سرشناسه : طبسي، نجم الدين، 1334 -
عنوان قراردادي : الوهابيه دعاوي و ردود: دراسه في افكارهم و مناقشه لارائهم . عربي.
عنوان و نام پديدآور : وهابيت در ترازوي نقد/مولف نجم الدين الطبسي ؛ مترجم صفر سفيد رو.
مشخصات نشر : تهران: نشرمشعر، 1390.
مشخصات ظاهري : 232ص.
شابك : 978-964-540-309-4
وضعيت فهرست نويسي : فيپا
موضوع : وهابيه -- دفاعيه ها و رديه ها
شناسه افزوده : سفيدرو، صفر، 1344 - ، مترجم
رده بندي كنگره : BP207/6/ط2و9041 1390
رده بندي ديويي : 297/416
شماره كتابشناسي ملي : 2336867
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
ص: 5
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
ابتلي العالم الإسلامي- خصوصاً بلاد الشام عام 698 ه. ق بهجمات عنيفة وشرسة من أحد المحسوبين على الإسلام. كان قد نَشَرَ الأفكار الباطلة والمنحرفة. فتصدّى له علماء المذاهب، والفقهاء إلى أن طُرد وحبس وضيّق عليه حتّى مات في الحبس- هذا بعدما نصحه القريب والبعيد، وحذّره الصديق والعدوّ، فلم يرتدع ولم يرجع من غيّه وضلالته.
ومن معاصريه الذين نصحوه شمس الدين الذهبي صاحب ميزان الاعتدال حيث خاطبه قائلًا:
«.. يارجل! باللَّه عليك كفّ عنّا، فإنّك محجاج عليم اللسان لا تقرّ ولا تنام، إيّاكم والغلوطات في الدين كره نبيُّكَ المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال.. وكثرة الكلام بغير زلل تقسي القلب إذا كان في الحلال والحرام، فكيف إذا كان... تلك الكفريات التي تعمي القلوب... يا خيبة من اتبعك فإنّه معرضٌ للزندقة والانحلال، لاسيما
ص: 6
إذا كان قليل العلم والدين.. فهل معظم أتباعك إلّاقعيد مربوط خفيف العقل!؟ أو عامي كذّاب بليد الذهن!؟ أو غريب واجم، قوي المكر!؟ أو ناشف صالح عديم الفهم... يا مسلم! أقدم حمار شهوتك لمدح نفسك، إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار!؟ إلى كم تصادقها وتزدري الأبرار!؟
إلى كم تعظّمها وتصغر العباد!؟ إلى متى تخاللها وتمقت الزهّاد!؟ إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح- واللَّه- بها أحاديث الصحيحين، ياليت أحاديث الصحيحين تسلم منك! بل من كل وقت تُغير عليها بالتضعيف والإهدار، أو بالتأويل والإنكار..» (1)
وكاد الباطل أن يضمحلَّ بعد قطع دابر الذين ظلموا، لولا أن تصدّى بعض تلامذته، لمواصلة مسيره والترويج لمذهبه، ولكن تلك المحاولات باءت بالخيبة والفشل أيضاً، ولم يكن لها كبير أثرٍ على المسلمين، إلى أن ظهرت دعوة محمّد بن عبدالوهاب إمتداداً لدعاوى ابن تيمية، بدعمٍ عسكري من محمد بن سعود- وتحالفٍ بينهما- فكفَّر البلاد الإسلامية، وأنكر المسلّمات، وهاجَمَ المعتقدات، وانتهك الحرمات وسَفَك الدماء وقَتل الآلاف من الأبرياء.
فأحسَّ العالم الإسلامي بالخطر من جديد واستعدَّ للدفاع والمقاومة، وتأهَّب لحالة طواري جديدة، وكان أوّلُ من تصدَّى له
ص: 7
والده ثم أخوه الشيخ سليمان حيثُ ألَّف كتاباً فنَّد فيه عقائدَ أخيه وأهاب وحذَّر المسلمين منها ودعاهم للوقوف بوجه هذا الغزو الفكري الخطر ثم توالت محاولات التصدي لمواجهة هذا التيّار مواجهة علمية من قِبَل علماء من جميع المذاهب الإسلامية، لتكذيب أحدوثته وتفنيد أباطيله بسيف الحجّة والبرهان.
وكان من الواجب على كل المسلمين القيام بدورهم في مواجهة هذه التيّارات، وتفنيد مبانيها، وإظهار خطأ معتقداتها، وفضح شذوذها، وبُعدها عن الإسلام.
وأنا بدوري كواحد من طلبة العلوم الدينية- في الحوزة العلمية- ومن آحاد المسلمين- أعلى اللَّه كلمتهم- رأيت من واجبي القيام بتكليفي الشرعي في صدِّ هذا التيّار الهدّام من خلال إلقاء الدروس والمحاضرات، وتوعية الجيل الجديد على حقيقة هذه الدعوة الباطلة، وتحذيره ممّا يجري بإِسم الدين، وتوجيهه للقيام بمسؤوليته في القضاء على مثل هذه الأفكار.
وهذا الكتاب مجموعة محاضرات ألقيتُها في هذا الصدد.
وسيلاحظ القاري الكريم فيه أننا:
1- ناقشنا الأحاديث التي تعتبرها الوهابية دليلًا تعتمده وترتكز عليه فيما تذهب إليه من الرأي الباطل، وأثبتنا خطأ ما ذهبت إليه. كما أوردنا آراء علماء الرجال بصدد رواتها، وأثبتنا ضعف تلك الأحاديث سنداً، حتى لا يبقى للوهابية ما ترتكز عليه من رواية وحديث.
2- يمتاز هذا الكتاب عن بعض ما أُلِّف في هذا المضمار بكثرة
ص: 8
الشواهد والنصوص التاريخية، لردِّ دعوى الوهابية، والفضل والفخر للإمامين العلمين: الأمين- صاحب كشف الارتياب- والأميني صاحب الغدير، الَّذين سبقا في بذل غاية الجهد في تفنيد الفكرة الوهابية.
3- اكتفينا في هذا الحقل بالمواضيع التي كثيراً ما تثيرها الوهابية كمسألة زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله وشدّ الرحال والقصد إليه، وزيارة القبور والتبرّك والتمسّح بها، وبالآثار، والصلاة والدعاء عند القبور، وفي المشاهد، والإسراج عندها، والنذر، ومسألة الشفاعة مع تفصيل ضروري فيها، والحلف بغير اللَّه، وإقامة الاحتفالات وغيرها من المسائل التي تثيرها الوهابية، وكثيراً ما سمعناها ونسمعها من مشايخهم أيّام فريضة الحج سيما في الحرمين الشريفين.
ونسمعها من أعضاء هيئة الأمر بالمعروف التي اعدَّت خصِّيصاً للخوض في مناقشة الوافدين إلى الحج مناقشة محصورة في خصوص هذه المحاور، ولا شأن لها بمسألة الاحتلال الصهيوني، وخطط إسرائيل الشيطانية في المنطقة وفي العالم، ولا بمواقف أمريكا العدائية من المسلمين، ولا بقضايا الجزائر والسودان وافغانستان، أو مسلمي البانيا والبلقان.
وفي الختام نشكر صديقنا العزيز الاستاذ المحقّق علي الشاوي الذي أتحفنا بملاحظات قيّمة فله منّا جزيل الشكر.
هذا ونحمد اللَّه تعالى على هذا التوفيق، انّه وليّ النِّعم.
قم المقدّسة/ نجم الدين الطبسي
4/ شوال/ 1417 ه.
ص: 9
إنّ المنصف لو سبر عمق التاريخ ودرس سيرة الخوارج وأفكارهم المتحجرة وفهمهم الخاطئ للإسلام والقرآن والخلافة الإلهية وموقفهم تجاه المسلمين؛ من تكفيرهم جزافاً وجهلًا واستحلال دمائهم وأموالهم، ثم أنعم النظر وتأمّل بعين الإنصاف لا العصبية في سلوك الوهابيين وفتاواهم وسياستهم تجاه الامّة الإسلامية، لرأى نهج الوهابية وخصائصها إمتداداً لحركة الخوارج في النهج والخصائص والمسلمون من يوم تحكّم ابن وهاب، إلى يومنا هذا يدفعون ضريبة تأثير ذلك التيّار الخطر.
عندما نرى اليوم شعار: لا دعاء إلّاللَّه، ولا شفاعة إلّاللَّه، ولا توسّل إلّاباللَّه، ولا إستعانة إلّاباللَّه. يتداعى في أذهاننا شعار الخوارج:
لا حكم إلّاللَّه.
عندما نرى اليوم حكم الوهابية بشرك من خالف معتقدهم ولم تسمع منهم إلّاخطاب: يا مشرك! ياكافر!.. يتداعى إلى الذهن تكفير
ص: 10
الخوارج من عداهم من المسلمين.
عندما نرى الوهابية كيف تهلك الحرث والنسل وتستأصل المسلمين بحجّة أنهم يطلبون الشفاعة من الميّت ويتوسّلون بالنبي والصالحين، يتداعى إلى الذهن جمود الخوارج وتحجّرهم وغباؤهم في فهم الإسلام.
بينما تراهم يتورّعون عن أكل تمرة ملقاة في الطريق بدعوى عدم رضا صاحبها، أو يتورّعون في قتل خنزير شارد بدعوى احتمال أن يكون لكتابي في ذمّة الإسلام، تراهم وبكل صلافة ووقاحة يقتلون صحابياً صائماً وفي عنقه القرآن ويتقرّبون بسفك دمه إلى اللَّه تعالى، فترى المسلمين خوفاً من بطشهم وخشيةً على أنفسهم يتظاهرون بأنّهم من أهل الكتاب ولا يُظهرون أنّهم مسلمون (1)، بينما يسفك دم من يثني على علي بن أبي طالب عليه السلام ويقول فيه خيراً (2).
حينما نرى من الوهابية تطبيق الآية الكريمة: وَأنَّ المساجد للَّه فلا تدعوا مع اللَّه أحداً (3) على من يتوسَّل بقبر النبي الكريم صلى الله عليه و آله أو بقبر صحابي جليل، أو بقبر أحد الصلحاء، يتداعى إلى الذهن تطبيق
ص: 11
الخوارج آيات نزلت في الكفار والمشركين، على المسلمين والمؤمنين كما قاله ابن عمرو ابن عباس، فعن ابن عمر: «انّهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين» (1)
وعن ابن عباس: «لا تكونوا كالخوارج تأَوَّلوا آيات القرآن في أهل القبلة، وانّما نزلت في أهل الكتاب والمشركين فجهلوا علمها فسفكوا الدماء وانتهبوا الأموال» (2)
والحال أَنَّ من ضروريات الدين أن كل من أجرى الشهادتين على لسانه فهو محقون الدم، ومعدود من المسلمين وله ما لهم وعليه ما عليهم، ولا حاجة إلى كلفة شق قلبه كي يعرف هل دخل الإيمان في قلبه أو أنه أسلم بلسانه!!
ولعل هذا الأمر لم يكن عند الوهابية من الضرورات فباتت تكفر من لا يلتزم بمزاعمهم، كأنّهم نسوا الآية الكريمة: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً (3)، أو لم يسمعوا مقالة النبي الكريم صلى الله عليه و آله لأسامة معترضاً على ما ارتكبه: «فقد بعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سرية عليها اسامة بن زيد إلى بني ضمرة. فلقوا رجلًا منهم يدعى مرداس بن نهيك معه غنم له، وجمل أحمر، فلما رآهم، آوى إلى كهف جبل واتبعه اسامة، فلما بلغ مرداس الكهف، وضع فيه غنمه ثم أقبل إليهم فقال:
السلام عليكم، أشهد أن لا إله إلّااللَّه وأن محمّداً رسول اللَّه، فشدَّ عليه
ص: 12
اسامة فقتله من أجل جمله وغنمه... فلما أكثروا عليه رفع صلى الله عليه و آله رأسه إلى اسامة فقال: كيف أنت ولا إله إلّااللَّه...؟ فقال: يارسول اللَّه إنّما قالها متعوّذاً تعوّذ بها. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: هلّا شققت عن قلبه فنظرت؟ فأنزل اللَّه خبر هذا؛ وأخبر انّما قتله من أجل جمله وغنمه (1)
ان الخوارج «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» وفي رواية أُخرى: «يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية» (2) نخشى أن يكون قوله عليه السلام- حينما سألوه عن نجد- قال:
«هنالك الزلازل والفتن منها» (3)، أو قوله: «بها يطلع قرن الشيطان» ناظراً إلى هذا التيّار الذي ظهر في نجد والمتّبعين لرأيه فانّ معنى القرن كما في القاموس: الأُمة، والمتبعون لرأيه، أو قومه وانتشاره وتسلّطه (4)
نسأل اللَّه عزّوجلّ أن يوحِّد كلمة المسلمين ويقوّي عزمهم على من سواهم، وينوّر قلبهم بهدى الإسلام ويرزقهم الفهم والبصيرة.
كما نأمل أن يتقبّل المتحجّرون الفرحون بما عندهم، فكرة الحوار وجهاً لوجه، لعل اللَّه يزيل عنهم سوء الفهم والمغالطات ويرزقهم نور الفهم والإنفتاح على الحق والإقبال عليه إنّه وليّ التوفيق.
ص: 13
الفصل الأوّل:
الشفاعة
1- رأي الوهابية في الشفاعة
2- معنى الشفاعة
3- مورد الشفاعة
4- دور الشفيع
5- الشفعاء
6- تقرير آخر للجواب
7- حياة النبي صلى الله عليه و آله بعد الموت
8- رأي العلماء في الحياة بعد الموت
9- استفهام وجواب
10- رأي السُبكي في بقاء الروح
11- من الروايات في الشفاعة
12- طلب الشفاعة في سيرة الصحابة
ص: 14
ص: 15
لقد منعت الوهابية طلب الشفاعة من الأنبياء والصالحين والملائكة- الذين أخبر اللَّه تعالى بأن لهم الشفاعة- وجعلوه كفراً تحلُّ به دماءُ المستشفعين وأموالهم!
قال محمد بن عبدالوهاب: «إن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرّب إلى اللَّه بذلك هو الذي أحلَّ دماءهم وأموالهم».
وهذا المضمون أخذه من ابن تيمية حيث قال: «إنّ الّذين قاتلهم النبي صلى الله عليه و آله مقرّون بما ذكرت وبأن أوثانهم لا تدبِّر شيئاً وانّما أرادوا الجاه والشفاعة وأنهم ما أرادوا ممّن قصدوا إلّاالشفاعة، وإن طلب الشفاعة من الصالحين هو بعينه قول الكفّار ما نعبدهم إلّاليقرّبونا».
وهي من الشفع مقابل الوتر، كأن الشفيع ينضم إلى الوسيلة
ص: 16
الناقصة التي مع المستشفع فتكتمل الوسيلة وترقى بالشفيع إلى حدِّ القبول والتأثير، فيتأهل المستشفع لنيل المراد، والفوز بما لم يكن أهلًا للفوز به لنقص وسيلته وقصورها.
إنَّ الإنسان لا يكون مورداً للشفاعة إذا أراد نيل ثوابٍ أو درجة من غير سعي ولا تهيئة أسباب بلوغ ذلك الثواب أو تلك الدرجة، ويكون مورداً للشفاعة إذا كانت له القابلية واللياقة للتلبّس بالكمال وبلوغ الدرجة المقصودة وقد سعى لها سعيها، لكنه لم يتأهّل لنيلها، لنقص وسيلته بسبب تقصير منه، فيأتي دور الشفيع هنا لرفع النقص، لأن الشفاعة متمّمة للسبب لا مستقلّة في التأثير.
إنّ دور الشفيع لا يعني إبطال مولوية المولى ولا إبطال عبودية العبد، ولا رفع اليد عن الحكم المجعول، بل الشفيع إمّا أن يتقدّم إلى المولى بصفات في المولى سبحانه توجب العفو عن العبد والرأفة به: مثل السخاء والكرم والصفح و...
أو أنَّ الشفيع يتقدّم إلى المولى بصفات في العبد توجب رحمة المولى ورأفته به والتجاوز عنه: كالإعتقاد الحق، والصدق في الاعتقاد، وطلب مرضاة المولى، وحبّه لأولياء المولى وأحبائه، وسوء حال العبد، ومسكنته وذلّته، و.. أو بصفاتٍ في الشفيع نفسه: مثل قربه من المولى،
ص: 17
وعلوّ منزلته عنده، و.. فكأنَّ الشفيع يقول: ياربّ لا أسألك إبطال المولوية ولا إبطال الحكم، ولا إبطال الجزاء، بل العفو. لأنَّ لك الكرم، أو لأنَّ العبدَ جاهل، أو لمنزلتي عندك.
فالشفاعة: حقيقتها التوسط في إيصال نفع أو دفع شرٍّ بنحو الحكومة لا بنحو المضادّة.
يعني: أنّ الشفيع يذكر بعضَ العوامل المؤثِّرة في رفع العقاب بأن يخرج المورد- الشخص- عن كونه مصداق العقوبة إلى مورد آخر- مصداق الرأفة.
ثم إنّ الشفاعة كما أنّها تثبت لعدّةٍ من عباده: من الملائكة والناس من بعد الإذن والارتضاء، كذلك يمكن للعبد أن يتقدّم إلى اللَّه برحمته، أو بِذُلِّ نفسه وحقارتها، في التوبة إلى اللَّه والعمل الصالح فيخرج نفسه عن كونه مصداقاً للمذنب المسيي إلى كونه مصداقاً للمحسن، وفي أمثال هذا العبد يقول تبارك وتعالى: فأولئك يبدِّل اللَّه سيّئاتهم حسنات (1) فله تعالى أن يبدِّل السيّئة حسنة كما أن يجعل رصيد الإنسان من الأعمال صِفراً: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً (2)
الشفاعة نوعان: شفاعة تكوينية، والشفعاء فيها جملة الأسباب
ص: 18
الكونية بما هي وسائط بين اللَّه وبين الأشياء.
وشفاعة تشريعية، وهي الواقعة في عالم التكليف، ومنها ما يستدعي في الدنيا مغفرة من اللَّه سبحانه أو قرباً أو زلفى، فهو شفيع متوسط بين اللَّه وبين عبده، ومنها:
1- التوبة: كما قال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللَّه إنَّ اللَّه يغفر الذنوب جميعاً إنّه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربّكم (1) وتعمُّ جميع المعاصي حتى الشرك.
2- الايمان: يا أيُّها الذين آمنوا اتقوا اللَّه وءامِنوا برسوله يؤْتِكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم واللَّه غفور رحيم (2)
3- العمل الصالح: وعد اللَّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم (3)
4- القرآن: يهدي به اللَّه من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (4)
5- الأنبياء: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوك فاستغفروا اللَّه واستغفر لهم الرسول لوجدوا اللَّه توّاباً رحيماً (5)
ص: 19
6- الملائكة: الذين يحملون العرش ومن حوله يسبِّحون بحمد ربّهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا (1)
والملائكة يسبِّحون بحمد ربّهم ويستغفرون لمن في الأرض الا انّ اللَّه هو الغفور الرحيم (2)
7- المؤمنون: باستغفارهم لأنفسهم ولاخوانهم المؤمنين، قال تعالى حكاية عنهم: واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولينا (3)
ومنها: الشفيع يوم القيامة: بالمعنى الذي ذكرناه وهو اخراج المذنب عن كونه مصداقاً للعقوبة، إلى مورد كونه مصداقاً للرأفة والرحمة، وهم:
1- الأنبياء: وقالوااتخذ اللَّه ولداً سبحانه بل عبادٌ مكرمون- إلى قوله تعالى: ولا يشفعون إلّالمن ارتضى (4) فإن منهم عيسى وهو نبي.
2- الملائكة: قال تعالى: وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلّامن بعد أن يأذن اللَّه لمن يشاء ويرضى (5)
3- الشهداء: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلّامن شهد بالحق وهم يعلمون (6) وهي تدل على أن تملكهم للشفاعة
ص: 20
لشهادتهم بالحق، فكل شهيد فهو شفيع يملك الشهادة.
لكن المراد بالشهادة هنا: شهادة الأعمال دون الشهادة بمعنى القتل في المعركة.
4- المؤمنون: ومن الآية السابقة يظهر أن المؤمنين أيضاً من الشفعاء، فإن اللَّه عزّوجلّ أخبر بلحوقهم بالشهداء يوم القيامة، قال تعالى: والذين آمنوا باللَّه ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربّهم (1)، (2).
ص: 21
أوّلًا: إنّ معنى الشفاعة هو الطلب من المشفوع عنده، أمراً للمشفوع له. فشفاعة النبي صلى الله عليه و آله أو غيره، معناه: دعائه إلى اللَّه للغير، وطلبه من اللَّه غفران الذنب وقضاء الحوائج، فالشفاعة نوع من الدعاء.
فعن الرازي ذيل الآية الكريمة: ومن يشفع شفاعة حَسَنة يكن له نصيب منها (1) قال مقاتل: الشفاعة إلى اللَّه إنّما تكون بالدعاء. واحتج بما روى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استُجيب له، وقال: المَلَك: له ولك مثل ذلك» (2).
ص: 22
اذن: طلب الشفاعة من الغير، عبارة اخرى عن طلب الدعاء منه وقد ثبت جواز طلب الدعاء من أي مؤمن كان، كما اعترف محمد ابن عبد الوهاب بجواز طلب الدعاء من الحيّ، بل جوازه يُعدّ من ضروريات الدين، وحينئذٍ فيجوز طلب الشفاعة (أي الدعاء) من كل مؤمن فضلًا عن الأنبياء والصالحين وفضلًا عن سيّد المرسلين.
إن قلت: لابدّ وأن يكون للشفيع جاه عند المشفوع إليه.
قلت: إنّ اللَّه جعل حرمة (1) لكل مؤمن يرجى بها قبول شفاعته واستجابة دعائه. أضف إلى ذلك ثبوت الشفاعة- كما مرّ- لآحاد المؤمنين وللملائكة، وأنها ليست من خاصة الأنبياء.
قال الرازي ذيل هذه الآية: الذين يحملون العرش ومن حوله.. ويستغفرون للذين آمنوا ربّنا وسعتَ كلَّ شي ءٍ رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقِهِم عذاب الجحيم. ربّنا وادخلهم جنات عدنٍ التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريّاتهم.. وقِهِم السيّئات (2).
قال: هذه الآية تدل على حصول الشفاعة من الملائكة
ص: 23
للمذنبين» (1).
كما وقعت الشفاعة من النبي صلى الله عليه و آله وغيره من الأنبياء عليهم السلام وأمره اللَّه بها. فقال: واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات (2).
وحكى عن نوح أنّه قال: ربِّ اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات (3).
والنتيجة: ان الشفاعة لا تزيد عن الدعاء، وطلب المغفرة.
عن علي عليه السلام: أشهدوا هذا الحجر خيراً فانّه يوم القيامة شافع مشفع، له لسان وشفتان يشهد لمن استلمه (4)
رواه أبو نعيم في مسلسلاته وقال: صحيح ثابت عن علي عليه السلام.
قال العزيزي في الشرح: أشهدوا أي اجعلوا الحجر الأسود شهيداً لكم على خير تفعلونه عنده كتقبيل واستلام أو دعاء. أوذكرعنده وقوله:
فانّه شافع: أي فيمن أشهده خيراً، متشفّع: أي مقبول الشفاعة (5)
إذن: الإشهاد هنا بمعنى طلب الشفاعة منه، مع أنّه جماد لا يعقل ولا ينطق، وقد أُمرنا بإشهاده ولم يكن ذلك شركاً. وإلّا- لو كان
ص: 24
شركاً- لم يغيّره الأمر، لأن الحكم لا يغيّر الموضوع.
فالشفاعة والدعاء من مقولة واحدة، وليس حتماً على اللَّه قبول الشفاعة ولا إجابة الدعاء، وانّما ذلك من ألطافه وتفضّله.
فعن ابن تيمية: انّها بدعة، وعن ابن عبد الوهاب والصنعاني: كفر وشرك. قال ابن تيمية: «أمّا الميّت من الأنبياء والصالحين وغيرهم، فلم يشرع لنا أن نقول: ادع لنا ولا: إسأل لنا ربّك، ولم يَنقل هذا أحدٌ من الصحابة والتابعين ولا أمَرَ به أحدٌ من الأئمة ولا ورد فيه حديث».
والجواب: أوّلًا: إن كان منع- وحرمة طلب الشفاعة من الأموات- إنّما هو لأجل تعذر خطاب المعدوم على فرض أن الميّت معدوم! فنقول: إنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله- وسائر الأنبياء عليهم السلام أحياء بعد الموت- وإنّه يسمع الكلام ويَردّ الجواب ويبلغه صلاة وتسليم من يصلّي ويسلِّم عليه، وإنَّ علمه بعد وفاته كعلمه في حياته، وإن أعمال امّته تعرض عليه وانّه يستغفر لُامّته (1) وهذا ما صرّح به العلماء والمتكلّمون وسيجي ء البحث عنه، وهذا ما لا يمكن لأحد انكاره.
ان هذا هو المتفق عليه عند محققي المتكلّمين وغيرهم. قال
ص: 25
السمهودي (1): «لاشك في حياته بعد وفاته، وكذا سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحياء في قبورهم، حياة أكمل من حياة الشهداء التي أخبر اللَّه تعالى بها في كتابه العزيز، ونبيّنا صلى الله عليه و آله سيّد الشهداء، وأعمال الشهداء في ميزانه، وقد قال صلى الله عليه و آله: علمي بعد وفاتي كعلمي في حياتي، رواه الحافظ المنذري.
وروى ابن عدي في كامله: عن ثابت عن أنس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «الأنبياء أحياء في قبورهم يصَّلون» رواه أبو يعلى برجال ثقات ورواه البيهقي وصححه» (2).
وقال البيهقي: ولحياة الأنبياء- صلوات اللَّه وسلامه عليهم- بعد موتهم شواهد من الأحاديث الصحيحة، ثم ذكر حديث- مررتُ بموسى وهو قائم يصلّي في قبره، وغيره من أحاديث لقاء النبي بالأنبياء وصلاته بهم.
وروى ابن ماجه بإِسناد جيّد- كما قال المنذري- عن أبي
ص: 26
الدرداء، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اكثروا الصلاة عليَّ يوم الجمعة، فإنّه مشهودٌ تشهده الملائكة، وإن أحدٌ يصلّي عليَّ إلّاعرضت عليَّ صلاته حين يفرغ منها.
قال: قلت وبعد الموت؟ قال: وبعد الموت، إنّ اللَّه حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فنبيّ اللَّه حيّ يرزق.
روى البزار برجال الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و آله إنّ للَّه ملائكة سياحين يبلغوني عن امّتي وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: حياتي خيرٌ لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خيرٌ لكم تعرض عليَّ أعمالكم فما رأيت من خير حمدتُ اللَّه عليه، وما رأيتُ من شرٍّ استغفرت اللَّه لكم.
قال أبو منصور البغدادي: قال المتكلّمون المحقّقون من أصحابنا:
إنّ نبيّنا محمّداً صلى الله عليه و آله حيٌّ بعد وفاته، يُسِّرُ بطاعات امّته، وإنّ الأنبياء صلوات اللَّه عليهم لايبلون.
وقال البيهقي في كتاب الاعتقاد: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعدما قبضوا رُدَّت إليهم أرواحهم فهم أحياء (1) عند ربّهم كالشهداء.
وقد رأى نبيّنا ليلة المعراج جماعة منهم، قال وقد أفردنا لإثبات حياتهم كتاباً.
وأضاف السمهودي: قلت ويؤيّد ذلك حديث: إنّ عيسى بن مريم
ص: 27
مار بالمدينة حاجّاً أو معتمراً، وإن سلَّم عليَّ لأَردنَّ عليه..
وأمّا أدلّة حياة الأنبياء، فمقتضاها حياة الأبدان كحالة الدنيا مع الاستغناء عن الغذاء، ومع قوّة النفوذ في العالم. وقد أوضحنا المسألة في كتابنا المسمّى ب «الوفاء لما يجب لحضرة المصطفى» (1).
وقال القسطلاني: «ولا شك أن حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ثابتة معلومة مستمرة، ونبينا أفضلهم، وإذا كان كذلك فينبغي أن تكون حياته اكمل واتم من حياة سائرهم»(2).
اذن بعد هذه التصريحات من العلماء والمحققين، وبعد هذه الروايات الصحيحة الواردة في كتب السنة هل يبقى مجال لقول ابن تيمية ومن تبعه؟ وهل يمكن القول بأن الشفاعة وطلب الدعاء من النبي والصالحين يكون بدعة أو كفراً أو شركاً؟ فلا يبقى إلّاالقول: بأن الواجب عليهم إعادة النظر فيما قالوه، والتتبع ومراجعة الأحاديث وكلمات المحقّقين لكي يعرف بُعْدُ هذه الأقاويل عن الحقل العلمي ومجال التحقيق. وإن دلّت هذه الآراء على شي ء لدلَّت على قلّة معلوماتهم بأُصولهم ومبانيهم.
1- قال الفقيه أبو بكر العربي (في الأمد الأقصى في تفسير الأسماء
ص: 28
الحسنى): إنّ إحياء المكلّفين في القبر وسؤالهم جميعاً لا خلاف فيه بين أهل السنّة (1).
2- وقال سيف الدين الآمدي في كتاب «أبكار الأفكار»: إتفق سلف الامّة، قبل ظهور المخالف وأكثرهم بعد ظهوره على إثبات إحياء الموتى في قبورهم (2).
3- وقال السُبكي: «وقد أجمع أهل السنّة على إثبات الحياة في القبور، قال إمام الحرمين في الشامل: اتفق سلف الامّة على إثبات عذاب القبر وإحياء الموتى في قبورهم وردّ الأرواح في أجسادهم..
أضاف السبكي بعد نقل هذه الأقوال: وقد تلخّص من هذا: أنَّ الروح تعاد إلى الجسد ويحيى وقت المسألة وإنه ينعم أو يعذّب من ذلك الوقت إلى يوم البعث (3).
4- وقال ابن تيمية في كتاب: «اقتضاء الصراط المستقيم إن الشهداء، بل كل المؤمنين إذا زارهم المسلم، وسلَّم عليهم عرفوا به، وردّوا عليه السلام، قال السمهودي: فإذا كان هذا في آحاد المؤمنين فكيف بسيّد المرسلين» (4).
5- عن الغزالي: كان محمد بن واسع يزور يوم الجمعة فقيل له: لو أخّرت إلى يوم الاثنين؟ فقال: بلغني أن الموتى يعلمون بزوّارهم يوم
ص: 29
الجمعة ويوماً قبله ويوماً بعده» (1).
- قال الشيخ منصور حول الحياة بعد الموت:
فأنه أورد حديثا عن ابن عباس: مرّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بقبور المدينة، فأقبَلَ عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم ياأهل القبور يغفر اللَّه لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر. رواه الترمذي بسند حسن.
وقال في الشرح: فيندب لزائر القبور: السلام عليكم أولًا، والدعاء له ولهم ثانياً ويتأكّد الاخلاص فانّه مفتاح القبول. وطلب السلام على الموتى يفيد انّهم يشعرون ويدركون، فإن الموت ليس عدماً محضاً بل هو انتقال من دار إلى دار، يفنى الجسم وتبقى الروح كاملة الإحساس في عذاب أو نعيم إلى يوم يبعثون (2).
وقال في شرح قوله عليه السلام «إلّا ردَّ اللَّه عليَّ روحي» قال: أي نطقي وإفاقتي من استغراقي في أحوال الملكوت، وإلّا فالأنبياء أحياء في قبورهم كما تقدم في باب الجمعة (3).
وقال في باب الجمعة بعد حديث أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه و آله إن من أفضل أيامكم الجمعة فيه خُلِقَ آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة. فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فانّ صلاتكم معروضة عليّ، قالوا: يارسول اللَّه وكيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرَمْتَ (رميماً) فقال: إنّ اللَّه حرّم على الأرض أجساد الأنبياء.
ص: 30
رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح.
قال في الشرح: بأمر اللَّه تعالى فيسمعها فينسرّ بها، لأنّه في قبره حيّ ويفرح بصلاة المصلّين عليه ففيها رفع درجات له ولهم.. وامّا في غير يوم الجمعة فإِن الصلاة عليه تبلغه على لسان ملائكة مخصوصين بهذا، كما تبلغه أعمال الامّة في يوم الخميس بواسطة ملائكة لهذا (1).
