجموعة تتكون من ستة أشخاص من كامل الجمهورية التونسية، ووجدت نفسي أصغر أعضاء البعثة سنا وأقلهم ثقافة إذ كان اثنان منهما من مدراء المدارس والثالث أستاذا بالعاصمة والرابع يعمل في الصحافة والخامس لم أعرف وظيفته غير أني علمت أنه أحد أقرباء وزير التربية القومية في ذلك العهد. كانت رحلتنا بطريق غير مباشر، فقد نزلنا في أثينا عاصمة اليونان حيث أمضينا فيها ثلاثة أيام، ومنها إلي عمان عاصمة الأردن التي مكثنا فيها أربعة أيام وصلنا بعدها إلي السعودية حيث شاركنا في المؤتمر وأدينا مناسك الحج والعمرة. كان شعوري وأنا أدخل بيت الله الحرام لأول مرة لا يتصور وكان قلبي كأنه يحطم الأضلاع - التي تحوطه - بدقاته العنيفة يريد الخروج ليري بعينه هذا البيت العتيق الذي طالما كان يحلم به، وفاضت الدموع حتي ظننت أنها لن تتوقف، وخيل إلي أن الملائكة - تحملني فوق الحجيج لأصل إلي سطح الكعبة المشرفة وألبي نداء الله من هناك " لبيك اللهم لبيك هذا عبدك جاء إليك " وقد استنتجت وأنا أسمع تلبية الحجيج أن هؤلاء قضوا أعمارهم وهم يتجهزون ويعدون العدة ويجمعون الأموال للمجئ أما أنا فكان مجيئي

مفاجئا علي غير استعداد مني، وأذكر أن والدي عندما رأي تذاكر الطائرة وتيقن من سفري إلي [ صفحه 14] الحج بكي وهو يقبلني مودعا قائلا: " هنيئا لك يا بني لقد أراد الله لك أن تحج قبلي وأنت في هذه السن، فأنت ولد سيدي أحمد التيجاني أدع الله لي في بيته أن يتوب علي ويرزقني حج بيته الحرام ". لذلك ظننت أن الله هو الذي ناداني وأحاطني بعنايته وأوصلني إلي ذلك المقام الذي تموت الأنفس دون الوصول إليه حسرة ورجاء، فمن أحق بالتلبية مني فكنت أبالغ في الطواف والصلاة والسعي وحتي في شرب ماء زمزم، والصعود إلي الجبال حيث تتسابق الوفود للوصول إلي غار حراء فوق جبل النور فلم يسبقني إليه غير شاب سوداني فكنت " ثاني اثنين " وتمرغت فيه وكأني أتمرغ في حجر الرسول الأكرم وأشم أنفاسه، يا لها من صور وذكريات تركت في نفسي أثرا عميقا لن يمحي أبدا!!. عناية ربانية أخري جعلت كل من يراني من الوفود يجبني ويطلب عنواني للمراسلة، وقد أحبني رفاقي الذين احتقروني في أول لقاء جمعنا في تونس العاصمة لترتيب السفر وأحسست ذلك منهم وصبرت لعلمي مسبقا بأن أهل الشمال يحتقرون أهل الجنوب ويعتبرونهم متخلفين، وسرعان ما تغيرت نظرتهم خلال السفر والمؤتمر والحج، وقد بيضت وجوههم أمام الوفود بما كنت أحفظه من أشعار وقصائد وبما أحرزته من جوائز في المسابقات التي أقيمت بالمناسبة، وقد عدت إلي بلادي ومعي أكثر من عشرين عنوانا لأصدقاء من مختلف الجنسيات. كانت إقامتنا في السعودية خمسة وعشرين يوما كنا نلتقي فيها بعلماء ونستمع إليهم في محاضراتهم، وقد تأثرت ببعض المعتقدات الوهابية التي أعجبت بها وتمنيت أن يكون المسلمون عليها، وظننت في تلك

الفترة أن الله اصطفاهم من بين العباد لحراسة بيته الحرام فهم أطهر وأعلم خلق الله علي وجه الأرض وقد أغناهم الله بالبترول ليتمكنوا من خدمة الحجيج ضيوف الرحمن والسهر علي سلامتهم. وعند رجوعي من الحج إلي بلادي كنت مرتديا اللباس السعودي بالعقال وفوجئت بالاستقبال الذي أعده لي والدي، فكانت جموع من الناس محتشدة في [ صفحه 15] المحطة يتقدمهم شيخ الطريقة العيساوية وشيخ التيجانية وشيخ القادرية بالطبول والبنادير [4] . وطافوا بي شوارع المدينة مهللين ومكبرين وكلما مررنا بمسجد أوقفوني علي عتبته بعض الوقت، والناس من حولي يتسابقون لتقبيلي وخصوصا الشيوخ المسنين كانوا يلثمونني وهم يبكون شوقا لرؤية بيت الله والوقوف علي قبر رسوله وهم لم يعتادوا روية حاج في مثل عمري كما لم يروا هذا في قفصة قبلي. وعشت أسعد أيام حياتي في ذلك الوقت وقد جاء إلي بيتنا أشراف المدينة وكبراؤها يسلمون مهنئين وداعين، وكثيرا ما كان يطلب مني قراءة الفاتحة مع الدعاء بحضرة والدي فكنت أخجل حينا وأتشجع أحيانا، وكانت والدتي في كل مرة تدخل بعد خروج الزائرين لإطلاق البخور والتعاويذ لحمايتي من شر الحاسدين، ودفع كيد الشياطين. وأقام والدي ثلاث ليال متواليات للحضرة التيجانية يذبح في كل يوم كبشا للوليمة، وكان الناس يسألونني عن كل كبيرة وصغيرة، وكانت أجوبتي كلها تنطوي علي الكثير من الإعجاب والإطراء للسعوديين وما يقومون به لنشر الإسلام ونصرة المسلمين. ولقبني سكان المدينة " بالحاج " فإذا أطلق هذا الاسم لا ينصرف إلا إلي، وأصبحت بعد ذلك معروفا أكثر، وخصوصا في الأوساط الدينية كجماعة الإخوان المسلمين، فكنت أطوف في المساجد وأنهي الناس عن تقبيل الأضرحة والتمسح بالأخشاب، وأحاول جهدي إقناعهم بأن ذلك شرك بالله، وازداد نشاطي توسعا

فكنت ألقي الدروس الدينية في المساجد يوم الجمعة قبل خطبة الإمام وأتنقل من جامع أبي يعقوب إلي الجامع الكبير، لأن صلاة الجمعة تقام فيهما في أوقات مختلفة بينما تصلي الأولي وقت الظهر تقام الثانية وقت العصر وكثيرا ما كان يحضر تلك الحلقات التي أقيمها يوم الأحد أغلب تلاميذ المعهد الثانوي الذي أدرس فيه مادة التكنولوجيا والمبادئ التقنية، وكانوا يعجبون لهذا ويزدادون حبا وتقديرا لأني [ صفحه 16] أعطيتهم من وقتي الكثير لأزيح عن أفكارهم تلك الغيوم التي لبدها بعض أساتذة الفلسفة الملحدين والماديين والشيوعيين وما أكثرهم!، فكانوا ينتظرون بفارغ الصبر موعد تلك الحلقات الدينية ومنهم من يأتي إلي البيت، فقد اشتريت بعض الكتب الدينية والتهمتها بالمطالعة حتي أكون في مستوي الإجابة عن الأسئلة المختلفة وفي تلك السنة التي حججت فيها ملكت أيضا نصف ديني، فقد رغبت والدتي رحمها الله في تزويجي قبل موتها، وهي التي ربت كل أولاد زوجها وحضرت زواجهم فكانت أمنيتها أن تراني عريسا، وقد أعطاها الله ما تتمني وأطعت أمرها في الزواج من فتاة لم أرها من قبل، وحضرت ميلاد ابني الأول والثاني، وفارقت الحياة وهي عني راضية كما سبقها والدي رحمه الله قبل عامين وقد حج بيت الله الحرام وتاب توبة نصوحا قبل وفاته بعامين. ونجحت الثورة الليبية في تلك الظروف التي يعاني فيها المسلمون والعرب من هزيمة النكبة في حربهم ضد إسرائيل وطلع علينا ذلك الشاب قائد الثورة وهو يتكلم باسم الإسلام ويصلي بالناس في المسجد وينادي بتحرير القدس، وقد استهواني كما استهوي أغلب الشباب المسلم في البلاد العربية والإسلامية، ودفعنا حب الاطلاع إلي تنظيم رحلة ثقافية إلي ليبيا وجمعنا أربعين رجلا من رجال التعليم حيث قمنا بزيارة إلي القطر

الشقيق في بداية الثورة، ورجعنا من هناك معجبين بما رأينا مستبشرين بالمستقبل الذي رجونا أن يكون في صالح الأمة العربية والإسلامية في كل المعمورة. طوال السنوات المنصرمة كانت الرسائل مع بعض الأصدقاء متواصلة والأشواق متزايدة، وقد توطدت علاقتي مع نخبة منهم ألحوا علي أن أزورهم، فأعددت العدة ورتبت الأمور للقيام برحلة طويلة تستغرق عطلة الصيف التي تدوم ثلاثة أشهر، وكان التخطيط يمر بليبيا عن طريق البر ثم إلي مصر ومنها إلي لبنان عبر البحر ثم إلي سوريا والأردن فالسعودية، وهي المقصودة لأداء العمرة وتجديد العهد مع الوهابية التي روجت لها كثيرا في أوساط الشباب الطلابي وفي المساجد التي يكثر فيها الإخوان المسلمون. وتعدت شهرتي حدود مدينتي إلي مدن أخري مجاورة، فقد يمر المسافر فيصلي الجمعة ويحضر تلك الدروس ويتحدث بها في مجتمعه، ووصل الحديث إلي [ صفحه 17] الشيخ إسماعيل الهادفي صاحب الطريقة الصوفية المعروفة بمدينة توزر عاصمة الجريد، ومسقط رأس أبي القاسم الشابي الشاعر المعروف. وهذا الشيخ له أتباع ومريدون في كامل الجمهورية التونسية وخارجها في الأوساط العمالية بفرنسا وألمانيا. وجاءتني منه دعوة لزيارته، عن طريق وكلائه في قفصة الذين كتبوا إلي رسالة طويلة يشكرونني فيها علي ما أقوم به لخدمة الإسلام والمسلمين ويدعون أن ذلك لا يقربني من الله قيد أنملة ما لم يكن عن طريق شيخ عارف، وعلي الحديث المشهور عندهم " من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان " ويقولون أيضا: " لا بد لك من شيخ يريك شخوصها وإلا فنصف العلم عندك ناقص " وبشروني بأن " صاحب الزمان " ويقصدون به الشيخ إسماعيل قد اصطفاني من بين الناس لأكون من خاصة الخاصة. وطار قلبي فرحا لهذا الخبر وبكيت تأثرا

لهذه العناية الربانية التي ما زالت ترفعني من مقام سام إلي ما هو أسمي ومن حسن إلي ما هو أحسن، لأنني اتبعت في ما مضي من حياتي سيدي الهادي الحفيان وهو شيخ متصوف يحكي عنه عدة - كرامات وخوارق وصرت من أعز أحبائه، كما صاحبت سيدي صالح بالسائح وسيدي الجيلاني وغيرهم من أهل الطرق المعاصرين وانتظرت ذلك اللقاء بفارغ الصبر، ولما دخلت بيت الشيخ كنت أتفرس الوجوه بلهفة وكان المجلس مليئا بالمريدين وفيهم مشايخ يرتدون لباسا ناصع البياض، وبعد مراسم التحية خرج علينا الشيخ إسماعيل وقام الجميع يقبلون يده باحترام فائق، وغمزني الوكيل بأن الشيخ هو ذا، فلم أبد حماسا لأنني كنت منتظرا غير الذي رأيت وقد كنت رسمت له صورة خيالية حسب الكرامات والمعجزات التي رسخها في ذهني وكيل الشيخ وأتباعه، ورأيت شيخا عاديا ليس فيه وقار ولا هيبة، وخلال المجلس - قدمني الوكيل إليه فرحب بي وأجلسني علي يمينه وقدم إلي الطعام، وبعد الأكل والشرب بدأت الحضرة، وقدمني الوكيل من جديد لأخذ العهد والورد من الشيخ، وهناني الجميع بعد ذلك معانقين ومباركين، وفهمت من خلال حديثهم بأنهم يسمعون عني الكثير، وقد دفعني هذا الاعجاب إلي أن أعترض علي بعض [ صفحه 18] أجوبة الشيخ التي كان يلقيها علي السائلين، وأعلل رأيي بالقرآن والسنة، واستاء بعض الحاضرين من هذا التطفل واعتبروه سوء أدب في حضرة الشيخ، وقد اعتادوا أن لا يتكلموا بحضرته إلا بإذنه، وأحس الشيخ بحرج الجالسين فأزاح تلك السحابة بلباقة وأعلن قائلا: " من كانت بدايته محرقة تكون نهايته مشرقة " واعتبر الحاضرون هذا وساما من حضرته وسوف يكون أكبر ضمان لنهايتي المشرقة وهنأوني بذلك، ولكن شيخ الطريقة ذكي ومدرب لم يترك

لي المجال مفتوحا لمواصلة هذا التطفل المزعج وروي لنا قصة أحد العارفين بالله عندما جلس في حلقته بعض العلماء، فقال له: قم فاغتسل، وذهب العالم واغتسل وجاء ليجلس في الحلقة فقال له ثانية: قم فاغتسل، وذهب العالم وعاود الغسل كأحسن ما يكون ظنا منه بأن الغسل الأول لم يكن علي الوجه الصحيح، وجاء ليجلس فانتهره الشيخ العارف وأمره بالاغتسال من جديد فبكي العالم وقال له: يا سيدي لقد اغتسلت من علمي ومن عملي ولم يبق عندي إلا ما يفتح الله به علي يديك. عند ذلك قال له العارف، الآن اجلس. وعرفت بأني أنا المقصود من هذه القصة كما عرف ذلك الحاضرون الذين لاموني بعد خروج الشيخ للاستراحة وأقنعوني بالسكوت ولزوم الاحترام بحضرة الشيخ صاحب الزمان لئلا تحبط أعمالي مستدلين بالآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) [5] صدق الله العظيم. وعرفت قدري وامتثلت للأوامر والنصائح، وقربني الشيخ منه أكثر، وأقمت عنده ثلاثة أيام كنت أسأل خلالها أسئلة عديدة بعضها للاختبار وكان الشيخ يعرف ذلك مني فيجيبني قائلا بأن للقرآن ظاهرا وباطنا إلي سبعة أبطن كما فتح لي خزانته وأطلعني علي كراسه الخاص والذي فيه سلسلة الصالحين والعارفين [ صفحه 19] مسندة ومتصلة منه إلي أبي الحسن الشاذلي مرورا بعدة أولياء مذكورين إلي أن يصل السند إلي الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه. ولا يفوتني أن أذكر هنا بأن الحلقات التي يقيمونها كانت روحية إذ يفتتحها الشيخ بقراءة ما تيسر من كتاب الله المجيد تلاوة وتجويدا ثم بعد فراغه يبدأ بمطلع القصيدة ويتبعه

المريدون الذين يحفظون المدائح والأذكار وأكثرها ذم للدنيا وترغيب في الآخرة وفيها زهد وورع بعد ذلك يعيد المريد الأول الجالس علي يمين الشيخ قراءة ما تيسر من القرآن وعندما يقول صدق الله العظيم يبدأ الشيخ مطلعا من قصيدة جديدة ويشارك الجميع في إنشادها وهكذا يتناوب الحاضرون ولو بآية واحدة يشاركون بها إلي أن يأخذ الحال الحاضرين فيتمايلون يمينا وشمالا علي رنات تلك المدائح إلي أن ينهض الشيخ وينهض معه المريدون فتكون حلقة هو قطبها ويبدؤون بذكر اسم الصدر قائلين آه. آه. آه. آه. والشيخ يدور وسطهم متوجها في كل مرة إلي واحد منهم حتي يحمي الوطيس وتصبح الحركات والشطحات شبيهة بدق الطبول ويقفز البعض في حركات جنونية وترتفع الأصوات في نغمة منسقة ولكنها مزعجة إلي أن يعود الهدوء بعد عناء وتعب، بقصيدة ختامية للشيخ فيجلس الجميع بعد ما يكونوا قد قبلوا رأس الشيخ وأكتافه بالتداول، وقد شاركتهم بعض هذه الشطحات محاكيا لهم في غير قناعة مني ووجدت نفسي متناقضا مع العقيدة التي تبنيتها وهي عدم الاشتراك أي عدم التوسل بغير الله فسقطت علي الأرض جاهشا بالبكاء متحيرا مشتتا بين تيارين متناقضين، تيار الصوفية وهي أجواء روحية يعيشها الإنسان فتملأ أعماقه بشعور الرهبة والزهد والتقرب إلي الله عن طريق أوليائه الصالحين وعباده العارفين، وتيار الوهابية الذي علمني أن ذلك كله شرك بالله، والشرك لا يغفره الله. وإذا كان محمد رسول الله صلي الله عليه وآله، ولا ينفع ولا يتوسل به إليه سبحانه فيما قيمة هؤلاء الأولياء والصالحين بعده؟!. وبالرغم من المنصب الجديد الذي نصبني فيه الشيخ، إذ أصبحت وكيله في قفصة لم أكن مقتنعا كليا في داخلي وإن كنت أميل أحيانا إلي الطرق الصوفية، وأشعر دائما

أني أكن لها احتراما ومهابة من أجل أولياء الله والصالحين من عباده [ صفحه 20] ولكني أكابر وأجادل محتجا بقوله تعالي: (ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو) [6] وإذا قال لي قائل أن الله تعالي يقول: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) [7] أرد عليه بسرعة كما علمني علماء السعودية " الوسيلة هي العمل الصالح "، والمهم أنني عشت تلك الفترة مضطربا مشوش الفكر،وقد يتوافد علي في بيتي بعض المريدين فنحيي سهرات منتظمة ونقيم العمارة [8] . وبدأ الجيران يتذمرون من الأصوات المزعجة التي تبعث من حناجرنا بذكر (آه)، ولكنهم لا يجاهرون لي بذلك غير أنهم يشتكون لزوجتي عن طريق نسائهم، ولما علمت بذلك طلبت من المجموعة أن يقيموا الحلقات في أحد منازلهم، واعتذرت بأنني سوف أسافر إلي الخارج لمدة ثلاثة أشهر... وودعت الأهل والأقارب وقصدت ربي متوكلا عليه. لا أشرك به شيئا. [ صفحه 23]

الرحلة الموفقة

في مصر

لم تطل إقامتي في طرابلس عاصمة ليبيا إلا بقدر ما حصلت علي تأشيرة من السفارة المصرية للدخول إلي أرض الكنانة. وقد التقيت بعض أصدقائي هناك فأعانوني شكر الله سعيهم، وفي طريقي إلي القاهرة وهو طريق طويل يدوم ثلاثة أيام بلياليها كنت في سيارة أجرة جمعتني بأربعة مصريين عاملين في ليبيا وعائدين إلي وطنهم، وخلال السفر كنت أحدثهم وأقرأ لهم القرآن فأحبوني ودعاني كل منهم للنزول عنده، وتخيرت من بينهم من ارتاحت نفسي إليه لورعه وتقواه اسمه أحمد وأولاني من الضيافة والقبول ما هو أهل له جزاه الله، وأمضيت عشرين يوما بالقاهرة زرت خلالها الموسيقار فريد الأطرش في عمارته علي النيل فقد كنت معجبا به لما قرأته عن أخلاقه وتواضعه في مجلات

مصرية تباع عندنا في تونس، ولم يكن حظي منه سوي عشرين دقيقة لأنه كان خارجا للمطار ليسافر إلي لبنان، وزرت الشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد المجود الشهير وكنت معجبا به أشد الاعجاب، بقيت معه ثلاثة أيام كان النقاش خلالها مع أقاربه وأصدقائه في مواضيع متعددة وكانوا يعجبون لحماسي وصراحتي وكثرة اطلاعي، فإذا تحدثوا عن الفن غنيت وإذا تحدثوا عن الزهد والتصوف ذكرت لهم أني من الطريقة التيجانية والمدنية أيضا، وإذا تحدثوا عن الغرب حكيت لهم عن باريس ولندن وبلجيكا وهولندا وإيطاليا وإسبانيا التي زرتها خلال العطل الصيفية وإذا تحدثوا عن الحج فاجأتهم بأني حججت وإني ذاهب إلي [ صفحه 24] العمرة وحكيت لهم عن أماكن لا يعرفها حتي الذي حج سبع مرات كغار حراء وغار ثور ومذبح إسماعيل، وإذا تحدثوا عن العلوم والاختراعات شفيت غليلهم بالأرقام والمصطلحات وإذا تحدثوا عن السياسة أفحمتهم بما عندي من آراء قائلا: " رحم الله الناصر صلاح الدين الأيوبي الذي حرم علي نفسه التبسم فضلا عن الضحك، وعندما لامه الناس المقربون إليه وقالوا له: كان رسول الله صلي الله عليه وآله لا يري إلا باسم الثغر، أجابهم: كيف تريدون مني أن أتبسم والمسجد الأقصي يحتله أعداء الله، لا والله لن أتبسم حتي أحرره أو أهلك دون ذلك ". وكان شيوخ من الأزهر يحضرون تلك الجلسات ويعجبون لما أحفظ من أحاديث وآيات وما أملكه من حجج دامغة فكانوا يسألونني عن الجامعة التي تخرجت فيها، فأفخر بأني من خريجي جامعة الزيتونة وهي تأسست قبل الأزهر الشريف، وأضيف بأن الفاطميين الذي أسسوا الأزهر انطلقوا من مدينة المهدية بتونس. كذلك تعرفت في جامعة الأزهر الشريف علي العديد من العلماء الأفاضل الذين أهدوني بعض

الكتب، وكنت يوما ما في مكتب أحد المسؤولين عن شؤون الأزهر، إذ أقبل أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة المصرية ودعاه الحضور تجمع المسلمين والأقباط في أكبر الشركات المصرية للسكك الحديدية بالقاهرة، علي أثر أعمال تخريبية وقعت بعد حرب حزيران فأبي أن يذهب إلا وأنا معه، وجلست في منصة الشرف بين العالم الأزهري والأب شنودة، وطلبوا مني إلقاء كلمة في الحاضرين ففعلت بكل سهولة لما تعودته من إلقاء المحاضرات في المساجد واللجان الثقافية في بلادي. والمهم من كل ما حكيته في هذا الفصل، هو أن شعوري بدأ يكبر وركبني يبعض الغرور وظننت فعلا بأنني أصحبت عالما، كيف لا وقد شهد لي بذلك علماء الأزهر الشريف ومنهم من قال لي: يجب أن يكون مكانك هنا في الأزهر، ومما زادني فخرا واعتزازا بالنفس، أن رسول الله صلي الله عليه وآله أذن لي في الدخول لرؤية [ صفحه 25] مخلفاته، حسب ما ادعاه المسؤول عن مسجد سيدنا الحسين بالقاهرة وقد أدخلني منفردا إلي حجرة لا تفتح إلا إذا فتحها هو، وأغلق الباب خلفي وفتح الخزانة وأخرج لي قميص رسول الله صلي الله عليه وآله فقبلته وأراني بعض المخلفات الأخري، وخرجت من عنده باكيا متأثرا علي عناية الرسول بي شخصيا وخصوصا أن هذا المسؤول لم يطلب مني نقودا، بل امتنع وأخذ مني شيئا بسيطا بعد إلحاحي وهنأني مبشرا بأنني من المقبولين عند حضرة الرسول الأكرم. وربما أثر هذا الحادث في نفسي وجعلني أفكر مليا عدة ليال في ما يقوله الوهابيون من أن الرسول مات وانتهي أمره كغيره من الأموات، فلم أرتح لهذه الفكرة بل وتيقنت تفاهة هذا الاعتقاد، فإذا كان الشهيد الذي يقتل في سبيل الله ليس بميت بل هو

حي يرزق عند ربه فكيف بسيد الأولين والآخرين، وزاد هذا الشعور قوة ووضوحا ما تلقيته في سابق حياتي من تعاليم الصوفية الذين يعطون لأوليائهم وشيوخهم صلاحية التصرف والتأثير في مجريات الأمور ويعترفون بأن الله وحده هو الذي أعطاهم هذه الصلاحية لأنهم أطاعوه سبحانه ورغبوا في ما عنده، ألم يقل في حديث قدسي " عبدي أطعني تكن مثلي تقل للشئ كن فيكون ". بدأ الصراع الداخلي يتجاذبني، وأنهيت إقامتي في مصر بعد إن قمت خلال الأيام الأخيرة بزيارة المساجد المتعددة، وصليت في جميعها من مالك إلي أبي حنيفة إلي مسجد الشافعي وأحمد بن حنبل، ثم إلي السيدة زينب وسيدنا الحسين، كما زرت زاوية التيجانية ولي في ذلك حكايات طويلة يطول شرحها، وقد رمت الاختصار. [ صفحه 27]

لقاء في الباخرة

وسافرت إلي الإسكندرية في اليوم المقرر حسب حجز المكان في الباخرة المصرية التي تسافر إلي بيروت ووجدت نفسي مرهقا متعبا جسديا وفكريا، وأنا ملقي علي السرير المخصص لي، فنمت قليلا وكانت الباخرة قد أبحرت منذ ساعتين أو ثلاثة، واستيقظت علي صوت مجاوري وهو يقول: " يبدو أن الأخ متعب ". قلت نعم أتعبني السفر من القاهرة إلي الإسكندرية وقد بكرت للوصول علي الموعد فلم أنم البارحة إلا قليلا. وفهمت من لهجته أنه غير مصري، ودفعني فضولي كعادتي إلي أن أتعرف عليه فعرفته نفسي وعرفت أنه عراقي وهو أستاذ في جامعة بغداد اسمه منعم، وقد جاء إلي القاهرة لتقديم أطروحة الدكتوراه في الأزهر. وبدأنا الحديث عن مصر وعن العالم العربي والإسلامي وعن هزيمة العرب وانتصار اليهود والحديث ذو شجون، قلت في معرض كلامي أن سبب الهزيمة هو انقسام العرب والمسلمين إلي دويلات وإلي طوائف ومذاهب متعددة، ورغم كثرة عددهم

فلا وزن لهم ولا اعتبار في نظر أعدائهم. وتكلمنا كثيرا عن مصر والمصريين وكنا متفقين علي أسباب الهزيمة، وأضفت بأنني ضد هذه الانقسامات التي ركزها الاستعمار فينا ليسهل عليه احتلالنا وإذلالنا، ونحن ما زلنا نفرق بين المالكية والأحناف ورويت له قصة [ صفحه 28] مؤسفة وقعت لي عندما دخلت إلي مسجد أبي حنيفة في القاهرة وصليت معهم صلاة العصر جماعة فما راعني بعد الصلاة إلا والرجل الذي كان قائما بجانبي يقول لي في غضب " لماذا لا تكتف يديك في الصلاة " فأجبته بأدب واحترام أن المالكية يقولون بالسدل وأنا مالكي فقال لي: " إذهب إلي مسجد مالك وصل هناك " فخرجت مستاءا ناقما علي هذا التصرف الذي زادني حيرة علي حيرتي. وإذا بالأستاذ العراقي يبتسم ويقول لي إنه هو الآخر شيعي. فاضطربت لهذا النبأ وقلت غير مبال لو كنت أعلم أنك شيعي لما تكلمت معك، قال: ولماذا؟ قلت لأنكم غير مسلمين فأنتم تعبدون علي بن أبي طالب والمعتدلون منكم يعبدون الله ولكنهم لا يؤمنون برسالة النبي محمد صلي الله عليه وآله، ويشتمون جبرائيل ويقولون بأنه خان الأمانة فبدلا من أداء الرسالة إلي علي أداها إلي محمد، واسترسلت في مثل هذه الأحاديث بينما كان مرافقي يبتسم حينا ويحوقل [9] أحيانا، ولما أنهيت كلامي سألني من جديد: أنت أستاذ تدرس الطلاب؟ قلت نعم، قال: إذا كان تفكير الأساتذة بهذا الشكل فلا لوم علي عامة الناس الذين لا ثقافة لهم! قلت: ماذا تقصد؟ أجاب: عفوا ولكن من أين لك هذه الادعاءات الكاذبة؟ قلت من كتب التاريخ ومما هو مشهور عند الناس كافة. قال: لنترك الناس كافة ولكن أي كتاب تاريخ قرأت؟ بدأت أعدد بعض الكتب مثل كتاب

فجر الإسلام وضحي الإسلام وظهر الإسلام لأحمد أمين وغيرها، قال: ومتي كان أحمد أمين حجة علي الشيعة؟ وأضاف: إن مقتضي العدل والموضوعية أن تتبين الأمر من مصادرهم الأصلية المعروفة. قلت: وكيف لي أن أتبين في أمر معروف لدي الخاص والعام، قال: إن أحمد أمين نفسه زار العراق وكنت من بين الأساتذة الذين التقوا به في النجف وعندما عاتبناه علي كتاباته عن الشيعة اعتذر قائلا: إني لا أعلم عنكم أي شئ وأني لم أتصل بالشيعة من قبل وهذه أول مرة ألتقي فيها بالشيعة. [ صفحه 29] قلنا له رب عذر أقبح من ذنب فكيف لا تعرف عنا أي شئ ومع ذلك تكتب عنا كل شئ قبيح؟! ثم أضاف قائلا: يا أخي نحن إذا حكمنا بخطأ اليهود والنصاري من خلال القرآن الكريم وهو عندنا الحجة البالغة فموقفنا ضعيف لأنهم لا يعترفون به، وتكون الحجة أقوي وأبلغ عندما نبين خطاهم من خلال كتبهم التي يعتقدونها، وذلك من باب " وشهد شاهد من أهلها ". نزل كلامه هذا علي قلبي نزول الماء الزلال علي قلب العطشان ورأيتني أتحول من ناقد حاقد إلي باحث فاقد، لأنني أحسست بمنطق سليم وحجة قوية، وما علي لو تواضعت قليلا وأصغيت إليه! قلت له: أنت إذا ممن يعتقدون برسالة نبينا محمد صلي الله عليه وآله؟ أجاب: وكل الشيعة مثلي يعتقدون ذلك وما عليك يا أخي إلا أن تتحقق من ذلك بنفسك حتي تكون علي بينة من الأمر، ولا تظن بإخوانك الشيعة الظنونا " لأن بعض الظن إثم " وأضاف قائلا: وإذا كنت فعلا تريد معرفة الحقيقة وتطلع عليها بعينيك ويستيقن بها قلبك، فأنا أدعوك لزيارة العراق والاتصال بعلماء الشيعة وعوامهم وستعرف عند ذلك أكاذيب

المغرضين والحاقدين. قلت: إنها أمنيتي أن أزور العراق في يوم من الأيام وأتعرف علي آثارها الإسلامية المشهورة التي خلفها العباسيون وعلي رأسهم هارون الرشيد، ولكن، أولا: إمكانياتي المادية محدودة وقد رتبتها لأداء العمرة، ثانيا: إن جواز السفر الذي أحمله لا يسمح لي بالدخول إلي العراق، قال: أولا عندما قلت لك أدعوك لزيارة العراق فذلك يعني أني أتكفل بتغطية نفقات سفرك من بيروت إلي بغداد ذهابا وإيابا وإقامتك بالعراق ستكون معي في بيتي فأنت ضيفي، وثانيا بشأن الجواز الذي لا يسمح لك الدخول إلي العراق فلنترك ذلك إلي الله سبحانه وتعالي فإذا قدر لك أن تزور فسوف يكون ذلك حتي بدون جواز سفر، وسوف نحاول الحصول علي تأشيرة للدخول فور وصولنا إلي بيروت. فرحت كثيرا بهذا العرض ووعدت صاحبي بأن أرد عليه الجواب غدا إن شاء الله تعالي. [ صفحه 30] خرجت من غرقة النوم وصعدت إلي سطح الباخرة أتنفس الهواء الجديد، وأنا أفكر تفكيرا جديدا وعقلي شارد في البحر الذي ملأ الآفاق، وأسبح بحمد ربي الذي خلق الأكوان وأحمده، وأشكره علي أن أوصلني إلي هذا المكان وأسأله سبحانه وتعالي أن يحميني من الشر وأهله ويحفظني من الزلل والخطأ، وسرح تفكيري وأنا أستعرض شريطا أمام عيني للأحداث التي عشتها والسعادة التي تذوقتها من طفولتي إلي ذلك اليوم وأحلم بمستقبل أفضل، وأشعر كأن الله ورسوله يحيطانني بعناية خاصة، فالتفت صوب مصر التي ما زالت بعض شواطئها تتراءي من حين لآخر مودعا تلك الأرض التي فيها قبلت قميص رسول الله صلي الله عليه وآله وهي أعز ما بقي عندي من تلك الذكريات التي عشتها في مصر، وعدت أستعرض كلام الشيعي الجديد الذي أدخل علي فرحا كبيرا لتحقيق حلم

كان يراودني منذ صغري ألا وهو زيارة العراق، تلك البلاد التي رسمها في ذهني بلاط الرشيد والمأمون مؤسس دار الحكمة التي كان يقصدها طلاب العلوم المختلفة من الغرب أيام ازدهار الحضارة الإسلامية، أضف إلي ذلك فهي بلاد القطب الرباني والشيخ الصمداني سيدي عبد القادر الجيلاني الذي ملأ صيته الأقطار كلها ودخلت طريقته كل قرية وعلت همته كل همة فها هي عناية جديدة من الله لتحقيق هذا الحلم، وبدأت أتخيل وأسبح في بحر الخيال والآمال حتي نبهني مذياع الباخرة وهو ينادي المسافرين إلي التوجه للمطعم لتناول العشاء، ذهبت صوب المكان المذكور فإذا الناس يتزاحمون كعادتهم في كل تجمع وكل واحد يريد الدخول قبل غيره وكثر الصياح والهرج، وإذا بالشيعي يمسك بثوبي ليسحبني بلطف إلي الخلف وهو يقول: تعالي يا أخي لا تتعب نفسك فسوف نأكل فيما بعد بدون زحمة وقد فتشت عنك في كل مكان، ثم سألني: هل صليت؟ قلت: لم أصل بعد، فقال: إذا تعالي نصلي ثم نأتي للأكل وقد خلص هؤلاء من الزحام والصياح. استحسنت رأيه وصاحبته إلي مكان خال من الناس حيث توضأت وقدمته ليصلي إماما قصد اختباره كيف يصلي علي أن أعيد صلاتي فيما بعد، وما إن أقام الصلاة لأداء فريضة المغرب واسترسل في القراءة والدعاء حتي غيرت رأيي، وتخيلت بأني مأموم بأحد الصحابة الكرام الذين أقرأ عنهم وعن ورعهم [ صفحه 31] وتقواهم، وبعد فراغه من الصلاة، أطال الدعاء ولم أسمع قبلا هذه الأدعية في بلادنا ولا في البلاد التي عرفتها، وكنت أطمئن وأرتاح كلما سمعته يصلي علي محمد وآله ويثني عليه بما هو أهله. بعد الصلاة لاحظت في عينيه أثر البكاء كما سمعته يدعو الله أن يفتح بصيرتي ويهديني. اتجهنا

إلي المطعم وقد بدأ يخلو من الآكلين ودخلنا فلم يجلس حتي أجلسني وجئ لنا بصحنين من الأكل فرأيته يغير صحنه بصحني لأن نصيبي من اللحم كان أقل من نصيبه وأخذ يلح علي وكأني ضيفه ويلاطفني ويروي لي روايات لم أسمعها من قبل تخص الأكل والشرب وآداب المائدة. وأعجبت بأخلاقه، وصلي بنا صلاة العشاء وأطالها بالدعاء حتي أبكاني وسألت الله سبحانه أن يغير ظني فيه لأن بعض الظن إثم. ولكن من يدري؟!. ونمت أحلم بالعراق وألف ليلة وليلة واستيقظت علي ندائه يوقظني لصلاة الفجر، وصلينا وجلسنا نتحدث عن نعم الله علي المسلمين. ورجعنا للنوم ثانية ولما أفقت وجدته جالسا علي سريره وفي يده مسبحة وهو يذكر الله فارتاحت له نفسي واطمأن له قلبي واستغفرت ربي. كنا نتغذي في المطعم عندما سمعنا المذيع يعلن عن اقتراب الباخرة من الشواطئ اللبنانية وسوف نكون في ميناء بيروت بحول الله بعد ساعتين سألني هل فكرت مليا وماذا قررت. قلت إذا سهل الله سبحانه وتعالي الحصول علي تأشيرة الدخول فلا أري مانعا وشكرته علي دعوته. نزلنا في بيروت حيث أمضينا تلك الليلة ومن بيروت سافرنا إلي دمشق حيث اتجهنا فور وصولنا إليها إلي سفارة العراق، وحصلت علي التأشيرة بسرعة مذهلة لم أتصورها، وخرجنا من هناك وهو يهنئني ويحمد الله علي إعانته. [ صفحه 33]

زيارة العراق لأول مرة

سافرنا من دمشق إلي بغداد في إحدي سيارات شركة النجف العالمية الضخمة المكيفة وكانت الحرارة تبلغ أربعين درجة مئوية في بغداد، عندما وصلنا اتجهنا فورا إلي بيته في حي جميلة، دخلت البيت المكيف واسترحت ثم جاءني بقميص فضفاض يسمونه (دشداشة). أحضر الفاكهة والأكل ودخل أهله يسلمون علي في أدب واحترام وكان والده يعانقني وكأنه يعرفني من

قبل، أما والدته فوقفت بالباب في عباءة سوداء تسلم وترحب، واعتذر صديقي عن والدته بأن المصافحة عندهم محرمة، وأعجبت أكثر وقلت في نفسي: هؤلاء الذين نتهمهم نحن بالخروج عن الدين يحافظون عليه أكثر منا. وقد لمست خلال أيام السفر التي قضيتها معه نبل أخلاق وعزة نفس في كرامة وشهامة وتواضع وورع لم أعهده من قبل. وشعرت بأني لست غريبا بل وكأني في بيتي. صعدنا في الليل إلي سطح الدار حيث فرشت لنا أماكن للنوم، وبقيت حتي ساعة متأخرة أهذي أفي حلم أنا أم في يقظة، أحقا أنني في بغداد بجوار سيدي عبد القادر الجيلاني. ضحك صديقي متسائلا ماذا يقول التونسيون عن عبد القادر الجيلاني؟، [ صفحه 34] وبدأت أحكي له عن الكرامات التي تروي عندنا وعن المقامات التي تشيد في ربوعنا باسمه وأنه قطب الدائرة وكما أن محمد رسول الله هو سيد الأنبياء فعبد القادر هو سيد الأولياء وقدمه علي رقبة كل الأولياء وهو القائل: " كل الناس يطوف بالبيت سبعا وأنا البيت طائفا بخيامي). وحاولت إقناعه بأن الشيخ عبد القادر يأتي إلي بعض مريديه ومحبيه جهرة ويعالج أمراضهم ويفرج كربتهم ونسيت أو تناسيت العقيدة الوهابية التي تأثرت بها من أن ذلك كله شرك بالله ولما شعرت بعدم حماس صديقي حاولت أقناع نفسي بأن ما قلته لا يصح، وسألته عن رأيه. قال صديقي وهو يضحك: نم الليلة واسترح من التعب الذي لقيته في السفر وغدا إن شاء الله سنزور الشيخ عبد القادر، وطرت فرحا لهذا الخبر ووددت لو طلع الفجر وقتئذ. فاستغرقت في نوم عميق. [ صفحه 35]

عبدالقادر الجيلاني و موسي الكاظم

ذهبنا بعد الفطور إلي باب الشيخ ورأيت المقام الذي طالما تمنيت زيارته، وهرولت كأني مشتاق لرؤيته

ودخلت أتلهف كأني سوف أرتمي في أحضانه وصديقي يتبعني أينما رحت، واختلطت بالزوار الذين يتراكمون علي المقام تراكم الحجاج علي بيت الله الحرام ومنهم من يلقي قبضات من الحلوي والزوار يتسابقون لالتقاطها وأسرعت لأخذ اثنتين منها أكلت إحداها علي الفور للبركة وخبأت الأخري في جيبي للذكري، صليت هناك ودعوت بما تيسر لي وشربت الماء وكأني أشرب من ماء زمزم، ورجوت صديقي أن ينتظرني ريثما أكتب إلي أصدقائي في تونس بعض البطاقات البريدية التي اشتريتها من هناك وتمثل كلها صورة مقام الشيخ عبد القادر بالقبة الخضراء، وأردت بذلك أن أبرهن لأصدقائي وأقاربي في تونس عن علو همتي التي أوصلتني لذلك المقام الذي لم يصلوا إليه. بعد ذلك تناولنا طعام الغداء في مطعم شعبي وسط العاصمة، ثم أخذني صديقي في سيارة أجرة إلي الكاظمية، عرفت هذا الاسم من خلال ما ذكره صديقي لسائق السيارة وصلنا إليها وما أن نزلنا من السيارة نتمشي حتي اختلطنا بمجموعات كبيرة من الناس يمشون في نفس الاتجاه نساء ورجالا وأطفالا ويحملون بعض الأمتعة، ذكرني ذلك بموسم الحج ولم أكن بعد أعرف وجهة المكان المقصود حتي تراءت لي قباب ومآذن ذهبية يأخذ إشعاعها بالأبصار، وفهمت أنه مسجد من مساجد الشيعة لسابق علمي بأنهم يزخرفون مساجدهم بالذهب [ صفحه 36] والفضة التي حرمها الإسلام، وشعرت بحرج في الدخول إليها، غير أنني - مراعاة لعواطف صديقي - اتبعته من غير اختيار. دخلنا من الباب الأول وبدأت ألاحظ تمسح الشيوخ بالأبواب وتقبيلها، وسليت نفسي بقراءة لوحة كبيرة كتب عليها (ممنوع دخول النساء السافرات) مع حديث للإمام علي يقول فيه: (يأتي علي الناس زمان تخرج فيه النساء كاسيات عاريات.. إلي آخره)، وصلنا إلي المقام وبينما كان صديقي

يقرأ إذن الدخول كنت أنظر إلي الباب وأعجب من هذا الذهب والنقوش التي تملأ صفحاته وكلها آيات قرآنية. دخل صديقي ودخلت خلفه وأنا علي حذر تجول بخاطري عدة أساطير قرأتها في بعض الكتب التي تكفر الشيعة ورأيت داخل المقام نقوشا وزخرفة لم تخطر علي بالي ودهشت لما رأيت وتصورت نفسي في عالم غير مألوف ولا معروف، ومن حين إلي آخر أنظر باشمئزاز إلي هؤلاء الذين يطوفون حول الضريح باكين مقبلين أركانه وقضبانه بينما يصلي البعض الآخر قرب الضريح، واستحضرت في خاطري حديث الرسول صلي الله عليه وآله وهو يقول: (لعن الله اليهود والنصاري اتخذوا قبور أوليائهم مساجد). وابتعدت عن صديقي الذي ما أن دخل حتي أجهش بالبكاء ثم تركته يصلي واقتربت من اللوحة المكتوبة للزيارة وهي معلقة علي الضريح. وقرأتها ولم أفهم الكثير منها بما حوته من أسماء غريبة عني أجهلها، ابتعدت في زاوية وقرأت الفاتحة ترحما علي صاحب الضريح قائلا: " اللهم إن كان هذا الميت من المسلمين فارحمه فأنت أعلم به مني). واقترب مني صديقي وهمس في أذني قائلا: إن كانت لديك حاجة فاسأل الله في هذا المكان لأننا نسميه باب الحوائج وما أعطيت أهمية لقوله سامحني الله، بل كنت أنظر إلي الشيوخ الطاعنين في السن وعلي رؤوسهم عمائم بيض وسود وفي جباههم آثار السجود، وزاد في هيبتهم تلك اللحي التي أعفوها وتنطلق منها روائح طيبة ولهم نظرات حادة مهيبة. [ صفحه 37] وما أن يدخل الواحد منهم حتي يجهش بالبكاء، وتساءلت في داخلي أيمكن أن تكون هذه الدموع كاذبة؟؟ أيمكن أن يكون هؤلاء الطاعنون في السن مخطئين؟ خرجت متحيرا مندهشا مما شاهدته بينما كان صديقي يرجع أدراجه احتراما لئلا يعطي المقام ظهره.

