الرد على الوهابية

اشارة

المؤلف : الشيخ محمد جواد البلاغي

موسسه ال البیت علیهم السلام لاحیاء التراث بیروت - لبنان

المجموعة : ردود علماء المسلمين على الوهابية والمخالفين

تحقيق : السيد محمد علي الحكيم

الرد على الوهابية

تأليف: العلامة المجاهد آية الله الشيخ محمد جواد البلاغي

تحقيق : السيد محمد علي الحكيم

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

كلمة المؤسسة:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.

وبعد:

فلم يعد يستثير القارئ ما يطالعه - في عصرنا الحاضر - بين الفينة والأخرى من المغالطات الباهتة، والمحاكاة السقيمة التي ما انفك من تقولها البعض ممن يرتكز فكريا وعقائديا على قواعد مبتدعة مشوشة تحاول جاهدة ودون جدوى أن تجد لها موطئ قدم في الساحة الإسلامية الفكرية الغنية، لازدراء الجميع واستهجانهم ما تدعيه وما تتبجح به، لمعارضته البينة الواضحة لجملة بديهيات تواتر الجميع على العمل بها، والتعبد بمضامينها، ولثبات صحتها بالدليلين العقلي والنقلي، وتعاضد الخلف والسلف على صوابه.

نعم، لم يعد ذاك ليستثير أحدا الآن، لتعرض تلك الدعاوى طيلة ما مضى للرد والمعارضة، والتفنيد والإبطال، من قبل عموم علماء المسلمين ومفكريهم، وعلى اختلاف فرقهم ومذاهبهم، إذ لم يترك لها منفذا إلا أوصدته، ولا مدعى إلا أبطلته، فسقط ذلك الوهم المبتدع، وانقلب السحر على الساحر.

ولاغرو في ذلك، فالفكر الإسلامي الأصيل المتمثل بمدرسة أهل

ص: 5

البيت عليهم السلام المنبع والمعين الصافي للرسالة الإسلامية المباركة، كان وسيبقى هو الأصل الذي لا يعتوره الهزال، ولا يناله الوهم والتشكيك، لأنه مستودع الوحي الإلهي وخزانته، وأهله تراجمته وأمناؤه، فلم ولن تنال منه المدعيات التي تختلقها الأوهام والأهواء ما جهدت، وإن تسربلت وتجلببت بألف ستار وجلباب.

أجل، أن هذا التصور الواقعي لسقوط ما تشكك به هذه الأفكار الدخيلة على العقيدة الإسلامية المباركة لم يكن ليأتي من فراغ وخواء، وذلك أمر مفروغ منه، فلا تبطل المدعيات إلا الحجج والبراهين والدلائل الصحيحة والثابتة، وباعتماد المناهج والقنوات العلمية السليمة، والتي تعد الرسالة المائلة بين يدي القارئ الكريم واحدة منها، فقد سطرت بيد عالم نحرير، وعلامة بارع، هو المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي، كانت قد نشرت محققة من قبل السيد محمد علي الحكيم ضمن نشرة " تراثنا " الفصلية، في عدديها 35 - 36، ربيع الآخر - رمضان 1414 ه وباعتماد المشروع الذي شرعت به المؤسسة بتقديم جملة الرسائل المنشورة على صفحات مجلة " تراثنا " كمستلات مستقلة، فإنها تقدم المستل الرابع من هذه الرسائل، سائلة الباري جل اسمه أن يوفقها لمواصلة هذا المشروع وإتمامه خدمة للتراث الإسلامي الأصيل، إنه نعم المولى ونعم النصير.

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث

ص: 6

المقدمة:

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين، لا سيما بقية الله في الأرضين، عجل الله تعالى فرجه الشريف.

وبعد:

فمنذ ظهور الفرقة الضالة المضلة (الوهابية) وحتى أيامنا هذه انبرى علماء الإسلام على مختلف مذاهبهم، فكتبوا في ردهم ودحض أباطيلهم وشبهاتهم كتبا ورسائل كثيرة (1)، كان فيها الرد الحاسم القاطع في وجه الوهابية، فانحصر وجودهم في مهد ظهورهم أرض الحجاز.