وعبداللَّه بن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه و آله: أكثروا الصلاة عليَّ يوم الجمعة، فإِني أُبلَّغ واستمع. رواه الشافعي وابن ماجة (2).
هنا سؤال يطرح نفسه وهو أن الحديث النبوي: إلّاردّ اللَّه عليّ روحي (3) حتى اردّ عليه» دال على عدم استمرار الحياة.
والجواب:
1- يحتمل أن يكون ردّاً معنوياً وأن يكون روحه الشريفة مشتغلة بشهود الحضرة، والملأ الأعلى عن هذا العالم. فإذا سلّم عليه أقبلت روحه على هذا العالم لتدارك السلام وتردّ على المسلِّم، يعني إنَّ ردّ روحه الشريفة التفاتُ روحاني وتنزل إلى دوائر البشرية من الاستغراق في الحضرة العلية- كما قال السُبكي.
ص: 31
2- ويحتمل أن يكون الخطاب على مقدار فهم المخاطبين في الخارج من الدنيا انّه لابدّ من عود روحه حتى يسمع ويجيب فكأنه قال: أنا اجيب ذلك تمام الإجابة، واسمعه تمام السماع، مع دلالته على ردّ الروح عند سلام أوّل مسلِّم، وقبضها بعد لم يرد ولا قائل بتكرّر ذلك إلى توالي موتات لا تُحصى.
مع انّا نعتقد ثبوت الأدراكات كالعلم والسماع لسائر الموتى، فضلًا عن الأنبياء ويقطع بعود الحياة لكل ميّت في قبره كما ثبت في السنّة، ولم يثبت انّه يموت بعد ذلك موتة ثانية بل ثبت نعيم القبر وعذابه وإدراك ذلك من الاعراض المشروط بالحياة لكن يكفي فيه حياة جزء يقع به الإدراك فلا يتوقف على البينة كما زعم المعتزلة» (1).
إذن: الجواب الأوّل على كلام ابن تيمية- في عدم جواز طلب الشفاعة من الأنبياء- هو انّهم أحياء في قبورهم فلم يكن طلب الشفاعة من الميّت.
والجواب الثاني: إنّ الشهداء أحياء بنصّ القرآن الكريم بل أحياء عند ربهم (2) ولاشك في أن درجة النبوّة أعظم من درجة الشهادة والشهداء، وأن مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء (3). فإذا
ص: 32
كان القتيل في سبيل اللَّه حي، فالنبي صلى الله عليه و آله كذلك حيّ قطعاً. وقد صرّح بذلك البيهقي في كتاب الاعتقاد: «الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعدما قبضوا رُدّت إليهم أرواحهم فهم أحياء عند ربّهم كالشهداء» (1).
الجواب الثالث: لو فرضنا ان الميّت لا يسمع الكلام ولا يقدر على الدعاء، لكن طلب الدعاء منه لا يوجب محذوراً ولا يوجب كفراً إذ يكون هذا مثل أن يطلب القراءة من الأعمى بظنّه بصيراً.
الجواب الرابع: إنّ فعل السلف من الصحابة وغيرهم في الاستشفاع والاستغاثة وطلب الدعاء من النبي صلى الله عليه و آله بعد وفاته- وحتى من غير النبي صلى الله عليه و آله من الصالحين- يدل على مشروعيته وجوازه وسنورد الأمثلة على ذلك.
الجواب الخامس: إن الروح باقية- بعد الموت- غير فانية ويمكنها السؤال والدعاء. وقد استدل الفخر الرازي في تفسيره ذيل الآية الكريمة: قل الروح من أمر ربي (2) استدل على بقاء الأرواح بعد موت الأجسام بسبعة عشر دليل منه:
1- قوله عليه السلام في خطبة طويلة: حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرف روحه فوق النعش ويقول: يا أهلي وياولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي...» فهذا تصريح بأن في الوقت الذي كان الجسد ميّتاً محمولًا كان ذلك الإنسان حيّاً باقياً فاهماً...
ص: 33
2- قوله تعالى: يا أيّتها النفس المطمئنة ارجعي... (1) دلّ على أن الشي ء الذي يرجع إلى اللَّه بعد موت الجسد يكون حيّاً راضياً عن اللَّه ويكون اللَّه عنه راضياً، والذي يكون راضياً ليس إلّاالإنسان فهذا يدل على ان الإنسان بقي حيّاً بعد موت الجسد...
3- قوله عليه السلام: «أنبياء اللَّه لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار» و «من مات فقد قامت قيامته» وقوله: «القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران...» كل هذه النصوص تدل على ان الإنسان يبقى حيّاً بعد موت الجسد..
4- قوله تعالى: حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرِّطون ثم ردوا إلى اللَّه مولاهم الحق (2) أثبت كونهم مردودين إلى اللَّه الذي هو مولاهم حال كون الجسد ميّتاً، فوجب أن يكون ذلك المردود إلى اللَّه مغايراً لذلك الجسد الميّت.
5- نرى جميع فِرق الدنيا من الهند والروم والعرب والعجم وجميع أرباب الملل والنحل من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين وسائر فرق العالم وطوائفهم يتصدقون عن موتاهم ويدعون لهم بالخير ويذهبون إلى زياراتهم، ولولا أنّهم بعد موت الجسد أحياء لكان التصدّق عنهم عبثاً، والدعاء لهم عبثاً، ولكان الذهاب إلى زيارتهم عبثاً، فالإِطباق على هذه الصدقة وعلى هذا الدعاء وعلى هذه الزيارة يدل على أن فطرتهم الأصلية السليمة شاهدة بأن الإنسان شي ء غير
ص: 34
هذا الجسد وان ذلك الشي ء لايموت، بل الذي يموت هذا الجسد» (1).
والحاصل: إن الفطرة السليمة تشهد بحيات الروح بعد الموت والآيات الكريمة والسنّة الشريفة كذلك يشهدان على بقاء الروح.
وعليه: ما المانع وما المحذور من طلب الدعاء والشفاعة من الأرواح الطيبة التي هي احياء بشهادة الكتاب والسنّة وبشهادة الفطرة السليمة؟ وهل هذا يوجب البدعة والكفر، والشرك، أو ينشأ عن عدم الرجوع إلى الفطرة وعدم التدبّر في النصوص؟
سُئِل السبكي عن الأرواح هل تفنى كما تفنى الأجسام؟
فأجاب: امّا الأرواح فالسؤال عنها إمّا على مذهب الحكماء وامّا على مذهب المتشرّعين:... وامّا المشرّعون فقد اطبقوا على انّها باقية بعد مفارقة البدن، فإن ذلك ممكن. وقد دلّت الشرائع على وقوعه ولا أعلم بين الشرائع خلافاً في ذلك إلّاأن الإمام فخر الدين قال: في العالم هذه الاعتبارات العقلية إذا انضمّت إلى أقوال جمهور الأنبياء والحكماء أفادت الجزم ببقاء النفس. فقوله: جمهور الأنبياء يوهم عدم اجتماعهم على ذلك. وهذا الإيهام غير معمول عليه ولا أظنُّه أراده في أوّل كلامه انّهم أطبقوا على بقائها.
فهذا ما يجب اعتقاده واستقر الشرائع والكتب المنزلة وآيات
ص: 35
القرآن والأخبار المتكاثرة التي لايمكن تأويلها ويقطع بالمراد منها ما يدل على بقاء النفوس بعد مفارقة البدن ولا يشك في ذلك أحد من أهل الإسلام لا عالم ولا عامي، بل زادوا على ذلك وادعوا إطلاق القول بحياة جميع الموتى ونقل جماعة من المتقدّمين الإجماع على ذلك وقالوا في قوله تعالى: ولا تقولوا لمن يقتل (1) إن هذا ليس خاصّاً بمن يُقتل في سبيل اللَّه وانّما قصد بالآية الرد على الكفّار القائلين بعدم البعث وان بالموت يفنى الإنسان بالكلية ولا يبقى له أثر من إحساس ونحوه.
فردَّ اللَّه عليهم، ولكن حياة الموتى مختلفة فحياة الشهيد أعظم وحياة المؤمن الذي ليس بشهيد دونه وحياة الكافر لما يحصل له العذاب دونه والكل مشتركون في الحياة ومنهم من يبلى جسده، ومنهم لا يبلى، والأرواح كلّها باقية. هذا دين الإسلام. ولو تتبع الإنسان آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه و آله الدالّة على ذلك لبلغت مبلغاً عظيماً ولا حاجة إلى التطويل في ذلك فانّه معلوم من دين الإسلام بالضرورة» (2).
وعليه فما حجّة الوهابية في التهجّم والتكفير لمن توسّل واستشفع بهذه الأرواح، أرواح الأنبياء والأولياء والصالحين مع أن الأرواح باقية بضرورة دين الإسلام، بشهادة الروايات الكريمة والأحاديث الشريفة.
لعل حجّتهم، جهلهم وعدم تدبّرهم في الآيات والنصوص والجاهل معذور إن كان قاصراً لا مقصّراً.
الجواب السادس: إن الاعتقاد بأن الميّت يسمع، أو لا يسمع لا
ص: 36
يكون من أصول الدين ولا من أركانه، وليس من الواجبات بحيث لو التزم أحد بخلافه يكون مبتدعاً. وعليه فمن اعتقد به: فهو امّا مصيب مأجور، أو مخطئ معذور كما ورد في كتب الصحاح والسنن (1). فلا يوجب اعتقاده شركاً ولا إثماً كيف والفخر الرازي المفسِّر الكبير (2) يعتقد بأن الروح باقية والدعاء والزيارة والنذر والتصدّق للميّت إنّما هو بلحاظ هذه الجهة، فهل ينسب الكفر والشرك والبدعة إليه!!؟
كما ان المفسّرين قالوا في ذيل الآية الكريمة: اليوم ننجيك ببدنك (3) بأنّها كالصريح أو هو صريح في أن النفوس وراء الأبدان (4).
1- عن أنس: سألتُ النبي أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل، قلت: فأين أطلبك؟ قال: على الصراط (5).
2- أتى سواد بن قارب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وطلب منه الشفاعة في
ص: 37
أبيات:
فكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة سواك بمغنٍ عن سواد بن قارب
1- عن ابن عباس لما فرغ علي عليه السلام من تغسيل النبي صلى الله عليه و آله قال:
بأبي أنت وامّي.. طبتَ حيّاً وطبتَ ميّتاً.. اذكرنا عند ربّك (2).
2- كشف أبو بكر عن وجه النبي صلى الله عليه و آله وقبّله وقال مثله (3).
3- إن الناس أصابهم القحط في خلافة عمر بن الخطاب، فجاء بلال بن الحارث- وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله- إلى قبر النبي صلى الله عليه و آله وقال: يارسول اللَّه صلى الله عليه و آله استسق لُامّتك، فأنّهم قد هلكوا فأتاه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المنام وأخبره أنّهم سيسقون (4).
إذن فالاستسقاء منه وهو في البرزخ، ودعاؤه لربّه في هذه الحالة غير ممتنع، وكذلك علم النبي صلى الله عليه و آله- وهو في البرزخ- بسؤال من يسأله فلا مانع من استسقاءه، وغير ذلك كما كانوا يسألونه في الدنيا، فلا يكون بدعة ولا شركاً ولا كفراً.
فإن قلت: إنَّ الاستشفاع بالميّت ممنوع من حيث توهّم عبادته.
ص: 38
قلت: إن الاستشفاع بالحيّ والطلب منه كذلك فيه شبهة العبادة له، فما هو الدافع لهذه الشبهة؟
إذن بعد هذه الأدلّة والنصوص والشواهد لا يبقى مجال لمزاعم الوهابية بحرمة طلب الشفاعة من الميّت.
ومن الغريب دعواهم عدم ورود ذلك من أي صحابي وتابعي.
نعم: إنّ أمثال هذه الفتاوى تدل على عدم اطلاع قائلها بمصادر التشريع، ولا بفعل الصحابة، وتدل على أنها قول بغير علم.
ص: 39
التبرّك بالقبور
1- رأي الوهابية
2- مناقشة الفكرة
3- تبرّك الصحابة بالقبور
4- رأي الفقهاء السنّة في التبرّك
5- رواية في تقبيل القبر
6- التبرّك بالآثار
7- رأي الفقهاء في ذلك
8- الاستشفاء بتراب المدينة
9- التبرّك بآثار النبي صلى الله عليه و آله
10- قبور وجنائز يتبرّك بها
ص: 40
ص: 41
يرى ابن تيمية وأتباعه حرمة التبرّك والتمرّغ بالقبور الشريفة وتقبيلها، وكفّروا المسلمين ورموهم بالشرك وسمّوهم القبوريين وعبّاد القبور، وانّه كفعل الجاهلية بالأصنام والأوثان و...
والجواب:
أوّلًا: حتى ولو لم ينص الشرع على جوازه، لكنّه راجح شرعاً لأنه من تعظيم الشعائر. أمّا قبور غير الأنبياء فسيأتي البحث عنها، وامّا قبور الأنبياء فلأن لهم حرمة وشأناً ولا تزول حرمتهم بالموت.
قال الإمام مالك للمنصور: حرمة النبي ميّتاً كحرمته حيّاً (1).
فالنبي صلى الله عليه و آله والصلحاء لا تزول حرمتهم بالموت.
ثانياً: إذا كان التعظيم يُعَدُّ عبادة وهو حرام واحترام القبور وتقبيلها تُعدُ عبادة وهي شرك لكان تعظيم الكعبة والطواف بها شركاً
ص: 42
وكذلك تعظيم الحجر الأسود وتقبيله، والحجر ومقام ابراهيم، والمساجد والمشاعر، وتعظيم الأبوين وخفض جناح الذّل لهما، وسجود الملائكة لآدم وسجود إخوة يوسف وأبويه له، وتعظيم الجنود لُامرائهم، وتعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه و آله والخلفاء للأنبياء، وتعظيم الوهابيين لُامرائهم.
ثالثاً: إن فعل الصحابة والصلحاء أيضاً يخالف رأي الوهابية بحرمة مسّ القبر وتقبيله والتمرّغ به والتبرّك بترابه.
1- تبرّك الزهراء عليها السلام بتراب القبر:
عن علي عليه السلام لما رمس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جاءت فاطمة فوقفت على قبره صلى الله عليه و آله وأخذت قبضة من تراب القبر ووضعت على عينها وبكت وأنشأت تقول:
ماذا على من شمَّ تربة أحمد أن لا يشُمَّ مدى الزمان غواليا
صُبَّتْ عليَّ مصائبٌ لو أنّها صُبَّت على الأيّام صِرنَ لياليا
(1) 2- تبرّك أبو أيوب الأنصاري بقبر النبي صلى الله عليه و آله
عن داود بن أبي صالح، أقبل مروان يوماً فوجد رجلًا واضعاً
ص: 43
وجهه على القبر فأخذ مروان برقبته، ثم قال: هل تدري ما تصنع؟
فأقبل عليه، فإذا به أبو أيوب الأنصاري، فقال: نعم اني لم آتِ الحجر إنما جئت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولم آت الحجر. سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن إبكوا على الدين إذا وليه غير أهله» (1).
أقول: وقد صحّحه الحاكم في مستدركه وكذلك الذهبي.
قال السبكي: فإن صح هذا الاسناد لم يكره مس جدار القبر» (2).
قال الأميني: إنّ هذا الحديث يعطينا خبراً بأن المنع من التوسل بالقبور الطاهرة انّما هو من بدع الأمويين (3).
3- تبرّك بلال بقبر النبي صلى الله عليه و آله
إن بلالًا رأى النبي صلى الله عليه و آله في منامه وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني؟ فانتبه حزيناً، وركب راحلته، وقصد المدينة فأتى قبر النبي صلى الله عليه و آله فجعل يبكي عنده ويُمَرِّغ عليه...» (4).
4- تبرك ابن عمر:
عن ابن حملة: إن عبداللَّه بن عمر كان يضع يده اليمنى على القبر الشريف، وان بلالًا وضع خدّه عليه أيضاً (5).
ص: 44
5- تبرّك ابن المنكدر (1) (التابعي)
كان يجلس مع أصحابه وكان يصيبه الصمات (2) فكان يقوم كما هو، يضع خدّه على قبر النبي صلى الله عليه و آله ثم يرجع، فعوتب في ذلك، فقال: إنّه ليصيبني خطره، فإذا وجدت ذلك استشفيتُ بقبر النبي صلى الله عليه و آله (3).
وعن الذهبي: «استعنتُ بقبر النبي» (4).
1- فتوى ابن حنبل: قال ابن جماعة الشافعي: «لعبد اللَّه بن أحمد ابن حنبل عن أبيه رواية قال عبداللَّه: سألت أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول اللَّه ويتبرّك بمسّه ويقبّلُه، ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب اللَّه تعالى؟ قال: لابأس به» (5).
ص: 45
2- وعن ابن العُلا: ان الامام أحمد سُئل عن تقبيل قبر النبي صلى الله عليه و آله وتقبيل منبره، فقال: لابأس بذلك.
قال: فأريناه ابن تيمية، فصار يتعجّب من ذلك القول، ويقول:
عجبتُ من أحمد، عندي جليل! هذا كلامه!! (1) ونحن أيضاً نعجب من موقف ابن تيمية تجاه أحمد بن حنبل إذ لم يرمه بالشرك والبدعة والكفر!!
3- فتوى الرملي الشافعي: «إن كان قبر نبي أو ولي أو عالمٍ واستلمه، أو قبّله بقصد التبرّك فلابأس به» (2).
4- وقال أيضاً: «يكره أن يقبّل التابوت الذي يجعل فوق القبر واستلامه وتقبيل الأعتاب عند الدخول لزيارة الأولياء.. نعم إن قصد التبرّك لا يكره، كما أفتى به الوالد.. فقد صرّحوا بأنّه إذا عجز عن استلام الحَجر سنَّ له أن يُشِر بعصا وأن يقبّلها» (3).
5- فتوى محبّ الدين الطبري الشافعي:
«يجوز تقبيل القبر ومسِّه، وعليه عمل العلماء والصالحين» (4).
6- فتوى شهاب الدين الخفاجي الحنفي:
قال في شرحه على الشفا عند قوله: يكره مسّه وتقبيله، وإلصاق
ص: 46
الصدر؛ قال: وهذا أمرٌ غير مجمع عليه. ولذا قال أحمد والطبري:
لابأس بتقبيله والتزامه (1).
7- ابن أبي الصيف اليماني، أحد علماء مكة من الشافعية:
نُقل عنه: «جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين» (2).
8- فتوى الزرقاني المالكي: «تقبيل القبر الشريف مكروه إلّا لقصد التبرّك فلا كراهة» (3).
9- العزامي الشافعي قال عند قول ابن تيمية: من طاف بقبور الصالحين أو تمسّح بها كان مرتكباً أعظم العظائم.
قال: وأتى بكلام ملتبس فمرّة يجعله من الكبائر، واخرى من الشرك إلى مسائل من أشباه ذلك. قد فرغ العلماء المحقّقون والفقهاء المدققون من بحثها وتدوينها قبل أن يولد هو بقرون فيأبى إلّاأن يخالفهم، وربّما ادّعى الإجماع على ما يقول، وكثيراً ما يكون الاجماع قد انعقد قبله على خلاف قوله كما يعلم ذلك من أمعن في كلامه وكلام من قبله وكلام من بعده ممّن تعقبه من أهل الفهم المستقيم والنقد السليم. وإليك مثالًا: التمسح بالقبر أو الطواف به من عوام المسلمين فأهل العلم فيه على ثلاثة أقوال: الجواز مطلقاً والمنع مطلقاً على وجه كراهة التنزيه الشديدة ولكنها لم تبلغ حدّ التحريم. والتفصيل بين من
ص: 47
غلبه شدّة شوق إلى المزور فتنتفي عنده هذه الكراهة، ومن لا، فالأدب تركه. وأنت إذا تأمّلت في الامور التي كفَّر بها المسلمين.. ترجع إلى مقدّمتين صدقت كبراهما وهي كل عبادة لغير اللَّه شرك... وكذبت صغراهما وهي قوله: كل نداء لميت أو غائب أو طواف بقبر أو تمسح به أو ذبح أو نذر لصاحبه فهو عبادة لغير اللَّه» (1).
10- ابن حجر: «استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الحجر الأسود جواز تقبيل كلّ من يستحق التعظيم من آدمي وغيره...» (2).
11- الشيخ ابراهيم الباجوري الشافعي: «يكره تقبيل القبر واستلامه إلّاان قصد به التبرّك بهم فلا يكره» (3).
12- وقال الشيخ العدوي الحمزاوي المالكي: «ولا مرية حينئذ أنَّ تقبيل القبر الشريف لم يكن إلّاللتبرّك، فهو أولى من جواز ذلك لقبور الأولياء عند قصد التبرّك» (4).
روى في كشف الارتياب عن كفاية الشعبي وفتاوى الغرائب ومطالب المؤمنين وخزانة الرواية ما هذا لفظه:
«لابأس بتقبيل قبر الوالدين، لأن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه و آله فقال:
ص: 48
يارسول اللَّه إنّي حلفت أن اقبِّل عتبة باب الجنّة وجبهة حور العين، فأمره أن يقبِّل رِجلَ الامّ وجبهة الأب. قال: يارسول اللَّه إن لم يكن أبواي حيين؟ قال: قَبِّل قبرهما. قال: فإن لم أعرف قبرهما؟ قال: خطّ خطين انوِ أحدهما قبرَ الامّ. والآخر قبر الأب فقَّبلهما فلا تحنث في يمينك» (1).
إن سيرة المسلمين قديماً وحديثاً جارية على التبرك بمنبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وموضع صلاته وموضع قدمه، والتبرّك بمامسّه النبي الكريم من الأشياء، والتبرّك بتراب المدينة، خصوصاًتراب قبرسيّدنا حمزة عليه السلام.
وإليك بعض النماذج في ذلك:
أ- التبرّك بالمنبر:
كان لمنبر النبي صلى الله عليه و آله عند المسلمين الحرمة والمكانة بحيث كان بعض الفقهاء يتأبى من الحلف على المنبر تعظيماً له؛ وانّهم كانوا يتبرّكون به:
1- البخاري: قضى مروان باليمين على زيد بن ثابت على المنبر (2).
2- العاقولي: بعد ذكره منبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «إن هذا المنبر
ص: 49
تهافت على طول الزمان فجدّده بعض خلفاء بني العبّاس، واتخذ من بقايا أعواد منبر النبي صلى الله عليه و آله أمشاطاً للتبرّك بها كما أنّهم- أي الصحابة- كانوا يهتمّون بمسّه» (1).
3- وفي كتاب الآثار النبوية: «منبره صلى الله عليه و آله كان بمكانه حتى احترق وكان لإحراقه في سكان المدينة الطيبة وقعٌ أليمٌ لما فاتَهُم من مسِ رمّانتهِ التي كان يضع يده المباركة عليها ولمْسِ موضع قدميه الشريفين» (2).
4- عن يزيد بن عبداللَّه بن قسيط (3) قال: رأيت ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله إذا خلا المسجد أخذوا برمّانةِ المنبر الصلعاء التي تلي القبر بميامنهم ثُمّ استقبلوا القبلة يدعون» (4).
5- ذكر الشيخ أحمد بن عبدالحميد- وهو من أعلام القرن العاشر- تبرّك الناس بأعواد منبر النبي صلى الله عليه و آله (5).
6- السمهودي: «إن منبر النبي صلى الله عليه و آله جُعل عليه منبر كالغلاف وجُعِلَ في المنبر الأعلى طاق ممّا يلي الروضة، فيُدْخلُ الناس منها أيديهم، يمسحون منبر النبي صلى الله عليه و آله ويتبرّكون بذلك» (6).
ص: 50
1- روى عن مالك ويحيى بن سعيد الأنصاري، شيخُ مالك، وكذا عن ابن عمر، وابن المسيّب: جواز مسح رمانة المنبر (1).
2- واما من طرق أهل البيت عليهم السلام: فعن الامام جعفر الصادق عليه السلام «وإذا فرغتَ من الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه و آله فآتِ المنبر فامسحه بيدك وخذ برمّانتيه، وهما السفلان، وامسح عينيك ووجْهكَ به، فانّه يقال:
إنّه شفاء للعين» (2).
4- قال إسحاق بن إبراهيم: «ومما لم يزل شأن مَن حج، المرور بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه و آله والتبرّك برؤية روضتهِ ومنبره وقبره ومجلسه وملامس يديه ومواطئ قدميه، والعمود الذي كان يستند إليه ونزل جبرئيل عليه. وبمن عمّره وقصده من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين والاعتبار بذلك كلّه» (3).
قد ثبت أن المسلمين كانوا يتبرّكون بتراب قبر النبي صلى الله عليه و آله وقبر حمزة وبتراب المدينة مطلقاً، كما وردت نصوص في أن تراب المدينة
ص: 51
شِفاء من كل داء، أو من الجذام، أو من الصداع أو غير ذلك. وقد أفتى فقهاء المسلمين بجواز ذلك بل رجحانه:
1- قال السمهودي: «كانوا- أي الصحابة- وغيرهم يأخذون من تراب قبر النبي صلى الله عليه و آله. فَأَمرت عائشة فضرب بالكوة فَسُدّت» (1).
وقيل: إن ضربها لأجل انه يوجب نفاد تراب القبر الشريف وخراب القبة الشريفة (2).
2- وقال أيضاً: بعد ذكره تبرّك المسلمين بتراب المدينة: إنّهم جرَّبوا تراب قبر صهيب (3) للحمّى. ثم قال الزركشي: استثني من عدم جواز حمل تراب المدينة إلى غيرها- لكونها حرماً- تربة حمزة لاطباق الناس على نقلها للتداوي» (4).
3- يقول الصنهاجي: سألت أحمد بن يكوت عن تراب المقابر الذي كان الناس يحملونه للتبرّك هل يجوز أو يمنع؟ فقال: هو جائز، وما زال الناس يتبرّكون بقبور العلماء والشهداء والصالحين وكان الناس يحملون تراب قبر سيدنا حمزة في القديم من الزمان (5).
4- قال ابن فرحون: «والناس اليوم يأخذون من تربة قريبة من مشهد سيدنا حمزة، ويعملون خرزاً يشبه التسبيح. واستدل ابن فرحون بذلك على جواز نقل تراب المدينة» (6).
ص: 52
1- السمهودي: روينا في كتاب ابن النجار والوفاء لابن الجوزي حديث: غبار المدينة شفاء من الجذام.
2- وفي جامع الاصول لابن الأثير عن سعد قال: لما رجع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من تبوك تلقَّاه رجال من المخلَّفين من المؤمنين، فأثاروا غباراً، فخمَّر- أو فغطّى- بعضُ مَنْ كان مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنفه فأزال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اللثام عن وجهه وقال: والذي نفسي بيده إن في غبارها شفاء من كل داء.
3- وعن أبي سلمة: بلغني ان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: غبار المدينة يطفي الجذام.
قلت: وقد رأينا من استشفى بغبارها من الجذام وكان قد أضرَّ به كثيراً، فصار يخرج إلى الكومة البيضاء، ببطحان بطريق قباء ويتمرّغ بها ويتخذها منها في مرقده فنفعه ذلك جدّاً.
4- روى ابن زبالة ويحيى بن الحسن بن جعفر العلوي وابن النجار كلاهما في طريقه أن النبي صلى الله عليه و آله أتى بَلحارث، فإذا هم روبى (1)، فقال: مالكم يابني الحارث روبى؟ قالوا: أصابتنا يارسول اللَّه هذه الحمّى. فقال: فأين أنتم من صُعيب؟ قالوا: يارسول اللَّه ما نصنع به؟
ص: 53
قال: تأخذون من ترابه فتجعلونه في ماء، ثم يتفل عليه أحدكم ويقول:
بسم اللَّه، تراب أرضنا بريق بعضنا، شفاء لمريضنا، بإذن ربّنا ففعلوا فتركتهم الحمّى.
قال ابن النجار عقبة: قال أبو القاسم بن يحيى العلوي: صعيب:
وادي بطحان دون الماجشونية، وفيه حفرة مما يأخذ الناس منه، وهو اليوم إذا وَبَأ إنسان أخذ منه.
وقال ابن النجار: وقد رأيتُ أنا هذه الحفرة اليوم، والناس يأخذون منها، وذكروا انهم جربوه فوجدوه صحيحاً.
قال: وأخذت أنا منه أيضاً.
قلت: وهذه الحفرة موجودة اليوم مشهورة خَلفاً عن سلف يأخذ الناس منها وينقلونه للتداوي وقد بعثتُ منها لبعض الأصحاب، اخذاً ممّا ذكروه في أخذ نبات الحرم للتداوي.
ثم قال السمهودي بعد كلام الزركشي: ينبغي أن يستثنى من منع نقل تراب الحرم تربة حمزة رضى الله عنه، لاطباق السلف والخلف على نقلها للتداوي من الصداع.
فقلت: عند الوقوف- على كلام الزركشي- أين هو من تراب صعيب (1)».
1- عن جابر بن عبداللَّه قال: كنتُ مع النبي صلى الله عليه و آله... وكنت على جملٍ فاعتلَّ، قال فلحقني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأنا في آخر الناس فقال: ما
ص: 54
لكَ ياجابر؟ قلت: إِعتلَّ بعيري، قال: فأخذ بذنبه ثم زجره، قال: فما زلت إنّما أنا في أوّل الناس.. فلما دنونا من المدينة قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما فعل الجمل؟ قلت: هوذا قال: فبعنيه قلت: لا بل هو لك،.. قال: لا قد أخذته بأُوقية، إركبه فإذا قدمتَ فائتنا به، قال: فلما قدمتُ المدينة جئتُ به فقال: يابلال زن له وقية وزده قيراطاً، قال: قلت هذا قيراط زادنيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا يفارقني أبداً حتى أموت. قال: فجعلتُهُ في كيس فلم يزل عندي حتى جاء أهل الشام يوم الحرَّة، فأخذوه فيما أخذوا (1).
فها هو جابر بن عبداللَّه الأنصاري الصحابي يتبرّك ويحتفظ- وفي حياة النبي- بقيراطٍ زاده النبي صلى الله عليه و آله ويؤكّد على اصطحابه إلى أن يموت.
2- عن بعض النساء اللاتي خرجن مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى خيبر وأعطاهن النبي سهماً من الغنائم قالت: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في نسوة فقلت يا رسول اللَّه قد أردنا الخروج معك نعين المسلمين ما استطعنا.
فقال: على بركة اللَّه، قالت: فخرجنا معه، فلما افتتح خيبر ورضخ (2) لنا وأخذ هذه القلادة ووضعها في عنقي، فواللَّه لا تفارقني أبداً، وأوصت أنها تدفن معها» (3).
فهذه الصحابية تتبرّك بقلادة مستها يد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتفتخر بها وتوصي أن تدفن معها. ولم ينكر عليها أحد، ولا رماها بالبدعة
ص: 55
والشرك والكفر.
1- عن أنس بن مالك قال: «رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والحلّاق يحلقه وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلّافي يد رَجُلٍ» (1).
2- وعن محمد بن سيرين، قلت لعبيد: عندنا من شعر النبي صلى الله عليه و آله أصبناه من قِبل أنس، قال: لأن يكون عندي شعرة منه أحبَّ إليَّ من الدنيا وما فيها» (2).
3- وعن كبشة قالت: دخل عليَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فَشَرِب من في قربةٍ معلّقةٍ قائماً فقمتُ إلى فيها فقطعتُهُ (3).
وعن ابن ماجة زيادة: تبتغي بركة موضع في (اي فم) رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (4).
ثم ان الترمذي حسَّن الحديث وصحّحه (5).
4- ان سهل بن سعد يحدِّث من حوله: أن النبي صلى الله عليه و آله حينما جلس هو وأصحابه في سقيفة بني ساعدة، وطلب من سهل أن يسقيه ماءاً،
ص: 56
يقول: فأخرجتُ لهم هذا القدح فأسقيتُهم فيه، فأخرج- يقول الراوي- لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه، قال: ثم استوهبه عمر بن عبدالعزيز بعد ذلك، فوهبه له.