سألته: من هو صاحب هذا المقام؟. قال: الإمام موسي الكاظم. قلت: ومن هو الإمام موسي الكاظم؟. قال: سبحان الله! أنتم إخواننا أهل السنة والجماعة تركتم اللب وتمسكتم بالقشور. قلت غاضبا منقبضا: كيف تمسكنا بالقشور وتركنا اللب؟. فهدأني وقال: يا أخي أنت منذ دخلت العراق لا تفتأ تذكر عبد القادر الجيلاني فمن هو عبد القادر الجيلاني الذي استوجب كل اهتمامك!؟. أجبت علي الفور وبكل فخر: هو من ذرية الرسول!، ولو كان نبي بعد محمد لكان عبد القادر الجيلاني رضي الله تعالي عنه!. قال: يا أخ السماوي هل تعرف التاريخ الإسلامي؟. وأجبت في غير تردد بنعم! وفي الحقيقة ما عرفت من التاريخ الإسلامي قليلا ولا كثيرا لأن أساتذتنا ومعلمينا كانوا يمنعوننا من ذلك مدعين بأنه تاريخ أسود مظلم لا فائدة من قراءته!، وأذكر علي سبيل المثال أن الأستاذ المختص في تدريسنا مادة البلاغة كان يدرسنا الخطبة الشقشقية من كتاب نهج البلاغة للإمام علي، واحترت كما احتار عدد من التلاميذ عند قراءتها، وتجرأت وسألته إن كان هذا من كلام الإمام علي حقا، فأجاب: (قطعا ومن لمثل هذه البلاغة سواه. ولو لم يكن كلامه كرم الله وجهه، لم يكن علماء المسلمين أمثال الشيخ [ صفحه 38] محمد عبده مفتي الديار المصرية ليهتم بشرحه). عند ذلك قلت: إن الإمام علي يتهم أبا بكر وعمر بأنهما اغتصبا حقه في الخلافة فثارت ثائرة الأستاذ وانتهرني بشدة وهددني بالطرد إن عدت لمثل هذا السؤال، وأضاف قائلا: نحن ندرس بلاغة ولا ندرس التاريخ وما يهمنا شيئا من أمر التاريخ الذي سودت صفحاته الفتن والحروب الدامية بين المسلمين وكما طهر الله سيوفنا من دمائهم فلنطهر ألسنتنا من شتمهم. ولم أقنع بهذا التعليل وبقيت ناقما علي

ذلك الأستاذ الذي يدرسنا بلاغة بدون معان، وحاولت مرارا عديدة دراسة التاريخ الإسلامي ولكن لم تتوفر عندي المصادر والإمكانات لتوفير الكتب، وما وجدت أحدا من شيوخنا وعلمائنا يهتم بها وكأنهم تصافقوا علي طيها وعدم النظر فيها، فلا تجد أحدا يملك كتابا تاريخيا كاملا. فلما سألني صديقي عن معرفة التاريخ أحببت معاندته فأجبته بنعم ولسان حالي يقول: أعرف أنه تاريخ مظلم مسود لا فائدة فيه، إلا الفتن والأحقاد والتناقضات. قال: هل تعرف متي ولد عبد القادر الجيلاني، في أي عصر؟ قلت: حسب التقريب في القرن السادس أو القرن السابع ; قال: فكم بينه وبين رسول الله صلي الله عليه وآله؟ قلت ستة قرون ; قال: فإذا كان القرن فيه جيلان علي أقل تقدير فيكون نسبة عبد القادر الجيلاني للرسول بعد اثني عشر جدا ; قلت نعم! قال: فهذا موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن فاطمة الزهراء يصل نسبه إلي جده رسول الله بعد أربعة أجداد فقط. أو بالأحري فهو من مواليد القرن الثاني للهجرة فأيهما أقرب إلي رسول الله موسي أم عبد القادر؟. وبدون تفكير قلت: هذا أقرب طبعا! ولكن لماذا نحن لا نعرفه ولا نسمع بذكره؟ قال: هذا هو بيت القصيد ولذلك قلت بأنكم - واسمح لي أن أعيدها - تركتم اللب وتمسكتم بالقشور فلا تؤاخذني وأرجوك المعذرة. [ صفحه 39] كنا نتحدث ونمشي ونتوقف من حيث لآخر حتي وصلنا إلي منتدي علمي يجلس فيه الطلبة والأساتذة ويتبادلون الآراء والنظريات، هناك جلسنا وكان يبحث بعينيه في الجالسين وكأنه علي موعد مع أحدهم ; جاء أحد الوافدين وسلم علينا وفهمت أنه زميله في الجامعة وسأله عن شخص علمت من الأجوبة أنه دكتور

وسيأتي عما قريب، في الأثناء قال لي صديقي: أنا جئت بك إلي هذا المكان قاصدا أن أعرفك بالدكتور المتخصص في الأبحاث التاريخية وهو أستاذ التاريخ في جامعة بغداد وقد حصل علي الدكتوراه في أطروحته التي كتبها عن عبد القادر الجيلاني وسوف ينفعك بحول الله، لأنني لست مختصا في التاريخ. شربنا بعض العصير البارد حتي وصل الدكتور ونهض إليه صديقي مسلما عليه وقدمني إليه وطلب منه أن يقدم إلي لمحة عن تاريخ عبد القادر الجيلاني، واستأذننا في الانصراف لبعض شؤونه. طلب لي الدكتور مشروبا باردا وبدأ يسألني عن اسمي وبلادي ومهنتي كما طلب مني أن أحدثه عن شهرة عبد القادر الجيلاني في تونس. ورويت له الكثير في هذا المجال حتي قلت والناس عندنا يعتقدون بأن الشيخ عبد القادر كان يحمل رسول الله علي رقبته ليلة المعراج عندما تأخر جبريل خوفا من الاحتراق وقال له رسول الله صلي الله عليه وآله: قدمي علي رقبتك وقدمك علي رقاب كل الأولياء إلي يوم القيامة. وضحك الدكتور كثيرا عند سماعه كلامي وما دريت أكان ضحكه علي هذه الروايات أم كان علي الأستاذ التونسي الذي بين يديه! بعد مناقشة قصيرة حول الأولياء والصالحين قال أنه بحث طوال سبع سنين سافر خلالها إلي لاهور في الباكستان وإلي تركيا وإلي مصر وبريطانيا وكل الأماكن التي بها مخطوطات تنسب إلي عبد القادر الجيلاني واطلع عليها وصورها، وليس فيها أي إثبات بأن عبد القادر الجيلاني هو من سلالة الرسول، وغاية ما هنالك بيت من الشعر ينسب إلي أحد أحفاده يقول فيه: " وجدي رسول الله " وقد يحمل ذلك كما قال بعض العلماء، علي تأويل حديث النبي صلي الله عليه وآله: (أنا جد كل تقي)

وزادني بأن [ صفحه 40] التاريخ الصحيح يثبت أن عبد القادر أصله فارسي وليس عربيا أصلا وقد ولد في بلدة بإيران تسمي جيلان وإليها ينسب عبد القادر، وقد نزح إلي بغداد حيث تعلم هناك وجلس يدرس في وقت كان في الانحلال الخلقي فيه فاشيا. وكان الرجل زاهدا فأحبه الناس وبعد وفاته أسسوا الطريقة القادرية نسبة إليه، كما يفعل دائما أتباع كل متصوف وأضاف قائلا: حقا أن حالة العرب مؤسفة من هذه الناحية. وثارت في رأسي حمية الوهابية فقلت للدكتور: إذا أنت وهابي الفكر يا حضرة الدكتور فهم يقولون كما تقول ليس هناك أولياء. فقال: لا أنا لست علي رأي الوهابية. والمؤسف عند المسلمين هو إما الافراط وإما التفريط، فإما أن يؤمنوا ويصدقوا بكل الخرافات التي لا تستند إلي دليل ولا عقل ولا شرع، وإما أن يكذبوا بكل شئ حتي بمعجزات نبينا محمد وأحاديثه لأنها لا تتماشي وأهواءهم وعقائدهم التي يعتقدونها وقد شرقت طائفة وغربت أخري فالصوفية يقولون بإمكانية حضور الشيخ عبد القادر الجيلاني مثلا في بغداد وفي نفس الوقت في تونس، وقد يشفي مريضا في تونس وينقذ غريقا في نهر دجلة في نفس اللحظة فهذا إفراط، والوهابية - كرد فعل علي الصوفية - كذبوا بكل شئ حتي قالوا بشرك من توسل بالنبي، وهذا تفريط لا يا أخي نحن كما قال الله تعالي في كتابه العزيز:(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدا علي الناس) [10] . أعجبني كلامه كثيرا وشكرته مبدئيا، وأبديت قناعتي بما قال. فتح محفظته وأخرج كتابه عن عبد القادر الجيلاني وأهدانيه، كما دعاني للضيافة فاعتذرت وبقينا نتحدث عن تونس وعن شمال إفريقيا حتي جاء صديقي [ صفحه 41] ورجعنا إلي البيت ليلا بعد أن

أمضينا كامل اليوم في الزيارات والمناقشات، وشعرت بالتعب والإرهاق فاستسلمت للنوم. استيقظت باكرا وصليت وجلست أقرأ الكتاب الذي يبحث في حياة عبد القادر، فما أفاق صديقي حتي كنت قد أتممت نصفه، وكان يتردد علي من حين إلي آخر داعيا إياي لتناول الفطور فلم أوافق حتي أنهيت الكتاب وقد شدني إليه وأدخل علي شكا لم يلبث طويلا حتي زال قبل خروجي من العراق. [ صفحه 43]

الشك والتساؤل

بقيت في بيت صديقي ثلاثة أيام استرحت خلالها وفكرت مليا في ما سمعته من هؤلاء الذين اكتشفتهم وكأنهم كانوا يعيشون علي سطح القمر، فلماذا لم يحدثنا أحد عنهم إلا بما هو مزر ومشين، لماذا أنا أكرههم وأحقد عليهم دون أن أعرفهم، لعل ذلك ناتج من الإشاعات التي نسمعها عنهم من أنهم يعبدون عليا وأنهم ينزلون أئمتهم منزلة الآلهة وأنهم يقولون بالحلول، وأنهم يسجدون للحجر من دون الله، وأنهم - كما حدثنا أبي بعد رجوعه من الحج - يأتون إلي قبر الرسول ليلقون فيه القذرات والنجاسات وقد أمسكهم السعوديون وحكموا عليهم بالإعدام.. وأنهم.. وأنهم.. حدث ولا حرج. كيف يسمع المسلمون بهذا ولا يحقدون علي هؤلاء الشيعة ولا يبغضونهم، بل كيف لا يقاتلونهم!. ولكن كيف أصدق هذه الإشاعات وقد رأيت بعيني ما رأيت وسمعت بأذني ما سمعت وها قد مضي علي وجودي بينهم أكثر من أسبوع ولم أر منهم ولم أسمع إلا الكلام المنطقي الذي يدخل العقول بدون استئذان، بل قد استهوتني عباداتهم وصلاتهم ودعاؤهم وأخلاقهم واحترامهم لعلمائهم حتي تمنيت أن أكون مثلهم، وبقيت أتسأل: هل حقا أنهم يكرهون رسول الله! وكلما ذكرته وكثيرا ما أذكره لاختبارهم فيصيحون بكل جوارحهم (اللهم صل علي محمد وعلي آل محمد) وظننت أنهم ينافقون، ولكن

زال هذا الظن بعد ما تصفحت كتبهم التي [ صفحه 44] قرأت شيئا منها فوجدت احتراما وتقديسا وتنزيها لشخص الرسول لم أعهده في كتبنا فهم يقولون بعصمته صلي الله عليه وآله في كل شئ قبل البعثة وبعدها بينما نقول نحن أهل السنة والجماعة بأنه معصوم في تبليغ القرآن فقط وما عدا ذلك فهو بشر يخطئ كغيره وكثيرا ما نستدل علي ذلك بخطئه - صلي الله عليه وآله - وتصويب بعض الصحابة رأيه ولنا في ذلك أمثلة متعددة بينما يرفض الشيعة أن يكون رسول الله يخطئ ويصيب غيره فكيف أصدق بعد هذا أنهم يكرهون رسول الله؟ كيف. وتحدثت يوما مع صديقي ورجوته وأقسمت عليه أن يجيبني بصراحة، وكان الحوار التالي: - أنتم تنزلون عليا رضي الله عنه وكرم الله وجهه منزلة الأنبياء لأني ما سمعت أحدا منكم يذكره إلا ويقول " عليه السلام ". - فعلا نحن عندما نذكر أمير المؤمنين أو أحد الأئمة من بنيه نقول (عليه السلام)، فهذا لا يعني أنهم أنبياء، ولكنهم ذرية الرسول وعترته الذين أمرنا الله بالصلاة عليهم في محكم تنزيله وعلي هذا يجوز أن نقول: عليهم الصلاة والسلام أيضا. - لا يا أخي نحن لا نعترف بالصلاة والسلام إلا علي رسول الله والأنبياء الذين سبقوه ولا دخل لعلي وأولاده في ذلك رضي الله عنهم. - أنا أطلب منك وأرجوك أن تقرأ كثيرا حتي تعرف الحقيقة. - أي الكتب أقرأ يا أخي؟ ألست أنت الذي قلت لي بأن كتب أحمد أمين ليست حجة علي الشيعة، كذلك كتب الشيعة ليست حجة علينا ولا نعتمد عليها، ألا تري أن كتب النصاري التي يعتمدونها تذكر أن عيسي (ع) قال: " إني ابن الله) في

حين أن القرآن الكريم - وهو أصدق القائلين - يقول علي لسان عيسي بن مريم: (ما قلت لهم، إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم). - حسنا قلت: لقد قلت ذلك، والذي أريده منك هو هذا، أعني [ صفحه 45] استعمال العقل والمنطق والاستدلال بالقرآن الكريم والسنة الصحيحة ما دمنا مسلمين، ولو كان الحديث مع يهودي أو نصراني لكان الاستدلال بغير هذا. - إذا، في أي كتاب سأعرف الحقيقة، وكل مؤلف وكل فرقة وكل مذهب يدعي أنه علي الحق. - سأعطيك الآن دليلا ملموسا، لا يختلف فيه المسلمون بشتي مذاهبهم وفرقهم ومع ذلك فأنت لا تعرفه!. - وقل ربي زدني علما. - هل قرأت تفسير الآية الكريمة: (أن الله وملائكته يصلون علي النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) [11] . فقد أجمع المفسرون سنة وشيعة علي أن الصحابة الذين نزلت فيهم هذه الآية، جاؤوا إلي رسول الله فقالوا: يا رسول الله عرفنا كيف نسلم عليك ولم نعرف كيف نصلي عليك! فقال: قولوا اللهم صل علي محمد وآل محمد كما صليت علي إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد ولا تصلوا علي الصلاة البتراء، قالوا: وما الصلاة البتراء يا رسول الله، قال: أن تقولوا اللهم صل علي محمد وتصمتوا، وأن الله كامل ولا يقبل إلا الكامل. ولكل ذلك عرف الصحابة ومن بعدهم التابعون أمر رسول الله فكانوا يصلون عليه الصلاة الكاملة، حتي قال الإمام الشافعي في حقهم: يا آل بيت رسول الله حبكم فرض من الله في القرآن أنزله كفاكم من عظيم الشأن أنكم من لم يصل عليكم لا صلاة له كان كلامه يطرق سمعي وينفذ إلي قلبي ويجد في نفسي

صدي إيجابيا، وبالفعل فقد سبق لي أن قرأت مثل هذا في بعض الكتب، ولكن لا أذكر في أي [ صفحه 46] كتاب بالضبط، واعترفت له بأننا عندما نصلي علي النبي نصلي علي آله وصحبه أجمعين ولكن لا نفرد عليا بالسلام كما يقول الشيعة. قال: فما رأيك في البخاري؟ أهو من الشيعة؟. قلت: إمام (جليل من أئمة أهل السنة والجماعة وكتابه أصح الكتب بعد كتاب الله). عند ذلك قام وأخرج من مكتبته صحيح البخاري وفتحه وبحث عن الصفحة التي يريدها، وأعطاني لأقرأ فيه: حدثنا فلان عن فلان عن علي - عليه السلام -. ولم أصدق عيني واستغربت حتي أنني شككت أن يكون ذلك هو صحيح البخاري، واضطربت وأعدت النظر في الصفحة وفي الغلاف، ولما أحس صديقي بشكي أخذ مني الكتاب وأخرج لي صفحة أخري فيها: (حدثنا علي بن الحسين (عليهما السلام)) فما كان جوابي بعدها إلا أن قلت: سبحان الله واقتنع مني بهذا الجواب وتركني وخرج، وبقيت أفكر وأراجع قراءة تلك الصفحات وأتثبت في طبعة الكتاب فوجدتها من طبع ونشر شركة الحلبي وأولاده بمصر. يا إلهي، لماذا أكابر وأعاند وقد أعطاني حجة ملموسة من أصح الكتب عندنا، والبخاري ليس شيعيا قطعا، وهو من أئمة أهل السنة ومحدثيهم، أأسلم لهم بهذه الحقيقة وهي قولهم علي (ع)، ولكن أخاف من هذه الحقيقة فلعلها تتبعها حقائق أخري لا أحب الاعتراف بها، وقد انهزمت أمام صديقي مرتين فقد تنازلت عن قداسة عبد القادر الجيلاني وسلمت بأن موسي الكاظم أولي منه، وسلمت أيضا بأن عليا (ع) هو أهل لذلك، ولكني لا أريد هزيمة أخري، وأنا الذي كنت منذ أيام قلائل عالما في مصر أفخر بنفسي ويمجدني علماء الأزهر الشريف، أجد نفسي

اليوم مهزوما مغلوبا ومع من؟ مع الذين كنت ولا أزال أعتقد أنهم علي خطأ، فقد تعودت علي أن كلمة (شيعة) هي مسبة. إنه الكبرياء وحب الذات، إنها الأنانية واللجاج والعصبية، إلهي ألهمني رشدي، وأعني علي تقبل الحقيقة ولو كانت مرة. اللهم افتح بصري وبصيرتي واهدني إلي صراطك المستقيم واجعلني من [ صفحه 47] الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. رجع بي صديقي إلي البيت وأنا أردد هذه الدعوات فقال مبتسما: هدانا الله وإياكم وجميع المسلمين، وقد قال في محكم كتابه: (والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) [12] . والجهاد في هذه الآية يحمل معني البحث العلمي للوصول إلي الحقيقة، والله سبحانه يهدي إلي الحق كل من بحث عن الحق. [ صفحه 49]

السفر إلي النجف

أعلمني صديقي ذات ليلة بأننا سنسافر غدا إن شاء الله إلي النجف، وسألته وما النجف؟ قال: إنها مدينة علمية فيه مرقد الإمام علي بن أبي طالب، فتعجبت كيف يكون للإمام علي قبر معروف. لأن شيوخنا يقولون أنه لا وجود لقبر معروف لسيدنا علي، وسافرنا في سيارة عمومية حتي وصلنا إلي الكوفة وهناك نزلنا لزيارة جامع الكوفة وهو من الآثار الإسلامية الخالدة، وكان صديقي يريني الأماكن الأثرية ويزورني جامع مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ويحكي لي بإيجاز كيف استشهدا، كما أدخلني المحراب الذي استشهد فيه الإمام علي، وبعدها زرنا البيت الذي كان يسكنه الإمام مع ابنيه سيدنا الحسن وسيدنا الحسين، وفي البيت البئر التي كانوا يشربون منها ويتوضؤون بمائها، وعشت لحظات روحية نسيت خلالها الدنيا وما فيها لأسبح في زهد الإمام وبساطة عيشه وهو أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين.

ولا يفوتني أن أذكر الحفاوة والتواضع اللذين شاهدتهما هناك في الكوفة، فما مررنا بمجموعة إلا وقاموا إلينا وسلموا علينا، وكان صديقي يعرف الكثير منهم ودعانا أحدهم وهو مدير المعهد بالكوفة إلي بيته حيث التقينا بأولاده وبتنا عندهم ليلة سعيدة، وشعرت وكأني بين أهلي وعشيرتي، وكانوا إذا تكلموا عن أهل السنة والجماعة يقولون: (إخواننا من السنة) فأنست بحديثهم وسألتهم بعض الأسئلة الاختبارية لأتيقن من صدق كلامهم. [ صفحه 50] تحولنا إلي النجف وهي تبعد عن الكوفة حوالي عشرة كيلو مترات وما أن وصلنا حتي تذكرت مسجد الكاظمية في بغداد فبدت المآذن الذهبية تحيط بقبة من الذهب الخالص ودخلنا إلي حرم الإمام بعد قراءة الإذن بالدخول كما هي عادة الزوار من الشيعة، ورأيت هنا أعجب مما رأيت هناك في جامع موسي الكاظم، وكالعادة وقفت أقرأ الفاتحة وأنا أشك في أن هذا القبر يحوي جثمان الإمام علي، وكأني اقتنعت ببساطة ذلك البيت الذي كان يسكنه في الكوفة وقلت في نفسي حاشي للإمام علي أن يرضي بهذه الزخرفة من الذهب والفضة بينما يموت المسلمون جوعا في شتي بقاع الدنيا، وخصوصا لما رأيت فقراء في الطريق يمدون أيديهم للمارة طلبا للصدقة فكان لسان حالي يقول: أيها الشيعة أنتم مخطئون، اعترفوا علي الأقل بهذا الخطأ فالإمام علي هو الذي بعثه رسول الله لتسوية القبور، فيما لهذه القبور المشيدة بالذهب والفضة إنها وإن لم تكن شركا بالله فهي علي الأقل خطأ فادح لا يغفره الإسلام. وسألني صديقي وهو يمد إلي قطعة من الطين اليابس هل أريد أن أصلي، وأجبته في حدة: نحن لا نصلي حول القبور! قال: إذا انتظرني قليلا حتي أصلي ركعتين، وفي انتظاره كنت أقرأ اللوحة المعلقة علي الضريح وأنظر

إلي داخله من خلال القضبان الذهبية المنقوشة وإذا به ملئ بالأوراق النقدية من كل الألوان من الدرهم والريال إلي الدينار والليرة وكلها يلقيها الزوار تبركا للمساهمة في المشاريع الخيرية التابعة للمقام وظننت لكثرتها أن لها شهورا، ولكن صديقي أعلمني في ما بعد أن المسؤولين عن تنظيف المقام يأخذون كل ذلك في كل ليلة بعد صلاة العشاء. خرجت وراءه مدهوشا وكأنني تمنيت أن يعطوني منها نصيبا أو يوزعوها علي الفقراء والمساكين وما أكثرهم هناك. كنت ألتفت في كل اتجاه داخل السور الكبير المحيط بالمقام حيث يصلي جماعات من الناس هنا وهناك وينصت آخرون إلي بعض الخطباء الذين اعتلوا منبرا وكأني سمعت نواح بعضهم في صوت متهدج. [ صفحه 51] ورأيت جموعا من الناس يكون ويلطمون علي صدورهم وأردت أن أسال صديقي، ما بال هؤلاء يبكون ويلطمون ومرت بقربنا جنازة وشاهدت بعضهم يرفع الرخام في وسط الصحن وينزل الميت هناك، فظننت أن بكاء هؤلاء لأجل الميت العزيز عليهم. [ صفحه 53]

لقاء العلماء

أدخلني صديقي إلي مسجد في جانب الحرم مفروش كله بالسجاد وفي محرابه آيات قرآنية منقوشة بخط جميل، ولفت انتباهي مجموعة من الصبيان المعممين جالسين قرب المحراب يتدارسون وكل واحد في يده كتاب، فأعجبت لهذا المنظر الجميل ولم يسبق لي أن رأيت شيوخا بهذا السن أعمارهم تتراوح ما بين الثالثة عشرة والسادسة عشرة وقد زادهم جمالا ذلك الزي فأصبحوا كالأقمار، سألهم صديقي عن (السيد) فأخبروه بأنه يصلي بالناس جماعة، ولم أفهم من هو (السيد) الذي سألهم عنه غير أنني توقعت أنه أحد العلماء. وعرفت فيما بعد أنه السيد الخوئي زعيم الحوزة العلمية للطائفة الشيعية. مع العلم بأن لقب (السيد) عند الشيعة هو لقب لكل منحدر من

سلالة النبي صلي الله عليه وآله، ويرتدي (السيد) العالم أو طالب العلوم الدينية عمامة سوداء، وأما العلماء الآخرون فيرتدون عمامة بيضاء ويلقبون ب (الشيخ) وهناك نوع من الأشراف الذين ليسوا بعلماء فلهم عمامة خضراء. طلب إليهم صديقي أن أجلس معهم ريثما يذهب للقاء (السيد) ورحبوا بي وأحاطوني بنصف دائرة وأنا أنظر في وجوههم وأستشعر براءتهم ونقاوة سريرتهم وأستحضر في ذهني حديث النبي صلي الله عليه وآله حيث قال: (يولد المرء علي الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) وقلت في نفسي: أو يشيعانه. [ صفحه 54] سألوني من أي البلاد أنا، قلت: من تونس، قالوا: هل يوجد عندكم حوزات علمية؟ أجبتهم: عندنا جامعات ومدارس، وانهالت علي الأسئلة من كل جانب، وكلها أسئلة مركزة ومحرجة، فماذا أقول لهؤلاء الأبرياء الذين يعتقدون أن في العالم الإسلامي كله حوزات علمية تدرس الفقه وأصول الدين والشريعة والتفسير، وما يدرون أن في عالمنا الإسلامي وفي بلداننا التي تقدمت وتطورت، أبدلنا المدارس القرآنية بروضات للأطفال يشرف عليها راهبات نصرانيات فهل أقول لهم إنهم ما زالوا (متخلفين) بالنسبة إلينا؟. وسألني أحدهم: ما هو المذهب المتبع في تونس؟ قلت: المذهب المالكي، قال: ألا تعرفون المذهب الجعفري؟ فقلت: خير إن شاء الله، ما هذا الاسم الجديد؟ لا، نحن لا نعرف غير المذاهب الأربعة وما عداها فليس من الإسلام في شئ. وابتسم قائلا: عفوا، أن المذهب الجعفري هو محض الإسلام، ألم تعرف بأن الإمام أبا حنيفة تتلمذ علي يد الإمام جعفر الصادق؟ وفي ذلك يقول أبو حنيفة: (لولا السنتان لهلك النعمان)، سكت ولم أبد جوابا، فقد أدخل علي اسما جديدا ما سمعت به قبل ذلك اليوم ولكني حمدت الله أنه - أي إمامهم جعفر الصادق

- لم يكن أستاذا للإمام مالك وقلت نحن مالكية ولسنا أحنافا. فقال: أن المذاهب الأربعة أخذ بعضهم عن بعض فأحمد بن حنبل أخذ عن الشافعي والشافعي أخذ عن مالك وأخذ مالك عن أبي حنيفة وأبو حنيفة أخذ عن جعفر الصادق وعلي هذا فكلهم تلاميذ لجعفر بن محمد، وهو أول من فتح جامعة إسلامية في مسجد جده رسول الله وقد تتلمذ علي يديه أكثر من أربعة آلاف محدث وفقيه، وعجبت لهذا الصبي الذكي الذي يحفظ ما يقول مثل ما يحفظ أحدنا سورة من القرآن، وقد أدهشني أكثر عندما كان يسرد علي بعض المصادر التاريخية التي يحفظ عدد أجزائها وأبوابها، وقد استرسل معي في الحديث وكأنه أستاذ يعلم تلميذه، وشعرت بالضعف أمامه، وتمنيت لو أني خرجت مع صديقي ولم أبق مع الصبيان، فما سألني أحدهم عن شئ يخص الفقه أو التاريخ إلا وعجزت عن الجواب ; سألني من أقلد من الأئمة؟ قلت: الإمام مالك! [ صفحه 55] قال: كيف تقلد ميتا بينك وبينه أربعة عشر قرنا، فإذا أردت أن تسأله الآن عن مسألة مستحدثة فهل يجيبك؟ فكرت قليلا وقلت: وأنت جعفرك مات أيضا منذ أربعة عشر قرنا فمن تقلد؟ أجاب بسرعة هو والباقون من الصبية: نحن نقلد السيد الخوئي فهو إمامنا. ولم أفهم أكان الخوئي أعلم أم جعفر الصادق، وبقيت معهم أحاول تغيير الموضوع فكنت أسألهم عن أي شئ يلهيهم عن مسألتي فسألتهم عن عدد سكان النجف وكم تبعد النجف عن بغداد وهل يعرفون بلدانا أخري غير العراق، وكلما أجابوا أعددت لهم سؤالا غيره حتي أشغلهم عن سؤالي لأني عجزت وشعرت بالقصور، ولكن هيهات أن أعترف لهم وإن كنت في داخلي معترفا إذ أن ذلك المجد والعز

والعلم الذي ركبني في مصر تبخر هنا وذاب، خصوصا بعد لقاء هؤلاء الصبيان عرفت الحكمة القائلة: فقل لمن يدعي في العلم فلسفة عرفت شيئا وغابت عنك أشياء وتصورت أن عقول هؤلاء الصبيان أكبر من عقول أولئك المشايخ الذين قابلتهم في الأزهر وأكبر من عقول علمائنا الذين عرفتهم في تونس. ودخل السيد الخوئي ومعه كوكبة من العلماء عليهم هيبة ووقار، وقام الصبيان وقمت معهم، وتقدموا من (السيد) يقبلون يده، وبقيت مسمرا في مكاني، ما إن جلس (السيد) حتي جلس الجميع وبدأ يحييهم بقوله: (مساكم الله بالخير) يقولها لكل واحد منهم فيجيبه بالمثل حتي وصل دوري فأجبت كما سمعت، بعدها أشار علي صديقي الذي تكلم مع (السيد) همسا، بأن أدنو من (السيد) وأجلسني علي يمينه وبعد التحية قال لي صديقي: أحك للسيد ماذا تسمعون عن الشيعة في تونس. فقلت يا أخي كفانا من الحكايات التي نسمعها من هنا وهناك، والمهم هو أن أعرف بنفسي ماذا يقول الشيعة، وعندي بعض الأسئلة أريد الجواب عنها بصراحة. [ صفحه 56] فألح علي صديقي وأصر علي أن أروي (للسيد) ما هو اعتقادنا في الشيعة، قلت: الشيعة عندنا هم أشد علي الإسلام من اليهود والنصاري لأن هؤلاء يعبدون الله ويؤمنون برسالة موسي (ع)، بينما نسمع عن الشيعة أنهم يعبدون عليا ويقدسونه، ومنهم فرقة يعبدون الله ولكنهم ينزلون عليا بمنزلة رسول الله ورويت قصة جبريل كيف أنه خان الأمانة حسب ما يقولون وبدلا من أداء الرسالة إلي علي أداها إلي محمد صلي الله عليه وآله. أطرق (السيد) رأسه هنيهة ثم نظر إلي وقال: نحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلي الله عليه وعلي آله الطيبين الطاهرين، وما علي

إلا عبد من عبيد الله والتفت إلي بقية الجالسين قائلا ومشيرا إلي: أنظروا إلي هؤلاء الأبرياء كيف تغلطهم الإشاعات الكاذبة، وهذا ليس بغريب فقد سمعت أكثر من ذلك من أشخاص آخرين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم التفت إلي وقال: هل قرأت القرآن؟ قلت: حفظت نصفه ولم أتخط العاشرة من عمري. قال: هل تعرف أن كل الفرق الإسلامية علي اختلاف مذاهبها متفقة علي القرآن الكريم، فالقرآن الموجود عندنا هو نفسه موجود عندكم. قلت نعم هذا أعرفه. قال: إذا ألم تقرأ قول الله سبحانه وتعالي: (وما محمد إلا رسول، قدخلت من قبله الرسل) [13] . وقوله أيضا: (محمد رسول الله والذين معه أشداء علي الكفار) [14] . وقوله: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) [15] . [ صفحه 57] قلت بلي أعرف هذه الآيات قال: فأين هو علي؟ إذا كان قرآننا يقول بأن محمدا هو رسول الله فمن أين جاءت هذه الفرية؟ سكت ولم أجد جوابا، وأضاف يقول: وأما خيانة جبريل (حاشاه) فهذه أقبح من الأولي، لأن محمد كان عمره أربعين سنة عندما أرسل الله سبحانه إليه جبريل (ع)، ولم يكن علي إلا صبيا صغيرا عمره ست أو سبع سنوات، فكيف يا تري يخطئ جبريل ولا يفرق بين محمد الرجل وعلي الصبي؟. ثم سكت طويلا بينما بقيت أفكر في أقواله وأنا مطرق أحلل وأتذوق هذا الحديث المنطقي الذي نفذ إلي أعماقي وأزال غشاوة عن بصري وتساءلت في داخلي كيف لم نحلل نحن بهذا المنطق. أضاف (السيد الخوئي) يقول: وأزيدك بأن الشيعة هي الفرقة الوحيدة من بين كل الفرق الإسلامية الأخري التي تقول بعصمة الأنبياء والأئمة، فإذا كان

أئمتنا سلام الله عليهم معصومين عن الخطأ وهم بشر مثلنا، فكيف بجبريل وهو ملك مقرب سماه رب العزة ب (الروح الأمين). قلت: فمن أين جاءت هذه الدعايات؟. قال: من أعداء الإسلام الذين يريدون تفريق المسلمين وتمزيقهم وضرب بعضهم ببعض وإلا فالمسلمون أخوة سواء كانوا شيعة أم سنة فهم يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئا، وقرآنهم واحد ونبيهم واحد وقبلتهم واحدة، ولا يختلف الشيعة عن السنة إلا في الأمور الفقهية كما يختلف أئمة المذاهب السنية أنفسهم في ما بينهم فمالك يخالف أبا حنيفة، وهذا يخالف الشافعي وهكذا.. قلت: إذا كل ما يحكي عنكم هو محض افتراء قال: أنت بحمد الله عاقل وتفهم الأمور وقد رأيت بلاد الشيعة وتجولت في أوساطهم فهل رأيت أو سمعت شيئا من تلك الأكاذيب؟ قلت: لا لم أسمع ولم أر إلا الخير وإني أحمد الله سبحانه أن عرفني بالأستاذ منعم في الباخرة، فهو السبب في مجيئي إلي العراق وقد عرفت أشياء كثيرة كنت أجهلها فضحك صديقي منعم قائلا: ومنها وجود قبر للإمام علي، فغمزته واستدركت قائلا: بل تعلمت أشياء جديدة حتي من هؤلاء الصبيان [ صفحه 58] وتمنيت لو أتيحت لي الفرصة وتعلمت مثلهم في الحوزة العلمية هنا. قال (السيد:) أهلا وسهلا، إن كنت تريد طلب العلم فالحوزة علي ذمتك، ونحن في خدمتك، ورحب الحاضرون بهذا الاقتراح وخصوصا صديقي منعم الذي تهلل وجهه. قلت: أنا متزوج وعندي ولدان: قال: نحن نتكفل بكل مستلزماتكم من سكن ومعاش وكل ما تحتاجون إليه والمهم هو طلب العلم، فكرت قليلا وقلت في نفسي ليس من المعقول أن أصبح تلميذا بعد ما قضيت خمس سنوات وأنا أستاذ أمارس التعليم وتربية النشء ; وليس من السهولة أن

أتخذ قرارا بمثل هذه السرعة. شكرت السيد الخوئي علي هذا العرض وقلت سوف أفكر في الموضوع بجد بعد رجوعي من العمرة بحول الله ولكني في حاجة إلي بعض الكتب، فقال السيد: أعطوه الكتب، ونهض جمع من العلماء وفتحوا عدة خزانات وما هي إلا لحظات حتي وجدت أمامي أكثر من سبعين مجلدا فكل واحد جاءني بدورة من الكتب وقال: هذه هديتي، ورأيت أنه لا يمكنني حمل هذا العدد الكبير معي خصوصا وأني متوجه إلي السعودية الذين يمنعون دخول أي كتاب إلي بلادهم خوفا من تفشي بعض العقائد التي تخالف مذهبهم ولكني ما أردت التفريط بهذه الكتب التي لم تر عيني مثلها في سابق حياتي. فقلت لصديقي وللحاضرين بأن طريقي طويل يمر بدمشق والأردن إلي السعودية وفي العودة سيكون أطول فسأمر بمصر وليبيا حتي الوصول إلي تونس، وزيادة علي ثقل الحمل فإن أغلب الدول تمنع دخول الكتب، فقال (السيد) أترك لنا عنوانك ونحن نتكفل بإرسالها إليك، واستحسنت هذا الرأي وأعطيته بطاقة شخصية بها عنواني في تونس، وشكرت فضله، ولما ودعته ونهضت للخروج، نهض معي قائلا: أسأل الله لك السلامة وإذا وقفت علي قبر جدي رسول الله فبلغه مني السلام وتأثر الحاضرون وتأثرت كثيرا وأنا أنظر إلي عينيه تدمعان، وقلت في نفسي حاشي لله أن يكون هذا من المخطئين حاشي لله أن [ صفحه 59] يكون هذا من الكاذبين، إن هيبته وعظمته وتواضعه تنبئ حقا أنه من سلالة الشرف، فما كان مني إلا أن أخذت يده وقبلتها رغم ممانعته. وقام الجميع لقيامي وسلموا علي، وتبعني بعض الصبية من الذين كانوا يجادلونني وطلبوا مني عنواني للمراسلة فأعطيتهم إياه. اتجهنا من جديد إلي الكوفة بدعوة أحد الذين كانوا في مجلس

السيد الخوئي وهو صديق منعم اسمه أبو شبر، نزلنا في بيته وسهرنا ليلة كاملة مع مجموعة من الشبان المثقفين وكان من بينهم بعض طلبة السيد محمد باقر الصدر فأشاروا علي بمقابلته وتعهدوا بأنهم سيرتبون لقائي مع حضرته في اليوم التالي، واستحسن صديقي منعم هذا الاقتراح ولكنه تأسف لعدم إمكانية حضوره لأن له شغلا في بغداد يستلزم حضوره، واتفقنا علي أن أبقي في بيت السيد أبو شبر ثلاثة أيام أو أربعة ريثما يعود منعم، الذي غادرنا بعد صلاة الفجر وقمنا نحن للنوم وقد استفدت كثيرا من طلبة العلوم الذين سهرت معهم وتعجبت من تنوع العلوم التي يتلقونها في الحوزة فهم زيادة علي العلوم الإسلامية من فقه وشريعة وتوحيد يدرسون العلوم الاقتصادية والعلوم الاجتماعية والسياسية، والتاريخ واللغات وعلوم الفلك وغير ذلك. [ صفحه 61]

لقاء مع السيد محمد باقر الصدر

اتجهت بصحبة السيد أبو شبر إلي بيت السيد محمد باقر الصدر وفي الطريق كان يلاطفني ويعطيني بسطة عن العلماء المشهورين وعن التقليد وغير ذلك، ودخلنا علي السيد محمد باقر الصدر في بيته وكان مليئا بطلبة العلوم وأغلبهم من الشبان المعممين وقام السيد يسلم علينا، وقدموني إليه فرحب بي كثيرا وأجلسني بجانبه وأخذ يسألني عن تونس والجزائر وعن بعض العلماء المشهورين أمثال الخضر حسين والطاهر بن عاشور وغيرهم، وأنست بحديثه ورغم الهيبة التي تعلوه والاحترام الذي يحوطه به جلساؤه، وجدت نفسي غير محرج وكأني أعرفه من قبل واستفدت من تلك الجلسة إذ كنت أسمع أسئلة الطلبة وأجوبة السيد عليها، وعرفت وقتها قيمة تقليد العلماء الأحياء الذين يجيبون عن كل الإشكالات مباشرة وبكل وضوح، وتيقنت أيضا من أن الشيعة مسلمون يعبدون الله وحده ويؤمنون برسالة نبينا محمد صلي الله عليه وآله وسلم، إذ كان

بعض الشك يراودني والشيطان يوسوس لي بأن ما شاهدته قبل هو تمثيل، وربما يكون ما يسمونه بالتقية، أي أنهم يظهرون ما لا يعتقدون، ولكن سرعان ما يزول الشك وتضمحل تلك الوساوس إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتفق كل من رأيتهم وسمعتهم وهم مئات علي هذا التمثيل ثم لماذا هذا التمثيل؟ ومن هو أنا، وما يهمهم من أمري حتي يستعملوا معي هذه التقية ثم هذه كتبهم القديمة التي كتبت منذ قرون والحديثة التي طبعت منذ شهور وكلها توحد الله وتثني علي رسوله [ صفحه 62] محمد كما قرأت ذلك في مقدماتها، وها أنا الآن في بيت السيد محمد باقر الصدر المرجع المشهور في العراق وفي خارج العراق وكلما ذكر اسم محمد صاح الجميع في صوت واحد: (اللهم صل علي محمد وآل محمد). وجاء وقت الصلاة وخرجنا إلي المسجد وكان بجوار البيت وصلي بنا السيد محمد باقر الصدر صلاة الظهر والعصر، وأحسست بأني أعيش وسط الصحابة الكرام فقد تخلل الصلاتين دعا رهيب من أحد المصلين، وكان له صوت شجي ساحر وبعدما أنهي الدعاء صاح الجميع (اللهم صل علي محمد وآل محمد) وكان الدعاء كله ثناء وتمجيدا علي الله جل جلاله ثم علي محمد وآله الطيبين الطاهرين. وجلس السيد في المحراب بعد الصلاة. وأخذ بعضهم يسلمون عليه ويسألونه سرا وعلانية وكان يجيب سرا عن بعض الأسئلة التي فهمت أنها تتطلب الكتمان لأنها تتعلق بشؤون خاصة، وكان السائل إذا حصل علي الجواب يقبل يده وينصرف، هنيئا لهم بهذا العالم الجليل الذي يحل مشاكلهم ويعيش همومهم. رجعنا بصحبة السيد الذي أولاني من الرعاية والعناية وحسن الضيافة ما أنساني أهلي وعشيرتي وأحسست بأني لو بقيت معه شهرا واحدا

لتشيعت لحسن أخلاقه وتواضعه وكرم معاملته، فلم أنظر إليه إلا وابتسم في وجهي وابتدرني بالكلام، وسألني هل ينقصني شئ، فكنت لا أغادره طيلة الأيام الأربعة إلا للنوم، رغم كثرة زواره والعلماء الوافدين عليه من كل الأقطار، فقد رأيت السعوديين هناك ولم أكن أتصور بأن في الحجاز شيعة، وكذلك علماء من البحرين ومن قطر ومن الإمارات ومن لبنان وسوريا وإيران وأفغانستان ومن تركيا ومن إفريقيا السوداء وكان السيد يتكلم معهم ويقضي حوائجهم ولا يخرجون من عنده إلا وهم فرحون مسرورون، ولا يفوتني أن أذكر هنا قضية حضرتها وأعجبت في كيفية فصلها، وأذكرها للتاريخ لما لها من أهمية بالغة حتي يعرف المسلمون ماذا خسروا بتركهم حكم الله. جاء إلي السيد محمد باقر الصدر أربعة رجال أظنهم عراقيين عرفت ذلك [ صفحه 63] من لهجتهم، كان أحدهم ورث مسكنا من جده الذي توفي منذ سنوات وباع ذلك المسكن إلي شخص ثان كان هو الآخر حاضرا، وبعد سنة من تاريخ البيع جاء أخوان، وأثبتا أنهما وارثان شرعيان للميت، وجلس أربعتهم أمام السيد وأخرج كل واحد منهم أوراقه وما عنده من حجج وبعد ما قرأ السيد كل أوراقهم وتحدث معهم بضع دقائق حكم بينهم بالعدل، فأعطي الشاري حقه في التصرف بالمسكن وطلب من البائع أن يدفع للأخوين نصيبهما من الثمن المقبوض، وقام الجميع يقبلون يده، ويتعانقون، ودهشت لهذا ولم أصدق، وسألت أبا شبر، هل انتهت القضية؟ قال: (خلاص كل أخذ حقه)، سبحان الله! بهذه السهولة، وبهذا الوقت الوجيز، بضع دقائق فقط كافية لحسم النزاع؟ إن مثل هذه القضية في بلادنا تستغرق عشر سنوات علي أقل تقدير ويموت بعضهم، ويواصل أولاده بعده تتبع القضية ويصرفون رسوم المحكمة والمحامين ما يكلفهم في

أغلب الأحيان ثمن المسكن نفسه، ومن المحكمة الابتدائية إلي محكمة الاستئناف ثم إلي التعقيب وفي النهاية يكون الجميع غير راضين بعد ما يكونون قد أنهكوا بالتعب والمصاريف والرشوة، والعداوة والبغضاء بين عشائرهم وذويهم، أجابني أبو شبر، وعندنا أيضا نفس الشئ أو أكثر فقلت: كيف؟ قال: إذا رفع الناس شكواهم إلي المحاكم الحكومية، فيكون مثل ما حكيت أما إذا كانوا يقلدون المرجع الديني ويلتزمون بالأحكام الإسلامية، فلا يرفعون قضاياهم إلا إليه فيفصلها في بضع دقائق كما رأيت، ومن أحسن من الله حكما لقوم يعقلون؟ والسيد الصدر لم يأخذ منهم فلسا واحدا، ولو ذهبوا إلي المحاكم الرسمية لتعرت رؤوسهم. ضحكت لهذا التعبير الذي هو سار عندنا أيضا وقلت: سبحان الله! أنا لا زلت مكذبا ما رأيت، ولولا ما شاهدته بعيني ما كنت لأصدق أبدا، فقال أبو شبر: لا تكذب يا أخي فهذه بسيطة بالنسبة إلي غيرها من القضايا التي هي أشد تعقيدا وفيها دماء، ومع ذلك يحكم فيها المراجع ويفصلونها في سويعات، فقلت متعجبا: إذا عندكم في العراق حكومتان، حكومة الدولة وحكومة رجال الدين، فقال: كلا عندنا حكومة الدولة فقط، ولكن المسلمين من الشيعة الذين [ صفحه 64] يقلدون مراجع الدين، لا علاقة لهم بالحكومة، لأنها ليست حكومة إسلامية فهم خاضعون لها بحكم المواطئية والضرائب والحقوق المدنية والأحوال الشخصية، فلو تخاصم مسلم ملتزم مع أحد المسلمين غير الملتزمين فسوف يضطر حتما لرفع قضيته إلي محاكم الدولة، لأن هذا الأخير لا يرضي بتحكيم رجال الدين - أما إذا كان المتخاصمان متلزمين فلا إشكال هناك، وما يحكم به المرجع الديني نافذ علي الجميع. وعلي هذا الأساس تحل القضايا التي يحكم فيها المرجع في يومها بينما تظل القضايا الأخري شهورا

بل أعواما. إنها حادثة حركت في نفسي شعور الرضي بأحكام الله سبحانه وتعالي وفهمت معني قوله تعالي في كتابه المجيد: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون،. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون..) [16] صدق الله العظيم. كما حركت في نفسي شعور النقمة والثورة علي هؤلاء الظلمة الذين يبدلون أحكام الله العادلة بأحكام وضعية بشرية جائرة، ولا يكفيهم كل ذلك بل ينتقدون بكل وقاحة وسخرية الأحكام الآلهية، ويقولون بأنها بربرية ووحشية لأنها تقيم الحدود فتقطع يد السارق وترجم الزاني، وتقتل القاتل، فمن أين جاءتنا هذه النظريات الغريبة عنا وعن تراثنا، لا شك إنها من الغرب ومن أعداء الإسلام الذين يدركون أن تطبيق أحكام الله يعني القضاء عليهم نهائيا، لأنهم سراق، خونة، زناة، مجرمون وقتلة. ولو طبقت أحكام الله عليهم لاسترحنا من هؤلاء جميعا وقد دارت بيني وبين السيد محمد باقر الصدر في تلك الأيام حوارات عديدة وكنت أسأله عن كل [ صفحه 65] صغيرة وكبيرة من خلال ما عرفته من الأصدقاء الذين حدثوني عن كثير من عقائدهم وما يقولونه في الصحابة رضي الله عنهم وما يعتقدونه في الأئمة الاثني عشر علي وبنيه، وغير ذلك من الأشياء التي نخالفهم فيها. سألت السيد الصدر عن الإمام علي، ولماذا يشهدون له في الآذان بأنه ولي الله؟ أجاب قائلا: إن أمير المؤمنين عليا سلام الله عليه وهو عبد من عبيد الله الذين اصطفاهم الله وشرفهم ليواصلوا حمل أعباء الرسالة بعد أنبيائه وهؤلاء هم أوصياء الأنبياء، فلكل نبي وصي وعلي بن أبي طالب هو وصي محمد، ونحن نفضله علي سائر الصحابة بما فضله الله ورسوله ولنا

في ذلك أدلة عقلية ونقلية من القرآن والسنة وهذه الأدلة لا يمكن أن يتطرق إليها الشك لأنها متواترة وصحيحة من طرقنا وحتي من طرق أهل السنة والجماعة، وقد ألف في ذلك علماؤنا العديد من الكتب، ولما كان الحكم الأموي يقوم علي طمس هذه الحقيقة ومحاربة أمير المؤمنين علي وأبنائه وقتلهم، ووصل بهم الأمر إلي سبه ولعنه علي منابر المسلمين وحمل الناس علي ذلك بالقهر والقوة، فكان شيعته وأتباعه رضي الله عنهم يشهدون أنه ولي الله، ولا يمكن للمسلم أن يسب ولي الله، وذلك تحديا منهم للسلطة الغاشمة حتي تكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وحتي تكون حافزا تاريخيا لكل المسلمين عبر الأجيال فيعرفون حقيقة علي وباطل أعدائه. ودأب فقهاؤنا علي الشهادة لعلي بالولاية في الأذان والإقامة استحبابا، لا بنية أنها جزء من الآذان أو الإقامة فإذا نوي المؤذن أو المقيم أنها جزء بطل أذانه وإقامته. والمستحبات في العبادات والمعاملات لا تحصي لكثرتها والمسلم يثاب علي فعلها ولا يعاقب علي تركها، وقد ورد علي سبيل المثال أنه يذكر استحبابا بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، بأن يقول المسلم، وأشهد أن الجنة حق والنار حق وأن الله يبعث من في القبور. قلت: إن علماءنا علمونا: أن أفضل الخلفاء علي التحقيق سيدنا أبو بكر الصديق، ثم سيدنا عمر الفاروق ثم سيدنا عثمان ثم سيدنا علي رضي الله تعالي [ صفحه 66] عنهم أجمعين؟ سكت السيد قليلا، ثم أجابني. لهم أن يقولوا ما يشاؤون، ولكن هيهات أن يثبتوا ذلك بالأدلة الشرعية، ثم إن هذا القول يخالف صريح ما ورد في كتبهم الصحيحة المعتبرة، فقد جاء فيها: أن أفضل الناس أبو بكر ثم عمر ثم عثمان

ولا وجود لعلي بل جعلوه من سوقة الناس وإنما ذكره المتأخرون استحبابا لذكر الخلفاء الراشدين. سألته بعد ذلك عن التربة التي يسجدون عليها والتي يسمونها (بالتربة الحسينية) أجاب قائلا: يجب أن يعرف قبل كل شئ أننا نسجد علي التراب، ولا نسجد للتراب، كما يتوهم البعض الذين يشهرون بالشيعة، فالسجود هو لله سبحانه وتعالي وحده، والثابت عندنا وعند أهل السنة أيضا أن أفضل السجود علي الأرض أو ما أنبتت الأرض من غير المأكول، ولا يصح السجود علي غير ذلك، وقد كان رسول الله صلي الله عليه وآله يفترش التراب وقد اتخذ له خمرة من التراب والقش يسجد عليها، وعلم أصحابه رضوان الله عليهم فكانوا يسجدون علي الأرض، وعلي الحصي، ونهاهم أن يسجد أحدهم علي طرف ثوبه، وهذا من المعلومات بالضرورة عندنا. وقد اتخذ الإمام زين العابدين وسيد الساجدين علي بن الحسين (عليهما السلام) تربة من قبر أبيه أبي عبد الله باعتبارها تربة زكية طاهرة سالت عليها دماء سيد الشهداء، واستمر علي ذلك شيعته إلي يوم الناس هذا، فنحن لا نقول بأن السجود لا يصح إلا عليها، بل نقول بأن السجود يصح علي أي تربة أو حجرة طاهرة كما يصح علي الحصير والسجاد المصنوع من سعف النخيل وما شابه ذلك. قلت - علي ذكر سيدنا الحسين رضي الله عنه - لماذا يبكي الشيعة ويلطمون ويضربون أنفسهم حتي تسيل الدماء وهذا محرم في الإسلام، فقد قال صلي الله عليه وآله: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوي الجاهلية). أجاب السيد قائلا: الحديث صحيح لا شك فيه ولكنه لا ينطبق علي مأتم [ صفحه 67] أبي عبد الله، فالذي ينادي بثأر الحسين ويمشي علي درب الحسين دعوته

ليست دعوي جاهلية، ثم إن الشيعة بشر فيهم العالم وفيهم الجاهل ولديهم عواطف، فإذا كانت عواطفهم تطغي عليهم في ذكري استشهاد أبي عبد الله وما جري عليه وعلي أهله وأصحابه من قتل وهتك وسبي، فهم مأجورون لأن نواياهم كلها في سبيل الله، والله سبحانه وتعالي يعطي العباد علي قدر نواياهم، وقد قرأت منذ أسبوع التقارير الرسمية للحكومة المصرية بمناسبة موت جمال عبد الناصر، تقول هذه التقارير الرسمية بأنه سجل أكثر من ثماني حالات انتحارية قتل أصحابها أنفسهم عند سماع النبأ فمنهم من رمي نفسه من أعلي العمارة ومنهم من ألقي بنفسه تحت القطار وغير ذلك، وأما المجروحون والمصابون فكثيرون، وهذه أمثلة أذكرها للعواطف التي تطغي علي أصحابها وإذا كان الناس وهم مسلمون بلا شك يقتلون أنفسهم من أجل موت جمال عبد الناصر وقد مات موتا طبيعيا، فليس من حقنا - بناء علي مثل هذا - أن نحكم علي أهل السنة بأنهم مخطئون. وليس لإخواننا من أهل السنة أن يحكموا علي إخوانهم من الشيعة بأنهم مخطئون في بكائهم علي سيد الشهداء، وقد عاشوا محنة الحسين وما زالوا يعيشونها حتي اليوم، وقد بكي رسول الله نفسه علي ابنه الحسين وبكي جبريل لبكائه. - قلت ولماذا يزخرف الشيعة قبور أوليائهم بالذهب والفضة وهو محرم في الإسلام؟. أجاب السيد الصدر: ليس ذلك منحصرا بالشيعة، ولا هو حرام فها هي مساجد إخواننا من أهل السنة سواء في العراق أو في مصر أو في تركيا أو غيرها من البلاد الإسلامية مزخرفة بالذهب والفضة وكذلك مسجد رسول الله في المدينة المنورة وبيت الله الحرام في مكة المكرمة الذي يكسي في كل عام بحلة ذهبية جديدة يصرف فيها الملايين، فليس ذلك منحصرا بالشيعة.

