العباده حدها و مفهومها

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : العباده حدها و مفهومها/ جعفر السبحاني.

مشخصات نشر : قم: مشعر، 1416ق.=1374.

مشخصات ظاهري : 64ص.

فروست : علي مائده العقيده؛ 11.

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس.

موضوع : عبادت (اسلام)

موضوع : عبادات

رده بندي كنگره : BP185/1/س2ع2 1374

شماره كتابشناسي ملي : 2935601

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

المقدمه

ص: 4

قال اللَّه تبارك وتعالى:

«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينَ»

ص: 5

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

وبه وحده نستعين وعليه وحده نتوكل

والحمد للَّه ربّ العالمين، والصَّلاة والسلام على سيد رُسُله، وخاتم أنبيائه وآله ومن سار على خطاهم وتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يهتم المسلمون اهتماماً كبيراً بالعقيدة الصحيحة لأنّها تشكّل حجر الزاوية في سلوكهم ومناراً يضي ءُ دروبهم وزاداً لمعادهم.

ولهذا كرّسَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في الفترة المكيّة من حياته الرسالية نفسه لإرساء أُسس التوحيد الخالص، ومكافحة الشرك والوثنية، ثم بنى عليها في الفترة المدنية صَرحَ النظامِ الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسيّ.

ولهذا- ونظراً للحاجةِ المتزايدة- رأينا أن نقدّم للأُمةِ الإسلاميّة الكريمة دراسات عقائدية عابرة مستمدَّةٍ من كتاب اللَّهِ العزيز، والسُنّةِ الشريفة الصحيحة، والعقل السليم، وما اتَّفق عليه علماءُ الأُمةِ الكرام، واللَّه الموفِّق.

معاونيّة التعليم والبحوث الإسلاميّة

ص: 6

ص: 7

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

تقديم

العبادة من الموضوعات التي تطرق إليها الذكر الحكيم كثيراً. وقد حثَّ عليها في أكثر من سورةٍ وآية وخصَّها باللَّه سبحانه وقال: «وقَضى ربُّكَ ألّا تَعبُدوا إلّاإيّاهُ وبِالوالِدَينِ إحساناً» (الإسراء/ 23) ونهى عن عبادة غيره من الأنداد المزعومة والطواغيت والشياطين، وجعلها الأصل الأصيل بين الشرائع السماوية وقال: «يا أهلَ الكِتابِ تَعالَوْا إلى كَلِمةٍ سَواءٍ بَينَنا وبَينَكمْ ألّا نَعْبدَ إلّاإيّاهُ ولا نُشرِكَ بهِ شَيئاً ولا يَتَّخذَ بَعضُنا بَعضاً أرباباً مِنْ دُونَ اللَّهِ» (آل عمران/ 64) كما جعلها الرسالة المشتركة بين الرسل فقال سبحانه: «ولَقدْ بَعثنا في كُلِّ امَّةٍ رَسولًا أنِ اعبدُوا اللَّهَ واجْتنِبوا الطّاغوتَ فمِنهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ ومِنهمْ مَنْ حَقَّتْ عَليهِ الضَّلالةُ» (النحل/ 36).

فإذا كان لهذا الموضوع تلك العناية الكبيرة فجدير

ص: 8

بالباحث المسلم أن يتناولها بالبحث والتحقيق العلمي، حتى يتميّز هذا الموضوع عن غيره تميزاً منطقياً.

والذي يُضفي على الدراسة، أهمية أكثر، هو أنّ التوحيد في العبادة أحد مراتب التوحيد التي لا محيص للمسلم من تعلّمه، ثم عقد القلب عليه، والتحرر عن أيّ لوم من الوان الشرك. فلا تُنال تلك الامنيةُ في مجالي العقيدة والعمل إلّابمعرفة الموضوع معرفة صحيحة، مدعمة بالدليل حتى لا يقع في مغبَّة الشرك، وعبادة غيره سبحانه.

ورغم المكانة الرفيعة للموضوع لم نعثر على بحث جامع حول مفهوم العبادة يتكفّل بيان مفهومها، وحدّها الذي يُفصله عن التكريم والتعظيم أو الخضوع والتذلل، وكأنَّ السلف (رضوان اللَّه عليهم) تلقّوها مفهوماً واضحاً، واكتفوا فيها بما توحي إليهم فطرتُهم.

ولو صحّ ذلك فإنّما يصح في الأزمنة السالفة، دون اليوم الذي استفحل عند بعض الناسِ أمر ادّعاء الشرك في العبادة، فيما درج عليه المسلمون منذ قرون إلى أن ينتهي إلى عصر التابعين والصحابة فأصبح- بادعائهم- كل تعظيم

ص: 9

وتكريم للنبيّ، عبادة له، وكلّ خضوع أمام الرسول شرك، فلا يلتفت الزائر يميناً وشمالًا في المسجد الحرام والمسجد النبوي إلّاوتوقر سمعه كلمةُ «هذا شرك يا حاج»، وكأنّه ليس لديهم إلّاتلك اللفظة، أو لا يستطيعون تكريم ضيوف الرحمن إلّابذلك.

فاللازم على هؤلاء- الذين يعدون مظاهر الحبّ والودّ، والتكريم والتعظيم شركاً وعبادة- وضعَ حدٍّ منطقيّ للعبادة، يُميَّز بها، مصاديقُها عن غيرها حتى يتّخذه الوافدون من أقاص العالم وأدانيه، ضابطة كلّية في المشاهد والمواقف، ولكن- وللأسف- لا تجد بحثاً حول مفهوم العبادة وتبيينها في كتبهم ونشرياتهم ودورياتهم.

فلأجل ذلك قمنا في هذه الرسالة، بمعالجة هذا الموضوع، بشرح مفهومها لغة وقرآناً، حيث بيّنا أنّ حقيقة الشرك في تعاليم الأنبياء أخصّ ممّا ورد في المعاجم وكتب اللّغة.

جعفر السبحاني

تحريراً في 25/ 2/ 1416 ه

ص: 10

تخصيص العبادة والاستعانة باللَّه سبحانه

إنّ المسلم في شرق الأرض وغربها، يخصّ العبادة والاستعانة باللَّه سبحانه في كلّ يوم في صلواته الخمس فيقول: «إيّاكَ نَعبُدُ وإيّاكَ نَستَعِينُ» ولا خلاف بين المسلمين في هذه الضابطة الكلّية، أي أنّ العبادة مختصّة باللَّه سبحانه، ولا يصحّ إصدار هوية إسلامية لشخص إلّابعد الاعتراف بهذه الكُبرى، وإنّما الخلاف بينهم في بعض الأُمور والأحوال الخارجية، فهل هي عبادة أو لا؟ فلو صحّت كونها عبادة فلا يجوز الإتيان بها لغيره سبحانه وإن أتى بها لغيره يُعدّ مشركاً.

مثلًا تقبيل الأضرحة هل هو عبادة لصاحب القبر أو تكريم وتعظيم له؟ وهكذا الصلاة في المشاهد وعند قبور الأنبياء، فهل هي عبادة لصاحب القبر (وإن كانت الصلاة

ص: 11

للَّه) أو هي عبادة للَّه ولكن تتضمّن التبرّك بصاحب القبر؟

ومثل ذلك مسألة الاستعانة في نفس الآية، فمع الاعتراف بحصر الاستعانة باللَّه سبحانه، فلا شكّ عند العقلاء عامة أنّه تجوز الاستعانة بالأحياء في الأُمور الدنيوية، ولكن إذا استعان بإنسان حيّ فيما يرجع إلى الأُمور الغيبية، كردّ ضالته وبرء مرضه فهل هو استعانة تخالف الحصر المذكور في الآية أو لا؟

وهناك صورة ثالثة أبهم من الصورة الثانية وهي: إذا استعان بميّت بنحو من الأنحاء كما إذا طلب منه الدعاء والاستغفار في حقّه فهل هي استعانة تخالف الحصر أو لا؟ وقس على ذلك بعض ما يرد عليك من الصور المردّدة بين العبادة والتكريم، أو بين الاستعانة الجائزة والمحرّمة.

ولأجل أن يكون البحث أكثر علمية وموضوعية علينا أولًا البحث في مسألتين:

1- تحديد مفهوم العبادة حتى تتميّز عن التكريم والتبجيل والتبرّك. 2- تحديد الاستعانة المختصة باللَّه وفصلها عن الاستعانة الجائزة.

كل ذلك في ضوء القرآن الكريم.

ص: 12

المسألة الاولى:

مفهوم العبادة وحدّها

اشارة

بالرغم من عناية اللغويين والمفسّرين بتفسير لفظ العبادة وتبيينها، لكن لا تجد في كلماتهم ما يشفي الغليل، وذلك لأنّهم فسّروه بأعمّ المعاني وأوسعها وليس مرادفاً للعبادة طرداً وعكساً.

1- قال الراغب في المفردات: «العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغ منها، لأنّها غاية التذلّل، ولا يستحقّ إلّا من له غاية الإفضال وهو اللَّه تعالى ولهذا قال: «وقَضى ربُّكَ ألَّا تَعبُدوا إلّاإيّاهُ ...»».

2- قال ابن منظور في لسان العرب: «أصل العبودية:

الخضوع والتذلل».

3- قال الفيروز آبادي في القاموس المحيط: «العبادة:

ص: 13

الطاعة».