قال البخاري: رأيت هذا القدح بالبصرة وشربتُ منه، وكان اشتري من ميراث النضر بن أنس، بثمانمائة ألف (1).
وعن جمال الدين عبداللَّه بن محمّد الأنصاري (2) المحدّث قال:
رحلنا مع شيخنا تاج الدين الفاكهاني (3) إلى دمشق فقصد زيارة نعل سيِّدنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله التي بدار الحديث الأشرفيه بدمشق وكنت معه فلمّا رأى النعل المكرّمة حسر عن رأسه وجعل يقبّلُه ويمرّغ وجهه عليه ودموعه تسيل وأنشد:
فلو قيل للمجنون: ليلى ووصلها تريد أم الدنيا وما في طواياها
لقال: غبارٌ من تراب نعالها أحبُّ إلى نفسي وأشفى لبلواها
ص: 57
5- سيرة ابن عمر:
عن نافع: لو نظرت إلى ابن عمر، إذا اتّبع رسول اللَّه لقلت هذا مجنون (1).
وقال أيضاً: إن ابن عمر كان يتّبع آثار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كلَّ مكان صلّى فيه، حتى أنّ النبي صلى الله عليه و آله نزل تحت شجرة فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة، فيصبّ في أصلها الماء، لكيلا تيبس (2).
وعن مالك: إن ابن عمر كان يتبع أمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وآثاره وحاله، ويهتمّ به حتى كان قد خيف على عقله من اهتمامه بذلك (3).
عن نافع عن ابن عمر: انّه كان في طريق مكة يقول برأس راحلته يثنيها ويقول: لعلَّ خُفاً يقع على خفٍ، يعني راحلة النبي صلى الله عليه و آله (4).
كان ابن عمر يتبرّك بمقعد النبي صلى الله عليه و آله من منبره (5).
عن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عبد القاري انّه نظر إلى ابن عمر وهو يضع يده على مقعد النبي صلى الله عليه و آله من المنبر ثم يضعها على وجهه (6).
6- سيرة محمد بن المنكدر:
ص: 58
وكان محمد بن المنكدر (1) يأتي موضعاً من المسجد في الصحن فيتمرّغ فيه ويضطجع فقيل له في ذلك، فقال: إني رأيت النبي صلى الله عليه و آله في هذا الموضع (2).
7- سيرة المأمون:
قال المأمون ليحيى بن أكثم إن الرجل ليأتيني بالقطعة من العود أو بالخشبة، أو بالشي ء الذي لعل قيمته لا تكون إلّادرهماً أو نحوه، فيقول: إنَّ هذا كان للنبي صلى الله عليه و آله أو قد وَضَع يده عليه أو مسّه، وما هو عندي بثقة ولا دليل على صدق الرجل، إلّاأني بفرط النية والمحبة، أقبل ذلك، فاشتريه بألف دينار وأقل وأكثر، ثمَ أضَعَهُ على وجهي وعيني، وأتبرّك بالنظر إليه وبمسِّه فأستشفي به عند المرض يصيبني أو يصيب من أهتمّ به فأصونه كصيانتي لنفسي وإنما هو عودٌ لم يفعل هو شيئاً ولا فضيلة له، تستوجب به المحبة إلّاما ذكر من مسِّ رسول اللَّه» (3).
أقول: ويحيى بن أكثم هذا هو من أئمة السنة وعلماء الناس كما عن ابن كثير (4). وهو قاضي القضاة والفقيه العلامة ومن أئمة الاجتهاد كما
ص: 59
عن الذهبي (1).
والمأمون هذا الذي يقال عنه: كان أمّاراً بالعدل محمود السيرة، ميمون النقيبة فقيه النفس، يُعدّ من كبار العلماء! تراه يتبرّك بالأشياء المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه و آله، ويرى التبرّك أمراً مشروعاً وجوازه مفروغاً عنه، ويذكر هذا الأمر عند يحيى الذي هو من فقهاء العصر، ولا يرده بل يقرره على الجواز.
عن يحيى بن عباد: أنه روى ان بيت فاطمة الزهراء عليها السلام لما أخرجوا منه فاطمة بنت الحسين وزوجها الحسن بن الحسن وهدّموا البيت، بعث حسنُ ابنه جعفراً وكان أسنَ ولده وقال: انظر الحجر الذي من صفته كذا وكذا. هل يُدخلونه في بنيانهم؟ فرصدهم حتى رفعوا الأساس وأخرجوا الحجر، فأخبر أباه، فخرَّ ساجداً وقال: ذلك حجرٌ كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصلّي إليه إذا دخل إلى فاطمة، أو كانت فاطمة تصلّي إليه- الشك من يحيى- وقال علي بن موسى الرضا عليه السلام، ولدت فاطمة عليها السلام الحسن والحسين عليهما السلام على ذلك الحجر.
قال يحيى: ورأيت الحسين بن عبداللَّه بن عبداللَّه بن الحسين، ولم أرَ فينا رجلًا أفضل منه، إذا اشتكى شيئاً من جسده كشف الحصى عن
ص: 60
الحجر فيتمسّح (1) به».
أقول: فإذا كانت هذه حرمة حجر نال البركة بولادة فاطمة عليها السلام ولديها الحسنين عليهما السلام؛ وبصلاتها أو صلاة أبيها صلى الله عليه و آله إليه. فكيف بتربة ضمَّت جسد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ ألا يحق التبرّك بها وطلب الحاجة إلى اللَّه عند تلك التربة وذلك القبر؟
عن رزين مولى علي بن عبداللَّه بن عباس ان علياً كتب إليه أن يبعث إليه بقطعة من المروة فيتخذه مصلّى يسجد عليه (2).
1- قبر سعد بن معاذ: إن أَحَداً أخذ من تراب سعد، فذهب بها ثم نظر إليها بعد ذلك فإذا هي مسك (3).
2- قبر عبداللَّه الحداني: المقتول سنة 183 ه قُتل يوم التروية كان الناس يأخذون من تراب قبره كأنّه مسك يُصيّرونه في ثيابهم (4).
3- قبر معروف الكرخي: قال ابن الجوزي: قبره ظاهر يتبرّك به في بغداد. وكان إبراهيم الحربي يقول: قبرُ معروف: الترياق المجرّب (5).
ص: 61
4- قبر أحمد بن حنبل: إمام الحنابلة المتوفى 241 ه. قبره ظاهر مشهور يزار ويتبرّك به (1).
5- قبر الخضر بن نصر الأربلي الفقيه الشافعي المتوفى 567 ه نقل ابن كثير عن ابن خلكان: «قبره يزار وقد زرته غير مرّة ورأيت الناس ينتابون قبره ويتبرّكون به» (2).
والحاصل انّا طالما نرى الصحابة والتابعين والمحدّثين يتبرّكون بآثار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، هذا يتبرّك بشعرة من شعراته صلى الله عليه و آله وذلك يتبرّك ب «فم قربةٍ» شَرِب منها، وثالث يتبرّك بنعله صلى الله عليه و آله ورابع يتبرّك بموضع خف بعير رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وخامس يتبرّك بالعود، أو الخشبة التي كانت لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وسادس يتبرّك بتراب قبره صلى الله عليه و آله وهلَّم جراً. وليسوا أفراداً عاديين، فمنهم الصحابة ومنهم التابعون، ومنهم أئمّة الحديث وأصحاب الصحاح والسنن أو مشايخهم والفقهاء.
وبعد هذا كلّه فما بالُ ابن تيمية وأنصاره يكفِّرون من تبرّك بالقبور أو بخصوص قبر النبي صلى الله عليه و آله، فهل يلتزم- ابن تيمية- بلوازم كلامه: من تكفير الصحابة والتابعين وأصحاب الصحاح، والفقهاء خلفاً عن سلف!!؟
6- قبر نور الدين محمود بن زنكي المتوفى 569:-
قال ابن كثير: قبره بدمشق يزار ويحلّق بشبّاكه ويطيّب ويتبرّك
ص: 62
به كلُّ مار (1).
7- اتباع ابن تيمية يتبرّكون بجنازته:
لقد تبرَّك أتباعه بجنازته وماء غسله ممّا يثير السؤال: هل أن اتباعه كانوا مشركين وأهل بدعة، طالما يرى التبرّك شركاً وبدعة، إذ تمسَّحوا بالجنازة؟! هل شيّعه المشركون ولم يحضر جنازته مسلم!؟ أو أن جواز التبرّك والتمسّح، أمرٌ ارتكازي لدى المسلمين، وأن الفتوى بحرمته، يُعدُّ فتوى على خلاف المرتكز وقولًا بغير ما أنزل اللَّه؟
«كان تشييعه حافلًا حتى ضاقت الطريق لجنازته وانتهى إليها الناس من كل فجٍّ عميق واشتد الزحام وألقوا على نعشه مناديلهم وعمائمهم للتبرّك، وكسرت أعواد سريره لكثرة تعلّق الناس به وشربوا ماء غُسله للتيمن.. واشتروا ما زاد من سدره وقسّموه بينهم. ويقال:
إن الخيط الذي كان عليه الزيبق وعلّق على جسده لدفع القمل، اشتروه بمائة وخمسين درهماً» (2).
كتب السُبكي عن وفاة البخاري ودفنه:
«واما التراب، فانّهم كانوا يرفعون عن القبر، حتّى ظهر القبر، ولم
ص: 63
يكن يُقدَر على حفظ القبر بالحراس، وغلبنا على أنفسنا فنصبنا على القبر خشباً مُشَّبكاً، لم يكن أحدٌ يقدر على الوصول إلى القبر» (1).
فهل كان أهل سمرقند عام 256 ه كفّاراً ومشركين، إذ كانوا يتبرّكون بتراب قبر محمد بن إسماعيل البخاري؟!
وهل جهّزه وكفّنه وشيّعه ودفنه الكفّار؟
ما هذه الجرأة في التهجّم على المسلمين؟ أين التقوى والعفّة في الكلام؟ وأين هذه الأفكار والمزاعم من الإسلام والسنّة النبوية.
دعنا نكتف بهذا المقدار من النصوص التاريخية الدالة على أن التبرّك بقبور المسلمين وآثارهم كان من الامور الرائجة والمتعارف عليها في المجتمع الإسلامي من عهد النبي صلى الله عليه و آله إلى يومنا هذا ولم يفت فقيه بحرمة ذلك، بل صرّحوا بجوازه ورجحانه، واستحبابه.
ص: 64
ص: 65
الاستغاثة
وطلب الحوائج
1- رأي الوهابية
2- مناقشة الفكرة
3- الاستغاثة بالنبي
4- الاستغاثة بالأنبياء استغاثة بالأحياء
5- عثمان يأمر بالاستغاثة بقبر النبي صلى الله عليه و آله
6- الاستغاثة بالقبور
7- نماذج ممن استغاث بالقبور
ص: 66
صفحه سفيد
ص: 67
قال ابن تيمية: «إن قول أدركني أو أغثني أو أشفع لي أو انصرني على عدوّي ونحو ذلك ممّا لا يقدر عليه إلّااللَّه إذا طلب في أيّام البرزخ كان من أقسام الشرك» (1).
وقال في رسالة زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور:
«من يأتي إلى قبر نبي أو صالح ويسأله حاجته ويستنجده مثل أن يسأله أن يزيل مرضه أو يقضي دينه، أو نحو ذلك ممّا لا يقدر عليه إلّا اللَّه فهذا شرك صريح، يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلّا قُتِل».
وقال: «قول كثير من الضلّال: هذا أقرب إلى اللَّه منّي. وأنا بعيد من اللَّه لايمكنني أن أدعوه إلّابهذه الواسطة ونحو ذلك من أقوال المشركين» (2).
ص: 68
وقال محمد بن عبد الوهاب: «إنَّ دعاء غير اللَّه والاستغاثة بغير اللَّه موجب للارتداد عن الدين والدخول في عداد المشركين وعبدة الأصنام واستحلال المال والدم إلّامع التوبة...» (1).
والجواب:-
إن الدعاء والاستغاثة بغير اللَّه يكون على وجوه ثلاثة:
1- أن يهتف بإسمه مجرّداً مثل أن يقول: يا محمد، يا عبدالقادر، ياأهل البيت.
2- أن يقول: يافلان كن شفيعي، أو ادع اللَّه أن يقضي حاجتي.
3- أن يقول: اقض ديني، إشفِ مريضي، يامحمد أغنني من فضلك.
ولا مانع في هذه الوجوه، فضلًا عن أنها ليست شركاً باللَّه، لأن المسلم الموحِّد يعتقد بأن سوى اللَّه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضرّاً بالاستقلالية، وإذا رجا من أحدٍ نفعاً أو كشفاً لضرٍّ فيما منحه اللَّه تعالى من ذلك، وبلا إنفكاك عن مشيئة اللَّه، فما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن.. فهو لا يقصد من التوجّه إلى من ارتضاه اللَّه واجتباه وفضّله على خلقه إلّاالشفاعة في قضاء الحاجة والدعاء لتيسير وتعجيل وتحقيق قضائها. فلابد من حمل فعله على الصحيح، وعدم التهجّم على الدماء والأموال والأعراض بغير يقين.
وعليه فلو قال: يامحمد: ادع اللَّه أن يقضي حاجتي، يكون
ص: 69
المقصود هو اللَّه تعالى.
وامّا لو قال: يامحمد اقض حاجتي: فمن باب إسناد الفعل إلى السبب مثل: انبت الربيع البقل.
وفيما يلي تذكرة ببعض الآيات التي ظاهرها صدور الفعل من العبد:
1- وما نقموا إلّاأن أغناهم اللَّه ورسوله (1).
2- وارزقوهم فيها واكسوهم (2).
3- ولو أنّهم رضوا ما آتاهم اللَّه ورسوله وقالوا حسبنا اللَّه سيؤتينا اللَّه من فضله ورسوله (3).
فالإغْناءُ لا يكون إلّامن اللَّه فكيف جُعِل الرسول صلى الله عليه و آله (4) شريكاً في الرزق؟ والوهابية جعلت قول: ارزقني شركاً وكفراً.
4- أضف إلى ذلك أن اللَّه تعالى نسب إلى عيسى الخلق وإبراء الأكمه والأبرص.
ص: 70
إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن اللَّه (1). فكيف لايكون هذا شركاً وكفراً، ويكون نسبة شفاء المريض وقضاء الدين والرزق إلى النبي، أو الولي بإذن اللَّه شركاً؟!
«قد يكون التوسل به صلى الله عليه و آله بطلب ذلك الأمر منه بمعنى أنه صلى الله عليه و آله قادر على التسبيب فيه بسؤاله وشفاعته إلى ربّه فيعود إلى طلب دعائه وإن اختلفت العبارة.
ومنه قول القائل له: أسألك مرافقتك في الجنة، ولا يقصد به إلّا كونه صلى الله عليه و آله سبباً وشافعاً (2).
أقول: إن المرافقة في الجنّة لايقدر عليها غير اللَّه، مثل غفران الذنب وشفاء المريض.
نعم لو قصد بهذا الدعاء الاستقلال في التأثير، فهذا ما لم يقصده أحدٌ من المسلمين.
إذن فالاستغاثة والاستعانة ترجع إلى طلب الشفاعة والدعاء.
ولا مانع منه عقلًا ونقلًا.
والوهابية قد اعترفت بجواز الدعاء من الحي.
ص: 71
قال ابن تيمية: ثبت عنه صلى الله عليه و آله ما من رجل يدعو له أخوه بظهر الغيب دعوة إلّاوكّل اللَّه بها ملكاً كلّما دعا لأخيه دعوة، قال الملك ولك مثل ذلك (1).
ومن المشروع في الدعاء إجابة غائب لغائب، ولهذا أمر صلى الله عليه و آله بالصلاة عليه، وطلب الوسيلة له.
ففي الحديث: إذا سمعتم المؤذِّن، فقولوا مثلما يقول، ثم صلّوا عليَّ فإنَّ من صلّى عليَّ مرّة صلّى اللَّه عليه عشراً ثم اسألوا اللَّه لي الوسيلة، فانّها درجة في الجنة لاينبغي أن تكون إلّالعبد من عباد اللَّه وأرجو أن أكون ذلك العبد فمن سأل اللَّه لي الوسيلة حلّت له شفاعتي يوم القيامة (2).
كما يشرع طلب الدعاء ممّن هو فوقه ودونه، فقد ثبت في الصحيح: انّه صلى الله عليه و آله ذكر اويس القرني وقال لعمر: إن استطعت أن يستغفر لك فافعل (3).
وفي الحديث: إن الناس لما أجدبوا سألوا النبي أن يستسقي لهم فدعا اللَّه لهم فَسُقوا (4).
اذن: عرفنا ان الاستغاثة هي طلب الدعاء من المستغاث به ولا مانع منه سواء كان دونه أو مساوياً له.
ص: 72
اما طلب الدعاء من الميّت، فلم يجوّزه الوهابيون واستدلّوا على ذلك بالآية الكريمة: فلا تدعوا مع اللَّه أحداً (1).
والجواب عن ذلك: ان للدعاء معنىً لغوياً ومعنى اصطلاحياً.
امّا اللغوي:
1- الدعاء في اللغة: هو النداء: مثل قوله تعالى:
لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً (2).
2- ويطلق الدعاء على سؤال اللَّه تعالى وطلب حوائج الدنيا والآخرة منه.
وهذا الاطلاق إمّا لأنّه أحدُ أفراد المعنى اللغوي، أو لصيرورته حقيقة عرفية في ذلك، أو مجازاً مشهوراً. والدعاء بهذا المعنى يسمّى عبادة، وإلى هذا تشير الآية الكريمة: ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين (3).
ثم إن مطلق الدعاء، ونداء الغير وطلب الحاجة من غير اللَّه لايكون عبادة ولا ممنوعاً، فمن دعا رجلًا ليأتي إليه، أو ليعينه وينصره، أو ليناوله شيئاً، أو يقضي له حاجة لم يكن عابداً له ولا آثماً.
ص: 73
1- قد يراد به الدعاء الخاص وهو الدعاء المساوي لدعاء اللَّه باعتقاد أنّ المدعو قادرٌ مختار مستقل عن اللَّه في ذلك، كما كانت اليهود والنصارى تفعل ذلك في بِيَعها وكنائسها.
2- وقد يراد به دعاء من نهى اللَّه عن دعائه من الأصنام والأوثان التي هي أحجار وأشجار، كما في دعاء المشركين.
3- وقد يراد دعاء الملائكة والجن الذين كانوا يعبدونهم ويعتقدون ان لهم تأثيراً في الكون مع اللَّه بأنفسهم.
وعلى هذا المعنى يدل قوله تعالى:
ان الذين تدعون من دون اللَّه عبادٌ أمثالكم (1) و والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون (2).
وقوله تعالى: فلا تدعوا مع اللَّه أحداً (3).
والحاصل: إن دعا نبيّاً واستغاث به فذلك لا يدخل في الدعاء المنهي عنه. وذلك لأن هذا الدعاء ليس معناه هذه الصور الثلاث- الأخيرة- بل معناه: الطلب من النبي أن يدعو اللَّه أو يشفع له عنده، مع اعتقاد أنّ الأمر للَّه إن شاء قَبله، وإن شاء ردّه.
ولايكون هذا من الدعاء المنهي عنه بعدما عرفت بأنه ليس كل دعاء منهياً عنه، بل دعاء الغير باعتقاد استقلالية المخلوق في التأثير هو
ص: 74
المنهي عنه.
قد يقال: إن التوسل بالأنبياء والصالحين لا معنى له، لأنهم أموات، والميّت لايسمع فلا معنى لأن يقال: يارسول اللَّه أغثني، أو أتوجّه بك إلى اللَّه ليقضي لي حاجتي.
والجواب: لقد تعرّضنا في بحث الشفاعة لهذه المسألة بالتفصيل وأثبتنا حياة الأنبياء- بعد الموت- فنعيد هنا باختصار نقول أنه: «لا مانع شرعاً ولا عقلًا من أن يسمع النبي أو الولي كلام من يتوسل به وهو في القبر، امّا النبي صلى الله عليه و آله فلأنه حيّ أحياه اللَّه بعد موته كما ثبت من حديث أنس عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنه قال: الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون (1).
ولأنه ثبت حديث: ما من رجل مسلم يمرُّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلِّم عليه إلّاعرفه وردّ عليه السلام (2).
وقال البيهقي: «وفي حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة،
ص: 75
أنّه صلى الله عليه و آله لقيهم ببيت المقدس فحضرت الصلاة فَأمّهم نبيّنا صلى الله عليه و آله ثم اجتمعوا في بيت المقدس.
وفي حديث أبي ذر ومالك بن صعصعة في قصة الاسراء انّه لقيهم بالسماوات. وطرق ذلك صحيحة، فيحمل على انه رأى موسى قائماً يصلّي في قبره، ثم عرج به هو ومن ذكر من الأنبياء إلى السماوات فلقيهم النبي صلى الله عليه و آله ثم اجتمعوا في بيت المقدس فحضرت الصلاة فأمّهم نبينا. قال: وصلاتهم في أوقات مختلفة وفي أماكن مختلفة لا يرده العقل، وقد ثبت به النقل فدلّ ذلك على حياتهم» (1).
إذن: ثبت انّهم أحياء ويسمعون من يسلّم عليهم «من صلّى عليَّ عندَ قبري سمعتهُ» ومعروضة عليهم صلاة من يصلّي عليهم: «اكثروا علي من الصلاة في يوم الجمعة فان صلاتكم معروضة عليّ». ولا مانع (2) من الاستغاثة بالحي وطلب الاستغفار منه.. يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا (3) اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتِ بصيراً (4).
قال القسطلاني: «ينبغي للزائر أن يكثر من الدعاء والتضرع والاستغاثة والتشفع والتوسل به صلى الله عليه و آله فجدير بمن استشفع به أن يشفعه اللَّه تعالى فيه... ثم إن كلًا من الاستغاثة والتوسل والتشفع والتوجه
ص: 76
بالنبي- كما ذكره في تحقيق النصرة ومصباح الظلام- واقع في كل حال، قبل خلقه وبعد خلقه، في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ وبعد البعث...» (1).
وممّا يدل بوضوح على ان مسألة الاستغاثة بقبر النبي صلى الله عليه و آله كان أمراً دارجاً بين المسلمين بمن فيهم الصحابة؛ قصة عثمان بن حُنيف، التي أوردها الطبراني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف أن رجلًا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكى ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف: ائتِ الميضاة فتوضأ ثم ائت المسجد فصلِّ فيه ركعتين ثم قل: اللهمّ انّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمّد نبي الرحمة، يامحمّد إني أتوجّه بك إلى ربّي فتقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك ورُح حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان بن عفّان، فجاء البوّاب حتى أخذ بيده، فأدخله على عثمان، فأجلسه معه على الطنفسة فقال: حاجتك؟ فذكر حاجته، وقضاها له. ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة وقال: ما كانت لك من حاجة، فاذكرها، ثم ان الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك اللَّه خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت
ص: 77
إليَّ حتى كلَّمتَهُ فيّ. فقال عثمان بن حنيف: واللَّه ما كلّمتُه ولكن شهدتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأتاه ضرير (1)، فشكى إليه ذهاب بصره، فقال له النبي فتصبر» فقال: يارسول اللَّه ليس لي قائد وقد شق عليّ، فقال النبي صلى الله عليه و آله ائتِ الميضاة فتوضأ ثم صلِّ ركعتين ثم ادعُ بهذه الدعوات» قال ابن حنيف: فواللَّه ما تفرّقنا، وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرّ قط (2).
ان المعلق السلفي بعد ان يعترف بصحّة هذا الحديث ويقول:
«لاشك في صحّة الحديث المرفوع» ولكنه يشكك في الاستدلال بها على التوسل، فالمعلق متأثر بأفكار ا لألباني صاحب رسالة «التوسل» وافكار الوهابية ومزاعمهم من حرمة التوسل بالميت وانه شرك. فإذا واجه هكذا روايات وأحاديث، فإنّه لا يطيق تحمّلها ويصعب عليه قبولها، وإن صرّح أهل الفن كالطبراني بصحّة الحديث وإن كان الآمر بالتوسل صحابي جليل، اعتمد عليه عليّ عليه السلام وعمر (3). وروى له الترمذي والنسائي وابن ماجه.
والعجيب من دعواهم وانتحالهم «بالسلفية» ومع ذلك يتركون ما ثبت وصحّ عن السلف- كعثمان بن حنيف؟!!
وهل من المعقول: أن يتبنّى الإنسان عقيدة ثم يفتّش عن أحاديث
ص: 78
تؤيِّد وتثبت هذه العقيدة؟! أم العكس هو الصحيح، أي لابد وأن نستخلص العقيدة- سواء في مسألة التوسل أو أمر آخر- من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة من طريق السلف!.
جرت سيرة المسلمين قديماً وحديثاً على الاستغاثة بقبور الأنبياء والصالحين وأفتى العلماء بجواز ذلك وفيما يلي نماذج منه:
1- الاستغاثة بقبر النبي صلى الله عليه و آله:
- عن الدارمي: «... قحط أهلُ المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة، فقالت: انظروا قبر النبي صلى الله عليه و آله فاجعلوا منه كواً إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقفُ. قال: ففعلوا فمطرنا مطراً حتى نَبَتَ العشب وسَمَنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فَسُمّي عام الفتق» (1).
- روى ابن أبي شيبة، بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار- وكان خازن عمر- قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه و آله فقال: يارسول اللَّه استسق لُامّتك فانّهم قد هلكوا، فأتى الرجل في المنام فقيل له: إئتِ عمر... الحديث وقد روى سيف في الفتوح: ان الذي رأى في المنام المذكور هو «بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة» (2).
ص: 79
2- مشهد الإمام الحسين عليه السلام بالقاهرة:
قال الحمزاوي العدوي المتوفى 1303 بعد كلام طويل حول مشهد الإمام الحسين: واعلم أنه ينبغي كثرة الزيارة لهذا المشهد العظيم متوسّلًا به إلى اللَّه ويطلب من هذا الإمام ما كان يطلب منه في حياته، فانّه باب تفريج الكروب فبزيارته يزول عن الخطب الخطوب ويصل إلى اللَّه بأنواره والتوسل به كلُ قلب محجوب. ومن ذلك ما وقع لسيدي العارف باللَّه تعالى محمد شلبي شارح «العزية» الشهير بابن الست، وهو انّه قد سرقت كتبُه جميعها من بيته قال: فتحيّر عقله واشتد كربه، فأتى إلى مقام وليِّ نعمتنا الحسين عليه السلام منشداً لأبيات استغاث بها فتوجّه إلى بيته بعد الزيارة ومكث في المقام مدّة، فوجد كتبه في محلّها قد حضرت من غير نقص لكتاب منها» (1).
3- استغاثة الضرير بالمشهد الشريف:
عقد الشبراوي الشافعي المتوفى 1172 في كتابه الاتحاف بحب الأشراف باباً في ذلك المشهد الشريف- رأس الحسين عليه السلام- وذكر فيه زيارته وشطراً من الكرامات له منها: ان رجلًا يقال له شمس الدين القعويني كان ساكناً بالقرب من المشهد وكان معلَّم الكسوة الشريفة، حصل له ضرر في عينيه فكفّ بصره وكان كلّ يوم إذا صلّى الصبح في مشهد الإمام الحسين عليه السلام يقف على باب الضريح الشريف، ويقول:
ياسيدي أنا جارك قد كفّ بصري وأطلب من اللَّه بواسطتك أن يردّ
ص: 80
عليَّ ولو عيناً واحدة، فبينما هو نائم ذات ليلة إذ رأى جماعة أتوا إلى المشهد الشريف فسأل عنهم، فقيل له: هذا النبي صلى الله عليه و آله والصحابة معه جاؤا لزيارة الحسين عليه السلام، فدخل معهم ثم قال ما كان يقوله في اليقظة، فالتفت الحسين إلى جدّه صلى الله عليه و آله وذكر له ذلك على سبيل الشفاعة عنده في الرجل، فقال النّبي صلى الله عليه و آله للإمام علي عليه السلام: ياعلي كحِّله. فقال: سمعاً وطاعة وأبرز من يده مكحلة ومروداً وقال له: تقدّم حتى أُكحلك فتقدم فلوَّث المرود ووضعه في عينه اليمنى، فأحسَّ بحرقانٍ عظيم، فصرخ صرخة عظيمة فاستيقظ منها وهو يجد حرارة الكحل في عينه ففتحت عينه اليمنى فصار ينظر بها إلى أن مات» (1).
قال ابن حبان: «مات علي بن موسى الرضا بطوس من شربة سقاه إيّاها المأمون فمات من ساعته... وقبره بسناباذ خارج النوقان مشهور يزار.. قد زرتُهُ مراراً كثيراً، وما حلَّتْ بي شدّة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات اللَّه على جدّه وعليه، ودعوت اللَّه ازالتها عنّي إلّااستجيب لي وزالت عنّي تلك الشدّة، وهذا شي ء جرّبتهُ مراراً فوجدتُه كذلك، أماتنا اللَّه على محبّة المصطفى وأهل بيته صلّى اللَّه عليه وعليهم أجمعين» (2).
ص: 81
قالوا فيه: «انه الإمام العلّامة، الحافظ المجوّد شيخ خراسان، صاحب الكتب المشهورة ولد سنة بضعٍ وسبعين ومئتين. وكان على قضاء سمرقند زماناً، وكان من فقهاء الدين وحفّاظ الآثار... صنف المسند الصحيح يعني به: كتاب الأنواع والتقاسيم وكتاب التاريخ وكتاب الضعفاء، وفقَّه الناس بسمرقند.
وثّقه أبو بكر الخطيب وقال: كان ثقة نبيلًا فهماً.
كما مدحه الحاكم النيسابوري بقوله: كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال.. أقام عندنا بنيسابور..
وقُرى عليه جملة من مصنّفاته..» (1).
هل يمكن لابن تيمية وأتباعه رميه بالشرك والكفر والجاهلية!! لأنه كان يزور الرضا عليه السلام مراراً ويستغيث به؟!
قال محمد بن مؤمل (2): خرجنا مع إمام أهل الحديث ابي بكر بن
ص: 82
خزيمة وعديلة ابن علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا بطوس، قال: فرأيت من تعظيمه- يعني ابن خزيمة- لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرعه عندها ما تحيّرنا» (1).
قال الذهبي: إنّه شيخ الإسلام، إمام الأئمة، الحافظ، الحجة، الفقيه، صاحب التصانيف، ولد عام ثلاث وعشرين ومئتين، وعني في حداثته بالحديث والفقه حتى صار يُضرب به المثل في سَعة العلم والاتقان.
وقد حدّث عنه البخاري ومسلم في غير الصحيحين (2).
إن اللَّه ليدفع بالبلاء عن أهل هذه المدينة لمكان أبي بكر ابن خزيمة.
وقال الدارقطني: كان إماماً ثبتاً، معدوم النظير.
وقالوا عنه: إنّه رجلٌ يُحيي سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
وقالوا عنه: انه يستخرج النُكت من حديث رسول للَّه صلى الله عليه و آله بالمنقاش.
وكان هذا الإمام جِهبذاً بصيراً بالرجال. وكان له عظمة في النفوس وجلالة في القلوب لعلمه ودينه، واتّباعه السنّة (3).
ص: 83
وقال ابن أبي حاتم فيه: هو إمام يُقتدى به.
هل يتجرأ ابن تيمية أن يرمي ابن خزيمة بالكفر والشرك لمجرّد إستغاثته وتضرّعه بقبر الإمام الرضا عليه السلام؟!
وهل لابن تيمية أن يُبدي الرأي في أمثال ابن خزيمة؟!
1- قبر أبي أيوب الأنصاري المتوفى عام 52 بالروم:
قال الحاكم: يتعاهدون قبره ويزورونه ويستسقون به إذا قحطوا» (1).
2- قبر الإمام موسى بن جعفر عليه السلام:
عن شيخ الحنابلة- أبي علي الخلّال- ما همّني أمرٌ فقصدتُ قبرَ موسى بن جعفر فتوسلتُ به إلّاسهّل اللَّه تعالى لي ما أُحبُّ (2).
3- قبر أبي حنيفة:
«إن الإمام الشافعي أيّام كان هو ببغداد كان يتوسل بالإمام أبي حنيفة ويجي ء إلى ضريحه يزور فيسلّم عليه ثم يتوسل إلى اللَّه تعالى به في قضاء حاجاته.