ص: 7


1- (1) انظر مقال: " معجم ما ألفه علماء الأمة الإسلامية للرد على خرافات الدعوة الوهابية " للسيد عبد الله محمد علي، المنشور في مجلة " تراثنا " العدد 17، شوال 1409 ه، ص 146 - 178، فقد أحصى فيه أكثر من 200 كتاب ورسالة في الرد على الوهابية، لعلماء المذاهب الإسلامية المختلفة.

وما استمر وجود الوهابية في أرض الحجاز إلا بقوة الحديد والنار، إذ لم يستطيعوا أن يقارعوا الآخرين بالحجة والبرهان.

ألا أن نشاطها الهدام ونفث سمومها وأباطيلها وشبهاتها لا يزال مستمرا، مما اقتضى أن نقوم بإحياء رسالة في الرد عليهم، لفطحل من فطاحل علماء الإمامية الماضين، رضوان الله عليهم أجمعين، ألا وهو: العلامة المجاهد، آية الله العظمى، الشيخ محمد جواد البلاغي، قدس سرة الشريف.

ترجمة المؤلف (1)

نسبه:

هو الشيخ محمد جواد بن حسن بن طالب بن عباس بن إبراهيم بن حسين بن عباس بن حسن (2) بن عباس بن محمد علي بن محمد البلاغي النجفي الربعي. (3)

مولده:

ولد في النجف الأشرف سنة 1282 ه في بيت من أقدم بيوتاتها وأعرقها في العلم والفضل والأدب، والمشهورة بالتقوى وإصلاح والسداد، فقد أنجبت

ص: 8


1- (2) اقتبست هذه الترجمة - بتصرف - ملفقة من بين عدة مصادر، أهمها: أعيان الشيعة 4 / 255 - 262، شعراء الغري 2 / 436 - 458، نقباء البشر في القرن الرابع عشر 1 / 323 - 326، الكنى والألقاب 2 / 83 و 84، مقدمة الهدى إلى دين المصطفى 1 / 6 - 20، معارف الرجال 1 / 196 - 200، ريحانة الأدب 1 / 179، ماضي النجف وحاضرها 2 / 61 - 66، ديوان السيد رضا الهندي: 125 و 127، مجلة رسالة القرآن / العدد العاشر / 1413 ه: 71 - 104.
2- (3) صاحب كتاب " تنقيح المقال " في الأصول والرجال. [الذريعة 4 / 664 رقم 2069].
3- (4) نسبة إلى قبيلة ربيعة المشهورة.

هذه الأسرة - آل البلاغي - عدة من رجال العلم والدين والأدب وإن اختلفت مراتبهم.

نشأته وشيوخه وسجاياه:

نشأ حيث ولد، وأخذ المقدمات عن أعلامها الأفاضل، ثم سافر إلى الكاظمية سنة 1306 ه وتزوج هناك من ابنة السيد موسى الجزائري الكاظمي.

عاد إلى النجف الأشرف سنة 1312 ه فحضر على الشيخ محمد طه نجف والشيخ آقا رضا الهمداني والشيخ الآخوند محمد كاظم الخراساني والسيد محمد الهندي.

هاجر إلى سامراء سنة 1326 ه فحضر على الميرزا محمد تقي الشيرازي - زعيم الثورة العراقية - عشر سنين، وألف هناك عدة كتب، وغادرها - عند احتلالها من قبل الجيش الإنكليزي - إلى الكاظمية فمكث بها سنتين مؤازرا للعلماء في الدعاية للثورة ومحرضا لهم على طلب الاستقلال.

ثم عاد إلى النجف الأشرف وواصل نشاطه في التأليف، فكان من أولئك الندرة الأفذاذ الذين أوقفوا حياتهم وكرسوا أوقاتهم لخدمة الدين والحقيقة، فلم ير إلا وهو يجيب عن سؤال، أو يحرر رسالة يكشف فيها ما التبس على المرسل من شك، أو يكتب في أحد مؤلفاته.