قلت: إن علماء السعودية يقولون: إن التمسح بالقبور ودعوة الصالحين والتبرك بهم، شرك بالله، فما هو رأيكم؟ أجاب السيد محمد باقر الصدر: إذا كان التمسح بالقبور ودعوة أصحابها بنية أنهم يضرون وينفعون، فهذا [ صفحه 68] شرك، لا شك فيه: وإنما المسلمون موحدون ويعلمون أن الله وحده هو الضار والنافع وإنما يدعون الأولياء والأئمة (عليهم السلام) ليكونوا وسيلتهم إليه سبحانه وهذا ليس بشرك، والمسلمون سنة وشيعة متفقون علي ذلك من زمن الرسول إلي هذا اليوم، عدا الوهابية وهم علماء السعودية الذين ذكرت والذين خالفوا إجماع المسلمين بمذهبهم الجديد الذي ظهر في هذا القرن، وقد فتنوا المسلمين بهذا الاعتقاد وكفروهم وأباحوا دماءهم، فهم يضربون الشيوخ من حجاج بيت الله الحرام لمجرد قول أحدهم: السلام عليك يا رسول الله، ولا يتركون أحدا يتمسح علي ضريحه الطاهر، وقد كان لهم مع علمائنا مناظرات، ولكنهم أصروا علي العناد واستكبروا استكبارا. فإن السيد شرف الدين من علماء الشيعة لما حج بيت الله الحرام في زمن عبد العزيز آل سعود، كان من جملة العلماء المدعوين إلي قصر الملك لتهنئته بعيد الأضحي كما جرت العادة هناك ولما وصل الدور إليه وصافح الملك قدم إليه هدية وكانت مصحفا ملفوفا في جلد، فأخذه الملك وقبله ووضعه علي جبهته تعظيما له وتشريفا، فقال له السيد شرف الدين عندئذ: أيها الملك لماذا تقبل الجلد وتعظمه وهو جلد ماعز؟ أجاب الملك، أنا قصدت القرآن الكريم الذي بداخله ولم أقصد تعظيم الجلد! فقال السيد شرف الدين عند ذلك: أحسنت أيها الملك، فكذلك نفعل نحن عندما نقبل شباك الحجرة النبوية أو بابها فنحن نعلم أنه حديد لا يضر ولا ينفع، ولكننا نقصد ما وراء الحديد وما وراء الأخشاب نحن

نقصد بذلك تعظيم رسول الله صلي الله عليه وآله، كما قصدت أنت القرآن بتقبيلك جلد الماعز الذي يغلفه. فكبر الحاضرون إعجابا له وقالوا: صدقت، واضطر الملك وقتها إلي السماح للحجاج أن يتبركوا بآثار الرسول حتي جاء الذي بعده فعاد إلي القرار الأول - فالقضية ليست خوفهم أن يشرك الناس بالله، بقدر ما هي قضية سياسية قامت علي مخالفة المسلمين وقتلهم لتدعيم ملكهم وسلطتهم علي المسلمين والتاريخ أكبر شاهد علي ما فعلوه في أمة محمد. وسألته عن الطرق الصوفية فأجابني بإيجاز: بأن فيها ما هو إيجابي وفيها ما [ صفحه 69] هو سلبي، فالإيجابي منها تربية النفس وحملها علي شظف العيش والزهد في ملذات الدنيا الفانية، والسمو بها إلي عالم الأرواح الزكية، أما السلبي منها، فهو الانزواء والهروب من واقع الحياة وحصر ذكر الله في الأعداد اللفظية وغير ذلك، والإسلام - كما هو معلوم - يقر الإيجابيات ويطرح السلبيات ويحق لنا أن نقول بأن مبادئ الإسلام وتعاليمه كلها إيجابية. [ صفحه 71]

الشك والحيرة

كانت أجوبة السيد محمد باقر الصدر، واضحة ومقنعة ولكن أني لها أن تغوص في أعماق واحد مثلي قضي خمسة وعشرين عاما من عمره علي مبدأ تقديس الصحابة واحترامهم وخصوصا الخلفا الراشدين الذين أمرنا رسول الله بالتمسك بسنتهم والسير علي هديهم، وعلي رأس هؤلاء سيدنا أبو بكر الصديق وسيدنا عمر الفاروق، وإني لم أسمع لهما ذكرا منذ قدمت العراق، وإنما سمعت أسماء أخري غريبة عني أجهلها تماما، وأئمة بعدد اثني عشر إماما، وادعاء بأن رسول الله صلي الله عليه وآله قد نص علي الإمام علي بالخلافة قبل وفاته، كيف لي أن أصدق ذلك. أي أن يتفق المسلمون وهم الصحابة الكرام خير البشر بعد رسول

الله ويتصافقوا ضد الإمام علي كرم الله وجهه، وقد علمونا منذ نعومة أظافرنا بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحترمون الإمام عليا ويعرفون حقه فهو زوج فاطمة الزهراء وأبو الحسن والحسين وباب مدينة العلم، كما يعرف سيدنا علي حق أبي بكر الصديق الذي أسلم قبل الناس جميعا وصاحب رسول الله في الغار ذكره الله تعالي في القرآن، وقد ولاه رسول الله إمامة الصلاة في مرضه وقد قال صلي الله عليه وآله: لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكل ذلك اختاره المسلمون خليفة لهم، كما يعرف الإمام علي حق سيدنا عمر الذي أعز الله به الإسلام وسماه رسول الله بالفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل كما يعرف حق سيدنا عثمان [ صفحه 72] الذي استحت منه ملائكة الرحمن والذي جهز جيش العسرة وسماه رسول الله بذي النورين، فكيف يجهل إخواننا الشيعة كل هذا أو يتجاهلونه ويجعلون من هؤلاء أشخاصا عاديين تميل بهم الأهواء والأطماع الدنيوية عن اتباع الحق فيعصون أوامر الرسول بعد وفاته وهم الذين كانوا يتسابقون لتنفيذ أوامره فيقتلون أولادهم وآباءهم وعشيرتهم في سبيل عزة الإسلام ونصرته، والذي يقتل أباه وولده طاعة لله ورسوله لا يمكن أن تغره أطماع دنيوية زائلة هي اعتلاء منصة الخلافة فيتجاهل أمر رسول الله ويتركه ظهريا. نعم من أجل كل هذا ما كنت لأصدق الشيعة في كل ما يقولون رغم أني اقتنعت بأمور كثيرة، وبقيت بين الشك والحيرة، الشك الذي أدخله علماء الشيعة في عقلي لأن كلامهم معقول ومنطقي، والحيرة التي غمرتني فلم أصدق أن الصحابة رضي الله تعالي عنهم ينزلون إلي هذا المستوي الأخلاقي فيصبحون بشرا عاديين مثلنا، لم تصقلهم أنوار الرسالة ولم يهذبهم الهدي المحمدي؟ يا

إلهي كيف يكون ذلك؟ أيمكن أن يكون الصحابة علي هذا المستوي الذي يقول به الشيعة؟ والمهم هو أن هذا الشك وهذه الحيرة هما بداية الوهن وبداية الاعتراف بأن هناك أمورا مستورة لا بد من كشفها للوصول إلي الحقيقة. جاء صديقي منعم وسافرنا إلي كربلاء، وهناك عشت محنة سيدنا الحسين كما يعيشها شيعته وعلمت وقتئذ بأن سيدنا الحسين لم يمت، فالناس يتزاحمون ويتراصون حول ضريحه كالفراشات ويبكون بحرقة ولهفة لم أشهد لهما مثيلا، فكأن الحسين استشهد الآن، وسمعت الخطباء هناك يثيرون شعور الناس بسردهم لحادثة كربلا في نواح ونحيب، ولا يكاد السامع لهم أن يمسك نفسه ويتماسك حتي ينهار، فقد بكيت وبكيت وأطلقت لنفسي عنانها وكأنها كانت مكبوتة، وأحسست براحة نفسية كبيرة ما كنت أعرفها قبل ذلك اليوم، وكأني كنت في صفوف أعداء الحسين وانقلبت فجأة إلي أصحابه وأتباعه الذين يفدونه بأرواحهم، وكان الخطيب يستعرض قصة الحر وهو أحد القادة المكلفين بقتال الحسين، ولكنه وقف في المعركة يرتعش كالسعفة ولما سأله بعض أصحابه: أخائف أنت من الموت أجابه الحر، لا والله ولكنني أخير نفسي بين الجنة والنار ثم [ صفحه 73] همز جواده وانطلق إلي الحسين قائلا: هل من توبة يا بن رسول الله، ولم أتمالك عند سماع هذا أن سقطت علي الأرض باكيا وكأني أمثل دور الحر وأطلب من الحسين: هل من توبة يا ابن رسول الله، سامحني يا ابن رسول الله، وكان صوت الخطيب مؤثرا، وارتفعت أصوات الناس بالبكاء والنحيب عند ذلك سمع صديقي صياحي وانكب علي معانقا، باكيا وضمني إلي صدره كما تضم الأم ولدها وهو يردد يا حسين، يا حسين، كانت دقائق ولحظات عرفت فيها البكاء الحقيقي وأحسست وكان دموعي غسلت قلبي

وكل جسدي من الداخل وفهمت وقتها حديث الرسول: (لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا). بقيت كامل اليوم مقبوض النفس وقد حاول صديقي تسليتي وتعزيتي وقدم إلي بعض المرطبات ولكن شهيتي انقطعت تماما، وبقيت أسأله أن يعيد علي قصة مقتل سيدنا الحسين، لأني ما كنت أعرف منها قليلا أو كثيرا غاية ما هناك أن شيوخنا إذا حدثونا عن ذلك يقولون أن المنافقين أعداء الإسلام الذين قتلوا سيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي هم الذين قتلوا سيدنا الحسين، ولا نعرف غير هذا الاقتضاب بل إننا نحتفل بيوم عاشوراء علي أنه من الأعياد الإسلامية وتخرج فيه زكاة الأموال وتطبخ فيه شتي المأكولات وأنواع الأطعمة الشهية، ويطوف الصبيان علي الكبار ليعطوهم بعض النقود لشراء الحلويات والألعاب. صحيح أن هناك بعض التقاليد والعادات في بعض القري منها أنهم يشعلون النار، ولا يعملون في ذلك اليوم ولا يتزوجون ولا يفرحون، ولكن نسميها عادات وتقاليد بدون ذكر أي تفسير لها، ويروي علماؤنا في ذلك أحاديث عن فضائل يوم عاشوراء وما فيه من بركات ورحمات أنه أمر عجيب!. زرنا بعد ذلك ضريح العباس أخي الحسين، ولم أكن أعرف من هو وقد روي لي صديقي قصة بطولته وشجاعته، كما التقينا بالعديد من العلماء الأفاضل الذين لا أتذكر أسماءهم بالتفصيل سوي بعض الألقاب، كبحر العلوم والسيد الحكيم وكاشف الغطاء وآل ياسين والطباطبائي والفيروزآبادي وأسد حيدر وغيرهم ممن تشرفت بمقابلتهم. [ صفحه 74] والحق يقال إنهم علماء أتقياء، تعلوهم هيبة ووقار، والشيعة يحترمونهم كثيرا ويؤدون إليهم خمس أموالهم، والتي بها يديرون شؤون الحوزات العلمية ويؤسسون المدارس والمطابع وينفقون علي طلاب العلم الوافدين من كل البلاد الإسلامية، إنهم مستقلون ولا يرتبطون بالحكام من قريب أو

من بعيد كما هو شأن علمائنا الذين لا يفتون ولا يتكلمون إلا برأي السلطة التي تضمن معاشهم، وتعزل من تشاء منهم وتنصب من تشاء. إنه عالم جديد بالنسبة إلي اكتشفته، أو كشفه الله لي وقد أنست به بعد ما كنت أنفر منه وانسجمت معه بعد ما كنت أعاديه، وقد أفادني هذا العالم أفكارا جديدة وبعث في حب الاطلاع والبحث والدراسة حتي أدرك الحقيقة المنشودة التي طالما راودتني عندما قرأت الحديث الشريف الذي قال فيه رسول الله صلي الله عليه وآله: (افترقت بنو إسرائيل إلي إحدي وسبعين فرقة وافترقت النصاري إلي اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي إلي ثلاثة وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة). فلا كلام لنا مع الأديان المتعددة التي يدعي كل منها أنه هو الحق وغيره الباطل، ولكن أعجب واندهش وأحتار عند قراءة هذا الحديث، وليس عجبي واندهاشي وحيرتي للحديث نفسه ولكن للمسلمين الذي يقرؤون هذا الحديث ويرددونه في خطبهم ويمرون عليه مر الكرام بدون تحليل، ولا بحث في مدلوله لكي يتبينوا الفرقة الناجية من الفرق الضالة. والغريب أن كل فرقة تدعي أنها هي وحدها الناجية وقد جاء في ذيل الحديث: (قالوا من هم يا رسول الله؟ قال من هم علي ما أنا عليه أنا وأصحابي) فهل هناك فرقة إلا وهي متمسكة بالكتاب والسنة، وهل هناك فرقة إسلامية تدعي غير هذا؟ فلو سئل الإمام مالك أو أبو حنيفة أو الإمام الشافعي أو أحمد بن حنبل فهل يدعي أي واحد منهم إلا التمسك بالقرآن والسنة الصحيحة؟. فهذه المذاهب السنية وإذا أضفنا إليها الفرق الشيعية التي كنت أعتقد [ صفحه 75] بفسادها وانحرافها، فها هي الأخري تدعي أيضا أنها متمسكة بالقرآن والسنة الصحيحة المنقولة

عن أهل البيت الطاهرين، وأهل البيت أدري بما فيه كما يقولون. فهل يمكن أن يكونوا كلهم علي حق كما يدعون؟ وهذا غير ممكن لأن الحديث الشريف يفيد نقيض ذلك، اللهم إلا إذا كان الحديث موضوعا، مكذوبا، وهذا لا سبيل إليه لأن الحديث متواتر عند السنة والشيعة، أم أن الحديث لا معني له ولا مدلول؟ وحاشي لرسول الله صلي الله عليه وآله أن يقول شيئا لا معني له ولا مدلول وهو الذي لا ينطق عن الهوي وكل أحاديثه حكمة وعبر. إذا لم يبق أمامنا إلا الاعتراف بأن هناك فرقة واحدة علي الحق وما بقي فهو باطل، فالحديث يبعث علي الحيرة كما يبعث علي البحث والتنقيب لمن يريد لنفسه النجاة. ومن أجل هذا داخلني الشك والحيرة بعد لقائي بالشيعة فمن يدري لعلهم يقولون حقا وينطقون صدقا! ولماذا لا أبحث ولا أنقب. وقد كلفني الإسلام بقرآنه وسنته أن أبحث وأقارن وأتبين قال الله تعالي: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) [17] وقال أيضا: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب) [18] . وقد قال رسول الله صلي الله عليه وآله: (ابحث عن دينك حتي يقال عنك مجنون) فالبحث والمقارنة واجب شرعي علي كل مكلف. بهذا القرار وبهذه العزيمة الصادقة واعدت نفسي وأصدقائي من الشيعة في العراق وأنا أودعهم معانقا ومتأسفا لفراقهم فقد أحببتهم وأحبوني، وقد تركت أحباء أعزاء مخلصين ضحوا بأوقاتهم من أجلي لا لشئ كما قالوا لا خوفا ولا طمعا، وإنما ابتغاء مرضاة الله سبحانه فقد ورد في الحديث الشريف (لأن يهدي [ صفحه 76] الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس). وغادرت العراق بعد قضاء عشرين يوما في

ربوع الأئمة وشيعتهم، مرت كأنها حلم لذيذ يتمني النائم أن لا يستيقظ حتي يستوفيه، غادرت العراق متأسفا علي قصر المدة، متأسفا علي فراق الأفئدة التي أهوي إليها والقلوب التي تنبض بمحبة أهل البيت وتوجهت للحجاز قاصدا بيت الله الحرام وقبر سيد الأولين والآخرين صلي الله عليه وعلي آله الطيبين الطاهرين. [ صفحه 77]

السفر إلي الحجاز

وصلت إلي جدة والتقيت صديقي البشير الذي فرح بقدومي وأنزلني في بيته، وأكرمني غاية الاكرام، وكان يقضي أوقات فراغه معي في النزهة والمزارات بسيارته، وذهبنا للعمرة معا وعشنا أياما كلها عبادة وتقوي، واعتذرت له عن تأخري لبقائي في العراق وحكيت له عن اكتشافي الجديد أو الفتح الجديد، وكان متفتحا ومطلعا فقال: فعلا أنا أسمع أن فيهم بعض العلماء الكبار وعندهم ما يقولون، ولكن عندهم فرقا كثيرة كافرة منحرفة يخلقون لنا مشاكل متعددة في كل موسم للحج. سألته ما هي هذه المشاكل التي يخلقونها؟. أجاب: إنهم يصلون حول القبور، يدخلون البقيع جماعات فيبكون وينوحون ويحملون في جيوبهم قطعا من الحجارة يسجدون عليها، وإذا ذهبوا إلي قبر سيدنا الحمزة في أحد فهناك يقيمون جنازة بلطم وعويل وكان الحمزة مات في ذلك الحين، ومن أجل كل ذلك منعتهم الحكومة السعودية من الدخول إلي المزارات. ابتسمت، وقلت له: ألهذا تحكم عليهم بأنهم منحرفون عن الإسلام؟. قال: هذا وغيره، أنهم يأتون لزيارة النبي ولكنهم في نفس الوقت يقفون [ صفحه 78] علي قبر أبي بكر وعمر ويسبونهما ويلعنونهما ومنهم من يلقي علي قبر أبي بكر وقبر عمر القذارات والنجاسات!. وذكرني هذا القول بالرواية التي سمعتها من والدي غداة رجع من الحج ولكنه قال بأنهم يلقون القذارات علي قبر النبي، ولا شك بأن والدي لم يشاهد ذلك

بعينيه لأنه قال: شاهدنا جنودا من الجيش السعودي يضربون بعض الحجاج بالعصي ولما استنكرنا عليهم إهانتهم لحجاج بيت الله الحرام: أجابونا بأن هؤلاء ليسوا من المسلمين فهم من الشيعة جاؤوا بالقذارات ليلقوها علي قبر النبي، قال والدي: عند ذلك لعناهم وبصقنا عليهم. وها أنا الآن أسمع من صديقي السعودي المولود في المدينة المنورة بأنهم يأتون لزيارة قبر النبي ولكنهم يلقون النجاسات علي قبر أبي بكر وعمر، وشككت في صحة الروايتين، لأني حججت ورأيت أن الحجرة المباركة التي يوجد فيها ضريح النبي وأبي بكر وعمر مغلقة ولا يمكن لأي شخص أن يقترب منها للتمسح علي بابها أو شباكها، فضلا علي أن يلقي فيها أشياء، أولا، لعدم وجود فجوات وثانيا لوجود حراسة مشددة من الجنود الغلاظ الذين يتداولون علي الرقابة والحراسة أمام كل باب وفي أيديهم سياط يضربون بها كل من يقترب أو يحاول أن ينظر داخل الحجرة، والغالب علي الظن أن بعض الجنود من السعودية وهم يكفرون الشيعة، رماهم بهذه التهمة ليبرر ضربه لهم، وحتي يستفز المسلمين لمقاتلتهم أو علي الأقل ليسكتوا علي إهانتهم، ويروجوا إذا رجعوا إلي بلدانهم أن الشيعة يبغضون رسول الله ويلقون علي قبره النجاسات، وبذلك يضربون عصفورين بحجر واحد. وهذا نظير ما حكاه أحد الفضلاء ممن أثق بهم إذ قال: كنا نطوف بالبيت فإذا بشاب (أصابه مغص من شدة الزحام فتقيأ)، وضربه الجنود الذين كانوا يحرسون الحجر الأسود وأخرجوه وهو في حالة يرثي لها واتهموه بأنه جاء بالنجاسة لتوسيخ الكعبة وشهدوا عليه وأعدم في نفس اليوم. وجالت بخاطري هذه المسرحيات وبقيت أفكر برهة في تعليل صديقي [ صفحه 79] السعودي لتكفير هؤلاء الشيعة، فلم أسمع غير أنهم يبكون ويلطمون ويسجدون علي الحجر

ويصلون حول القبور، وتساءلت أفي هذا دليل علي تكفير من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله؟ ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويحج البيت ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر؟. وما أردت معاندة صديقي والدخول معه في جدال لا طائل من ورائه فاقتصرت علي القول: هدانا الله وإياهم إلي صراطه المستقيم ولعن الله أعداء الدين الذين يكيدون للإسلام والمسلمين. وكنت كلما طفت بالبيت العتيق خلال العمرة وفي كل زيارة لمكة المكرمة، ولم يكن يطوف بها إلا نفر قليل من المعتمرين، صليت وسألت الله سبحانه من كل جوارحي أن يفتح بصيرتي ويهديني إلي الحقيقة. وقفت علي مقام إبراهيم (ع) واستعرضت الآية الكريمة (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء علي الناس، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولي ونعم النصير) [19] صدق الله العظيم. وبدأت أناجي سيدنا إبراهيم أو أبانا إبراهيم كما سماه القرآن: - يا أبتاه، يا من سميتنا المسلمين، ها قد اختلف أبناؤك من بعدك فأصبحوا يهودا ونصاري ومسلمين، واختلف اليهود فيما بينهم إلي إحدي وسبعين فرقة واختلف النصاري إلي اثنتين وسبعين فرقة، واختلف المسلمون إلي ثلاث وسبعين فرقة وكلهم في الضلالة حسبما أخبر بذلك ابنك محمد وفرقة واحدة بقيت علي عهدك يا أبتاه!. أهي سنة الله في خلقه كما يقول القدرية، فالله سبحانه هو الذي كتب علي كل نفس أن تكون يهودية أو نصرانية أو مسلمة، أو ملحدة، أو مشركة، أم أنه [ صفحه 80] حب الدنيا والابتعاد عن تعاليمه سبحانه، ذلك بأنهم نسوا

الله فأنساهم أنفسهم، إن عقلي لا يطاوعني بتصديق أن القضاء والقدر هو الذي حتم مصير الإنسان، بل أميل وأكاد أجزم بأن الله سبحانه خلقنا وهدانا وألهمنا الفجور والتقوي، وأرسل إلينا رسله ليوضحوا لنا ما أشكل علينا ويعرفوننا الحق من الباطل، ولكن الإنسان غرته الحياة الدنيا وزينتها، الإنسان بأنانيته وكبريائه، بجهله وفضوله، بعناده ولجاجته، بظلمه وطغيانه مال عن الحق واتبع الشيطان وابتعد عن الرحمن فورد غير مورده، وأكل غير مأكله، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك أحسن تعبير وأوجزه بقوله تعالي: (إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون) [20] . يا أبانا إبراهيم، لا لوم علي اليهود والنصاري الذين عاندوا الحق بغيا بينهم لما جاءتهم البينة، فها هي الأمة التي أنقذها الله بولدك محمد وأخرجها من الظلمات إلي النور وجعلها خير أمة أخرجت للناس، فهي الأخري اختلفت وتفرقت وكفر بعضها بعضا، وقد حذرهم رسول الله ونبههم إلي ذلك وضيق عليهم حتي قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث) فما بال هذه الأمة قد انقسمت وافترقت وأصبحت دويلات يعادي بعضها البعض ويحارب بعضها البعض ويكفر بعضها البعض وحتي لا يعرف بعضها البعض الآخر، فيهجره طيلة حياته، ما لهذه الأمة يا أبانا إبراهيم بعد ما كانت خير الأمم وقد ملكت الشرق والغرب وأوصلت للناس الهداية والعلوم والمعرفة والحضارة، إذا بها اليوم أصبحت أقل الأمم وأذلها فأراضيهم مغتصبة وشعوبهم مشردة ومسجدهم الأقصي تحتله عصابة من الصهاينة ولا يقدرون علي تحريره، وإذا زرت بلدانهم فإنك لا تري إلا الفقر المدقع والجوع القاتل والأراضي القاحلة، والأمراض الفتاكة والأخلاق السيئة، والتخلف الفكري والتقني، والظلم والاضطهاد، والأوساخ والحشرات، ويكفيك فقط أن تقارن بيوت الراحة (المراحيض) العمومية كيف

هي في أوروبا وكيف هي عندنا، فإذا دخل المسافر إلي المراحيض [ صفحه 81] في أوروبا بأسرها وجدها نظيفة تلمع كالبلور وفيها روائح طيبة بينما لا يطيق المسافر إلي البلاد الإسلامية الدخول إلي المراحيض لعفونتها ونجاستها ونتونتها ونحن الذين علمنا الإسلام (إن النظافة من الإيمان والوسخ من الشيطان)، فهل تحول الإيمان إلي أوروبا وسكن الشيطان عندنا؟ لماذا أصبح المسلمون يخافون من إظهار عقيدتهم حتي في بلدانهم، ولا يتحكم المسلم حتي في وجهه فلا يتمكن من إعفاء لحيته ولا من لبسه الزي الإسلامي بينما يتجاهر الفاسقون بشرب الخمر والزنا وهتك الأعراض ولا يقدر المسلم دفعهم بل ولا حتي أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وقد بلغني أن في بعض البلاد الإسلامية مثل مصر والمغرب من يبعث الآباء بناتهم للبغاء من شده الفقر والبؤس والاحتياج فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. يا إلهي لماذا ابتعدت عن هذه الأمة وتركتها تتخبط في الظلمات، لا، لا، أستغفرك يا إلهي وأتوب إليك، فهي التي ابتعدت عنك عن ذكرك، واختارت طريق الشيطان، وأنت جلت حكمتك، وتعالت قدرتك قلت، وقولك الحق: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين) [21] وقلت أيضا: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) [22] . ولا شك أن ما وصلت إليه الأمة الإسلامية من الانحطاط والتخلف والذلة والمسكنة لدليل قاطع علي بعدها عن الصراط المستقيم، ولا شك أن القلة القليلة أو الفرقة الواحدة من بين ثلاثة وسبعين، لا تؤثر في مسيرة أمة بأكملها. وقد قال رسول الله صلي الله عليه وآله (لتأمرن

بالمعروف ولتنهن عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم). ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ربنا لا تزغ قلوبنا [ صفحه 82] بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. سافرت إلي المدينة المنورة محملا برسالة من صديقي بشير إلي أحد أقربائه لكي أقيم عنده مدة بقائي هناك، وقد كلمه من قبل بالهاتف، واستقبلني هذا الأخير ورحب بي وأنزلني في بيته وتوجهت فور وصولي إلي زيارة رسول الله، فاغتسلت وتطيبت، ولبست أحسن ثيابي وأطهرها، وكان الزوار قليلين بالنسبة إلي موسم الحج فتمكنت من الوقوف أمام قبر رسول الله وأبي بكر وعمر، ولم أكن أتمكن من ذلك في موسم الحج لكثرة الازدحام، وحاولت عبثا أن أمس أحد الأبواب للتبرك، فانتهرني الحرس الواقف هناك، وكان علي كل باب حرس يحرسه، ولما أطلت الوقوف للدعاء وإبلاغ السلام الذي حملني إياه أصدقائي، أمرني الحراس بالانصراف، وحاولت أن أتكلم مع واحد منهم ولكن دون جدوي. ورجعت إلي الروضة المطهرة حيث جلست أقرأ ما تيسر من القرآن، وأحسن الترتيل وأعيده مرات لأني تخيلت وكأن رسول الله صلي الله عليه وآله يستمع إلي، وقلت في نفسي أيمكن أن يكون الرسول ميتا كسائر الأموات، فلماذا نقول في صلاتنا، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته بصفة المخاطب، وإذا كان المسلمون يعتقدون بأن سيدنا الخضر عليه السلام لم يمت ويرد السلام علي كل من يسلم عليه بل وأن مشايخ الطرق الصوفية يعتقدون جزما بأن شيخهم أحمد التيجاني أو عبد القادر الجيلاني يأتون إليهم جهارا ويقظة لا مناما، فلماذا نشح علي رسول الله

بمثل هذه المكرمة وهو أفضل الخلق علي الاطلاق، ولكن يخفف علي نفسي أن المسلمين لا يشحون بذلك علي رسول الله، إلا الوهابية الذين بدأت أنفر منهم لهذا ولعدة أسباب أخري منها الغلظة التي شاهدتها فيهم والشدة علي المؤمنين الذين يخالفونهم في معتقداتهم. زرت البقيع وكنت واقفا أترحم علي أرواح أهل البيت، وكان بالقرب مني شيخ طاعن في السن يبكي وعرفت من بكائه أنه شيعي، واستقبل القبلة وبدأ يصلي وإذا بالجندي يأتي إليه بسرعة وكأنه كان يراقب تحركاته وركله بحذائه ركلة وهو في حالة سجود فقلبه علي ظهره وبقي [ صفحه 83] المسكين فاقد الوعي بضع دقائق وانهال عليه الجندي ضربا وسبا وشتما، ورق قلبي لذلك الشيخ وظننت أنه مات ودفعني فضولي وأخذتني الحمية وقلت للجندي: حرام عليك لماذا تضربه وهو يصلي؟ فانتهرني قائلا: أسكت أنت ولا تتدخل حتي لا أصنع بك مثله. ولما رأيت في عينيه الشر تجنبته وأنا ساخط علي نفسي العاجزة عن نصرة المظلوم، وعلي السعوديين الذين يفعلون بالناس ما بدا لهم بدون رادع ولا وازع ولا من ينكر عليهم، وكان بعض الزائرين حاضرا فمنهم من حوقل [23] ومنهم من قال: إنه يستحق ذلك لأنه يصلي حول القبور وهو محرم، فلم أتمالك وانفجرت علي هذا المتكلم قائلا: من قال لك أن الصلاة حول القبور حرام؟ أجابني: قد نهي رسول الله عن ذلك. فقلت بدون وعي: تكذبون علي رسول الله، وخشيت أن يتألب علي الحاضرون أو ينادوا الجندي فيفتك بي، فتلطفت قائلا: إذا كان رسول الله صلي الله عليه وآله قد نهي عن ذلك فلماذا يخالف نهيه الملايين من الحجاج والزوار ويرتكبون حراما لأنهم يصلون حول قبر النبي وقبر أبي بكر وقبر عمر في

المسجد النبوي الشريف، وفي مساجد المسلمين في كل العالم الإسلامي، وعلي افتراض أن الصلاة حول القبور حرام، أفبهذه الغلظة والشدة نعالجها؟ أم باللين واللطف، واسمحوا لي أن أروي لكم قصة ذلك الأعرابي الذي بال في مسجد رسول الله بحضرته وبحضرة أصحابه بدون حياء ولا خجل، ولما قام إليه بعض الصحابة شاهرين سيوفهم ليقتلوه، نهاهم رسول الله صلي الله عليه وآله ومنعهم وقال: (دعوه ولا تزرموه وهريقوا علي بوله دلوا من الماء، إنما بعثتم لتيسروا لا لتعسروا، لتبشروا لا لتنفروا) وما كان من الصحابة إلا أن امتثلوا أمره، ونادي رسول الله الأعرابي وأجلسه إلي جانبه ورحب به ولاطفه وأفهمه أن ذلك المكان هو بيت الله ولا يمكن تنجيسه فأسلم الأعرابي ولم ير بعد ذلك إلا وهو آت المسجد في أحسن ثيابه وأطهرها، وصدق الله العظيم إذ يقول لرسوله: (ولو كنت فظا [ صفحه 84] غليظ القلب لانفضوا من حولك) [24] . وتأثر بعض الحاضرين عند سماع القصة فاختلي بي أحدهم إلي جانب وسألني: من أين أنت: قلت من تونس: فسلم علي وقال: يا أخي بالله عليك أن تحفظ نفسك ولا تتكلم مثل هذا هنا أبدا. أنصحك لوجه الله. وازددت بغضا وحنقا علي هؤلاء الذين يدعون أنهم حماة الحرمين ويعاملون ضيوف الرحمن بهذه القسوة، ولا يقدر أحد أن يبدي رأيه أو يروي أحاديث لا تتفق وما يروونه، أو يعتقد غير ما يعتقدونه. رجعت إلي بيت الصديق الجديد الذي لم أعرف اسمه وقد جاءني بالعشاء وجلس مقابلي وقبل أن نبدأ في الأكل سألني أين ذهبت، ورويت له قصتي من أولها إلي آخرها وقلت في معرض كلامي: يا أخي أنا بصراحة بدأت أنفر من الوهابية وأميل إلي الشيعة، فتغير

وجهه وقال لي: إياك أن تتكلم مثل هذا الكلام م رة أخري! وغادرني ولم يأكل معي، وانتظرته طويلا حتي غلبني النوم، وأفقت باكرا علي أذان المسجد النبوي فرأيت أن الاكل لا يزال في مكانه كما تركته وعلمت بأن مضيفي لم يرجع، وتشككت في أمره وخشيت أن يكون من المخابرات، فنهضت مسرعا وغادرت البيت بدون رجعة وقضيت كامل اليوم في الحرم النبوي أزور وأصلي وأخرج لقضاء الحاجة والوضوء وبعد صلاة العصر سمعت أحد الخطباء يلقي درسا وسط جماعة من المصلين، واتجهت وعلمت من بعض الجالسين أنه قاضي المدينة، واستمعت إليه وهو يفسر بعض آيات من الذكر الحكيم، وبعد ما أتم، درسه وهم بالخروج استوقفته وسألته قائلا: سيدي هل لك أن تعطيني مدلول الآية من قوله تعالي: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) [25] . فمن هم أهل البيت المقصودون بهذه الآية؟ [ صفحه 85] أجابني علي الفور: هم نساء النبي وقد بدأت الآية بذكرهن (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء أن اتقيتن). قلت له: إن علماء الشيعة يقولون بأنها خاصة بعلي وفاطمة والحسن والحسين، وقد اعترضت عليهم طبعا وقلت بأن بداية الآية تقول: (يا نساء النبي)، فأجابوني لما كان الكلام عليهن جاءت الصيغة كلها بنون النسوة، فقال تعالي: لستن، إن اتقيتن، فلا تخضعن، وقلن، وقرن في بيوتكن، ولا تبرجن، وأقمن الصلاة، وآتين الزكاة، وأطعن الله ورسوله، ولما كان هذا المقطع من الآية خاضعا بأهل البيت تغيرت الصيغة فقال: ليذهب عنكم، ويطهركم، فنظر إلي رافعا نظارته وقال: إياك وهذه الأفكار المسمومة، إن الشيعة يؤولون كلام الله علي حسب أهوائهم ولهم في علي وذريته آيات لا نعرفها وعندهم قرآن خاص يسمونه مصحف فاطمة،

فأنا أحذرك أن يخدعوك. قلت: لا تخف يا سيدي فأنا علي حذر وأعرف عنهم الكثير ولكني أردت أن أتحقق، قال: من أين أنت، قلت من تونس، قال فما اسمك؟ قلت: - التيجاني فضحك مفتخرا، وقال هل تدري من هو أحمد التيجاني؟ قلت هو شيخ الطريقة، قال وهو عميل للاستعمار الفرنسي، وقد تركز الاستعمار الفرنسي في الجزائر وتونس بإعانته، وإذا زرت باريس فاذهب للمكتبة القومية واقرأ بنفسك القاموس الفرنسي في باب (أ) فستري أن فرنسا أعطت وسام الشرف لأحمد التيجاني الذي قدم لها خدمات لا تقاس فتعجبت من قوله وشكرته وودعته وانصرفت. بقيت في المدينة أسبوعا كاملا حيث صليت أربعين صلاة وزرت المزارات كلها، وكنت دقيق الملاحظة خلال إقامتي هناك فلم أزدد من الوهابية إلا بعدا ونفورا وارتحلت من المدينة المنورة إلي الأردن حيث التقيت أصدقاء هناك كنت تعرفت عليهم في ملتقي الحج الذي أشرت إليه سابقا. وبقيت معهم ثلاثة أيام، ووجدت عندهم حقدا علي الشيعة أكثر مما عندنا في تونس فالروايات نفسها، والإشاعات ذاتها، وليس هناك واحد سألته عن [ صفحه 86] الدليل إلا وقال بأنه يسمع عنهم ولم أجد أحدا منهم جالس الشيعة أو قرأ كتابا للشيعة ولا حتي التقي شيعيا في حياته. رجعت من هناك إلي سوريا وفي دمشق زرت الجامع الأموي وإلي جانبه مرقد رأس سيدنا الحسين كما زرت ضريح صلاح الدين الأيوبي والسيدة زينب ومن بيروت قطعت مباشرة إلي طرابلس ودامت الرحلة أربعة أيام في البحر استرحت خلالها بدنيا وفكريا واستعرضت شريط الرحلة التي أوشكت علي النهاية فإذا بي أستنتج ميلا واحتراما للشيعة وفي نفس الوقت بعدا ونفورا وسخطا علي الوهابية التي عرفت دسائسها وحمدت الله علي ما أنعم به علي

وما أولاني من عناية ورعاية داعيا إياه سبحانه وتعالي أن يهديني إلي طريق الحق. ورجعت إلي أرض الوطن وكلي شوق وحنين إلي أسرتي وأهلي وأصدقائي، ووجدت الجميع بخير، وفوجئت عند دخولي إلي منزلي بكثرة الكتب التي وصلت قبلي وعرفت مصدرها. ولما فتحت تلك الكتب التي ملأت البيت ازددت حبا وتقديرا لأولئك. الذين لا يخلفون وعدهم وقد وجدت هنا أضعاف ما أهدي إلي هناك. [ صفحه 87]

بداية البحث

فرحت كثيرا ونظمت الكتب في بيت خاص سميته بالمكتبة، واسترحت أياما، وتسلمت جدول أوقات العمل بمناسبة بداية السنة الدراسية الجديدة فكان عملي ثلاثة أيام متوالية من التدريس وأربعة أيام متوالية من الراحة في الأسبوع. وبدأت أقرأ الكتب فقرأت كتاب عقائد الإمامية، وأصل الشيعة وأصولها وارتاح ضميري لتلك العقائد وتلك الأفكار التي يرتئيها الشيعة، ثم قرأت كتاب المراجعات للسيد شرف الدين الموسوي، وما أن قرأت منه بضع صفحات حتي استهواني الكتاب وشدني إليه شدا فكنت لا أتركه إلا غضبا وكنت أحمله في بعض الأحيان إلي المعهد، وأدهشني الكتاب بما حواه من صراحة العالم الشيعي وحله لما أشكل علي العالم السني شيخ الأزهر، وجدت في الكتاب بغيتي لأنه ليس كالكتب التي يكتب فيها المؤلف ما يشاء بدون معارض ولا مناقش فالمراجعات هو حواريين عالمين من مذهبين مختلفين يحاسب كل منهما صاحبه علي كل شاردة وواردة، علي كل صغيرة وكبيرة متوخيين في ذلك المرجعين الأساسيين لكافة المسلمين وهما القرآن الكريم والسنة الصحيحة المتفق عليها في صحاح السنة، فكان الكتاب بحق يمثل دوري كباحث يفتش عن الحقيقة ويقبلها أينما وجدت وعلي هذا كان الكتاب مفيدا جدا وله فضل علي عميم. ووقفت مبهوتا عندما كان يتكلم عن عدم امتثال الصحابة لأوامر الرسول ويسوق

لذلك عدة أمثلة، ومنها حادثة رزية يوم الخميس، إذ لم أكن أتصور أن [ صفحه 88] سيدنا عمر بن الخطاب يعترض علي أمر رسول الله ويرميه بالهجر، وظننت بادئ الأمر أن الرواية هي من كتب الشيعة، وازدادت دهشتي وحيرتي عندما رأيت العالم الشيعي ينقلها من صحيح البخاري وصحيح مسلم، وقلت في نفسي (إن وجدت هذا في صحيح البخاري فسيكون لي رأي). وسافرت إلي العاصمة ومنها اشتريت صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وصحيح الترمذي وموطأ الإمام مالك وغيرها من الكتب الأخري المشهورة، ولم أنتظر الرجوع إلي البيت فكنت طوال الطريق بين تونس وقفصة وأنا راكب في حافلة النقل العمومية أتصفح كتاب البخاري وأبحث عن رزية يوم الخميس متمنيا أن لا أعثر عليها، ورغم أنفي وجدتها وقرأتها مرات عديدة فكانت كما نقلها السيد شرف الدين، وحاولت تكذيب الحادثة برمتها واستبعدت أن يقوم سيدنا عمر بذلك الدور الخطير ولكن أني لي تكذيب ما ورد في صحاحنا وهي صحاح أهل السنة والجماعة التي ألزمنا بها أنفسنا وشهدنا بصحتها، والشك فيها، أو تكذيب بعضها يستلزم طرحها لأنه هو الآخر يستلزم طرح كل معتقداتنا، ولو كان العالم الشيعي ينقل من كتبهم ما كنت لأصدق أبدا، وأما أن ينقل من صحاح أهل السنة التي لا مجال للطعن فيها، وقد أخذنا علي أنفسنا بأنها أصح الكتب بعد كتاب الله فيصبح الأمر ملزما وإلا استلزم الشك في هذه الصحاح وعند ذلك لا يبقي معنا من أحكام الإسلام شئ نعتمده، لأن الأحكام التي وردت في كتاب الله جاءت مجملة غير مفصلة، ولأننا بعيدون عن عصر الرسالة وقد ورثنا أحكام ديننا أبا عن جد عن طريق هذه الصحاح، فلا يمكن بحال من الأحوال طرح

هذه الكتب. وأخذت علي نفسي عهدا وأنا أدخل هذا البحث الطويل العسير، أن أعتمد الأحاديث الصحيحة التي اتفق عليها السنة والشيعة، وأن أطرح الأحاديث التي انفرد بها فريق دون الآخر، وبهذه الطريقة المعتدلة، أكون قد ابتعدت عن المؤثرات العاطفية، والتعصبات المذهبية والنزعات القومية أو الوطنية، وفي الوقت نفسه أقطع طريق الشك لأصل إلي حبل اليقين وهو صراط الله المستقيم. [ صفحه 89]

بداية الدراسة المعمقة الصحابة عند الشيعة والسنة

اشاره

من أهم الأبحاث التي أعتبرها الحجر الأساسي في كل البحوث التي تقود إلي الحقيقة، هو البحث في حياة الصحابة وشؤونهم وما فعلوه وما اعتقدوه لأنهم عماد كل شئ، وعنهم أخذنا ديننا وبهم نستضئ في الظلمات لمعرفة أحكام الله، ولقد سبق لعلماء الإسلام - لقناعتهم بذلك - البحث عنهم وعن سيرتهم. فألفوا في ذلك كتبا عديدة أمثال: أسد الغابة في تمييز الصحابة، وكتاب الإصابة في معرفة الصحابة، وكتاب ميزان الاعتدال وغيرها من الكتب التي تناولت حياة الصحابة بالنقد والتحليل ولكنها من وجهة نظر أهل السنة والجماعة. وثمة إشكال يتلخص في أن العلماء الأوائل غالبا ما كانوا يكتبون ويؤرخون بالنحو الذي يوافق آراء الحكام من الأمويين والعباسيين الذين عرفوا بعدائهم لأهل البيت النبوي، بل ولكل من يشايعهم ويتبع نهجهم، ولهذا فليس من الإنصاف الاعتماد علي أقوالهم دون أقوال غيرهم من علماء المسلمين الذين اضطهدتهم تلك الحكومات وشردتهم وقتلتهم لأنهم كانوا أتباع أهل البيت وكانوا مصدر تلك الثورات ضد السلطات الغاشمة والمنحرفة. والمشكل الأساسي في كل ذلك هو الصحابة، فهم الذين اختلفوا في أن يكتب لهم رسول الله ذلك الكتاب الذي يعصمهم من الضلالة إلي قيام الساعة واختلافهم هذا هو الذي حرم الأمة الإسلامية من هذه الفضيلة ورماها في [ صفحه 90] الضلالة حتي انقسمت

وتفرقت وتنازعت وفشلت وذهبت ريحها. وهم الذين اختلفوا في الخلافة فتوزعوا بين حزب حاكم وحزب معارض وسبب ذلك تخلف الأمة وانقسامها إلي شيعة علي وشيعة معاوية، وهم الذين اختلفوا في تفسير كتاب الله وأحاديث رسوله فكانت المذاهب والفرق والملل والنحل، ونشأت من ذلك المدارس الكلامية والفكرية المختلفة وبرزت فلسفات متنوعة أملتها دوافع سياسية محضة تتصل بطموحات الهيمنة علي السلطة والحكم.. فالمسلمون لم ينقسموا ولم يختلفوا في شئ لولا الصحابة وكل خلاف نشأ وينشأ إنما يعود إلي اختلافهم في الصحابة. فالرب واحد والقرآن واحد والرسول واحد والقبلة واحدة وهم متفقون علي ذلك وبدأ الخلاف والاختلاف في الصحابة من اليوم الأول بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وآله في سقيفة بني ساعدة، واستمر إلي يوم الناس هذا وسيستمر إلي ما شاء الله. وقد استنتجت من خلال الحديث مع علماء الشيعة أن الصحابة في نظرهم ينقسمون إلي ثلاثة أقسام: فالقسم الأول وهم الصحابة الأخيار الذين عرفوا رسول الله حق المعرفة وبايعوه علي الموت وصاحبوه بصدق في القول وبإخلاص في العمل، ولم ينقلبوا بعده، بل ثبتوا علي العهد وقد امتدحهم الله جل جلاله، في كتابه العزيز في العديد من المواقع، وقد أثني عليهم رسول الله في العديد من المواقع أيضا، والشيعة يذكرونهم باحترام وتقديس ويترضون عليهم كما يذكرهم أهل السنة باحترام وتقديس أيضا. والقسم الثاني، وهم الصحابة الذين اعتنقوا الإسلام واتبعوا رسول الله ولكنهم كانوا في بعض الأوقات لا يمتثلون لأوامره ونواهيه بل يجعلون لآرائهم [ صفحه 91] مجالا في مقابل النصوص الصريحة والشيعة لا يذكرونهم إلا بأفعالهم بدون احترام ولا تقديس كالصنف الأول. أما القسم الثالث من الصحابة: فهم المنافقون الذين صحبوا رسول الله للكيد له وقد أظهروا

الإسلام وانطوت سرائرهم علي الكفر وقد تقربوا ليكيدوا للإسلام والمسلمين عامة وقد أنزل الله فيهم سورة كاملة وذكرهم في العديد من المواقع وتوعدهم بالدرك الأسفل من النار وقد ذكرهم رسول الله صلي الله عليه وآله وحذر منهم وعلم بعضا من أصحابه أسماءهم وعلاماتهم، وهؤلاء يتفق الشيعة والسنة علي لعنهم والبراءة منهم. وهناك قسم خاص وإن كانوا من الصحابة فهم يتميزون عليهم بالقرابة وبفضائل خلقية ونفسية وخصوصيات اختصهم الله ورسوله بها لا يلحقهم فيها لاحق، وهؤلاء هم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا [26] وأوجب الصلاة عليهم كما أوجبها علي رسوله، وأوجب لهم سهما من الخمس [27] كما أوجب مودتهم علي كل مسلم كأجر للرسالة المحمدية [28] ، فهم أولو الأمر الذين أمر بطاعتهم [29] وهم الراسخون في العلم الذين يعلمون تأويل القرآن ويعلمون المتشابه منه والمحكم [30] ، وهم أهل الذكر الذين قرنهم رسول الله بالقرآن في حديث الثقلين وأوجب التمسك بهما [31] ، وجعلهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق [32] ، والصحابة يعرفون قدر أهل البيت ويعظمونهم ويحترمونهم، والشيعة يقتدون بهم ويقدمونهم علي كل الصحابة، ولهم في ذلك أدلة من النصوص الصريحة. [ صفحه 92] أما أهل السنة والجماعة فإنهم مع احترامهم لأهل البيت وتعظيمهم وتفضيلهم إلا أنهم لا يعترفون بهذا التقسيم للصحابة ولا يعدون المنافقين في الصحابة، بل الصحابة في نظرهم خير الخلق بعد رسول الله. وإذا كان هناك تقسيم فهو من باب فضيلة السبق للإسلام والبلاء الحسن فيه فيفضلون الخلفاء الراشدين بالدرجة الأولي ثم الستة الباقين من العشرة المبشرين بالجنة علي ما يروونه. ولذلك تراهم عندما يصلون علي النبي وأهل بيته يلحقون بهم الصحابة أجمعين

بدون استثناء. هذا ما أعرفه من علماء أهل السنة والجماعة، وذاك ما سمعته من علماء الشيعة في تقسيم الصحابة، وهذا ما دعاني إلي أن أجعل بحثي يبدأ بهذه الدراسة المعمقة حول الصحابة وعاهدت ربي - إن هداني - أن أتجرد من العاطفة لأكون حياديا، موضوعيا ولا سمع القول من الطرفين فأتبع أحسنه، ومرجعي في ذلك: 1 - القاعدة المنطقية السليمة ; وهي أن لا أعتمد إلا ما اتفقوا عليه جميعا بشأن التفسير لكتاب الله والصحيح من السنة النبوية الشريفة. 2 - العقل ; فهو أكبر نعمة من نعم الله علي الإنسان ; إذ به كرمه وفضله علي سائر مخلوقاته، ألا تري أن الله سبحانه عندما يحتج علي عباده يدعوهم للتعقل بقوله: (أفلا يعقلون، أفلا يفقهون، أفلا يتدبرون، أفلا يبصرون الخ..). وليكن إسلامي مبدئيا إيمانا بالله وملائكته وكتبه ورسله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الدين عند الله الإسلام، ولا أعتمد في ذلك علي أي واحد من الصحابة مهما كانت قرابته ومهما علت منزلته فأنا لست أمويا ولا عباسيا ولا فاطميا، ولا سنيا ولا شيعيا وليست لي أي عداوة لأبي بكر ولا لعمر ولا لعثمان [ صفحه 93] ولا لعلي ولا حتي لوحشي قاتل سيدنا الحمزة ما دام أنه أسلم والإسلام يجب ما قبله وقد عفا عنه رسول الله صلي الله عليه وآله. وما دمت أقحمت نفسي في هذا البحث بغية الوصول للحقيقة وما دمت قد تجردت من كل الأفكار المسبقة بكل إخلاص فأنا أبدأ هذا البحث علي بركة الله في مواقف الصحابة.