وقال: قد ثبت ان الامام أحمد توسّل بالإمام الشافعي حتى تعجَّب ابنه عبداللَّه بن الامام أحمد، فقال له أبوه: إن الشافعي كالشمس للناس وكالعافية للبدن، ولمّا بلغ الإمام الشافعي: أن أهل المغرب
ص: 84
يتوسلون بالإمام مالك لم ينكر عليهم قال الشافعي: «اني لأتبرّك بأبي حنيفة وأجيئ إلى قبره كل يوم فإذا عرضت لي حاجة صلّيت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت اللَّه تعالى الحاجة عنده». (1) 4- التوسل بقبر أحمد بن حنبل:
حكى ابن الجوزي في مناقب أحمد، عن عبداللَّه بن موسى قال:
خرجتُ أنا وأبي في ليلة مظلمة نزور أحمد فاشتدت الظلمة فقال أبي:
يابني تعال نتوسل إلى اللَّه تعالى بهذا العبد الصالح حتى يضي ء لنا الطريق، فإني منذ ثلاثين سنة ما توسلت به إلّاقُضيت حاجتي، فدعا أبي وأمّنتُ على دعائه، فأضائت السماء كأنّها ليلة مقمرة حتى وصلنا إليه» (2).
5- قبر ابن فورك الاصبهاني المتوفي 406 ه
«دفن بالحيرة من نيسابور، ومشهده بها ظاهر يزار ويستسقى به وتجاب الدعوة عنده» (3).
أقول: هو محمد بن الحسن، شيخ المتكلمين، وكان اشعرياً، ولكن نسب الذهبي وابن حزم اليه ما لا يصدر من مسلم، ولو صدر كان في حدّ الارتداد (4).
ص: 85
6- قبر الشيخ أحمد بن علوان: ت 750 ه
قال اليافعي: «ومن كراماته ان ذرية الفقهاء الذين كانوا ينكرون عليه صاروا يلوذون عند النوائب بقبره ويستجيرون من خوف السلطان» (1).
7- الاستسقاء بقبر البخاري:
1- ومن جميل ما يذكره العلماء: ان سمرقند استسقت واستغاثت بقبر البخاري عام 464 ه يعني قبل ولادة ابن تيمية صاحب المزاعم بثلاثمائة سنة فعن السُبكي: «قُحط المطر عندنا بسمرقند في بعض الأعوام، فاستسقى الناس مراراً فلم يُسقوا، فأتى رجل صالح معروف بالصلاح إلى قاضي سَمرقند، فقال له: اني قد رأيت رأياً أعرضه عليك.
قال: وما هو؟ قال: أرى أن تخرج، ويخرج الناس معك إلى قبر الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، ونستسقي عنده، فعسى اللَّه أن يسقينا، فقال القاضي: نِعمَ ما رأيت. فخرج القاضي، والناس معه واستسقى القاضي بالناس، وبكى الناس عند القبر، وتشفعوا بصاحبه فأرسل اللَّه تعالى السماء بماء عظيم غزير، فقام الناس من أجله بخرتنك (2) سبعة أيام أو نحوها، لا يستطيع أحد الوصول إلى سمرقند، من كثرة المطر وغزارته، وبين سمرقند وخَرتَنك نحو ثلاثة أميال (3).
لعل ابن تيمية لم يطّلع على هذه الاستغاثة والاستشفاع، وإلا
ص: 86
لرماهم بالكفر والشرك. أو أن هذه القضية غير ثابتة عنده!!
كلام الإمام القيرواني المالكي المتوفى 737 ه في التوسل بالقبور:
قال في فصل زيارة القبور: اما عظيم جناب الأنبياء والرسل صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين فيأتي إليهم الزائر، ويتعيّن عليه قصدهم من الأماكن البعيدة فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطراب والخضوع، ويحضر قلبه وخاطره إليهم والى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره لأنهم لا يبلون ولا يتغيّرون، ثم يثني على اللَّه تعالى بما هو أهله ثم يصلّي عليهم... ثم يتوسل إلى اللَّه تعالى بهم في قضاء مآربه ومغفرة ذنوبه ويستغيث بهم ويطلب حوائجه منهم، ويجزم بأِلإجابة ببركتهم ويقوي حسن ظنّه في ذلك. فانّهم باب اللَّه المفتوح وجرت سنته سبحانه وتعالى بقضاء الحوائج على أيديهم وبسببهم. ومن عجز عن الوصول فليرسل بالسلام عليهم ويذكر ما يحتاج إليه من حوائجه ومغفرة ذنوبه وستر عيوبه فانّهم السادة الكرام والكرام لا يردّون من سألهم ولا من توسّل بهم ولا من قصدهم ولا من لجأ إليهم.
وامّا في زيارة سيّد الأوّلين والآخرين، فكل ما ذكر يزيد عليه أضعافه أعني من الانكسار والذل والمسكنة، لأنّه الشافع المشفع الذي لا تردُّ شفاعتهُ، ولا يخيّب من قصده ولا من نزل بساحته ولا من استعان أو استغاث به.. فمن توسل به، أو استغاث به، أو طلب حوائجه منه، فلا يُردُّ ولا يخيب لما شهدت به المعاينة والآثار..
ص: 87
فالتوسل به عليه الصلاة والسلام هو محل حط أحمال الأوزار وأثقال الذنوب والخطايا..» (1).
والحاصل أن هذه النصوص والشواهد التاريخية تدل على أن الاستغاثة بالميت والدعاء عند قبره والتوسل به كان أمراً شائعاً بين المسلمين على صعيد الخواص والعوام فهذا الإمام الشافعي يتوسل بأبي حنيفة في قضاء حاجاته. وذاك شيخ الحنابلة ما أهمّه أمر إلّاتوسّل بقبر الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، وثالث هو الإمام أحمد يتوسل بالإمام الشافعي في قضاء حوائجه، وهذان ابن خزيمة وابن حبّان يتوسّلان بقبر الإمام الرضا عليه السلام ويستغيثانه في إنجاز الحوائج وهؤلاء أهالي سمرقند يستسقون بقبر البخاري. وهذه عائشة تأمر المسلمين بأن يستغيثوا بقبر النبي صلى الله عليه و آله للاستسقاء. فهذه شخصيات من الصحابة، وأكابر أهل السنّة من الفقهاء وغيرهم؛ يستغيثون بقبور الأنبياء والصحابة والأولياء والصالحين!! فهل يتجرأ ابن تيمية التقول عليهم بأنّهم مشركون، كفّار!!؟
ولقد أجاد وأفاد الشيخ سلامة العزامي حيث قال:
«لقد تعدّى هذا الرجل- ابن تيمية- حتى على الجناب المحمّدي فقال: إنَّ شدّ الرحال إلى زيارته معصية، وانّ من ناداه مستغيثاً به عليه الصلاة والسلام بعد وفاته فقد أشرك فتارة يجعله شركاً أصغر، واخرى يجعله شركاً أكبر. وإن كان المستغيث ممتلئ القلب بأنّه لا
ص: 88
خالق ولا مؤثِّر إلّااللَّه، وإنّ النبي صلى الله عليه و آله انّما ترفع إليه الحوائج ويستغاث به، على ان اللَّه جعله منبع كل خير، مقبول الشفاعة مستجاب الدعاء، كما هي عقيدة جميع المسلمين مهما كانوا من العامة» (1).
ص: 89
«اتفق الجماعة من علماء سلف هذه الامّة من أئمّة المحدِّثين والصوفية والعلماء باللَّه المحقّقين. قال محمد بن المنكدر: أودع رجل أبي ثمانين ديناراً وخرج للجهاد، وقال لأبي: إن احتجت أَنفقها إلى أن أعود.
وأصاب الناس جهدٌ من الغلاء، فأنفق أبي الدنانير، فقدم الرجل وطلب ماله، فقال له أبي: عُد إليَّ غداً، وبات في المسجد يلوذ بقبر النبيّ صلى الله عليه و آله مرّة وبمنبره مرّة، حتّى كاد أن يصبح، يستغيث بقبر النبيّ صلى الله عليه و آله
ص: 90
فبينما هو كذلك وإذا بشخص في الظلام يقول: دونكها يا أبا محمد، فمدَّ أبي يده فإذا هو بصُرّةٍ فيها ثمانون ديناراً، فلما أصبح جاء الرجل فدفعها إليه» (1).
«قال الإمام أبو بكر بن المقري (2): كنت أنا والطبراني وأبو الشيخ في حرم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكنّا على حالته، وأثَّر فينا الجوع، وواصلنا ذلك اليوم، فلما كان وقت العشاء حضرتُ قبر النبي صلى الله عليه و آله فقلت: يارسول اللَّه الجوع، وانصرفتُ، فقال لي أبو القاسم: اجلس فأما أن يكون الرزق أو الموت، قال أبو بكر: فقمتُ أنا وأبو الشيخ؛ والطبراني جالس ينظر في شي ء، فحضر بالباب علوي، فدقَّ ففتحنا له، فإذا معه غلامان مع كل واحد زنبيل فيه شي ء كثير فجلسنا وأكلنا وظننا أن الباقي يأخذه الغلام، فولّى وترك عندنا الباقي، فلما فرغنا من الطعام قال العلوي: ياقوم أشكوتم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ فإنّي رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المنام فأمرني أن أحمل بشي ء إليكم (3).
«وقال ابن الجلاد: دخلتُ مدينة النبيّ صلى الله عليه و آله وبي فاقة، فتقدّمت إلى
ص: 91
القبر وقلت: ضيفك، فغفوتُ فرأيت النبيّ صلى الله عليه و آله فأعطاني رغيفاً، فأكلتُ نصفه، وانتبهت وبيدي النصف الآخر (1).
«قال أبو عبداللَّه محمد بن أبي زرعة الصوفي: سافرت مع أبي ومع أبي عبداللَّه بن خفيف إلى مكة، فأصابتنا فاقة شديدة، فدخلنا مدينة الرسول صلى الله عليه و آله، وبتنا طاوِين، وكنتُ دون البلوغ، فكنتُ أجيئ إلى أبي غير دفعة وأقول: أنا جائع، فأتى أبي الحظيرة وقال: يارسول اللَّه أنا ضيفك الليلة، وجلس على المراقبة، فلما كان بعد ساعة رفع رأسه وكان يبكي ساعة ويضحك ساعة، فسئل عنه فقال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فوضع في يدي دراهم، وفتح يده، فإذا فيها دراهم، وبارك اللَّه فيها إلى أن رجعنا إلى شيراز، وكنّا ننفق منها (2).
«وسمعت الشيخ أبا عبداللَّه محمد بن أبي الأمان يقول: كنت بمدينة النبيّ صلى الله عليه و آله خلف محراب فاطمة عليها السلام وكان الشريف مكثر القاسمي قائماً خلف المحراب المذكور، فانتبه فجاء إلى النبي صلى الله عليه و آله وعاد علينا متبسّماً، فقال له شمس الدين صواب خادم الضريح النبوي: فيمَ تبسمت؟ فقال:
ص: 92
كانت بي فاقة، فخرجت من بيتي فأتيت بيت فاطمة عليها السلام فاستغثت بالنبي صلى الله عليه و آله وقلت: إنّي جائع، فنمتُ فرأيت النبي صلى الله عليه و آله فأعطاني قدح لبن فشربت حتى رويت..» (1).
«عن أبي إسحاق إبراهيم بن سعيد: كنت بمدينة النبيّ صلى الله عليه و آله ومعي ثلاثة من الفقراء فأصابتنا فاقة، فجئت إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فقلت:
يارسول اللَّه ليس لنا شي ء. ويكفينا ثلاثة أمداد من أي شي ء كان.
فتلقاني رجل فدفع إليَّ ثلاثة أمداد من التمر الطيّب» (2).
«وسمعتُ الشريف أبا محمد عبد السلام بن عبدالرحمن الحسيني الفاسي يقول: أقمتُ بمدينة النبي صلى الله عليه و آله ثلاثة أيام لم أستطعم فيها، فأتيتُ عند منبره صلى الله عليه و آله فركعت ركعتين وقلت: ياجدّي جعت وأتمنى عليك ثردة، ثم غلبتني عيني فنمت، فبينا أنا نائم وإذا برجل يوقظني، فانتبهت فرأيت معه قدحاً من خشب وفيه ثريد وسمن ولحم وأفاويه، فقال لي: كُلْ، فقلت له: من أين هذا؟ فقال: إنّ صغاري لهم ثلاثة أيام يتمنّون هذا الطعام، فلما كان اليوم، فتح اللَّه لي بشي ء عملت به هذا، ثم
ص: 93
نمت فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في النوم وهو يقول: ان أحد إخوانك تمنّى عليَّ هذا الطعام فأطعمه منه» (1).
«سمعت عبداللَّه بن الحسن الدمياطي يقول: حكى لي الشيخ الصالح عبدالقادر التنيسي بثغر دمياط قال:.. دخلت مدينة النبيّ صلى الله عليه و آله وسلّمت على النبي صلى الله عليه و آله وشكوت له ضرري من الجوع، واشتهيت عليه الطعام من البر واللحم والتمر، وتقدّمت بعد الزيارة للروضة فصلّيت فيها، وبتّ فيها، فإذا شخص يوقظني من النوم، فانتبهتُ ومضيتُ معه، وكان شابّاً جميلًا خَلْقاً وخُلقاً، فقدَّم إليَّ جفنة ثريد وعليها شاة وأطباق من أنواع التمر صيحاني وغيره وخبزاً كثيراً من جملته خبز أقراص سويق النبق، فأكلتُ فملأ لي جرابي لحماً وخبزاً وتمراً، وقال:
كنت نائماً بعد صلاة الضحى فرأيت النبي صلى الله عليه و آله في المنام وأمرني أن أفعل لك هذا، ودلَّني عليك، وعرّفني مكانك بالروضة، وقال لي: إنّك اشتهيت هذا وأردته» (2).
9- أضاف المؤلِّف- صاحب كتاب مصباح الظلام- بعد نقل هذه القصص من التوسّلات والاستغاثات بالنبيّ الكريم صلى الله عليه و آله: «إنّه قد وقع في كثير ممّا ذكر وأمثاله أن الذي يأمره صلى الله عليه و آله في ذلك انّما يكون من الذريّة
ص: 94
الشريفة، لاسيما إذا كان المتناوَل طعاماً، لأن من تمام جميل أخلاق الكرام إذا سئلوا القِرَى البداءة بأنفسهم ثم بمن يكون منهم، فاقتضى خُلُقه الكريم أن إعطاء سائل القِرى يكون منه ومن ذرّيته الكريمة» (1).
ثم بعد هذه المجموعة من قصص من شخصيات كالطبراني وابن المقرئ وابن المنكدر وغيرهم هل يبقى مجال لابن تيمية أن يدعى ان التوسل والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه و آله شرك؟!!
وهل مؤلّف كتاب مصباح الظلام مشرك، وهل جمع في كتابه هذا:
الكفريات والشرك!
وهل يتجرأ ابن تيمية ومن تبعه أن يرمي المؤلِّف البلنسي بالشرك، وهو الحافظ الكبير الثقة- كما قاله ابن عماد والبصير بالحديث والمتقدّم على أهل زمانه كما قاله الأبار، والإمام المبرز في فنون المعقول والمنقول كما قاله ابن مسدي. والإمام العلّامة الحافظ شيخ الحديث كما قاله الذهبي. فهل يُصغى إلى مزاعم ابن تيمية بعد هذا؟
إنّ السمهودي بعد أن أورد قصصاً عن توسل المحدّثين والفقهاء بقبر النبي صلى الله عليه و آله- نقلًا عن كتاب مصباح الظلام- قال: «والحكايات في هذا الباب كثيرة، بل وقع لي شي ء منها: أني كنت بالمسجد النبوي عند قدوم الحاج المصري للزيارة، وفي يدي مفتاح الخلوة التي فيها كتبي
ص: 95
بالمسجد، فمرّ بي بعض علماء المصريين ممّن كان يقرأ على بعض مشايخي، فسلّمت عليه، فسألني أن أمشي معه إلى الروضة الشريفة، وأقف معه بين يدي النبي صلى الله عليه و آله ففعلت، ثم رجعت فلم أجد المفتاح، وتطلّبتُهُ في الأماكن التي مشيت إليها فلم أجده، وشقّ عليَّ ذهابه في ذلك الوقت الضيّق مع حاجتي إليه، فجئت إلى النبي صلى الله عليه و آله وقلت:
ياسيدي يارسول اللَّه ذهب مفتاح الخلوة، وأنا محتاج إليه وأريده من بابك، ثم رجعت فرأيت شخصاً قاصداً الخلوة، فظننتهُ بعض من أعرفه، فمشيت إليه، فلم أجده إيّاه، ووجدت صغيراً لا أعرفه بقرب الخلوة بيده المفتاح، فقلت له: من أين لك هذا؟ فقال: وجدتُهُ عند الوجه الشريف، فأخذتُه منه وغير ذلك مما يطول ذكره» (1).
ص: 96
صفحه سفيد
ص: 97
زيارة القبور
1- رأي ابن تيمية في زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله
2- مناقشة المدعى
3- الأحاديث والزيارة
4- سيرة الصحابة في الزيارة
5- حديث شد الرحال
6- موقف السنّة من مزاعم ابن تيمية
7- زيارة القبور والمشاهد
8- أحاديث في زيارة المشاهد
9- سيرة الصحابة والتابعين
10- القبور المقصودة بالزيارة
11- رأي فقهاء السنّة في زيارة القبور
12- زيارة النبيّ صلى الله عليه و آله قبر امّه
13- الشي ء يذكر بالشي ء
ص: 98
ص: 99
منع ابن تيمية من زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله وحرمها مطلقاً مع شدِّ الرحال أو بدونه، فضلًا عن زيارة قبر غيره، حكى ذلك عنه القسطلاني (1) وابن حجر في الجوهر المنظم (2).
وقال: بل زعم حرمة السفر إليها إجماعاً وانّه لا تقصر فيه الصلاة.
إن الزيارة أمرٌ مشروع بالأدلّة الأربعة:
أمّا الكتاب: فقوله تعالى: ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك
ص: 100
فاستغفروا اللَّه واستغفر لهم الرسول لوجدوا اللَّه توّاباً رحيماً (1).
فإنّ الزيارة هي الحضور الذي هو عبارة عن المجي ء إليه سواء كان لطلب الاستغفار أو بدونه.
وإذا ثبت رجحان ذلك في حياته، ثبت بعد مماته، أيضاً لما دلَّ على حياته البرزخية وسماعه وردّه السلام على من يسلِّم عليه وعرض الأعمال عليه.
1- فعن القسطلاني: ليس من يوم إلّاويعرض على النبي أعمال امّته غدوة وعشية، فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم، فكذلك يشهد عليهم» (2).
وروى ابن زرعة العراقي: عن ابن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ووفاتي خيرٌ لكم تعرض عليَّ أعمالكم فما رأيت من خير حمدتُ اللَّه عليه وما رأيت من شرّ استغفرت اللَّه لكم» (3).
2- قال السبكي- فيما حكاه عنه السمهودي: «والعلماء فهموا من الآية العموم لحالتي الموت والحياة، واستحبّوا لمن أتى القبر أن يتلوها» (4).
3- وحكاية الأعرابي أيضاً تدلّ على الحياة البرزخية
ص: 101
لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهذه الحكاية أوردها المصنّفون في المناسك من جميع المذاهب واستحسنوها ورأوها من أدب الزائر وهي: كما عن ابن عساكر عن محمد بن حرب (1) قال: دخلت المدينة فأتيتُ قبر النبي صلى الله عليه و آله فزرتُهُ وجلست بحذائه فجاء أعرابي فزاره ثم قال: ياخير الرُسل إن اللَّه أنزل عليك كتاباً صادقاً فقال: ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم... وقد ظلمتُ وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر: قد غفر لك.
وقد نقلها السمهودي بطريقين عن علي بن أبي طالب عليه السلام (2).
فقد وردت أحاديث كثيرة وبطرق عديدة على اختلاف مضامينها وفيما يلي نماذج منها:
الحديث الأوّل: عن النبي صلى الله عليه و آله: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» (3)، ولهذا الحديث أربعون مصدراً من كتب السنّة ومؤلفوها من الحفّاظ وأئمّة الحديث منهم:
ص: 102
1- عبيد بن محمد الورّاق النيسابوري ت 255 ه.
2- ابن أبي الدنيا أبو بكر القرشي ت 281 ه.
3- الدولابي الرازي في الكنى والأسماء ت 310 ه.
4- ابن خزيمة في صحيحه ت 311 ه.
5- أبو جعفر العقيلي في كتابه ت 322 ه.
6- أبو أحمد بن عدي في الكامل ت 360 ه.
7- الدارقطني في السنن ت 385 ه.
8- الماوردي في الأحكام السلطانية ت 450 ه.
9- القاضي عياض المالكي في الشفا ت 544 ه.
10- ابن عساكر في تاريخه: باب من زار قبره (1). ت 571 ه.
11- السُبكي الشافعي في شفاء السقام ت 756 ه (2).
قال العلّامة اللكنوي: «وقد زلّ قدمُ من احتج على ضعف حديث من زار قبري وجبت له شفاعتي.. وإن شئت زيادة التفصيل في هذا البحث الجليل فارجع إلى رسائلي في بحث زيارة القبر النبوي، إحداها:
الكلام المبرم في نقض القول المحقق المحكم، ثانيتها: الكلام المبرور في ردّ القول المنصور، وثالثتها: السعي المشكور في ردّ المذهب المأثور» ألّفتها ردّاً على رسائل من حجّ ولم يزر قبر النبي صلى الله عليه و آله العربي في كل بكرة وعشى» (3).
ص: 103
أقول: إن رواة هذا الحديث إلى موسى بن هلال كلّهم ثقات لا ريبة فيهم.
وامّا موسى بن هلال: فقال ابن عدي: ارجو أنه لا بأس به وهو من مشايخ أحمد، وأحمد لم يكن يروي إلّاعن ثقة (1). كما صرّح الخصم بذلك في الرد على البكري (2).
وقد ذكر السبكي شواهد لقوّة سنده، وقال: وبذلك تبيّن أن أقلّ درجات هذا الحديث أن يكون حسناً إن نوزع في دعوى صحّته.
إلى أن قال: وبهذا بل بأقل منه يتبيّن افتراء من ادعى: ان جميع الأحاديث الواردة في الزيارة موضوعة، فسبحان اللَّه أما إستحى من اللَّه ومن رسوله في هذه المقالة التي لم يسبقه إليها عالم ولا جاهل، لا من أهل الحديث ولا من غيرهم! ولا ذكر أحدٌ موسى بن هلال ولا غيره من رواة حديثه هذا بالوضع ولا اتهمه به فيما علمنا، فكيف يستجيز مسلمٌ أن يطلق على كل الأحاديث التي هذا واحد منها أنها موضوعة (3)؟!
الحديث الثاني: عن ابن عمر مرفوعاً: «من جاءني زائراً لا تعمله- لا تحمله- إلّازيارتي كان حقّاً عليَّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة».
ولهذا الحديث ستّة عشر مصدراً ونكتفي بذكر بعضها:
ص: 104
1- الطبراني ت 360 ه في المعجم الكبير.
2- الحافظبن السكن البغدادي ت 353 ه في كتابه: السنن الصحاح.
3- الدارقطني في أماليه. ت 385 ه.
4- أبو نعيم الاصبهاني ت 430 ه.
5- أبو حامد الغزالي الشافعي في إحياء العلوم ت 505 ه (1).
الحديث الثالث: عن ابن عمر مرفوعاً: «من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي» (2).
ولهذا الحديث خمسة وعشرون مصدراً من كتب السنّة، وفيما يلي بعضها:
1- الشيباني ت 303 ه.
2- أبو يعلي ت 307 ه في مسنده.
3- البغوي ت 317 ه.
4- ابن عدي ت 365 ه في الكامل.
5- البيهقي ت 458 ه في السنن «3».
6- ابن عساكر ت 571 ه في تاريخه.
ص: 105
الحديث الرابع: عن عبداللَّه بن عمر، مرفوعاً:
«من حجَّ البيت ولم يزرني فقد جفاني».
نقل هذا الحديث كثيرٌ من الحفّاظ (1)، منهم:
1- السمهودي ت 911 ه في وفاء الوفاء.
2- الدارقطني ت 385 في كتابه أحاديث مالك التي ليست في الموطا.
3- القسطلاني ت 923 ه في المواهب اللدنية.
الحديث الخامس: مرفوعاً، «لا عذر لمن كان له سعة من امّتي ولم يزرني» (2).
فعل الصحابة:
1- ان عمر بن الخطاب لمّا قدم المدينة من فتوح الشام، كان أوّل ما بدأ بالمسجد، سلَّم على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (3).
2- إنّ ابن عمر كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه و آله فقال:
السلام عليك يارسول اللَّه صلى الله عليه و آله السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه (4).
ص: 106
3- إن ابن عمر كان يقف على قبر النبي، فيصلّي (فيسلّم) على النبي (1).
4- عن ابن عون: سأل رجل نافعاً: هل كان ابن عمر يُسلِّم على القبر؟ قال: نعم، لقد رأيتهُ مائة مرّة أو أكثر من مائة كان يأتي القبر، فيقوم عنده، فيقول: السلام على النبي صلى الله عليه و آله (2).
5- عن أبي حنيفة، عن ابن عمر: من السنّة أن تأتي قبر النبي صلى الله عليه و آله من قِبل القبلة، وتجعل ظهرك إلى القبلة وتستقبل القبر بوجهك ثم تقول:...
هذا وقد جمع العلّامة الأميني أكثر من أربعين قولًا لعلماء السنّة وفقهائهم في استحباب زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله وآداب زيارته (3).
وأمّا العقل:
فان العقل يحكم بحسن تعظيم من عظّمه اللَّه تعالى (هذا من حيث الكبرى) والزيارة نوع من التعظيم (وهذا من حيث الصغرى).
والنتيجة أن تعظيمه صلى الله عليه و آله بالزيارة تعظيم لشعائر اللَّه، وارغام لأُنوف أعدائه ومخالفيه.
حاول ابن تيمية التشنيع على الإمامية بأنّهم «يحجّون إلى المشاهد
ص: 107
كما يحج الحاج إلى البيت العتيق، كأن زيارة المشاهد خاصة بالإمامية دون سائر المذاهب الإسلامية الاخرى!
وابن عبدالوهاب يزعم حرمة شدّ الرحال إلى المشاهد المشرّفة وإلى قبر النبي صلى الله عليه و آله، وحرمة السفر بالقصد إلى هذه المشاهد، حيث يقول: «يُسَنّ زيارة النبيّ صلى الله عليه و آله إلّاأنّه لا تُشَدُّ الرحال إلّاإلى ثلاثة:
المسجد الحرام ومسجدي ومسجد الأقصى» (1).
فهو يرى حرمة السفر بقصد زيارة القبور استناداً إلى هذا الحديث.
مناقشة هذا المدّعى:
أولًا ان الحصر هنا إضافي لا حقيقي يعني بالنسبة إلى سائر المساجد لا يشد الرحال إلّاإلى هذه المساجد، وذلك لأن المستثنى منه لم يذكر، أي- أنَّ الاستثناء مفرَّغ- فكما يحتمل تقدير «المكان، والموضع» في المستثنى منه، يمكن تقدير «المسجد» فيكون معنى الرواية لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد إلّاإلى هذه الثلاثة؛ وهذا التقدير هو المتعيّن لأنه المتبادر والظاهر من الحديث عرفاً. وعليه فلا ربط للحديث بحرمة شدّ الرحال إلى المشاهد المشرّفة والمقابر.
قال القسطلاني: «الاستثناء مفرغ والتقدير لا تُشَد الرحال إلى موضع، ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها كزيارة صالح أو قريب أو صاحب، أو طلب علم، أو تجارة أو نزهة، لأن المستثنى منه في
ص: 108
المفرغ يقدّر بأعم العام. لكن المراد بالعموم هنا الموضع المخصوص وهو المسجد» (1).
ثانياً: مما لا كلام فيه: هو الإجماع والاتفاق على جواز السفر وشدِّ الرحال إلى أي مكان كان للتجارة أو طلب العلم، أو الجهاد، أو زيارة العلماء، أو النزهة، أو غير ذلك، فلو كان المستثنى منه في الحديث هو غير المسجد، بل المكان أو «الموضع» للزم عدم جواز شدِّ الرحال إلى هذه الجهات المذكورة، وهذا خلاف المتفق والمجمع عليه. فلابدّ من القول: بأن المستثنى منه في الحديث: هو المسجد يعني لايقصد بالسفر إلى المسجد إلّاالمساجد الثلاثة.
وحينئذٍ: لايدلّ الحديث، بل ولا إشارة فيه على حرمة شدِّ الرحال إلى المشاهد وخصوصاً قبر النبيّ صلى الله عليه و آله وزيارته.
ثالثاً: إن مضمون هذا الحديث غير معمول به حتى على فرض جعل المستثنى منه «المسجد» إذ معناه حينئذٍ عدم جواز شد الرحال إلى أي مسجد إلّاهذه المساجد الثلاثة، واما غيرها من المساجد فلايجوز السفر إليها.
والحال: ان النصوص تصرِّح بأن النبي صلى الله عليه و آله والصحابة كانوا يذهبون كل سبت إلى مسجد قبا، وبينه وبين المدينة ثلاثة أميال، مع ان «قبا» ليس من المساجد الثلاثة فلابد من الالتزام بحرمة الذهاب إليها، مع انّه لم يتفوّه به مسلم.
ص: 109
فعن ابن عمر: «كان النبي يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً، وكان عبداللَّه يفعله» (1).
رابعاً: إن بلالًا شدَّ الرحال لزيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله
روى ابن عساكر: «لما رحل عمر من فتح بيت المقدس، فصار إلى جابية سأله بلال أن يقرَّه بالشام ففعل. قال: ثم إن بلالًا رأى في منامه النبي صلى الله عليه و آله وهو يقول: ما هذه الجفوة يابلال، أما آن لك أن تزورني يابلال.
فانتبه حزيناً وجِلًا، خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه و آله فجعل يبكي عنده ويُمرِّغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين فجعل يضمّهما ويقبلهما، فقالا له: يابلال نشتهي أن نسمع اذانك، فلما قال: اللَّه أكبر، ارتجّت المدينة، فلما قال: أشهد أن لا إله إلّا اللَّه ازدادت رجّتها فلما قال: أشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه خرجت العواتق من خدورهن وقالوا: بُعِثَ رسول اللَّه، فما رؤيَ بالمدينة بعده صلى الله عليه و آله أكثر باكياً وباكية من ذلك اليوم» (2).
قال الحافظ عبد الغني وغيره: لم يؤذِّن بلال بعد النبي صلى الله عليه و آله إلّامرّة واحدة في قدومه المدينة لزيارة النبي صلى الله عليه و آله (3).
قال السُبكي: ليس اعتمادنا على رؤيا المنام فقط، بل اعتمادنا على
ص: 110
فعل بلال سيما في خلافة عمر، والصحابة متوافرون، ولا تخفى عنهم هذه القصة، ورؤيا بلال النبي صلى الله عليه و آله مؤكدة لذلك (1).
وفي فتوح الشام: إن عمر لما صالح أهل بيت المقدس وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم وفرح بإسلامه قال له: هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي صلى الله عليه و آله وتتمتّع بزيارته؟ فقال: نعم أنا أفعل ذلك، ولما قدم عمر المدينة كان أوّل ما بدأ بالمسجد وسلّم على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (2).
خامساً: استفاض عن عمر بن عبدالعزيز انّه كان يبرد البريد من الشام، يقول: سلِّم لي على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (3).
1- قال القسطلاني: «قول ابن تيمية حيث منع من زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله وهو من أبشع المسائل المنقولة عنه» (4).
2- النابلسي: «وليس هذا بأول ورطة وقع فيها ابن تيمية وأتباعه فانه جعل شدَّ الرحال الى بيت المقدس معصية... ونهى عن التوسل بالنبي صلى الله عليه و آله الى اللَّه تعالى وبغيره من الأولياء.. الى غير ذلك من التهورات الفظيعة الموجبة لكمال القطيعة التي استوفاها الحصني في
ص: 111
كتاب مستقل في الردّ على ابن تيمية واتباعه وصرَّح فيه بكفره» (1).