وقد وقف بوجه النصارى وأمام تيار الغرب الجارف، فمثل لهم سمو الإسلام على جميع الملل والأديان حتى أصبح له الشأن العظيم والمكانة المرموقة بين علماء النصارى وفضلائها.

كما تصدى للفرق المنحرفة الهدامة الأخرى - كالبابية والقاديانية والوهابية والإلحادية.. وغيرها - فكتب في ردهم ودحض شبهاتهم، وفضح توافه مبانيهم ومعائب أفكارهم عدة كتب ورسائل قيمة.

وقد كان من خلوص النية وإخلاص العمل بمكان حتى أنه كان لا يرضى

ص: 9

أن يوضع اسمه على تآليفه عند طبعها، وكان يقول: " إني لا أقصد ألا الدفاع عن الحق، لا فرق عندي بين أن يكون باسمي أو اسم غيري ".

حتى أن يوسف إليان سركيس في كتابه: " معجم المطبوعات " ذكر كتاب " الهدى إلى دين المصطفى " لشيخنا البلاغي - رضوان الله عليه - في آخر الجزء الثاني ضمن الكتب المجهولة المؤلف (1)، وربما كان - قدس سره - يذيل بعضها بأسماء مستعارة ك: كاتب الهدى النجفي، وعبد الله العربي، وغيرها.

ومع كل ذلك أصبح اسمه نارا على علم، وبلغت شهرته أقاصي البلاد، وذلك لما عالجه من المعضلات العملية والمناقشات الدينية، حتى أن أعلام أوربا كانوا يفزعون إليه في المسائل العويصة، كما ترجمت بعض مؤلفاته إلى الإنكليزية للاستفادة من مضامينها الراقية.

كان يجيد اللغات العبرانية والفارسية والانكليزية - بعد لغته الأم العربية - ولذلك برع في الرد على أهل الكتاب ودحض أباطيلهم وكشف خفايا دسائسهم.

كما كان متواضعا للغاية، يقضي حاجاته بنفسه، ويختلف إلى الأسواق بشخصه لابتياع ما يلزم أله، وكان يحمله إليهم بنفسه ويعتذر لمن يروم مساعدته بحمله عنه فيقول له: " رب العيال أولى بعياله ".

وكان يقيم صلاة الجماعة في المسجد القريب من داره، فيأتم به أفاضل الناس وخيارهم، وبعد الفراغ من الصلاة كان يدرس كتابه " آلاء الرحمن ".

كان لين العريكة، خفيف الروح، منبسط الكف، لا يمزح ولا يحب أن يمزح أحد أمامه، تبدو عليه هيبة الأبرار، وتقرأ على أساريره صفات أهل التقى والصلاح.

له في سيد الشهداء الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام عقيدة

ص: 10


1- (5) معجم المطبوعات العربية والمعربة 2 / 2024.

راسخة، وحب ثابت، فكم له أمام المناوئين للإمام الحسين عليه السلام من مواقف مشهودة، ولولاه لأمات المعاندون الشعائر الحسينية والمجالس العزائية، ولكنه تمسك بها والتزم بشعائرها، وقام بها خير قيام.

فكان هذا العلامة البطل - على شيخوخته وضعفه وعجزه - يمشي حافيا أمام الحشد المتجمهر للعزاء، قد حل أزراره ويضرب على صدره، وخلفه اللطم والأعلام، وأمامه الضرب بالطبل.

ومن آثاره الباقية:

إقامة المأتم في يوم عاشوراء في كربلاء، فهو أول من أقامه هناك، وعنه أخذ حتى توسع فيه ووصل إلى ما هو عليه اليوم.

وكذا تحريض علماء الدين وإثارة الرأي العام ضد البهائية في بغداد، وإقامة الدعوى في المحاكم لمنع تصرفهم في الملك الذي استولوا عليه - في محلة الشيخ بشار في الكرخ - واتخذوه حظيرة لهم لإقامة شعائر الطاغوت، فقضت المحاكم بنزعه منهم، واتخذه - رضوان الله عليه - مسجدا تقام فيه الصلوات الخمس والمآتم الحسينية في ذكرى الطف وشعائر أهل البيت عليهم السلام.