4- قال ابن فارس في المقاييس: «العبد: الذي هو أصل العبادة، له أصلان متضادّان، والأول من ذينك الأصلين، يدلّ على لين وذل، والآخر على شدّة وغلظ».

هذه أقوال أصحاب المعاجم ولا تشذّ عنها أقوال أصحاب التفاسير وهم يفسّرونه بنفس ما فسّر به أهل اللغة، غير مكترثين بأنّ تفسيرهم، تفسير لها بالمعنى الأعم.

1- قال الطبري في تفسير قوله: «إيّاكَ نَعبُد» اللّهمّ لك نخشع ونذلّ ونستكين إقراراً لكَ يا ربّنا بالربوبية لا لغيرك. إنّ العبودية عند جميع العرب أصلها الذلّة وأنّها تسمّى الطريق المذلّل الذي قد وطئته الأقدام وذلّلته السابلة معبَّداً، ومن ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب للحوائج: معبَّد، ومنه سمّي العبد عبداً، لذلّته لمولاه (1).

2- قال الزجاج: معنى العبادة: الطاعة مع الخضوع، يقال: هذا طريق معبّد إذا كان مذلّلًا لكثرة الوطء، وبعير معبّد إذا كان مطليا بالقطران، فمعنى «إيّاكَ نَعبدُ»: إياك


1- الطبري، التفسير 1: 53، ط دار المعرفة، بيروت.

ص: 14

نطيع، الطاعة التي نخضع منها (1).

3- وقال الزمخشري: العبادة: أقصى غاية الخضوع والتذلّل، ومنه ثوب ذو عبدة أي في غاية الصفافة، وقوة النسج، ولذلك لم تستعمل إلّافي الخضوع للَّه تعالى لأنّه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع (2).

4- قال البغوي: العبادة: الطاعة مع التذلل والخضوع وسمّي العبد عبداً لذلّته وانقياده يقال: طريق معبّد، أي مذلّل (3).

5- قال ابن الجوزي: المراد بهذه العبادة ثلاثة أقوال:

أ- بمعنى التوحيد «إيّاك نعبد» عن علي وابن عباس.

ب- بمعنى الطاعة كقوله تعالى «لا تَعبُدِ الشَّيطانَ».

ج- بمعنى الدعاء (4).

6- قال البيضاوي: العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلّل، ومنه الطريق المعبّد أي مذلّل، وثوب ذو عبدة، إذا كان في غاية الصفافة، ولذلك لا تستعمل إلّافي الخضوع


1- الزجاج، معاني القرآن 1: 48.
2- الزمخشري، الكشاف 1: 10.
3- البغوي، التفسير 1: 42.
4- ابن الجوزي، زاد المستنير 1: 12.

ص: 15

للَّه تعالى (1).

وسيأتي أنّ تفسير العبادة بغاية الخضوع ربّما يكون تفسيراً بالأخص، إذ لا تشترط في صدقها غاية الخضوع، ولذلك يعدُّ الخضوع المتعارف الذي يقوم به أبناء الدنيا أمام اللَّه سبحانه عبادة، وإن لم يكن بصورة غاية التعظيم، وربّما يكون تفسيراً بالأعم، فإنّ خضوع العاشق لمعشوقه ربّما يبلغ نهايته ولا يكون عبادة.

7- وقال القرطبي: نعبُد، معناه نطيع، والعبادة: الطاعة والتذلّل، وطريق معبّد إذا كان مذلّلًا للسالكين (2).

8- وقال الرازي: العبادة عبارة عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تعظيم الغير وهو مأخوذ من قولهم: طريق مُعبَّد (3).

وإذا قصّرنا النظر في تفسير العبادة، على هذه التعاريف وقلنا بأنّها تعاريف تامّة جامعة للأفراد ومانعة للاغيار، لزم رَمي الأنبياء والمرسلين، والشهداء


1- البيضاوي، أنوار التنزيل 1: 9.
2- القرطبي، جامع أحكام القرآن 1: 145.
3- الرازي، مفاتيح الغيب 1: 242، في تفسير قوله تعالى: «إيّاكَ نعبدُ»

ص: 16

والصدّيقين بالشرك وأنّهم- نستعيذ باللَّه- لم يتخلّصوا من مصائد الشرك، ولزم ألّا يصحّ تسجيل أحد من الناس في قائمة الموحّدين. وذلك لأنّ هذه التعاريف تفسّر العبادة بأنّها:

1- إظهار التذلّل.

2- إظهار الخضوع.

3- الطاعة والخشوع والخضوع.

4- أقصى غاية الخضوع.

وليس على أديم الأرض من لا يتذلّل أو لا يخشع ولا يخضع لغير اللَّه سبحانه وإليك بيان ذلك:

***

ليست العبادة نفس الخضوع أو نهايته

إنّ الخضوع والتذلّل حتى إظهار نهاية التذلّل لا يساوي العبادة ولا يعدّ حداً منطقياً لها، بشهادة أنّ خضوع الولد أمام والده، والتلميذ أمام استاذه، والجنديُّ أمام قائده، ليس عبادة لهم وإن بالغوا في الخضوع والتذلّل حتى ولو قبّل الولدُ قدمَ الوالدين، فلا يعد عمله عبادة، لأنّ اللَّه

ص: 17

سبحانه يقول: «واخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمةٍ» (الإسراء/ 24).

وأوضح دليل على أنّ الخضوع المطلق وإن بلغ النهاية لا يعدّ عبادة هو أنّه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم وقال: «وإذْ قُلنا لِلمَلائِكةِ اسْجُدوا لآدَمَ» (البقرة/ 34) وآدم كان مسجوداً له ككونه سبحانه مسجوداً له، مع أنّ الأول لم يكن عبادة وإلّا لم يأمر بها سبحانه، إذ كيف يأمر بعبادة غيره وفي الوقت نفسه ينهى عنها بتاتاً في جميع الشرائع من لدن آدم عليه السلام إلى الخاتم صلى الله عليه و آله، ولكن الثاني أي الخضوع للَّه، عبادة.

واللَّه سبحانه يصرّح في أكثر من آية بأنّ الدعوة إلى عبادة اللَّه سبحانه والنهي عن عبادة غيره، كانت أصلًا مشتركاً بين جميع الأنبياء، قال سبحانه: «ولَقدْ بَعثنا في كُلِّ امَّةٍ رَسولًا أنِ اعبدُوا اللَّهَ واجْتنِبوا الطّاغوتَ» (النحل/ 36) وقال سبحانه: «وَما أرسَلنا مِنْ قَبلِكَ مِنْ رَسولٍ إلّانُوحي إليهِ أنَّهُ لا إلهَ إلّا أنَا فَاعْبُدونِ» (الأنبياء/ 25) وفي موضع آخر من الكتاب يعد سبحانه التوحيد في العبادة: الأصل المشترك بين جميع الشرائع السماوية، إذ يقول: «قل يا أهْلَ الكِتابِ تَعالَوْا

ص: 18

إلى كَلِمةٍ سَواءٍ بَينَنا وبَينَكمْ ألّا نَعْبدَ إلّااللَّهُ ولا نُشرِكَ بهِ شَيئاً» (آل عمران/ 64)، ومعه كيف يأمر بسجود الملائكة لآدم الذي هو من مصاديق الخضوع النهائي؟ وهذا الاشكال لايندفع إلّا بنفي كون الخضوع عبادة، ببيان أنّ للعبادة مقوّماً لم يكن موجوداً في سجود الملائكة لآدم.

ولم يكن آدم فحسب هو المسجود له بأمره سبحانه، بل يوسف الصديق كان نظيره، فقد سجد له أبواه وإخوته، وتحقّق تأويل رؤياه بنفس ذلك العمل، قال سبحانه حاكياً عن لسان يوسف: «إنّي رأيتُ أحدَ عشَر كوكباً والشَّمسَ والقَمَر رأَيتُهُمْ لي ساجِدِينَ» (يوسف/ 4).

كما يحكي تحققه بقوله سبحانه: «ورَفعَ أبَويهِ عَلَى العَرشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وقالَ يا أبَتِ هذا تَأْويلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلها رَبِّي حَقّاً» (يوسف/ 100) ومعه كيف يصحّ تفسير العبادة بالخضوع أو نهايته.

إنّه سبحانه أمر جميع المسلمين بالطواف بالبيت، الذي ليس هو إلّاحجراً وطيناً، كما أمر بالسعي بين الصفا والمروة، قال سبحانه: «وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيتِ العَتِيقِ» (الحج/ 29) وقال سبحانه: «إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيتَ أوِ

ص: 19

اعْتَمَر فَلا جُناحَ عَلَيهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» (البقرة/ 158).

فهل ترى أنّ الطواف حول التراب والجبال والحجر عبادة لهذه الأشياء بحجّة أنّه خضوع لها؟!

إنّ شعار المسلم الواقعي هو التذلّل للمؤمن والتعزّز على الكافر، قال سبحانه: «فَسَوْفَ يأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرينَ» (المائدة/ 54).

فمجموع هذه الآيات وجميع مناسك الحج، يدلّان بوضوح على أنّ مطلق الخضوع والتذلّل ليس عبادة. ولو فسّرها أئمة اللغة بالخضوع والتذلّل، فقد فسّروها بالمعنى الأوسع، فلا محيص حينئذٍ عن القول بأنّ العبادة ليست إلّا نوعاً خاصاً من الخضوع. ولو سُميت في بعض الموارد مطلق الخضوع عبادة، فإنّما سُميت من باب المبالغة والمجاز، يقول سبحانه: «أَرأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهَهُ هَواهُ أفأَنتَ تَكونُ عَليهِ وَكيلًا» (الفرقان/ 43) فكما أنّ إطلاق اسم الإله على الهوى مجاز فكذا تسمية متابعة الهوى عبادة لها، ضرب من المجاز.