3- وقال الغزالي: «كل من تبرّك بمشاهدته في حياته يتبرّك بزيارته بعد موته، ويجوز شدُّ الرحال لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله: لاتشدّ الرحال إلّاعلى ثلاثة مساجد» (2).
4- العزامي الشافعي: «ولقد تعدى هذا الرجل حتى على الجناب المحمّدي فقال: إنَّ شدَّ الرِّحال إلى زيارته معصية...» (3).
5- الهيثمي الشافعي: فانّه بعدما استدلَّ على مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله بعدّة أدلّة، منها الإجماع. قال: فإن قلت: كيف تحكي الإجماع على مشروعية الزيارة والسفر إليها وطلبها، وابن تيمية من متأخّري الحنابلة منكرٌ لمشروعية ذلك كلّه، رآه السُبكي في خطّه؟! وقد أطال ابن تيمية الاستدلال لذلك بما تمجُّهُ الأسماع، وتنفر عنه الطباع، بل زعم حرمةالسفر إليها إجماعاً، وأنه لاتقصر فيه الصلاة. وأن جميع الأحاديث الواردة فيها موضوعة، وتبعُه بعض من تأخَّر عنه من أهل مذهبه.
قلت: من هو ابن تيمية حتى ينظر إليه أو يُعوَّل في شي ء من أمور الدين عليه؟! وهل هو إلّاكما قال جماعة من الائمة الذين تعقّبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة، حتى أظهروا سخف سقطاته وقبائح أوهامه وغلطاته...» (4).
ص: 112
والحاصل ان الأحاديث التي أوردها الحفاظ والمحدِّثون من السّنة، البالغة حدّ الاستفاضة بل البالغة درجة التواتر، وكذلك فعل الصحابة، وزيارة بلال قبر النبي صلى الله عليه و آله وشدّه الرحال إلى الزيارة بمرأى ومسمع الصحابة وعدم اعتراضهم عليه، وكذلك دعوة الخليفة عمر بن الخطاب كعب الاحبار لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله وعدم اعتراض الصحابة في ذلك. تُعد أقوى حجّة وأسمى دليل على جواز شدّ الرحال إلى المشاهد المشرّفة سيّما قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، بل تدل على الرجحان والاستحباب إذ في بعضها ورد الأمر بالزيارة وهو للندب عند الجمهور. وللوجوب عند ابن حزم، ولو مرّة واحدة في العمر (1).
6- الشيخ أحمد القسطلاني: «إعلم أن زيارة قبره الشريف من أعظم القربات، وأرجى الطاعات، والسبيل الى أعلى الدرجات، ومن إعتقد غير هذا فقد إنخلع من ربقة الإسلام، وخالف اللَّهَ ورسوله وجماعة العلماء الأعلام وقال ايضاً لابن تيمية هنا كلام شنيع عجيب يتضمن منع شدّ الرحال للزيارة...» (2).
هذا كلّه بالنسبة إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله، وأمّا زيارة سائر القبور وشدُّ الرحال إليها، فكذلك ممّا لا كلام في مشروعيتها أيضاً وقد حثّ النبيّ الكريم على زيارتها ورغّب المسلمين في ذلك، كما قام هو بزيارة
ص: 113
القبور، وزيارة قبر امّه آمنة بنت وهب رضي اللَّه عنها، كما ثبت ذلك أيضاً من سيرة المسلمين ودأبهم على زيارة قبور المسلمين.
1- سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و آله: نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها (1).
قال الشيخ منصور: فزوروها والأمر للندب عند الجمهور، وللوجوب عند ابن حزم ولو مرّة واحدة في العمر (2).
2- عن النبي صلى الله عليه و آله: كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمّد في زيارة قبر امّه، فزوروها فانّها تذكِّر الآخرة.
رواه الخمسة إلّاالبخاري واللفظ للترمذي.
قال: والميّت يأنس بالزائر وينتفع بالدعاء والقرآن وما تسمح به الحال من صدقة، وهذه هي حكمة الزيارة (3).
3- عن النبي صلى الله عليه و آله: نهيتكم عن زيارة القبور ثم بدا لي (4).
4- عن النبي صلى الله عليه و آله: إئتوا موتاكم فسلِّموا عليهم، أو- صلّوا- شك فإنَّ بهم عبرة (5).
ص: 114
5- كان النبي يأتي قبور الشهداء، عند رأس الحول فيقول:
السلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار، وجاءها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، فلما قدم معاوية حاجّاً جاءهم، قال: وكان النبي صلى الله عليه و آله إذا واجه الشِّعب، قال: سلام عليكم بما صبرتم (1).
6- عن عائشة: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كلّما كانت ليلتين يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وآتاكم ما توعدون غداً مؤجلون وإنّا إن شاء اللَّه بكم لاحقون اللهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد (2).
7- عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و آله: ألا فزوروا القبور فانّها تزهِّد في الدنيا وتذكِّر الآخرة (3).
8- عن أنس عن النبي صلى الله عليه و آله: نهيتكم عن زيارة القبور فزورها فأنَّها تذكِّركم الموت (4).
9- عن النبي: إني نهيتكم عن زيارة القبور، فمن شاء منكم أن يزور قبراً فليزره فانّه يرق القلب ويدمع العين ويذكِّر الآخرة (5).
10- طلحة بن عبداللَّه: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يريد قبور
ص: 115
الشهداء فلما جئنا قبور الشهداء، قال: هذه قبور إخواننا (1).
11- عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه و آله ان جبرئيل أتاني... فقال إن ربّك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم» (2)
1- عن أبي جعفر عليه السلام: ان فاطمة بنت رسول اللَّه كانت تزور قبر حمزة رضي اللَّه تعالى عنه، ترمّهُ وتصلحه وقد تعلَّمته بحجر (3).
2- روى رزين عنه أن فاطمة- رضي اللَّه عنها- كانت تزور قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة (4).
3- رواه يحيى بنحوه عن أبي جعفر عليه السلام عن علي بن الحسين عليه السلام وزاد: فتصلي هناك وتدعو وتبكي حتى ماتت (5).
4- عن علي عليه السلام: إنّ فاطمة كانت تزور قبر عمّها حمزة كل جمعة فتصلّي وتبكي عنده (6).
5- ابن أبي مليكة: رأيت عائشة تزور قبر أخيها عبدالرحمن
ص: 116
ومات بالحبشي وقُبر بمكة (1).
6- وقال: إن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابرفقلت لها أليس كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم كان نهى ثم أمر بزيارتها (2).
7- روى البيهقي عن هاشم بن محمد العمري من ولد عمر بن علي قال: أخذني أبي بالمدينة إلى زيارة قبور الشهداء في يوم جمعة بين الفجر والشمس، فكنت أمشي خلفه فلما انتهى إلى المقابر رفع صوته، فقال: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. قال: فاجيب وعليك السلام يا أبا عبداللَّه، فالتفت أبي إليَّ فقال: أنت المجيب؟ فقلت: لا، فجعلني عن يمينه ثم أعاد السلام، ثم جعل كلّما سلم يُرَّد عليه، حتى فعل ذلك ثلاث مرّات. فخرَّ ساجداً شكراً للَّه (3).
8- عن يحيى عن العطاف قال: حدّثتني خالة لي، وكانت من العوابد قالت: ركبت يوماً معي غلام حتى جئت إلى قبر حمزة، فصلّيت ماشاء اللَّه ولا واللَّه ما في الوادي داع ولا مجيب يتحرّك وغلامي قائم آخذ برأس دابتي. فلما فرغت من صلاتي قمت فقلت: السلام عليكم، وأشرت بيدي فسمعت ردّ السلام عليَّ من تحت الأرض، أعرفه كما أعرف أن اللَّه خلقني وأقشعرت كل شعرة منّي، فدعوت الغلام، فقلت:
هات دابتي فركبت (4).
ص: 117
هناك قبور للصحابة وغيرهم من الصالحين والمؤمنين، جرت سيرة المسلمين قديماً وإلى يومنا هذا في زيارتها والتوسّل والتبرّك بها..
وفيما يلي نبذة منها:
1- قبر بلال بن حمامة الحبشي، مؤذِّن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المتوفى عام 20 ه بدمشق، وفي رأس القبر تاريخ باسمه، والدعاء في هذا الموضع المبارك مستجاب، قد جرّب ذلك كثير من الأولياء وأهل الخير المتبرّكين بزيارتهم (1).
2- قبر سلمان الفارسي المتوفّى عام 36 ه.
قال الخطيب البغدادي: قبره الآن ظاهر معروف بقرب أيوان كسرى، عليه بناء وهناك خادم مقيم لحفظ الموضع وعمارته والنظر في أمر مصالحه، وقد رأيت الموضع وزرتُه غير مرّة (2).
وقال ابن الجوزي: قال القلانسي وسمنون: زرنا قبر سلمان وانصرفنا (3).
3- قبر أبي أيوب الأنصاري المتوفّى عام 52 بالروم.
قال الحاكم: يتعاهدون قبره و يزورونه و يستسقون به إذا قحطوا (4).
4- مشهد رأس الحسين عليه السلام بمصر
ص: 118
قال ابن جبير المتوفّى عام 614 ه: «هو في تابوت فضّة مدفون تحت الأرض قد بني عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه، ولا يحيط الإدراك به.. ومن أعجب ما شاهدناه في دخولنا إلى هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل، شديد السواد والبصيص، يصف الأشخاص كلّها كأنّه المرآة الهندية.. وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك، وإحداقهم به وانكبابهم عليه وتمسّحهم بالكسوة التي عليه، وطوافهم حوله، مزدحمين داعين باكين متوسّلين إلى اللَّه سبحانه ببركة التربة المقدّسة، ومتضرّعين بما يذيب الأكباد، ويصدع الجماد والأمر فيه أعظم ومرأى الحال أهول، نفعنا اللَّه ببركة ذلك المشهد الكريم.. (1).
5- قبر عمر بن عبدالعزيز الأموي المتوفى 101 ه
وقبره بدير سمعان (2) يزار (3).
6- الإمام موسى بن جعفر عليه السلام المدفون بالكاظمية، الشهيد عام 183 ه.
قال الخطيب... سمعت الحسن بن إبراهيم- شيخ الحنابلة في عصره- يقول: ما همّني أمرٌ فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسّلت به إلّا سهّل اللَّه تعالى لي ما أحبّ (4).
ص: 119
قال ابن عماد: «توفى ببغداد أبو جعفر محمد الجواد.. ودفن عند جدّه موسى ومشهدهما ينتابه العامة بالزيارة» (1).
7- قبر الإمام الرضا عليه السلام:
قال محمد بن المؤمل: خرجنا مع إمام أهل الحديث ابن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاك متوافرون إلى علي بن موسى الرضا بطوس، قال: فرأيت من تعظيمه- يعني ابن خزيمة- لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحيرنا (2).
8- محمد بن إدريس الشافعي:
إمام الشافعية المتوفى 204 ه دفن بالقرافة الصغرى وقبره يزار بها بالقرب من المقطم (3).
9- أحمد بن حنبل إمام الحنابلة المتوفى 241 ه.
قال الذهبي: ضريحه يزار ببغداد (4).
10- أبو حنيفة إمام الحنفية المتوفى 150 ه
وقبره في الأعظمية ببغداد مزار معروف (5).
عن الشافعي: وأجيى ء إلى قبره كل يوم زائراً (6).
ص: 120
11- قبر ذي النون المصري المتوفى عام 246 ه دفن بالقرافة وعلى قبره مشهد مبني.. زُرته غير مرّة (1).
12- قبر إسماعيل بن يوسف الديلمي.
قال المعافي: الناس يزورون قبره وراء قبر معروف الكرخي، وبينهما قبور يسيرة، وقد زرتُه مراراً (2).
13- قبر مصعب بن الزبير المتوفى عام 157 ه
قال ابن الجوزي: زارت العامة قبره بمسكن (3) كما يزار قبر الحسين عليه السلام (4).
أقول: أين الثرى من الثريا، وأين «السفاك للدماء المتمني إمرة العراق (5)» وأين سيّد شباب أهل الجنّة!!
14- ليث بن سعد الحنفي إمام مصر، المتوفى عام 175 ه
دفن بالقرافة الصغرى، وقبره يزار رأيته غير مرّة (6).
15- قبر أبي عوانه عليه مشهد مبني بأسفرائين يزار وهو بداخل المدينة (7).
ص: 121
16- وقال ابن عساكر: إنّ قبر أبي عوانه باسفرائين مزار العالم ومتبرك الخلق.. (1).
قال ابن الصفار الاسفرايني: «كان جدّي إذا وصل إلى مشهد الاستاذ- أبي إسحاق- رأيته لا يدخله احتراماً، بل كان يقبِّل عتبة المشهد وهي مرتفعة بدرجات، ويقف ساعة على هيئة التعظيم والتوقير، ثم يعبر عنه كالمودع لعظيم عظيم الهيبة، وإذا وصل إلى مشهد أبي عوانه كان أشدّ تعظيماً له وإجلالًا وتوقيراً ويقف أكثر من ذلك» (2).
17- قبر الحافظ أبي الحسن العامري المتوفى عام 403 ه
عكف الناس على قبره ليالي يقرؤون القرآن ويدعون له وجاء الشعراء من كل اؤب يرثُون ويترحمون (3).
18- قبر المعتمد على اللَّه، المتوفى عام 488 ه
وهو أبو القاسم محمد بن المعتضد اللخمي الأندلسي، اجتمع عند قبره جماعة من الشعراء الذين كانوا يقصدونه بالمدايح.. فرثوه بقصايد مطولات وأنشدوها عند قبره وبكوا عليه فمنهم أبو بحر رثاه بقصيدة
ص: 122
منها:
قَبّلْتُ في هذا الثرى لك خاضعاً وجعلتُ قبرك موضع الإنشاد
ولما فرغ من إنشادها، قبَّل الثرى ومرَّغ جسمه وعفَّر خدّه فأبكى كلَّ من حضر (1).
19- قبر نصر بن إبراهيم المقدسي المتوفي 490 ه
شيخ الشافعية، توفي بدمشق ودفن بباب الصغير، وقبره ظاهر يزار (2).
20- القاسم بن فيره الشاطبي: المتوفى 590 ه
دفن بالقرافه وقبره مشهور معروف يقصد للزيارة وقد زرته مرّات (3).
21- قبر أحمد بن جعفر الخزرجي البستي نزيل مراكش ت 601 ه
قال صاحب نيل الابتهاج:.. وإلى الآن مازال الحال على ما كان عليه من روضته من ازدحام الخلق عليها وقضاء حوائجهم وقد زرتُه ما يزيد على خمسمائة مرّة، وبتُّ هناك ما ينيف على ثلاثين ليلة (4).
22- قبر سفيان الثوري: قال ابن حبان: «وقبره- أي سفيان-
ص: 123
في مقبرة بني كليب بالبصرة وقد زرته» (1).
من هو ابن حبان؟
هو «الإمام العلّامة الحافظ، المجوِّد شيخ خراسان كما عن الذهبي، وكان من فقهاء الدين وحفّاظ الآثار، وصنّف المسند الصحيح وفقّه الناس بسمرقند كما قاله الادريسي.
وهو من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال كما عن الحاكم النيسابوري.
وكان ثقة نبيلًا فهماً» كما عن الخطيب البغدادي (2).
ومن أعلام القرن الثالث. فمن كان بهذه المرتبة من العلم والفضل والفقه- على ما قالوا- تراه يشد الرحال لزيارة القبور، ولايراه شركاً وحراماً كما زعمه الوهابية، وقد تعرضنا لترجمته سابقاً.
هذا مختصر ممّا ورد في كتب التراجم والتواريخ والحديث، من:
زيارة القبور، ومضى على ذلك الصحابة والتابعون، فانّهم كانوا يعظّمون قبر النبي الكريم ويقصدونه للزيارة، وكذلك قبور الأئمّة الطاهرين، والصالحين والأولياء والعلماء، فقد كانت تشدّ الرحال إليها من دون أن ينكر ذلك أحد.
وبعد هذه الشواهد والنصوص: ما هي حجّة ابن تيمية ومن يقول بمزاعمه، في حرمة زيارة القبور وشدّ الرحال إليها؟!
ص: 124
وما ذنب الشيعة الإمامية لو عملت بمقتضى السنّة الشريفة، وسلكت سيرة المسلمين في زيارة القبور؟!
هل كانت القبور المقصودة كلّها قبوراً للإماميّة؟! وهل الزائرون لها كانوا كلّهم شيعة اثني عشرية؟! هل كان ابن خزيمة وعديله الثقفي من الشيعة؟ وهل شيخ الحنابلة كان شيعياً حيث يزور قبر الكاظم عليه السلام؟
وهل كان ابن حبان شيعياً حيث يزور قبر الرضا عليه السلام؟ أم هل كان الشافعي محمد بن إدريس شيعياً وهو يزور قبر أبي حنيفة كل يوم؟
وهل كانت عائشة من شيعة علي عليه السلام وهي تزور قبر أخيها عبدالرحمن بمكّة؟!
1- العسقلاني: فانّه بعد أن نقل حديث أنس «مرّ النبي صلى الله عليه و آله بأمراة تبكي عند قبر فقال: اتقي اللَّه واصبري..
قال: واستدل به على زيارة القبور، سواء كان الزائر رجلًا أو امرأة، وسواء كان المزور مسلماً أو كافراً لعدم الاستفصال في ذلك..
2- قال النووي: وبالجواز قطع الجمهور. وقال صاحب الحاوي، أي الماوردي: لاتجوز زيارة قبر الكافر وهو غلط.
وحجّة الماوردي قوله تعالى: ولاتقم على قبره وفي الاستدلال بذلك نظر لايخفى.
قال: وبالجملة: فتستحب زيارة قبور المسلمين للرجال لحديث مسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّها تذكِّر الآخرة.
ص: 125
3- وسُئل مالك عن زيارة القبور؟ فقال: قد كان نهى عنه، ثم أذن فيه، فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلّاخيراً لم أرَ بذلك بأساً. (1) 4- السمهودي: «أجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال كما حكاه النووي بل قال بعض الظاهرية بوجوبها» (2).
وممّا ورد في زيارة القبور ما رواه مسلم والنسائي عن أبي هريرة:
قال: زار النبي صلى الله عليه و آله امّه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربّي في أن استغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبره فاذن لي فزوروا القبور فانّها تذكِّركم الموت (3).
أقول: والنصوص والشواهد التاريخية كلها تشهد على إيمان والدي الرسول صلى الله عليه و آله حاشاهما من الشرك. كيف ولم يزل يُنقل من أصلاب طاهرة إلى أرحام مطهّرة. كيف والآية الكريمة صريحة أو ظاهرة في ذلك: وتقلبك في الساجدين (4) وقد وردت ذيل هذه الآية الكريمة في التفاسير:
1- روى السيوطي عن ابن أبي عمر العدني في مسنده والبزار
ص: 126
وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن مجاهد في قوله وتقلّبك في الساجدين قال: من نبي إلى نبي حتى اخرجت نبيّاً» (1).
2- وروى أيضاً: عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله: وتقلّبك في الساجدين قال: ما زال النبي صلى الله عليه و آله يتقلّب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته امّه (2).
3- وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: سألت رسول اللَّه فقلت: بأبي أنت وامّي أين كنت وآدم في الجنّة؟ فتبسّم حتّى بدت نواجذه ثم قال: انّي كنت في صلبه وهبط إلى الأرض وأنا في صلبه وركبت السفينة في صلب أبي نوح وقذفت في النار في صلب أبي إبراهيم لم يلتق أبواي قط على سفاح لم يزل اللَّه ينقلني من الأصلاب الطيّبة إلى الأرحام الطاهرة مصفّىً مهذّباً لا تتشعّب شعبتان إلّاكنت في خيرهما قد أخذ اللَّه بالنبوّة ميثاقي وبالإسلام هداتي وبيَّن في التوراة والإنجيل ذكري وبيّن كلَّ شي ءٍ من صفتي في شرق الأرض وغربها وعلّمني كتابه ورقى بي في سمائه وشق لي من أسمائه فذوالعرش محمود وأنا محمد ووعدني أن يحبوني بالحوض وأعطاني الكوثر وأنا أوّل شافع وأوّل مشفع ثم أخرجني في خير قرون امّتي، وامتي الحمّادون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر» (3).
ص: 127
إذن فالآية الشريفة، وقوله صلى الله عليه و آله في الحديث الأخير: «لم يلتقِ أبواي قط على سفاح، لم يزل اللَّه ينقلني من الأصلاب الطيّبة إلى الأرحام الطاهرة، مصفىً مهذّباً..» كاشفان تماماً عن طهارة آباء وامّهات الرسول صلى الله عليه و آله من دنس ونجس، فهم مبرّأون من الشرك لأن المشركين نجس.
إذن فآمنة بنت وهب رضوان اللَّه تعالى عليها كانت موحِّدة مؤمنة وحنيفية غير مشركة وعلى هذا تكون الرواية الماضية التي رواها كلّ من مسلم والنسائي عن أبي هريرة هي إحدى الإساءات إلى والديّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
ولذا نرى بعض المنصفين من الشرّاح لهذا الحديث قاموا بتأويلات تنبئ عن أن فطرتهم السليمة تأبى قبول هذه المضامين:
قال الشيخ منصور: «وهذا لا ينافي دخولها الجنّة، فإنّها من أهل الفترة، والجمهور على أنّهم ناجون.. بل قد ورد وصح عند أرباب الكشف: أن اللَّه تعالى أحيا أبوي النبي بعد رسالته فآمنا به، فلهذا كانا من أهل الجنّة» (1).
أقول: ثم إنّ هذا التفسير لهذه الآية لم يختص بالشيعة (2) الإمامية
ص: 128
ولا هم الذين تفردوا بنقل رواياتها، بل كما رأيت رواه السيوطي عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والعدني، والبزار والطبراني، عن مجاهد وابن عباس (1) فلاوجه لما نسبه الرازي (2) في تفسيره إلى خصوص الشيعة (3).
ص: 129
ومع الأسف وقع نظير هذا البحث والخلط في حامي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وناصره سيّدنا أبي طالب عليه السلام. فكل من يقف على مواقفه البطولية وأشعاره وخطاباته، يذعن بأنّه مؤمن وموحِّد ومعتقد بالنبيّ صلى الله عليه و آله وبرسالته، ولكن العصبية الأموية والنزعة الخيبرية، والأحقاد تمنع من التصريح بالحق، والتفوّه بما هو الواقع: وأن أبا طالب مات مؤمناً وموحِّداً.
وفيما يلي كلام غريب لابن كثير: «قلت.. وقد قدمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاماة والمحاجة والممانعة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والدفع عنه وعن أصحابه وما قاله فيه من الممادح والثناء، وما أظهره له ولأصحابه من المودّة والمحبّة والشفقة في أشعاره التي أسلفناها وما تضمّنته من العيب والتنقيص لمن خالفه وكذّبه بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التي لا تدانى ولا تسامى، ولايمكن عربياً مقاربتها ولا معارضتها، وهو في ذلك كلّه يعلم أن رسول اللَّه صادق بار راشد، ولكن مع هذا لم يؤمن قلبه..» (1).
ص: 130
انظر إلى هذه العصبية من ابن كثير، فكأنَّه كان في قلب أبي طالب، فعرف ما فيه!! أو كأنّه- والعياذ باللَّه- يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور!
فتراه يعترف لأبي طالب بأنّه صدَّق النبي صلى الله عليه و آله ولكن لا بقلبه!!
نعم؛ وما نَقَم ابن كثير وأضرابه من أبي طالب عليه السلام إلّاأنّه والد علي عليه السلام، ولو كان والد معاوية، لكان حَظّهُ أكثر وأكبر من حظِّ أبي سفيان ونصيبه من الثناء المكذوب والمناقب المفتريات.
ص: 131
زيارة النساء
للقبور
1- فاطمة الزهراء تزور قبر حمزة
2- عائشة تزور قبر أخيها
3- مناقشة حديث زوارات القبور
4- فتوى علماء السنّة على الجواز
5- كلام القسطلاني ذيل رواية أنس
6- مناقشة طرق الحديث
ص: 132
ص: 133
لقد ورد عن فاطمة الزهراء عليها السلام انّها كانت تزور قبر حمزة سيّد الشهداء وسائر شهداء احد كل جمعة، أو بالاسبوع مرّتين وهذا كان على عهد أبيها صلى الله عليه و آله، ثم بعد أبيها إلى أن توفيت. ولم يرد نهي لها لا من النبي صلى الله عليه و آله ولا من علي عليه السلام ولا من أيٍ من الصحابة، وهي أعرف بدين أبيها من غيرها. فزارت القبور مرّات عديدة.
«كانت فاطمة تزور قبر عمّها حمزة كل جمعة فتصلّي وتبكي عنده» (1).
وفي رواية: كانت تزور قبور الشهداء باحد بين اليومين والثلاثة، فتصلّي هناك وتدعو وتبكي (2).
كما ورد عن عائشة انّها كانت تزور قبر أخيها عبد الرحمن بمكة:
1- قال ابن أبي مليكة: ورأيت عائشة تزور قبر أخيها
ص: 134
عبدالرحمن بن أبي بكر، ومات بالحُبشي (1) وقُبِرَ بمكة (2).
2- وقال أيضاً: إنّ عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها:
أليس كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نهى عن زيارة القبور؟ قالت: كان نهى ثم أمرَ بزيارتها (3).
واما ما نقل عن النبي صلى الله عليه و آله قال: لعن اللَّه زائرات القبور (4).
أولًا ففيه مضافاً إلى انه منسوخ بحديث بريدة كما صرّح بذلك الحاكم والذهبي انه معارض بما روته عائشة عن النبي صلى الله عليه و آله: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن زيارة القبور ثم أمرَ بزيارتها (5). وصحّحه الذهبي في حاشية المستدرك وقال: الحديث صحيح.
ثانياً: معارض بفعل عائشة أيضاً حيث كانت تزور قبر أخيها عبدالرحمن، فانّه مات فُجأة سنة 53 للهجرة بجبل بقرب مكة فأدخلته الحرم ودفنته (6). فهل كانت عائشة تريد مخالفة سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فتستحق «اللعن» كما في هذا الحديث!!
ثالثاً: انّه مخالف لما ثبت عن فعل فاطمة عليها السلام من زيارتها لقبر
ص: 135
النبي صلى الله عليه و آله بعد دفنه وزيارة قبر حمزة والشهداء كل جمعة أو كل اسبوع مرّتين فهل ترى فاطمة تريد مخالفة سنّة ثابتة عن النبي صلى الله عليه و آله؟! أو انها- نعوذ باللَّه- غير عارفة بالسنّة؟! وأهل البيت أدرى بما في البيت مع أن زيارتها قبور شهداء احد كانت على عهد النبي صلى الله عليه و آله واستمرّت الزيارة سبع سنوات من حياة النبي صلى الله عليه و آله فكيف لم ينهها النبي صلى الله عليه و آله؟
وكذلك زارت قبر النبي صلى الله عليه و آله بعد وفاته؛ فعن علي عليه السلام: «لما رمس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جاءت فاطمة عليها السلام فوقفت على قبره صلى الله عليه و آله وأخذت قبضة من تراب القبر ووضعت على عينها وبكت وأنشأت تقول... (1).
فكيف لم يعارضها علي عليه السلام ولا أحد من الصحابة إن كانت زيارة النساء للقبور محرّمة.
رابعاً: ان فتوى علماء السنة على الجواز وأمّا اللعن يفيد تحريم زيارتهن لقلّة صبرهن، وإلّا فزيارة النساء للقبور بشرط الصبر جائزة، كما في التاج:
1- «واللعن يفيد تحريم زيارتهن لقلّة صبرهن وكثرة جزعهن وكل حديث يحرِّم خروجهن للجنازة أو زيارتهن للقبور فمحمول على ذلك، وإلّا فزيارة النساء للقبور جائزة بشرط الصبر وعدم الجزع وعدم التبرّج. وأن يكون معها زوج أو محرم منعاً للفتنة، لعموم الحديث الأوّل (2). ولقول عائشة في الحديث الثاني: كيف أقول؟ قال:
ص: 136
قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم اللَّه (1)...
ولزيارة عائشة لقبر أخيها عبدالرحمن، فلما اعترضها عبداللَّه، قالت: نهى رسول اللَّه عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها» (2).
2- قال الملّا علي قاري: «ظاهر هذا الحديث- نهيتكم عن زيارة القبور فزورها- العموم، لأن الخطاب في «نهيتكم» كما انّه عام للرجال والنساء على وجه التغليب أو أصالة الرجال فكذلك الحكم في- فزوروها-. مع ان ما قيل من ان الرخصة عامة لهنّ. فهذه الأحاديث بتعليلاتها تدل على انّ النساء كالرجال في حكم الزيارة. إذا زِرْنَ بالشروط المعتبرة في حقهنّ، ويؤيّده الخبر السابق انّه عليه الصلاة والسلام، مرَّ بالمرأة فأمرها بالصبر، ولم ينهها عن الزيارة..» (3).
3- وقال ابن عبدالبر: «احتج من أباح زيارة القبور للنساء بما حدّثناه عبداللَّه بن محمد، قال: حدّثنا عبدالحميد... عن ابن أبي مليكة إنّ عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا امّ المؤمنين من أين أقبلتِ؟ قالت: من قبر أخي عبدالرحمن، فقلت لها: أليس كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى عن زيارتها ثم أمرَ بزيارتها (4).
وعن ابن أبي مليكة: قال: زارت عائشة قبر أخيها في هودج.
ص: 137
قال أبو بكر: وحدّثنا مسرد، قال: حدّثنا نوح بن دراج، عن ابان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال: كانت فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تزور قبر حمزة بن عبدالمطلب كلَّ جمعة وعلَّمته بصخرة (1).
«مرّ النبيّ صلى الله عليه و آله بامرأة تبكي عند قبر فقال: إتقي اللَّه واصبري، قالت: إليك عنّي، فانّك لم تُصب بمصيبتي ولم تعرفه...».
فإن قلت: من أين تؤخذ مطابقة الحديث للترجمة؟ أجيب:
من حيث انّه صلى الله عليه و آله لم ينه المرأة المذكورة عن زيارة القبور سواء كان الزائر رجلًا أو امرأة، وسواء كان المزور مسلماً أو كافراً لعدم الاستفصال في ذلك.
قال النووي: وبالجواز قطع الجمهور...
وقال: وبالجملة: فتستحب زيارة قبور المسلمين للرجال، لحديث مسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فانّها تذكِّر الآخرة.
.. وتكرة للنساء لجزعهن. وأما حديث أبي هريرة المروي عند الترمذي، وقال حسن صحيح: لعن اللَّه زوارات القبور، فمحمول على ما إذا كانت زيارتهن للتعديد والبكاء والنوح على ما جرت به عادتهن.
وقال القرطبي: وحمل بعضهم حديث الترمذي في المنع على من
ص: 138
تكثر الزيارة لأن زوارات للمبالغة (1).
والحاصل: إن زيارة النساء للقبور جائز عند القسطلاني لكن على كراهية، واما رواية اللعن، فمحمول على ما كان فيه التعديد والنوح..
4- قال ابن عبدالبر- بعد نقل هذه الأحاديث- قال أبو بكر:
وسمعت أبا عبداللَّه- يعني أحمد بن حنبل- يُسئل عن المرأة تزور القبر، فقال: أرجو إن شاء اللَّه أن لا يكون به بأس.
عائشة زارت قبر أخيها. قال: ولكن حديث ابن عباس: إنّ النبي لعن زوارات القبور».
ثم قال: هذا أبو صالح ماذا؟ كأنه يضعفه، ثم قال: ارجو إن شاء اللَّه أن عائشة زارت قبر أخيها (2).
5- الحافظ الألباني: فانّه أورد حديث «لعن رسول اللَّه زائرات القبور». ثم قال: فلم نجد في الأحاديث ما يشهد له، فهذا القدر من الحديث (لعن اللَّه المتخذين عليها السرج، ضعيف وان لهج اخواننا السلفيون بالاستدلال به، ونصيحتي إليهم أن يمسكوا عن نسبته إليه لعدم صحّته (3).