الصحابة في صلح الحديبية

مجمل القصة، أن رسول الله صلي الله عليه وآله خرج في السنة السادسة للهجرة يريد العمرة مع ألف وأربعمائة من أصحابه فأمرهم أن

يضعوا سيوفهم في القرب، وأحرم هو وأصحابه بذي الحليفة وقلدوا الهدي ليعلم قريشا أنه إنما جاء زائرا معتمرا وليس محاربا، ولكن قريشا بكبريائها خافت أن يسمع العرب بأن محمدا دخل عنوة إلي مكة وكسر شوكتها، فبعثوا إليه بوفد يرأسه سهيل بن عمرو بن عبدود العامري وطلبوا منه أن يرجع في هذه المرة من حيث أتي علي أن يتركوا له مكة في العام القادم ثلاثة أيام، وقد اشترطوا عليه شروطا قاسية قبلها رسول الله لاقتضاء المصلحة التي أوحي بها إليه ربه عز وجل. ولكن بعض الصحابة لم يعجبهم هذا التصرف من النبي وعارضوه في ذلك معارضة شديدة وجاءه عمر بن الخطاب فقال: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلي، قال عمر: ألسنا علي الحق وعدونا علي الباطل؟ قال: بلي، قال عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال رسول الله صلي الله عليه وآله: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري، قال عمر: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلي، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال عمر: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به. ثم أتي عمر بن الخطاب إلي أبي بكر فقال: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلي، ثم سأله عمر نفس الأسئلة التي سألها رسول الله، وأجابه أبو بكر بنفس الأجوبة قائلا له: أيها الرجل إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو [ صفحه 94] ناصره فاستمسك بغرزه، ولما فرغ رسول الله من كتاب الصلح قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم أحلقوا، فوالله ما قام منهم رجل حتي قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يمتثل لأمره منهم أحد دخل خباءه ثم خرج فلم يكلم أحدا منهم بشئ حتي نحر بدنة

بيده، ودعا حالقه فحلق رأسه، فلما رأي أصحابه ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتي كاد بعضهم يقتل بعضا [33] . هذه مجمل قصة الصلح في الحديبية وهي من الأحداث المتفق عليها عند الشيعة والسنة وقد ذكرها المؤرخون وأصحاب السير كالطبري وابن الأثير وابن سعد وغيرهم كالبخاري ومسلم. وأنا لي هنا وقفة، فلا يمكن لي أن أقرأ مثل هذا ولا أتأثر ولا أعجب من تصرف هؤلاء الصحابة تجاه نبيهم، وهل يقبل عاقل قول القائلين بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمتثلون أوامر رسول الله صلي الله عليه وآله وينفذونها، فهذه الحادثة تقطع عليهم ما يرومون، هل يتصور عاقل بأن هذا التصرف في مواجهة النبي هو أمر هين، أو مقبول ; أو معذور، قال تعالي: (فلا وربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) [34] . فهل سلم عمر بن الخطاب هنا ولم يجد في نفسه حرجا مما قضي الرسول صلي الله عليه وآله؟! أم كان في موقفه تردد في ما أمر النبي؟ وخصوصا في قوله: أولست نبي الله حقا؟ أو لست كنت تحدثنا؟ إلي آخره، وهل سلم بعد ما أجابه رسول الله بتلك الأجوبة المقنعة؟ كلا لم يقتنع بجوابه وذهب يسأل أبا بكر الأسئلة نفسها، وهل سلم بعد ما أجابه ونصحه أن يلزم غرز النبي، لا أدري إذا كان سلم بذلك، أو اقتنع بجواب النبي أو بجواب أبي بكر!! وإلا لماذا تراه يقول عن [ صفحه 95] نفسه: (فعملت لذلك أعمالا.. ولا أدري سبب تخلف البقية الباقية من الحاضرين بعد ذلك إذ قال لهم رسول الله: قوموا فانحروا ثم أحلقوا، فلم يستمع إلي أمره

أحد منهم حتي كررها عليهم ثلاث مرات بدون جدوي. سبحان الله! أنا لا أكاد أصدق ما أقرأ، وهل يصل الأمر بالصحابة إلي هذا الحد في التعامل مع أمر الرسول، ولو كانت هذه القصة مروية من طريق الشيعة وحدهم لعددت ما قالوا افتراء علي الصحابة الكرام، ولكن القصة بلغت من الصحة والشهرة أن تناقلها كل المحدثين من أهل السنة والجماعة أيضا، وبما أنني ألزمت نفسي توثيق ما اتفقوا عليه، فلا أراني إلا مسلما ومتحيرا: ماذا عساني أن أقول؟ وبم أعتذر عن هؤلاء الصحابة الذين قضوا مع رسول الله قرابة عشرين عاما من البعثة إلي يوم الحديبية، وهم يشاهدون المعجزات وأنوار النبوة، والقرآن يعلمهم ليلا نهارا كيف يتأدبون مع حضرة الرسول وكيف يكلموه، حتي هددهم الله بإحباط أعمالهم إن رفعوا أصواتهم فوق صوته. ويدفعني إلي الاحتمال بأن عمر بن الخطاب هو الذي أثار بقية الحاضرين ودفعهم إلي التردد والتخلف عن أمر الرسول - زيادة علي اعترافه بأنه عمل لذلك أعمالا لم يشأ ذكرها - ما يردده هو في موارد أخري قائلا: ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق مخافة كلامي الذي تكلمت به. إلي آخر ما هو مأثور عنه في هذه القضية [35] . مما يشعرنا بأن عمر نفسه كان يدرك بعد الموقف الذي وقفه ذلك اليوم إنها قصة عجيبة وغريبة ولكنها حقيقية..

الصحابة ورزية يوم الخميس

ومجمل القصة أن الصحابة كانوا مجتمعين في بيت رسول الله قبل وفاته بثلاثة أيام، فأمرهم أن يحضروا له الكتف والدواة ليكتب لهم كتابا يعصمهم من [ صفحه 96] الضلالة، ولكن الصحابة اختلفوا ومنهم من عصي أمره واتهمه بالهجر، فغضب رسول الله وأخرجهم من بيته دون أن يكتب لهم شيئا، وإليك شيئا من التفصيل: قال

ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس اشتد برسول الله وجعه، فقال: هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، فقال عمر إن النبي قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي كتابا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي، قال لهم رسول الله صلي الله عليه وآله، قوموا عني، فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم [36] ولغطهم، هذه الحادثة صحيحة لا شك فيها، فقد نقلها علماء الشيعة ومحدثوهم في كتبهم، كما نقلها علماء السنة ومحدثوهم ومؤرخوهم، وهي ملزمة لي علي ما ألزمت به نفسي ومن هنا أقف حائرا في تفسير الموقف الذي وقفه عمر بن الخطاب من أمر رسول الله، وأي أمر هو؟ أمر (عاصم من الضلالة لهذه الأمة، ولا شك أن هذا الكتاب كان فيه شئ جديد للمسلمين سوف يقطع عليهم كل شك). ولنترك قول الشيعة: (بأن رسول أراد أن يكتب اسم علي خليفة له، وتفطن عمر لذلك فمنعه). فلعلهم لا يقنعوننا بهذا الزعم الذي لا يرضينا مبدئيا، ولكن هل نجد تفسيرا معقولا لهذه الحادثة المؤلمة التي أغضبت الرسول حتي طردهم وجعلت ابن عباس يبكي حتي يبل دمعه الحصي ويسميها أكبر رزية ; أهل السنة يقولون بأن عمر أحس بشدة مرض النبي فأشفق عليه وأراد أن يريحه، وهذا التعليل لا يقبله [ صفحه 97] بسطاء العقول فضلا عن العلماء، وقد حاولت مرارا وتكرارا التماس بعض الأعذار لعمر ولكن واقع الحادثة يأبي علي ذلك، وحتي لو أبدلت كلمة يهجر (والعياذ الله)

بلفظة (غلبه الوجع) فسوف لن نجد مبررا لقول عمر: (عندكم القرآن) (وحسبنا كتاب الله)، أو كان هو أعلم بالقرآن من رسول الله الذي أنزل عليه، أم أن رسول الله لا يعي ما يقول (حاشاه) أم أنه أراد بأمره ذلك أن يبعث فيهم الاختلاف والفرقة! (أستغفر الله). ثم لو كان تعليل أهل السنة صحيحا، فلم يكن ذلك ليخفي علي الرسول ولا يجهل حسن نية عمر، ولشكره رسول الله علي ذلك وقربه بدلا من أن يغضب عليه ويقول أخرجوا عني. وهل لي أن أتسأل لماذا امتثلوا أمره عندما طردهم من الحجرة النبوية، ولم يقولوا بأنه يهجر؟ ألأنهم نجحوا بمخططهم في منع الرسول من الكتابة، فلا داعي بعد ذلك لبقائهم، والدليل أنهم أكثروا اللغط والاختلاف بحضرته صلي الله عليه وآله، وانقسموا إلي حزبين منهم من يقول: قربوا إلي رسول الله يكتب لكم ذلك الكتاب ومنهم من يقول ما قال عمر أي إنه (يهجر). والأمر لم يعد بتلك البساطة يتعلق بشخص عمر وحده ولو كان كذلك لأسكته رسول الله وأقنعه بأنه لا ينطق عن الهوي ولا يمكن أن يغلب عليه الوجع في هداية الأمة وعدم ضلالتها ولكن الأمر استفحل واستشري ووجد له أنصارا كأنهم متفقون مسبقا، ولذلك أكثروا اللغط والاختلاف ونسوا أو تناسوا قول الله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) [37] . وفي هذه الحادثة تعدوا حدود رفع الأصوات والجهر بالقول إلي رميه صلي الله عليه وآله بالهجر والهذيان (والعياذ بالله) ثم أكثروا اللغط والاختلاف وصارت معركة كلامية بحضرته. [ صفحه 98] وأكاد أعتقد بأن الأكثرية الساحقة كانت علي قول

عمر ولذلك رأي رسول الله صلي الله عليه وآله عدم الجدوي في كتابة الكتاب لأنه علم بأنهم لم يحترموه ولم يمتثلوا لأمر الله فيه في عدم رفع أصواتهم بحضرته، وإذا كانوا لأمر الله عاصين فلن يكونوا لأمر رسوله طائعين. واقتضت حكمة الرسول بأن لا يكتب لهم ذلك الكتاب لأنه طعن فيه في حياته، فكيف يعمل بما فيه بعد وفاته، وسيقول الطاعنون: بأنه هجر من القول ولربما سيشككون في بعض الأحكام التي عقدها رسول الله في مرض موته. إذ أن اعتقادهم بهجره ثابت. أستغفر الله، وأتوب إليه من هذا القول في حضرة الرسول الأكرم، وكيف لي أن أقنع نفسي وضميري الحر بأن عمر بن الخطاب كان عفويا في حين أن أصحابه ومن حضروا محضره بكوا لما حصل حتي بل دمعهم الحصي وسموها رزية المسلمين. ولهذا فقد خلصت إلي أن أرفض كل التعليلات التي قدمت لتبرير ذلك، ولقد حاولت أن أنكر هذه الحادثة وأكذبها لأستريح من مأساتها، ولكن كتب الصحاح نقلتها وأثبتتها وصححتها ولم تحسن تبريرها. وأكاد أميل إلي رأي الشيعة في تفسير هذا الحدث لأنه تعليل منطقي وله قرائن عديدة. وإني لا زلت أذكر إجابة السيد محمد باقر الصدر عندما سألته: كيف فهم سيدنا عمر من بين الصحابة ما يريد الرسول كتابته وهو استخلاف علي - علي حد زعمكم -، فهذا ذكاء منه. قال السيد الصدر: لم يكن عمر وحده فهم مقصد الرسول، ولكن أكثر الحاضرين فهموا ما فهمه عمر، لأنه سبق لرسول الله صلي الله عليه وآله أن قال مثل هذا إذ قال لهم إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا، وفي مرضه قال لهم:

هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده [ صفحه 99] أبدا، ففهم الحاضرون ومن بينهم عمر أن رسول الله يريد أن يؤكد ما ذكره في غدير خم كتابيا، وهو التمسك بكتاب الله وعترته، وسيد العترة هو علي، فكأنه صلي الله عليه وآله أراد أن يقول: عليكم بالقرآن وعلي، وقد قال مثل ذلك في مناسبات أخري كما ذكر لمحدثون. وكان أغلبية قريش لا يرضون بعلي لأنه أصغر القوم ولأنه حطم كبرياءهم وهشم أنوفهم وقتل أبطالهم، ولكنهم لا يجرؤون علي رسول الله مثل عمر فقد كان جريئا علي النحو الذي حصل في صلح الحديبية وفي المعارضة الشديدة للنبي عندما صلي علي عبد الله بن أبي، المنافق، وفي عدة مواقف أخري سجلها التاريخ، وهذا الموقف منها، وأنت تري أن المعارضة لكتابة الكتاب في مرض النبي شجعت بعض الآخرين من الحاضرين علي الجرأة ومن ثم الاكثار من اللغط في حضرة الرسول صلي الله عليه وآله. إن هذه المقولة: جاءت ردا مطابقا تماما لمقصود الحديث، فمقولة: عندكم القرآن، حسبنا كتاب الله مخالفة لمحتوي الحديث الذي يأمرهم بالتمسك بكتاب الله وبالعترة معا، فكأن المقصود هو: حسبنا كتاب الله فهو يكفينا، ولا حاجة لنا بالعترة. وليس هناك تفسير معقول غير هذا، - بالنسبة إلي هذه الحادثة - اللهم إلا إذا كان المراد هو القول بإطاعة الله دون إطاعة رسوله، وهذا أيضا باطل وغير معقول... وأنا إذا طرحت التعصب الأعمي والعاطفة الجامحة وحكمت العقل السليم والفكر الحر لملت إلي هذا التحليل وذلك أهون من اتهام عمر بأنه أول من رفض السنة النبوية بقوله: (حسبنا كتاب الله). وإذا كان بعض الحكام قد رفض السنة النبوية بدعوي أنها متناقضة، فإنه اتبع في ذلك سابقة تاريخية

في حياة المسلمين. وإني لأعجب لمن يقرأ هذه الحادثة ويمر بها وكأن شيئا لم يكن، مع أنها من أكبر الرزايا كما سماها ابن عباس، وعجبي أكبر من الذين يحاولون جهدهم [ صفحه 100] الحفاظ علي كرامة صحابي وتصحيح خطئه ولو كان ذلك علي حساب كرامة رسول الله وعلي حساب الإسلام ومبادئه. ولماذا نهرب من الحقيقة ونحاول طمسها عندما لا تتماشي مع أهوائنا، لماذا لا نعترف بأن الصحابة بشر مثلنا، لهم أهواء وميول ويخطئون ويصيبون. ولا يزول عجبي إلا عندما أقرأ كتاب الله وهو يروي لنا قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما لاقوه من شعوبهم في المعاندة رغم ما يشاهدونه من معجزات.. (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب). وهكذا أصبحت أدرك خلفية موقف الشيعة من بعض الصحابة الذين يحملونهم مسؤولية الكثير من المآسي التي وقعت في حياة المسلمين منذ رزية يوم الخميس التي حرمت الأمة من كتاب الهداية الذي أراد الرسول صلي الله عليه وآله أن يكتبه لهم.

الصحابة في سرية أسامة

مجمل هذه القصة: أنه صلي الله عليه وآله، جهز جيشا لغزو الروم قبل وفاته بيومين، وأمر علي هذه السرية أسامة بن زيد بن حارثة وعمره ثمانية عشر عاما، وقد عبأ صلي الله عليه وآله في هذه السرية وجوه المهاجرين والأنصار كأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وغيرهم من كبار الصحابة المشهورين فطعن قوم منهم في تأمير أسامة، وقالوا: كيف يؤمر علينا شاب لا نبات بعارضيه، وقد طعنوا من قبل في تأمير أبيه، وقد قالوا في ذلك وأكثروا النقد، حتي غضب صلي الله عليه وآله غضبا شديدا مما سمع من طعنهم وانتقادهم، فخرج صلي الله عليه وآله معصب الرأس محموما،

يتهادي بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض بأبي هو وأمي، من شدة ما به من لغوب، فصعد المنبر فحمد الله وأثني عليه ثم قال: (أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أبيه من قبله، وأيم الله إنه كان خليقا [ صفحه 101] بالإمارة، وإن ابنه من بعده لخليق بها..) [38] . ثم جعل صلي الله عليه وآله يحضهم علي التعجيل وجعل يقول: جهزوا جيش أسامة، أنفذوا جيش أسامة أرسلوا بعث أسامة، يكرر ذلك علي مسامعهم وهم متثاقلون وعسكروا بالجرف وما كادوا يفعلون. إن مثل ذلك يدفعني إلي أن أتسأل: ما هذه الجرأة علي الله ورسوله؟!، وما هذا العقوق في حق الرسول الأكرم الذي هو حريص عليهم بالمؤمنين رؤوف رحيم؟ لم أكن أتصور كما لا يمكن لأحد أن يتصور تفسيرا مقبولا لهذا العصيان، وهذه الجرأة. وكالعادة، عند قراءة مثل هذه الأحداث التي تمس كرامة الصحابة من قريب أو بعيد أحاول تكذيب مثل هذه القضايا وتجاهلها، ولكن لا يمكن تكذيب ما أجمع عليه المؤرخون والمحدثون من علماء السنة والشيعة، وتجاهل ذلك. وقد عاهدت ربي أن أكون منصفا، فلا أتعصب لمذهبي ولا أقيم وزنا لغير الحق، والحق هنا مر كما يقال، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (قل الحق ولو كان علي نفسك وقل الحق ولو كان مرا...) والحق في هذه القضية: هو أن هؤلاء الصحابة الذين طعنوا في تأمير أسامة قد خالفوا أمر ربهم وخالفوا الصريح من النصوص التي لا تقبل الشك ولا تقبل التأويل، وليس لهم عذر في ذلك، إلا ما يلتمسه البعض من أعذار باردة حفاظا علي كرامة الصحابة و (السلف الصالح) والعاقل الحر

لا يقبل بحال من الأحوال هذه التمحلات. اللهم إلا إذا كان من الذين لا يفقهون حديثا، ولا يعقلون، أو من الذين أعمت العصبية أعينهم فلم يعودوا يفرقون بين الفرض الواجب طاعته والنهي الواجب تركه، ولقد فكرت مليا عساني أجد عذرا لهؤلاء مقبولا، فلم يسعفني تفكيري بطائل، وقرأت اعتذار أهل السنة علي هؤلاء بأنهم كانوا مشايخ قريش وكبراءها، ولهم [ صفحه 102] الأسبقية في الإسلام بينما أسامة كان حدثا ولم يشارك في المعارك المصيرية لعزة الإسلام، كمعركة بدر وأحد وحنين، ولم تكن له سابقة بل كان صغير السن عندما ولاه رسول الله إمارة السرية، وطبيعة النفوس البشرية تأبي بجبلتها إذا كانت بين كهول وشيوخ أن تنقاد إلي الأحداث وتنفر بطبعها من النزول علي حكم الشبان ولذلك طعنوا في تأميره وأرادوا منه صلي الله عليه وآله أن يستبدله بأحد من وجوه الصحابة وكبرائهم. إنه اعتذار لا يستند إلي دليل عقلي ولا شرعي ولا يمكن لأي مسلم قرأ القرآن وعرف أحكامه إلا أن يرفض مثل هذا، لأن الله عز وجل يقول: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [39] (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) [40] . فأي عذر بعد هذه النصوص الصريحة يقبله العاقلون وماذا عساني أن أقول في قوم أغضبوا رسول الله وهم يعلمون أن غضب الله في غضبه، وذلك بعد أن رموه بالهجر وقالوا بحضرته ما قالوا وأكثروا اللغط والاختلاف وهو مريض، بأبي هو وأمي، حتي أخرجهم من حجرته، أو لم يكفهم كل هذا، وبدلا من أن يثوبوا إلي رشدهم ويتوبوا إلي الله ويستغفروه مما فعلوا

ويطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم كما علمهم القرآن، عوضا عن ذلك فقد زادوا في الطين بلة كما يقول المثل الشعبي عندنا، فطعنوا في تأميره أسامة بعد يومين من رميه بالهجر والجرح لما يندمل، حتي أجبروه أن يخرج صلي الله عليه وآله بتلك الحالة التي وصفها المؤرخون، لا يقدر علي المشي من شدة المرض وهو يتهادي بين رجلين، ثم يقسم بالله بأن أسامة خليق بالإمارة، ويزيدنا الرسول بأنهم هم أنفسهم الذين طعنوا في تأميره زيد بن حارثة من قبل ليعلمنا أن هؤلاء لهم معه مواقف سابقة متعددة وسوابق شاهدة علي أنهم لم يكونوا من الذين لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضي ويسلمون تسليما، [ صفحه 103] بل كانوا من الذين جعلوا لأنفسهم حق النقد والمعارضة حتي ولو خالفوا بذلك أحكام الله ورسوله. ومما يدلنا علي المعارضة الصريحة، أنهم رغم ما شاهدوه من غضب رسول الله ومن عقد اللواء له بيده الشريفة والأمر لهم بالإسراع والتعجيل، تثاقلوا وتباطأوا، ولم يذهبوا حتي توفي بأبي هو وأمي وفي قلبه حسرة علي أمته المنكوبة التي سوف تنقلب علي أعقابها وتهوي في النار ولا ينجو منها إلا القليل الذي شبهه رسول الله بهمل النعم. وإذا أردنا أن نتمعن في هذه القضية فإننا سنجد الخليفة الثاني من أبرز عناصرها إذ أنه هو الذي جاء بعد وفاة رسول الله إلي الخليفة أبي بكر وطلب منه أن يعزل أسامة ويبدله بغيره فقال له أبو بكر: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! أتأمرني أن أعزله وقد ولاه رسول الله [41] . فأين هو عمر من هذه الحقيقة التي أدركها أبو بكر، أم أن في الأمر سرا آخر خفي عن المؤرخين، أم أنهم هم الذين

أسروه حفاظا علي كرامته كما هي عادتهم وكما أبدلوا عبارة (يهجر) بلفظ (غلبه الوجع). عجبي من هؤلاء الصحابة الذين أغضبوه يوم الخميس واتهموه بالهجر والهذيان وقالوا حسبنا كتاب الله، وكتاب الله يقول لهم في محكم آياته:(قل إن كنتم تحبون الله، فاتبعوني يحببكم الله) [42] . وكأنهم هم أعلم بكتاب الله وأحكامه من الذي أنزل عليه وها هم بعد يومين فقط من تلك الرزية المؤلمة وقبل يومين فقط من لحوقه بالرفيق الأعلي يغضبونه أكثر فيطعنون في تأميره ولا يطيعون أمره، وإذا كان في الرزية الأولي مريضا طريح الفراش، فقد اضطر في الثانية أن يخرج معصب الرأس مدثرا بقطيفة يتهادي بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض وخطب فيهم خطبة كاملة من [ صفحه 104] فوق المنبر بدأها بتوحيد الله والثناء عليه ليشعرهم بذلك بأنه بعيد عن الهجر ثم أعلمهم بما عرفه من طعنهم، ثم ذكرهم بقضية أخري طعنوا فيها من قبل أربع سنوات خلت، أفهل يعتقدون بعد ذلك بأنه يهجر أو أنه غلبه الوجع لدرجة أنه لم يعد يعي ما يقول؟. سبحانك اللهم وبحمدك كيف يجرؤ هؤلاء علي رسولك فلا يرضون بالعقد الذي أبرمه، ويعارضونه بشدة حتي يأمرهم بالنحر والحلق ثلاث مرات فلا يستجيب منهم أحد، ومرة أخري يجذبونه من قميصه ويمنعونه من الصلاة علي عبد الله بن أبي ويقولون له: إن الله قد نهاك أن تصلي علي المنافقين! وكأنهم يعلمونه ما نزل إليه في حين أنك في قرآنك: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) [43] . وقلت أيضا: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) [44] . وقلت وقولك الحق: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم

الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) [45] . عجبا لهؤلاء القوم! فمرة لا يمتثلون لأمره ومرة يتهمونه بالهجر ويكثرون اللغط بحضرته في غير احترام ولا أدب، وأخري يطعنون في تأميره زيد بن حارثة ومن بعده في تأمير ابنه أسامة بن زيد فكيف يبقي بعد كل هذا شك عند الباحثين من أن الشيعة علي حق عندما يحيطون مواقف بعض الصحابة بعلامات الاستفهام ويمتعضون منها احتراما وحبا ومودة لصاحب الرسالة وأهل بيته. علي أني لم أذكر من المخالفات غير أربع أو خمس وذلك للاختصار ولتكون أمثلة فقط، ولكن علماء الشيعة قد أحصوا مئات الموارد التي خالف فيها الصحابة [ صفحه 105] النصوص الصريحة ولم يستدلوا إلا بما أخرجه علماء السنة في صحاحهم ومسانيدهم. وإني عندما أستعرض بعض المواقف التي وقفها بعض الصحابة من رسول الله أبقي حائرا مدهوشا، لا من تصرفات هؤلاء الصحابة فحسب ولكن من موقف علماء السنة والجماعة الذين يصورون لنا الصحابة دوما علي حق لا يمكن التعرض لهم بأي نقد، وبذلك يمنعون الباحث من الوصول إلي الحقيقة ويبقي يتخبط في التناقضات الفكرية. وزيادة علي ما سبق أسوق بعض الأمثلة التي تعطينا صورة حقيقية علي هؤلاء الصحابة ونفهم بذلك موقف الشيعة منهم: أخرج البخاري في صحيحه ج 4 ص 47 في باب الصبر علي الأذي وقول الله تعالي (إنما يوفي الصابرون أجرهم) من كتاب الأدب، قال: حدثنا الأعمش قال سمعت شقيقا يقول قال عبد الله: قسم النبي صلي الله عليه وآله قسمة كبعض ما كان يقسم فقال رجل من الأنصار والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، قلت أما أني لأقولن للنبي صلي الله عليه وآله فأتيته وهو في أصحابه فساورته فشق ذلك

علي النبي وتغير وجهه وغضب حتي وددت أني لم أكن أخبرته ثم قال: قد أوذي موسي بأكثر من ذلك فصبر. كما أخرج البخاري في الكتاب نفسه أعني كتاب الأدب في باب التبسم والضحك. قال حدثنا أنس بن مالك قال كنت أمشي مع رسول الله صلي الله عليه وآله وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذة شديدة قال أنس فنظرت إلي صفحة عاتق النبي صلي الله عليه وآله وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء. كما أخرج البخاري في كتاب الأدب في باب من لم يواجه الناس بالعتاب قال: قالت عائشة صنع النبي صلي الله عليه وآله شيئا فرخص فيه، فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك [ صفحه 106] النبي صلي الله عليه وآله فخطب فحمد الله ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون عن الشئ أصنعه فوالله أني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية..!. ولعمري إن الذين يعتقدون أن رسول الله صلي الله عليه وآله يميل به الهوي ويحيد به عن طريق الحق فيقسم قسمة لا يريد بها وجه الله وإنما تبعا لهواه وعاطفته، والذين يتنزهون عن أشياء يصنعها رسول الله اعتقادا منهم بأنهم أتقي لله وأعلم به من رسوله، فهؤلاء ليسوا جديرين بذلك التقديس حيث ينزلهم البعض منزلة الملائكة فيحكمون بأنهم أفضل الخلق بعد رسول الله وأن المسلمين مدعوون لاتباعهم والاقتداء بهم والسير علي سنتهم لا لشئ إلا لأنهم صحابة رسول الله وهذا يتناقض مع أهل السنة والجماعة الذين لا يصلون علي محمد وآله إلا ويضيفون إليهم الصحابة أجمعين وإذا كان الله سبحانه وتعالي قد

عرف قدرهم وأنزلهم منزلتهم فأمرهم بأن يصلوا علي رسوله وأهل بيته الطاهرين ليا لأعناقهم ليخضعوا ويعرفوا مكانة هؤلاء عند الله فلماذا نجعلهم نحن في منزلة فوق منزلتهم ونسويهم بمن رفع الله قدرهم وفضلهم علي العالمين. ودعني أستنتج بأن الأمويين والعباسيين الذين ناصبوا أهل البيت النبوي العداء فأبعدوهم وشردوهم وقتلوهم وأتباعهم وشيعتهم، تفطنوا لما في هذه المزية من الفضل العميم والخطر الجسيم، فإذا كان الله سبحانه لا يقبل صلاة مسلم إلا إذا صلي عليهم، فبماذا يبررون عداءهم وانحرافهم عن أهل البيت، ولذلك تراهم ألحقوا الصحابة بأهل البيت ليموهوا علي الناس بأن أهل البيت والصحابة في الفضل سواء. وخصوصا إذا عرفنا أن ساداتهم وكبراءهم هم بعض الصحابة الذين استأجروا ضعفاء العقول ممن صحبوا رسول الله أو من التابعين ليرووا الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة وبالأخص في من اعتلوا منصة الخلافة وكانوا سببا مباشرا في وصولهم - أي الأمويين والعباسيين - إلي الحكم والتحكم في رقاب المسلمين والتاريخ خير شاهد علي ما أقول ; إذ أن عمر بن الخطاب الذي اشتهر بمحاسبة ولاته وعزلهم لمجرد شبهة نراه يلين مع معاوية بن أبي سفيان ولا يحاسبه قط وقد ولاه أبو بكر وأقره عمر طيلة حياته ولم يعترض عليه حتي بالعتاب [ صفحه 107] واللوم، رغم كثرة الساعين الذين يشتكون من معاوية ويقولون له إن معاوية يلبس الذهب والحرير اللذين حرمهما رسول الله علي الرجال، فكان عمر يجيبهم: (دعوه فإنه كسري العرب) واستمر معاوية في الولاية أكثر من عشرين عاما لم يتعرض له أحد بالنقد ولا بالعزل ولما ولي عثمان خلافة المسلمين أضاف إليه ولآيات أخري مكنته من الاستيلاء علي الثروة الإسلامية وتعبئة الجيوش وأوباش العرب للقيام بالثورة علي إمام

الأمة والاستيلاء علي الحكم بالقوة والغصب والتحكم في رقاب المسلمين وإرغامهم بالقوة والقهر علي بيعة ابنه الفاسق شارب الخمر يزيد وهذه قصة أخري طويلة لست بصدد تفصيلها في هذا الكتاب والمهم هو أن أعرف نفسيات هؤلاء الصحابة الذين اعتلوا منصة الخلافة ومهدوا لقيام الدولة الأموية بصفة مباشرة نزولا علي حكم قريش التي تأبي أن تكون النبوة والخلافة في بني هاشم [46] . وللدولة الأموية الحق بل من واجبها أن تشكر أولئك الذين مهدوا لها، وأقل الشكر أن تستأجروا رواة مأجورين يروون في فضائل أسيادهم ما تسير به الركبان وفي نفس الوقت يرفعون هؤلاء فوق منزلة خصومهم أهل البيت باختلاق الفضائل والمزايا التي يشهد الله أنها إذا ما بحثت تحت ضوء الأدلة الشرعية والعقلية والمنطقية، فلن يبقي منها شئ يذكر، اللهم إلا إذا أصاب عقولنا مس وآمنا بالتناقضات. وعلي سبيل المثال لا الحصر، فإننا نسمع الكثير من عدل عمر الذي سارت به الركبان حتي قيل (عدلت فنمت) وقيل دفن عمر واقفا لئلا يموت العدل معه وفي عدل عمر حدث ولا حرج، ولكن التاريخ الصحيح يحدثنا بأن عمر حين فرض العطاء في سنة عشرين للهجرة لم يتوخ سنة رسول الله ولم يتقيد بها، فقد ساوي النبي صلي الله عليه وآله بين جميع المسلمين في العطاء فلم يفضل أحدا علي [ صفحه 108] أحد، واتبعه في ذلك أبو بكر مدة خلافته، ولكن عمر بن الخطاب اخترع طريقة جديدة وفضل السابقين علي غيرهم وفضل المهاجرين من قريش علي غيرهم من المهاجرين، وفضل المهاجرين كافة علي الأنصار كافة، وفضل العرب علي سائر العجم، وفضل الصريح علي المولي [47] وفضل مضر علي ربيعة، ففرض لمضر ثلاثمائة ولربيعة مائتين [48] وفضل الأوس

علي الخزرج [49] . فأين هذا التفضيل من سنة رسول الله؟ ونسمع عن علم عمر بن الخطاب الكثير الذي لا حصر له حتي قيل أنه أعلم الصحابة وقيل أنه وافق ربه في كثير من آرائه التي ينزل القرآن بتأييدها في العديد من الآيات التي يختلف فيها عمر والنبي صلي الله عليه وآله. ولكن الصحيح من التاريخ يدلنا علي أن عمر لم يوافق القرآن حتي بعد نزوله، عندما سأله أحد الصحابة أيام خلافته فقال: يا أمير المؤمنين أني أجنبت فلم أجد الماء فقال له عمر: لا تصل واضطر عمار بن ياسر أن يذكره بالتيمم ولكن عمر لم يقنع بذلك وقال لعمار: إنا نحملك ما تحملت [50] . فأين عمر من آية التيمم المنزلة في كتاب الله وأين علمه من سنة النبي صلي الله عليه وآله الذي علمهم كيفية التيمم كما علمهم الوضوء، وعمر نفسه يعترف في العديد من القضايا بأنه ليس بعالم، بل بأن كل الناس أفقه منه حتي ربات الحجال وبقوله عدة مرات، لولا علي لهلك عمر، ولقد أدركه الأجل ومات ولم يعرف حكم الكلالة التي حكم فيها بأحكام متعددة ومختلفة كما يشهد بذلك التاريخ. كذلك نسمع عن بطولة عمر وشجاعته وقوته الشئ الكثير حتي قيل إن قريش خافت عندما أسلم عمر، وقويت شوكة المسلمين بإسلامه، وقيل إن الله أعز الإسلام بعمر بن الخطاب وقيل إن رسول الله لم يجهر بدعوته إلا بعد إسلام [ صفحه 109] عمر، ولكن التاريخ الثابت الصحيح، لا يوقفنا علي شئ من هذه البطولة والشجاعة، ولا يعرف التاريخ رجلا واحدا من المشاهير أو حتي من العاديين الذين قتلهم عمر بن الخطاب في مبارزة أو في معركة كبدر وأحد والخندق وغيرها،

بل العكس هو الصحيح فالتاريخ يحدثنا أنه هرب مع الهاربين في معركة أحد وكذلك هرب يوم حنين، وبعثه رسول الله لفتح مدينة خيبر فرجع مهزوما، وحتي السرايا التي شارك فيها كان تابعا غير متبوع، وآخرها سرية أسامة التي كان فيها مأمورا تحت قيادة الشاب أسامة بن زيد. فأين دعوي البطولات والشجاعة من هذه الحقائق..؟ ونسمع عن تقوي عمر بن الخطاب ومخافته وبكائه من خشية الله الشئ الكثير، حتي قيل إنه كان يخاف أن يحاسبه الله لو عثرت بغلة في العراق لأنه لم يعبد لها الطريق، ولكن التاريخ الثابت الصحيح يحدثنا بأنه كان فظا غليظا لا يتورع ولا يخاف فيضرب من يسأله عن آية من كتاب الله حتي يدميه بدون ذنب اقترفه، بل وتسقط المرأة حملها لمجرد رؤيته هيبة ومخافة منه، ولماذا لم يتورع مخافة من الله عندما سل سيفه وهدد كل من يقول بأن محمدا قد مات وأقسم بالله أنه لم يمت وإنما ذهب يناجيربه كما فعل موسي بن عمران وتوعد من يقول بموته بضرب عنقه [51] . ولماذا لم يتورع ولم يخش الله سبحانه في تهديد حرق بيت فاطمة الزهراء بالنار إن لم يخرج المتخلفون فيه للبيعة [52] وقيل له إن فيها فاطمة فقال: وإن ; وتجرأ علي كتاب الله وسنة رسوله فحكم في خلافته بأحكام تخالف النصوص القرآنية والسنة النبوية الشريفة [53] . وإنما أخذت هذا الصحابي الكبير الشهير كمثل واختصرت كثيرا لعدم الإطالة ولو شئت الدخول في التفاصيل لملأت كتبا عديدة، ولكن كما قلت: إنما أذكر هذه الموارد علي سبيل المثال لا الحصر. [ صفحه 110] والذي ذكرته هو نزر يسير يعطينا دلالة واضحة علي نفسيات الصحابة وموقف العلماء من أهل السنة

المتناقض، فبينما يمنعون علي الناس نقدهم والشك فيهم، يروون في كتبهم ما يبعث علي الشك والطعن فيهم، وليت علماء السنة والجماعة لم يذكروا مثل هذه الأشياء الصريحة التي تمس كرامة الصحابة وتخدش في عدالتهم إذن لأراحونا من عناء الارتباك. وإني أتذكر لقائي مع أحد علماء النجف الأشرف وهو أسد حيدر مؤلف كتاب (الإمام الصادق والمذاهب الأربعة) وكنا نتحدث عن السنة والشيعة، فروي لي قصة والده الذي التقي في الحج عالما تونسيا من علماء الزيتونة، وذلك منذ خمسين عاما، ودار بينهما نقاش في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فكان العالم التونسي يستمع إلي والدي وهو يعدد الأدلة علي إمامته (ع) وأحقيته في الخلافة فأحصي أربعة أو خمسة أدلة، ولما انتهي سأله العالم الزيتوني هل لديك غير هذا؟ قال: لا، فقال التونسي: أخرج مسبحتك وابدأ في العد، وأخذ يذكر الأدلة علي خلافة الإمام علي (ع) حتي عدد له مائة دليل لا يعرفها والدي، وأضاف الشيخ أسد حيدر: لو يقرأ أهل السنة والجماعة ما في كتبهم، لقالوا مثل مقالتنا ولانتهي الخلاف بيننا من زمان بعيد. ولعمري إنه الحق الذي لا مفر منه لو يتحرر الإنسان من تعصبه الأعمي وكبريائه وينصاع للدليل الواضح. [ صفحه 111]

رأي القرآن في الصحابة

اشاره

قبل كل شئ لا بد لي أن أذكر أن الله سبحانه وتعالي قد مدح في كتابه العزيز في العديد من المواقع صحابة رسول الله الذين أحبوا الرسول واتبعوه وأطاعوه في غير مطمع وفي غير معارضة ولا استعلاء ولا استكبار، بل ابتغاء مرضاة الله ورسوله، أولئك رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه. وهذا القسم من الصحابة الذين عرف المسلمون قدرهم من خلال مواقفهم وأفعالهم معه صلي الله عليه

وآله أحبوهم وأجلوهم وعظموا قدرهم وترضوا عنهم كلما ذكروهم. وبحثي لا يتعلق بهذا القسم من الصحابة الذين هم محط الاحترام والتقدير من السنة والشيعة. كما لا يتعلق بالقسم الذي اشتهر بالنفاق والذين هم معرضون للعن المسلمين جميعا من السنة والشيعة. ولكن بحثي يتعلق بهذا القسم من الصحابة الذين اختلف فيهم المسلمون، ونزل القرآن بتوبيخهم وتهديدهم في بعض المواقع، والذين حذرهم رسول الله صلي الله عليه وآله في العديد من المناسبات أو حذر منهم. نعم الخلاف القائم بين الشيعة والسنة هو في هذا القسم من الصحابة إذ أن الشيعة ينتقدون أقوالهم وأفعالهم ويشكون في عدالتهم، بينما يحترمهم أهل السنة [ صفحه 112] والجماعة رغم كل ما ثبت عنهم من مخالفات. وبحثي إنما يتعلق بهؤلاء (هذا القسم من الصحابة) حتي أتمكن من خلاله من الوصول إلي الحقيقة أو بعض الحقيقة. أقول هذا حتي لا يتوهم أحد أني أغفلت الآيات التي تمدح أصحاب رسول الله وأبرزت الآيات القادحة فقط، بل إني خلال البحث اكتشفت أن هناك آيات مادحة تتضمن في طيها قدحا أو ما هو نقيض ذلك. وسوف لن أكلف نفسي جهدا كبيرا كما فعلت ذلك خلال السنوات الثلاث من البحث، بل سأكتفي بذكر بعض الآيات كأمثلة، كما جرت العادة وذلك للاختصار، وعلي الذين يريدون التوسع أن يتكبدوا عناء البحث والتنقيب والمقارنة كما فعلت لتكون هدايتهم بعرق الجبين وعصارة الفكر كما يطلبه الله من كل أحد وما يتطلبه الوجدان لقناعة راسخة لا تزحزحها الرياح والعواصف ومن المعلوم بالضرورة أن الهداية التي تكون عن قناعة نفسية أفضل بكثير من التي تكون بمؤثرات خارجية.قال تعالي يمدح نبيه: (ووجدك ضالا فهدي) [54] أي وجدك تبحث عن الحق فهداك إليه، وقال أيضا:

(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) [55] .

محمد رسول الله

والمثال الأول علي ذلك هو آية محمد رسول الله، يقول الله تعالي: (محمد رسول الله والذين معه أشداء علي الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوي علي [ صفحه 113] سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما). فهذه الآية الكريمة كلها مدح لرسول الله والصحابة الذين معه الذين هم - علي الوصف الذي ذكره الله تعالي - من الشدة علي الكفار ومن الرحمة علي بعضهم البعض، وتمضي الآية الكريمة في مدح هؤلاء وذكر أوصافهم حتي تنتهي بوعده سبحانه وتعالي بالمغفرة والأجر العظيم ليس لكل الصحابة المذكورين ولكن للبعض منهم، الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فكلمة منهم التي ذكرها الله تعالي دلت علي التبعيض وأوحت أن البعض من هؤلاء لا تشملهم مغفرة الله ورضوانه ودلت أيضا علي أن البعض من الصحابة انتفت منهم صفة الإيمان والعمل الصالح، فهذه من الآيات المادحة والقادحة في آن واحد فهي بينما تمدح نخبة من الصحابة تقدح في آخرين. ومن المؤسف المثير أن الكثيرين يستدلون بهذه الآية الكريمة علي عصمة الصحابة وعدالتهم ويحتجون بها علي الشيعة، في حين أنها حجة عليهم واضحة جلية في تأييد الشيعة القائلين بتقسيم الصحابة إلي مؤمن مخلص استكمل الإيمان وعمل الصالحات فوعده الله المغفرة والرضوان والأجر العظيم، وآخر أسلم ولما يدخل الإيمان في قلبه أو آمن وعمل صالحا في عهد الرسالة ولكنه انقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا وقد توعده الله بإحباط أعماله لمجرد رفع صوته

فوق صوت النبي، فما بالك بمن عصي الله ورسوله، وضل ضلالا مبينا، ثم ما بالك بمن حكم بما لم ينزل إليه أو بدل أحكام الله فأحل ما حرمه الله وحرم ما أحله الله، واتبع في كل ذلك رأيه وهواه.

آية الانقلاب

قال تعالي في كتابه العزيز: [ صفحه 114] (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) [56] صدق الله العظيم. فهذه الآية الكريمة صريحة وجلية في أن الصحابة سينقلبون علي أعقابهم بعد وفاة الرسول مباشرة ولا يثبت منهم إلا القليل كما دلت علي ذلك الآية في تعبير الله عنهم - أي عن الثابتين الذين لا ينقلبون - بالشاكرين، فالشاكرون لا يكونون إلا قلة قليلة كما دل علي ذلك قوله سبحانه وتعالي: (وقليل من عبادي الشكور) [57] . وكما دلت عليه أيضا الأحاديث النبوية الشريفة التي فسرت هذا الانقلاب، والتي سوف نذكر البعض منها وإذا كان الله سبحانه لم يبين عقاب المنقلبين علي أعقابهم في هذه الآية واكتفي بتمجيد الشاكرين الذين استحقوا جزاءه سبحانه وتعالي، غير أنه من المعلوم بالضرورة أن المنقلبين علي الأعقاب لا يستحقون ثواب الله وغفرانه، كما أكد ذلك رسول الله صلي الله عليه وآله في أحاديث متعددة سوف نبحث في البعض منها إن شاء الله في هذا الكتاب. ولا يمكن تفسير الآية الكريمة بطليحة وسجاح والأسود العنسي، وذلك حفاظا علي كرامة الصحابة، فهؤلاء قد انقلبوا وارتدوا عن الإسلام وادعوا النبوة في حياته صلي الله عليه وآله وقد حاربهم رسول الله وانتصر عليهم، كما لا يمكن تفسير الآية الكريمة بمالك بن نويرة وأتباعه الذين

منعوا الزكاة في زمن أبي بكر لعدة أسباب، منها: أنهم إنما منعوها ولم يعطوها إلي أبي بكر تريثا منهم حتي يعرفوا حقيقة الأمر، إذ أنهم حجوا مع رسول الله صلي الله عليه وآله في حجة الوداع وقد بايعوا الإمام علي بن أبي طالب في غدير خم بعد ما نصبه رسول الله للخلافة كما بايعه أبو بكر نفسه، ففوجئوا عند قدوم رسول الخليفة بنعي رسول الله وطلبه الزكاة باسم الخليفة الجديد أبي بكر، وهي قضية لا يريد التاريخ الغوص في أعماقها حفاظا علي كرامة الصحابة أيضا، ومنها أن مالكا وأتباعه مسلمون شهد بذلك عمر وأبو [ صفحه 115] بكر نفسه وعدة من الصحابة الذين أنكروا علي خالد بن الوليد قتله مالك بن نويرة، والتاريخ يشهد أن أبا بكر أدي دية مالك لأخيه متمم من بيت مال المسلمين واعتذر له عن قتله، ومن المعلوم أن المرتد عن الإسلام يجب قتله ولا تؤدي ديته من بيت المال، ولا يعتذر عن قتله. والمهم أن آية الانقلاب تقصد الصحابة مباشرة الذين يعيشون معه صلي الله عليه وآله في المدينة المنورة وترمي إلي الانقلاب مباشرة بعد وفاته صلي الله عليه وآله بدون فصل والأحاديث النبوية توضح ذلك بما لا يدع مجالا للشك وسوف نطلع عليها قريبا إن شاء الله، والتاريخ أيضا خير شاهد علي الانقلاب الذي وقع بعد وفاة رسول الله صلي الله عليه وآله ومن يستعرض الأحداث التي وقعت بين الصحابة عند وفاة النبي لا يبقي لديه أي ريب في أن الانقلاب وقع في صفوفهم ولم ينج منهم إلا القليل.

آية الجهاد

قال تعالي: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلي الأرض أرضيتم

بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله علي كل شئ قدير) [58] صدق الله العظيم. هذه الآية صريحة أيضا في أن الصحابة تثاقلوا عن الجهاد واختاروا الركون إلي الحياة الدنيا رغم علمهم بأنها متاع قليل، حتي استوجبوا توبيخ الله سبحانه وتهديده إياهم بالعذاب الأليم، واستبدال غيرهم من المؤمنين الصادقين بهم. وقد جاء هذا التهديد باستبدال غيرهم في العديد من الآيات مما يدل دلالة واضحة علي أنهم تثاقلوا عن الجهاد في مرات عديدة، فقد جاء في قوله تعالي:(وأن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) [59] . [ صفحه 116] وكقوله تعالي أيضا: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة علي المؤمنين أعزة علي الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) [60] . ولو أردنا استقصاء ما هنالك من الآيات الكريمة التي تؤكد هذا المعني وتكشف بوضوح عن حقيقة هذا التقسيم الذي يقول به الشيعة بشأن هذا القسم من الصحابة لاستوجب ذلك كتابا خاصا، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بأوجز العبارات وأبلغها حين قال: (ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون) [61] صدق الله العلي العظيم. وهذه الآيات كما

لا يخفي علي كل باحث مطلع تخاطب الصحابة وتحذرهم من التفرقة والاختلاف من بعد ما جاءهم البينات وتتوعدهم بالعذاب العظيم وتقسمهم إلي قسمين قسم يبعث يوم القيامة بيض الوجوه وهم الشاكرون الذين استحقوا رحمة الله، وقسم يبعث مسود الوجوه وهم الذين ارتدوا بعد الإيمان وقد توعدهم الله سبحانه بالعذاب العظيم. ومن البديهي المعلوم أن الصحابة تفرقوا بعد النبي واختلفوا وأوقدوا نار الفتنة حتي وصل بهم الأمر إلي القتال والحروب الدامية التي سببت انتكاس المسلمين وتخلفهم وأطمعت فيهم أعداءهم، والآية المذكورة لا يمكن تأويلها وصرفها عن مفهومها المتبادر للأذهان. [ صفحه 117]

آية الخشوع

قال تعالي: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) [62] صدق الله العلي العظيم. وفي الدر المنثور جلال الدين السيوطي قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله المدينة، فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد ما كان بهم من الجهد، فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت: (ألم يأن للذين آمنوا) وفي رواية أخري عن النبي صلي الله عليه وآله أن الله سبحانه استبطأ قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن فأنزل الله (ألم يأن للذين آمنوا). وإذا كان هؤلاء الصحابة وهم خيرة الناس علي ما يقوله أهل السنة والجماعة، لم تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق طيلة سبعة عشر عاما حتي استبطأهم الله وعاتبهم وحذرهم من قسوة القلوب التي تجرهم إلي الفسوق، فلا لوم علي المتأخرين من سراة قريش الذين أسلموا في السنة الثامنة للهجرة بعد فتح مكة. فهذه بعض الأمثلة التي

استعرضتها من كتاب الله العزيز كافية للدلالة علي أن الصحابة ليسوا كلهم عدولا كما يقوله أهل السنة والجماعة. وإذا فتشنا في أحاديث النبي صلي الله عليه وآله فسنجد أضعاف الأضعاف من الأمثلة الأخري ولكن توخيا للاختصار أسوق بعض الأمثلة وعلي الباحث أن يتوسع إذا أراد ذلك. [ صفحه 119]

رأي الرسول في الصحابة

حديث الحوض

قال رسول الله صلي الله عليه وآله: (بينما أنا قائم فإذا زمرة حتي إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال، هلم، فقلت إلي أين؟ فقال: إلي النار والله، قلت ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك علي أدبارهم القهقري، فلا أري يخلص منهم إلا مثل همل النعم) [63] . وقال صلي الله عليه وآله: (إني فرطكم علي الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن غير بعدي) [64] . فالمتمعن في هذه الأحاديث العديدة التي أخرجها علماء أهل السنة في صحاحهم ومسانيدهم، لا يتطرق إليه الشك في أن أكثر الصحابة قد بدلوا [ صفحه 120] وغيروا بل ارتدوا علي أدبارهم بعده صلي الله عليه وآله إلا القليل الذي عبر عنه بهمل النعم، ولا يمكن بأي حال من الأحوال حمل هذه الأحاديث علي القسم الثالث وهم المنافقون، لأن النص يقول: فأقول أصحابي. ولأن المنافقين لم يبدلوا بعد النبي وإلا لأصبح المنافق بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله مؤمنا. كما أن هذه الأحاديث هي مصداق وتفسير لما سجلناه سابقا من الآيات الكريمة التي تحدثت عن انقلابهم وارتدادهم وتوعدهم بالعذاب الأليم.