ومن ذلك يعلم مفاد قوله سبحانه: «ألَمْ أعْهَدْ إلَيكُمْ يا بَني آدمَ أنْ لا تَعبُدوا الشَّيطانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وأنِ اعْبُدُونِي هذا

ص: 20

صِراطٌ مُستقيمٌ» (يس/ 60- 61).

فإنّ مَنْ يتَّبِع قولَ الشَّيطان فيتساهل في الصلاة والصيام، ويترك الفرائض أو يشرب الخمر ويرتكب الزنا، فإنّه بعمله هذا يقترف المعاصي لأنّه يعبده كعبادة اللَّه، أو كعبادة المشركين للأصنام ولأجل ذلك، لا يكون مشركاً محكوماً عليه بأحكام الشرك، وخارجاً عن عداد المسلمين، مع أنّه من عبدة الشيطان لكن بالمعنى الوسيع الأعم من الحقيقي والمجازيّ.

وربما يتوسع في إطلاق العبادة فتطلق على مطلق الإصغاء لكلام الغير، وفي الحديث: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي عن اللَّه عزّ وجلّ فقد عبد اللَّه، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان» (1).

توجيه غير سديد

اشارة

إنّ بعض من يفسّر العبادة بالخضوع والتذلّل عندما يقف أمام هذه الدلائل الوافرة، يحاول أن يجيب ويقول: إنّ


1- الكليني، الكافي 6: 434.

ص: 21

سجود الملائكة لآدم أو سجود يعقوب وأبنائه ليوسف، لم يكن عبادة له ولا ليوسف، لأنّ ذلك كان بأمر اللَّه سبحانه ولولا أمره لانقلب عملهم عبادة لهما.

وهذا التوجيه بمعزِل عن التحقيق، لأنّ معنى ذلك أنّ أمر اللَّه يُغيّر الموضوع، ويبدل واقعه إلى غير ما كان عليه، مع أنّ الحكم لا يغيِّر الموضوع.

فلو نفترض أنّه سبحانه أمر بسبِّ المشرك والمنافق فأمره سبحانه لايخرج السبَّ عن كونه سباً، فلو كان مطلقُ الخضوع المتجلّى في صورة السجود لآدم، أو ليوسف، عبادة لكان معنى ذلك أنّه سبحانه أمر بعبادة غيره، مع أنّها فحشاء بتصريح الذكر الحكيم لا يأمر بها سبحانه، قال تعالى: «إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحشاءِ أتَقُولونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» (الأعراف/ 28).

وهناك تعاريف للعبادة لجملة من المحققين نأتي بها واحداً بعد الآخر:

1- نظرية صاحب المنار في تفسير العبادة

إنّ صاحب المنار لمّا وقف على بعض ما ذكرناه

ص: 22

حاولَ أن يُفسّر العبادة بشكل يبعده عن بعض ما ذكرنا، لذلك أخذ في التعريف قيوداً ثلاثة:

أ- العبادة ضرب من الخضوع بالِغٌ حدَّ النهاية.

ب- ناشئ عن استشعار القلب عظمة المعبود، لا يعرف منشأها.

ج- واعتقاده بسلطة لا يُدرَك كنهها وماهيتها.

ويلاحظ على هذا التعريف:

أولًا: أنّ التعريف غير جامع، وذلك لأنّه إذا كان مقوُّم العبادة، الخضوعَ البالغَ حدّ النهاية فلا يشمل العبادة الفاقدة للخشوع والخضوع التي يؤديها أكثر المتساهلين في أمر الصلاة، وربما يكون خضوع الجندي لقائده أشدّ من هؤلاء المتساهلين الذين يتصوّرون الصلاة عبادة وجهداً.

وثانياً: ماذا يريد من قوله «عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يعرف منشأها»؟ فهل يعتقد أنّ الأنبياء كانوا يستشعرون عظمة المعبود ولكن لا يعرفون منشأها. مع أنّ غيرهم يستشعر عظمة المعبود ويعرف منشأها، وهو

ص: 23

أنّه سبحانه: الخالق البارئ، المصوّر، أو أنّه سبحانه هو الملك القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن العزيز الجبار المتكبر.

وثالثاً: ماذا يريد من قوله: «واعتقاده بسلطة لا يدرك كنهها وماهيتها»؟.

فإن أراد شرطية هذا الاعتقاد في تحقق العبادة، فلازم ذلك عدم صدقها على عبادة الأصنام والأوثان، فإنّ عُبّاد الأوثان يعبدونها وكانوا يعتقدون بكونهم شفعاء عند اللَّه سبحانه فقط لا أنّ لهم سلطة لا يدرك كنهُها وماهيتُها.

2- نظرية الشيخ شلتوت، زعيم الأزهر

وقد عرّف شيخ الأزهر الأسبق العبادة بنفس ما عرّفها به صاحب المنار، ولكنّه يختلف عنه لفظاً ويتّحد معه معنىً، فقال: العبادة خضوع لا يحدُّ، لعظمة لا تحد (1).

وهذا التعريف يشترك مع سابقه نقداً واشكالًا، وذلك أنّ العبادة ليست منحصرة في خضوع لا يحدّ بل الخضوع المحدّد أيضاً ربّما يعد عبادة، كما إذا كان الخضوع بأقل


1- تفسير القرآن الكريم: 37.

ص: 24

مراتبه. وكذلك لا يشترط كون الخضوع لعظمة لا تحدّ، إذ ربما تكون عظمة المعبود محدودة في زعم العابد كما هو الحال في عبادة الأصنام، الذي كان الدافع إلى عبادتها كونها شفعاء عند اللَّه.

3- تعريف ابن تيمية

وأكثر التعاريف عرضة للإشكال هو تعريف ابن تيمية إذ قال:

«العبادة اسم جامع لكلّ ما يحبّه اللَّه ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنية والظاهرية كالصلاة والزكاة والصيام، والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة، وبرّ الوالدين وصلة الأرحام» (1).

وهذا الكاتب لم يفرّق- في الحقيقة- بين العبادة والتقرّب، وتصوّر أنّ كلّ عمل يوجب القربى إلى اللَّه، فهو عبادة له تعالى أيضاً، في حين أنّ الأمر ليس كذلك، فهناك أُمور توجب رضا اللَّه، وتستوجب ثوابَه لكنها قد تكون عبادة كالصوم والصلاة والحج، وقد تكون موجبة للقرب


1- مجلة البحوث الإسلامية، العدد 2: 187، نقلا عن كتاب العبودية: 38.

ص: 25

إليه دون أن تعدّ عبادة، كالإحسان إلى الوالدين، وإعطاء الزكاة، والخمس، فكل هذه الأُمور (الأخيرة) توجب القربى إلى اللَّه في حين لا تكون عبادة. وإن سمّيت في مصطلح أهل الحديث عبادة، فيراد منها كونها نظير العبادة في ترتّب الثواب عليها.

وبعبارة أُخرى: أنّ الإتيان بهذه الأعمال يعدّ طاعة للَّه ولكن ليس طاعة عبادة.

وإن شئت قلت: إنّ هناك أُموراً عباديّة وأُموراً قربية، وكل عبادة مقرِّبة، وليس كل مقرِّب عبادة، فدعوة الفقير إلى الطعام، والعطف على اليتيم- مثلًا- توجب القرب ولكنّها ليست عبادة بمعنى أن يكون الآتي بها عابداً بعمله للَّه تعالى.

وإذا وقفت على قصور هذه التعاريف هنا نذكر في المقام تعريفين، كلّ يلازم الآخر.

ص: 26

التعريف الأوّل: العبادة هي الخضوع للشي ء بما أنّه إله

اشارة

إنّ لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة، وربّما يكون ظهور معناها الواضح مانعاً عن التحديد الدقيق لها غير أنّه يمكن تحديدها من خلال الإمعان في الموارد التي تستعمل فيها تلك اللفظة، فقد استعملها القرآن في مورد الموحّدين والمشركين، وقال سبحانه في الدعوة إلى عبادة نفسه «وَلكنْ أعبدُ اللَّهَ الَّذي يَتَوفّاكُمْ» (يونس/ 104) وقال سبحانه: «قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أنْ أعبُدَ اللَّهَ مُخلِصاً لَهُ الدِّينَ» (الزمر/ 11).

وقال في النهي عن عبادة غيره: «إنَّما تَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أوْثاناً وَتَخْلُقونَ إفْكاً» (العنكبوت/ 17) وقال: «أتَعبُدونَ ما تَنْحِتُونَ» (الصافّات/ 95): فعلى الباحث أن يقتنصَ معنى العبادة بالدقة في أفعال العباد، وعقائدهم من غير فرق بين

ص: 27

عبادة الموحّدين وعبادة المشركين فيجعله حدّاً منطقياً للعبادة.

إنّ الإمعان في ذلك المجال يدفعنا إلى القول بأنّ العبادة عندهم عبارة عن الفعل الدالّ على الخضوع المقترن مع عقيدة خاصة في حقّ المخضوع له، فالعنصر المقوّم للعبادة حينئذٍ أمران:

1- الفعل المنبني عن الخضوع والتذلّل.