6- قال ابن عابدين، المتوفى عام 1253:
«هل تستحب زيارة قبره صلى الله عليه و آله للنساء؟ الصحيح: نعم بلا كراهة بشروطها على ما صرّح به بعض العلماء، أمّا على الأصحّ من مذهبنا
ص: 139
وهو قول الكرخي وغيره: من ان الرخصة في زيارة القبور ثابتة للرجال والنساء جميعاً فلا إشكال، واما على غيره فذلك نقول بالاستحباب لإطلاق الأصحاب. بل قيل: واجبة، ذكره في شرح اللباب» (1).
7- قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح. وقد رأى بعض أهل العلم أنّ هذا كان قَبْلَ أن يُرخِّصَ النبي صلى الله عليه و آله في زيارة القبور فلما رخّص دخل في رخصته الرجال والنساء.
وقال بعضهم: إنّما كَرِه زيارة القبور للنساء، لقلّة صبرهن وكثرة جزعهن» (2).
8- القسطلاني: «.. ولا يكره لهن زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله بل تندب، وينبغي كما قال ابن الرفعة والقمولي- أن تكون قبور سائر الأنبياء والأولياء كذلك» (3).
إنّ حديث لعن رسول اللَّه زائرات القبور ورد بطرق ثلاث:
1- عن حسان بن ثابت.
2- عن ابن عباس.
3- عن أبي هريرة.
ص: 140
أ- وقد أورد ابن ماجة الحديث بطرقه الثلاثة (1).
ب- كما أورد أحمد الحديث بطريقين من الثلاثة:
1- حسّان بن ثابت (2).
2- وطريق أبي هريرة (3).
ج- كما أورد الترمذي الحديث عن طريق أبي هريرة فقط (4).
د- وأورد أبو داود الحديث، عن طريق ابن عباس فقط (5).
واما البخاري ومسلم فلم يخرجا الحديثين بالمرّة، كما ان أصحاب السنن لم يتفقوا على طريق من الطرق، نعم الطريق الثالث: وهو حديث أبي هريرة اتفق عليه ابن ماجه وأحمد والترمذي.
واما الطريق الأوّل: فاتفق عليه ابن ماجة واحمد.
واما الطريق الثاني: ابن عباس: اتفق عليه أبو داود وابن ماجة.
المناقشة في الطرق:
اما الطريق الأوّل، الذي نقله ابن ماجه وأحمد، والذي ينتهي إلى حسّان بن ثابت، ففي السند: عبداللَّه بن عثمان بن خثيم: وأحاديثه ليست بالقوية كما روى ابن الدورقي عن ابن معين ولأبي حاتم فيه رأيان: أحدهما انّه: لا يحتج به. وعن النسائي: انّه ليّن الحديث (6).
ص: 141
وفي الطريق: عبدالرحمن بن بَهمان، ولم يحدث عنه سوى ابن خثيم، وقال ابن المديني: لا نعرفه (1).
واما الطريق الثاني، فيه أبو صالح وهو باذان، وقال أبو حاتم:
لايحتج به، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن عدي: ولم أعلم أحداً من المتقدّمين رضيه (2).
اما الطريق الثالث- عن أبي هريرة: ففيه عمر بن أبي سلمة، قال النسائي: ليس بالقوي، وقال ابن خُزيمة: لايحتج بحديثه.
وقال ابن معين: هو ضعيف.
وقال أبو حاتم: لايحتج به (3).
فالحديث بكل طرقه مورد للإشكال السندي، ولعلّه لهذا لم يخرجّهُ الشيخان في صحيحيهما.
أضف إلى الإشكالات والمعارضات التي أوردناها. وكلام الفقهاء في شرح الحديث، وفتواهم في جواز بل استحباب زيارة القبور للنساء والرجال.
ص: 142
ص: 143
الصلاة والدعاء
عند القبور
1- رأي الوهابية
2- مناقشة الفكرة
3- سيرة فاطمة الزهراء عليها السلام
4- سيرة المسلمين
5- تصريحات مخالفة لرأي الوهابية
6- استقبال القبلة أم القبر الشريف
7- شرح حديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد
8- فتوى الفقهاء حول الصلاة في ا لمقبرة
ص: 144
ص: 145
منعت الوهابية الصلاة والدعاء عند القبور وجعلتها شركاً وكفراً.
قال ابن تيمية: «إنّ الصحابة كانوا إذا جاؤوا عند قبر النبي صلى الله عليه و آله يسلّمون عليه، فإذا أرادوا الدعاء لم يدعوا اللَّه مستقبلي القبر الشريف، بل ينحرفون ويستقبلون القبلة ويدعون اللَّه كما في سائر البقاع.. ولهذا لم يذكر أحد من أئمّة السلف أن الصلاة عند القبور وفي مشاهدها مستحبة ولا ان الصلاة والدعاء هناك أفضل منهما في غيرهما، بل اتفقوا كلّهم على ان الصلاة في المساجد والبيوت أفضل منها عند قبور الأنبياء والصالحين، سُميّت مشاهد أم لم تُسمّ» (1).
والجواب:
أوّلًا: يدل على جواز الصلاة والدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه و آله وقبور سائر الأنبياء والصالحين، عموم ما دلَّ على جواز الصلاة والدعاء في
ص: 146
كل مكان، فالعمومات والاطلاقات تدل على الجواز.
ثانياً: ويدل على رجحان الصلاة والدعاء عند القبور، ما فهم من الشرع من رجحان الصلاة والدعاء ومطلق العبادة في كل مكان ثبت شرفه في الشرع، ولاشك في تشرّف المكان بالمكين (شرف المكان بالمكين) والموجب لتشرّف القبر هو حلول جسده الطاهر فيه.
ثالثاً: ويدل على رجحان الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه و آله قوله تعالى:
ولو انهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا اللَّه.. (1).
فإنّ كلمة «جاؤوك» شامل لحالتي الحياة والموت، وان حرمته صلى الله عليه و آله حيّاً كحرمته ميّتاً، كما صرّح بذلك الإمام مالك للمنصور فيما مضى من البحث.
يقول شمس الدين الجزري: «إن لم يُجب الدعاء عند النبي صلى الله عليه و آله ففي أي موضع يستجاب!!؟»
رابعاً: سيرة فاطمة الزهراء عليها السلام
إنّ فاطمة عليها السلام كانت تزور قبر عمّها حمزة في كل يوم جمعة فتصلّي وتبكي عنده (2).
قال الحاكم: «هذا الحديث رواته عن آخرهم ثقات وقد استقصيت في الحث عن زيارة القبور تحرياً للمشاركة في الترغيب وليعلم الشحيح بذنبه انها سنّة مسنونة».
ص: 147
والملاحظ: أن حمزة استشهد في العام الثالث للهجرة، وتوفي النبي صلى الله عليه و آله في العام العاشر. ففاطمة كانت في هذه الفترة يعني مدّة سبع سنوات كل يوم جمعة تغادر المدينة متوجهة إلى أُحد تزور قبر حمزة، بمرأى ومنظر من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولم يرد منه نهي لها.
ثم انها عاشت بعد أبيها على قول السنة (1) ستّة أشهر، فكذلك كانت تزور القبر- حمزة- بمرأى ومنظر من كل الصحابة ومن علي بن أبي طالب عليه السلام ولم يرد منهم نهي في شأنها.
وفي رواية: كانت تزور قبور الشهداء بأُحد بين اليومين والثلاثة، فتصلّي هناك وتدعو وتبكي (2).
تُرى هل خفيت السنّة على فاطمة الزهراء عليها السلام، التي يرضى اللَّه لرضاها ويغضب لغضبها (3)، فجاءت بزيارتها القبور لما يخالف هذه السنّة!!
ولم يخف الأمر على ابن تيمية ليتجرّأ فيدّعي أنّه: «لم يذكر أحدٌ من أئمة السلف أنّ الصلاة عند القبور وفي مشاهدها مستحبّة» (4)!؟
خامساً: سيرة المسلمين
كما ان سيرة المسلمين من زمن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى يومنا هذا
ص: 148
جارية على الدعاء والصلاة عند قبور الصالحين والمؤمنين (1).
1- عمر بن الخطاب:
«الطبري: «لما خرج عمر حاجّاً في نفرٍ من أصحابه، فاستغاث به شيخ، فلما انصرف عمر ونزل ذلك المنزل- بالأبواء- واستخبر عن الشيخ، وعرف موته، قال: كأني أنظر إلى عمر، وقد وثبَ مباعداً ما بين خطاه حتى وقف على القبر- قبر الشيخ- فصلّى عليه، ثم اعتنقه وبكى» (2).
2- الإمام الشافعي: «إني لأتبرّك بأبي حنيفة وأجيى ء إلى قبره في كل يوم فإذا عرضت لي حاجة صلّيت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت اللَّه تعالى الحاجة عنده، فما تبعد حتى تقضى» (3).
3- قبر معروف الكرخي: «عن الزهري قبر معروف الكرخي مجرّب لقضاء الحوائج، ويقال انّه من قرأ عنده مائة مرّة قل هو اللَّه أحد وسأل اللَّه ما يريد قضى اللَّه حاجته» (4).
وقال ابراهيم الحربي: قبر معروف: الترياق المجرّب، قال الذهبي:
ص: 149
يريد إجابة دعاء المضطر عنده، لأن البقاع المباركة يستجاب عندها الدعاء (1) وعن أحمد بن الفتح قال: سألت بشراً التابعي الجليل عن معروف الكرخي؟ فقال: هيهات.. فمن كانت له إلى اللَّه حاجة فليأت قبره وليدع، فانّه يستجاب له إن شاء اللَّه (2).
وعن ابن سعد: «يستسقى بقبره، وقبره ظاهر يزار ليلًا ونهاراً» (3).
وعن سبط بن الجوزي: انه سمع مشايخه ببغداد يحكون أنّ عون الدين قال: كان سبب ولايتي المخزن انني ضاق ما بيدي حتى فقدت القوت أياماً فأشار عليَّ بعض أهلي أن أمضي إلى قبر معروف الكرخي، فأسالُ اللَّه تعالى عنده، فان الدعاء عنده مستجاب (4). قال:
ص: 150
فأتيت قبر معروف، فصلّيت عنده ودعوت ثم خرجت لأقصد البلد يعني بغداد فاجتزت بقطفتا (1)- قال: فرأيت مسجداً مهجوراً فدخلت لُاصلّي ركعتين، وإذا بمريض ملقى على بارية، فقعدت عند رأسه وقلت: ما تشتهي؟ فقال: سفرجلة، قال: فخرجت إلى بقال هناك فرهنتُ عنده مئزري على سفرجلتين وتفاحة وأتيتهُ بذلك، فأكل من السفرجلة، ثم قال: أغلق باب المسجد، فأغلقته، فتنحى عن البارية وقال: احفر هاهنا، فحفرت وإذا بكوز، فقال: خذ هذا فأنت أحق به، فقلت: أما لك وارث؟ فقال: لا، وإنّما كان لي أخ وعهدي به بعيد وبلغني انّه مات ونحن من الرصافة.. وبينا هو يحدّثني إذ قضى نحبه فغسلته وكفنتهُ ودفنته... ثم صعدت إلى دار الخليفة وكتبت رقعة فخرج عليها إشراف المخزن ثم تدرّجت الوزارة (2).
4- قبر الشافعي: قال الجزري: والدعاء عند قبره مستجاب (3).
5- قبر بكار البكراوي الحنفي ت 270 ه.
دفن بالقرافة وقبره مشهور يزار ويتبرّك به ويقال: إنّ الدعاء عند قبره مستجاب (4).
ص: 151
6- الحافظ العامري ت 403 ه.
عكف الناس على قبره ليالي يقرؤون القرآن ويدعون له (1).
7- أبو بكر الاصبهاني ت 406 ه.
دفن بالحيرة من نيسابور ومشهده بها ظاهر يزار ويستسقى به وتجاب الدعوة عنده (2).
8- قبر السيدة نفيسة:
هي ابنة أبي محمد الحسن بن زيد، وعن ابن خلكان: دفنت بدرب السباع وقبرها معروف بإجابة الدعاء وهو مجرّب رضي اللَّه عنها (3).
ص: 152
9- قبر نصر بن إبراهيم المقدسي ت 490 ه شيخ الشافعية
قال النووي: سمعنا الشيوخ يقولون: الدعاء عند قبره يوم السبت مستجاب (1).
10- قبر أبي الحسن المصري فقيه الشافعية ت 492
قال ابن الأنماطي: قبره بالقرافه يُعرف بإجابة الدعاء عنده (2).
11- قبر القاسم بن فيره الشاطبي ت 590 ه
دفن بالقرافة وقبره مشهور معروف. قال صاحب طبقات القراء:
وقد زرته مرّات وعرض عليَّ بعض أصحابي الشاطبية عند قبره، ورأيتُ بركة الدعاء عند قبره بالإجابة (3).
1- السيوطي في قصة المعراج: روي عن النبي صلى الله عليه و آله: ركبت ومعي جبرئيل، فسرت، فقال: انزل، فصلِّ، ففعلت فقال: أتدري أين صلّيت؟ صلّيت بطيبة وإليها المهاجرة ثم قال: إنزل فصلِّ، ففعلتُ، فقال: أتدري أين صلّيت؟ صلّيت بطور سيناء حيث كلَّم اللَّه موسى.
ثم قال: انزل فصلِّ، ففعلت، فقال: أتدري أين صلّيت؟ صلّيت
ص: 153
ببيت لحم حيثُ وُلِدَ عيسى (1).
فلو كان محل ولادة عيسى هذا شأنه، وان النبي محمد صلى الله عليه و آله ينزل فيصلي فيه، فمحل ولادة خاتم الأنبياء محمّد صلى الله عليه و آله ومحل دفنه أعلى شأناً وأولى بأن يُصلّى فيه.
2- قال ابن القيم الجوزية- تلميذ ابن تيمية-: إن عاقبة صبر هاجر وابنها على البُعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد، آلت إلى ما آلت إليه من جَعْلِ آثارهما وموطئ أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة (2).
انظر إلى كلام ابن القيم؛ فإنّه يرى موطئ قدم هاجر وإسماعيل محل العبادة والصلاة والمناسك إلى يوم القيامة. فِلمَ لايجوز أن يكون محل ولادة النبي ودفنه وموطئ قدمه متعبّداً للمؤمنين إلى يوم القيامة؟
3- ابن الجزري: «إن من مواضع إجابة الدعاء قبور الصالحين» (3).
نسب ابن تيمية إلى الصحابة أنهم لم يدعوا اللَّه مستقبلي القبر الشريف بل ينحرفون ويستقبلون القبلة..» (4).
ص: 154
والجواب:
أوّلًا: إنّ ابن تيمية لم يذكر اسم صحابي واحد كان قد انحرف عن القبر إلى القبلة في الدعاء ولو مرّة واحدة، بل برغم انه قد نسب ذلك إلى كل الصحابة! مع انه قد ورد عن ابن عمر- وهو من الصحابة- خلاف ذلك وان من السنة أن يستقبل القبر المكرّم ويجعل ظهره للقبلة (1).
ثانياً: لا مانع من استقبال القبر عند الدعاء، وذلك للآية الكريمة أينما تولّوا فثمَّ وجه اللَّه (2).
ثالثاً: فتوى الفقهاء على خلاف ذلك:
أ- فتوى مالك: حينما سأله المنصور: أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ فقال: ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى اللَّه تعالى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعك اللَّه تعالى.. (3).
وفي هذا السؤال دلالة واضحة على ان الدعاء عند القبر الشريف كان مشهوراً- ومرتكزاً- لايشك في جوازه ورجحانه وانما الذي توقف فيه المنصور، هو ان استقبال القبلة حال الدعاء أفضل أم استقبال القبر الشريف (4).
ص: 155
ب- الخفاجي: «استقبال وجهه صلى الله عليه و آله واستدبار القبلة مذهب الشافعي والجمهور. ونقل عن أبي حنيفة (1).
ج- ابن الهمام محقق الحنفية: ما نقل عن أبي حنيفة انّه يستقبل القبلة مردود بما روي عن ابن عمر من السنة ان تأتي قبر رسول اللَّه من قِبل القبلة وتجعل ظهرك إلى القبلة وتستقبل القبر.. وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة.. وقول الكرماني: إن مذهبه بخلافه ليس بشي ء لأنّه حي في ضريحه يعلم بزائره ومن يأتيه في حياته انّما يتوجه إليه» (2).
د- إبراهيم الحربي في مناسكه: تولي ظهرك القبلة وتستقبل وسطهُ- يعني القبر (3).
ه- وعن ابي موسى االاصبهاني: انه روي عن مالك انه قال: اذا اراد الرجل أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه و آله فيستدبر القبلة ويستقبل النبي صلى الله عليه و آله ويصلي عليه ويدعو.
و- وقال السمهودي، وعن اصحاب الشافعي وغيره: يقف وظهره الى القبلة ووجهه الى الحَظيره، وهو قول ابن حنبل (4).
ز- السختياني: «عن أبي حنيفةقال: جاء أيوب السختياني فدنا من قبرالنبي صلى الله عليه و آله فاستدبر القبلة و أقبل بوجهه إلى القبر و بكى بكاءً غير متباك (5)
ص: 156
ح- ابن جماعة: ثم يدور إلى أن يقف قبالة الوجه المقدّس مستدبر القبلة فيسلّم. وشذ الكرماني فقال: يقف للسلام مستدبر القبر» (1).
ط- ابن المنكدر: قال ابراهيم بن سعد رايت ابن المنكدر يصلي في مقدم المسجد فاذا انصرف مشى قليلًا ثم استقبل القبلة ومدّ يديه ودعا ثم ينحرف عن القبلة ويشهِّر يديه ويدعو، يفعل ذلك حين يخرج فعل المودع» (2).
ثالثاً: ما المانع من الصلاة بقرب القبر تبرّكاً بالمكان المدفون فيه النبي صلى الله عليه و آله كما يصلون عند المقام الذي هو حَجَر ولكن تشرف بملامسة رِجْلِ إبراهيم، لقوله تعالى: واتَّخِدوا من مقام إبراهيم مصلّى (3).
واما كلام ابن تيمية: «إنّ الصلاة في البيت أفضل منها عند قبور الأنبياء والصالحين» (4).
هذه دعوى مجرّدة عن الدليل، وهل صرّح بذلك أحد من أئمّة السلف، فضلًا عن نسبة ذلك إلى جميعهم»!!
أما حديث لعن اللَّه اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد،
ص: 157
وحديث: اللهم لا تجعل قبري وثناً (1) يعبد، اشتدّ غضب اللَّه على قوم، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
ففيه: أوّلًا: نقاش سندي، إذ على رواية النسائي:- في طريقه عبد الوارث وقد رموه بأنّه كان يرى القدر- أي الاعتزال- وكانوا لا يصلّون خلفه، وكان حماد ينهى عن عبد الوارث (2).
وفيه أيضاً أبو صالح، وهو مردد بين مجاهيل وضعاف وثقات والمحتمل أنه: باذام مولى ام هاني، وهو متروك الحديث، أو ضعيف أو كذّاب (3).
واما رواية ابن ماجة: ففيه عبداللَّه (4) بن عثمان، وقالوا فيه: انّه ليس بالقوي، أو يخطئ، أو منكر الحديث.
واما ابن بهمان فعن ابن المديني: انه لا نعرفه.
واما رواية الموطأ: فهي مرسلة كما صرح بذلك ابن عبد البر لأن عطاء بن يسار لم يدرك النبيِّ (5).
ثانياً: لا يدل الحديث على ما زعمه ابن تيمية والوهابيون من عدم جواز الصلاة عند القبور وفي مشاهدها وبناء المساجد عليها.
ص: 158
وذلك لأن الظاهر منه: انّه إشارة إلى رواية كنيسة الحبشة؛ إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصور..
وسبب الذم هو اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد بتلك الحالة وهي تصويرهم الصورة وعبادتها والصلاة والسجود إليها أو إليها وإلى القبر.
كما يصلى إلى الوثن ويسجد له على ما هو الظاهر من تلك الرواية.
فالنهي عن اتخاذها مساجد هو فيما لو كان من هذا السنخ، واما لو بني المسجد على القبر، ولكنّه صلّى إلى القبلة ومتوجهاً إلى اللَّه تعالى، فلا إشكال فيه، كما يصلى اليوم في المسجد النبوي الشريف، أو الجامع الأموي بدمشق وفيه قبر النبي زكريا عليه السلام.
1- قال القرطبي: «انّما صور أوائلهم الصور ليتأنسوا بها ويتذكّروا أفعالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون اللَّه عند قبورهم ثم خلّفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان: ان اسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها، فحذّر النبي عن مثل ذلك» (1).
2- قال النووي: إن كان البناء في ملك الباني فمكروه، وإن كان في مقبرة مسبلة، فحرام، نصَّ عليه الشافعي والأصحاب.. تجصيص القبر مكروه (2).
ص: 159
3- قال القسطلاني قوله: بنوا على قبره مسجداً» مؤوّل على مذمة من اتخذ القبر مسجداً ومقتضاه التحريم لاسيما وقد ثبت اللعن عليه، لكن صرّح الشافعي وأصحابه بالكراهة (1).
4- وقال البندينجي المراد: ان يسوي القبر مسجداً فيصلّى فيه، وقال: انّه يكره ان يبنى عنده مسجد فيصلّى فيه إلى القبر. واما المقبرة الدائرة إذا بني فيها مسجد ليصلّى فيه فلم أر فيه بأساً لأن المقابر وقف وكذا المسجد فمعناهما واحد.
5- قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجّهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثاناً، لعنهم النبي صلى الله عليه و آله ومنع المسلمين من مثل ذلك، فأما من اتخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرّك بالقرب منه، لا للتعظيم ولا للتوجّه إليه فلا يدخل في الوعيد المذكور (2).
6- وقال السندي: «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. أي قبلة للصلاة يصلّون إليها أو بنوا مساجد عليها يصلّون فيها، ولعلّ وجه الكراهة انّه قد يفضي إلى عبادة نفس القبر، سيما في الأنبياء والأخيار..» (3).
ص: 160
7- النووي: قال العلماء انّما نهى النبي صلى الله عليه و آله عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به فربما أدّى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الامم الخالية. ولمّا احتاجت الصحابة والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت امهات المؤمنين فيه ومنها حجرة عائشة مدفن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وصاحبيه بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد فيصلّي إليه العوام ويؤدي إلى المحذور ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر ولهذا قال في الحديث ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً..» (1).
1- رأي مالك: «قلت لابن القاسم هل كان مالك يوسع ان يصلّي الرجل وبين يديه قبر يكون سترة له؟ قال: كان مالك لا يرى بأساً بالصلاة في المقابر وهو إذا صلّى في المقبرة كانت القبور بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله. وقال مالك لابأس بالصلاة في المقابر. قال: وبلغني ان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و آله كانوا يصلّون في المقبرة (2).
2- عبد الغني النابلسي: «وامّا من اتخذ مسجداً في جوار صالح أو صلّى في قبره، وقصد به الاستظهار بوجه أو وصول أثر من آثار
ص: 161
عبادته إليه لا للتعظيم له والتوجّه إليه فلا حرج إذ مرقد اسماعيل عند الحطيم من المسجد الحرام، ثم ان ذلك الموضع أفضل مكان يصلّى فيه» (1).
3- وقال أيضاً: «واما إذا كان موضع القبور مسجداً أو على طريق. أو كان هناك أحدٌ جالس. أو ان قبر وليّ من أولياء اللَّه أو عالم من المحقّقين، تعظيماً لروحه المشرقة على تراب جسده كاشراق الشمس على الأرض، اعلاماً للناس انّه وليّ، ليتبرّكوا به ويدعوا اللَّه عنده، فيستجاب لهم، فهو أمر جائز لا مانع منه، والأعمال بالنيّات» (2).
4- الأبي المالكي- كما عن الكوثري- «من اتخذ مسجداً قرب رجل صالح أو صلى في مقبرته قصداً للتبرّك بآثاره وإجابة دعاه هناك فلا حرج في ذلك، واحتج لذلك بأن قبر إسماعيل عليه السلام في مسجد الحرام عند الحطيم ثم ان ذلك الموضع أفضل مكان للصلاة فيه» (3).
5- البغوي: «منهم من ذهب إلى ان الصلاة فيها جائزة إذا صلّى في موضع نظيف منه.
وروي ان عمر رأى أنس بن مالك يصلّي عند قبر، فقال: القبر القبر. ولم يأمره بالإعادة، وحكى عن الحسن انّه صلّى في المقابر. وعن مالك: لا بأس بالصلاة في المقابر.
ص: 162
وتأويل الحديث، هو ان الغالب من أمر الحمام قذارة المكان ومن أمر المقابر اختلاط تربتها بصديد الموتى ولحومها. فالنهي لنجاسة المكان، فإن كان المكان طاهراً فلابأس» (1).
هل يبقى مجال للوهابيين بعد هذه الفتاوى والآراء الصريحة أن يتّهموا من يصلّي في المشاهد والمقابر، بالشرك والكفر، وانه يريد عبادة صاحب القبر؟! وقد صلّى أنس بن مالك والحسن البصري بين المقابر!!
ص: 163
بناء القبور
وعقد القباب
1- رأي الوهابية
2- مناقشة الفكرة
3- مناقشة طرق الحديث
4- سيرة الصحابة وعموم المسلمين
5- نماذج من القبور المبنية والقباب
6- مناقشة طرق حديث ابن الزبير
7- مناقشة دلالة الحديث
ص: 164
ص: 165
هذا ما حرّمه الوهابيون واعتبروا ذلك شركاً وكفراً، وأوجبوا هدم القبور والقباب التي عليها، والبناء الذي حولها، وفيما يلي أقوالهم:
1- قال الصنعانيّ: إن المشهد بمنزلة الوثن والصنم، إنَّ ما كانت تفعله الجاهلية لما يسمونه وثناً وصنماً هو الذي يفعله القبوريون لما يسمونه ولياً وقبراً ومشهداً، وذلك لايخرجه عن اسم الوثن والصنم» (1).
2- وعن ابن القيم (تلميذ ابن تيمية): يجب هدم المشاهد التي بُنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً وطواغيت تعبد من دون اللَّه ولايجوز إبقاؤها بعد القدرة على هدمها وابطالها يوماً واحداً فانّها بمنزلة اللات والعزى، أو أعظم شركاً عندها، وبها (2)..
3- وصرّح الوهابيون في كتابهم إلى شيخ الركب المغربي: إن ما
ص: 166
حدث من تعظيم قبور الأنبياء وغيرهم ببناء القباب عليها وغير ذلك من حوادث الامور التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه و آله بقوله: لاتقوم الساعة حتى يلحق حيّ من امتي بالمشركين وحتى يعبد فئام من امّتي الأوثان (1).
4- وقال قاضي قضاتهم عبداللَّه بن سليمان بن بليهد في جريدة امّ القرى 1345 ه. ق: لم نسمع في خير القرون، ان هذه البدعة حدثت فيها، بل بعد القرون الخمسة (2).
5- وفي الجواب المنسوب لعلماء المدينة: اما البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً لصحّة الأحاديث الواردة في منعه، ولهذا افتى كثير من العلماء بوجوب هدمه، مستندين على ذلك بحديث علي: انه قال لأبي الهياج: ألا أبعثكَ على ما بعثني عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلّاسوّيته.
والجواب:
اما الاجماع: فممنوع بل هذا العمل جائز إجماعاً لاستمرار عمل المسلمين عليه من جميع المذاهب الإسلامية في كل عصر وزمان: عالمهم وجاهلهم، مفضولهم وفاضلهم أميرهم ومأمورهم رجالهم ونسائهم، قبل الوهابية. والسيرة إجماع عملي لأنها كاشف قطعي عن انه مأخوذ
ص: 167
من صاحب الشرع.
ويؤيده اعتراف الصنعاني نفسه بهذه السيرة- في رسالته تطهير الاعتقاد- حيث أورد على نفسه سؤالًا: بأن هذا الأمر عمَّ البلاد وطبَّق الأرض شرقاً وغرباً بحيث لا بلدة من بلاد الإسلام إلّاوفيها قبور ومشاهد، بل مساجد المسلمين غالبها لاتخلو عن قبر أو مشهد ولا يسع عقل عاقل أن هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة ويسكت عليه علماء الإسلام الذين ثبتت لهم الوطأة في جميع الدنيا.
فأجاب: إن أردت الإنصاف وتركت متابعة الأسلاف وعرفت أن الحق ما قام عليه الدليل لا ما اتفقت عليه العوالم جيلًا بعد جيل.
فاعلم ان هذه الامور صادرة عن العامة الذين إسلامهم تقليد الآباء بلا دليل ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير بل ترى من يتسم بالعلم ويدّعي الفضل وينتصب للقضاء والفتيا والتدريس، أو الولاية أو المعرفة أو الامارة والحكومة، معظماً لما يعظمونه مكرماً لما يكرمونه، ولايخفى أن سكوت العالم أو العالِم على وقوع المنكر ليس دليلًا على جوازه..»
وقفة مع الصنعاني:
أولًا: في هذا النص اعتراف من الصنعاني بوقوع السيرة على أكمل وجوهها واعترف بوقوع ذلك من جميع طبقات الناس من العوالم والعلماء والفضلاء والقضاة والمفتين والمدرسين، والأولياء والعارفين والامراء والحكّام بدون إنكار، ولم تخرج عنه باعترافه طبقة من الطبقات، فأي سيرة أقوى من هذه وأشمل.
ص: 168
ثانياً: قوله: إن الحق ما قام عليه الدليل، فنقول: ان اتفاق الامة جيلًا بعد جيل دليل قطعي، لا دليل أقوى منه.
اما الاستدلال بصحّة الحديث:
ففيه:
أولًا: صحّة الحديث في نظرهم ووضوح دلالته عندهم وخلوّه عن المعارض لايوجب، صحته ووضوحه في نظر غيرهم، فكيف يدعي الاجماع اعتماداً على دعوى صحة الحديث.
ثانياً: التناقض والتهافت في كلامه: إذ تارة يقول: أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه وتارة يقول: الحديث الدال على التحريم مجمع على صحته. فلو كان مجمعاً على صحته، فلماذا لم يفت جميعهم بوجوب الهدم بل أفتى الكثير- على حسب دعواهم.
ثالثاً: النقاش في سند الحديث ودلالته:
«حدّثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قال يحيى: أخبرنا وقال الآخران: حدّثنا وكيع، عن سفيان، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن أبي الهيّاج الأسدي، قال: قال لي علي عليه السلام: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا تدَع تمثالًا إلّا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلّاسوّيته» (1).
اما النقاش السندي؛ ففيه من ضعَّفه علماء الرجال ومتخصصوا الفن.
ص: 169
اما وكيع: وهو ابن الجراح الرواسي.
1- قال عبداللَّه بن أحمد بن حنبل: سمعت ابي يقول: ابن مهدي أكثر تصحيفاً من وكيع: ووكيع أكثر خطأ من ابن مهدي.
2- وقال عبداللَّه بن أحمد في موضع آخر: سمعت أبي يقول: أخطأ وكيع في خمس مئة حديث (1).
3- وقال ابن المديني: كان وكيع يلحن، ولو حدثت بألفاظه لكانت عجباً، كان يقول: حدّثنا الشعبي، عن عائشة (2).
4- وقال محمد بن نصر المروزي: كان يحدِّث بآخره من حفظه فيغيّر (3) ألفاظ الحديث كأنه يحدِّث بالمعنى ولم يكن من أهل اللسان (4).
واما سفيان:
1- قال الذهبي كان يدلس عن الضعفاء (5).
2- وعن ابن المبارك، قال: حدث سفيان بحديث، فجئتُهُ وهو يدلسه، فلما رآني إستحيى، وقال: نرويه عنك (6).
3- وعن أبي بكر، قال: سمعتُ يحيى يقول: جَهد الثوري أن
ص: 170
يدلسَ عليَّ رجلًا ضعيفاً فما أمكنه (1).
4- وعن يحيى بن معين: لم يكن أحد أعلم بحديث أبي إسحاق من الثوري وكان يدلس (2).
واما حبيب بن أبي ثابت:
1- قال ابن حبان: كان مدلساً (3).
2- وقال العقيلي: وله عن عطاء أحاديث لا يتابع عليها (4).
3- وقال العقيلي أيضاً: غَمَزهُ ابن عون (5).
4- وقال القطان: له غير حديث عن عطا، لايتابع عليه وليست بمحفوظة.