حديث اتباع اليهود والنصاري

قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتي لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا يا رسول الله اليهود والنصاري؟ قال فمن) [65] . وللباحث أن يتسأل عندما يقرأ هذا الحديث المجمع علي صحته، ماذا فعل الصحابة المقصودون بهذا الحديث من فعل اليهود والنصاري حتي وصفهم رسول الله بأنهم يتبعونهم شبرا بشبر

وذراعا بذراع حتي لو دخلوا جحر ضب لدخلوا مدخلهم. ومن المعلوم من القرآن الكريم ومن التاريخ الصحيح أن اليهود تمردوا علي موسي رسول الله إليهم وعصوا أمره وآذوه، وعبدوا العجل في غيابه وتآمروا علي أخيه هارون وكادوا يقتلونه، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله جزاء بما كانوا يفعلون، وقد ارتدوا بعد إيمانهم وتآمروا علي أنبياء الله وكلما جاءهم رسول بما لا تهوي أنفسهم ففريقا كذبوا وفريقا يقتلون، ووصل بهم الأمر أن تآمروا علي سيدنا عيسي وبهتوا أمه الطاهرة ولم يهدؤوا حتي قتلوه وصلبوه بزعمهم [66] واختلفوا بعد ذلك وتفرقوا فيه فمن قائل بأنه دجال كذاب، ومن [ صفحه 121] مغال أنزله منزلة الإله فقال هو ابن الله. ولمصداق هذا الحديث فمن حقي أن أتصور بأن الصحابة أيضا عصوا أمر رسول الله في أمور كثيرة منها منعهم أن يكتب لهم الكتاب الذي يصونهم من الضلالة، ومنها طعنهم في تأميره أسامة ورفضهم أن يخرجوا معه حتي بعد وفاة الرسول وقد لعن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم المتخلف عنه ممن عبأهم، ومنها تفرقهم واختلافهم في سقيفة بني ساعدة لاستخلاف الخليفة، ولم يقبلوا بمن نص عليه رسول الله في غدير خم وهو علي بن أبي طالب حسبما يدعيه الشيعة ولهم شواهد لا تقبل التأويل في صحاح السنة وتواريخهم وهددوا ابنته فاطمة الزهراء سيدة النساء بحرق دارها إذا لم يخرج المتخلفون للبيعة قهرا، ومن المعقول جدا أن يقبل الباحث المنصف النص الصريح علي علي بن أبي طالب، لأنه ليس من المعقول أن يموت رسول الله ولا يعين أحدا، وهو الذي لم يخرج من المدينة إلي غزوة أو سفر إلا واستخلف عليهم أحدا، ومن المعقول أيضا أن

يقبل الباحث المنصف بقول الإمام شرف الدين في كتابه (المراجعات) حيث قال لشيخ الأزهر الشيخ سليم البشري: - سلمتم - سلمكم الله تعالي - بتأخرهم في سرية أسامة، علي السير، وتثاقلهم في الجرف تلك المدة مع ما قد أمروا من الاسراع والتعجيل وسلمتم بطعنهم في تأمير أسامة مع ما وعوه ورأوه من النصوص قولا وفعلا علي تأميره وسلمتم بطلبهم من أبي بكر عزله بعد غضب النبي صلي الله عليه وآله وسلم من طعنهم في إمارته، وخروجه بسبب ذلك محموما معصبا مدثرا، وتنديده بهم في خطبته تلك علي المنبر التي قلتم إنها كانت من الوقائع التاريخية وقد أعلن فيه كون أسامة أهلا لتلك الإمارة. وسلمتم يطلبهم من الخليفة إلغاء البعث الذي بعثه رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وحل اللواء الذي عقده بيده الشريفة، مع ما رأوه من اهتمامه في [ صفحه 122] إنفاذه وعنايته التامة في تعجيل إرساله، ونصوصه المتوالية في وجوب ذلك. وسلمتم بتخلف بعض من عبأهم صلي الله عليه وآله وسلم، في ذلك الجيش وأمرهم بالنفوذ تحت قيادة أسامة. وسلمتم بكل هذا كما نص عليه أهل الأخبار، واجتمعت عليه كلمة المحدثين وحفظة الآثار، وقلتم إنهم كانوا معذورين في ذلك، وحاصل ما ذكرتموه من عذرهم أنهم آثروا في هذه الأمور مصلحة الإسلام بما اقتضته أنظارهم لا بما أوجبته النصوص النبوية ونحن ما ادعينا - في هذا المقام - أكثر من هذا. وبعبارة أخري فإن تساؤلنا يدور حول ما يلي: هل كانوا في تعبدهم وفق النصوص جميعها أم بعضها؟ لقد اخترتم الأول، ونحن اخترنا الثاني، فاعترافكم الآن بعدم تعبدهم في هذه الأوامر يثبت ما اخترناه، وكونهم معذورين أو غير معذورين خارج عن موضوع البحث

كما لا يخفي، وحيث ثبت لديكم إيثارهم في سرية أسامة مصلحة الإسلام بما اقتضته أنظارهم علي التعبد بما أوجبته تلك النصوص، فلم لا تقولون أنهم آثروا في أمر الخلافة بعد النبي صلي الله عليه وآله وسلم، مصلحة الإسلام بما اقتضته أنظارهم علي التعبد بنصوص الغدير وأمثالها. اعتذرتم عن طعن الطاعنين في تأمير أسامة بأنهم إنما طعنوا بتأميره لحداثته مع كونهم بين كهول وشيوخ، وقلتم إن نفوس الكهول والشيوخ تأبي بجبلتها وطبعها أن تنقاد إلي الأحداث، فلم لم تقولوا هذا بعينه فيمن لم يتعبدوا بنصوص الغدير المقتضية لتأمير علي وهو شاب علي كهول الصحابة وشيوخهم، لأنهم بحكم الضرورة من أخبارهم، قد استحدثوا سنه يوم مات رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، كما استحدثوا سن أسامة يوم ولاه صلي الله عليه وآله وسلم عليهم في تلك السن وشتان ما بين الخلافة وإمارة السرية، فإذا أبت نفوسهم بجبلتها أن تنقاد للحدث في سرية واحدة، فهي أولي بأن تأبي أن تنقاد للحدث مدة حياته في جميع الشؤون الدنيوية والأخروية، علي أن ما ذكرتموه من أن نفوس الشيوخ والكهول تنفر بطبعها من الانقياد للأحداث ممنوع، إن كان مرادكم [ صفحه 123] الاطلاق في هذا الحكم، لأن نفوس المؤمنين من الشيوخ الكاملين في إيمانهم لا تنفر من طاعة الله ورسوله في الانقياد للأحداث، ولا في غيره من سائر الأشياء (فلا وربك لا يؤمنون حتي يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) انتهي كلامه نقلناه من كتاب المراجعات (المراجعة رقم 92).

حديث البطانتين

قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: (ما بعث الله من نبي

ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصمه الله) [67] . وهذا الحديث فيه دلالة واضحة علي أن الصحابة كانوا قسمين بطانة تأمر الرسول بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، وإذا أردنا التوسع في هذا الموضوع لازددنا يقينا بأن بعض الصحابة كانوا يشيرون علي رسول الله بغير المعروف. ومثال ذلك ما أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد من جزئه الأول وحكم ابن جرير بصحته، قال: جاء إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم أناس من قريش فقالوا: يا محمد إنا جيرانك وحلفاؤك وإن أناسا من غلماننا قد أتوك ليس بهم رغبة في الإسلام ولا رغبة في الفقه إنما فروا من ضياعنا، فقال النبي لأبي بكر ما تقول قال صدقوا إنهم جيرانك وحلفاؤك فتغير وجه النبي بما أشار به ثم قال لعمر ما تقول قال صدقوا إنهم جيرانك وحلفاؤك فتغير وجه النبي بما أشار به هو الآخر عليه [68] . [ صفحه 124] وهذه القصة هي مصداق لحديث البطانتين والذي أشار به أبو بكر وعمر لم يكن من الخير ولا من المعروف وإلا لما تغير وجه النبي صلي الله عليه وآله وسلم. كما أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ومسلم في صحيحه قال سمعت عمر يقول: قسم رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قسمة فقلت يا رسول الله لغير هؤلاء أحق منهم، أهل الصفة، قال: فقال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: إنكم تسألوني بالفحش، وتبخلوني ولست بباخل [69] . وهذه القصة هي الأخري صريحة في أن عمر بن الخطاب ليس من البطانة التي تأمر بالمعروف وتحض عليه بل

هو من الذين يسألون بالفحش ويأمرون بالبخل علي ما جاء في حديث الرسول صلي الله عليه وآله وسلم.

حديث التنافس علي الدنيا

قال صلي الله عليه وآله وسلم: (إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلي حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض (أو مفاتيح الأرض) وإني والله ما أخاف عليكم أنتشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها) [70] . صدق رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، فقد تنافسوا علي الدنيا حتي سلت سيوفهم وتحاربوا وكفر بعضهم بعضا، وقد كان بعض هؤلاء الصحابة المشهورين يكنز الذهب والفضة في حين يموت بعض المسلمين جوعا ويحدثنا المؤرخون كالمسعودي في مروج الذهب والطبري وغيرهم أن ثروة الزبير وحده بلغت خمسين ألف دينار وألف فرس وألف عبد وضياعا كثيرة في البصرة وفي الكوفة وفي مصر وغيرها [71] . [ صفحه 125] كما بلغت غلة طلحة من العراق وحده كل يوم ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك [72] . وكان لعبد الرحمن بن عوف مائة فرس، وله ألف بعير وعشرة آلاف شاة،وبلغ ربع ثمن ماله الذي قسم علي زوجاته بعد وفاته أربعة وثمانين ألفا [73] . وترك عثمان بن عفان يوم مات مائة وخمسين ألف دينار عدا المواشي والأراضي والضياع مما لا يحصي وترك زيد بن ثابت من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس حتي مجلت أيدي الناس، ما عدا الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار [74] . هذه بعض الأمثلة البسيطة وفي التاريخ شواهد كثيرة لا نريد الدخول في بحثها الآن ونكتفي بهذا القدر للدلالة علي صدق الحديث وأنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها، فكدسوا الأموال علي حساب المستضعفين من المسلمين. [ صفحه 127]

رأي الصحابة بعضهم في بعض

شهادتهم علي أنفسهم بتغيير سنة النبي

عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلي الله عليه وآله يخرج يوم الفطر والأضحي إلي المصلي فأول شئ يبدأ

به الصلاة ثم ينصرف فيقول مقابل الناس والناس جلوس علي صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم فإن كان يريد أن يقطع بحثا قطعه أو يأمر بشئ أمر به ثم ينصرف، قال أبو سعيد فلم يزل الناس علي ذلك حتي خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحي أو فطر فلما أتينا المصلي إذا منبر بناه كثير بن الصلت فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل أن يصلي فقلت له غيرتم والله ; فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم. فقلت ; ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال إن الناس لم يكونوا يجلسونلنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة [75] . وقد بحثت كثيرا عن الدوافع التي جعلت هؤلاء الصحابة يغيرون سنة رسول الله صلي الله عليه وآله، واكتشفت أن الأمويين وأغلبهم من صحابة النبي وعلي رأسهم معاوية بن أبي سفيان (كاتب الوحي) كما يسمونه كان يحمل الناس ويجبرهم علي سب علي بن أبي طالب ولعنه من فوق منابر المساجد، كما ذكر ذلك المؤرخون، [ صفحه 128] وقد أخرج مسلم في صحيحه في باب (فضائل علي بن أبي طالب) مثل ذلك ; وأمر - يعني معاوية - عماله في كل الأمصار باتخاذ ذلك اللعن سنة يقولها الخطباء علي المنابر، ولما استاء من ذلك بعض الصحابة واستنكر هذا الفعل أمر معاوية بقتلهم وحرقهم وقد قتل من مشاهير الصحابة حجر بن عدي الكندي وأصحابه ودفن بعضهم أحياء لأنهم امتنعوا عن لعن علي واستنكروه وقد أخرج أبو الأعلي المودودي في كتابه (الخلافة والملك) نقلا عن الحسن البصري قال: أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة له: (1)

أخذه الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة ذوو الفضيلة. (2) استخلافه بعده ابنه سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب الطنابير. (3) ادعاؤه زيادا وقد قال رسول الله صلي الله عليه وآله الولد للفراش وللعاهر الحجر. (4) قتله حجرا وأصحاب حجر فيا ويلا له من حجر ويا ويلا له من حجروأصحاب حجر [76] . وكان بعض المؤمنين من الصحابة يفرون من المسجد بعد الفراغ من الصلاة حتي لا يحضروا الخطبة التي تختم بلعن علي وأهل بيته، ومن أجل ذلك غير بنو أمية سنة رسول الله وقدموا الخطبة علي الصلاة حتي يحضرها الناس ويرغموا بذلك أنوفهم. مرحي لهؤلاء الصحابة الذين لا يتورعون عن تغيير سنة الرسول وحتي أحكام الله للوصول إلي أغراضهم الدنيئة وأحقادهم الدفينة ومطامعهم الخسيسة، ويلعنون رجلا أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيرا وأوجب الصلاة عليه كالصلاة علي رسوله، وأوجب الله ورسوله مودته وحبه حتي قال النبي:(حب علي إيمان وبغضه نفاق) [77] . ولكن هؤلاء الصحابة بدلوا وغيروا وقالوا سمعنا وعصينا وبدلا من أن [ صفحه 129] يصلوا عليه ويحبوه ويطيعوه، شتموه ولعنوه طيلة ستين عاما كما جاء في كتب التاريخ. فإذا كان أصحاب موسي قد تآمروا علي هارون وكادوا يقتلونه، فإن بعض أصحاب محمد قتلوا هارونه وتتبعوا أولاده وشيعته تحت كل حجر ومدر ومحوا أسماءهم من الديوان ومنعوا أن يتسمي أحد باسمه، ولم يكتفوا بكل ذلك بل لعنوه وحملوا الصحابة المخلصين علي ذلك قهرا وظلما. وإني والله لأقف حائرا مبهوتا عندما أقرأ صحاحنا وما سجل فيها من حب الرسول لأخيه وابن عمه علي وتقديمه علي كل الصحابة حتي قال فيه: أنت مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي [78] . وقال

له: أنت مني وأنا منك [79] وقال: حب علي إيمان وبغضه نفاق [80] ،وقال أنا مدينة العلم وعلي بابها [81] وقال: علي ولي كل مؤمن بعدي [82] . وقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه [83] ، ولو أردنا استقصاء الفضائل التي ذكرها النبي في علي والتي أخرجها علماؤنا معترفين بصحتها لاستوجب كتابا خاصا، فكيف يا تري يتجاهل الصحابة هذه النصوص ويسبون عليا وينصبون له العداء ويلعنونه فوق المنابر وكيف يقاتلونه ويقتلونه. وإني أحاول عبثا أن أجد مبررا لهؤلاء فلا أجد غير حب الدنيا والتنافس فيها أو النفاق أو الارتداء والانقلاب علي الأعقاب، وأحاول أيضا إلصاق هذه [ صفحه 130] المسؤولية بحثالة الصحابة وبعض المنافقين، ولكن هؤلاء - للأسف الشديد - معدودون من أكابرهم وأفاضلهم ومشاهيرهم، فأول من هدد بحرق بيته - بمن فيه - هو عمر بن الخطاب، وأول من حاربه هو طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر، ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وأمثالهم كثيرون. وإن عجبي لكبير وسوف لن ينتهي، كما يؤيدني في ذلك كل مفكر حر، عاقل، كيف يجمع علماء أهل السنة والجماعة علي عدالة الصحابة كافة ويترضون عليهم بل ويصلون عليهم أجمعين، لا يستثنون منهم واحدا حتي قال بعضهم: (العن يزيد ولا تزيد) فأين يزيد من هذه المآسي التي لا يقرها دين ولا عقل، وإنني أربأ بأهل السنة والجماعة إن كانوا حقا يتبعون سنة الرسول، أن يحكموا بعدالة من حكم القرآن والسنة بفسقه وارتداده وكفره وقد قال رسول الله صلي الله عليه وآله (من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله، ومن سب الله أكبه علي منخريه في

النار) [84] . هذا جزاء من سب عليا فما بالك بمن لعنه وحاربه وقاتله فأين علماؤنا من كل هذه الحقائق، أم علي قلوب أقفالها. وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون.

الصحابة غيروا حتي في الصلاة

قال أنس بن مالك: ما عرفت شيئا مما كان علي عهد النبي صلي الله عليه وآله مثل الصلاة، قال أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها. وقال الزهري دخلت علي أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت ما يبكيك فقال: لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة وقد ضيعت [85] . [ صفحه 131] وحتي لا يتوهم أحد أن التابعين هم الذين غيروا ما غيروا بعد تلك الفتن والحروب، أود أن أذكر بأن أول من غير سنة الرسول في الصلاة هو خليفة المسلمين نفسه عثمان بن عفان وكذلك أم المؤمنين عائشة، فقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما: أن رسول الله صلي الله عليه وآله، صلي بمني ركعتين، وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر وعثمان صدرا من خلافته، ثم أن عثمان صلي بعد أربعا [86] . كما أخرج مسلم في صحيحه، قال الزهري قلت لعروة ما بال عائشة تتم الصلاة في السفر؟ قال إنها تأولت كما تأول عثمان. سبحان الله! وهل هناك تأويل يمحق السنة النبوية غير هذا وأمثاله من التأويلات؟ وهل يلوم أحد بعد هذا أبا حنيفة، أو أحد الأئمة أصحاب المذاهب الذين تأولوا، فحللوا وحرموا وفق تأويلهم واجتهادهم مقتدين في ذلك بسنة هؤلاء الصحابة. وكان عمر بن الخطاب يجتهد ويتأول مقابل النصوص الصريحة من السنن النبوية بل في مقابل النصوص الصريحة من القرآن الحكيم فيحكم برأيه، كقوله: (متعتان كانتا علي عهد رسول الله وأنا أنهي عنهما

وأعاقب عليهما)، ويقول لمن أجنب ولم يجد ماء: (لا تصل). رغم قول الله تعالي في سورة المائدة: (فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا). أخرج البخاري في صحيحه في باب (إذا خاف الجنب علي نفسه) قال: سمعت شقيق بن سلمة قال: كنت عند عبد الله وأبي موسي فقال له أبو موسي أرأيت يا أبا عبد الرحمن إذا أجنب فلم يجد ماء كيف يصنع فقال عبد الله لا يصلي حتي يجد الماء فقال أبو موسي فكيف تصنع بقول عمار حين قال له النبي صلي الله عليه وآله كان يكفيك أن تضرب ضربتين وعلمه التيمم، قال: ألم تر عمر لم يقنع بذلك فقال أبو موسي فدعنا من قول عمار كيف تصنع بهذه الآية فما دري عبد الله ما يقول [ صفحه 132] فقال إنا لو رخصنا لهم في هذا لأوشك إذا برد علي أحدهم الماء أن يدعه ويتيمم فقلت لشقيق: فإنما كره عبد الله لهذا، قال: نعم [87] . ما شاء الله! لقد نصب عبد الله هذا نفسه إماما علي الأمة فأفتي بما يحلو له وبما شاء هو، لا بما اقتضته أحكام الله التي أنزلها في القرآن، ورغم استدلال أبي موسي الأشعري بآية التيمم يقول عبد الله: (إنا لو رخصنا لهم في هذا) فمن أنت يا هذا؟؟ حتي تحلل وتحرم وترخص وتمنع كما تريد، ولعمري إنك اتبعت في ذلك سنة من قبلك وأصررت علي العناد لتأييد رأيه الذي كان يفتي بترك الصلاة عند فقدان الماء ولم يقتنع باحتجاج عمار بن ياسر عليه بالسنة النبوية كما لم تقتنع أنت باحتجاج أبي موسي بالآية القرآنية!، أفبعد هذا يدعي علماؤنا بأن الصحابة كالنجوم بأيهم اقتدينا اهتدينا، (أفمن هذا الحديث تعجبون

وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون!!) (النجم: 59).

الصحابة يشهدون علي أنفسهم

روي أنس بن مالك أن رسول الله صلي الله عليه وآله قال للأنصار: إنكم سترون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتي تلقوا الله ورسوله علي الحوض. قال أنس فلم نصبر [88] . وعن العلاء بن المسيب عن أبيه قال: لقيت البراء بن عازب رضي الله عنهما فقلت طوبي لك صحبت النبي صلي الله عليه وآله وبايعته تحت الشجرة، فقال: يا ابن أخي إنك لا تدري ما أحدثنا بعده. وإذا كان هذا الصحابي من السابقين الأولين الذين بايعوا النبي صلي الله عليه وآله تحت الشجرة، ورضي الله عنهم وعلم ما في قلوبهم فأثابهم فتحا قريبا، يشهد علي نفسه وعلي أصحابه بأنهم أحدثوا بعد النبي وهذه الشهادة هي مصداق ما أخبر [ صفحه 133] به صلي الله عليه وآله وتنبأ به من أن أصحابه سيحدثون بعده ويرتدون علي أدبارهم فهل يمكن لعاقل بعد هذا أن يصدق بعدالة الصحابة كلهم أجمعين (أكتعين أبصعين) علي ما يقول به أهل السنة والجماعة، والذي يقول هذا القول فإنه يخالف العقل والنقل ولا يبقي للباحث أي مقاييس فكرية يعتمدها للوصول إلي الحقيقة.

شهادة الشيخين علي نفسيهما

أخرج البخاري في صحيحه في باب مناقب عمر بن الخطاب قال: لما طعن عمر جعل يألم فقال له ابن عباس وكأنه يجزعه: يا أمير المؤمنين ولئن كان ذاك لقد صحبت رسول الله فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت صحابتهم فأحسنت صحبتهم ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون. قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله ورضاه فإنما ذاك من من الله تعالي من به علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك من

من الله جل ذكره من به علي، وأما ما تري من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك والله لوأن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه [89] . وقد سجل التاريخ له أيضا قوله: ليتني كنت كبش أهلي يسمنونني ما بدا لهم حتي إذا كنت أسمن ما أكون زارهم بعض من يحبون فجعلوا بعضي شواء وقطعوني قديدا ثم أكلوني وأخرجوني عذرة ولم أكن بشرا [90] . كما سجل التاريخ لأبي بكر مثل هذا، قال لما نظر أبو بكر إلي طائر علي شجرة: طوبي لك يا طائر تأكل الثمر وتقع علي الشجر وما من حساب ولا عقاب عليك، لوددت أني شجرة علي جانب الطريق مر علي جمل فأكلني وأخرجني في بعره ولم أكن من البشر [91] . [ صفحه 134] وقال مرة أخري: (ليت أمي لم تلدني، ليتني كنت تبنة في لبنة) [92] . تلك بعض النصوص أوردتها علي نحو المثال لا الحصر. وهذا كتاب الله يبشر عباده المؤمنين بقوله: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشري في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هوالفوز العظيم) [93] . ويقول أيضا: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا منغفور رحيم) [94] صدق الله العلي العظيم. فكيف يتمني الشيخان أبو بكر وعمر أن لا يكونا من البشر الذي كرمه الله علي سائر مخلوقاته. وإذا كان المؤمن العادي الذي يستقيم في

حياته تتنزل عليه الملائكة وتبشره بمقامه في الجنة فلا يخاف من عذاب الله ولا يحزن علي ما خلف وراءه في الدنيا وله البشري في الحياة الدنيا قبل أن يصل إلي الآخرة، فما بال عظماء الصحابة الذين هم خير الخلق بعد رسول الله - كما تعلمنا ذلك - يتمنون أن يكونوا عذرة، وبعرة، وشعرة، وتبنة، ولو أن الملائكة بشرتهم بالجنة ما كانوا ليتمنوا أن لهم مثل طلاع الأرض ذهبا ليفتدوا به من عذاب الله قبل لقاه. قال تعالي: (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) [95] . [ صفحه 135] وقال أيضا: (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون) [96] . وإنني أتمني من كل قلبي أن لا تشمل هذه الآيات، صحابة كبارا أمثال أبي بكر الصديق وعمر الفاروق.. بيد أنني أتوقف كثيرا عند مثل هذ النصوص لأطل علي مقاطع مثيرة من علاقتهم مع الرسول صلي الله عليه وآله وما شهدتها تلك العلاقة من تخلف عن إجراء أوامره وتلبية طلبه في اللحظات الأخيرة من عمره المبارك الشريف مما أغضبه ودفعه إلي أن يأمر الجميع بمغادرة المنزل وتركه، كما أنني أستحضر أمامي شريط الحوادث التي جرت بعد وفاة الرسول وما جري مع ابنته الزهراء الطاهرة (ع) من إيذاء وهضم وغمط وقد قال صلي الله عليه وآله: (فاطمة بضعة مني من أغضبها فقد أغضبني) [97] . وقالت فاطمة لأبي بكر وعمر: نشدتكما الله تعالي ألم

تسمعا رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: (رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي فمن أحب ابنتي فاطمة فقد أحبني ومن أرضي فاطمة فقد أرضاني ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني، قالا: نعم سمعناه من رسول الله صلي الله عليه وآله فقالت: فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه) [98] . ودعنا من هذه الرواية التي تدمي القلوب، فلعل ابن قتيبة وهو من علماء أهل السنة المبرزين في كثير من الفنون وله تآليف عديدة في التفسير والحديث واللغة والنحو والتاريخ، لعله تشيع هو الآخر كما قال لي أحد المعاندين مرة عندما أطلعته علي كتابه تاريخ الخلفاء، وهذه هي الدعاية التي يلجأ إليها بعض علمائنا بعدما تعييهم الحيلة، فالطبري عندنا تشيع والنسائي الذي ألف كتابا في [ صفحه 136] خصائص الإمام علي تشيع وابن قتيبة تشيع وحتي طه حسين من المعاصرين لما ألف كتابه الفتنة الكبري وذكر حديث الغدير واعترف بكثير من الحقائق الأخري فهو أيضا تشيع!!. والحقيقة أن كل هؤلاء لم يتشيعوا وعندما يتكلمون عن الشيعة لا يذكرون عنهم إلا ما هو مشين، وهم يدافعون عن عدالة الصحابة بكل ما أمكنهم، ولكن الذي يذكر فضائل علي بن أبي طالب ويعترف بما فعله كبار الصحابة من أخطاء نتهمه بأنه تشيع، ويكفي أن تقول أمام أحدهم عند ذكر النبي: (صلي الله عليه وآله) أو (تقول علي (ع))، حتي يقال: إنك شيعي، وعلي هذا الأساس قلت يوما لأحد علمائنا وأنا أحاوره: ما رأيك في البخاري؟ قال: هو من أئمة الحديث وكتابه أصح الكتب بعد كتاب الله عندنا وقد أجمع علي ذلك علماؤنا. فقلت له: إنه شيعي، فضحك مستهزئا وقال: حاشي الإمام

البخاري أن يكون شيعيا!! قلت: أوليس أنك ذكرت بأن كل من يقول: (علي (ع)) فهو شيعي؟ قال: بلي، فأطلعته ومن حضر معه علي صحيح البخاري وفي عدة مواقع عندما يأتي باسم علي يقول: (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) والحسين بن علي (عليهما السلام) [99] فبهت وما دري ما يقول. وأعود إلي رواية ابن قتيبة التي ادعي فيها أن فاطمة غضبت علي أبي بكر وعمر، فإذا شككت فيها فإنه لا يمكنني أن أشك في صحيح البخاري الذي هو عندنا أصح الكتب بعد كتاب الله، وقد ألزمنا أنفسنا بأنه صحيح وللشيعة أن يحتجوا به علينا ويلزموننا بما ألزمنا به أنفسنا وهذا هو الإنصاف للقوم العاقلين. فها هو البخاري يخرج من باب مناقب قرابة رسول الله، أن رسول الله صلي الله عليه وآله قال: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني. كما أخرج في باب غزوة خيبر، عن عائشة أن فاطمة (عليها السلام) بنت النبي أرسلت إلي أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله فأبي أبو بكر أن يدفع إلي [ صفحه 137] فاطمة منه شيئا فوجدت [100] فاطمة علي أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتي توفيت [101] . والنتيجة في النهاية هي واحدة ذكرها البخاري باختصار وذكرها ابن قتيبة بشئ من التفصيل، ألا وهي أن رسول الله صلي الله عليه وآله يغضب لغضب فاطمة ويرضي لرضاها وأن فاطمة ماتت وهي غاضبة علي أبي بكر وعمر. وإذا كان البخاري قد قال: ماتت وهي واجدة علي أبي بكر فلم تكلمه حتي توفيت فالمعني واحد كما لا يخفي، وإذا كانت فاطمة سيدة نساء العالمين كما صرح بذلك البخاري في كتاب الاستئذان باب من ناجي ين يدي الناس، وإذا كانت

فاطمة هي المرأة الوحيدة في هذه الأمة، التي أذهب الله عنها الرجس وطهرها تطهيرا، فلا يكون غضبها لغير الحق ولذلك يغضب الله ورسوله لغضبها، ولهذا قال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالي من سخطه وسخطك يا فاطمة، ثم انتحب أبو بكر باكيا حتي كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول: والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها، فخرج أبو بكر يبكي ويقول: لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي [102] . غير أن كثيرا من المؤرخين ومن علمائنا، يعترفون بأن فاطمة (عليها السلام) خاصمت أبا بكر في قضية النحلة والإرث وسهم ذي القربي فردت دعواها حتي ماتت وهي غاضبة عليه، إلا أنهم يمرون بهذه الأحداث مرور الكرام ولا يريدون التكلم فيها حفاظا علي كرامة أبي بكر كما هي عادتهم في كل ما يمسه من قريب أو بعيد ; ومن أعجب ما قرأته في هذا الموضوع قول بعضهم بعد ما ذكر الحادثة بشئ من التفصيل قال: (حاشي لفاطمة من أن تدعي ما ليس لها بحق، وحاشي لأبي بكر من أن يمنعها حقها). وبهذه السفسطة ظن هذا العالم أنه حل المشكلة وأقنع الباحثين وكلامه هذا [ صفحه 138] كقول القائل: (حاشي للقرآن الكريم أن يقول غير الحق، وحاشي لبني إسرائيل أن يعبدوا العجل). لقد ابتلينا بعلماء يقولون ما لا يفقهون ويؤمنون بالشئ ونقيضه في نفس الوقت والحال يؤكد أن فاطمة ادعت وأبا بكر رفض دعواها فإما أن تكون كاذبة و (العياذ بالله) حاشاها، أو أن يكون أبو بكر ظالما لها وليس هناك حل ثالث للقضية كما يريدها بعض علمائنا. وإذا امتنع بالأدلة العقلية والنقلية أن تكون سيدة النساء كاذبة لما ثبت عن أبيها رسول الله قوله: فاطمة

بضعة مني من آذاها فقد آذاني، ومن البديهي أن الذي يكذب لا يستحق مثل هذا النص من قبل الرسول صلي الله عليه وآله، فالحديث بذاته دال علي عصمتها من الكذب وغيره من الفواحش، كما أن آية التطهير دالة هي الأخري علي عصمتها وقد نزلت فيها وفي بعلها وابنيها بشهادة عائشة نفسها [103] ، فلم يبق إذن إلا أن يعترف العقلاء بأنها ظلمت فليس تكذيبها في دعواها إلا أمرا ميسورا لمن استباح حرقها إن لم يخرج المتخلفون في بيتها لبيعتهم [104] . ولكل هذا تراها - سلام الله عليها - لم تأذن لهما في الدخول عليها عندما استأذنها أبو بكر وعمر، ولما أدخلهما علي أدارت بوجهها إلي الحائط وما رضيت أن تنظر إليهما [105] . وقد توفيت ودفنت في الليل سرا بوصية منها حتي لا يحضر جنازتها أحد منهم [106] ، وبقي قبر بنت الرسول مجهولا حتي يوم الناس هذا وإنني أتسأل لماذا يسكت علماؤنا عن هذه الحقائق ولا يريدون البحث فيها ولا حتي ذكرها، ويصورون لنا صحابة رسول الله صلي الله عليه وآله وكأنهم ملائكة لا يخطئون ولا يذنبون!. وإذا ما سألت أحدهم كيف يقتل خليفة المسلمين سيدنا عثمان ذو النورين [ صفحه 139] فسيجيبك بأن المصريين - وهم كفرة - جاؤوا وقتلوه وينهي الموضوع كله بجملتين. ولكن عندما وجدت الفرصة للبحث وقراءة التاريخ وجدت أن قتلة عثمان بالدرجة الأولي هم الصحابة أنفسهم و في مقدمتهم أم المؤمنين عائشة التي كانت تنادي بقتله وإباحة دمه علي رؤوس الأشهاد فكانت تقول (اقتلوا نعثلا فقد كفر) [107] . كذلك نجد طلحة والزبير ومحمد بن أبي بكر وغيرهم من مشاهير الصحابة وقد حاصروه ومنعوه من شرب الماء ليجبروه

علي الاستقالة، ويحدثنا المؤرخون أن الصحابة هم الذين منعوا دفن جثته في مقابر المسلمين فدفن في (حش كوكب) بدون غسل ولا كفن، سبحان الله، كيف يقال لنا إنه قتل مظلوما وأن الذين قتلوه ليسوا مسلمين، وهذه القضية هي الأخري كقضية فاطمة وأبي بكر، فإما أن يكون عثمان مظلوما وعند ذلك نحكم علي الصحابة الذين قتلوه أو شاركوا في قتله بأنهم قتلة مجرمون لأنهم قتلوا خليفة المسلمين ظلما وعدوانا وتتبعوا جنازته يحصبونها بالحجارة وأهانوه حيا وميتا أو أن هؤلاء الصحابة استباحوا قتل عثمان لما اقترفه من أفعال تتنافي مع الإسلام كما جاء ذلك في كتب التاريخ، وليس هناك احتمال وسط إلا إذا كذبنا التاريخ وأخذنا بالتمويه (بأن المصريين وهم كفرة هم الذين قتلوه). وفي كلا الاحتمالين نفي قاطع لمقولة عدالة الصحابة أجمعين دون استثناء فأما أن يكون عثمان غير عادل أو يكون قتلته غير عدول وكلهم من الصحابة وبذلك تبطل دعوانا. وتبقي دعوي شيعة أهل البيت القائلين بعدالة البعض منهم دون الآخر. ونتسأل عن حرب الجمل التي أشعلت نارها أم المؤمنين عائشة إذ كانت [ صفحه 140] هي التي قادتها بنفسها، فكيف تخرج أم المؤمنين عائشة من بيتها التي أمرها الله بالاستقرار فيه بقوله تعالي: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولي) [108] . ونسأل بأي حق استباحت أم المؤمنين قتال خليفة المسلمين علي بن أبي طالب، وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة. وكالعادة وبكل بساطة يجيبنا علماؤنا بأنها لا تحب الإمام عليا لأنه أشار علي رسول الله بتطليقها في حادثة الإفك، ويريد هؤلاء إقناعنا بأن هذه الحادثة (إن صحت) وهي إشارة علي علي النبي بتطليقها كافية بأن تعصي أمر ربها وتهتك سترا ضربه عليها رسول

الله، وتركب جملا نهاها رسول الله أن تركبه وحذرها أن تنبحها كلاب الحوأب [109] ، وتقطع المسافات البعيدة من المدينة إلي مكة ومنها إلي البصرة، وتستبيح قتل الأبرياء ومحاربة أمير المؤمنين والصحابة الذين بايعوه، وتتسبب في قتل ألوف المسلمين كما ذكر ذلك المؤرخون [110] كل ذلك لأنها لا تحب الإمام عليا الذي أشار بتطليقها ومع ذلك لم يطلقها النبي، فلماذا كل هذه الكراهية وقد سجل المؤرخون لها مواقف عدائية للإمام علي لا يمكن تفسيرها، فقد كانت راجعة من مكة عندما أعلموها في الطريق بأن عثمانا قتل ففرحت فرحا شديدا ولكنها عندما علمت بأن الناس بايعوا عليا غضبت وقالت: وددت أن السماء انطبقت علي الأرض قبل أن يليها ابن أبي طالب وقالت ردوني وبدأت تشعل نار الفتنة للثورة علي علي الذي لا تريد ذكر اسمه كما سجله المؤرخون عليها، أفلم تسمع أم المؤمنين قول الرسول صلي الله عليه وآله: (بأن حب علي إيمان وبغضه نفاق) [111] حتي قال بعض الصحابة: (كنا لا نعرف المنافقين إلا ببغضهم لعلي). أولم تسمع أم المؤمنين قول النبي: (من كنت مولاه فعلي مولاه). إنها [ صفحه 141] لا شك سمعت كل ذلك ولكنها لا تحبه ولا تذكر اسمه بل إنها لما سمعت بموته سجدت شكرا لله [112] . ودعني من كل هذا فأنا لا أريد البحث عن تاريخ أم المؤمنين عائشة ولكن أريد الاستدلال علي مخالفة كثير من الصحابة لمبادئ الإسلام وتخلفهم عن أوامر رسول الله صلي الله عليه وآله، ويكفيني من فتنة أم المؤمنين دليل واحد أجمع عليه المؤرخون ; قالوا لما جازت عائشة ماء الحواب ونبحتها كلابها تذكرت تحذير زوجها رسول الله ونهيه إياها أن تكون هي صاحبة الجمل،

فبكت وقالت ردوني، ردوني. ولكن طلحة والزبير جاءاها بخمسين رجلا جعلا لهم جعلا، فأقسموا بالله أن هذا ليس بماء الحوأب فواصلت مسيرها حتي البصرة، ويذكر المؤرخون أنها أول شهادة زور في الإسلام [113] . دلونا أيها المسلمون يا أصحاب العقول النيرة علي حل لهذا الإشكال، أهؤلاء هم الصحابة الأجلاء الذين نحكم نحن بعدالتهم ونجعلهم أفضل البشر بعد رسول الله صلي الله عليه وآله! فيشهدون شهادة الزور التي عدها رسول الله صلي الله عليه وآله من الكبائر الموبقة التي تقود إلي النار. والسؤال نفسه يعود دائما ويتكرر أيهم علي الحق وأيهم علي الباطل، فإما أن يكون علي ومن معه ظالمين وعلي غير الحق، وإما أن تكون عائشة ومن معها وطلحة والزبير ومن معهم ظالمين وعلي غير الحق وليس هناك احتمال ثالث، والباحث المنصف لا أراه إلا مائلا لأحقية علي الذي يدور الحق معه حيث دار، نابذا فتنة (أم المؤمنين عائشة) وأتباعها الذين أوقدوا نارها وما أطفأوها حتي أكلت الأخضر واليابس وبقيت آثارها إلي اليوم. ولمزيد البحث وليطمئن قلبي أقول أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الفتن باب الفتنة التي تموج كموج البحر، قال: لما سار طلحة والزبير وعائشة إلي [ صفحه 142] البصرة بعث علي عمار بن ياسر والحسن بن علي فقدما علينا الكوفة فصعدا المنبر فكان الحسن بن علي فوق المنبر في أعلاه وقام عمار أسفل من الحسن فاجتمعنا إليه فسمعت عمارا يقول: إن عائشة قد سارت إلي البصرة ووالله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالي ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي [114] . كما أخرج البخاري أيضا في كتاب الشروط باب ما جاء في بيوت أزواج النبي، قال: قام النبي

صلي الله عليه وآله خطيبا فأشار نحو مسكن عائشة فقال هاهنا الفتنة، هاهنا الفتنة، هاهنا الفتنة من حيث يطلع قرن الشيطان [115] . كما أخرج البخاري في صحيحه عنها أشياء عجيبة وغريبة في سوء أدبها مع النبي حتي ضربها أبوها فأسال دمها وفي تظاهرها علي النبي حتي هددها الله بالطلاق وأن يبدله ربه خيرا منها وهذه قصص أخري يطول شرحها. وبعد كل هذا أتسأل كيف استحقت عائشة كل هذا التقدير والاحترام من أهل السنة والجماعة، ألأنها زوج النبي، فزوجاته كثيرات وفيهن من هي أفضل من عائشة بتصريح النبي نفسه [116] . أم لأنها ابنة أبي بكر! أم لأنها هي التي لعبت الدور الكبير في إنكار وصية النبي لعلي حتي قالت عندما ذكروا عندها أن النبي أوصي لعلي: قالت من قاله لقد رأيت النبي صلي الله عليه وآله و إني لمسندته إلي صدري فدعا بالطست فانحني فمات فماشعرت فكيف أوصي إلي علي [117] . أم لأنها حاربته حربا لا هوادة فيها وأولاده من بعده حتي اعترضت جنازة الحسن سيد شباب أهل الجنة ومنعت أن يدفن بجانب جده رسول الله قائلة: لا تدخلوا بيتي من لا أحب ونسيت أو تجاهلت قول الرسول فيه وفي أخيه: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، أو قوله: (أحب الله من أحبهما وأبغض الله [ صفحه 143] من أبغضهما)، أو قوله: (أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم) ; وغير ذلك كثير لست في معرض الكلام عنه.. كيف لا وهما ريحانتاه من هذه الأمة. ولا غرابة فقد سمعت في حق علي أضعاف ذلك ولكنها ورغم تحذير النبي صلي الله عليه وآله لها، أبت إلا محاربته وتأليب الناس عليه وإنكار فضله وفضائله. ومن

أجل ذلك أحبها الأمويون وأنزلوها تلك المنزلة العظيمة التي تقصر عنها المنازل ورووا في فضلها ما ملأ المطامير وسارت به الركبان حتي جعلوها المرجع الأكبر للأمة الإسلامية لأن عندها وحدها نصف الدين. ولعل نصف الدين الثاني خصوا به أبا هريرة الذي روي لهم ما يشتهون فقربوه وولوه إمارة المدينة وبنوا له قصر العقيق بعد ما كان معدما، ولقبوه براوية الإسلام. وبذلك سهل علي بني أمية أن يكون لهم دين كامل جديد ليس فيه من كتاب الله وسنة رسوله إلا ما تهواه أنفسهم ويتقوي به ملكهم وسلطانهم وخليق بهذا الدين أن يكون لعبا وهزوا مليئا بالمتناقضات والخرافات، وبذلك طمست الحقائق وحلت محلها الظلمات، وقد حملوا الناس عليها وأغروهم بها حتي أصبح دين الله عندهم مهزلة من المهازل لا يقيمون له وزنا ولا يخافون من الله كخوفهم من معاوية. وعندما نسأل بعض علمائنا عن حرب معاوية لعلي وقد بايعه المهاجرون والأنصار، تلك الحرب الطاحنة التي سببت انقسام المسلمين إلي سنة وشيعة وانصدع الإسلام ولم يلتئم حتي اليوم، فإنهم يجيبون كالعادة وبكل سهولة قائلين: إن عليا ومعاوية صحابيان جليلان اجتهدا فعلي اجتهد وأصاب فله أجران أما معاوية فاجتهد وأخطأ وله أجر واحد. وليس من حقنا نحن أن نحكم لهم أو عليهم وقد قال الله تعالي: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون). هكذا - وللأسف - تكون إجاباتنا وهي كما تري سفسطة لا يقول بها عقل ولا دين ولا يقر بها شرع، اللهم إني أبرأ إليك من خطل الآراء وزلل الأهواء [ صفحه 144] و (أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون). كيف يحكم العقل السليم باجتهاد

معاوية ويعطيه أجرأ علي حربه إمام المسلمين وقتله المؤمنين الأبرياء وارتكابه الجرائم والآثام التي لا يحصي عددها إلا الله وقد اشتهر عند المؤرخين بقتله معارضيه وتصفيتهم بطريقته المشهورة وهو إطعامهم عسلا مسموما وكان يقول: (إن لله جنودا من عسل). كيف يحكم هؤلاء باجتهاده ويعطونه أجرا وقد كان إمام الفئة الباغية؟ ففي الحديث المشهور الذي أخرجه كل المحدثين من السنة والشيعة وسواهم: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية) ولم يختلف اثنان من المسلمين علي أن الذي قتل عمارا وأصحابه هو معاوية! كيف يحكمون باجتهاده وقد قتل حجر بن عدي وأصحابه صبرا ودفنهم في مرج عذراء ببادية الشام لأنهم امتنعوا عن سب علي بن أبي طالب. كيف يريدونه صحابيا عادلا وقد دس السم للحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة وقتله. كيف ينزهونه وقد أخذ البيعة من الأمة بالقوة والقهر لنفسه أولا ثم لابنه الفاسق يزيد من بعده وبدل نظام الشوري بالملكية القيصرية [118] . كيف يحكمون باجتهاده ويعطونه أجرا وقد حمل الناس علي لعن علي وأهل البيت ذرية المصطفي من فوق المنابر، وقتل الصحابة الذين امتنعوا عن ذلك وأصبحت سنة متبعة يهرم عليها الكبير ويشيب عليها الصغير فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والسؤال يعود دائما ويتكرر ويلح: تري أي الفريقين علي الحق وأيهما علي الباطل؟ فإما أن يكون علي وشيعته ظالمين وعلي غير الحق. وإما أن يكون معاوية وأتباعه ظالمين وعلي غير الحق، وقد أوضح رسول الله صلي الله عليه وآله كل شئ. [ صفحه 145] وفي كلا الحالين فإن عدالة الصحابة كلهم من غير استثناء أمر مستحيل، لا ينسجم مع المنطق السليم. ولكل هذه المواضيع أمثلة كثيرة لا يحصي عددها إلا الله ولو

أردت الدخول في التفصيل وبحث هذه المواضيع من كل جانبها لاحتجت إلي مجلدات كثيرة ولكنني رمت الاختصار وأخذت في هذا البحث بعض الأمثلة وهي بحمد الله كافية لإبطال مزاعم قومي الذين جمدوا فكري ردحا من الزمن وحجروا علي أن أفقه الحديث أو أحلل الأحداث التاريخية بميزان العقل والمقاييس الشرعية التي علمنا إياها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. ولذلك سوف أتمرد علي نفسي وأنفض عني غبار التعصب الذي غلفوني به وأتحرر من القيود والأغلال التي كبلوني بها أكثر من عشرين عاما ولسان حالي يقول لهم: يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين. يا ليت قومي اكتشفوا العالم الذي يجهلونه ويعادونه دون أن يعرفوه. [ صفحه 147]

بداية التحول

اشاره

بقيت متحيرا ثلاثة أشهر مضطربا حتي في نومي تتجاذبني الأفكار وتموج بي الظنون والأوهام خائفا علي نفسي من بعض الصحابة الذين أحقق في تاريخهم فأقف علي بعض المفارقات المذهلة في سلوكهم، لأن التربية التي تلقيتها طيلة حياتي تدعوني إلي احترام أولياء الله والصالحين من عباده وتقديسهم، الذين (يؤذون) من يقول فيهم سوءا أو يسئ إليهم الأدب حتي في غيابهم وإن كانوا موتي. ولقد قرأت في ما سبق في كتاب حياة الحيوان الكبري للدميري [119] : أن رجلا كان يشتم عمر بن الخطاب وكان أصحابه في القافلة ينهونه فلما ذهب يتبول لدغه أسود سالخ فمات لحينه وحفروا له لدفنه فوجدوا في القبر أسود سالخا ثم حفروا قبورا أخري وفي كل مرة يجدون أسود سالخا، فقال لهم أحد العارفين ادفنوه أني شئتم فلو حفرتم الأرض كلها لوجدتم أسود سالخا ذلك ليعذبه الله في الدنيا قبل الآخرة علي شتمه سيدنا عمر!. ولذلك وجدتني وأنا أقحم نفسي في هذا

البحث العسير خائفا محتارا وخصوصا لأنني تعلمت في الفرع الزيتوني بأن أفضل الخلفاء علي التحقيق سيدنا أبو بكر الصديق ثم يأتي بعده سيدنا عمر بن الخطاب الفاروق الذي يفرق الله به بين الحق والباطل، ثم بعده سيدنا عثمان بن عفان ذو النورين الذي استحت منه [ صفحه 148] ملائكة الرحمن، ثم بعده سيدنا علي باب مدينة العلم، ثم يأتي بعد هؤلاء الأربعة الستة الباقون من العشرة المبشرين بالجنة وهم، طلحة والزبير وسعد وسعيد، وعبد الرحمن، وأبو عبيدة، ثم يأتي بعد هؤلاء الصحابة جميعا، وكثيرا ما كانوا يعلموننا الاستدلال بالآية الكريمة (لا نفرق بين أحد من رسله) علي وجوب النظر إلي بقية الصحابة بالمنظار نفسه دون خدش أي واحد منهم. وعلي هذا خشيت علي نفسي واستغفرت ربي مرات عديدة أردت فيها الانقطاع عن البحث في مثل هذه الأمور التي تشككني في صحابة رسول الله وبالتالي تشككني في ديني ولكني وجدت من خلال الحديث مع بعض العلماء طيلة تلك المدة تناقضات لا يقبلها العقل وبدأوا يحذرونني من أنني إن واصلت البحث في أحوال الصحابة فسوف يسلب الله نعمته عني ويهلكني، ومن كثرة معاندتهم وتكذيبهم كل ما أقول دفعني فضولي العلمي وحرصي علي بلوغ الحقيقة إلي أن أقحم نفسي من جديد في البحث ووجدت قوة داخلية تدفعني دفعا. [ صفحه 149]

محاورة مع عالم

قلت لأحد علمائنا: إذا كان معاوية قتل الأبرياء وهتك الأعراض وتحكمون بأنه اجتهد وأخطأ وله أجر واحد. وإذا كان يزيد قتل أبناء الرسول وأباح المدينة لجيشه وتحكمون بأنه اجتهد وأخطأ وله أجر واحد حتي قال بعضكم: (قتل الحسين بسيف جده!) لتبرير فعل يزيد. فلماذا لا أجتهد أنا في البحث وهو ما يجرني للشك في الصحابة وتعرية

البعض منهم وهذا لا يقاس بالنسبة للقتل الذي فعله معاوية وابنه يزيد في العترة الطاهرة، فإن أصبت فلي أجران وإن أخطأت فلي أجر (واحد)، علي أن انتقاصي لبعض الصحابة لا أريد منه السب والشتم واللعن، وإنما أريد الوصول إلي الحقيقة لمعرفة الفرقة الناجية من بين الفرق الضالة. وهذا واجبي وواجب كل مسلم، والله سبحانه يعلم السرائر وما تخفي الصدور. أجابني العالم قائلا: - يا بني لقد أغلق باب الاجتهاد من زمان. - فقلت ومن أغلقه؟. - قال الأئمة الأربعة. [ صفحه 150] - فقلت متحررا: الحمد لله إذ لم يكن الله هو الذي أغلقه ولا رسول الله ولا الخلفاء الراشدون الذين (أمرنا بالاقتداء بهم) فليس علي حرج إذا اجتهدت كما اجتهدوا. - فقال: لا يمكنك الاجتهاد إلا إذا عرفت سبعة عشر علما، منها علم التفسير واللغة والنحو والصرف والبلاغة والأحاديث والتاريخ وغير ذلك. - وقاطعته قائلا: أنا لن اجتهد لأبين للناس أحكام القرآن والسنة أو لأكون صاحب مذهب في الإسلام، كلا، ولكن لأعرف من علي الحق ومن علي الباطل، ولمعرفة إن كان الإمام علي علي الحق، أو معاوية مثلا ولا يتطلب ذلك الإحاطة بسبعة عشر علما، ويكفي أن أدرس حياة كل منهما وما فعلاه حتي أتبين الحقيقة. - قال: وما يهمك أن تعرف ذلك (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون). قلت: أتقرأ (ولا تسألون) بفتح التاء أم بضمها؟. - قال: تسألون بالضم. قلت: الحمد لله لو كانت بالفتح لامتنع البحث، وما دامت بالضم فمعناها أن الله سبحانه سوف لن يحاسبنا عما فعلوا وذلك كقوله تعالي: (كل نفس بما كسبت رهينة) و (أن ليس للإنسان إلا ما