2- العقيدة الخاصة التي تدفعه إلى عبادة المخضوع له.

أمّا الفعل، فلا يتجاوز عن قول أو عمل دالّ على الخضوع والتذلّل بأيّ مرتبة من مراتبها، كالتكلّم بكلام يؤدي إلى الخضوع له أو بعمل خارجي كالركوع والسجود بل الانحناء بالرأس، أو غير ذلك مما يدلّ على ذلّته وخضوعه أمام موجود.

وأمّا العقيدة التي تدفعه إلى الخضوع والتذلّل فهي عبارة عن:

1- الاعتقاد بإلوهيته.

2- الاعتقاد بربوبيته.

أمّا الأوّل فالإلوهية منسوبة إلى اللَّه وهو ليس بمعنى

ص: 28

المعبود- وإن اشتهر في الألسن- بل كونه معبوداً من لوازم كونه إلها لا أنّه نفس معناه، بل إلاله- كما يشهد عليه الذكر الحكيم- مرادف، للفظ الجلالة ويختلف معه في الكلّية والجزئية، فاللَّه كلّي ولفظ الجلالة علم جزئي.

وتوضيح ذلك أنّ الموحّدين عامة والوثنيين كلّهم، وعبدة الشمس والكواكب يعتقدون بإلوهية معبوداتهم إمّا لكون المعبود إلهاً كبيراً أو إلهاً صغيراً، إمّا إلهاً صادقاً أو إلهاً كاذباً، فالاعتقاد بإلوهية المعبود بهذا المعنى هو المقوّم لصدق العبادة.

ولأجل أنّه لا يستحق العبادة إلّامن كان إلهاً لذلك يؤكّد القرآنَ بأنّه لا إله إلّااللَّه ومع ذلك فكيف تعبدون غيره.

يقول سبحانه: «الَّذِينَ يَجْعَلونَ مَعَ اللَّهِ إلهاً آخَرَ فَسوفَ يَعْلَمونَ» (الحجر/ 96).

«والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلهاً آخَرَ» (الفرقان/ 68).

«وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهةً لِيكُونُوا لَهُمْ عِزّاً» (مريم/ 81).

«أئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أنَّ معَ اللَّهِ آلِهةً أُخْرى» (الأنعام/ 19).

وحاصل الآيات أنّ غيره سبحانه لا يستحق العبادة

ص: 29

لأنّها من شؤون الإلوهية وهي من خصائص اللَّه سبحانه لا غير، فيتحصّل من ذلك أنّ العبادة عبارة عن الخضوع أمام موجود للاعتقاد بأنّه إله حقيقيّ أو مجازيّ، ولو لا ذلك الاعتقاد لا يوصف الخضوع بالعبادة، والشاهد عليه أنّ العاشق الولهان إذا خضع لمعشوقته، خضوعاً بالغاً لا يعد عبادة لها، لأنّه لم يصدر عن الاعتقاد بإلوهيتها وأنّها إله، وإنّما صدر عن اعتقاد بأنّها جميلة تجذب الإنسان بنفسيتها وجمالها.

ويدل على ما ذكرنا من أنّ دعوة المشركين وخضوعهم ونداءهم وسؤالهم كانت مصحوبة بالاعتقاد بإلوهية أصنامهم، أنّه سبحانه يفسّر الشرك في بعض الآيات باتّخاذ إله مع اللَّه.

ويقول: «وأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ* إنّا كَفَيْناكَ المُستَهزِئِينَ* الَّذِينَ يَجْعَلونَ مَعَ اللَّهِ إلهاً آخَرَ فَسوفَ يَعْلَمونَ» (الحجر/ 94- 96).

وفي بعض الآيات يندّد بالمشركين بأنّه ليس لهم إله غير اللَّه فكيف يعبدون غيره، ويقول: «أمْ لَهُمْ إلهٌ غَيرُ اللَّهِ سُبحانَ اللَّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ» (الطور/ 43).

والإمعان في هذه الآيات ونظائرها يؤكد أنّ اندفاع

ص: 30

المشركين إلى عبادة الأصنام أو اندفاع الموحّدين إلى عبادة اللَّه هو اعتقادهم بكونهم آلهة أو كونه إلهاً، فهذا الاعتقاد كان يدفعهم إلى العبادة، ولأجل ذلك كانوا يقدّمون لمعبوداتهم النذور والقرابين وغيرهما من التقاليد والسنن. ولمّا كانت كلمة التوحيد تهدِّم عقيدتهم بإلوهية غيره سبحانه لذلك كانوا يستكبرون عند سماعها، كما قال سبحانه: «إنَّهُمْ كانُوا إذا قِيلَ لَهُمْ لا إلهَ إلّااللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ» (الصافات/ 35).

ثم إنّ الاعتقاد بإلوهية الأصنام لا يلازم الاعتقاد بكون المعبود خالقاً للعالم حتى يقال بأنّ المشركين في الجاهلية كانوا موحدين في الخالقية، كما يدل على ذلك أكثر من آية. قال سبحانه:

«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ» (الزخرف/ 9).

إذ للإلوهية شؤون عندهم يقوم ببعضها الإله الأعلى كخلق السماوات والأرض، وبعضها الآخر الآلهة المزعومة المتخيّلة عندهم، كغفران الذنوب والشفاعة المطلقة المقبولة بلا قيد وشرط، وبما أنّ هذين الأمرين

ص: 31

الأخيرين من شؤون الإله الأعلى أيضاً وليس للآلهة المزعومة فيها حظّ ولا نصيب، يركّز القرآن على إثباتهما للَّه سبحانه فقط ويقول: «ومَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلّااللَّهُ» (آل عمران/ 135). ويقول: «قُلْ للَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً» (الزمر/ 44).

وفي ضوء ذلك فالمشركون كانوا معتقدين بالإله الأعلى الأكبر وفي الوقت نفسه يعتقدون بآلهة شتّى ليس لهم من الشؤون ماللإله الأعلى منها، وفي الوقت نفسه كانت الآلهة عندهم مخلوقين للَّه سبحانه، مفوّضين إليهم بعض الشؤون كما عرفت.

ترادف الإله ولفظ الجلالة

إنّ الدليل الواضح على أنّ الإله يرادف لفظ الجلالة ولكن يفترق عنها بالجزئية والكلية الأُمور التالية:

أ- وحدة المادة، إذ الأصل للفظ الجلالة هو الإله، فحذفت الهمزة وعوّض اللام، ولذلك قيل في النداء: «يا اللَّه، بالقطع كما يقال: يا إله» (1).

ب- الآيات التي استدلّ فيها على وحدة الإله صريحة


1- الزمخشري، الكشاف 1: 30.

ص: 32

في أنّ المراد من الإله هو المتصرّف المدبّر، أو من بيده أزمّة الأُمور أو ما يقرب من ذلك، ولا يصح تفسير الإله بالمعبود وإلّا لفسد الاستدلال، وإليك الآيات الواردة في ذلك المجال.

1- «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّااللَّهُ لَفَسدَتا» (الأنبياء/ 22) فإنّ البرهان على نفي تعدّد الآلهة لا يتم إلّاإذا جعلنا «الإله» في الآية بمعنى المتصرّف المدبّر أو من بيده أزمّة الأُمور أو ما يقرب من هذين، ولو جعلنا الإله بمعنى المعبود لانتقص البرهان لبداهة تعدّد المعبودين في هذا العالم، مع عدم فساد النظام الكوني وقد كانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحمة بالآلهة بل ومركزها مع انتظام العالم وعدم فساده.

وعندئذ يجب على من يجعل «الإله» بمعنى المعبود أن يقيّده بلفظ «بالحق» أي لو كان فيهما معبودات- بالحق- لفسدتا، ولمّا كان المعبود بالحقّ مدبراً أو متصرّفاً لزم من تعدّده فساد النظام وهذا كلّه تكلّف لا مبرّر له.

2- «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وما كانَ مَعَهُ مِنْ إلهٍ إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعضٍ» (المؤمنون/ 91).

ويتمّ هذا البرهان أيضاً لو فسّرنا الإله بما ذكرنا من أنّه

ص: 33

كلّيّ، ما يطلق عليه لفظ الجلالة. وإن شئت قلت: إنّه كناية عن الخالق أو المدبّر المتصرّف أو من يقوم بأفعاله وشؤونه، والمناسب في هذا المقام هو الخالق، ويلزم من تعدّده ما رتّب عليه في الآية من ذهاب كلّ إله بما خلق واعتلاء بعضهم على بعض.

ولو جعلناه بمعنى المعبود لانتقص البرهان، ولا يلزم من تعدّده أيّ اختلال في الكون. وأدلّ دليل على ذلك هو المشاهدة. فإنّ في العالم آلهة متعدّدة، وقد كان في أطراف الكعبة المشرّفة ثلاثمائة وستون إلهاً ومع ذلك لم يقع أيّ فساد أو اختلال في الكون.

فيلزم من يفسّر (الإله) بالمعبود ارتكاب التكلّف بما ذكرناه في الآية المتقدمة.

3- «قُلْ لَوْ كانَ مَعهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولونَ إذاً لَابْتَغَوْا إلى ذِي العَرْشِ سَبِيلًا» (الإسراء/ 42) فإنّ ابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدّد الخالق المدبّر المتصرف، أو من بيده أزمّة أُمور الكون أو غير ذلك ممّا يرسمه في ذهننا معنى الإلوهية، وأمّا تعدّد المعبود فلا يلازم ذلك إلّابالتكلّف الذي أشرنا إليه فيما سبق.