5- وقال ابن خزيمة: كان مدلساً (6).
وأما أبو وائل: فهو من مبغضي علي عليه السلام فكيف يعتمد عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه و آله يا علي لايحبك إلّامؤمن، ولا يبغضك إلّامنافق (7).
المناقشة في المتن والدلالة:
أولًا: انّه شاذ، انفرد به أبو الهيّاج، وقال السيوطي في شرح النسائي: ليس لأبي الهيّاج في الكتب إلّاهذا الحديث الواحد.
ص: 171
ثانياً: لا دلالة له على المدّعى بل هو وارد في الأمر بالتسطيح والنهي عن التسنيم، فان الشرف، وإن كان معناه: العالي إلّاأن التسنيم نوع من العلو.
«الشرف» يعني العلو، ومن البعير سنامه- كما في القاموس (1)- إذن: الشرف يشمل باطلاقه، أو بوصفه، العالي سواء كان علوه بالتسنيم وبغيره.
ولكن قوله «إلّا سوّيته» قرينة على إرادة التسنيم من الشرف والتسطيح من التسوية.
وبعبارة اخرى في الرواية احتمالات ثلاث:
1- أن يكون المراد هدم البناء المشيّد على القبر.
2- أن يكون المراد تسوية القبر مع الأرض.
3- أن يكون المراد تسطيح القبر وتعديل ما فيه من اعوجاج والحيلولة دون تسنيمه كظهر السمك وسنام البعير.
اما الاحتمال الأوّل فمردود لوجود السيرة وعمل الصحابة وغيرهم على خلافه، وسيجي ء البحث عنه.
واما الاحتمال الثاني فمردود أيضاً، وذلك لقيام السنّة القطعية على ارتفاع القبر عن الأرض شبراً واحداً.
فيبقى الاحتمال الثالث: وهو تسطيح القبر وتعديل ما فيه من اعوجاج والحيلولة دون تسنيمه، كظهر السمك وسنام البعير. وهذا ما
ص: 172
يراه جمع من علماء السنّة كالنووي والقسطلاني.
قال النووي: إن السنّة أن القبر لا يرفع عن الأرض رفعاً كثيراً، ولا يُسّنم بل يرفع نحو شبر ويسطح (1).
وقال القسطلاني: بعد أن قال: السنّة في القبر تسطيحه وانه لايجوز ترك هذه السنّة لمجرّد أنها صارت شعاراً للروافض، وانه لا منافاة بين التسطيح وحديث أبي هيّاج، يقول: لأنّه لم يُرد تسويته بالأرض وانّما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار (2).
1- ان قبور الأنبياء التي حول بيت المقدس كقبر داود عليه السلام في القدس وقبور إبراهيم وبنيه: إسحاق ويعقوب ويوسف الذي نقله موسى من مصر إلى بيت المقدس في بلد الخليل كلها مبنية مشيّدة، قد بني عليها بالحجارة العادية العظيمة من قبل الإسلام وبقي ذلك بعد فتح الإسلام (3).
وقد صرّح بذلك ابن تيمية، فقال: ان البناء الذي على قبر إبراهيم الخليل عليه السلام كان موجوداً في زمن الفتوح وزمن الصحابة إلّاانّه كان باب
ص: 173
ذلك البناء مسدوداً إلى سنة الاربعمائة.
ولا شك ان عمر لمّا فتح بيت المقدس رأى ذلك البناء، ومع ذلك لم يأمر بهدمه.
دعوى ابن بليهد:
لقد ادعى ابن بليهد: أنّ البناء على القبور حدث بعد القرون الخمسة.
هذا ولكن التاريخ على خلاف دعواه تماماً، فإن هناك أبنية على القبور، ومزارات كانت قبل القرن الخامس بل بعضها في القرن الأول والثاني. وإليك أمثلة على ذلك:
1- بناء الحجرة الشريفة.
2- بناء المسجد على قبر حمزة.
3- ان قبر إبراهيم بن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان في دار محمد بن زيد بن علي عليه السلام.
4- قبر سعد بن معاذ كان في دار ابن أفلح، وان عليه حنبذة- أي قبّة- في زمن عمر بن عبدالعزيز الذي هو من المائة الثانية (1).
5- ان البناء على قبر الزبير كان عام 386 ه.
6- ان البناء على قبر النذور- قبر عبيداللَّه بن محمد بن عمر بن علي عليه السلام كان في القرن الرابع.
ص: 174
1- قبر النبي صلى الله عليه و آله: فانّه صلى الله عليه و آله دفن في حجرة مبنية، ولو كان البناء على القبور محرماً، لهدمها الصحابة قبل دفنه صلى الله عليه و آله، إذ لو كان البناء كالأصنام، فلا فرق بين البناء السابق والبناء اللاحق، والبناء والقبة على القبر الشريف لازال موجوداً إلى يومنا هذا.
2- لم يكن على بيت النبي حائط، وكان أوّل من بنى عليه جداراً، عمر بن الخطاب (1).
3- ان عائشة بَنَتْ حائطاً بينها وبين القبور وكانت تسكنها وتصلّي فيها قبل الحائط وبعده.
«كانوا يأخذون من تراب القبر، فأمرت عائشة بجدار فضربت عليهم وكانت في الجدار كوة، فكانوا يأخذون منها، فأمرت بالكوة فَسُدْتْ (2).
4- ثم بناها عبداللَّه بن الزبير ثم سقط حائطها.
5- بناه عمر بن عبدالعزيز، وفي رواية انه هدم البيت الأوّل. ثم بناه وبنى حظاراً محيطاً به وتولّى ذلك عمر بن عبدالعزيز وآزر الحجرة بالرخام.
فلما ان بنى البيت على القبر وهدم البيت الأوّل، ظهرت القبور الثلاثة (3).
ص: 175
6- ثم اعيد تأزيرها في زمن المتوكل الخليفة العباسي.
7- جُدِّد في زمن المقتفي، ثم عُمِلَ في زمنه للحجرة مُشبّك من خَشَب الصندل، والابنوس على رأس جدار عمر بن عبدالعزيز.
8- ثم لما سقط حائط الحجرة في دولة المستضيئ، اعيد بناؤه ثم لما احترق الحرم الشريف عام 654 ه. ق شرعوا في تجديد الحجرة الشريفة في دولة المستعصم العباسي وأكمل تعميره من آلاتٍ وصلت من مصر في عهد الملك المنصور أيبك الصالحي، وأخشاب من صاحب اليمن: الملك المظفر.
9- ثم أكمل تعميرها في أيام الملك المنصور قلاوون الصالحي صاحب مصر فعملت أوّل قبّة على الحجرة الشريفة. وهي القبة الزرقاء التي بناها أحمد بن عبدالقوى (1) عام 678 ه. ق.
ثانياً: قبور الصحابة وغيرهم:
1- ان عقيلًا لما حفر بئراً في داره وجد حجراً مكتوباً عليه: هذا قبر امّ حبيبة (2)، فدفن البئر وبنى عليه بيتاً.
2- بنى الرشيد قبة على قبر أمير المؤمنين علي عليه السلام في المائة الثانية (3).
ص: 176
3- يقول الخطيب البغدادي: ان الكاظم عليه السلام دفن في مقابر الشونيز وقبره هناك مشهور يزار، عليه مشهد عظيم فيه القناديل وأنواع الآلات والفرش (1). وولادة الخطيب عام 392 ه وهو من القرن الرابع.
4- ان الرضا عليه السلام دفن في القبّة التي دفن فيها هارون بطوس ويظهر أن ولده المأمون بنى تلك القبّة عام 200 ه.
5- قبر أبي تمام الطائي: إنّ نهشل بن حميد الطوسي بنى على قبر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر المعروف بالموصل عام 230 ه.
6- قبر بوران: بنيت قبة على قبر بوران بنت الحسن بن سهل عام 271 ه.
7- الذهبي: إن المتوكل عام 236 أمر بهدم قبر الحسين (2)، وهدم ما حوله. فتألم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء. وممّا قيل فيه:
تاللَّه إن كانت اميّة قد أتت قتل ابن بنتِ نبيّها مظلوماً
فلقد أتاه بنو أبيه بمثله هذا لعمري قبره مهدوماً
ص: 177
اسفوا على أن لا يكونوا شاركوا في قتله فتتبعوه رميماً (1)
اذن هذه العصور كلها سابقة على القرن الخامس الذي يدعيه ابن بليهد، فلو كانت الأبنية على القبور محرّمة وتُعد شركاً لورد النهي، سيما ان تلك العصور- خصوصاً عصر هارون والمأمون- كان حافلًا بالعلماء وأئمة الدين، ولم ينقل ان أحداً منهم أنكر ذلك، مع انّهم أنكروا على المأمون خلق القرآن ولم يوافقوه، وصبروا على الحبس والضرب..
وفيما يلي نماذج اخرى:
1- قبر سلمان الفارسي ت 36 ه.
قال الخطيب البغدادي: قبره الآن ظاهر معروف بقرب أيوان كسرى عليه بناء وهناك خادم مقيم لحفظ الموضع وعمارته والنظر في أمر مصالحه» (2).
2- قبر طلحة المقتول يوم الجمل سنة 36 ه.
قال ابن بطوطة: مشهد طلحة بن عبيد اللَّه.. وهو بداخل المدينة وعليه قبة ومسجد، وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر..
ثمّ عدَّ مشاهداً في البصرة لجملة من الصحابة والتابعين فقال:
وعلى كلِّ قبر قبّةٌ مكتوب فيها اسم صاحب القبر ووفاته (3).
3- الزبير بن العوام: قال ابن الجوزي: بنى عليه الأثير أبو المسك
ص: 178
عنبر، بناءاً وجعل الموضع مسجداً ونقلت إليه القناديل والآلات والحصر والسمّادات واقيم قوّام وحفظة ووقف عليه وقوفاً (1).
4- أبو أيوب الأنصاري: ت 52 بالروم:
قال الوليد: حدّثني شيخ من أهل فلسطين: أنه رأى بنية بيضاء دون حائط القسطنطنية، فقالوا: هذا قبر أبي أيوب الأنصاري صاحب النبي صلى الله عليه و آله، فأتيت تلك البنية فرأيتُ قبره في تلك البنية وعليه قنديل معلّق بسلسلة (2).
وقال ابن كثير: وعلى قبره مزار ومسجد (3)..
5- مشهد الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام قال الذهبي: «له مشهد عظيم مشهور ببغداد ولولده علي بن موسى مشهد عظيم بطوس» (4).
قال ابن الجوزي: في هذه الأيام- يعني سنة 459- بنى أبو سعد المستوفي الملقب شرف الملك، مشهد أبي حنيفة وعمل لقبره ملبناً وعقد القبّة...» (5).
6- معروف الكرخي ت 200 ه
قال ابن الجوزي:.. بُنيت تربة قبر معروف في ربيع الأول سنة
ص: 179
460 وعقد مشهداً زاجاً بالجص والآجر (1)
7- محمد بن إدريس الشافعي: ت 204 ه
قال الذهبي: إن الملك الكامل عمّر قبّةً على ضريح الشافعي (2).
8- أبو علي الهبيش ت 420 ه
قال ابن الجوزي: قبره ظاهر بالكوفة وقد عمل عليه مشهد.. (3).
وقد استدلّوا برواية ابي الزبير التي رواها مسلم (4) والترمذي (5)، وابن ماجه (6)، والنسائي (7)، وأبو داود (8)، وأحمد في مسنده (9) (نهى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يجصص القبر وان يعقد عليه وأن يبنى عليه».
وفيما يلي طرق الحديث:
الطريق الأول: أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا حفص بن غياث، عن ابن جُريج، عن أبي الزبير، عن جابر: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله... (10)
ص: 180
الطريق الثاني: هارون بن عبداللَّه، حدّثنا حجاج بن محمد، وحدّثني محمد بن رافع، حدّثنا عبدالزراق جميعاً عن ابن جريج، عن أبي الزبير.. (1) الطريق الثالث: عبد الرحمن بن الأسود، أخبرنا محمد بن ربيعة، عن ابن جريج عن أبي الزبير (2).
الطريق الرابع: حدّثنا أزهر بن مروان ومحمد بن زياد، قال:
حدّثنا عبد الوارث عن أيوب، عن أبي الزبير... (3).
الطريق الخامس: أخبرنا يوسف بن سعيد، حدّثنا حجاج عن ابن جريج، عن أبي الزبير (4).
المناقشة في السند:
وفي السند: ابن جريج، وأبو الزبير، وحفص بن غياث ومحمد بن ربيعة، وعبدالرزاق.
اما ابن جريج: وهو عبد الملك بن عبدالعزيز بن جريج الأموي.
الآراء حوله:
1- سُئل يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج، فقال: ضعيف.
فقيل له: إنّه يقول: أخبرني، قال: لا شي ء.. كلّه ضعيف.
2- قال أحمد: إذا قال ابن جريج: قال فلان، وقال فلان
ص: 181
وواخبرتُ، جاء بمناكير.
3- قال مالك بن أنس: كان ابن جُريج حاطب ليل (1).
4- وقال الدارقطني: تجنب تدليس ابن جريج، فانّه قبيح التدليس لا يدلس إلّافيما سمعه من مجروح.
5- وقال ابن حبان: كان يدلس في الحديث.
6- وقال يحيى بن سعيد، إذا قال ابن جريج «قال»: فهو شبه الريح.
7- وقال يزيد بن زريع: كان ابن جريج صاحب غثاء.
8- قال الذهبي:.. يدلس وهو في نفسه مجمع على ثقته مع كونه قد تزوج نحواً من سبعين امرأة نكاح المتعة.
9- قال عبداللَّه بن أحمد، قال أبي: بعض الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج لا يبالي من أين يأخذها.
10- قال الدارقطني: تجنب تدليس ابن جريج، فانّه قبيح التدليس، لا يدلس إلّافيما سمعه من مجروح مثل إبراهيم بن أبي يحيى (2).
اما الراوي الثاني: أبو الزبير:
اسمه: محمد بن مسلم بن تدرس الآمدي
ص: 182
وقد ضعفه علماء الرجال. وفيما يلي نماذج من آرائهم:
1- عن أحمد: كان أيوب يضعفه..
2- قال نعيم بن حماد، سمعت ابن عيينه: كأنه يضعفه.
3- عن سويد بن عبدالعزيز، قال لي شعبة: تأخذ عن أبي الزبير، وهو لايحسن أن يصلّي؟!
4- قال نعيم: سمعت هشيماً يقول: سمعت من أبي الزبير، فأخذ شعبة كتابي فمزّقه.
5- قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي عن أبي الزبير فقال:
يكتب حديثه ولايحتج به (1).
6- الترمذي: ذكر شعبة انّه ضعَّف أبا الزبير المكيّ (2).
7- قال أبو زرعة وأبو حاتم: لا يحتج به.
8- وعن أبي عيينه: كان أبو الزبير عندنا بمنزلة خبز الشعير إذا لم نجد عمرو بن دينار ذهبنا إليه.
9- ابن أبي حاتم سألت أبا زرعة عن أبي الزبير فقال: يروى عنه الناس، قلت: يحتج بحديثه؟ قال: انّما يحتج بحديث الثقات.
10- قال شعبة: لم يكن في الدنيا شي ء أحبّ إليَّ من رجل يقدم من مكة فأسأله عن أبي الزبير، فقدمت مكة، فسمعت منه، فبينا أنا جالس عنده إذ جاءه رجل يوماً فسأله عن مسألة، فقلت له: يا أبا الزبير تفتري على رجل مسلم! قال: انه أغضبني، قلت: من يغضبك
ص: 183
يُفترى عليه؟ لا رويتُ عنك حديثاً أبداً (1).
وفي تهذيب التهذيب: فردّ عليه فافترى عليه- يعني أبو الزبير (2).
والنتيجة: ان أبا الزبير ضعيف، ولا يحسن الصلاة، ولايحتج به وانه يفتري، وان شعبة مزّق كتابه، فهل يبقى مع هذا مجال للاعتماد عليه؟!!
اما الثالث: حفص بن غياث
1- قال يعقوب بن شيبة: يُتّقى بعض حفظه (3).
2- وقال أبو زرعة: ساء حفظه بعدما استقضى (4).
3- وقال داود بن رشيد: حفص كثير الغلط (5).
4- عن أحمد: كان حفص يخلط كثيراً (6).
5- وعنه: ان حفصاً كان يدلّس (7).
اما الرابع: محمد بن ربيعة: وهو أبو عبداللَّه الكوفي الرواسي (8) 1- قال الساجي: فيه لين (9).
ص: 184
2- وقال الأزدي: فيه لين ونظر (1).
3- وقال عثمان بن أبي شيبة: جاء محمد بن ربيعة، فطلب أن نكتب عنه، فقلنا لاندخل في حديثنا الكذّابين (2).
واما الطريق الخامس: عبد الوارث، وهو بن سعيد بن ذكوان التميمي:
1- قال البخاري: قال عبدالصمد: انه لكذوب على أبي (3)..
2- كماضعفه الدارقطني، وقال بعد ذكر حديثٍ عنه: لايصح هذا.
3- وقال ابن معين: انّه مجهول (4).
4- ونقل الترمذي عن البخاري: عبد الوارث منكر الحديث.
واما الطريق السادس: عبدالرزاق الصنعاني
فهو أيضاً ضعيف عندهم اما لأجل تشيّعه- على مبناهم من كون التشيّع ضعفاً- واما لأجل ضعفه في السماع كما عن ابن حنبل، واما لُامور اخرى (5).
والحاصل ان هذه الرواية مليئة بالسُقم السندي وضعف رجالها، فكيف اعتمد عليها الوهابيون؟ وكيف بنوا عليها آراؤهم الفقهية، ومِن ثمَّ كفّروا المسلمين واستباحوا دماءُهم؟!
ص: 185
هذا كلّه من حيث السند
واما البحث في دلالة الحديث فهي:
أوّلًا: لا يدل الحديث على أكثر من النهي وهو على قسمين: نهي تحريم ونهي كراهة.
وكثيراً ما ورد النهي في الأحاديث بمعنى الكراهة (1) وهذه الكثرة توجب انصراف هذا الحديث- الذي فيه النهي- إلى الكراهة، ويضعف ظهورها في الحرمة.
1- قال الشافعي والأصحاب، يستحب أن لا يزاد القبر على التراب الذي اخرج منه؛ لهذا الحديث.
2- قال السندي- نقلًا عن النيسابوري- بعد حديث النهي أن يكتب على القبر شي ء، قال: «هذه الأسانيد صحيحة وليس العمل
ص: 186
عليها فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب يكتبون على قبورهم وهو شي ء أخذه الخلف عن السلف» (1).
3- قال النووي: اما البناء، فإن كان في ملك الباني فمكروه، وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام نص عليه الشافعي والأصحاب.. قال أصحابنا: تجصيص القبر مكروه (2).
ثانياً: ان هذه الأحاديث غير ناظرة إلى ما يكون تعمير القبر وتشييده والبناء فوقه، من تعظيم شعائر اللَّه وحرماته، لكون صاحبه نبيّاً أو وليّاً، أو لكونها بنيت لمصالح في الدين مهمة؛ مثل أن تكون علامة ومناراً للقبر الذي ندب الشرع إلى زيارته وحفظاً له عن الاندراس. كما علّم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبر عثمان بن مظعون، وعلمت فاطمة الزهراء عليها السلام قبر حمزة.
وفيما يلي الشواهد:
1- ابن ماجه: «وقد علَّم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبر عثمان بن مظعون بصخرة وضعها عليه» (3). وعقب الهيثمي عليه: وقال اسناد حسن (4).
قال السندي في توضيح الحديث: أي وضع عليه الصخرة ليتبيّن بها.
2- وعن بعض الصحابة: لما مات عثمان بن مظعون اخرج بجنازته فدفن، فأمرَ النبي صلى الله عليه و آله رجلًا أن يأتي بحجرٍ فلم يستطع حمله،
ص: 187
فقام إليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وحسَر عن ذراعيه.
قال الراوي: كأني أنظر إلى بياض ذراعي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين حسر عنهما، ثم حمله فوضعه عند رأسه، وقال: أتعلَّم به قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي.
.. فلما ولّى مروان بن الحكم المدينة مرَّ على ذلك الحجر، فأمَرَ به فُرمى به، وقال: واللَّه لا يكون على قبر عثمان بن مظعون حجر يعرف به، فأتته بنو أمية، فقالوا: بئس ما صنعت فمُر به فليرد. فقال: اما واللَّه إذ رميت به فلا يُرد (1).
3- الأصبغ بن نباتة: ان فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كانت تأتي قبر حمزة، وكانت قد وضعت عليه علماً تعرفه (2) وذكر ان قبر النبي صلى الله عليه و آله وأبي بكر وعمر كان عليهم النَقَل يعني حجاراً صغاراً» (3).
ثم ان الفوائد المترتّبة على البناء ما يلي:
1- تعظيم الشعائر وإرغام الأعداء والمنكرين.
2- استظلال الزائرين بها من الحرّ والقرّ عند الزيارة والصلاة بجانبها التي ثبت رجحانها بشرف المكان والدعاء عندها.
3- قراءة القرآن.
4- التدريس.
5- إلقاء المواعظ وغير ذلك..
ص: 188
ص: 189
الاسراج
على القبور
1- رأي الوهابية
2- مناقشة الفكرة
3- سيرة المسلمين
4- مناقشة حديث المنع من الاسراج
ص: 190
ص: 191
وقد منعه الوهابيون، محتجين بالحديث المتقدّم «لعن رسول اللَّه زائرات القبور والمتّخذين عليها المساجد والسُرُج» (1).
والجواب:
أوّلًا: هذا الحديث ضعيف السند- كما مرّ-.
ثانياً: محمول على غير قبور الأنبياء والأولياء الذين دلّ الشرع على رجحان تعظيمهم، أحياءاً وأمواتاً.
ثالثاً: محمول على صورة عدم المنفعة، فيكون تضييعاً للمال، واما الإسراج لقراءة القرآن والأدعية، والصلاة وانتفاع الزائرين والبائتين فيها، فليس مكروهاً ولا محرماً، وذلك للنفع الظاهر في ذلك، فيكون من التعاون على البِّر والتقوى، كما أشار إلى ذلك العزيزي والسندي والشيخ الحنفي والشيخ علي منصور. وسيأتي تفصيل أقوالهم.
ص: 192
والشاهد على ذلك:
فعل النبي صلى الله عليه و آله: فقد روى الترمذي عن ابن عباس: ان النبي صلى الله عليه و آله دخل قبراً ليلًا فاسرج له سراج (1).
رابعاً: سيرة المسلمين
كما ان سيرة المسلمين- من قبل أن يولد ابن تيمية وبعده- كانت جارية على الاسراج والاضاءة على القبور والمشاهد:
1- قنديل على قبر أبي أيوب الأنصاري:
قال الخطيب البغدادي: قال الوليد: حدّثني شيخ من أهل فلسطين: انّه رأى بنيّة بيضاء دون حائط القسطنطينية فقالوا: هذا قبر أبي أيوب الأنصاري صاحب النبي صلى الله عليه و آله فأتيت تلك البنية، فرأيت قبره في تلك البنية وعليه قنديل (2) معلّق بسلسلة» (3).
والملاحظ أن وفاة الخطيب 463 ه أي في القرن الخامس ووفاة ابن تيمية في القرن التاسع، والفرق الزمني بينهما حوالي أربعمائة سنة فهذه العادة كانت جارية قبل أن يولد ابن تيمية ولم يُعهد من فقيه إسلامي أفتى بحرمة هذا المعنى، ولا عدّه من البدع والشرك.
2- قناديل تنقل لقبر الزبير:
قال ابن الجوزي: «فمن الحوادث في سنة 386 ه أن أهل البصرة
ص: 193
ادّعوا انهم كشفوا عن قبر عتيق... وانه الزبير بن العوّام.. ونقلت إليه القناديل والآلات والحصر والسمّادات واقيم فيه قوّامٌ وحفظة ووقف عليه وقوفاً» (1).
الملاحظ: ان هذا الاكتشاف ومن ثم عملية نقل القناديل ونصبها على القبر، كان في القرن الرابع، قبل أن يولد ابن تيمية بخمسة قرون ولم يعهد أيضاً من فقيه أفتى بحرمة نقل القناديل واستضاءة قبر الزبير أو قبر غيره.
3- قناديل على قبر الكاظم عليه السلام:
قال الخطيب:.. وقبره هناك مشهور يزار وعليه مشهد عظيم فيه قناديل الذهب والفضة وأنواع الآلات والفرش ما لا يحدّ.. (2).
اما من حيث السند: فقد رواه الحاكم في مستدركه بسندين ينتهيان إلى ابن عباس، ولكن فيهما: أبو صالح وهو باذان وليس:
«السمان» المحتج به (3) وأبو صالح هذا مردود.
قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا تحتج به.
وقال النسائي: ليس بثقة.
وقال ابن عدي: عامّة ما يرويه، تفسير، وما أقلَّ ما له في
ص: 194
المسند... ولم أعلم أحداً من المتقدّمين رضيه» (1).
و في الحديث طريقان آخران تعرضنا لها في بحث زيارة النساء للقبور.
اما دلالة الحديث:
1- قال العزيزي في شرح قوله صلى الله عليه و آله: والسُرُج» محل ذلك حيث لا ينتفع بها الأحياء.. فإن كان هناك من ينتفع به صح ذلك» (2).
2- وقال السندي في حاشية سنن النسائي: «والنهي عنه لأنه تضييع مال بلا نفع. ومفاده: انه لا نهي حيث يكون هناك نفع (3).
3- الشيخ الحنفي في الحاشية: «يحرم إسراج القنديل على قبر الولي ونحوه، حيث لم يكن ثمَّ من ينتفع به، لما فيه من إضاعة المال، لا لغرض شرعي» (4).
4- وقال الشيخ علي ناصف: «فلا يجوز السُرج على القبور لأنها إضاعة مال، إلّاإذا كان هناك أحدٌ من الأحياء فيجوز له الإسراج» (5).
اذن: الحكم ارشادي لا مولوي، فهو إرشاد إلى عدم تضييع المال، فلو كان للإضاءة والسراج نفع عقلائي، فلا يشمله هذا الحديث.
أضف إلى عدم إفادة اللعن الحرمة بل قد يكون محمولًا على الفعل المكروه.
ص: 195
النذر
1- دعوى الوهابية في النذر لغير اللَّه
2- مناقشة الدعوى
3- الروايات تؤكّد جواز ذلك
4- سيرة المسلمين في النذر
5- آراء العلماء في النذر لغير اللَّه
ص: 196
ص: 197
ترى الوهابية حرمة النذر لغير اللَّه وان ذلك يشبه النذر للأوثان وانه ينشأ من الغلو في المنذور له.
1- قال القصيمي: «إنها من شعائر الشيعة الناشئة عن غلوّهم في أئمتهم وتأليههم لعلي وولده» (1).
2- وقال ابن تيمية: «قال علمائنا لايجوز أن يُنذر لقبر ولا للمجاورين عند القبر شيئاً من الأشياء، لا من درهم ولا من زيت، ولا من شمع، ولا من حيوان ولا غير ذلك، كلّه نذر معصية، وقد ثبت في الصحيح: من نذر أن يطيع اللَّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللَّه فلا يعصه» (2).
وقال: «وإذا كان الطلب من الموتى- ولو كانوا أنبياء- ممنوعاً خشية الشرك، فالنذر للقبور، أو لسكّان القبور نذر حرام باطل يشبه
ص: 198
النذر للأوثان ومن اعتقد أنَّ في النذر للقبور نفعاً أو أجراً فهو ضال جاهل» (1).
والجواب: أوّلًا: المقصود بالنذر نذر الصدقة وإهداء ثوابها إلى النبي أو الولي أو الصالح، ولا يقصد التقرّب إليه بالنذر بل إلى اللَّه، كيف يقصد التقرّب إليه وهو يعلم انّه ميّت لايمكنه الانتفاع بالمنذور، لا يأكله إن كان طعاماً ولا ينفقه إن كان مالًا، ولا يلبسه إن كان ثياباً.
فالواجب عدم التسرّع في التكفير والتهجّم على المسلمين بفتاوى غير مدروسة بل يجب حمل فعل المسلم على الصحّة، وينبغي الحذر من التهجّم مهما أمكن.
ثانياً: انَّ هذا النذر لا يزيد على من نذر لأبيه وامّه أو حلف أو عاهد أن يتصدَّق عنهما وقد ورد لزوم الوفاء به. كما روي عنه صلى الله عليه و آله انه قال للبنت التي نذرت لأبيها عملًا «فِي بنذرك».
اما اختيار بعض الأمكنة: فهو طلب لشرف المكان حتى يتضاعف ثواب العبادة، كما يختار بعض الأزمنة لبعض العبادات وهذا ممّا لا بأس به. ويدل عليه بعض الروايات:
1- روي عن ثابت بن الضحاك، عن النبي صلى الله عليه و آله: أنّ رجلًا سأله
ص: 199
أنّه نذر أن يذبح ببوانه (1)، فأتى رسول اللَّه، فأخبره فقال صلى الله عليه و آله: هل كان فيها وثنٌ من أوثان الجاهلية يُعبد؟
قالوا: لا، قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أَوفِ بنذرك، فانه لا وفاء لنذر في معصية اللَّه، ولا فيما لا يملك ابن آدم (2).
2- عن ميمونة: أن أباها قال للنبي صلى الله عليه و آله: اني نذرتُ أن أذبح خمسين شاة على بوانه، فقال: هناك شي ء من هذه النُصُب؟ فقال: لا.
قال صلى الله عليه و آله: فأوفِ بنذرك، فذبح تسعاً وأربعين وبقيت واحدة، فجعل يعدو خلفها ويقول: اللهمّ اوفِ بنذري حتى أمسكها فذبحها (3).
وهذه الرواية لعلّها متحدة مع ما قبلها وإن اختلفت في بعض العبارات.
ولعلّ سؤاله صلى الله عليه و آله: هل كان فيها وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية، خشية أن يكون النذر جارياً على عادة أهل الجاهلية لقرب العهد بهم.
ثالثاً: معنى النذر: هو أن يلزم الإنسان نفسه بأداء شي ء معيّن إذا تحقق هدفه وقضيت حاجته، فيقول: للَّه عليّ أن أفعل كذا إذا كان كذا.
وهذا هو النذر الشرعي. ففي قوله: نذرت لفلان مجازاً لِغاية الاختصار، إذ معناه: نذرت للَّه على أن أفعل شيئاً يكون ثوابه لفلان.
ص: 200
ومن أعجب العجائب: تكفير ابن تيمية للمسلمين في هذه النذور بحجّة أن عملهم في النذر يشبه عمل المشركين.
فلو كان هذا هو الملاك، فهناك أعمال اخرى تشبه عمل المشركين؛ وذلك مثل كثير من مناسك الحج وفرائضه، تشبه في ظاهرها أعمال المشركين: كالطواف حول البيت، والتقبيل، وذبح الذبائح و...
اضف الى ذلك: إن الملاك والمقياس هو النية القلبية لا التشابه.
قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: انّما الأعمال بالنيّات.
قال العزامي الشافعي: «من استخبر حال من يفعل ذلك من المسلمين وجدهم لا يقصدون بذبائحهم ونذورهم للأموات إلّاالصدقة عنهم وجعل ثوابها لهم.
وقد علموا ان اجماع أهل السنّة منعقد على أن صدقة الأحياء نافعة للأموات واصلة إليهم، والأحاديث في ذلك صحيحة مشهورة:-
1- منها ما صحَّ عن سعد، انه سأل النبي صلى الله عليه و آله، قال: يا نبي اللَّه ان امّي افتلتت (أي ماتت) وأعَلْمُ أنها لو عاشت لتصدقت أفإن تصدَّقتُ عنها أينفعها ذلك؟ قال: نعم.
فسأل النبيِّ: أيُّ الصدقة أنفع يارسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟
قال: الماء، فحفر بئراً وقال: هذه لُامّ سعد» (1).
ص: 201
وقد أخطأ ابن تيمية ومن حذا حذوه، فأدعى أن المسلم إذا قال:
هذه الصدقة للنبي صلى الله عليه و آله أو الولي، فاللام بنفسها هي اللام الموجودة في قولنا: «نذرتُ للَّه» ويراد منها الغاية. وقد غفل ابن تيمية أو تغافل عن أن العمل للَّه، ويقصد «باللام» جهة المصرف للصدقة.