سعي). وقد حثنا القرآن الكريم علي استطلاع أخبار الأمم السابقة ولنستخلص منها العبرة، وقد حكي الله لنا عن فرعون وهامان ونمرود وقارون وعن الأنبياء السابقين وشعوبهم، لا للتسلية ولكن ليعرفنا الحق من الباطل. أما قولك (وما يهمني من هذا البحث)؟. فأجيب عليه بقولي: يهمني: أولا: لكي أعرف ولي الله فأواليه وأعرف عدو الله فأعاديه وهذا ما طلبه مني القرآن بل أوجبه علي. [ صفحه 151] ثانيا: يهمني أن أعرف كيف أ عبد الله وأتقرب إليه بالفرائض التي افترضها وكما يريدها هو جل وعلا لا كما يريدها مالك أو أبو حنيفة أو غيرهم من المجتهدين لأني وجدت مالكا يقول بكراهة البسملة في الصلاة بينما يقول أبو حنيفة بوجوبها، ويقول غيره ببطلان الصلاة بدونها وبما أن الصلاة هي عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها، فلا أريد أن تكون صلاتي باطلة، كما أن الشيعة يقولون بمسح الرجلين في الوضوء ويقول السنة بغسلهما بينما نقرأ في القرآن (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) وهي صريحة في المسح، فكيف تريد يا سيدي أن يقبل المسلم العاقل قول هذا ويرد قول ذاك بدون بحث ودليل. - قال: بإمكانك أن تأخذ من كل مذهب ما يعجبك لأنها مذاهب إسلامية وكلهم من رسول الله ملتمس. - قلت: أخاف أن أكون ممن قال الله فيهم: (أفرأيت من اتخذ إلهه من هواه وأضله الله علي علم وختم علي سمعه وقلبه وجعل علي بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون) [120] يا سيدي أنا لا أعتقد بأن المذاهب كلها علي حق ما دام الواحد منهم يبيح الشئ ويحرمه الآخر، فلا يمكن أن يكون الشئ حراما وحلالا في آن واحد والرسول صلي

الله عليه وآله لم يتناقض في أحكامه لأنه (وحي من القرآن)(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [121] وبما أن المذاهب الأربعة فيها اختلاف كثير فليست من عند الله ولا من عند رسوله لأن الرسول لا يناقض القرآن. ولما رأي الشيخ العالم كلامي منطقيا وحجتي مقبولة. - قال: أنصحك لوجه الله تعالي مهما شككت فلا تشك في الخلفاء الراشدين فهم أعمدة الإسلام الأربعة إذا هدمت عمودا منها سقط البناء.. - قلت: استغفر الله يا سيدي فأين رسول الله إذن إذا كان هؤلاء هم أعمدة الإسلام؟ [ صفحه 152] أجاب: رسول الله هو ذاك البناء! هو الإسلام كله. ابتسمت من هذا التحليل وقلت: استغفر الله مرة أخري يا سيدي الشيخ فأنت تقول من حيث لا تشعر بأن رسول الله صلي الله عليه وآله لم يكن ليستقيم إلا بهؤلاء الأربعة بينما يقول الله تعالي: (هو الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره علي الدين كله وكفي بالله شهيدا) [122] . فقد أرسل محمدا بالرسالة ولم يشركه فيها أحدا من هؤلاء الأربعة ولا من غيرهم وقد قال الله تعالي في هذا الصدد: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو: عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) [123] . - قال: هذا ما تعلمناه نحن من مشايخنا وأئمتنا، ولم نكن نحن في جيلنا نناقش ولا نجادل العلماء مثلكم اليوم الجيل الجديد أصبحتم تشكون في كل شئ وتشككون في الدين، وهذه من علامات الساعة فقد قال صلي الله عليه وآله: (لن تقوم الساعة إلا علي شرار الخلق). - فقلت: يا سيدي لماذا هذا التهويل أعوذ بالله أن أشك في الدين أو أشكك فيه، فقد

آمنت بالله وحده لا شريك له وملائكته وكتبه ورسله، وآمنت بأن سيدنا محمدا عبده ورسوله وهو أفضل الأنبياء والمرسلين وخاتمهم وأنا من المسلمين، فكيف تتهمني بهذا؟. - قال: أتهمك بأكثر من هذا لأنك تشكك في سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر وقد قال (ص): (لو وزن إيمان أمتي بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر). وقال في حق سيدنا عمر (عرضت علي أمتي وهي ترتدي قمصا لم تبلغ الثدي وعرض علي عمر وهو يجر قميصه، قالوا ما أولته يا رسول الله قال: الدين). [ صفحه 153] وتأتي أنت اليوم في القرن الرابع عشر لتشكك في عدالة الصحابة وبالخصوص أبي بكر وعمر. ألم تعلم بأن أهل العراق هم أهل الشقاق، هم أهل الكفر والنفاق!!. - ماذا أقول لهذا العالم المدعي العلم الذي أخذته العزة بالإثم، فتحول من الجدال بالتي هي أحسن إلي التهريج والافتراء وبث الإشاعات أمام مجموعة من الناس المعجبين به والذين احمرت أعينهم وانتفخت أوداجهم ولاحظت في وجوههم الشر. فما كان مني إلا أن أسرعت إلي البيت وأتيتهم بكتاب الموطأ للإمام مالك وصحيح البخاري وقلت يا سيدي: إن الذي بعثني علي هذا الشك هو رسول الله نفسه وفتحت كتاب الموطأ وفيه روي مالك أن رسول الله صلي الله عليه وآله قال لشهداء أحد: هؤلاء أشهد عليهم، فقال أبو بكر الصديق، ألسنا يا رسول الله إخوانهم أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: بلي ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي! فبكي أبو بكر ثم بكي ثم قال: (إننا لكائنون بعدك) [124] . ثم فتحت صحيح البخاري وفيه دخل عمر بن الخطاب علي حفصة وعندها أسماء بنت عميس فقال - حين

رآها - من هذه؟ قالت أسماء بنت عميس، قال عمر الحبشية هذه، البحرية هذه. قالت أسماء نعم، قال سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم. فغضبت وقالت كلا والله، كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتي أذكر رسول الله صلي الله عليه وآله ونحن كنا نؤذي ونخاف وسأذكر ذلك للنبي أسأله والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي صلي الله عليه وآله قالت يا نبي الله، عمر قال كذا وكذا [ صفحه 154] قال فما قلت له قالت كذا وكذا. قال: ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان قالت فلقد رأيت أبا موسي وأصحاب السفينة يأتونني أرسالا يسألونني عن هذا الحديث ما من الدنيا شئ هم به أفرح ولا أعظم ما في أنفسهم مما قال لهم النبي صلي الله عليه وآله [125] . وبعد ما قرأ الشيخ العالم والحاضرون معه الأحاديث تغيرت وجوههم وبدأوا ينظرون بعضهم إلي بعض ينتظرون رد العالم الذي صدم فما كان منه إلا أن رفع حاجبيه علامة التعجب وقال: (وقل رب زدني علما). فقلت: إذا كان رسول الله صلي الله عليه وآله هو أول من شك في أبي بكر ولم يشهد عليه لأنه لا يدري ماذا سوف يحدث من بعده، وإذا كان رسول الله صلي الله عليه وآله لم يقر بتفضيل عمر بن الخطاب علي أسماء بنت عميس بل فضلها عليه، فمن حقي أن أشك وأن لا أفضل أحدا حتي أتبين وأعرف الحقيقة ومن المعلوم أن هذين

الحديثين يناقضان كل الأحاديث الواردة في فضل أبي بكر وعمر ويبطلانها، لأنهما أقرب إلي الواقع المعقول من أحاديث الفضائل المزعومة ; قال الحاضرون! وكيف ذلك؟. قلت: إن رسول الله صلي الله عليه وآله لم يشهد علي أبي بكر وقال له إنني لا أدري ماذا تحدثون بعدي! فهذا معقول جدا وقد قرر ذلك القرآن الكريم والتاريخ يشهد أنهم بدلوا بعده ولذلك بكي أبو بكر وقد بدل وأغضب فاطمة الزهراء بنت الرسول - كما سبق - وقد بدل حتي ندم قبل وفاته وتمني أن لا يكون بشرا. أما الحديث الذي يقول: (لو وزن إيمان أمتي بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر) فهو باطل وغير معقول، ولا يمكن أن يكون رجل قضي أربعين سنة من عمره يشرك بالله ويعبد الأصنام أرجح إيمانا من أمة محمد بأسرها، وفيها أولياء الله الصالحين والشهداء والأئمة الذين قضوا أعمارهم كلها جهادا في سبيل الله، [ صفحه 155] ثم أين أبو بكر من هذا الحديث؟ لو كان صحيحا لما كان في آخر حياته يتمني أن لا يكون بشرا. ولو كان إيمانه يفوق إيمان الأمة ما كانت سيدة النساء، فاطمة بنت الرسول صلي الله عليه وآله، تغضب عليه وتدعو الله عليه في كل صلاة تصليها. ولم يرد العالم بشئ، ولكن بعض الجالسين قالوا: لقد بعث - والله - هذا الحديث الشك فينا، عند ذلك تكلم العالم ليقول لي: أهذا ما تريده؟ لقد شككت هؤلاء في دينهم وكفاني أحدهم الرد عليه إذ قال: كلا، إن الحق معه، نحن لم نقرأ في حياتنا كتابا كاملا، واتبعناكم واقتدينا بكم في ثقة عمياء بدون نقاش، وقد تبين لنا الآن أن ما يقوله الحاج صحيح، فمن واجبنا أن

نقرأ ونبحث!! ووافقه علي رأيه بعض الحاضرين، وكان ذلك انتصارا للحق والحقيقة، ولم يكن انتصارا بالقوة والقهر ولكنه انتصار العقل والحجة والبرهان (وقل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). ذلك ما دفعني وشجعني علي الدخول في البحث وفتح الباب علي مصراعيه فدخلته باسم الله وبالله وعلي ملة رسول الله، راجيا منه سبحانه وتعالي التوفيق والهداية فهو الذي وعد بهداية كل باحث عن الحق وهو لا يخلف وعده. قرأت كتاب المراجعات للإمام شرف الدين وراجعته عدة مرات وقد فتح أمامي آفاقا سببت هدايتي وشرحت صدري لحب أهل البيت ومودتهم. وقرأت كتاب الغدير للشيخ الأميني وأعدته ثلاث مرات لما فيه من حقائق دامغة واضحة جلية وقرأت كتاب فدك في التاريخ للسيد محمد باقر الصدر وكتاب السقيفة للشيخ محمد رضا المظفر وفهمت منهما أسرارا غامضة اتضحت، كما قرأت كتاب النص والاجتهاد فازددت يقينا ثم قرأت كتاب أبي هريرة لشرف الدين وشيخ المضيرة للشيخ محمود أبو رية المصري وعرفت أن الصحابة الذين غيروا بعد رسول الله قسمان، قسم غير الأحكام بما له من السلطة والقوة الحاكمة، وقسم غير الأحكام بوضع الأحاديث المكذوبة علي رسول الله صلي الله عليه وآله. ثم قرأت كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة لأسد حيدر وعرفت [ صفحه 156] الفرق بين العلم الموهوب والعلم المكسوب عرفت الفرق بين حكمة الله التي يؤتيها من يشاء وبين التطفل علي العلم والاجتهاد بالرأي الذي أبعد الأمة عن روح الإسلام. وقرأت كتبا أخري عديدة للسيد جعفر مرتضي العاملي والسيد مرتضي العسكري والسيد الخوئي والسيد الطباطبائي والشيخ محمد أمين زين الدين وللفيروزآبادي ولابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة والفتنة الكبري لطه حسين، ومن كتب التاريخ قرأت تاريخ الطبري وتاريخ ابن

الأثير وتاريخ المسعودي وتاريخ اليعقوبي، وقرأت الكثير حتي اقتنعت بأن الشيعة الإمامية علي حق فتشيعت وركبت علي بركة الله سفينة أهل البيت وتمسكت بحبل ولائهم لأني وجدت بمحمد الله البديل عن بعض الصحابة الذين ثبت عندي أنهم ارتدوا علي أعقابهم القهقري ولم ينج منهم إلا القليل وأبدلتهم بأئمة أهل البيت النبوي الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وافترض مودتهم علي الناس أجمعين. فالشيعة ليسوا كما يدعي بعض علمائنا، هم الفرس والمجوس الذين حطم سيدنا عمر كبرياءهم ومجدهم وعظمتهم في حرب القادسية ولذلك يبغضونه ويكرهونه!. وأجبت هؤلاء الجاهلين بأن التشيع لأهل البيت النبوي لا يختص بالفرس بل الشيعة في العراق وفي الحجاز وفي سوريا ولبنان كل هؤلاء عرب كما يوجد الشيعة في الباكستان والهند وفي إفريقيا وأمريكا وكل هؤلاء ليسوا من العرب ولا من الفرس. ولو اقتصرنا علي شيعة إيران فإن الحجة تكون أبلغ إذ أنني وجدت الفرس يقولون بإمامة الأئمة الاثني عشر وكلهم من العرب من قريش من بني هاشم عترة النبي، فلو كان الفرس متعصبين ويكرهون العرب كما يدعي البعض لاتخذوا سلمان الفارسي إماما لهم لأنه منهم وهو صحابي جليل عرف قدره كل من الشيعة والسنة علي حد سواء. بينما وجدت أهل السنة والجماعة ينقطعون في الإمامة إلي الفرس فأغلب [ صفحه 157] أئمتهم من الفرس كأبي حنيفة والإمام النسائي والترمذي والبخاري ومسلم وابن ماجة والرازي والإمام الغزالي وابن سينا والفارابي وغيرهم كثيرون يضيق بهم المقام فإذا كان الشيعة من الفرس يرفضون عمر بن الخطاب لأنه حطم كبرياءهم وعظمتهم فبماذا نفسر رفض الشيعة له من العرب وغير الفرس فهذه دعوي لا تقوم علي دليل، وإنما رفض هؤلاء عمر للدور الذي قام به في

إبعاد أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب عن الخلافة بعد رسول الله صلي الله عليه وآله وما سبب ذلك من فتن ومحن وقلاقل وانحلال لهذه الأمة ويكفي أن يزاح الحجاب عن أي باحث حر وتكشف له الحقيقة حتي يرفضه بدون عداوة سابقة. والحق إن الشيعة سواء كانوا من الفرس أم من العرب أم من غير هؤلاء قد خضعوا للنصوص القرآنية والنصوص النبوية واتبعوا إمام الهدي وأولاده مصابيح الدجي ولم يرضوا بغيرهم رغم سياسة الترغيب والترهيب التي قادها الأمويون ومن بعدهم العباسيون طيلة سبعة قرون تتبعوا خلالها الشيعة تحت كل حجر ومدر وقتلوهم وشردوهم ومنعوهم العطاء ومحوا آثارهم وأثاروا حولهم الإشاعات والدعايات التي تنفر الناس منهم وبقيت هذه الآثار حتي اليوم. ولكن الشيعة ثبتوا وصمدوا وصبروا وتمسكوا بالحق لا تأخذهم في الله لومة لائم وهم يدفعون حتي اليوم ثمن هذا الصمود، وإني أتحدي أي عالم من علمائنا أن يجلس مع علمائهم ويجادلهم فلا يخرج إلا مستبصرا بالهدي الذي هم عليه. نعم وجدت البديل والحمد لله الذي هداني لهذا وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله. الحمد لله والشكر له علي أن دلني علي الفرقة الناجية التي كنت أبحث عنها بلهف ولم يبق عندي أي شك في أن المتمسك بعلي وأهل البيت قد تمسك بالعروة الوثقي لا انفصام لها، والنصوص النبوية علي ذلك كثيرة أجمع عليها المسلمون، والعقل وحده خير دليل لمن ألقي السمع وهو شهيد، فعلي كان أعلم الصحابة وأشجعهم علي الاطلاق وذلك بإجماع الأمة، وهذا وحده كاف للدلالة علي أحقيته (ع) للخلافة دون غيره، قال الله تعالي: (وقال لهم نبيهم إن الله قد [ صفحه 158] بعث لكم طالوت ملكا، قالوا أني يكون

له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال، قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم) [126] . وقد قال رسول الله صلي الله عليه وآله:(إن عليا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن من بعدي) [127] . وقال الإمام الزمخشري في أبيات له: كثر الشك والخلاف وكل يدعي أنه الصراط السوي فتمسكت بلا إله إلا الله وحبي لأحمد وعلي فاز كلب بحب أصحاب كهف كيف أشقي بحب آل النبي نعم وجدت البديل بحمد الله، وصرت أقتدي - بعد رسول الله - بأمير المؤمنين وسيد الوصيين وقائد الغر المحجلين أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب وبسيدي شباب أهل الجنة وريحانتي النبي من هذه الأمة الإمام أبي محمد الحسن الزكي والإمام أبي عبد الله الحسين وببضعة المصطفي سلالة النبوة وأم الأئمة معدن الرسالة ومن يغضب لغضبها رب العزة والجلالة سيدة النساء فاطمة الزهراء. وأبدلت الإمام مالك بأستاذ الأئمة ومعلم الأمة الإمام جعفر الصادق. وتمسكت بالأئمة التسعة المعصومين من ذرية الحسين أئمة المسلمين وأولياء الله الصالحين. وأبدلت الصحابة المنقلبين علي أعقابهم أمثال معاوية وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة وأبي هريرة وعكرمة وكعب الأحبار وغيرهم بالصحابة الشاكرين الذين لم ينقضوا عهد النبي أمثال عمار بن ياسر وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري [ صفحه 159] والمقداد بن الأسود وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وأبي بن كعب وغيرهم والحمد لله علي هذا الاستبصار. وأبدلت علماء قومي، الذين جمدوا عقولنا واتبع كثير منهم السلاطين والحكام في كل زمان، بعلماء الشيعة الأبرار الذين ما أغلقوا يوما باب الاجتهاد ولا وهنوا ولا استكانوا للأمراء والسلاطين الظالمين.

نعم أبدلت أفكارا متحجرة متعصبة تؤمن بالتناقضات بأفكار نيرة متحررة ومتفتحة تؤمن بالدليل والحجة والبرهان. وكما يقال في عصرنا الحاضر: (غسلت دماغي) من أوساخ كثفتها عليه - طوال ثلاثين عاما - أضاليل بني أمية وطهرته بعقيدة المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا لما تبقي من حياتي). اللهم أحينا علي ملتهم وأمتنا علي سنتهم واحشرنا معهم فقد قال نبيك صلي الله عليه وآله (يحشر المرء مع من أحب). وبذلك أكون قد رجعت إلي أصلي، فقد كان أبي وأعمامي يحدثوننا حسب الشجرة التي يعرفونها أنهم من السادة الذين هربوا من العراق تحت الضغط العباسي ولجأوا إلي شمال إفريقيا حيث أقاموا في تونس وبقيت آثارهم حتي اليوم. وهناك في شمال إفريقيا كثيرون مثلنا يسمون الأشراف لأنهم من السلالة الطاهرة ولكنهم تاهوا في ضلالات الأمويين والعباسيين ولم يبق عندهم من الحقيقة شئ إلا ذلك الاحترام والتقدير الذي يكنه لهم الناس، فالحمد لله علي هدايته والحمد لله علي استبصاري وفتح بصري وبصيرتي علي الحقيقة [ صفحه 161]

اسباب الاستبصار

اشاره

أما الأسباب التي دعتني للاستبصار فكثيرة جدا ولا يمكن لي في هذه العجالة إلا ذكر بعض الأمثلة منها:

النص علي الخلافة

لقد آليت علي نفسي عند الدخول في هذا البحث أن لا أعتمد إلا ما هو موثوق عند الفريقين وأن أطرح ما انفردت به فرقة دون الأخري، وعلي ذلك أبحث في فكرة التفضيل بين أبي بكر وعلي بن أبي طالب وأن الخلافة إنما كانت بالنص علي علي كما يدعي الشيعة أو بالانتخاب والشوري كما يدعي أهل السنة والجماعة. والباحث في هذا الموضوع إذا تجرد للحقيقة فإنه سيجد النص علي علي بن أبي طالب واضحا جليا كقوله صلي الله عليه وآله: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) قال ذلك بعد ما انصرف من حجة الوداع فعقد لعلي موكب للتهنئة حتي أن أبا بكر نفسه وعمر كانا من جماعة المهنئين للإمام (ع) ويقولان: (بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولي كل مؤمن ومؤمنة) [128] . [ صفحه 162] وهذا النص مجمع عليه من الشيعة والسنة، ولم أخرج أنا في البحث - هذا - إلا مصادر أهل السنة والجماعة ومع ذلك لم أذكر المصادر كلها فهي أكثر بكثير مما ذكرت، وللاطلاع علي مزيد من التفصيل أدعو القارئ إلي مطالعة كتاب الغدير للعلامة الأميني وقد طبع منه ثلاثة عشر مجلدا يحصي فيها المصنف رواة هذا الحديث من طريق أهل السنة والجماعة. أما الاجماع المدعي علي انتخاب أبي بكر يوم السقيفة ثم مبايعته بعد ذلك في المسجد، فإنه دعوي بدون دليل، إذ كيف يكون الاجماع وقد تخلف عن البيعة علي والعباس وسائر بني هاشم كما تخلف أسامة بن زيد والزبير وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري والمقداد بن الأسود وعمار

بن ياسر وحذيفة بن اليمان وخزيمة بن ثابت وأبو بريدة الأسلمي والبراء بن عازب وأبي بن كعب وسهل بن حنيف وسعد بن عبادة وقيس بن سعد وأبو أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله وخالد بن سعيد وغير هؤلاء كثيرون [129] . فأين الاجماع المزعوم يا عباد الله؟ علي أنه لو كان علي بن أبي طالب وحده تخلف عن البيعة لكان ذلك كافيا للطعن في ذلك الاجماع إذ أنه المرشح الوحيد للخلافة من قبل الرسول علي فرض عدم وجود النص المباشر عليه. وإنما كانت بيعة أبي بكر عن غير مشورة بل وقعت علي حين غفلة من الناس وخصوصا أولي الحل والعقد منهم كما يسميهم علماء المسلمين إذ كانوا مشغولين بتجهيز الرسول ودفنه، وقد فوجئ سكان المدينة المنكوبة بموت نبيهم وحمل الناس علي البيعة بعد ذلك قهرا [130] كما يشعرنا بذلك تهديدهم بحرق بيت فاطمة إن لم يخرج المتخلفون عن البيعة فكيف يجوز لنا بعد هذا أن نقول بأن البيعة كانت بالمشورة وبالإجماع. وقد شهد عمر بن الخطاب نفسه بأن تلك البيعة كانت فلتة وقي الله [ صفحه 163] المسلمين شرها، وقال فمن عاد إلي مثلها فاقتلوه ; أو قال فمن دعا إلي مثلها فلا بيعة له ولا لمن بايعه [131] . ويقول الإمام علي في حقها: (أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحي ينحدر عني السيل ولا يرقي إلي الطير [132] . ويقول سعد بن عبادة سيد الأنصار الذي هاجم أبا بكر وعمر يوم السقيفة وحاول بكل جهوده أن يمنعهم ويبعدهم عن الخلافة ولكنه عجز عن مقاومتهم لأنه كان مريضا لا يقدر علي الوقوف، وبعدما بايع الأنصار

أبا بكر قال سعد: والله لا أبايعكم أبدا حتي أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل، وأخضب سناني ورمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بمن معي من أهلي وعشيرتي ولا والله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتي أعرض علي ربي، فكان لا يصلي بصلاتهم ولا يجتمع بجمعتهم، ولا يفيض بإفاضتهم، ولو يجد عليهم أعوانا لطال بهم، ولو بايعه أحد علي قتالهم لقاتلهم، ولم يزل كذلك حتي قتل بالشام في خلافة عمر [133] . فإذا كانت هذه البيعة فلتة وقي الله المسلمين شرها علي حد تعبير عمر الذي شيد أركانها وعرفت ما آلت إليه أمور المسلمين بسببها. وإذا كانت هذه الخلافة تقمصا - من قبل أبي بكر - كما وصفها الإمام علي إذ قال بأنه هو صاحبها الشرعي. وإذا كانت هذه البيعة ظلما كما اعتبرها سعد بن عبادة سيد الأنصار الذي فارق الجماعة بسببها. وإذا كانت هذه البيعة غير شرعية لتخلف أكابر الصحابة والعباس عم النبي عنها. [ صفحه 164] فما هي إذن الحجة في صحة خلافة أبي بكر؟ والجواب لا حجة هناك عند أهل السنة والجماعة. فقول الشيعة إذن هو الصحيح في هذا الموضوع، لأنه ثبت وجود النص علي خلافة علي عند السنة أنفسهم، وقد تأولوه حفاظا علي كرامة الصحابة، فالمنصف العادل لا يجد مناصا من قبول النص وبالأخص إذا عرف ملابسات القضية [134] .

خلاف فاطمة مع أبي بكر

وهذا الموضوع أيضا مجمع علي صحته من الفريقين فلا يسع المنصف العاقل إلا أن يحكم بخطأ أبي بكر إن لم يعترف بظلمه وحيفه علي سيدة النساء. لأن من يتتبع هذه المأساة ويطلع علي جوانبها يعلم علم اليقين أن أبا بكر تعمد إيذاء الزهراء وتكذيبها

لئلا تحتج عليه بنصوص الغدير وغيرها علي خلافة زوجها وابن عمها علي ونجد قرائن عديدة علي ذلك، منها ما أخرجه المؤرخون من أنها - سلام الله عليها - خرجت تطوف علي مجالس الأنصار وتطلب منهم النصرة والبيعة لابن عمها، فكانوا يقولون: (يا ابنة رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به، فيقول علي كرم الله وجهه: أفكنت أدع رسول الله صلي الله عليه وآله في بيته لم أدفنه، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم [135] . ولو كان أبو بكر مخطئا عن حسن نية أو علي اشتباه لأقنعته فاطمة الزهراء ولكنها غضبت عليه ولم تكلمه حتي ماتت، لأنه رد في كل مرة دعواها ولم يقبل شهادتها ولا شهادة زوجها ولكل هذا اشتد غضبها عليه حتي أنها لم تأذن له بحضور جنازتها حسب وصيتها لزوجها الذي دفنها في الليل سرا [136] . [ صفحه 165] وعلي ذكر دفنها - سلام الله عليها - سرا في الليل فقد سافرت خلال سنوات البحث إلي المدينة المنورة لأطلع بنفسي علي بعض الحقائق، واكتشفت. أولا: أن قبر الزهراء مجهول لا يعرفه أحد فمن قائل بأنه في الحجرة النبوية ومن قائل بأنه في بيتها مقابل الحجرة النبوية، وثالث يقول: (إنه في البقيع وسط قبور أهل البيت بدون تحديد). هذه الحقيقة الأولي التي استنتجت منها أنها - سلام الله عليها - أرادت بهذا أن يتسأل المسلمون عبر الأجيال عن السبب الذي دعاها أن تطلب من زوجها أن يدفنها في الليل سرا ولا يحضر جنازتها منهم

أحدا!!! وبذلك يمكن لأي مسلم أن يصل إلي بعض الحقائق المثيرة من خلال مراجعة التاريخ. ثانيا: اكتشفت أن الزائر الذي يريد زيارة قبر عثمان بن عفان يمشي مسافة طويلة حتي يصل إلي آخر البقيع فيجده تحت الحائط بينما يجد أغلب الصحابة مدفونين في بداية البقيع قرب المدخل وحتي مالك بن أنس صاحب المذهب وهو من تابعي التابعين مدفون قرب زوجات الرسول، وتحقق لدي ما قاله المؤرخون من أنه دفن بحش كوكب وهي أرض يهودية لأن المسلمين منعوا دفنه في بقيع رسول الله، ولما استولي معاوية بن أبي سفيان علي الخلافة اشتري تلك الأرض من اليهود وأدخلها في البقيع ليدخل بذلك قبر ابن عمه عثمان فيها والذي يزور البقيع حتي اليوم سيري هذه الحقيقة بأجلي ما تكون. وإن عجبي لكبير حين أعلم أن فاطمة الزهراء - سلام الله عليها - أول من لحق بأبيها فبينها وبينه، ستة أشهر علي أكثر الاحتمالات ثم لا تدفن إلي جانب أبيها. وإذا كانت فاطمة الزهراء هي التي أوصت بدفنها سرا فلم تدفن بالقرب من قبر أبيها كما ذكرت فما بال ما حصل مع جثمان ولدها الحسن لم يدفن قرب قبر جده؟! فقد منعت هذا (أم المؤمنين) عائشة وقد فعلت ذلك عندما جاء الحسين بأخيه الحسن (ع) ليدفنه إلي جانب جده رسول الله، فركبت عائشة بغلة وخرجت تنادي وتقول: لا تدفنوا في بيتي من لا أحب [ صفحه 166] واصطف بنو أمية وبنو هاشم للحرب ولكن الإمام الحسين (ع) قال لها أنه سيطوف بأخيه علي قبر جده ثم يدفنه في البقيع لأن الإمام الحسن أوصاه أن لا يهرقوا من أجله ولو محجمة من دم. وقال لها ابن عباس أبياتا مشهورة ;

تجملت [137] تبغلت [138] . ولو عشت تفيلت لك التسع من الثمن وبالكل تصرفت وهذه حقيقة أخري من الحقائق المخيفة، فكيف ترث عائشة كل البيت من بين أزواج النبي المتعددات وهن تسع نساء حسب ما قاله ابن عباس: وإذا كان النبي لا يورث كما شهد بذلك أبو بكر نفسه ومنع ذلك ميراث الزهراء من أبيها فكيف ترث عائشة؟ فهل هناك في كتاب الله آية تعطي الزوجة حق الميراث وتمنع البنت؟ أم أن السياسة هي التي أبدلت كل شئ فحرمت البنت من كل شئ وأعطت الزوجة كل شئ؟. وبالمناسبة أذكر هنا قصة طريفة ذكرها بعض المؤرخين ولها علاقة بموضوع الإرث. قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة: جاءت عائشة وحفصة ودخلتا علي عثمان أيام خلافته وطلبتا منه أن يقسم لهما إرثهما من رسول الله صلي الله عليه وآله. وكان عثمان متكئا فاستوي جالسا وقال لعائشة: أنت وهذه الجالسة جئتما بأعرابي يتطهر ببوله وشهدتما أن رسول الله صلي الله عليه وآله قال: نحن معشر الأنبياء لا نورث فإذا كان الرسول حقيقة لا يورث فماذا تطلبان بعد هذا، وإذا كان الرسول يورث لماذا منعتم فاطمة حقها؟ فخرجت من عنده [ صفحه 167] غاضبة وقالت: اقتلوا نعثلا فقد كفر [139] .

علي أولي بالاتباع

ومن الأسباب التي دعتني للاستبصار وترك سنة الآباء والأجداد، الموازنة العقلية والنقلية بين علي بن أبي طالب وأبي بكر. وكما ذكرت في الأبواب السابقة من هذا البحث إني أعتمد علي الاجماع الذي يوافق عليه أهل السنة والشيعة. وقد فتشت في كتب الفريقين فلم أجد إجماعا إلا علي علي بن أبي طالب فقد أجمع علي إمامته الشيعة والسنة في ما ورد من نصوص ثبتتها مصادر الطرفين،

بينما لا يقول بإمامة أبي بكر إلا فريق من المسلمين وقد كنا ذكرنا ما قاله عمر عن بيعة أبي بكر ; كما أن الكثير من الفضائل والمناقب التي يذكرها الشيعة في علي بن أبي طالب لها سند ووجود حقيقي ثابت في كتب أهل السنة المعتمدة عندهم، ومن عدة طرق لا يتطرق إليها الشك، فقد روي الحديث في فضائل الإمام علي جمع غفير من الصحابة، حتي قال أحمد بن حنبل: ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله من الفضائل كما جاء لعلي بن أبي طالب [140] . وقال القاضي إسماعيل والنسائي وأبو علي النيسابوري: لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان ما جاء في علي [141] . هذا مع ملاحظة أن الأمويين حملوا الناس في مشارق الأرض ومغاربها علي سبه ولعنه وعدم ذكر فضيلة له حتي منعوا أن يتسمي أحد باسمه، ومع كل ذلك [ صفحه 168] خرجت فضائله ومناقبه سلام الله عليه رغم الجحود ; وفي ذلك يقول الإمام الشافعي (عجبت لرجل كتم أعداؤه فضائله حسدا، وكتمها محبوه خوفا، وخرج ما بين ذين ما طبق الخافقين). أما بشأن أبي بكر فقد فتشت أيضا في كتب الفريقين فلم أجد له في كتب أهل السنة والجماعة القائلين بتفضيله ما يوازي أو يعادل فضائل الإمام علي، علي أن فضائل أبي بكر المذكورة في الكتب التاريخية مروية إما عن ابنته عائشة وقد عرفنا موقفها من الإمام علي فهي تحاول بكل جهدها دعم أبيها ولو بأحاديث موضوعة أو عن عبد الله بن عمر وهو أيضا من البعيدين عن الإمام علي وقد رفض مبايعته بعدما أجمع الناس علي ذلك وكان يحدث أن أفضل الناس بعد

النبي أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم لا تفاضل والناس بعد ذلك سواسية [142] يعني هذا الحديث أن عبد الله بن عمر جعل الإمام علي من سوقة الناس كأي شخص عادي ليس له فضل ولا فضيلة. فأين عبد الله بن عمر من الحقائق التي ذكرها أعلام الأمة وأئمتها بأنه لم يرد في أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان ما جاء في علي بن أبي طالب، هل أن عبد الله بن عمر لم يسمع بفضيلة واحدة لعلي؟ بلي والله لقد سمع ووعي ولكن السياسة وما أدراك ما السياسة فهي تقلب الحقائق وتصنع الأعاجيب. كذلك يروي فضائل أبي بكر، كل من عمرو بن العاص وأبو هريرة وعروة وعكرمة وهؤلاء كلهم يكشف التاريخ أنهم كانوا متحاملين علي الإمام علي وحاربوه إما بالسلاح وإما بالدس واختلاق الفضائل لأعدائه وخصومه. قال الإمام أحمد بن حنبل: إن عليا كان كثير الأعداء ففتش أعداؤه عن شئ يعيبونه به فلم يجدوا، فجاؤوا إلي رجل قد حاربه وقاتله، فأطروه كيدا منهم له [143] . [ صفحه 169] ولكن الله يقول: (إنهم يكيدون كيدا، وأكيد كيدا، فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) [144] . وإنه لمن معجزات الله سبحانه أن تخرج فضائل الإمام علي بعد ستة قرون من الحكم الجائر الظالم له ولأهل بيته، إذ لم يكن العباسيون أقل بغضا وحسدا ونكاية وتقتيلا لأهل البيت النبوي من أسلافهم الأمويين حتي قال أبو فراس الحمداني في ذلك: ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت تلك الجرائر إلا دون نيلكم كم غدرة لكم في الدين واضحة وكم دم لرسول الله عندكم أنتم له شيعة في ما ترون وفي أظفاركم من بنيه الطاهرين دم فإذا خلصت بعد كل ذلك تلكم

الأحاديث وخرجت من تلكم الظلمات فلتكن لله الحجة البالغة، ولئلا يكون للناس علي الله حجة بعد ذلك. ورغم أن أبا بكر كان هو الخليفة الأول وله من النفوذ ما قد عرفنا ورغم أن الدولة الأموية كانت تجعل عطاء خاصا ورشوة لكل من يروي في حق أبي بكر وعمر وعثمان ورغم أنها اختلقت لأبي بكر من الفضائل والمناقب الكثير مما سودت بها صفحات الكتب، مع ذلك فلم يبلغ معشار عشر حقائق الإمام علي وفضائله، أضف إلي ذلك أنك إذا حللت الأحاديث المروية في فضائل أبي بكر وجدتها لا تتماشي مع ما سجله له التاريخ من أعمال تناقض ما قيل فيه ولا يقبلها عقل ولا شرع وقد تقدم شرح ذلك في حديث (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أمتي لرجح إيمان أبي بكر) ولو كان يعلم رسول الله أن أبا بكر علي هذه الدرجة من الإيمان ما كان ليؤمر عليه أسامة بن زيد ولا ليمتنع من الشهادة له كما شهد علي [ صفحه 170] شهداء أحد وقال له إني لا أدري ماذا تحدث من بعدي حتي بكي أبو بكر [145] ، وما كان ليرسل خلفه علي بن أبي طالب ليأخذ منه سورة براءة فيمنعه من تبليغها [146] ، وما كان قال يوم إعطاء الراية في خيبر: لأعطين رايتي غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا ليس فرارا امتحن الله قلبه بالإيمان ; فأعطاها إلي علي ولم يعطها إليه [147] . ولو علم الله أن أبا بكر علي هذه الدرجة من الإيمان وأن إيمانه يفوق إيمان أمة محمد بأسرها فلم يكن الله سبحانه ليهدده بإحباط عمله عندما رفع صوته فوق صوت النبي [148] ولو علم علي

بن أبي طالب والصحابة الذين اتبعوه أن أبا بكر علي هذه الدرجة من الإيمان ما جاز لهم أن يتخلفوا عن بيعته ولو علمت فاطمة الزهراء سيدة النساء أن أبا بكر علي هذه الدرجة من الإيمان ما كانت لتغضب عليه وتمتنع عن الكلام معه وعن رد السلام عليه وتدعو الله عليه في كل صلاة [149] ، ثم لا تأذن له - حسب ما ورد في وصيتها - حتي بحضور جنازتها. ولو علم أبو بكر أنه علي هذه الدرجة من الإيمان ما كان ليتمني عند احتضاره أنه لو لم يكن يكشف بيت فاطمة (ع). وأنه لو لم يكن أحرق الفجاءة السلمي، ولكان يوم السقيفة قذف الأمر فيعنق أحد الرجلين عمر أو أبي عبيدة [150] . فالذي هو علي هذه الدرجة من الإيمان ويرجح إيمانه علي إيمان كل الأمة لا يندم في آخر لحظات حياته علي ما فعله مع فاطمة وعلي حرقه الفجاءة السلمي وعلي توليه الخلافة، كما لا يتمني أن لا يكون من البشر ويكون شعرة أو بعرة، أفيعادل إيمان مثل هذا الشخص إيمان الأمة الإسلامية بل يرجح عليها؟!. [ صفحه 171] وإذا أخذنا حديث (لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا). فهو كسابقه، إذ أين كان أبو بكر يوم المؤاخاة الصغري في مكة قبل الهجرة ويوم المؤاخاة الكبري في المدينة بعد الهجرة وفي كلتيهما اتخذ رسول الله صلي الله عليه وآله عليا أخا له وقال له: (أنت أخي في الدنيا والآخرة) [151] ولم يلتفت إلي أبي بكر فحرمه من مؤاخاة الآخرة كما حرمه من الخلة، وأنا لا أريد الإطالة في هذا الموضوع وأكتفي بهذين المثلين اللذين أوردتهما من كتب أهل السنة والجماعة، أما عند الشيعة

فلا يعترفون بتلك الأحاديث مطلقا ولديهم الأدلة الواضحة علي أنها وضعت في زمن متأخر عن زمن أبي بكر. هذا وإذا تركنا الفضائل وبحثنا في المساوئ فإننا لا نحصي لعلي بن أبي طالب سيئة واحدة من كتب الفريقين، بينما نجد لغيره مساوئ كثيرة في كتب أهل السنة كالصحاح وكتب السير والتاريخ. وبهذا يكون الاجماع من الفريقين يختص بعلي وحده كما يؤكد التاريخ أن البيعة الصحيحة لم تكن إلا لعلي وحده. فقد امتنع هو وأصر عليها المهاجرون والأنصار وقعد عن بيعته نفر فلم يجبرهم عليها، بينما كانت بيعة أبي بكر فلتة وقي الله المسلمين شرها - كما يقول عمر بن الخطاب - وكانت خلافة عمر بعهد عهده إليه أبو بكر وكانت خلافة عثمان مهزلة تاريخية، ذلك أن عمر رشح ستة للخلافة وألزمهم أن يختاروا من بينهم واحدا وقال إذا اتفق أربعة وخالف اثنان فاقتلوهما وإذا انقسم الستة إلي فريقين ثلاثة في كل جهة فخذوا برأي الثلاثة الذين يقف معهم عبد الرحمن بن عوف، وإذا مضي وقت ولم يتفق الستة فاقتلوهم، والقصة طويلة وعجيبة، والمهم أن عبد الرحمن بن عوف اختار عليا واشترط عليه أن يحكم فيهم بكتاب الله وسنة رسوله وسنة الشيخين أبي بكر وعمر فرفض علي هذا الشرط، وقبله عثمان فكان [ صفحه 172] هو الخليفة، وخرج علي من البيعة وهو يعلم مسبقا النتيجة وقد تحدث عن ذلك في خطبته المعروفة بالشقشقية. وبعد علي استولي معاوية علي الخلافة فأبدلها قيصرية ملكية يتداولها بنو أمية ومن بعدهم بنو العباس ابنا عن أب ولم يكن هناك خليفة إلا بنص السابق علي اللاحق أو بقوة السيف والسلاح والاستيلاء، فلم تكن هناك بيعة صحيحة [152] في التاريخ الإسلامي من عهد

الخلفاء وحتي عهد كمال أتاتورك الذي قضي علي الخلافة الإسلامية إلا لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

الاحاديث الواردة في علي توجب اتباعه

من الأحاديث التي أخذت بها ودفعتني للاقتداء بالإمام علي، تلك التي أخرجتها صحاح أهل السنة والجماعة وأكدت صحتها والشيعة عندهم أضعافها ولكن - وكالعادة - سوف لا أستدل ولا أعتمد إلا الأحاديث المتفق عليها من الفريقين، ومن هذه الأحاديث. أ - حديث (أنا مدينة العلم وعلي بابها) [153] وهذا الحديث وحده كاف لتشخيص القدوة الذي ينبغي اتباعه بعد الرسول صلي الله عليه وآله، لأن العالم أولي بالاتباع، أولي أن يقتدي به من الجاهل.قال تعالي: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) [154] . وقال أيضا: (أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون) [155] ومن المعلوم أن العالم هو الذي يهدي والجاهل يستحق الهداية وهو أحوج إليها من أي أحد [ صفحه 173] وفي هذا الصدد سجل لنا التاريخ أن الإمام عليا هو أعلم الصحابة علي الاطلاق وكانوا يرجعون إليه في أمهات المسائل ولم نعلم أنه (ع) رجع إلي واحد منهم قط فهذا أبو بكر يقول: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن، وهذا عمر يقول: لولا علي لهلك عمر [156] . وهذا ابن عباس يقول: ما علمي وعلم أصحاب محمد في علم علي إلا كقطرة في سبعة أبحر [157] . وهذا الإمام علي نفسه يقول: (سلوني قبل أن تفقدوني، والله لا تسألونني عن شئ يكون إلي يوم القيامة إلا أخبرتكم به وسلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار في سهل أم في جبل [158] . بينما يقول

أبو بكر عندما سئل عن معني الأب في قوله تعالي: (وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم) قال أبو بكر: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم. وهذا عمر بن الخطاب يقول: (كل الناس أفقه من عمر حتي ربات الحجال) ويسأل عن آية من كتاب الله فينتهر السائل ويضربه بالدرة حتي يدميه ويقول: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) [159] وقد سئل عن الكلالة فلم يعلمها. أخرج الطبري في تفسيره عن عمر أنه قال: لئن أكون أعلم الكلالة أحب إلي من أن يكون لي مثل قصور الشام. [ صفحه 174] كما أخرج ابن ماجة في سننه عن عمر بن الخطاب قال: ثلاث لئن يكون رسول الله بينهن أحب إلي من الدنيا وما فيها: الكلالة والربا والخلافة. سبحان الله! حاشي لرسول الله أن يكون سكت عن هذه الأشياء ولم يبينها. ب - حديث (يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي): وهذا الحديث كما لا يخفي علي أهل العقول فيه ما فيه من اختصاص أمير المؤمنين علي بالوزارة والوصاية والخلافة. فكما كان هارون وزيرا ووصيا، وخليفة موسي في غيابه عندما ذهب لميقات ربه، كذلك أيضا منزلة الإمام علي (ع) فهو كهارون عليه وعلي نبينا السلام وصورة طبق الأصل عنه ما عدا النبوة التي استثناها نفس الحديث، وفيه أيضا أن الإمام عليا هو أفضل الصحابة والحديث كما هو معلوم مجمع عليه عند عامة المسلمين. ت - حديث (من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار): وهذا الحديث وحده كاف

لرد مزاعم تقديم أبي بكر وعمر وعثمان علي من نصبه رسول الله صلي الله عليه وآله وليا للمؤمنين من بعده، ولا عبرة بمن أول الحديث إلي معني المحب والنصير لصرفه عن معناه الأصلي الذي قصده الرسول وذلك حفاظا علي كرامة الصحابة، لأن رسول الله صلي الله عليه وآله عندما قام خطيبا في ذلك الحر الشديد (قال ألستم تشهدون بأني أولي المؤمنين من أنفسهم) قالوا بلي يا رسول الله فقال عندئذ: (فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه..) وهذا نص صريح في استخلافه علي أمته، ولا يمكن للعاقل المنصف العادل إلا قبول هذا المعني ورفض تأويل البعض المتكلف والحفاظ علي كرامة الرسول قبل الحفاظ علي كرامة الصحابة لأن في تأويلهم هذا استخفافا واستهزاء بحكمة الرسول الذي يجمع [ صفحه 175] حشود الناس في الحر والهجير الذي لا يطاق ليقول لهم بأن علي هو محب المؤمنين وناصرهم. وبماذا يفسر هؤلاء الذين يؤولون النصوص حفاظا علي كرامة كبرائهم وساداتهم موكب التهنئة الذي عقده له رسول الله صلي الله عليه وآله. وبدأ بزوجاته أمهات المؤمنين وجاء أبو بكر وعمر يقولان (بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصحبت وأمسيت مولي كل مؤمن ومؤمنة) والواقع والتاريخ يشهدان أن المتأولين لكاذبون فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكتبون قال تعالي:(وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) [160] . ث - حديث: (علي مني وأنا من علي، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي) [161] . وهذا الحديث الشريف هو الآخر صريح في أن الإمام عليا هو الشخص الوحيد الذي أهله صاحب الرسالة ليؤدي عنه وقد قاله عندما بعثه بسورة براءة يوم الحج الأكبر عوضا عن أبي بكر، ورجع أبو بكر

يبكي ويقول يا رسول الله أنزل في شئ فقال: إن الله أمرني أن لا يؤدي عني إلا أنا أو علي. وهذا ظهير ما قاله رسول الله صلي الله عليه وآله لعلي في مناسبة أخري عندما قال له: (أنت يا علي تبين لأمتي ما اختلفوا فيه بعدي) [162] . فإذا كان لا يؤدي عن رسول الله إلا علي وهو الذي يبين للأمة ما اختلفوا فيه بعده، فكيف يتقدم عليه من لا يعرف معني الأب ومن لا يعرف معني الكلالة وهذا لعمري من المصائب التي أصابت هذه الأمة وأعاقتها عن أداء المهمة التي [ صفحه 176] رشحها الله لها، وليست الحجة علي الله ولا علي رسول الله ولا علي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وإنما الحجة البالغة علي الذين عصوا وبدلوا، قال تعالي: (وإذا قيل لهم تعالوا إلي ما أنزل الله وإلي الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) [163] . ج - حديث الدار يوم الانذار: قال رسول الله صلي الله عليه وآله مشيرا إلي علي: (إن هذا أخي، ووصيي، وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا) [164] . وهذا الحديث هو أيضا من الأحاديث الصحيحة التي نقلها المؤرخون لبداية البعثة النبوية وعدوها من معجزات النبي، ولكن السياسة هي التي أبدلت وزيفت الحقائق والوقائع، ولا عجب من ذلك لأن ما وقع في ذلك الزمان المظلم يتكرر اليوم في عصر النور فهذا محمد حسين هيكل أخرج الحديث بكامله في كتابه (حياة محمد) في صفحة 104 من الطبعة الأولي سنة 1354 هجرية وفي الطبعة الثانية وما بعدها حذف من الحديث قوله صلي الله عليه وآله (وصيي وخليفتي من بعدي)

; كذلك حذفوا من تفسير الطبري الجزء 19 صفحة 121 قوله (وصيي وخليفتي) وأبدلوها بقوله إن هذا أخي وكذا وكذا..!! وغفلوا عن أن الطبري ذكر الحديث بكامله في تاريخه الجزء 2 صفحة 319. أنظر كيف يحرفون الكلم عن مواضعه ويقلبون الأمور، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره.. وخلال البحث الذي قمت به أردت الوقوف علي جلية الحال فبحثت عن الطبعة الأولي لكتاب (حياة محمد) وتحصلت عليها بحمد الله بعد عناء ومشقة [ صفحه 177] وقد كلفني ذلك كثيرا، والمهم أنني اطلعت علي ذلك التحريف وزادني ذلك يقينا بأن أهل السوء يحاولون جهدهم أن يمحوا الحقائق الثابتة لأنها حجة قوية لدي (خصومهم)!. ولكن الباحث المنصف عندما يقف علي شئ من هذا التحريف والتزييف يزداد عنهم بعدا ويعرف بلا شك أنهم لا حجة لديهم غير التضليل والدس وقلب الحقائق بأي ثمن، ولقد استأجروا كتابا كثيرين وأغدقوا عليهم الأموال كما أغدقوا عليهم الألقاب والشهادات الجامعية المزيفة ليكتبوا لهم ما يريدون من الكتب والمقالات التي تشتم الشيعة وتكفرهم وتدافع بكل جهد وإن كان باطلا عن كرامة بعض الصحابة المنقلبين علي أعقابهم والذين بدلوا بعد رسول الله الحق بالباطل (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون) [165] صدق الله العظيم. [ صفحه 179]

الاحاديث الصحيحة التي توجب أتباع أهل البيت

حديث الثقلين

قال رسول الله صلي الله عليه وآله: (يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي) وقال أيضا: (يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدي والنور وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي) [166] .