ص: 34

4- «إنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنْتُمْ لَها وارِدُونَ* لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها» (الأنبياء/ 98- 99) والآية تستدل بورود الأصنام والأوثان في النار، على بطلان كونها آلهة إذ لو كانت آلهة ما وردوا النار.

والاستدلال إنّما يتم لو فسّرنا الآلهة بما أشرنا إليه، فإنّ خالق العالم أو مدبّره والمتصرّف فيه أو من فوّض إليه أفعال اللَّه أجلّ من أن يحكم عليه بالنار وأن يكون حصب جهنم.

وهذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود فلا يتم البرهان، لأنّ المفروض أنّها كانت معبودات وقد جعلت حصب جهنّم. ولو أمعنت في الآيات التي ورد فيها لفظ الإله والآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه.

حصيلة البحث: أنّ العبادة عبارة عن الخضوع الصادر عمّن يتّخذه الخاضع إلهاً، وما ذكرناه على وجه التفصيل هو الذي أفرغه الشيخ جواد البلاغي في قالب التعريف وقال: العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتّخذه الخاضع إلهاً، ليوفيه بذلك ما يراه له من حقّ الامتياز بالإلوهية (1).


1- البلاغي، آلاء الرحمن: 57، ط صيدا.

ص: 35

التعريف الثاني: العبادة عبارة عن الخضوع للشي ء على أنّه ربّ

اشارة

واللغويون وإن ذكروا للربّ معاني مختلفة كالخالق والمالك والصاحب والمصلح، ولكن الظاهر أنّ أكثر هذه المعاني من لوازم المعنى الواحد، ويمكن تصويره بأنّه من فوّض إليه أمر الشي ء من حيث الإصلاح والتدبير والتربية، فلو أُطلق الربّ على الخالق فلأنّه يقوم بإصلاح مخلوقه وتدبيره، وتربيته. ولو أُطلق على صاحب المزرعة ربّ الضيعة، أو على سائس القوم أنّه ربّهم، فلأنّ الأوّلَ يقوم بتصليح أُمور المزرعة، والثاني بتدبير أُمور القوم وشؤونهم وقس على ذلك سائر الأُمور، فاللَّه سبحانه ربّ العالمين، و «رَبُّ السَّمواتِ والأرضِ» (الصافات/ 5) و «هُوَ رَبُ

ص: 36

الشِّعْرى» (النجم/ 49) فلأجل أنّه سبحانه مدبّر ومدير ومتصرّف في شؤونها والقائم عليها. فلو أُطلق الربّ على مالك الدابة فلأجل أنّه فُوِّض إليه إصلاح المملوك.

هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى اللَّه سبحانه يعلّل في بعض الآيات حصر العبادة في اللَّه سبحانه حيث حصر الربوبية به دون غيره، فتدلّ بصراحة على أنّ العبادة من شؤون الربوبية، وإليك بعض الآيات.

وقال المسيح:

«يا بَنِي إسْرائيلَ اعْبُدوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» (المائدة/ 72). «إنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وأنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» (الأنبياء/ 92). «إنَّ اللَّهِ رَبِّي ورَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتقِيمٌ» (آل عمران/ 51).

وإذا عرفت هذين الأمرين:

1- الربّ من فوّض إليه تدبير الشي ء وإصلاحه وتربيته.

2- إنّ الآيات تعلّل حصر العبادة في اللَّه بكونه ربّاً.

فستعرف أنّ اتّسام الخضوع، والسؤال والدعاء بالعبادة من شؤون الاعتقاد بكون المخضوع له ربّاً بيده مسير الخاضع ومصيره، وإن شئت قلت: بيده شأن أو

ص: 37

شؤون مَن حياته الدنيوية أو الأُخروية بيده، فالخضوع المقرون بهذا الاعتقاد يُضفي عليه عنوان العبادة.

وليعلم أنّ المراد من كون الرب مالكاً لشأن من شؤون حياته ليس المراد هو المالكية القانونية والوضعية التي تُعطى للإنسان حيناً وتسلَب عنه حيناً آخر، بل المراد المالكية التكوينية المستمدّة من الخالقية كما في الإله الأعلى أو من تفويض الإله الأعلى لها، كما هو الحال عند آلهة المشركين- على زعمهم- الذين يعتقدون بأنّه سبحانه فوّض إليهم بعضَ شؤون حياتهم، كغفران الذنوب والشفاعة، بل يظهر ممّا نقله ابن هشام في سيرته أنّ الشرك دخل مكّة في صورة الشرك في الربوبية فيما يرجع إلى الاستمطار، يقول ابن هشام:

«كان عمرو بن لحي» أول من أدخل الوثنية إلى مكّة ونواحيها، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثانَ وعندما سألهم عمّا يفعلون قائلًا:

ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها؟

قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا!

ص: 38

فقال لهم: أفلا تعطوني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟

وهكذا استحسن طريقتهم واستصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم «هبل» ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة ودعا الناس إلى عبادتها (1).

إذن فاستمطار المطر من هذه الأوثان والاستعانة بها يكشف عن أنّ بعض المشركين كانوا يعتقدون بأنّ لهذه الأوثان دخلًا في تدبير شؤون الكون وحياة الإنسان.

نتيجة البحث

إذا عرفنا أنّ مقومّ العبادة عبارة عن اعتقاد السائل والخاضع والداعي أو المنادي بأنّ المسؤول والمخضوع له «إله» و «ربّ» يملك شيئاً ممّا يرجع إليه في عاجله أو آجله، في مسيره ومصيره، وإنّه يقوم بذلك لكونه خالقاً أو مفوَّضاً إليه من قبل الخالق، فيقوم على وجه الاستقلال والأصالة، تستطيع أن تقضي في الأعمال التي يقوم بها اشياع الأنبياء ومحبّوهم، بأنّها ليست عبادة أبداً وإنّما هي


1- سيرة ابن هشام 1: 79.

ص: 39

من مصاديق التكريم والاحترام وإن بلغت نهاية التذلّل، لأنّها لا تنطلق من اعتقاد الخاضع بإلوهية النبي، ولا ربوبيته بل تنطلق عن الاعتقاد بكونهم عباد اللَّه الصالحين، وعباده المكرمين الذين لا يعصون اللَّه وهم بأمره يعملون، نظير:

1- تقبيل الأضرحة وأبواب المشاهد التي تضمّ أجساد الأنبياء والأولياء، فإنّ ذلك ليس عبادة لصاحب القبر والمشهد، لفقدان عنصر العبادة فيما يفعله الإنسان من التقبيل واللّمس وما شابه ذلك.

2- إقامة الصلاة في مشاهد الأولياء تبركاً بالأرض التي تضمنت جسد النبي أو الإمام، كما تبرّك بالصلاة عند مقام إبراهيم اتّباعاً لقوله تعالى: «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبراهِيمَ مُصَلّى» (البقرة/ 125).

3- التوسّل بالنبي سواء كان توسلًا بذاته وشخصه، أو بمقامه وشخصيته أو بدعائه في حال حياته ومماته، فإنّ ذلك كلّه لا يكون عبادة لعدم الاعتقاد بإلوهية النبيّ ولا ربوبيته، ويعدّ من التوسّل بالأسباب، سواء كان المدعوّ قادراً على إنجاز العمل أو عاجزاً، غاية الأمر يكون التوسّل

ص: 40

في صورة العجز غير مفيد، لا متّسماً بالشرك، فلو افترضنا أنّ الأنبياء والأئمة في حال الممات غير قادرين على شي ء فالدعاء والتوسّل بهم مع كونهم عاجزين لا يجعل العمل شركاً، بل يجعله لغواً، مع أنّ أصل المبنى باطل أي أنّهم غير قادرين في حال الممات.

4- طلب الشفاعة من الأنبياء أو النبيّ الأكرم ليس شركاً لأنّه يطلبها منه بقيد أنّه عبد مأذون لا أنّه مفوّض إليه أمرها، وفي الواقع إمّا أن يكون مأذوناً فيشفع وإما أن يكون الطلب لغواً.

5- الاستغاثة بالأرواح المقدّسة ليس إلّاكالاستغاثة بهم في حال حياتهم، فهي على وجه يتّسم بالشرك من غير فرق بين حالي الحياة والممات ولا يتّسم به على وجه آخر، كذلك فلو استغاث به بما أنّه عبد أقدره اللَّه تعالى على الإجابة حياً وميتاً، يكون من قبيل التوسّل بالأسباب، وإن استغاث به بما أنّه إله أو ربّ يقوم بالاستغاثة أصالة واستقلالًا وأنّه فوّض إليه حياة المستغيث عاجلًا وآجلًا، فهو شرك من غير فرق بين الحالتين.

هذا خلاصة البحث حول حصر العبادة باللَّه سبحانه،

ص: 41

وإذا أمعنت فيما ذكرنا يمكنك على بعض ما أثارته بعض المناهج الفكرية في الأوساط الإسلامية حول هذه الأُمور، التي نسبت جلّ المسلمين إلى الشرك في العبادة مع أنّهم بمنأى عن الشرك.