قال العزّامي: «اللام في هذه لُام سعد هي اللام الداخلة على الجهة التي وجّهتْ إليه الصدقة لا على المعبود، المتقرّب إليه، وهي كذلك في كلام المسلمين، فهم سعديون لا وثنيون، وهي كاللام في قوله تعالى:
انّما الصدقات للفقراء (1)» (2).
إنّ النذر بالذبح وغيره، للأنبياء والأولياء أمرٌ شائع بين المسلمين، ومعروف من سيرتهم، من دون اختصاص بفرقةٍ دون فرقة.
وانما يثاب به الناذر إن كان للَّه وذبح باسم اللَّه.
يقول الخالدي: «بمعنى أن الثواب لهم والمذبوح منذور لوجه اللَّه كقول الناس: ذبحت لميتيّ بمعنى تصدقتُ عنه وكقول القائل: ذبحت للضيف بمعنى انه كان السبب في حصول الذبح» (3).
ويكفينا من الشواهد لسيرة المسلمين ثلاثة:
1- قبر البستي بمراكش.
ص: 202
2- قبر النذور ببغداد «قبر عبيد اللَّه بن محمد بن عمر».
3- قبر أحمد البدوي بطندتا.
1- قبر البستي:
1- أحمد بن جعفر الخزرجي أبو العبّاس البستي نزيل مراكش، المتوفى بها عام 601 ه. «قبره مزار مزاحم عليه مجرّب الإجابة، زرته مراراً لاتحصى، وجربتُ بركته مرّة، وقال ابن الخطيب السلماني:..
ويبلغ وارد ذلك المزار في اليوم الواحد ثمانمائة مثقال ذهب عين، وربّما وصل بعض الأيام ألف دينار، وتُصرف كلّها في ذوي الحاجات المحتفين به من أهالي تلك الديار...» (1).
قال صاحب نيل الابتهاج:... وإلى الآن ما زال الحال على ما كان عليه في روضته من ازدحام الخلق عليها، وقضاء حوائجهم، وقد زرته ما يزيد على خمسمائة مرّة وبت هناك ما ينيف على ثلاثين ليلة، وشاهدت بركته في الامور..» (2).
2- الشيخ أحمد بن علي البدوي المتوفى 675 ه.. دفن بطندتا (3)، وجعلوا على قبره مقاماً واشتهرت كراماته، وكثرت النذور إليه (4).
ص: 203
3- قبر عبيد اللَّه بن محمد بن عمر:
هو ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. قال البغدادي:
«باب البردان فيها جماعة من أهل الفضل وعند المصلّى المرسوم بصلاة العيد قبر كان يُعرف بقبر النذور ويقال: ان المدفون فيه رجلٌ من ولد علي بن أبي طالب رضى الله عنه يتبرّك الناس بزيارته، ويقصده ذو الحاجة منهم لقضاء حاجته.
حدّثني القاضي أبو القاسم التنوخي: قال: حدّثني أبي، قال: كنت جالساً بحضرة عضد الدولة (1) ونحن مخيمون بالقرب من مصلّى الأعياد في الجانب الشرقي من مدينة السلام نريد الخروج معه إلى همذان في أوّل يوم نزل المعسكر، فوقع طرفه على البناء الذي على قبر النذور.
فقال لي: ما هذا البناء؟ فقلت: هذا مشهد النذور، ولم أقل: قبره، لعلمي بطيرته من دون هذا واستحسن اللفظة، قال: قد علمتُ أنه قبر النذور وإنّما أردتُ شرح أمره. فقلت: هذا يقال إنّه قبر عبيداللَّه بن محمد بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ويقال: إنّه قبر عبيداللَّه بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب وان بعض الخلفاء أراد قتله خفيةً فجعلت له هناك زبية وسيِّر عليها، وهو لا يعلم فوقع فيها وهيل عليه التراب حيّاً، وانّما شهر بقبر النذور لأنّه ما يكاد يُنذر له نذرٌ إلّاصحَّ وبلَغ الناذر ما يريد. ولزمه الوفاء بالنذور، وأنا أحدُ مَن
ص: 204
نذر له مراراً لا احصيها كثرة نذوراً على امور متعذرة فبلغتها ولزمني النذر فوفيت به. فلم يتقبل- عضد الدولة- هذا القول وتكلّم بما دل على ان هذا انما يقع منه اليسير اتفاقاً فيتسوق العوام بأضعافه ويُسيِّرون الأحاديث فيه. فأمسكتُ فلما كان بعد أيام يسيرة ونحن معسكرون في موضعنا استدعاني في غدوة يوم وقال: اركب معي إلى مشهد النذور. فركبت وركب في نفر من حاشيته إلى أن جئت به إلى الموضع فدخله وزار القبر وصلّى عنده ركعتين سجد بعدهما سجدة، أطال فيها المناجاة بما لم يسمعه أحد، ثم ركبنا معه إلى خيمة وأقمنا أيّاماً ثمَّ رحل ورحلنا معه يريد همذان فبلغناها، وأقمنا فيها معه شهوراً فلما كان بعد ذلك، استدعاني، وقال لي: ألستَ تذكر ما حدّثتني به في أمر مشهد النذور ببغداد؟ فقلت: بلى. فقال: اني خاطبتك في معناه بدون ما كان في نفسي اعتماداً لاحسان عشرتك.
والذي كان في نفسي في الحقيقة أنَّ جميع ما يقال فيه كذب.
فلما كان بعد ذلك بمُدَيدَةٍ، طرقني أمرٌ خشيتُ أن يقع ويتمّ وأعملتُ فكري في الاحتيال لزواله ولو بجميع ما في بيوت أموالي وسائر عساكري، فلم أجد لذلك فيه مذهباً، فذكرت ما أخبرتني به في النذور لمقبرة النذور، فقلت: لِمَ لا اجرّب ذلك؟ فنذرت: إن كفاني اللَّه تعالى ذلك الأمر أن أحمل لصندوق هذا المشهد عشرة آلاف درهم صحاحاً، فلما كان اليوم جاءتني الأخبار بكفايتي ذلك الأمر، فتقدّمت إلى أبي القاسم- كاتبه- أن يكتب إلى أبي الريان، وكان خليفته ببغداد- يحملها إلى المشهد، ثم التفت إلى عبدالعزيز- وكان حاضراً-
ص: 205
فقال له عبدالعزيز: قد كتبتُ بذلك ونفذ الكتاب (1).
1- قال الخالدي: بعد ذكر حديثي أبي داود: «وأما استدلال الخوارج بهذا الحديث على عدم جواز النذر في أماكن الأنبياء والصالحين زاعمين أنَّ الأنبياء والصالحين أوثان- والعياذ باللَّه- وأعيادٌ من أعياد الجاهلية، فهو من ضلالهم وخرافاتهم وتجاسرهم على أنبياء اللَّه وأوليائه حتى سمّوهم أوثاناً.
وهذا غاية التحقير لهم خصوصاً الأنبياء فإنَّ من انتقصهم ولو بالكناية يكفِّر ولا تُقبل توبته في بعض الأقوال. وهؤلاء المخذولون بجهلهم، يسمّون التوسّل بهم عبادة، ويسمّونهم أوثاناً، فلا عبرة بجهالة هؤلاء وضلالاتهم، واللَّه أعلم» (2).
كما لا عبرة بجهالة ابن تيمية ومن لف لفّه وضلالاتهم (3).
3- وقال الرافعي- نقلًا عن صاحب التهذيب وغيره- أنه لو نذر أن يتصدّق بكذا على أهل بلدٍ عيّنه، يجب أن يتصدّق به عليهم.
قال: ومن هذا القبيل ما ينذر بعثه إلى القبر المعروف بجرجان، فإنَّ ما يجتمع منه على ما يحكى، يُقسَّم على جماعة معلومين، وهذا محمولٌ على أنّ العرف اقتضى ذلك فنزل النذر عليه.
ص: 206
ولاشكّ انّه إذا كان عُرفٌ حُمِلَ عليه، وإن لم يكن عرف فيظهر أن يجري فيه خلاف وجهين:
أحدهما لا يصح النذر لأنه لم يشهد له الشرع، بخلاف الكعبة والحجرة الشريفة.
والثاني: يصحُّ إذا كان مشهوراً بالخير، وعلى هذا ينبغي أن يُصرف في مصالحه الخاصّة، ولا يتعداها.
واستقرب السُبكي بطلان النذر في صورة عدم العرف هناك للصرف (1).
2- وقال الخالدي أيضاً: «إنَّ المسألة تدور مدار نيّات الناذرين وإنّما الأعمال بالنيّات، فإن كان قصد الناذر، الميّت نفسه والتقرّب إليه بذلك، لم يجز قولًا واحداً، وإن كان قصده وجه اللَّه تعالى، وانتفاع الأحياء بوجه من الوجوه، وثوابه لذلك المنذور له الميت، سواء عيِّن وجهاً من وجوه الانتفاع أو أطلق القول فيه. ويكون هناك ما يطَّرد الصرف فيه في عرف الناس من مصالح القبر أو أهل بلده أو مجاوريه أو الفقراء عامة أو أقرباء الميت أو نحو ذلك، ففي هذه الصورة يجب الوفاء بالنذور.
وحكي القول بذلك عن الأذرعي، والزركشي، وابن حجر الهيثمي المكي، والرّملي الشافعي، والقباني البصري، والرافعي، والنووي، وعلاء الدين الحنفي، وخير الدين الرملي الحنفي، والشيخ
ص: 207
محمد الغزي، والشيخ قاسم الحنفي» (1).
4- وقال العزامي: «.. واغترّ بكلامه- أي ابن تيمية- بعض من تأخّر عنه من العلماء، ممّن ابتلي بصحبته أو صحبة تلاميذه، وهو منه تلبيسٌ في الدين وصرف إلى معنى لا يريده مسلم من المسلمين. ومن خبر حال من فعل ذلك من المسلمين، وجدهم لايقصدون بذبائحهم ونذورهم للميتين من الأنبياء والأولياء إلّاالصدقة عنهم وجعل ثوابها إليهم، وقد علموا أن إجماع أهل السنّة منعقد على أنَّ صدقة الأحياء نافعة للأموات واصلة إليهم، والأحاديث في ذلك صحيحة مشهورة..
فالنذر بالذبح وغيره للأنبياء والأولياء أمرٌ مشروع سائغ من سيرة المسلمين عامّةً من دون أي اختصاص بفرقة دون اخرى...» (2).
وبعد هذه الأدلة والشواهد وكلمات أعلام السنة، فهل يحق لابن تيمية وأتباعه الاصرار على مزاعمهم والتفوّه بحرمة النذر لغير اللَّه.
ص: 208
ص: 209
الحلف بغير اللَّه
1- دعوى الوهابية
2- مناقشة الدعوى
3- صدور الحلف من النبي صلى الله عليه و آله
4- محاولات ابن عبد البر
5- تقرير النبي والصحابة وغيرهم
6- مناقشة رواية ابن عمر
ص: 210
ص: 211
لقد منعت الوهابية الحلف بغير اللَّه، وبعضهم جعله شركاً على الإطلاق، وبعضهم جعله من الشرك الأصغر.
قال ابن تيمية: الشرك شركان: أكبر، وله أنواع ومنه.. طلب الشفاعة من المخلوق، والتوسل وغيره.
وأصغر: كالرياء والسمعة، ومنه الحلف بغير اللَّه، لما روي عن ابن عمر: عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من حلف بغير اللَّه فقد أشرك و.. والشرك الأصغر لا يُخرج عن الملة وتجب التوبة منه (1).
وقال الصنعاني في «تطهير الاعتقاد» بعدما ذكر أن القبوريين سلكوا مسلك المشركين حذو القذة بالقذة، وعَدَّ أعمالهم الموجبة لذلك، قال: ويقسمون بأسمائهم، بل إذا حلف من عليه حق باسم اللَّه تعالى لم يقبل منه، فإذا حلف باسم وليٍّ من أوليائهم قبلوه وصدقوه، وهكذا
ص: 212
كانت عبادة الأصنام (1).
أوّلًا: وقع الحلف بغير اللَّه، من اللَّه، ومن النبي، ومن الصحابة والتابعين ومن جميع المسلمين خلفاً عن سلف.
أمّا من اللَّه تعالى: والعصر، والعاديات، والنازعات، والناشطات، والمرسلات، والذاريات، فالجاريات. والتين، والضحى، والسماء ذات البروج، والنجم إذا هوى، والفجر وليالٍ عشر، ن والقلم، لا أقسم بيوم القيامة، فلا أقسم بالخنّس الجوار الكنس، لعمرك انهم لفي سكرتهم..
إن قلت: إن جوازه من اللَّه لا يستلزم جوازه من الناس.
قلت: إن صدوره من اللَّه يدل على انّه لا قبح فيه. وإذا كان اللَّه قد جعل لنفسه شريكاً، وأشرك بالشرك الأصغر- تعالى عن ذلك- فما على من اقتدى به في ذلك بأس!!
لأن ما يقبح من العبد لكونه شركاً أصغر وتشبيهاً للخلق في العظمة باللَّه تعالى لايمكن أن يحسن منه تعالى، إذ صدوره منه- تعالى- لايخرجه عن تلك الصفة- إن كانت- وهي الشرك الأصغر!!
ثانياً: صدور الحلف- بغير اللَّه- من النبيّ صلى الله عليه و آله
1- جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و آله فقال: يارسول اللَّه صلى الله عليه و آله أي الصدقة
ص: 213
أعظم أجراً؟ فقال: اما وأبيك لتنبِّئَنَّه، أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء (1).
2- جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من أهل نجد يسأل عن الإسلام فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: خمس صلوات في اليوم والليلة وصيام شهر رمضان والزكاة ومع كل واحد، يقول: هل عليَّ غيرها؟ وهو يقول: لا، إلّاأن تطوع، فأدبر الرجل وهو يقول: واللَّه، لا أزيد على هذا ولا أنقص منه.
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أفلحَ وأبيه إن صدق، أو دخل الجنّة وأبيه إن صدق (2).
حكى القسطلاني عن ابن عبد البر: أن هذه اللفظة- منكرة، غير محفوظة، تردَّها الآثار الصحاح (3).
ص: 214
أقول: بل يعضدها حديث: اما وأبيك لتنبأنه.
قال: وقيل انها مصحّفة من قول واللَّه.
قال القسطلاني: وهو محتمل ولكن مثل هذا لا يثبت بالاحتمال، سيما وقد ثبت في لفظ أبي بكر في قصة السارق الذي سرق حلي ابنته.
فقال: وأبيك ما ليلك بليل سارق (1).
ثم أضاف القسطلاني: وأحسن الأجوبة ما عن البيهقي وارتضاه النووي وغيره: إن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القسم، أو أنّ التقدير: أفلح ورب أبيه (2).
أجاب السيّد محسن الأمين رحمه الله: ان العرب تقصد به القَسَم، وإلا كان اتيانه عبثاً وهذراً والحذف لا دليل عليه (3).
قال أبو طالب عمّ النبي صلى الله عليه و آله ضمن أبيات له:
كذبتم وبيت اللَّه يُبزى محمدٌ ولما نطاعن دونه ونناضل (4)
فسمع ذلك رسول اللَّه (ص) ينكره
ص: 215
1- قال عبداللَّه بن جعفر: كنت إذا سألتُ عمّي عليّاً عليه السلام شيئاً ويمنعني، أقول له: بحق جعفر فيعطيني (1).
فلم ينكره عليه، ولم يردعه، بل يلبّي دعوته، بعد هذا القسم.
2- قول أبي بكر للسارق: وأبيك ماليلك بليل سارق (2).
3- كتاب علي لمعاوية: ولعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان (3).
4- وفي كتاب آخر: فلعمري لئن لم تنزع عن غيك وشقاقك لتعرفنهم عن قليل يطلبونك (4).
5- وفي كتاب معاوية لعلي عليه السلام فإن كنتَ ابا حسن انما تحارب عن الامارة والخلافة، فلعمري لو صحت لكنتَ قريباً من ان تُعذر في حرب المسلمين (5).
6- الحسين بن علي عليه السلام:
لعمرك انني لأُحب داراً تَحُلَّ بها سكينة والرباب (6)
ص: 216
7- وقال علي الأكبر يوم كربلاء:
انا علي بن الحسين بن علي نحن- وبيت اللَّه- اولى بالنبي (1)
8- عبداللَّه بن عمر العنسي: وكان هذا من عبّاد أهل زمانه، لمّا سمع رواية عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه و آله أن عماراً تقتله الفئة الباغية، خرج ليلًا فأصبح في عسكر علي عليه السلام وحدّث الناس بقول عمرو وأنشد:
والراقصات بركب عامدين له ان الذي جاء من عمرو لمأثور
ما في مقال رسول اللَّه في رجل شكّ ولا في مقال الرسل تحيير (2)
10- عائشة: قال لها مسروق سألتك بصاحب هذا القبر، ما الذي سمعت من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حق الخوارج؟ قالت: سمعته يقول: انّهم شرّ الخلق والخليقة يقتلهم خيرُ الخلق والخليقة وأقربهم عند اللَّه وسيلة (3).
ص: 217
فهنا: نرى أن مسروق حلف بصاحب القبر.. ولم تردعه عائشة.
روى الترمذي: ان ابن عمر سمع رجلًا يقول: لا والكعبة، فقال:
لا تحلف بغير اللَّه فانّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: من حلف بغير اللَّه فقد كفر (1).
فهذه على فرض صحّة السند، محمولة على الكراهة الشديدة، وامّا: على صورة اعتقاد التعظيم في المحلوف به، ما يعتقده في اللَّه عزّوجلّ.
قال القسطلاني: والتعبير بالكفر والشرك للمبالغة في الزجر والتغليظ.
وهل النهي للتحريم أو للتنزيه؟ المشهور عند المالكية: الكراهة وعند الحنابلة التحريم، وجمهور الشافعية: التنزيه.
وقال إمام الحرمين: المذهب القطع بالكراهة.
وقال غيره: بالتفصيل: فإن اعتقد فيه من التعظيم ما يعتقده في اللَّه، حرم وكفر بذلك الاعتقاد، وإن حلف لاعتقاد تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التعظيم فلا يكفر (2).
ص: 218
ص: 219
الاحتفالات
1- دعوى الوهابية ودليلهم
2- مناقشة الدليل
3- سيرة المسلمين
4- الفتاوى وكلمات العلماء
5- مناقشة دلالة الحديث
6- مناقشة سند الحديث
7- تفسير الحديث ومفاده
ص: 220
ص: 221
تزعم الوهابية ان من المنكرات: تكريم مولد النبي صلى الله عليه و آله بالاحتفال وقراءة القرآن وإنشاد القصائد، والإحسان إلى المؤمنين بالإطعام.
وفيما يلي عرض آرائهم وأدلّتهم:
1- ابن تيمية: «إن اتخاذ هذا اليوم عيداً، محدثٌ لا أصل له، فلم يكن في السلف لا من أهل البيت ولا غيرهم من اتخذ ذلك عيداً، حتى يحدث فيه اعمالًا.. وانّما يفعل مثل هذا: النصارى الذين يتّخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام أعياداً أو اليهود، أو..
وكذلك ما يحدثه بعض الناس اما مضاهاةً للنصارى في ميلاد المسيح، وامّا محبّة للنبي صلى الله عليه و آله وتعظيماً له.. فإن هذا لم يفعله السلف، ولو كان خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف أحقَّ به مِنّا» (1).
2- وقال عبدالرحمن بن حسن آل شيخ: «قد أحدث هؤلاء
ص: 222
المشركون أعياداً عند القبور التي تعبد من دون اللَّه، ويسمّونها عيداً كمولد البدوي بمصر وغيره، بل هي أعظم، لما يوجد فيها من الشرك والمعاصي العظيمة (1).
3- وقال محمد حامد الفقي: «والمواليد والذكريات التي ملأتْ البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم» (2).
واستدلّوا لرأيهم:
1- بما رواه أبو هريرة: «لاتجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليَّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنت» (3).
2- وما روي عن النبي صلى الله عليه و آله: نهى أن يُتّخذ- القبور- عيداً.
أوّلًا: فرق بين التكريم والعبادة، وذلك لأن العنصر المقوّم للعبادة هو الاعتقاد بألوهية المعبود، أو ربوبيّته، أو كونه مفوّضاً إليه فعل الربّ، وليس في الاحتفال شي ء من ذلك.
وفي التكريم: تجسيد للأصل الوارد في القرآن الكريم والروايات، وهو حب النبي صلى الله عليه و آله على وجه يكون النبي صلى الله عليه و آله مقدّماً عند الإنسان على نفسه.
امّا في القرآن:
ص: 223
فقوله تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبُّ إليكم من اللَّه ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربّصوا حتى يأتي اللَّه بأمره واللَّه لايهدي القوم الفاسقين (1).
واما في الحديث: فعن النبي صلى الله عليه و آله: «لايؤمن أحدكم حتى أكون [أنا وأهل بيتي] أحبَّ إليه من نفسه (2) [وبنيه والناس جميعاً]» (3).
فعلى قول حامد الفقي وغيره من الوهابيين أن يفرّقوا بين العبادة والتكريم، قبل أن يتهجّموا على من يقوم بالاحتفالات و..
ثانياً: ان الأصل في الأشياء هو الجواز ما لم يقم عليه منع شرعي، كما صرح ابن تيمية بهذا الأصل، حيث قال:
«إنّ الأصل في العادات عدم الحظر إلّاما حظره اللَّه» (4).
وعليه: أولًا لم يرد منع شرعي عن الاحتفال، وما روي فسيأتي البحث فيه وانّه ضعيف سنداً ودلالةً.
ثانياً: وإن لم يكن لإقامة الاحتفال نصّ على الجواز ولكن يُعرف
ص: 224
مشروعيته وجوازه من خلال الأصل المسلّم المتخذ من الكتاب والسنة، وهو حبّ النبيّ وأهل بيته، فالمنع عنه، يُعدّ مخالفة لإظهار هذا الحبّ ويكون إظهاراً للحقد والضغن الكامن في القلب.
ثالثاً: إن ابن تيمية جعل المقياس في الحلية والحرمة فعل السلف، فهل المقياس هو فعل السلف أم الكتاب والسنّة؟
ولو سلمنا ان السلف هو المقياس، فإنّهم قد أقاموا الاحتفالات على مر الأزمان ويشهد له نص المؤرّخين والمحدِّثين:
1- قال القسطلاني: «ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده ويعملون الولائم.. فرحم اللَّه إمْرأً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً ليكون أشدّ علةٍ على من في قلبه مرض وإعياء داء» (1).
2- وقال الدياربكري: «لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده ويعملون الولائم ويتصدقون في لياليه، بأنواع الصدقات، يظهرون السرور ويزيدون في المبرّات ويعتنون بقراءة مولده الشريف، ويظهر عليهم من كراماته كلُّ فضلٍ عميم» (2).
فهذا هو فعل السلف وإجماع المسلمين في عصور مختلفة ومتمادية.. وقد يرون حجّية الإجماع في عصر واحد، فكيف بإجماعهم في عصور مختلفة، وهل يحق بعد ذلك أن يقول ابن تيمية: «فإنّ هذا لم يفعله السلف..»؟!
ص: 225
رابعاً: كلمات العلماء:
1- قال ابن عباد: «اما المولد، فالذي يظهر لي انه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم، وكلّ ما يفعل فيه ممّا يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك.. أمرٌ مباح لا منكر» (1).
2- القسطلاني: «رحم اللَّه إمرأ اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً ليكون أشدَّ علة على من في قلبه مرض واعياء داء» (2).
3- يقال إن ممّن سبق في احياء الاحتفالات هو أبو سعيد الأربلي عام 630 ه.
وربّما يقال: إنّ أوّل من أحدثه بالقاهرة: الخلفاء الفاطميون أوّلهم:
المعجز لدين اللَّه، توجّه من المغرب إلى مصر في شوّال عام 361 ه، وقيل في ذلك غيره (3).
تدل هذه الشواهد التاريخية على ان المسلمين احتفلوا أزماناً ليست بالقصيرة من دون معارضةٍ صريحة ولا ضمنية من سائر المسلمين ولا من فقهائهم.
أوّلًا: ان أحمد بن حنبل نقلها بعبارة اخرى وهي: «عن سهيل بن أبي صالح: «... اللهم لاتجعل قبري وثناً» (4).
ص: 226
وعليه فيحتمل الخطأ في النقل، وان الوارد عن النبي هو «وثناً» بأن يحذّرهم من اتخاذهم قبره مسجداً يسجد له أو يُجعل قبلة يتوجّه إليه في الصلاة.
ثانياً: إن العيد لغة هو الموسم وعليه فلا يصح أن يقع خبراً لقوله «قبري» إذ لا معنى لجعل القبر عيداً، وإنّما يصحّ جعل موسم أو يوم مشخّص عيداً، فيقال مثلًا: موسم الحج عيد، أو يوم الجمعة عيدٌ.
ثالثاً: إن الحديث على النقلين «عيداً- وثناً» ضعيف السند، إذ على النقل الأول: في سنده سهيل ابن أبي صالح وعلى النقل الثاني في سنده عبداللَّه بن نافع وكلاهما ممّن لايُحتج بحديثهما:
اما سهيل بن أبي صالح:
قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به.
وقال ابن المديني: مات أخٌ لسهيل ووجد- حزن- عليه، فنسي كثيراً من الحديث.
وقال ابن معين: ضعيف.
واما الراوي الثاني: «عبداللَّه بن نافع».
قال البخاري: يعرف حفظه وينكر.
وقال ابن حنبل: «لم يكن صاحب حديث وكان ضعيفاً، ولم يكن في الحديث بذاك» (1).
وقال الرازي: ليس بالحافظ هو لين تعرف حفظه وتنكر (2).
ص: 227
1- يحتمل أن يكون المراد به: الحثّ على كثرةِ زيارة النبي صلى الله عليه و آله وان لايهمل حتى لايزار إلّافي بعض الأوقات كالعيد الذي لايأتي في العام إلّامرّتين (1)، بمثابة العيد، وهذا هو رأي المنذري (2).
2- ويحتمل أن يكون المراد: لاتتخذوا وقتاً مخصوصاً لاتكون الزيارة إلّافيه، كما ترى ان كثيراً من المشاهد لزيارتها يوم معيّن كالعيد، وهذا هو رأي السبكي (3).
3- ويحتمل أن يكون المراد: أن لا يجعل كالعيد في العكوف عليه واظهار الزينة والاجتماع وغير ذلك، ممّا يعمل في الأعياد، بل: لابد وأن لايؤتى إلّاللزيارة والسلام والدعاء ثم ينصرف عنه.
وهو المتبادر من كلام الخفاجي الحنفي (4).
4- ويحتمل أن يكون المراد: ان اجتماعهم عند قبره، ينبغي أن يكون مصحوباً بالخشوع والتأمّل والاعتبار حسبما يناسب حرمته واحترامه، فإنَّ حرمته ميتاً كحرمته حيّاً، فلا يكون ذلك مصحوباً باللهو واللعب والغفلة والمزاح ممّا اعتادوه في أعيادهم» (5).
ص: 228
5- قال الخفاجي الحنفي: واما قوله صلى الله عليه و آله: لاتتخذوا قبري عيداً، فقيل: كره الاجتماع عنده في يوم معيّن على هيئة مخصوصة.
وقيل: المراد لا تزوروه في العام مرّة فقط بل أكثروا الزيارة له.
واما احتماله للنهي عنها فهو بفرض أنه المراد محمول على حالة مخصوصة، أي لاتتخذوه كالعيد في العكوف عليه، واظهار الزينة عنده وغيره ممّا يُجْتَمع له في الأعياد. بل لايؤتى إلّاللزيارة والسلام والدعاء ثم ينصرف.
وقال أيضاً في ص 577 في شرح الحديث: أي كالعيد باجتماع الناس، وقد تقدّم تأويل الحديث وانه لا حجّة فيه لما قال ابن تيمية وغيره فإن إجماع الامّة على خلافه، يقتضي تفسيره بغير ما فهموه فانّه نزعة شيطانية» (1).
ص: 229
ألَّف العلماء في الرد على الوهابية عشرات الكتب، والجدير بالذكر هو أن المؤلِّفين لم يكونوا من الإمامية فحسب، بل من كافّة المذاهب الإسلامية بمن فيهم: الحنابلة (1).
وفيما يلي لائحة بأسماء بعض تلك الكتب؛ على الترتيب الهجائي:
1- ابن تيمية حياته وعقائده، صائب عبد الحميد، معاصر.
2- الآيات الجليلة للشيخ مرتضى كاشف الغطاء ت 1931 ه.
3- إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس. وعهد الأمان، لأحمد بن أبي الضيّاف.
4- الأجوبة النجدية عن الأسئلة النجدية، لأبي العون السفاريني الحنبلي ت 1188 ه.
5- الأجوبة النعمانية عن الأسئلة الهندية، خير الدين الآلوسي 1317 ه.
ص: 230
6- الآيات البيّنات في قمع البدع والضلالات. فيها نقض فتاوى الوهابية للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء 1373 ه.
7- الوهابية في الميزان، للشيخ جعفر السبحاني، معاصر.
8- الأرض والتربة الحسينية، للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، 1371 ه.
9- إزاحة الغي في الرد على عبد الحي للسيد علي بن الحسن العسكري 1240 ه. ردّاً على الصراط المستقيم لعبد الحي حول منع إقامة العزاء.
10- إزاحة الوسوسة، عن تقبيل الأعتاب المقدّسة، للشيخ عبداللَّه المامقاني ت 1351 ه.
11- إزهاق الباطل، للميرزا محمد بن عبدالوهاب الكاظمي 1303 ه.
12- الإسلام السعودي الممسوخ، للسيد طالب الخرسان.
معاصر.
13- الإسلام والوثنية السعودية. فهد القحطاني. معاصر.
14- الاصول الأربعة في ترديد الوهابية، محمد حسن جان السرهندي، 1346 ه.
15- إظهار العقوق، ممّن منع التوسّل بالنبي والولي الصدوق.
16- اعتراضات على ابن تيمية، أحمد بن إبراهيم الحنفي (1).
ص: 231
17- الأقوال المرضية في الرد على الوهابية. عطاء الكسم الدمشقي (1).
18- إكمال السنّة في نقض منهاج السنّة، للسيد مهدي القزويني 1358 ه.
19- كمال المنة في نقض منهاج السنّة، سراج الدين حسن بن عيسى اليماني 1353 ه.
20- الإمامة الكبرى والخلافة العظمى في ردّ منهاج ابن تيمية، للسيّد حسن القزويني 1380 ه.
21- الانتصار للأولياء الأبرار، للشيخ طاهر سنبل الحنفي 250 ه.
22- الإنصاف والانتصاف لأهل الحق من الاسراف 757 ه.
23- إهداء الحقير معنى حديث الغدير إلى أخيه البارع البصير، للسيد مرتضى الخسروشاهي 1353 ه.
24- الأوراق البغدادية في الجوابات النجدية، ابراهيم البغدادي 1354 ه.
25- بحوث مع أهل السنة والسلفية. سيد مهدي الروحاني.
معاصر.
26- برأت الشيعة من مفتريات الوهابية. محمد أحمد حامد
ص: 232
السوداني.
27- البراءة من الاختلاف، علي زين العابدين السوداني.
28- البراهين الساطعة. للشيخ سلامة العزامي 1379 ه.
29- البصائر لمنكري التوسل بأهل المقابر. حمد اللَّه الداجوي 1975
30- المقالات السنية في رد ضلالات ابن تيمية، للشيخ عبداللَّه الهرري. معاصر.
31- تاريخ الوهابية. أيوب صبري باشا، صاحب مرآة الحرمين (1).
هذا والحمد للَّه وله المنّة، على أن وفّقني لانجاز هذا الجهد المتواضع خلال القائه بعنوان دروس ومحاضرات في حوزة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وحوزة الزهراء عليها السلام في بيروت، وقبل سبع سنوات وبشكل مختصر في جامعة الزهراء عليها السلام بقم المقدّسة. ثم جمعه وتنقيحه وتهذيبه بعنوان تأليف متواضع، خدمة بسيطة لأهل البيت عليهم السلام. نسأل اللَّه عزّوجلّ القبول. واللَّه من وراء القصد.