وإذا أمعنا النظر في هذا الحديث الشريف الذي أخرجه صحاح أهل السنة والجماعة وجدنا أن الشيعة وحدهم هم الذين اتبعوا الثقلين (كتاب الله والعترة النبوية الطاهرة) بينما اتبع أهل السنة والجماعة قول عمر (حسبنا كتاب الله). وليتهم اتبعوا كتاب الله بغير تأويل حسب أهوائهم فإذا كان عمر نفسه لم يفهم منه معني الكلالة ولا عرف منه آية التيمم وعدة أحكام أخري فكيف بمن جاء بعده وقلده بدون اجتهاد أو اجتهد برأيه في النصوص القرآنية، وبطبيعة [ صفحه 180] الحال سوف يردون علي بالحديث المروي عندهم وهو (تركت فيكم كتاب اللهوسنتي) [167] . وهذا الحديث إن صح وهو صحيح في معناه، لأن معني العترة بقوله صلي الله عليه وآله في حديث الثقلين المتقدم هو الرجوع إلي أهل بيتي ليعلموكم - أولا - سنتي، أو لينقلوا إليكم الأحاديث الصحيحة لأنهم منزهون عن الكذب وإن الله سبحانه عصمهم بآية التطهير. وثانيا: لكي يفسروا لكم معانيها ومقاصدها، لأن كتاب الله وحده لا يكفي للهداية فكم من فرقة تحتج بكتاب الله وهي في الضلالة كما ورد ذلك عن رسول الله عندما قال: (كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه). فكتاب الله صامت، وحمال أوجه، وفيه المحكم والمتشابه ولا بد لفهمه من الرجوع إلي الراسخين في العلم حسب التعبير القرآني وإلي أهل البيت حسب التفسير النبوي. فالشيعة يرجعون كل شئ إلي الأئمة المعصومين من أهل البيت النبوي ولا يجتهدون إلا في ما لا نص فيه. ونحن نرجع في كل شئ إلي الصحابة سواء في تفسير القرآن أو في إثبات السنة وتفسيرها، وقد علمنا أحوال الصحابة وما فعلوه وما استنبطوه واجتهدوا فيه بآرائهم مقابل النصوص الصريحة وهي تعد بالمئات فلا يمكن الركون إلي

مثلهم بعد ما حصل منهم ما حصل. وإذا سألنا علماءنا، أي سنة تتبعون؟ لأجابوا قطعا: سنة رسول الله صلي الله عليه وآله. والواقع التاريخي لا ينسجم مع ذلك ; فقد رووا أن الرسول نفسه قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ) إذا فالسنة التي يتبعونها هي في أغلب الأحيان سنة الخلفاء الراشدين وحتي سنة [ صفحه 181] الرسول التي يقولون بها فهي المروية عن طريق هؤلاء. علي أننا نروي في صحاحنا أن الرسول منعهم من كتابة سننه لئلا تختلط بالقرآن، وكذلك فعل أبو بكر وعمر إبان خلافتيهما، فلا يبقي بعد هذا حجة في قولنا (تركت فيكم سنتي) [168] . والذي ذكرته في هذا البحث من الأمثلة - وما لم أذكره هو أضعاف ذلك - كاف لرد هذا الحديث لأن من سنة أبي بكر وعمر وعثمان ما يناقض سنة النبي ويبطلها، كما لا يخفي. وإذا كانت أول حادثة وقعت بعد وفاة رسول الله مباشرة وسجلها أهل السنة والجماعة والمؤرخون: هي مخاصمة فاطمة الزهراء لأبي بكر الذي احتج بحديث (نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة). هذا الحديث الذي كذبته فاطمة الزهراء وأبطلته بكتاب الله، واحتجت علي أبي بكر بأن أباها رسول الله صلي الله عليه وآله لا يمكنه أن يناقض كتاب الله الذي أنزل عليه إذ يقول سبحانه وتعالي: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) [169] . وهي عامة تشمل الأنبياء وغير الأنبياء، واحتجت عليه بقوله تعالي: (وورث سليمان داوود) [170] وكلاهما نبي. وقوله عز من قائل: (فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا) [171] . والحادثة الثانية التي وقعت لأبي بكر في

أيام خلافته وسجلها المؤرخون [ صفحه 182] من أهل السنة والجماعة اختلف فيها مع أقرب الناس إليه وهو عمر بن الخطاب تلك الحادثة التي تتلخص في قراره بمحاربة مانعي الزكاة وقتلهم فكان عمر يعارضه ويقول له لا تقاتلهم لأني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فمن قالها عصم مني ماله ودمه وحسابه علي الله). وهذا نص أخرجه مسلم في صحيحه جاء فيه: (إن رسول الله صلي الله عليه وآله أعطي الراية إلي علي يوم خيبر فقال علي: يا رسول الله علي ماذا أقاتلهم؟ فقال صلي الله عليه وآله قاتلهم حتي يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم علي الله) [172] ولكن أبا بكر لم يقتنع بهذا الحديث وقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال ; أو قال: (والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلي رسول الله لقاتلتهم علي منعه) واقتنع عمر بن الخطاب بعد ذلك وقال: ما إن رأيت أبا بكر مصمما علي ذلك حتي شرح الله صدري ; ولست أدري كيف يشرح الله صدور قوم بمخالفتهم سنة نبيهم!. وهذا التأويل، منهم لتبرير قتال المسلمين الذين حرم الله قتلهم إذ قال في كتابه العزيز. (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا) [173] صدق الله العظيم. علي أن هؤلاء

الذين منعوا إعطاء أبي بكر زكاتهم لم ينكروا وجوبها ولكنهم تأخروا ليتبينوا الأمر ويقول الشيعة إن هؤلاء فوجئوا بخلافة أبي بكر وفيهم من حضر مع رسول الله حجة الوداع وسمع منه النص علي علي بن أبي طالب فتريثوا [ صفحه 183] حتي يفهموا الحقيقة، ولكن أبا بكر أراد اسكاتهم عن تلك الحقيقة وبما أنني لا أستدل ولا أحتج بما يقوله الشيعة فسأترك هذه القضية لمن يهمه الأمر ليبحث فيها. علي أنني لا يفوتني أن أسجل هنا أن صاحب الرسالة صلي الله عليه وآله وقعت له في حياته قصة ثعلبة الذي طلب منه أن يدعو له بالغني وألح في ذلك وعاهد الله أنه يتصدق ودعا له رسول الله وأغناه الله من فضله وضاقت عليه المدينة وأرجاؤها من كثرة إبله وغنمه حتي ابتعد ولم يعد يحضر صلاة الجمعة، ولما أرسل إليه رسول الله صلي الله عليه وآله العاملين علي الزكاة رفض أن يعطيهم شيئا منها قائلا إنما هذه جزية أو أخت الجزية، ولم يقاتله رسول الله ولا أمر بقتاله وأنزل فيه قوله: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون) [174] . وجاء ثعلبة بعد نزول الآية وهو يبكي وطلب من رسول الله قبول زكاته وامتنع الرسول حسب ما تقول الرواية. فإذا كان أبو بكر وعمر يتبعان سنة الرسول فلماذا هذه المخالفة وإباحة دماء المسلمين الأبرياء لمجرد منع الزكاة علي أن المعتذرين لأبي بكر والذين يريدون تصحيح خطئه بتأويله بأن الزكاة هي حق المال، لا يبقي لهم ولا له عذر بعد قصة ثعلبة الذي أنكر الزكاة واعتبرها جزية، ومن يدري لعل أبا بكر أقنع

صاحبه عمر بوجوب قتل من منعوه الزكاة أن تسري دعوتهم في البلاد الإسلامية لإحياء نصوص الغدير التي نصبت عليا للخلافة، ولذلك شرح الله صدر عمر بن الخطاب لقتالهم وهو الذي هدد بقتل المتخلفين في بيت فاطمة وحرقهم بالنار من أجل أخذ البيعة لصاحبه. أما الحادثة الثالثة التي وقعت لأبي بكر في أول خلافته وخالفه فيها عمر بن الخطاب وقد تأول فيها النصوص القرآنية والنبوية: فهي قصة خالد بن الوليد [ صفحه 184] الذي قتل مالك بن نويرة صبرا ونزا علي زوجته فدخل بها في نفس الليلة. وكان عمر يقول لخالد: يا عدو الله قتلت امرءا مسلما ثم نزوت علي امرأته، والله لأرجمنك بالأحجار [175] . ولكن أبا بكر دافع عنه وقال: (هبه يا عمر، تأول فأخطأ فارفع لسانك عن خالد) وهذه فضيحة أخري سجلها التاريخ لصحابي من الأكابر!! إذا ذكرناه، ذكرناه بكل احترام وقداسة، بل ولقبناه ب (سيف الله المسلول)!!. ماذا عساني أن أقول في صحابي يفعل مثل تلك الأفعال يقتل مالك بن نويرة الصحابي الجليل سيد بني تميم وبني يربوع وهو مضرب الأمثال في الفتوة والكرم والشجاعة. وقد حدث المؤرخون أن خالدا غدر بمالك وأصحابه بعد أن وضعوا السلاح وصلوا جماعة فأوثقوهم بالحبال وفيهم ليلي بنت المنهال زوجة مالك وكانت من أشهر نساء العرب بالجمال ويقال إنها لم ير أجمل منها وفتن خالد بجمالها، وقال له مالك: يا خالد أبعثتنا إلي أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا، وتدخل عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري وألحا علي خالد أن يبعثهم إلي أبي بكر فرفض خالد وقال: لا أقالني الله أن لم أقتله فالتفت مالك إلي زوجته ليلي وقال لخالد: هذه التي قتلتني، فأمر

خالد بضرب عنقه وقبض علي ليلي زوجته ودخل بها في تلك الليلة [176] . ماذا عساني أن أقول في هؤلاء الصحابة الذين يستبيحون حرمات الله ويقتلون النفوس المسلمة من أجل هوي النفس ويستبيحون الفروج التي حرمها [ صفحه 185] الله، ففي الإسلام لا تنكح المرأة المتوفي زوجها إلا بعد العدة التي حددها الله في كتابه العزيز، ولكن خالدا اتخذ إلهه هواه فتردي وأي قيمة للعدة عنده بعد أن قتل زوجها صبرا وظلما وقتل قومه أيضا وهم مسلمون بشهادة عبد الله بن عمر وأبي قتادة الذي غضب غضبا شديدا مما فعله خالد وانصرف راجعا إلي المدينة وأقسم أن لا يكون أبدا في لواء عليه خالد بن الوليد [177] . وحسبنا في هذه القضية المشهورة أن ننقل اعتراف الأستاذ هيكل في كتابه (الصديق أبو بكر) إذ قال تحت عنوان (رأي عمر وحجته في الأمر). (أما عمر، وكان مثال العدل الصارم، فكان يري أن خالدا عدا علي امرئ مسلم ونزا علي امرأته قبل انقضاء عدتها فلا يصح بقاؤه في قيادة الجيش حتي لا يعود لمثلها فيفسد أمر المسلمين، ويسئ إلي مكانتهم بين العرب قال: ولا يصح أن يترك بغير عقاب علي ما أتم مع ليلي. ولو صح أنه تأول فأخطأ في أمر مالك، وهذا ما لا يجيزه عمر، وحسبه ما صنع مع زوجته ليقام عليه الحد، فليس ينهض عذرا له إنه سيف الله، وإنه القائد الذي يسير النصر في ركابه فلو أن مثل هذا العذر يقل لأبيحت لخالد وأمثاله المحارم، ولكان أسوأ مثل يضرب للمسلمين في احترام كتاب الله، لذلك لم يفتأ عمر يعيد علي أبي بكر، ويلح عليه، حتي استدعي خالداوعنفه..) [178] . وهل لنا أن نسأل

الأستاذ هيكل وأمثاله من علمائنا الذين يراوغون حفاظا علي كرامة الصحابة، هل لنا أن نسألهم، لماذا لم يقم أبو بكر الحد علي خالد؟ وإذا كان عمر كما يقول هيكل مثال العدل الصارم فلماذا اكتفي بعزله عن قيادة الجيش ولم يقم عليه الحد الشرعي حتي لا يكون ذلك أسوأ مثل يضرب للمسلمين في احترام كتاب الله كما ذكر؟ وهل احترموا كتاب الله وأقاموا حدود الله؟ كلا إنها [ صفحه 186] السياسة وما أدراك ما السياسة؟ تصنع الأعاجيب وتقلب الحقائق، وتضرب بالنصوص القرآنية عرض الجدار. وهل لنا أن نسأل بعض علمائنا الذين يروون في كتبهم أن رسول الله صلي الله عليه وآله غضب غضبا شديدا عندما جاء أسامة ليشفع لامرأة شريفة سرقت. فقال صلي الله عليه وآله: (ويحك أتشفع في حد من حدود الله والله لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، إنما أهلك من كان قبلكم إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد). فكيف يسكتون عن قتل المسلمين الأبرياء والدخول بنسائهم في نفس الليلة وهن منكوبات بموت أزواجهن ويا ليتهم يسكتون! ولكنهم يحاولون تبرير فعل خالد باختلاق الأكاذيب وبخلق الفضائل والمحاسن له حتي لقبوه بسيف الله المسلول. ولقد أدهشني بعض أصدقائي وكان مشهورا بالمزح وقلب المعاني، فكنت أذكر له مزايا خالد بن الوليد في أيام جهالتي وقلت له أنه سيف الله المسلول، فأجابني: إنه سيف الشيطان المشلول، واستغربت يومها، ولكن بعد البحث فتح الله بصيرتي وعرفني قيمة هؤلاء الذين استولوا علي الخلافة وبدلوا أحكام الله وعطلوها وتعدوا حدود الله واخترقوها. وخالد بن الوليد له في حياة النبي قصة مشهورة إذ بعثه النبي إلي بني جذيمة ليدعوهم إلي الإسلام ولم يأمره بقتالهم. فلم

يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا: صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل ويأسر بهم ودفع الأسري إلي أصحابه وأمرهم بقتلهم وامتنع البعض من قتلهم لما تبين لهم أنهم أسلموا ولما رجعوا وذكروا ذلك النبي صلي الله عليه وآله. قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد قالها مرتين [179] وبعث علي بن أبي طالب إلي بني جذيمة ومعه مال فودي لهم الدماء وما أصيبت لهم من [ صفحه 187] أموال حتي ودي لهم ميلغة الكلب وقام رسول الله صلي الله عليه وآله فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه إلي السماء حتي إنه ليري ما تحت منكبيه، يقول: اللهم إني أبرأ إليكم ما صنع خالد بن الوليد ثلاث مرات [180] . فهل لنا أن نسأل أين هي عدالة الصحابة المزعومة التي يدعونها، وإذا كان خالد بن الوليد وهو عندنا من عظمائنا حتي لقبناه بسيف الله أفكان ربنا يسل سيفه ويسلطه علي المسلمين والأبرياء وعلي المحارم فيهتكها، ففي ذلك تناقض لأن الله ينهي عن قتل النفس وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ولكنه - أي خالد - في نفس الوقت يسل سيف البغي ليفتك بالمسلمين ويهدر دماءهم وأموالهم ويسبي نساءهم وذراريهم، إن هذا زور من القول وبهتان مبين، سبحانك ربنا وبحمدك تباركت وتعاليت عن ذلك علوا كبيرا، سبحانك ما خلقت السماوات والأرض وما بينهما باطلا، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار. كيف جاز لأبي بكر وهو خليفة المسلمين أن يسمع بتلكم الجرائم الموبقة ويسكت عنها بل ويدعو عمر بن الخطاب بأن يكف لسانه عن خالد، ويغضب علي أبي قتادة لإنكاره فعل خالد، أكان مقتنعا حقا بأن خالدا تأول فأخطأ، فأي حجة بعد هذا علي المجرمين والفاسقين

في هتكهم الحرمات وادعائهم التأويل. أما أنا فلا أعتقد بأن أبا بكر كان متأولا في أمر خالد الذي سماه عمر بن الخطاب ب (عدو الله) وكان من رأيه أن يقتل خالد لأنه قتل امرءا مسلما ويرجمه بالحجارة لأنه زني بزوجة مالك (ليلي) ولم يقع شئ من ذلك للقاتل الجاني بل خرج منها منتصرا علي عمر بن الخطاب لأن أبا بكر وقف إلي جانبه وهو يعلم حقيقة خالد أكثر من أي أحد، فقد سجل المؤرخون أنه بعثه بعد تلك الواقعة المشينة إلي اليمامة التي خرج منها منتصرا وتزوج في أعقابها بنتا كما فعل مع ليلي ولما تجف دماء المسلمين بعد ولا دماء أتباع مسيلمة، وقد عنفه أبو بكر علي فعلته هذه بأشد مما عنفه علي فعلته مع ليلي [181] ، ولا شك أن هذه البنت هي الأخري ذات [ صفحه 188] بعل فقتله خالد ونزا عليها كما فعل بليلي زوجة مالك. وإلا لما استحق أن يعنفه أبو بكر بأشد مما عنفه علي فعلته الأولي، علي أن المؤرخين يذكرون نص الرسالة التي بعث بها أبو بكر إلي خالد بن الوليد وفيها يقول: (لعمري يا بن أم خالد إنك لفارغ تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألفومائتي رجل من المسلمين لم يجف بعد) [182] . ولما قرأ خالد هذا الكتاب قال: هذا عمل الأعسر يقصد بذلك عمر بن الخطاب. فهذه من الأسباب القوية التي جعلتني أنفر من أمثال هؤلاء الصحابة، ومن تابعيهم الذين يتأولون النصوص ويختلقون الروايات الخيالية لتبرير أعمال أبي بكر وعمر وعثمان وخالد بن الوليد ومعاوية وعمرو بن العاص وإخوانهم، اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، اللهم إني أبرأ إليك من أفعال هؤلاء وأقوالهم التي خالفت أحكامك واستباحت

حرماتك وتعدت حدودك، واغفر لي ما سبق من موالاتهم إذ كنت من الجاهلين، وقد قال رسولك (لا يعذر الجاهل بجهله)، اللهم إن ساداتنا وكبراءنا قد أضلونا السبيل وحجبوا عنا الحقيقة وصوروا لنا الصحابة المنقلبين بأنهم أفضل الخلق بعد رسولك، ولا شك إن آباءنا وأجدادنا كانوا ضحية الدس والغش الذي توخاه الأمويون ومن بعدهم العباسيون اللهم فاغفر لهم ولنا فأنت تعلم السرائر وما تخفي الصدور وما كان حبهم وتقديرهم واحترامهم لأولئك الصحابة إلا عن حسن نية علي أنهم أنصار رسولك محمد صلواتك وسلامك عليه وأحباؤه.. وأنت تعلم - يا سيدي - حبهم وحبنا للعترة الطاهرة، الأئمة الذين أذهبت عنهم الرجس وطهرتهم تطهيرا وعلي رأسهم سيد المسلمين وأمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين وإمام المتقين سيدنا علي بن أبي طالب. واجعلني اللهم من شيعتهم ومن المتمسكين بحبل ولائهم والسائرين علي منهاجهم، والراكبين في سفينتهم والمستمسكين بعروتهم الوثقي والداخلين من [ صفحه 189] أبوابهم والدائبين في محبتهم ومودتهم العاملين بأقوالهم وأفعالهم والشاكرين لفضلهم ونوالهم. اللهم واحشرني في زمرتهم فقد قال نبيك صلواتك عليه وعلي آله: (يحشر المرء مع من أحب).

حديث السفينة

قال رسول الله صلي الله عليه وآله: (إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق) [183] . (وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفرله) [184] . وقد أورد ابن حجر في كتابه الصواعق المحرقة هذا الحديث ثم قال: ووجه تشبيههم بالسفينة أن من أحبهم وعظمهم شكرا لنعمة مشرفهم، وأخذا بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومن تخلف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم وهلك في مفاوز الطغيان، ووجه تشبيههم بباب حطة،

إن الله تعالي جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحا، أو بيت المقدس مع التواضع، والاستغفار سببا للمغفرة، وجعل لهذه الأمة مودة أهل البيت سببا للمغفرة والنجاة. ويا ليتني أسأل ابن حجر هل كان من الذين ركبوا السفينة ودخلوا الباب وأخذوا بهدي العلماء، أم أنه من الذين يقولون ما لا يفعلون ويخالفون ما يعتقدون، وكثيرون هم أولئك الجهلة الذين عندما أسألهم واحتج عليهم يقولون [ صفحه 190] لي، نحن أولي بأهل البيت وبالإمام علي من غيرنا، نحن نحترم أهل البيت ونقدرهم وليس هناك من ينكر فضلهم وفضائلهم!. نعم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، أو أنهم يحترمونهم ويقدرونهم ولكن يقتدون بأعدائهم، ويقلدونهم ومن قاتلهم وخالفهم. أو أنهم في أغلب الأحيان لا يعرفون من هم أهل البيت وإذا سألتهم من هم أهل البيت؟ يجيبون علي الفور: هم نساء النبي اللاتي أذهب الله عنهن الرجس وطهرهم تطهيرا، وقد كشف لي أحدهم عن هذا اللغز عندما سألته وأجابني قائلا: أهل السنة والجماعة كلهم يقتدون بأهل البيت، وتعجبت وقلت كيف ذلك؟ فقال: قال رسول الله خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء يعني عائشة، فنحن أخذنا نصف الدين عن أهل البيت، وعلي هذا الأساس يفهم كلامهم حول احترام وتقدير أهل البيت أما إذا سألتهم عن الأئمة الاثني عشر فلا يعرفون منهم غير علي والحسن والحسين مع أنهم لا يقولون بإمامة الحسنين، وهم يحترمون معاوية بن أبي سفيان الذي دس السم للحسن فقتله (ويسمونه (كاتب الوحي)) وعمرو بن العاص كاحترامهم الإمام علي. إنه التناقض والخلط والتلبيس تلبيس الحق بالباطل وتغليف الضياء بالظلام وإلا كيف يجتمع في قلب المؤمن حب الله والشيطان معا، قال الله في كتابه المجيد: (لا تجد قوما

يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم، أو أبناءهم، أو إخوانهم، أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) [185] . وقال أيضا عز من قائل: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة [ صفحه 191] وقد كفروا بما جاءكم من الحق) [186] .

حديث من سره أن يحيا حياتي

قال رسول الله صلي الله عليه وآله: (من سره أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنة عدن غرسها ربي، فليوال عليا من بعدي وليوال وليه، وليقتد بأهل بيتي من بعدي، فإنهم عترتي خلقوا من طينتي، ورزقوا فهمي وعلمي، فويل للمكذبين بفضلهم من أمتي، القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي) [187] . وهذا الحديث هو كما نري من الأحاديث الصريحة التي لا تقبل التأويل ولا تترك للمسلم أي اختيار بل تقطع عليه كل حجة، وإذا لم يوال عليا ويقتد بأهل البيت عترة الرسول فهو محروم من شفاعة جدهم رسول الله صلي الله عليه وآله. وتجدر الإشارة هنا بأنه خلال البحث الذي قمت به شككت في البدء في صحة هذا الحديث واستعظمته لما فيه من تهديد ووعيد لمن كان علي خلاف مع علي وأهل البيت وخصوصا أن هذا الحديث لا يقبل التأويل، وخفت الوطأة عندما قرأت في كتاب الإصابة لابن حجر العسقلاني بعدما أخرج الحديث قوله: (قلت في إسناده يحيي بن يعلي المحاربي وهو واه) وأزال ابن حجر بهذا القول بعض الإشكال الذي علق بذهني إذ تصورت أن يحيي بن يعلي المحاربي هو واضع الحديث وهو ليس

بثقة، ولكن الله سبحانه وتعالي أراد أن يوقفني علي الحقيقة بكاملها، وقرأت يوما كتاب (مناقشات عقائدية في مقالات إبراهيم الجبهان) [188] . [ صفحه 192] وأوقفني هذا الكتاب علي جلية الحال إذ تبين أن يحيي بن يعلي المحاربي هو من الثقات الذين اعتمدهم الشيخان مسلم والبخاري، وتتبعت بنفسي فوجدت البخاري يخرج له أحاديث في باب غزوة الحديبية من جزئه الثالث في صفحة عدد 31، كما أخرج له مسلم في صحيحه في باب الحدود من جزئه الخامس في صفحة عدد 119 والذهبي نفسه - علي تشدده - أرسل توثيقة إرسال المسلمات وقد عده أئمة الجرح والتعديل من الثقات واحتج به الشيخان فلماذا هذا الدس والتزوير وتقليب الحقائق والطعن في رجل ثقة احتج به أهل الصحاح؟ ألانه ذكر الحقيقة الناصعة في وجوب الاقتداء بأهل البيت فكان جزاؤه من ابن حجر التوهين والتضعيف، وقد فات ابن حجر أن من ورائه علماء جهابذة يحاسبونه علي كل صغيرة وكبيرة ويكشفون تعصبه وجهله لأنهم يستضيئون بنور النبوة ويهتدون بهدي أهل البيت. وعرفت بعد ذلك أن ببعض علمائنا يحاولون جهدهم تغطية الحقيقة لئلا ينكشف أمر الصحابة والخلفاء الذين كانوا أمراءهم وقدوتهم فتجدهم مرة يتأولون الأحاديث الصحيحة الثابتة ويحملونها غير معانيها، مثال ذلك تأويلهم لمعني المولي بدل الأولي إلي معني المحب والناصر في حديث (من كنت مولاه فهذا علي مولاه)، فعلماء أهل السنة يقولون بصحة الحديث ولكن يجب تأويله إلي معني المحب والناصر وذلك لتصحيح خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وإلا لوجب أن يكون علي كرم الله وجهه أولي منهم جميعا، وهذا فيه ما فيه من تفسيق أكثر الصحابة الذين بايعوا أبا بكر وهو منكر من القول ; هذا قول علماء أهل السنة

والجماعة كما صرح لي به كثير من علمائنا في تونس! ولما قلت لهم أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قبل الحديث وخلال الخطبة سألهم (ألست أولي بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلي عند ذلك قال (من كنت مولاه فهذا علي مولاه))، أجاب البعض بأن هذا من زيادات الشيعة، وعندما سألتهم: أيعقل أن يجمع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم مائة ألف من الحجيج في حر الهجير ويحبسهم في الشمس المحرقة ليقول لهم بأن عليا محب وناصر المسلمين؟ أهذا معقول؟؟ فسكتوا ولم يجيبوا. ومرة يكذبون الأحاديث التي تناقض مذهبهم وإن وردت في صحاحهم [ صفحه 193] وأسانيدهم، مثال ذلك حديث (الخلفاء من بعدي اثنا عشر كلهم من قريش وفي رواية كلهم من بني هاشم) وقد أخرج الحديث كل من البخاري ومسلم وكل صحاح أهل السنة والجماعة، ومع ذلك فهم يكذبون أن يكون هؤلاء هم الأئمة الاثنا عشر من أهل البيت الذين تقول بإمامتهم وولائهم الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، وهم يعدون الخلفاء الراشدين الأربعة ومنهم من يلحق بهم الخليفة عمر بن عبد العزيز فيصح العدد خمسة ويتوقفون عند ذلك لأنهم، والحق معهم لا يعدون معاوية وابنه يزيد ولا مروان بن الحكم وأولاده من الخلفاء الراشدين، ويبقي العدد (اثنا عشر) بالنسبة إليهم لغزا ليس له حل اللهم إلا إذا قالوا بقول الإمامية!. ومرة يحذفون من الحديث نصفه أو ثلثيه ليبدلوه ب (كذا وكذا)!! ومثال ذلك حديث (إن هذا أخي ووصيي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا) قاله وهو آخذ برقبة علي وقد أخرج هذا الحديث كل من الطبري في تاريخه وابن الأثير في كامله وكذلك كنز العمال ومسند الإمام أحمد وصاحب السيرة الحلبية وابن عساكر ولكن

الذي طبع كتاب تفسير الطبري ج 19 ص 121 لم يترك الحديث كاملا كما نطق به رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بل حذف منه كل معانيه وأبدلها بقوله (إن هذا أخي وكذا وكذا!!)) وغفل عن أن الطبري أخرج الحديث كاملا في تاريخه ج 2 ص 319 - 321 ; إنها الأمانة العلمية، ولعل هذا العالم لم تمكنه الحيل من تكذيب الحديث ورأي أن فيه نصا صريحا علي خلافة علي بعد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فعمد إلي تغطية هذه النصوص وتبديلها بكذا وكذا وظن هذا المسكين بأنه سوف يحجب نور الشمس عندما يغمض هو عينيه، أو أنه سوف يقنع القراء والمثقفين بقوله: كذا وكذا، كلا إنها كلمة هو قائلها!!. ومرة يشككون في الرواة الثقاة لأنهم حدثوا بما لا تهوي أنفسهم، مثال ذلك طعنهم في يحيي بن يعلي المحاربي وهو من الثقاة الذين احتج بهم البخاري ومسلم في الصحاح ولكن ابن حجر العسقلاني طعن به ووصفه بأنه واه، لا إلا أنه روي حديث الموالاة الذي أمر فيه رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أصحابه بأن يوالوا من بعده عليا وأهل البيت، وهذا الحديث لا يروق [ صفحه 194] لابن حجر وأمثاله الذين يحاولون جهدهم طمس الحقائق التي أنفق معاوية بن أبي سفيان كل ما يملك من الذهب والفضة في سبيل طمسها فلم يفلح، فكيف يمكن لابن حجر أن يطمسها بطعنه في الرواة الثقاة، وقد كان لمعاوية زيادة علي المال، الحول والطول والسلطة والجاه ومع ذلك فشل فشلا ذريعا وطواه الزمان في خبر كان بينما بقي نور الإمام علي يشع علي مر الأيام، فكيف يتسني لابن حجر وأضرابه أن يشككوا في حقيقة

أهل البيت بمجرد الطعن في الرواة الأمناء الثقاة؟؟ فهيهات هيهات أن ينطفئ نور الله بالأفواه!.. ومرة يخرجون الحديث في الطبعة الأولي ويحذفونه في الطبعات الأخري بدون أي إشارة إلي مبرر الحذف رغم أن المطلعين يدركون سبب ذلك!! مثال ذلك ما فعله محمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد) في الطبعة الأولي ص 104 قال: عندما نزل قوله سبحانه (وأنذر عشيرتك الأقربين) ثم أورد القصة كما ذكرها المؤرخون وفي آخرها قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم (إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم.!) ولكنه حذفها في الطبعة الثانية وما بعدها من الطبعات بدون إشارة ولا تعليق يشيران من قريب أو من بعيد لسبب حذفه هذه الفقرة من حديث الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وإن كان الشيخ محمد جواد مغنية - والعهدة عليه - نقل في كتابه (الشيعة في الميزان) هذه الحادثة وقال أن محمد حسين هيكل حذف هذه الفقرة مقابل آلاف الجنيهات، وبما أن هيكل لم يكذب الخبر ولم يعلل حذفه للفقرة المذكورة، فقد تبين صدق الشيخ محمد جواد مغنية، واطلاعه الواسع علي مجريات الأمور!. علي أننا نقول لهؤلاء وأمثالهم الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا: اتقوا الله وقولوا قولا سديدا وتذكروا قوله سبحانه وتعالي: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدي من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) سورة البقرة آية 159، وقوله سبحانه وتعالي: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) سورة البقرة آية 174. [ صفحه 195] فهل لهؤلاء أن يتوبوا إلي الله

تعالي ويعترفوا بالحق عسي أن يتوب الله عليهم، قبل فوات الآوان؟؟؟. وقد تحقق لدي كل هذا بعد البحث والتمحيص وعندي أدلة قاطعة علي ما أقول، فليتهم إذ يحاولون عبثا كل هذه المحاولات لتبرير أعمال الصحابة الذين انقلبوا علي الأعقاب، فجاءت أقوالهم متناقضة بعضها مع بعض ومتناقضة مع التاريخ. ليتهم اتبعوا الحق ولو كان مرا إذا لأراحوا واستراحوا، ولكانوا سببا في جمع شمل هذه الأمة المتمزقة والمتناحرة لا لشئ إلا لتأييد أقوالهم أو تفنيدها. وإذا كان بعض الصحابة الأولين غير ثقات في نقل الأحاديث النبوية الشريفة فيبطلون منها ما لا يتماشي وأهواءهم وخصوصا إذا كانت هذه الأحاديث من الوصايا التي أوصي بها رسول الله صلي الله عليه وآله عند وفاته، فقد أخرج البخاري ومسلم أن رسول الله أوصي عند موته بثلاث: - أخرجوا المشركين من جزيرة العرب. - أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم.. ثم يقول الراوي: ونسيت الثالثة [189] . فهل يعقل أن الصحابة الحاضرين الذين سمعوا وصايا الرسول الثلاث عند موته ينسون الوصية الثالثة وهم الذين كانوا يحفظون القصائد الشعرية الطويلة بعد سماعها مرة واحدة؟ كلا ولكن السياسة هي التي أجبرتهم علي نسيانها وعدم ذكرها، إنها مهزلة أخري من مهازل هؤلاء الصحابة، ولأن الوصية الأولي لرسول الله كانت - بلا شك - استخلاف علي بن أبي طالب فلم يذكرها الراوي. مع أن الباحث في هذه المسألة يجد رائحة الوصية لعلي تفوح رغم كتمانها وعدم ذكرها فقد أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الوصايا كما أخرج مسلم [ صفحه 196] أيضا في صحيحه في كتاب الوصية أنه ذكر عند عائشة أن النبي أوصي إلي علي [190] ، أنظر كيف يظهر الله نوره ولو ستره الظالمون.

أعود فأقول إذا كان هؤلاء الصحابة غير ثقات في نقل وصايا رسول الله فلا لوم بعد ذلك علي التابعين وتابعي التابعين. وإذا كانت عائشة أم المؤمنين لا تطيق ذكر اسم علي ولا تطيب لها نفسا بخير كما ذكر ذلك ابن سعد في طبقاته [191] والبخاري في صحيحه (باب مرض النبي ووفاته) وإذا كانت تسجد لله شكرا عندما سمعت بموته، فكيف يرجي منها ذكر الوصية لعلي وهي من عرفت لدي الخاص والعام بعدائها وبغضها لعلي وأولاده ولأهل بيت المصطفي. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. [ صفحه 197]

مصيبتنا في الاجتهاد مقابل النصوص

استنتجت من خلال البحث أن مصيبة الأمة الإسلامية انجرت عليها من الاجتهاد الذي دأب عليه الصحابة مقابل النصوص الصريحة فاخترقت بذلك حدود الله ومحقت السنة النبوية وأصبح العلماء والأئمة بعد الصحابة يقيسون علي اجتهادات الصحابة ويرفضون بعض الأحيان النص النبوي إذا تعارض مع ما فعله أحد الصحابة، أو حتي النص القرآني ولست مبالغا وقد قدمت كيف أنهم رغم وجود النص علي التيمم في كتاب الله وسنة الرسول الثابتة رغم كل ذلك اجتهدوا، فقالوا بترك الصلاة مع فقد الماء وقد علل عبد الله بن عمر اجتهاده بالنحو الذي أشرنا إليه في مكان آخر من بحثنا. ومن أول الصحابة الذين فتحوا هذا الباب علي مصراعيه هو الخليفة الثاني الذي استعمل رأيه مقابل النصوص القرآنية بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وآله فعطل سهم المؤلفة قلوبهم الذين فرض الله لهم سهما من الزكاة وقال: لا حاجة لنا فيكم. أما اجتهاده في النصوص النبوية فلا يحصي وقد اجتهد في حياة الرسول نفسه وعارضه عدة مرات. وقد أشرنا في ما سبق إلي معارضته في صلح الحديبية وفي منع كتابة الكتاب

وقوله حسبنا كتاب الله وقد وقعت له حادثة أخري مع رسول الله صلي الله عليه وآله لعلها تعطينا صورة أوضح لنفسية عمر الذي أباح لنفسه أن يناقش ويجادل ويعارض صاحب الرسالة تلك هي حادثة التبشير بالجنة إذ بعث رسول الله أبا هريرة وقال له من [ صفحه 198] لقيته يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة، فخرج ليبشر فلقيه عمر ومنعه من ذلك وضربه حتي سقط علي استه، فرجع أبو هريرة إلي رسول الله وهو يبكي وأخبره بما فعل عمر فقال رسول الله لعمر ما حملك علي ما فعلت؟ قال: هل أنت بعثته ليبشر بالجنة من قال لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه؟ قال رسول الله نعم، قال عمر: لا تفعل فإني أخشي أن يتكل الناس علي لا إله إلا الله!. وهذا ابنه عبد الله بن عمر يخشي أن يتكل الناس علي التيمم فيأمرهم بترك الصلاة، ويا ليتهم تركوا النصوص كما هي ولم يبدلوها باجتهاداتهم العقيمة التي تؤدي إلي محو الشريعة وانتهاك حرمات الله وتشتيت الأمة في متاهات المذاهب المتعددة والآراء المتشعبة والفرق المتناحرة. ومن مواقف عمر المتعددة تجاه النبي وسنته نفهم بأنه ما كان يعتقد يوما بعصمة الرسول بل كان يري أنه بشر يخطئ ويصيب. ومن هنا جاءت الفكرة لعلماء السنة والجماعة بأن رسول الله معصوم في تبليغ القرآن فقط وما عدا ذلك فهو يخطئ كغيره من البشر ويستدلون علي ذلك بأن عمر صوب رأيه في العديد من القضايا. وإذا كان رسول الله صلي الله عليه وآله - كما يروي البعض من الجهلة - يقبل مزمارة الشيطان في بيته وهو مستلق علي ظهره والنسوة يضربن الدفوف والشيطان يلعب ويمرح

إلي جانبه حتي إذا دخل عمر بن الخطاب هرب الشيطان وأسرع النسوة فخبأن الدفوف تحت استهن وقال رسول الله لعمر ما رآك الشيطان سالكا فجا حتي سلك فجا غير فجك. فلا غرابة إذا أن يكون لعمر بن الخطاب رأي في الدين وأن يسمح لنفسه بمعارضة النبي في الأمور السياسية وحتي في الأمور الدينية كما تقدم في تبشير المؤمنين بالجنة. ومن فكرة الاجتهاد واستعمال الرأي مقابل النصوص نشأت أو تكونت مجموعة من الصحابة وعلي رأسهم عمر بن الخطاب وقد رأيناهم يوم الرزية كيف [ صفحه 199] ساندوا وعضدوا رأي عمر مقابل النص الصريح. ومن ذلك أيضا نستنتج أن هؤلاء لم يقبلوا يوما نصوص الغدير التي نصب بها النبي صلي الله عليه وآله عليا خليفة له علي المسلمين، وتحينوا الفرصة السانحة لرفضها عند وفاة النبي فكان اجتماع السقيفة وانتخاب أبي بكر من نتيجة هذا الاجتهاد، ولما استتب لهم الأمر وتناسي الناس نصوص النبي بشأن الخلافة، بدأوا يجتهدون في كل شئ حتي استطالوا علي كتاب الله فعطلوا الحدود وأبدلوا الأحكام فكانت مأساة فاطمة الزهراء بعد مأساة زوجها وإبعاده عن منصة الخلافة، ثم كانت مأساة قتل مانعي الزكاة، وكل ذلك من الاجتهاد مقابل النصوص، ثم كانت خلافة عمر بن الخطاب نتيجة حتمية لذلك الاجتهاد إذ أن أبا بكر اجتهد برأيه وأسقط الشوري التي كان يستدل بها هو نفسه علي صحة خلافته وزاد عمر في الطين بلة عندما ولي أمور المسلمين فأحل ما حرم الله ورسوله [192] وحرم ما أحل الله ورسوله [193] . ولما جاء عثمان بعده ذهب شوطا بعيدا في الاجتهاد فبالغ أكثر ممن سبقوه حتي أثر اجتهاده في الحياة السياسة والدينية بوجه عام فقامت الثورة ودفع حياته

ثمن اجتهاده. ولما ولي الإمام علي أمور المسلمين وجد صعوبة كبيرة في إرجاع الناس إلي السنة النبوية الشريفة وحظيرة القرآن وحاول جهده أن يزيل البدع التي أدخلت في الدين ولكن بعضهم صاح وأسنة عمراه! وأكاد اعتقد وأجزم بأن الذين حاربوا الإمام عليا وخالفوه، إنما فعلوا ذلك لأنه - سلام الله عليه - حملهم علي الجادة وأرجعهم إلي النصوص الصحيحة مميتا بذلك كل البدع والاجتهادات التي ألصقت بالدين طوال ربع قرن وقد ألفها الناس وخاصة منهم أصحاب الأهواء والأطماع الدنيوية الذين اتخذوا مال الله دولا وعباد الله خولا وكدسوا الذهب والفضة وحرموا المستضعفين من أبسط الحقوق التي شرعها الإسلام. [ صفحه 200] وقد نجد أن المستكبرين في كل عصر يميلون إلي الاجتهاد ويطبلون له لأنه يفسح لهم المجال للوصول إلي مآربهم من كل طريق، أما النصوص فتقطع عليهم وجهتهم وتحول بينهم وبين ما يرومون. ثم أن الاجتهاد وجد له أنصارا في كل عصر ومصر حتي من المستضعفين أنفسهم لما فيه من سهولة التطبيق وعدم الالتزام. ولأن النص فيه التزام وعدم حرية وقد يسمي عند رجال السياسة الحكم الثيوقراطي يعني حكم الله ولأن الاجتهاد فيه حرية وعدم التزام بالقيود وربما يسمونه الحكم الديمقراطي يعني حكم الشعب فالذين اجتمعوا في السقيفة بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله ألغوا الحكومة الثيوقراطية التي أسسها رسول الله علي مبدأ النصوص القرآنية، وأبدلوها بحكومة ديمقراطية يختار الشعب فيها من يراه صالحا لقيادته، علي أن أولئك الصحابة لم يكونوا ليعرفوا كلمة (الديمقراطية) لأنها ليست عربية ولكنهم يعرفون نظام الشوري [194] . فالذين لا يقبلون النص علي الخلافة - اليوم - هم أنصار (الديمقراطية) ويفتخرون بذلك مدعين أن الإسلام هو أول من ارتأي

هذا النظام، وهم أنصار الاجتهاد والتجديد وهم اليوم أقرب ما يكونون من النظم الغربية ولذلك نسمع اليوم من الحكومات الغربية تمجيدا لهؤلاء وتسميتهم بالمسلمين المتطورين والمتسامحين. أما الشيعة أنصار (الثيوقراطية) أو حكومة الله والذين يرفضون الاجتهاد مقابل النص ويفرقون بين حكم الله والشوري، فالشوري عندهم لا علاقة لها بالنصوص وإنما الاجتهاد والشوري في ما لا نص فيه، أفلا تري أن الله سبحانه [ صفحه 201] هو الذي اختار رسوله محمدا ومع ذلك قال له: (وشاورهم في الأمر) [195] . أما في ما يتعلق باختيار القادة الذين يقودون البشرية فقال: (وربك يخلقما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) [196] . فالشيعة إذ يقولون بخلافة الإمام علي بعد رسول الله إنما يتمسكون بالنص وهم إذ يطعنون في بعض الصحابة إنما يطعنون في الذين أبدلوا النص بالاجتهاد فضيعوا بذل حكم الله ورسوله، وفتحوا في الإسلام رتقا لم يلتئم حتي اليوم. ومن أجل هذا أيضا نجد الحكومات الغربية ومفكريهم ينبذون الشيعة ويسمونهم بالتعصب الديني ويسمونهم رجعيين لأنهم يريدون الرجوع إلي القرآن الذي يقطع يد السارق ويرجم الزاني ويأمر بالجهاد في سبيل الله وكل ذلك عندهم عن جهية بربرية. وفهمت خلال هذا البحث لماذا أغلق بعض علماء أهل السنة والجماعة باب الاجتهاد منذ فقهاء القرن الثالث للهجرة فربما كان ذلك لما جره هذا الاجتهاد علي الأمة من ويلات ومصائب وخطوب وحروب دامية أكلت الأخضر واليابس وقد أبدل الاجتهاد خير أمة أخرجت للناس أمة متناحرة متقاتلة تسودها الفوضي وتحكم فيها القبلية وتنقلب من الإسلام إلي الجاهلية. بعكس الشيعة الذين بقي عندهم باب الاجتهاد مفتوحا ما دامت النصوص قائمة ولا يمكن لأي أحد تبديلها وأعانهم علي ذلك وجود الأئمة الاثني عشر الذين

ورثوا علم جدهم فكانوا يقولون ليس هناك مسألة إلا ولله حكم فيها وقد بينه رسول الله صلي الله عليه وآله. ونفهم أيضا أن أهل السنة والجماعة لما اقتدوا بالصحابة المجتهدين الذين منعوا كتابة السنة النبوية وجدوا أنفسهم مضطرين أمام غياب النصوص للاجتهاد بالرأي والقياس والاستصحاب وسد باب الذرائع إلي غير ذلك.. [ صفحه 202] ونفهم أيضا من كل ذلك أن الشيعة التفوا حول الإمام علي وهو باب مدينة العلم والذي كان يقول لهم: سلوني عن كل شئ فقد علمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لكل باب ألف باب [197] بينما التف غير الشيعة حول معاوية بن أبي سفيان الذي لم يكن يعرف من سنة النبي إلا قليلا، وأصبح إمام الفئة الباغية أميرا للمؤمنين، بعد وفاة الإمام علي فعمل في دين الله برأيه أكثر من الذين سبقوه، وأهل السنة والجماعة يقولون إنه كاتب الوحي وإنه من العلماء المجتهدين، كيف يحكمون باجتهاده وقد دس السم للحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة فقتله؟ ولعلهم يقولون: هذا أيضا من اجتهاده فقد اجتهد وأخطأ!. كيف يحكمون باجتهاده وقد أخذ البيعة من الأمة بالقوة والقهر لنفسه ثم لابنه يزيد من بعده وحول نظام الشوري إلي الملكية القيصرية. كيف يحكمون باجتهاده ويعطونه أجرا وقد حمل الناس علي لعن علي وأهل البيت ذرية المصطفي من فوق المنابر وأصحبت سنة متبعة طوال ستين عاما. بل كيف يسمونه (كاتب الوحي).. وقد نزل الوحي علي رسول الله صلي الله عليه وآله طيلة ثلاثة وعشرين عاما، كان معاوية مدة أحد عشر عاما منها مشركا بالله.. ولما أسلم بعد الفتح لم نعثر علي رواية تقول أنه سكن المدينة في حين أن رسول الله صلي الله

عليه وآله لم يسكن مكة بعد الفتح.. فكيف تسني لمعاوية كتابة الوحي يا تري؟!. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! والسؤال يعود دائما: أي الفريقين علي الحق وأيهما علي الباطل، فإما أن يكون علي وشيعته ظالمين وعلي غير الحق، وإما أن يكون معاوية وأتباعه ظالمين وعلي غير الحق وقد أوضح رسول الله صلي الله عليه وآله كل شئ غير أن بعض مدعي أتباع السنة [ صفحه 203] يبغونها عوجا وقد اتضح لي من خلال البحث ومن خلال الوقوف علي الدفاع عن معاوية إن المدافعين عنه هم أتباعه وأتباع بني أمية وليسوا كما يدعون أتباع السنة النبوية ; وخصوصا إذا تتبعت مواقفهم فهم يكرهون شيعة علي ويحتفلون بيوم عاشوراء عيدا ويدافعون عن الصحابة الذين آذوا رسول الله في حياته وبعد وفاته ويصححون أخطاءهم ويبررون أعمالهم. تري ; كيف تحبون عليا وأهل البيت وتترضون في نفس الوقت علي أعدائهم وقاتليهم؟ كيف تحبون الله ورسوله وتدافعون عمن بدل أحكام الله ورسوله واجتهد وتأول برأيه في أحكام الله؟. كيف تحترمون من لم يحترم رسول الله بل يرميه بالهجر ويطعن في إمارته؟!. كيف تقلدون أئمة نصبتهم الدولة الأموية أو الدولة العباسية لأمور سياسيةوتتركون الأئمة الذين نص عليهم رسول الله بعددهم [198] وبأسمائهم [199] كيف تقلدون من لم يعرف النبي حق معرفته وتتركون باب مدينة العلم ومن كان منه بمنزلة هارون من موسي؟!