الفوضى في التطبيق بين الإمام والمأموم

لقد ترك الإهمال في تفسير العبادة تفسيراً منطقياً، فوضى كبيرة في مقام التطبيق بين الإمام والمأموم فنرى أنّ إمام الحنابلة أحمد بن حنبل (164- 241 ه) صدر عن فطرة سليمة في تفسير العبادة، وأفتى بجواز مسِّ منبر النبيّ صلى الله عليه و آله والتبرّك به وبقبره وتقبيلهما عندما سأله ولده عبد اللَّه بن أحمد، وقال: سألته عن الرجل يمسُّ منبرَ النبيِّ صلى الله عليه و آله ويتبرّك بمسِّه، ويُقَبّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك، يريد بذلك التقرّب إلى اللَّه عزّ وجلّ؟ فقال: «لابأس بذلك» (1).

هذه هي فتوى الإمام- الذي يفتخر بمنهجه أحمد بن تيمية، وبعده محمد بن عبد الوهاب- ولم ير بأساً بذلك،


1- أحمد بن حنبل، العلل ومعرفة الرجال 2: 492، برقم: 3243، تحقيق الدكتور وصي اللَّه عباس، ط بيروت 1408.

ص: 42

لما عرفت من أنّ العبادة ليست مجرّد الخضوع، فلا يكون مجرّد التوجّه إلى الأجسام والجمادات عبادة، بل هي عبارة عن الخضوع نحو الشي، باعتبار أنّه إله أو ربّ، أو بيده مصير الخاضع في عاجله وآجله، وأمّا مسّ المنبر أو القبر وتقبيلهما، كل ذلك لغاية التكريم والتعظيم لنبيّ التوحيد، وإن كان لغاية التبرّك فلا يتجاوز التبرّك في المقام عن تبرّك يعقوب بقميص ابنه يوسف، ولم يخطر بخلد أحد من المسلمين إلى اليوم الذي جاء فيه ابن تيمية بالبدع الجديدة، أنّها عبادة لصاحب القميص والمنبر والقبر أو لنفس تلك الأشياء.

ولمّا كانت فتوى الإمام ثقيلة على محقق الكتاب، أو من علق عليه لأنها تتناقض مع ما عليه الوهابية وتبطل أحلام ابن تيمية، ومن لفَّ لفَّه، حاول ذلك الكاتب أن يوفّق بين جواب الإمام وما عليه الوهابية في العصر الحاضر، فقال: «أمّا مسّ منبر النبيّ فقد أثبت الإمام ابن تيمية في الجواب الباهر (ص 41) فعله عن ابن عمر دون غيره من الصحابة، ورى أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف (4/ 121) عن زيد بن الحباب قال: حدّثني أبو مودود قال:

ص: 43

حدّثني يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: رأيت نفراً من أصحاب النبيّ إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى زمانة المنبر القرعاء فمسحوها، ودعوا قال: ورأيت يزيد يفعل ذلك.

وهذا لما كان منبره الذي لامس جسمه الشريف، أمّا الآن بعد ما تغيّر لا يقال بمشروعية مسحه تبركاً به».

ويلاحظ على هذا الكلام: بعد وجود التناقض بين ما نقل عن ابن تيمية من تخصيص المسّ بمنبر النبيّ با بن عمر، وما نقله عن المصنف لابن أبي شيبة من مسح نفر من أصحاب النبيّ زمانة المنبر:

أوّلًا: لو كان جواز المسّ مختصّاً بالمنبر الذي لامسه جسم النبي الشريف دون ما لايمس كان على الإمام المفتي أن يذكر القيدَ، ولا يُطلق كلامَه، حتى ولو افترضنا أنّ المنبر الموجود في المسجد النبوي في عصره كان نفسَ المنبر الذي لامسَه جسمُ النبيّ الأكرم، وهذا لا يغيب عن ذهن المفتي، إذ لو كان تقبيل أحد المنبرين نفس التوحيد، وتقبيل المنبر الآخر عينَ الشرك، لما جاز للمفتي أن يغفل التقسيم والتصنيف.

وثانياً: أنّ ما يفسده هذا التحليل أكثر ممّا يصلحه،

ص: 44

وذلك لأنّ معناه أنّ لجسمه الشريف تأثيراً في المنبر وما تبرّك به، وهذا يناقض التوحيد الربوبي من أنّه لا مؤثّر في الكون إلّااللَّه سبحانه، فكيف يعترف الوهابي بأنّ لجسمه الشريف في الجسم الجامد تأثيراً وأنّه يجوز للمسلمين أن يتأثروا به عبر القرون.

ثم إنّ المعلّق استثنى مسّ قبر النبي صلى الله عليه و آله والتبرك به، ومنعهما وقال في وجهه:

«وأمّا جواز مسّ قبر النبيّ والتبرّك به فهذا القول غريب جداً لم أر أحداً نقله عن الإمام، وقال ابن تيمية في الجواب الباهر لزوار المقابر (ص 31): اتّفق الأئمة على أنّه لا يمسّ قبر النبي ولا يقبله، وهذا كلّه محافظة على التوحيد، فإنّ من أُصول الشرك باللَّه اتّخاذ القبور مساجد» (1).

لكن يلاحظ عليه: كيف يقول: لم أجد أحداً نقله عن الإمام، أوَ ليس ولده أبو عبد اللَّه راوية أبيه وكتبه يروي هذه الفتوى؟ وهو ثقة عند الحنابلة!

وأمّا التفريق بين مسّ المنبر والقبر بجعل الأول نفس


1- تعليقة المحقق، نفس الصفحة.

ص: 45

التوحيد، والثاني أساس الشرك، فمن غرائب الأُمور، لأنّ الأمرين يشتركان في التوجّه إلى غير اللَّه سبحانه، فلو كان هذا محرز الشرك، فالموضوعات سيّان، وإن فرّق بينهما بأنّ الماسّ، ينتفع بالأول دون الثاني لعدم مسّ جسده بالثاني فلازمه كون الأول نافعاً والثاني أمراً باطلًا دون أن يكون شركاً.

ولو رجع المحقق إلى الصحاح والمسانيد وكتب السيرة والتاريخ، لوقف على أنّ التبرّك بالقبر ومسّه، كان أمراً رائجاً بين المسلمين في عصر الصحابة والتابعين، ولأجل إيقاف القارئ على صحة ما نقول نذكر نموذجين من ذلك:

1- إنّ فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين بنت رسول اللَّه حضرت عند قبر أبيها صلى الله عليه و آله وأخذت قبضة من تراب القبر تشمّه وتبكي وتقول:

ماذا على من شمّ تربة أحمد ألّا يشمّ مدَى الزمان غَواليا

ص: 46

صُبَّت عليَّ مصائب لو أنّها صُبَّت على الأيّامِ صِرنَ لَياليا (1)

إنّ هذا التصرّف من السيدة الزهراء المعصومة يدل على جواز التبرّك بقبر رسول اللَّه وتربته الطاهرة.

2- إنّ بلال- مؤذّن رسول اللَّه- أقام في الشام في عهد عمر بن الخطاب فرأى في منامه النبيّ صلى الله عليه و آله وهو يقول:

«ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آنَ لك أن تزورني يا بلال؟»

فانتبه حزيناً وَجِلًا خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبيّ صلى الله عليه و آله فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين عليهما السلام فجعل يضمّهما ويقبّلهما ... إلى آخر الخبر (2).


1- لقد ذكر هذه القضية جمع كثير من المؤرخين، منهم السمهودي في وفاء الوفا 2: 444- والخالدي في صلح الاخوان: 57، وغيرهما
2- ابن الأثير، أُسد الغابة 1: 28، وغيره من المصادر.

ص: 47

المسألة الثانية:

حصر الاستعانة في اللَّه

اشارة

هذه هي المسألة الثانية التي طرحت في صدر المقال وقلنا: إنّ المسلمين في أقطار العالم يَحصرون الاستعانة في اللَّه سبحانه ومع ذلك يستعينون بالأسباب العادية، جرياً على القاعدة السائدة بين العقلاء، ولا يرونه مخالفاً للحصر، كما أنّ المتوسّلين بأرواح الأنبياء يستعينون بهم في مشاهدهم ومزاراتهم ولا يرون تعارض ذلك مع حصر الاستعانة باللَّه سبحانه، وذلك لأنَّ الاستعانة بغير اللَّه يمكن أن تتحقق بصورتين:

1- أن نستعين بعامل- سواء أكان طبيعياً أم غير طبيعي- مع الاعتقاد بأنّ علمه مستند إلى اللَّه، بمعنى أنّه قادر على أن يعين العباد ويزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من اللَّه

ص: 48

وإذنه.

وهذا النوع من الاستعانة- في الحقيقة- لا ينفك عن الاستعانة باللَّه ذاته، لأنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل، ذلك الأثر، وأذن بها، وإن شاء سلبها وجرّدها منه.

فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس والماء وحرث الأرض، فقد استعان باللَّه- في الحقيقة- لأنّه تعالى هوالذي منح هذه العوامل: القدرة على إنماء ماأودع في بطن الأرض من بذر ومن ثم إنباته والوصول به إلى حدّ الكمال.

2- وإذا استعان بإنسان أو عامل طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقلّ في وجوده، أو في فعله عن اللَّه، فلا شك أنّ ذلك الاعتقاد يصير شركاً والاستعانة به عبادة.

فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة وهو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها أو أنّها مستقلّة في وجودها ومادتها كما في فعلها وقدرتها، فالاعتقاد شرك والطلب عبادة.