من الذي أطلق مصطلح أهل السنة والجماعة

لقد بحثت في التاريخ فلم أجد إلا أنهم اتفقوا علي تسمية العام الذي استولي فيه معاوية علي الحكم (عام الجماعة)، وذلك أن الأمة انقسمت بعد مقتل عثمان إلي قسمين شيعة علي وأتباع معاوية ولما استشهد الإمام علي واستولي معاوية علي الحكم بعد الصلح الذي أبرمه

مع الإمام الحسن وأصبح معاوية هو أمير المؤمنين سمي ذلك العام (عام الجماعة)، إذا فتسمية (أهل السنة والجماعة) دالة علي اتباع سنة معاوية والاجتماع عليه وليست تعني اتباع سنة رسول الله، فالأئمة من ذريته وأهل بيته أدري وأعلم بسنة جدهم من الطلقاء، وأهل البيت أدري بما فيه، وأهل مكة أدري بشعابها ولكننا خالفنا الأئمة الاثني [ صفحه 204] عشر الذين نص عليهم رسول الله صلي الله عليه وآله واتبعنا أعداءهم. ورغم اعترافنا بالحديث الذي ذكر فيه رسول الله اثني عشر خليفة كلهم من قريش إلا أننا نتوقف دائما عند الخلفاء الأربعة ولعل معاوية الذي سمانا (أهل السنة والجماعة) كان يقصد الاجتماع علي السنة التي سنها بسب علي وأهل البيت والتي استمرت ستين عاما ولم يقدر علي إزالتها إلا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وقد يحدثنا بعض المؤرخين أن الأمويين تآمروا علي قتل عمر بن عبد العزيز وهو منهم لأنه أمات السنة وهي لعن علي بن أبي طالب. يا أهلي ويا عشيرتي لنتجه - علي هدي الله تعالي - إلي البحث عن الحق وننبذ التعصب جانبا فنحن ضحايا بني أمية وبني العباس وضحايا التاريخ المظلم وضحايا الجمود الفكري الذي ضربه علينا الأوائل، إننا لا شك ضحايا الدهاء والمكر الذي اشتهر به معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وأضرابهم ; ابحثوا في واقع تاريخنا الإسلامي لتبلغوا الحقائق الناصعة وسيؤتيكم الله أجركم مرتين فعسي أن يجمع الله بكم شمل هذه الأمة التي نكبت بعد موت نبيها وتمزقت إلي ثلاث وسبعين فرقة، هلموا لتوحيدها تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله الاقتداء بأهل البيت النبوي الذين أمرنا رسول الله صلي الله عليه وآله باتباعهم

فقال: (لا تقدموهم فتهلكوا، ولا تتخلفوا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم) [200] . لو فعلنا ذلك، لرفع الله مقته وغضبه عنا ولأبدلنا من بعد خوفنا أمنا، ولمكننا في الأرض واستخلفنا فيها ولأظهر لنا وليه الإمام المهدي عليه السلام الذي وعدنا به رسول الله ليملأ أرضنا قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا وليتم به الله نوره في كل المعمورة. [ صفحه 205]

دعوة أصدقاء للبحث

كان التحول بداية السعادة الروحية إذ أحسست راحة الضمير وانشرح صدري للمذهب الحق الذي اكتشفته أو قل للإسلام الحقيقي الذي لا شك فيه ; وغمرتني فرحة كبيرة واعتزاز بما أنعم الله تعالي علي من هداية ورشاد. ولم يسعني السكوت والتكتم علي ما يختلج في صدري وقلت في نفسي: لا بد لي من إفشاء هذه الحقيقة علي الناس (وأما بنعمة ربك فحدث) وهي من أكبر النعم أو هي النعمة الكبري في الدنيا وفي الآخرة، و (الساكت عن الحق شيطان أخرس) (وليس بعد الحق) إلا (الضلال). والذي زاد شعوري يقينا بوجوب نشر هذه الحقيقة هو براءة أهل السنة والجماعة الذين يحبون رسول الله وأهل بيته ويكفي أن يزول الغشاء الذي نسجه التاريخ حتي يتبعوا الحق وهذا ما وقع لي شخصيا.قال تعالي: (كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم) [201] . ودعوت أربعة أصدقاء من الأساتذة العاملين معي في المعهد كان اثنان منهم يدرسان التربية الدينية والثالث يدرس مادة العربية والرابع كان أستاذ الفلسفة الإسلامية، لم يكن أربعتهم من قفصة بل كانوا من تونس ومن جمال وسوسة، [ صفحه 206] دعوتهم إلي البحث معي في هذا الموضوع الخطير وأشعرتهم بأني قاصر عن إدراك بعض المعاني وقد اضطربت وتشككت في بعض الأمور، وقبلوا المجئ إلي

بيتي بعد إنهاء العمل، وتركتهم يقرأون كتاب المراجعات علي أن مؤلفه يدعي أشياء عجيبة وغريبة في الدين، وقد استهوي الكتاب ثلاثة منهم أما الرابع الذي يدرس اللغة العربية فقد قاطعنا بعد أربع جلسات أو خمس قائلا: (إن الغرب الآن يغزو القمر وأنتم ما زلتم تبحثون عن الخلافة الإسلامية). وما أن أتممنا الكتاب خلال شهر واحد حتي استبصر ثلاثتهم وقد أعنتهم كثيرا للوصول إلي الحقيقة من أقرب الطرق بما تكون عندي من سعة الاطلاع خلال سنوات البحث وذقت حلاوة الهداية واستبشرت بالمستقبل وأخذت أدعو في كل مرة بعض الأصدقاء من قفصة والذين كانت تربطني بهم حلقات الدرس في المسجد أو العلاقات المنجرة من الطرق الصوفية وبعض تلاميذي الذين كانوا يلازمونني وما مرت سنة واحدة حتي أصبحنا بحمد الله عددا كبيرا نوالي أهل البيت نوالي من والاهم ونعادي من عاداهم، نفرح في أعيادهم ونحزن في عاشوراء ونعقد مجالس تعزية. وكانت أولي رسائلي التي تحمل خبر استبصاري إلي السيد الخوئي والسيد محمد باقر الصدر بمناسبة عيد الغدير إذ احتفلنا به أول مرة في قفصة، وقد اشتهر أمري لدي الخاص والعام بأني تشيعت وأني أدعو إلي التشيع لآل بيت الرسول صلي الله عليه وآله وبدأت الاتهامات والإشاعات تروج في البلاد، علي أنني جاسوس لإسرائيل أعمل علي تشكيك الناس في دينهم وبأنني أسب الصحابة وبأنني صاحب فتنة إلي غير ذلك. وفي تونس العاصمة اتصلت بالصديقين راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وكانت معارضتهما لي عنيفة جدا وفي حديث دار بيننا في بيت عبد الفتاح، قلت يجب علينا كمسلمين مراجعة كتبنا ومراجعة تاريخنا وضربت لذلك مثلا صحيح البخاري الذي فيه أشياء لا يقبلها عقل ولا دين. وثارت ثائرتهما قائلين لي: من أنت

حتي تنتقد البخاري؟ وبذلت كل جهدي [ صفحه 207] من أجل إقناعهما بالدخول في البحث العلمي الموضوعي فرفضا ذلك. ازدادت علي أثره حملة الإشاعات ضدنا من قبل البعض وبثوا في أوساطهم إشاعات غريبة بغية إبعاد الناس عني وإحاطتي بطوق من العزلة - سامحهم الله تعالي. وبدأت العزلة من بعض الشبان ومن الشيوخ الذين يتبعون الطرق الصوفية وعشنا فترات قاسية غرباء في ديارنا وبين إخواننا وعشيرتنا ولكن الله سبحانه أبدلنا خيرا منهم فكان بعض الشبان يأتون من مدن أخري يسألون عن الحقيقة فكنت أبذل قصاري ما في وسعي لإقناعهم بحقيقة منهج أهل البيت (ع) وبالواقع التاريخي فاستبصر عدد من الشبان في العاصمة وفي القيروان وفي سوسة وسيدي بوزيد وكنت خلال رحلتي الصيفية إلي العراق مررت بأوروبا حيث التقيت بعض الأصدقاء في فرنسا وفي هولندا وتحدثت معهم في الموضوع فاستبصروا والحمد لله. وكم كانت فرحتي عظيمة عندما قابلت السيد محمد باقر الصدر في النجف الأشرف وكان في بيته نخبة من العلماء وأخذ السيد يقدمني إليهم بأني بذرة التشيع لآل بيت النبي صلي الله عليه وآله في تونس كما أعلمهم بأنه بكي تأثرا عندما وصلته رسالتي مهنئة تحمل إليه بشري احتفالنا أول مرة بعيد الغدير السعيد وشكوت إليه ما نلاقيه من مقاومة ومن بث الإشاعات ضدنا والعزلة التي نواجهها. وقال السيد في معرض كلامه: (لا بد) من تحمل المشاق لأن طريق أهل البيت صعب ووعر، وقد جاء رجل إلي النبي صلي الله عليه وآله فقال له: إني أحبك يا رسول الله! فقال له: أبشر بكثرة الابتلاء، فقال: وأحب ابن عمك عليا! فقال: أبشر بكثرة الأعداء، فقال: وأحب الحسن والحسين! فقال له: فاستعد للفقر وكثرة البلاء، وماذا قدمنا نحن

في سبيل دعوة الحق التي دفع ثمنها أبو عبد الله الحسين (ع) بنفسه وأهله وذريته وأصحابه، كما دفع ثمنها الشيعة علي مر التاريخ وما زالوا حتي اليوم يدفعون ثمن ولائهم لأهل البيت (ع)، فلا بد يا أخي من تحمل بعض الأتعاب والتضحية في سبيل الحق فلئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من الدنيا وما فيها. [ صفحه 208] كما نصحني السيد الصدر بعدم الانزواء وأمرني بأن أتقرب أكثر من إخواني أهل السنة كلما حاولوا الابتعاد عني، وأمرني أن أصلي خلفهم حتي لا تكون القطيعة، وأن أعتبرهم أبرياء فهم ضحايا الإعلام والتاريخ المزيف، والناس أعداء ما جهلوا. وقد نصحني السيد الخوئي بالشئ نفسه تقريبا، كما كان السيد محمد علي الطباطبائي الحكيم يبعث لنا دائما بنصائحه في رسائل متعددة كان لها أثر كبير في سيرة الإخوة المستبصرين علي الهدي. هذا وقد تعددت زياراتي للنجف الأشرف ولعلماء النجف في مناسبات كثيرة، ثم آليت علي نفسي أن أقضي العطلة الصيفية من كل عام في رحاب الإمام علي أحضر دروس السيد محمد باقر الصدر التي استفدت منها كثيرا ونفعتني أيما نفع كما آليت علي نفسي أن أزور مقامات الأئمة الاثني عشر وقد حقق الله أمنيتي بأن وفقني حتي لزيارة الإمام الرضا الذي يوجد مرقده في مشهد وهي مدينة قرب الحدود الروسية في إيران وهناك تعرفت علي أبرز العلماء واستفدت منهم كثيرا. كما أعطاني السيد الخوئي الذي كنا نقلده وكالة للتصرف في الخمس والزكاة وإفادة المجموعة المستبصرة عندنا بما تحتاجه من كتب وإعانات وغير ذلك، وقد كونت مكتبة مفيدة بها أهم المصادر التي تخص البحث وتجمع كتب الفريقين وتحمل اسم مكتبة أهل البيت (عليهم السلام) وقد أفادت الكثيرين والحمد

لله. وزاد الله فرحتنا فرحتين وسعادتنا سعادتين فقبل حوالي خمسة عشر عاما سخر لنا الله الكاتب العام لبلدية قفصة فوافق علي تسمية الشارع الذي أسكن فيه باسم شارع الإمام علي بن أبي طالب (ع)، فلا يفوتني هنا أن أشكر له هذه اللفتة المشرفة، فهو من المسلمين العاملين وله ميل كبير ومحبة فائقة لشخص الإمام علي (ع) وقد أهديته كتاب المراجعات، وهو يبادل مجموعتنا حبا وتقديرا واحتراما فجزاه الله خيرا وأعطاه ما يتمني. وقد عمل بعض الحاقدين علي إزالة اللوحة وأعيتهم الحيل وشاء الله تثبيتها [ صفحه 209] وأصبحت الرسائل ترد علينا من كل أنحاء العالم وعليها اسم شارع الإمام علي بن أبي طالب (ع) ; الذي بارك اسمه الشريف مدينتنا الطيبة العريقة. وعملا بنصائح الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وكذلك بنصائح علماء النجف الأشرف عمدنا إلي التقرب من إخوتنا من المذاهب الأخري ولازمنا الجماعة فكنا نصلي معا، وخفت بذلك حدة التوتر وتمكنا من إقناع بعض الشبان من خلال تساؤلاتهم عن كيفية صلاتنا ووضوئنا وعقائدنا [ صفحه 211]

هدي الحق

في إحدي قري الجنوب التونسي وخلال حفل زفاف كانت النساء يتحدثن عن فلانة زوجة فلان، واستغربت العجوز الكبيرة التي كانت تجلس وسطهن وتسمع حديثهن أن تكون فلانة قد تزوجت فلانا ولما سألنها عن سبب استغرابها أخبرتهن أنها أرضعت الاثنين فهما أخوان من الرضاعة، ونقل النسوة هذا النبأ العظيم إلي أزواجهن وتثبت الرجال فشهد والد المرأة بأن ابنته أرضعتها تلك العجوز المعروفة لدي الجميع بأنها مرضعة كما شهد والد الزوج بأن ابنه أرضعته نفس المرضعة، وقامت قيامة العشيرتين وتقاتلوا بالعصي كل منهما تتهم الأخري بأنها سبب الكارثة التي سوف تجرهم إلي سخط الله وعقابه وخصوصا لأن هذا

الزواج مر عليه عشرة أعوام أنجبت المرأة خلالها ثلاثة أطفال وقد هربت عند سماعها الخبر إلي بيت أبيها وامتنعت عن الأكل والشراب وأرادت الانتحار لأنها لم تتحمل الصدمة وكيف أنها تزوجت من أخيها وولدت منه وهي لا تعلم، وسقط عدد من الجرحي من العشيرتين وتدخل أحد الشيوخ الكبار وأوقف المعارك ونصحهم بأن يطوفوا علي العلماء ليستفتوهم في هذه الفضية عسي أن يجدوا حلا. فصاروا يتجولون في المدن الكبري المجاورة يسألون علماءها عن حل لقضيتهم وكلما اتصلوا بعالم وأطلعوه علي الأمر أخبرهم بحرمة الزواج وضرورة تفريق الزوجين إلي الأبد وتحرير رقبة أو صيام شهرين إلي غير ذلك من الفتاوي. ووصلوا إلي قفصة وسألوا علماءها فكان الجواب نفسه، لأن المالكية [ صفحه 212] كلهم يحرمون الرضاعة ولو من قطرة واحدة اقتداء بالإمام مالك الذي قاس الحليب علي الخمر إذ أن (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، فتحرم الرضاعة ولو من قطرة واحدة من الحليب، والذي وقع أن أحد الحاضرين اختلي بهم ودلهم علي بيتي قائلا لهم: اسألوا التيجاني في مثل هذه القضايا فإنه يعرف كل المذاهب، وقد رأيته يجادل هؤلاء العلماء عدة مرات فيبزهم بالحجة البالغة. هذا ما نقله إلي زوج المرأة حرفيا عندما أدخلته إلي المكتبة وحكي لي كل القضية بالتفصيل من أولها إلي آخرها وقال: (يا سيدي أن زوجتي تريد الانتحار وأولادي مهملون ونحن لا نعرف حلا لهذه المشكلة وقد دلونا عليك وقد استبشرت خيرا لما رأيت عندك هذه الكتب التي لم أشهد في حياتي مثلها فعسي أن يكون الحل عندك). أحضرت له قهوة وفكرت قليلا ثم سألته عن عدد الرضعات التي رضعها هو من المرأة فقال: لا أدري غير أن زوجتي رضعت منها مرتين أو

ثلاثا وقد شهد أبوها بأنه حملها مرتين أو ثلاث مرات إلي تلك العجوز المرضعة، فقلت إذا كان هذا صحيحا فليس عليكما شئ والزواج صحيح وحلال محلل، وارتمي المسكين علي يقبل رأسي ويدي ويقول: بشرك الله بالخير لقد فتحت أبواب السكينة أمامي، ونهض مسرعا ولم يكمل قهوته ولا استفسر مني ولا طلب الدليل غير أنه استأذن للخروج حتي يسرع فيبشر زوجته وأولاده وأهله وعشيرته. لكنه رجع في اليوم التالي ومعه سبعة رجال وقدمهم إلي قائلا: هذا والدي وهذا والد زوجتي والثالث هو عمدة القرية والرابع إمام الجمعة والجماعة والخامس هو المرشد الديني والسادس شيخ العشيرة والسابع هو مدير المدرسة، وقد جاؤوا يستفسرون عن قضية الرضاعة وبماذا حللتها؟. وأدخلت الجميع إلي المكتبة وكنت أتوقع جدالهم وأحضرت لهم القهوة ورحبت بهم: قالوا إنما جئناك نناقشك في تحليلك الرضاعة وقد حرمها الله في القرآن، وحرمها رسوله بقوله: يحرم بالرضاعة ما يحرم بالنسب، وكذلك حرمها الإمام مالك. [ صفحه 213] قلت: يا سادتي أنتم ما شاء الله ثمانية وأنا واحد فإذا تكلمت مع الجميع فسوف لن أقنعكم وتضيع المناقشة في الهامشيات، وإنما اقترح عليكم اختيار أحدكم حتي أتناقش معه وأنتم تكونون حكما بيني وبينه!. وأعجبتهم الفكرة واستحسنوها، وسلموا أمرهم إلي المرشد الديني قائلين أنه أعلمهم وأقدرهم، وبدأ السيد يسألني كيف أحلل ما حرم الله ورسوله والأئمة؟! قلت: أعوذ بالله أن أفعل ذلك! ولكن الله حرم الرضاعة بآية مجملة ولم يبين تفصيل ذلك وإنما أوكل ذلك إلي رسوله فأوضح مقصود الآية بالكيف والكم. قال: فإن الإمام مالك يحرم الرضاعة من قطرة واحدة. قلت: أعرف ذلك، ولكن الإمام مالك ليس حجة علي المسلمين وإلا فما هو قولك بالأئمة الآخرين؟. أجاب: رضي الله

عنهم وأرضاهم فكلهم من رسول ملتمس. قلت: فما هي إذن حجتك عند الله في تقليدك الإمام مالك الذي يخالف رأيه نص الرسول صلي الله عليه وآله؟. قال محتارا: سبحان الله أنا لا أعلم أن الإمام مالكا إمام دار الهجرة يخالف النصوص النبوية، وتحير الحاضرون من هذا القول، واستغربوا مني هذه الجرأة علي الإمام مالك والتي لم يعهدوها من قبل في غيري، واستدركت قائلا: هل كان الإمام مالك من الصحابة؟ قال: لا، قلت: هل كان من التابعين؟ قال: لا، وإنما هو من تابعي التابعين. قلت: فأيهما أقرب هو أم الإمام علي بن أبي طالب (ع)؟. قال: الإمام علي أقرب فهو من الخلفاء الراشدين، وتكلم أحد الحاضرين قائلا: سيدنا علي كرم الله وجهه هو باب مدينة العلم. فقلت: فلماذا تركتم باب مدينة العلم واتبعتم رجلا ليس من الصحابة ولا [ صفحه 214] من التابعين وإنما ولد بعد الفتنة وبعدما أبيحت مدينة رسول الله لجيش يزيد وفعلوا فيها ما فعلوا وقتلوا خيار الصحابة وانتهكوا فيها المحارم، وغيروا سنة الرسول ببدع ابتدعوها، فكيف يطمئن الإنسان بعد ذلك إلي هؤلاء الأئمة الذين رضيت عنهم السلطة الحاكمة لأنهم أفتوها بما يلائم أهواءهم. وتكلم أحدهم وقال: سمعنا أنك شيعي تعبد الإمام عليا فلكزه صاحبه الذي كان بجانبه لكزة أوجعته وقال له: أسكت أما تستحي أن تقول مثل هذا القول لرجل فاضل مثل هذا وقد عرفت العلماء وحتي الآن لم تر عيني مكتبة مثل هذه المكتبة، وهذا الرجل يتكلم عن معرفة ووثوق بما يقول!. أجبته قائلا: أنا شيعي هذا صحيح ولكن الشيعة لا يعبدون عليا وإنما عوض أن يقلدوا الإمام مالكا فهم يقلدون الإمام عليا لأنه باب مدينة العلم حسب شهادتكم، قال المرشد

الديني: وهل حلل الإمام علي زواج الرضيعين؟. قلت: لا ولكنه يحرم ذلك إذا بلغت الرضاعة خمس عشرة رضعة مشبعات ومتواليات، أو ما أنبت لحما وعظما. وتهلل وجه والد الزوجة وقال: الحمد لله فابنتي لم ترضع إلا مرتين أو ثلاث مرات فقط، وإن في قول الإمام علي هذا مخرجا لنا من هذه الورطة ورحمة لنا من الله بعد أن يئسنا. فقال المرشد: أعطنا الدليل علي هذا القول حتي نقتنع ; فأعطيتهم كتاب منهاج الصالحين للسيد الخوئي، وقرأ هو بنفسه عليهم باب الرضاعة، وفرحوا بذلك فرحا عظيما وخصوصا الزوج الذي كان خائفا أن لا يكون لدي الدليل المقنع وطلبوا مني إعارتهم الكتاب حتي يحتجوا به في قريتهم فسلمته إليهم وخرجوا مودعين داعين معتذرين. وبمجرد خروجهم من بيتي التقي بهم أحد المناوئين وحملهم إلي بعض علماء السوء فخوفوهم وحذروهم بأني عميل لإسرائيل وأن كتاب منهاج الصالحين الذي أعطيتهم إياه كله ضلالة وأن أهل العراق هم أهل الكفر والنفاق وأن الشيعة [ صفحه 215] مجوس يبيحون نكاح الأخوات فلا غرابة إذن في إباحتي لهم نكاح الأخت من الرضاعة إلي غير ذلك من التهم والأراجيف وما زال بهم يحذرهم حتي ارتدوا علي أعقابهم وانقلبوا بعد اقتناعهم، وأجبروا الزوج علي أن يتقدم بدعوي عدلية للطلاق لدي المحكمة الابتدائية في قفصة وطلب منهم رئيس المحكمة أن يذهبوا إلي العاصمة ويتصلوا بمفتي الجمهورية ليحل هذا الإشكال، وسافر الزوج وبقي هناك شهرا كاملا حتي تمكن من مقابلته وقص عليه قصته من أولها إلي آخرها وسأله مفتي الجمهورية عن العلماء الذين قالوا بحلية الزواج وصحته فأجاب الزوج بأنه ليس هناك من قال بحليته غير شخص واحد هو التيجاني السماوي، وسجل المفتي اسمي وقال للزوج: إرجع

أنت وسوف أبعث أنا برسالة إلي رئيس المحكمة في قفصة، وبالفعل جاءت الرسالة من مفتي الجمهورية وأطلع عليها وكيل الزوج وأعلمه بأن مفتي الجمهورية حرم ذلك الزواج. هذا ما قصه علي زوج المرأة الذي بدا عليه الضعف والإرهاق من كثرة التعب وهو يعتذر إلي مما سببه لي من إزعاج وحرج، فشكرته علي عواطفه متعجبا كيف يبطل مفتي الجمهورية الزواج القائم في مثل هذه القضية، وطلبت منه أن يأتيني برسالته التي بعثها إلي المحكمة حتي أنشرها في الصحف التونسية وأبين أن مفتي الجمهورية يجهل المذاهب الإسلامية ولا يعرف اختلافهم الفقهي في مسألة الرضاعة. فقال الزوج أنه لا يمكنه أن يطلع علي ملف قضيته فضلا عن أن يأتيني برسالة منه، وافترقنا. وبعد بضعة أيام جاءتني دعوة من رئيس المحكمة يأمرني فيها بإحضار الكتاب والأدلة علي عدم بطلان ذلك الزواج بين (الرضيعين)!، وذهبت محملا بعدة مصادر انتقيتها مسبقا ووضعت في كل منها بطاقة في باب الرضاعة ليسهل تخريجه في لحظة واحدة، وذهبت في اليوم والساعة المذكورين واستقبلني كاتب المحكمة وأدخلني إلي مكتب الرئيس وفوجئت برئيس المحكمة الابتدائية ورئيس محكمة الناحية ووكيل الجمهورية ومعهم ثلاثة أعضاء وكلهم يرتدون لباسهم الخاص للقضاء وكأنهم في جلسة رسمية، ولاحظت أيضا أن زوج المرأة يجلس في [ صفحه 216] آخر القاعة قبالهم، وسلمت علي الجميع فكانوا كلهم ينظرون إلي باشمئزاز واحتقار ولما جلست خاطبني الرئيس بلهجة خشنة قائلا: - أنت هو التيجاني السماوي؟ قلت: نعم. - قال: أنت الذي أفتيت بصحة الزواج في هذه القضية؟. - قلت: لا لست أنا بمفت، ولكن الأئمة وعلماء المسلمين هم الذين أفتوا بحليته وصحته!. - قال: ومن أجل ذلك دعوناك، وأنت الآن في قفص الاتهام، فإذا لم

تثبت دعواك بالدليل فسوف نحكم بسجنك وسوف لن تخرج من هنا إلا إلي السجن. وعرفت وقتها أنني بالفعل في قفص الاتهام، لا لأنني أفتيت في هذه القضية، ولكن لأن بعض علماء السوء حدث هؤلاء الحكام بأنني صاحب فتنة وأنني أسب الصحابة وأبث التشيع لآل البيت النبوي، وقد قال له رئيس المحكمة إذا أتيتني بشاهدين ضده فسألقيه في السجن. أضف إلي ذلك أن جماعة من الإخوان المسلمين استغلوا هذه الفتوي وروجوا لدي الخاص والعام أنني أبيح نكاح الأخوات وهو قول الشيعة علي زعمهم!. كل ذلك عرفته من قبل وتيقنته عندما هددني رئيس المحكمة بالسجن فلم يبق أمامي إلا التحدي والدفاع عن نفسي بكل شجاعة فقلت للرئيس: - هل لي أن أتكلم بصراحة وبدون خوف، قال: - نعم تكلم فأنت ليس لك محام.. قلت: - قبل كل شئ أنا لم أنصب نفسي للإفتاء، ولكن ها هو زوج المرأة أمامكم فاسألوه، فهو الذي جاءني إلي بيتي يطرق بابي ويسألني، فكان واجبا علي أن أجيبه بما أعلم وقد سألته بدوري عن عدد الرضعات ولما أعلمني بأن زوجته لم ترضع غير مرتين أعطيته وقتها حكم الإسلام فيها، فلست أنا من المجتهدين ولا من المشرعين. [ صفحه 217] قال الرئيس: عجبا، أنت الآن تدعي أنك تعرف الإسلام ونحن نجهله! قلت: أستغفر الله أنا لم أقصد هذا، ولكن كل الناس هنا يعرفون مذهب الإمام مالك ويتوقفون عنده، وأنا فتشت في كل المذاهب ووجدت حلا لهذه القضية. قال الرئيس: أين وجدت الحل؟ قلت: - قبل كل شئ هل لي أن أسألكم سؤالا يا سيدي الرئيس؟. - قال: إسأل ما تريد. - قلت: ما قولكم في المذاهب الإسلامية؟. - قال كلها صحيحة، فكلهم من

رسول الله ملتمس، وفي اختلافهم رحمة. - قلت: فارحموا إذن هذا المسكين (مشيرا إلي زوج المرأة) الذي قضي الآن أكثر من شهرين وهو مفارق لزوجه وولده بينما هناك من المذاهب الإسلامية من حل مشكلته. فقال الرئيس مغضبا: - هات الدليل وكفاك تهريجا، نحن سمحنا لك بالدفاع عن نفسك فأصبحت محاميا لغيرك. فأخرجت له من حقيبتي كتاب منهاج الصالحين للسيد الخوئي وقلت: هذا مذهب أهل البيت وفيه الدليل، فقاطعني قائلا: دعنا من مذهب أهل البيت فنحن لا نعرفه ولا نؤمن به. كنت متوقعا هذا ولذلك أحضرت معي بعد البحث والتنقيب عدة مصادر لأهل السنة والجماعة كنت رتبتها حسب علمي فوضعت البخاري في المرتبة الأولي ثم صحيح مسلم وبعده كتاب الفتاوي لمحمود شلتوت وكتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد، وكتاب زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي وعدة مصادر أخري من كتب (أهل السنة) ولما رفض الرئيس أن ينظر [ صفحه 218] في كتاب السيد الخوئي سألته عن الكتب التي يثق بها، قال: البخاري ومسلم. وأخرجت صحيح البخاري وفتحته علي الصفحة المعينة وقلت: تفضل يا سيدي إقرأ. - قال: إقرأ أنت؟ وقرأت: حدثنا فلان عن فلان عن عائشة أم المؤمنين قالت توفي رسول الله صلي الله عليه وآله ولم يحرم من الرضعات إلا خمسا فما فوق. وأخذ الرئيس مني الكتاب وقرأ بنفسه وأعطاه إلي وكيل الجمهورية بجانبه فقرأ هو الآخر وناوله لمن بعده في حين أخرجت صحيح مسلم وأطلعته علي نفس الأحاديث ثم فتحت كتاب الفتاوي لشيخ الأزهر شلتوت وقد ذكر هو الآخر اختلافات الأئمة في مسألة الرضاعة فمنهم من ذهب إلي القول بأن المحرم ما بلغ خمس عشرة رضعة ومنهم من قال بسبعة ومنهم من

حرم فوق الخمسة عدا مالك الذي خالف النص وحرم قطرة واحدة ثم قال شلتوت: وأنا أميل إلي أوسط الآراء فأقول سبعا فما فوق، وبعد ما اطلع رئيس المحكمة علي ذلك قال: يكفي. ثم التفت إلي زوج المرأة وقال له: إذهب الآن وآئتني بوالد زوجتك ليشهد أمامي بأنها رضعت مرتين أو ثلاثا وسوف تأخذ زوجتك معك هذا اليوم.. وطار المسكين فرحا، واعتذر وكيل الجمهورية وبقية الأعضاء الحاضرين للالتحاق بأعمالهم وأذن لهم الرئيس، ولما خلا بنا المجلس التفت إلي معتذرا وقال: سامحني يا أستاذ لقد غلطوني فيك وقالوا فيك أشياء غريبة وأنا الآن عرفت أنهم حاسدون ومغرضون يريدون بك شرا. وطار قلبي فرحا بهذا التحول السريع وقلت: الحمد لله الذي جعل نصري علي يديك يا سيدي الرئيس، فقال: سمعت بأن عندك مكتبة عظيمة فهل يوجد فيها كتاب حياة الحيوان الكبري للدميري؟. قلت: نعم، فقال: هل تعيرني إياه، فقد مضي عامان وأنا أبحث عنه: قلت: هو لك يا سيدي متي أردت، قال: هل عندك وقت يسمح لك بالمجئ إلي مكتبتي لنتحدث وأستفيد منك. قلت: أستغفر الله فأنا الذي أستفيد منك، فأنت أكبر مني سنا وقدرا، [ صفحه 219] وعندي أربعة أيام راحة في الأسبوع وأنا رهن إشارتك. واتفقنا علي يوم السبت من كل أسبوع لأنه ليس له جلسات للمحكمة في ذلك اليوم. وبعدما طلب مني أن أترك له كتابي البخاري ومسلم وكتاب الفتاوي لمحمود شلتوت لكي يحرر منها النص قام بنفسه وأخرجني من مكتبه مودعا. وخرجت فرحا أحمد الله سبحانه علي هذا النصر وقد دخلت خائفا مهددا بالسجن وخرجت وقد انقلب رئيس المحكمة إلي صديق حميم يحترمني ويطلب مني مجالسته ليستفيد مني، إنها بركات طريق أهل البيت الذين

لا يخيب من تمسك بهم ويأمن من لجأ إليهم. وتحدث زوج المرأة في قريته وشاع الخبر في كل القري المجاورة بعد ما رجعت المرأة إلي بيت زوجها وانتهت القضية بحلية الزواج، فأصبح الناس يقولون بأني أعلم من الجميع وأعلم حتي من مفتي الجمهورية. وقد جاء زوج المرأة إلي البيت ومعه سيارة كبيرة ودعاني إلي القرية أنا وكل عائلتي وأعلمني أن كل الأهالي ينتظرون قدومي وسيذبحون ثلاثة عجول لإقامة الفرج واعتذرت إليه بسبب انشغالي في قفصة وقلت له: سوف أزوركم مرة أخري إن شاء الله. وتحدث رئيس المحكمة إلي أصدقائه واشتهرت القضية ورد الله كيد الكائدين وجاء بعضهم معتذرين وقد فتح الله بصيرة البعض منهم فاستبصروا وأصبحوا من المخلصين، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلي الله علي سيدنا محمد وعلي آله الطيبين الطاهرين.

پاورقي

[1] المؤدب: هو معلم القرآن.

[2] أشفع: أصلي التراويح، سميت صلاة التراويح للاستراحة بين كل ركعتين، وسميت أيضا صلاة الاشفاع لأنها تشفع يوم القيامة لمن يقيمها، كما يروي أهل السنة.

[3] الكتاب: هي المدرسة القرآنية التي بتعلم فيها الأطفال حفظ القرآن الكريم.

[4] البنادر: مفرده بندير وهو طبل مثل الدف يستعمله الصوفية للمدائح والأذكار والشطح ويقال أن سيدي عبد السلام الأسمر أول من استعمله وقد نزل بنديره من السماء؟!.

[5] سورة الحجرات: آية 2.

[6] سورة القصص: آية 88.

[7] سورة المائدة: آية 35.

[8] العمارة: هي الحلقة التي يذكر فيها اسم الصدر في شطحات منتظمة.

[9] حوقل، بحوقل: يكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

[10] سورة البقرة: آية 143.

[11] سورة الأحزاب: آية 56.

[12] سورة العنكبوت: آية 69.

[13] سورة آل عمران: آية 144.

[14] سورة

الفتح: آية 29.

[15] سورة الأحزاب: آية 40.

[16] سورة المائدة: الآيات 44 - 45 - 47.

[17] سورة العنكبوت: آية 69.

[18] سورة الزمر: آية 18.

[19] سورة الحج: آية 78.

[20] سورة يونس: آية 44.

[21] سورة الزخرف: آية 36.

[22] سورة آل عمران: آية 144.

[23] حوقل: قال لا حول ولا قوة إلا بالله.

[24] سورة آل عمران: آية 159.

[25] سورة الأحزاب: آية 32.

[26] سورة الأحزاب: آية 33.

[27] سورة الأنفال: آية 41.

[28] سورة الشوري: آية 23.

[29] سورة النساء: آية 59.

[30] سورة آل عمران: آية 7.

[31] حديث الثقلين، ومن مصادره، كنز العمال ج 1 ص 44، مسند أحمد ج 5 ص 182.

[32] حديث السفينة، المستدرك للحاكم ج 3 ص 151 تلخيص الذهبي، الصواعق المحرقة لابن حجر ص 184 و 234.

[33] هذه القصة أخرجها أصحاب السير والتواريخ كما أخرجها البخاري في صحيحه من كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد ج 2 - ص 122 - صحيح مسلم في باب صلح الحديبية ج 2.

[34] سورة النساء: آية 65.

[35] السيرة الحلبية باب صلح الحديبية ج 2 - ص 706.

[36] صحيح البخاري ج 3 باب قول المريض: قوموا عني. صحيح مسلم ج 5 ص 75 في آخر كتاب الوصية. مسند الإمام أحمد ج 1 ص 355 و ج 5 ص 116. تاريخ الطبري ج 3 ص 193 - تاريخ ابن الأثير ج 2 - ص 320.

[37] سورة الحجرات: آية 2.

[38] طبقات ابن سعد ج 2 - ص 190 - تاريخ ابن الأثير ج 2 - ص 317.السيرة الحلبية ج 3 - ص 207 - تاريخ الطبري ج 3 - ص 226.

[39] سورة الحشر: آية 7.

[40] سورة الأحزاب: آية 36.

[41] الطبقات الكبري لابن سعد ج 2 - ص

190 - تاريخ الطبري ج 4 - ص 226.

[42] سورة آل عمران: آية 31.

[43] سورة النحل: آية 44.

[44] سورة النساء: آية 105.

[45] سورة البقرة: آية 151.

[46] للتفصيل إقرأ: الخلافة والملك: أبو الأعلي المحمودي. يوم الإسلام: أحمد أمين.

[47] شرح ابن أبي الحديد ج 8 - ص 111.

[48] تاريخ اليعقوبي ج 2 - ص 106.

[49] فتوح البلدان ص 437.

[50] صحيح البخاري - ج 1 - ص 52.

[51] تاريخ الطبري - وتاريخ ابن الأثير.

[52] الإمامة والسياسة ابن قتيبة.

[53] راجع النص والاجتهاد، عبد الحسين شرف الدين، فقد أحصي كثيرا من الموارد التي اجتهد فيهاعمر مقابل النصوص، مع ذكر المصادر المقبولة لدي الفرق الإسلامية كافة.

[54] سورة الضحي: آية 7.

[55] سورة العنكبوت: آية 69.

[56] سورة الفتح: آية 29.

[57] سورة سبأ: آية 13.

[58] سورة التوبة: آية 38، 39.

[59] سورة محمد: آية 38.

[60] سورة المائدة: آية 54.

[61] سورة آل عمران: آية 104، 105، 106.

[62] سورة الحديد: آية 16.

[63] صحيح البخاري ج 4 ص 94 إلي 99 و ص 156 و ج 3 ص 32، صحيح مسلم ج 7 ص 66حديث الحوض.

[64] صحيح البخاري ج 4 ص 94 إلي 99 و ص 156 و ج 3 ص 32، صحيح مسلم ج 7 ص 66حديث الحوض.

[65] أخرج هذا الحديث كل من البخاري في صحيحه ج 4 ص 187 ومسلم في صحيحه ج 8 ص 57.والإمام أحمد بن حنبل في مسنده ج 3 ص 84 و 94.

[66] يصادف تاريخ كتابة هذه السطور: أن البابا يوحنا بولس الثاني زار بالأمس كنيسة اليهود في محاولة تقريب اليهود من النصاري علي حساب تبرئة اليهود من قتل المسيح ونسيان الماضي والتحالف لضرب الإسلام والمسلمين.

[67] الحديث أخرجه البخاري في صحيحه ج

4 ص 173 مسند الإمام أحمد ج 3 ص 39.

[68] تاريخ بغداد ج 1 ص 133.

[69] صحيح مسلم ج 2 ص 730 مسند الإمام أحمد بن حنبل.

[70] صحيح البخاري ج 4 ص 100 - 101.

[71] مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 341.

[72] مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 341.

[73] مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 341.

[74] مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 341.

[75] صحيح البخاري ج 1 ص 122 من كتاب العيدين. باب الخروج إلي المصلي بغير منبر.

[76] أبو الأعلي المودودي كتاب الخلافة والملك ص 106.

[77] صحيح مسلم ج 1 ص 61.

[78] صحيح البخاري ج 2 ص 305، مسلم ج 2 ص 360، مستدرك الحاكم ج 3 ص 109.

[79] صحيح البخاري ج 2 ص 76، صحيح الترمذي ج 5 ص 300، سنن ابن ماجة ج 1 ص 44.

[80] صحيح مسلم ج 1 ص 61، سنن النسائي ج 6 ص 117 صحيح الترمذي ج 8 ص 306.

[81] صحيح الترمذي ج 5 ص 201 مستدرك الحاكم ج 3 ص 126.

[82] مسند الإمام أحمد ج 5 ص 25 مستدرك الحاكم ج 3 ص 134، صحيح الترمذي ج 5 ص 296.

[83] صحيح مسلم ج 2 ص 362 مستدرك الحاكم ج 3 ص 109 مسند أحمد ج 4 ص 281.

[84] مستدرك الحاكم ج 3 ص 121 خصائص النسائي ص 24. مسند الإمام أحمد ج 6 ص 33 المناقب للخوارزمي ص 81. الرياض النضرة للطبري ج 2 ص 219. تاريخ السيوطي ص 73.

[85] صحيح البخاري ج 1 ص 74.

[86] صحيح البخاري ج 2 ص 154، صحيح مسلم ج 1 ص 260.

[87] صحيح البخاري ج 1 ص 54.

[88] صحيح البخاري ج 2

ص 135.

[89] صحيح البخاري ج 2 ص 201.

[90] منهاج السنة لابن تيمية ج 3 ص 131. حلية الأولياء لأبي نعيم ج 1 ص 52.

[91] تاريخ الطبري ص 41. الرياض النضرة ج 1 ص 134. كنز العمال ص 361. منهاج السنة لابن تيمية، ج 3 ص 120.

[92] تاريخ الطبري ص 41 الرياض النضرة ج 1 ص 134. كنز العمال ص 361. منهاج السنة النبويةلابن تيمية ج 3 ص 120.

[93] سورة يونس: آية 62 و 63. 64.

[94] سورة فصلت: آية 30، 31، 32.

[95] سورة ونس: آية 54.

[96] سورة الزمر: آية 47، 48.

[97] صحيح البخاري ج 2 ص 206 باب مناقب قرابة رسول الله (ص).

[98] الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 ص 20. فدك في التاريخ ص 92.

[99] صحيح البخاري ج 1 ص 127، 130 و ج 2 ص 126، 205. [

[100] وجدت: غضبت.

[101] صحيح البخاري ج 3 ص 39.

[102] تاريخ الخلفاء المعروف بالإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري ج 1 ص 20.

[103] صحيح مسلم ج 7 ص 121 و ص 130.

[104] تاريخ الخلفاء ج 1 ص 20.

[105] تاريخ الخلفاء ج 1 ص 20.

[106] صحيح البخاري ج 3 ص 39.

[107] تاريخ الطبري ج 4 ص 407 تاريخ ابن الأثير ج 3 ص 206 لسان العرب ج 14 ص 193 تاج العروسج 8 ص 141 العقد الفريد ج 4 ص 290.

[108] سورة الأحزاب: آية 33.

[109] الإمامة والسياسة.

[110] الطبري وابن الأثير والمدائني وغيرهم من المؤرخين الذين أرخوا حوادث سنة ست وثلاثين للهجرة.

[111] صحيح مسلم ج 1 ص 48.

[112] الطبري وابن الأثير والفتنة الكبري وكل المؤرخين الذي أرخوا حوادث سنة أربعين للهجرة.

[113] الطبري وابن الأثير والمدائني وغيرهم من المؤرخين الذين أرخوا لسنة

ست وثلاثين للهجرة.

[114] صحيح البخاري ج 4 ص 161.

[115] صحيح البخاري ص 128.

[116] صحيح الترمذي، الإستيعاب ترجمة صفية، الإصابة ترجمة صفية أم المؤمنين.

[117] صحيح البخاري ج 3 ص 68 باب مرض النبي ووفاته.

[118] راجع: الخلافة والملك للمودودي. ويوم الإسلام لأحمد الأمين.

[119] كتاب حياة الحيوان الكبري للدميري. هذه القصة توجد في حديثه عن الأسود السالخ.

[120] سورة الجاثية: آية 23.

[121] سورة النساء: آية 82.

[122] سورة الفتح: آية 28.

[123] سورة البقرة: آية 151.

[124] موطأ الإمام مالك ج 1 ص 307. المغازي للواقدي ص 310.

[125] صحيح البخاري ج 3 ص 387 باب غزوة خيبر.

[126] سورة البقرة: آية 247.

[127] صحيح الترمذي ج 5 ص 296 خصائص النسائي ص 87 مستدرك الحاكم ج 3 ص 110.

[128] مسند الإمام أحمد بن حنبل ج 4 ص 281 سر العالمين للإمام الغزالي ص 12. تذكرة الخواص لابن الجوزي ص 29 الرياض النضرة للطبري ج 2 ص 169 كنز العمال ج 6 ص 397 البداية والنهاية لابن كثير ج 5 ص 212 تاريخ ابن عساكر ج 2 ص 50 تفسير الرازي ج 3 ص 63 الحاوي للفتاوي للسيوطي ج 1 ص 112.

[129] تاريخ الطبري، تاريخ ابن الأثير، تاريخ الخلفاء، تاريخ الخميس، الإستيعاب، وكل من ذكر بيعة أبي بكر.

[130] تاريخ الخلفاء لابن قتيبة ج 1 ص 18.

[131] صحيح البخاري ج 4 ص 127.

[132] شرح نهج البلاغة لمحمد عبده ج 1 ص 34 الخطبة الشقشقية.

[133] تاريخ الخلفاء ج 1 ص 17.

[134] راجع: السقيفة والخلافة لعبد الفتاح عبد المقصود، والسقيفة للشيخ محمد رضا المظفر.

[135] تاريخ الخلفاء لابن قتيبة ج 1 ص 19. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (بيعة أبي بكر).

[136] صحيح البخاري ج 3 ص 36 صحيح

مسلم ج 2 ص 72 باب لا نورث ما تركناه صدقة.

[137] إشارة إلي ركوبها الجمل في حرب الجمل المشهورة.

[138] إشارة إلي ركوبها البغلة يوم منعت دفن الحسن بجانب جده.

[139] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 16 ص 220 - 223.

[140] المستدرك علي الصحيحين للحاكم ج 3 ص 107 المناقب للخوارزمي ص 3. و 19. تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 168 الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي ص 72.تاريخ ابن عساكر ج 3 ص 63 شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج 1 ص 19.

[141] الرياض النضرة للطبري ج 2 ص 282 الصواعق المحرقة لابن حجر ص 118 و ص 72.

[142] صحيح البخاري ج 2 ص 202.

[143] فتح الباري في شرح صحيح البخاري ج 7 ص 83 تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 199، الصواعق المحرقة لابن حجر ص 125.

[144] سورة الطارق: آية 15، 16، 17.

[145] موطأ الإمام مالك ج 1 ص 307 مغازي الواقدي ص 310.

[146] صحيح الترمذي ج 4 ص 339 مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 319 مستدرك الحاكم ج 3 ص - 51.

[147] صحيح مسلم باب فضائل علي بن أبي طالب.

[148] صحيح البخاري ج 4 ص 184.

[149] الإمامة والسياسة ج 1 ص 14 رسائل الجاحظ ص 301 أعلام النساء ج 3 ص 1215.

[150] تاريخ الطبري ج 4 ص 52 الإمامة والسياسة ج 1 ص 18 تاريخ المسعودي ج 1 ص 414.

[151] تذكرة الخواص للسبط ابن الجوزي ص 23 تاريخ دمشق لابن عساكر ج 1 ص 107. المناقب للخوارزمي ص 7 الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 21.

[152] أي بإجماع المسلمين لم يفرضها عليهم أحد ولم تكن (فتنة).

[153] مستدرك الحاكم ج 3 ص 127 تاريخ ابن كثير

ج 7 ص 358 أحمد بن حنبل في المناقب.

[154] سورة الزمر: آية 9.

[155] سورة يونس: آية 35.

[156] الإستيعاب ج 4 ص 39 مناقب الخوارزمي ص 48 الرياض النضرة ج 2 ص 194.

[157] لقد أجمعت صحاح أهل السنة وكتبهم علي أفضلية علي (ع) وتقدمه في العلم علي كل الصحابة. راجع - علي سبيل المثال ما جاء في الإستيعاب ج 3، ص 38 - 45 من أقوال الصحابة أنفسهم فيه وتقديمهم له عليهم.

[158] المحب الطبري في الرياض النضرة ج 2 ص 198 تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 124.الإتقان ج 2 ص 319 فتح الباري ج 8 ص 485 تهذيب التهذيب ج 7 ص 338.

[159] سنن الدارمي ج 1 ص 54 تفسير ابن كثير ج 4 ص 232 الدر المنثور ج 6 ص 111.

[160] سورة البقرة: آية 146.

[161] سنن ابن ماجة ج 1 ص 44 خصائص النسائي ص 20 صحيح الترمذي ج 5 ص 300. جامع الأصول لابن كثير ج 9 ص 471 الجامع الصغير للسيوطي ج 2 ص 56.الرياض النضرة ج 2 ص 229.

[162] تاريخ دمشق لابن عساكر ج 2 ص 488 كنوز الحقائق للمناوي ص 203. كنز العمال ج 5 ص33.

[163] سورة المائدة: آية 104.

[164] تاريخ الطبري ج 2 ص 319 تاريخ ابن الأثير ج 2 ص 62 السيرة الحلبية ج 1 ص 311 شواهد التنزيل للحسكاني ج 1 ص 371 كنز العمال ج 15 ص 15. تاريخ ابن عساكر ج 1 ص 85 تفسير الخازن لعلاء الدين الشافعي ج 3 ص 371.حياة محمد لحسين هيكل الطبعة الأولي باب وأنذر عشيرتك الأقربين.

[165] سورة البقرة: آية 118.

[166] صحيح مسلم باب فضائل علي ج 5 ص 122 صحيح الترمذي

ج 5 ص 328.مستدرك الحاكم ج 3 ص 148 مسند الإمام أحمد بن حنبل ج 3 ص 17.

[167] أخرج مسلم في صحيحه والنسائي والترمذي وابن ماجة وأبي داوود في سننهم الحديث المذكور.

[168] ورد بلفظ (كتاب الله وعترتي) مسندا إلي رسول الله صلي الله عليه وآله. أما لفظ سنتي فلم يرد في أي من الصحاح الست، وقد أخرج الحديث بهذا اللفظ مالك بن أنس في موطئه ونقله مرسلا غير مسند،وأخذ عنه بعد ذلك البعض كالطبري وابن هشام ونقلوه مرسلا كما ورد عن مالك.

[169] سورة النساء: آية 11.

[170] سورة النمل: آية 16.

[171] سورة مريم: آية 5. 6.

[172] صحيح مسلم ج 8 ص 51 كتاب الإيمان.

[173] سورة النساء: آية 94.

[174] سورة التوبة: آية 75، 76.

[175] تاريخ الطبري ج 3 ص 280 تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 158.تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 110 الإصابة في معرفة الصحابة ج 3 ص 336.

[176] تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 158 تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 110.تاريخ ابن الشحنة بهامش الكامل ج 11 ص 114 وفيات الأعيان ج 6 ص 14.

[177] تاريخ الطبري ج 3 ص 280 تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 110.تاريخ أبي الفداء الإصابة ج 3 ص 336.

[178] كتاب (الصديق أبو بكر) للأستاذ هيكل ص 151.

[179] صحيح البخاري ج 4 ص 171 باب إذا قضي الحاكم بجور فهو رد.

[180] سيرة ابن هشام ج 4 ص 53 طبقات ابن سعد، أسد الغابة ج 3 ص 102.

[181] الأستاذ هيكل في كتابه (الصديق أبو بكر) ص 151 وما بعدها.

[182] تاريخ الطبري ج 3 ص 254، تاريخ الخميس ج 343.

[183] المستدرك للحاكم ج 3 ص 151 تلخيص الذهبي، ينابيع المودة ص 30 و

370. الصواعق المحرقة لابن حجر ص 184 و 234، تاريخ الخلفاء للسيوطي والجامع الصغير له،إسعاف الراغبين.

[184] مجمع الزوائد للهيثمي ج 9 ص 168.

[185] سورة المجادلة: آية 22.

[186] سورة الممتحنة: آية 1.

[187] مستدرك الحاكم ج 3 ص 128 الطبراني في الجامع الكبير الإصابة لابن حجر العسقلاني، كنز العمال ج 6 ص 155. المناقب للخوارزمي ص 34 ينابيع المودة ص 149. حلية الأولياء ج 1 ص 86 تاريخ ابن عساكر ج 2 ص 95.

[188] مناقشات عقائدية في مقالات إبراهيم الجبهان صفحة 29.

[189] صحيح البخاري ج 1 ص 121 باب جوائز الوفد من كتاب الجهاد والسير، صحيح مسلم ج 5 ص75 كتاب الوصية.

[190] صحيح البخاري ج 3 ص 68 باب مرض النبي ووفاته صحيح مسلم ج ص 14 من كتاب الوصية.

[191] طبقات ابن سعد القسم الثاني من الجزء 2 ص 29.

[192] كقضية إمضائه الطلاق الثلاث صحيح مسلم باب الطلاق الثلاث سنن أبي داوود ج 1 ص 344.

[193] كتحريمه متعة الحج ومتعة النساء صحيح مسلم كتاب الحج صحيح البخاري كتاب الحج باب التمتع.

[194] رغم أنه في الواقع لم يحصل حتي هذا النوع من الانتخاب إذ أن الذين انتخبوا لا يملكون حق تمثيل الأمة بأي وجه من الوجوه علاوة علي غياب الكثيرين من وجوه المسلمين الذين لهم حق الانتخاب فكانت كما جاء في الشعر المنسوب إلي أمير المؤمنين يخاطب أبا بكر: فإن كنت بالشوري ملكت أمورهم فكيف بهذا والمشيرون غيب وإن كنت بالقربي حججت خصيمهم فغيرك أولي بالنبي وأقرب.

[195] سورة آل عمران: آية 159.

[196] سورة القصص: آية 68.

[197] تاريخ دمشق لابن عساكر ج 2 ص 484 ترجمة الإمام علي بن أبي طالب. مقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 38. الغدير

للأميني ج 3 ص - 120.

[198] صحيح البخاري ج 4 ص 164 صحيح مسلم ص 119 في باب الناس تبع لقريش.

[199] ينابيع المودة للقندوزي الحنفي.

[200] الدر المنثور للسيوطي ج 2 ص 60 ص 60 أسد الغابة ج 3 ص 137 الصواعق المحرقة لابن حجرص 148 و 226 ينابيع المودة ص 41 و 355 كنز العمال ج 1 ص 168 مجمع الزوائد ج 9 ص 163.

[201] سورة النساء: آية 94.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.