وبذلك يظهر أنّ الاستعانة المنحصرة في اللَّه المنصوص عليها في قوله تعالى «وإيّاك نَستعينُ» هي الاستعانة بالمعونة المستقلّة النابعة من ذات المستعان به،

ص: 49

غير المتوقّفة على شي ء، فهذا هو المنحصر في اللَّه تعالى، وأمّا الاستعانة بالإنسان الذي لا يقوم بشي ء إلّابحول اللَّه وقوّته وإذنه ومشيئته، فهي غير منحصرة باللَّه سبحانه، بل إنّ الحياة قائمة على هذا الأساس، فإنّ الحياة البشرية مليئة بالاستعانة بالأسباب التي تؤثّر وتعمل بإذن اللَّه تعالى.

وعلى ذلك لا مانع من حصر الاستعانة في اللَّه سبحانه بمعنى، وتجويزها بغيره بمعنى آخر وهو ما له نظر في الكتاب العزيز.

ولإيقاف القارئ على هذه الحقيقة نلفت نظره إلى آيات تحصر جملة من الأفعال الكونية في اللَّه تارة، مع أنّها تنسب نفس الأفعال في آيات أُخرى إلى غير اللَّه أيضاً، وما هذا إلّالعدم التنافي بين النسبتين لاختلاف نوعيتهما فهي محصورة في اللَّه سبحانه مع قيد الاستقلال، ومع ذلك تنسب إلى غير اللَّه مع قيد التبعية والعرضية.

الآيات التي تنسب الظواهر الكونية إلى اللَّه وإلى غيره:

1- يقول سبحانه: «وإذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» (الشعراء/ 80). بينما يقول سبحانه فيه (أي في العسل): «شِفاءٌ

ص: 50

لِلنّاسِ» (النحل/ 69).

2- يقول سبحانه: «إنّ اللَّهَ هُوَ الرَّزّاقُ» (الذاريات/ 58) بينما يقول: «وارْزُقُوهُمْ فِيها» (النساء/ 5).

3- يقول سبحانه: «أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ» (الواقعة/ 64). بينما يقول سبحانه: «يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِظَ بِهِمُ الكُفّارُ» (الفتح/ 29).

4- يقول تعالى: «واللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ» (النساء/ 81).

بينما يقول سبحانه: «بَلَى ورُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» (الزخرف/ 80).

5- يقول تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ» (يونس/ 3). بينما يقول سبحانه: «فالمُدَبِّراتِ أَمراً» (النازعات/ 5).

6- يقول سبحانه: «اللَّهُ يَتَوفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» (الزمر/ 42). بينما يقول: «الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبينَ» (النحل/ 32).

إلى غير ذلك من الآيات التي تنسب الظواهر الكونية تارة إلى اللَّه، وتارة إلى غيره تعالى.

والحل أن يقال: إنّ المحصور باللَّه تعالى هو انتساب هذه الأُمور على نحو الاستقلال، وأمّا المنسوب إلى غيره فهو على نحو التبعية، وبإذنه تعالى، ولا تعارض بين

ص: 51

النسبتين ولا بين الاعتقاد بكليهما.

فمن اعتقد بأنّ هذه الظواهر الكونية مستندة إلى غير اللَّه على وجه التبعية لا الاستقلال لم يكن مخطئاً ولا مشركاً، وكذا من استعان بالنبيّ أو الإمام على هذا الوجه.

هذا مضافاً إلى أنّه تعالى الذي يعلّمنا أن نستعين به فنقول: «إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَستَعِينُ» يحثُّنا في آية أُخرى على الاستعانة بالصبر والصلاة فيقول: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ» (البقرة/ 45) وليس الصبر والصلاة إلّافعل الإنسان نفسه.

حصيلة البحث:

إنّ الآيات الواردة حول الاستعانة على صنفين:

الصنف الأول: يحصر الاستعانة في اللَّه فقط ويعتبره الناصر والمعين الوحيد دون سواه.

والصنف الثاني: يدعونا إلى سلسلة من الأُمور المعينة (غير اللَّه) ويعتبرها ناصرة ومعينة، إلى جانب اللَّه.

أقول: اتضح من البيان السابق وجه الجمع بين هذين النوعين من الآيات، وتبيّن أنّه لا تعارض بين الصنفين

ص: 52

مطلقاً، إلّاأنّ فريقاً نجدهم يتمسّكون بالصنف الأوّل من الآيات فيخطِّئون أيّ نوع من الاستعانة بغير اللَّه، ثم يضطرّون إلى إخراج (الاستعانة بالقدرة الإنسانية والأسباب المادية) من عموم تلك الآيات الحاصرة للاستعانة باللَّه بنحو التخصيص، بمعنى أنّهم يقولون:

إنّ الاستعانة لا تجوز إلّاباللَّه إلّافي الموارد التي أذن اللَّه بها، وأجاز أن يستعان فيها بغيره، فتكون الاستعانة بالقدرة الإنسانية والعوامل الطبيعية- مع أنّها استعانة بغير اللَّه- جائزة ومشروعة على وجه التخصيص، وهذا ممّا لا يرتضيه الموحّد.

في حين أنّ هدف الآيات هو غير هذا تماماً، فإنّ مجموع الآيات يدعو إلى أمر واحد وهو: عدم الاستعانة بغير اللَّه، وأنّ الاستعانة بالعوامل الأُخرى يجب أن تكون بنحو لا يتنافى مع حصر الاستعانة في اللَّه بل تكون بحيث تعدّ استعانة باللَّه لا استعانة بغيره.

وبتعبير آخر: إنّ الآيات تريد أن تقول: بأنّ المعين والناصر الوحيد والذي يستمدّ منه كلّ معين وناصر، قدرته وتأثيره، ليس إلّااللَّه سبحانه، ولكنّه- مع ذلك- أقام

ص: 53

هذا الكون على سلسلة من الأسباب والعلل التي تعمل بقدرته وأمر باستمداد الفرع من الأصل، ولذلك تكون الاستعانة به كالاستعانة باللَّه، ذلك لأنّ الاستعانة بالفرع استعانة بالأصل.

وإليك فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات من الصنفين:

«ومَا النَّصرُ إلّامِنْ عِنْدِ اللَّهِ العَزيزِ الحَكيمِ» (آل عمران/ 126).

«إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَستَعِينُ» (الحمد/ 5).

«ومَا النَّصْرُ إلّامِنْ عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكيمٌ» (الأنفال/ 10).

هذه الآيات نماذج من الصنف الأول وإليك فيما يأتي نماذج من الصنف الآخر الذي يدعونا إلى الاستعانة بغير اللَّه من العوامل والأسباب:

«وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ» (البقرة/ 45).

«وتَعاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوى» (المائدة/ 2).

«ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيرٌ فَأعِينُونِي بِقُوَّةٍ» (الكهف/ 95).

«وإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَليْكُمُ النَّصْرُ» (الأنفال/ 72).

ومفتاح حلّ التعارض بين هذين الصنفين من الآيات هو ما ذكرناه وملخّصه:

إنّ في الكون مؤثراً تاماً، ومستقلًا واحداً، غير معتمد

ص: 54

على غيره لا في وجوده ولا في فعله وهو اللَّه سبحانه:

وأمّا العوامل الأُخر فجميعها مفتقرة- في وجودها وفعلها- إليه وهي تؤدي ما تؤدي بإذنه ومشيئته وقدرته، ولو لم يعط سبحانه تلك العوامل ما أعطاها من القدرة ولم تجر مشيئته على الاستمداد منها لما كانت لها أيّة قدرة على شي ء.

فالمعين الحقيقي في كل المراحل- على هذا النحو تماماً- هو اللَّه فلا يمكن الاستعانة بأحد باعتباره معيناً مستقلًاّ. لهذه الجهة حصر هنا الاستعانة في اللَّه وحده، ولكن هذا لا يمنع بتاتاً من الاستعانة بغير اللَّه باعتباره غير مستقلّ (أي باعتباره معيناً بالاعتماد على القدرة الإلهية) ومعلوم أنّ استعانة- كهذه- لا تنافي حصر الاستعانة في اللَّه سبحانه لسببين:

أوّلًا: لأنّ الاستعانة المخصوصة باللَّه هي غير الاستعانة بالعوامل الأُخرى، فالاستعانة المخصوصة باللَّه هي: (ما تكون باعتقاد أنّه قادر على إعانتنا بالذات، وبدون الاعتماد على غيرها، في حين أنّ الاستعانة بغير اللَّه سبحانه إمّا هي على نحو آخر، أي مع الاعتقاد بأنّ المستعان قادر

ص: 55

على الإعانة مستنداً على القدرة الإلهية، لا بالذات، وبنحو الاستقلال، فإذا كانت الاستعانة- على النحول الأوّل- خاصّة باللَّه تعالى فإنّ ذلك لا يدل على أنّ الاستعانة بصورتها الثانية مخصوصة به أيضاً.

ثانياً: إنّ استعانة- كهذه- غير منفكّة عن الاستعانة باللَّه، بل هي عين الاستعانة به تعالى، وليس في نظر الموحّد (الذي يرى أنّ الكون كلّه من فعل اللَّه ومستنداً إليه) مناص من هذا.

وأخيراً نذكّر القارئ الكريم بأنّ مؤلّف المنار حيث إنّه لم يتصوّر للاستعانة بالأرواح إلّاصورة واحدة لذلك اعتبرها ملازمة للشرك فقال:

«ومن هنا تعلمون: إنّ الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم وتيسير أُمورهم وشفاء أمراضهم ونماء حرثهم وزرعهم، وهلاك أعدائهم وغير ذلك من المصالح هم عن صراط التوحيد ناكبون، وعن ذكر اللَّه معرضون» (1).

ويلاحظ عليه: بأنّ الاستعانة بغير اللَّه (كالاستعانة


1- المنار 1: 59.

ص: 56

بالعوامل الطبيعية) على نوعين:

إحداهما عين التوحيد، والأُخرى موجبة للشرك، إحداهما مذكّرة باللَّه، والأُخرى مبعدة عن اللَّه.

إنّ حدّ التوحيد والشرك ليس هو كون الأسباب ظاهرية أو غير ظاهرية وإنّما هو استقلال المعين وعدم استقلاله، وبعبارة أُخرى المقياس: هو الغنى والفقر، هو الأصالة وعدم الأصالة.

إنّ الاستعانة بالعوامل غير المستقلّة المستندة إلى اللَّه، التي لا تعمل ولا تؤثر إلّا بإذنه تعالى غير موجبة للغفلة عن اللَّه، بل هو خير موجّه، ومذكّر باللَّه. إذ معناها: انقطاع كلّ الأسباب وانتهاء كلّ العلل إليه.

ومع هذا كيف يقول صاحب المنار: «أُولئك عن ذكر اللَّه معرضون» ولو كان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسيان اللَّه والغفلة عنه للزم أن تكون الاستعانة بالأسباب المادية الطبيعية هي أيضاً موجبة للغفلة عنه.

على أنّ الأعجب من ذلك هو شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت الذي نقل- في هذا المجال- نصّ كلمات عبده دون زيادة ونقصان، وختم المسألة بذلك، وأخذ

ص: 57

بالحصر في «إيَّاكَ نَسْنَعِين» غافلًا عن حقيقة الآية وعن الآيات الأُخرى المتعرّضة لمسألة الاستعانة (1).

اجابة على سؤال

إذا كانت الاستعانة بالغير على النحو الذي بينّاه جائزة فهي تستلزم نداء أولياء اللَّه والاستغاثة بهم في الشدائد والمكاره، وهي غير جائزة وذلك لأنّ نداء غير اللَّه في المصائب والحوائج تشريك الغير مع اللَّه، يقول سبحانه:

«وَأنَّ الْمَسَاجِدَ للَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» (الجن/ 18) ويقول تعالى: «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَايَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ» (الأعراف/ 197) ويقول عزّ من قائل:

«وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» (فاطر/ 13). إلى غير ذلك من الآيات التي تخص الدعاء للَّه ولا تسيغ دعوة غيره.

وقد طرح هذا السؤال الشيخ الصنعاني حيث قال: وقد سمّى اللَّه الدعاء عبادة بقوله: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي» فمن هتف باسم نبيّ أو صالح بشي ء


1- راجع تفسير شلتوت: 36- 39.

ص: 58

فقد دعا النبي والصالح، والدعاء عبادة بل مخُّها فقد عبد غير اللَّه وصار مشركاً (1).

الجواب:

إنّ النقطة الحاسمة في الموضوع تكمن في تفسير الدعاء وهل كل دعاء عبادة وبينهما من النسب الأربع هي التساوي حتى يصح لنا أن نقول كل دعاء عبادة، وكل عبادة دعاء، أو أنّ الدعاء أعمّ من العبادة وأنّ قسماً من الدعاء عبادة وقسماً منه ليس كذلك؟ والكتاب العزيز يوافق الثاني لا الأول، وإليك التوضيح:

لقد استعمل القرآن لفظ الدعاء في مواضع عديدة ولا يصح وضع لفظ العبادة مكانه، يقول سبحانه حاكياً عن نوح: «رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَاراً» (نوح/ 5) وقال سبحانه حاكياً عن لسان إبليس في خطابه للمذنبين يوم القيامة:

«وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي» (إبراهيم/ 22) إلى غيرهما من الآيات التي ورد فيها لفظ الدعاء، أفيصح القول بأنّ نوحاً دعا قومه أي عبدهم، أو أنّ الشيطان دعا المذنبين أي عبدهم؟ كل ذلك يحفزنا إلى أن


1- الصنعاني، تنزيه الاعتقاد كما في كشف الارتياب: 284.

ص: 59

نقف في تفسير الدعاء وقفة تمعّن حتى نميّز الدعاء. الذي هو عبادة عمّا ليس كذلك.

والإمعان فيما تقدم في تفسير العبادة يميِّز بين القسمين فلو كان الداعي والمستعين بالغير معتقداً بألوهية المستعان ولو ألوهية صغيرة كان دعاؤه عبادة ولأجل ذلك كان دعاء عبدة الأصنام عبادة لاعتقادهم بألوهيتها، قال سبحانه: «فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ» (هود/ 101).

وما ورد من الآيات في السؤال كلها من هذا القبيل فأنها وردت في حق المشركين القائلين بألوهية أصنامهم وأوثانهم باعتقاد استقلالهم في التصرف والشفاعة وتفويض الأُمور إليهم ولو في بعض الشؤون. ففي هذا المجال يعود كل دعاء عبادة، ويفسر الدعاء في الآيات الماضية والتالية بالعبادة، قال تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ» (الأعراف/ 194).

«قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلَا» (الاسراء/ 56). «أُولئك الَّذِينَ يَدعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةُ» (الاسراء/ 57). «وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَنْفَعُكَ وَلَإ

ص: 60

يَضُرُّكَ» (يونس/ 106). «إِنْ تَدْعُوهُمْ لَايَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ» (فاطر/ 14). وما ورد في الأثر من أنّ الدعاء مُخّ العبادة، أُريد منه دعاء اللَّه أو دعاء الآلهة لا مطلق الدعاء وإن كان المدعوّ غير إله لا حقيقةً أو اعتقاداً.

وفي روايات أئمة أهل البيت إلماع إلى ذلك، يقول الإمام زين العابدين في ضمن دعائه: «... فسميت دعاءك عبادة وتركه استكباراً وتوعّدت على تركه دخول جهنم داخرين» (1) وهو يشير في كلامه هذا إلى قوله سبحانه: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» (غافر/ 60).

هذا هو الدعاء المساوي للعبادة وهناك قسم آخر منه لا صلة بينه وبين العبادة وهو فيما إذا دعا شخصاً بما أنه إنسان وعبد من عباد اللَّه غير أنه قادر على إنجاز طلبه باقدار منه تعالى وإذن منه، فليس مثل هذه الدعوة عبادة بل سنة من السنن الإلهية في الكون، هذا هو ذو القرنين يواجه قوماً مضطهدين يطلبون منه أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سداً فعند ذلك يخاطبهم ذو القرنين بقوله: «مَا


1- الصحيفة السجادية، دعاؤه برقم 45.

ص: 61

مَكَّنِّي فِيهِ ربِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً» (الكهف/ 95) وها هو الذي من شيعة موسى يستغيث به، يقول سبحانه: «فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ» (القصص/ 15) وهذا هو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يدعو قومه للذبِّ عن الإسلام في غزوة أُحد وقد تولوا عنه، قال سبحانه: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ» (آل عمران/ 153) فهذا النوع من الدعاء قامت عليه الحياة البشرية، فليس هو عبادة وإنّما هو توسل بالأسباب، فإن كان السبب قادراً على إنجاز المطلوب كان الدعاء أمراً عقلائياً وإلّا يكون لغواً وعبثاً.

ثمّ إنّ القائلين بأنّ دعاء الصالحين عبادة، عند مواجهتهم لهذا القسم من الآيات وما تقتضيه الحياة الاجتماعية، يتشبثون بكلّ طحلب حتى ينجيهم من الغرق ويقولون إنّ هذه الآيات تعود على الأحياء ولا صلة لها بدعاء الأموات، فكون القسم الأول جائزاً وانّه غير عبادة؛ لا يلازم جواز القسم الثاني وكونه غير عبادة.

ولكن عزب عن هؤلاء انّ الحياة والموت ليسا حدين للتوحيد والشرك ولا ملاكين لهما، بل هما حدان لكون

ص: 62

الدعاء مفيداً أو لا، وبتعبير آخر ملاكان للجدوائية وعدمها.

فلو كان الصالح المدعو غير قادر لأجل موته مثلًا تكون الدعوة أمراً غير مفيد لا عبادة له، ومن الغريب أن يكون طلب شي ء من الحيِّ نفس التوحيد ومن الميت نفس الشرك.

كل ذلك يوقفنا على أنّ القوم لم يدرسوا ملاكات التوحيد والشرك بل لم يدرسوا الآيات الواردة في النهي عن دعاء غيره، فأخذوا بحرفية الآيات من دون تدبر مع أنّه سبحانه يقول: «كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَليتذكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَاب» (ص/ 29).

ثمّ انّ الكلام في أنّ دعاء الصالحين بعد انتقالهم إلى رحمة اللَّه مفيد أو لا، يتطلب مجالًا آخراً وسوف نستوفي الكلام عنه في رسالة خاصة حول وجود الصلة بيننا وبين أولياء اللَّه في ضوء الكتاب والسنة.

جعفر السبحاني

تحريراً في 27 صفر المظفر 1416 ه

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.