أقوال العلماء والأدباء فيه:

قال السيد محسن الأمين العاملي: " كان عالما فاضلا، أديبا شاعرا، حسن العشرة، سخي النفس، صرف عمره في طلب العلم وفي التأليف والتصنيف، وصنف عدة تصانيف في الردود، صاحبناه في النجف الأشرف أيام إقامتنا فيها ورغب في صحبة العامليين فصاحبناه، وخالطناه حضرا وسفرا عدة سنين إلى وقت هجرتنا من النجف فلم نر منه إلا كل خلق حسن وتقوى وعبادة وكل صفة تحمد، وجرت بيننا وبينه بعد خروجنا من النجف مراسلات

ص: 11

ومحاورات شعرية ومكاتبات في مسائل علمية ". (1) وقال الشيخ عباس القمي: " بطل العلم الشيخ محمد الجواد... ولقد كان - رحمه الله تعالى - ضعيفا ناحل الجسم، تفانت قواه في المجاهدات، وكان في آخر أمره مكبا على تفسير القرآن المجيد بكل جهد أكيد ". (2) وقال الشيخ آقا بزرك الطهراني: " كان أحد مفاخر العصر علما وعملا...

وكان من أولئك الأفذاذ النادرين الذين أوقفوا حياتهم وكرسوا أوقاتهم لخدمة الدين الحنيف والحقيقة... فهو أحد نماذج السلف التي ندر وجودها في هذا الزمن ". (3) وقال الشيخ محمد حرز الدين: " عالم فقيه كاتب، وأديب شاعر، بحاثة أهل عصره، خدم الشريعة المقدسة، ودين الإسلام الحنيف، بل خدم الإنسانية كاملة بقلمه ولسانه وكل قواه ". (4) وقال الميرزا محمد علي التبريزي المدرس: " فقيه أصولي، حكيم متكلم، عالم جامع، محدث بارع، ركن ركين لعلماء الإمامية، وحصن حصين للحوزة الإسلامية، ومروج للعلوم القرآنية، وكاشف الحقائق الدينية، وحافظ للنواميس الشرعية، ومن مفاخر الشيعة " (5).

وقال الملأ علي الواعظ الخياباني التبريزي: " هو العلم الفرد العلامة، المجاهد، آية الله، وجه فلاسفة الشرق، وصدر من صدور علماء الإسلام، فقيه أصولي، حكيم متكلم، محدث محقق، فيلسوف بارع، وكتبه الدينية هي التي أبهجت الشرق وزلزلت الغرب وأقامت عمد الدين الحنيف، فهو حامية

ص: 12


1- (6) أعيان الشيعة 4 / 255.
2- (7) الكنى والألقاب 2 / 83 - 84.
3- (8) نقباء البشر في القرن الرابع عشر 1 / 323.
4- (9) معارف الرجال 1 / 196.
5- (10) ريحانة الأدب 1 / 179.

الإسلام، وداعية القرن، رجل البحث والتنقيب، والبطل المناضل، والشهم الحكيم " (1).

وقال الشيخ جعفر النقدي: " عالم عيلم مهذب، وفاضل كامل مذرب، وآباؤه كلهم من أهل العلم " (2).

وقال الأستاذ علي الخاقاني: " من أشهر مشاهير علماء عصره، مؤلف كبير، وشاعر مجيد... أغنتنا آثاره العلمية عن التنويه بعظمته وعلمه الجم وآرائه الجديدة المبتكرة، فلقد سد شاغرا كبيرا في المكتبة العربية الإسلامية بما أسداه من فضل فيما قام به من معالجة كثير من المشاكل العلمية والمناقشات الدينية، وتوضيح التوحيد ودعمه بالآراء الحكيمة قبال الثالوث الذي هده بآثاره وقلمه السيال... كان عظيما في جميع سيرته، فقد ترفع عن درن المادة، وتردى بالمثل العالية التي أوصلته في الحياة - ولا شك بعد الممات - أرفع الدرجات... وقد حضرت (3) مع من حضر برهة من الزمن فإذا به بحر خضم لا ساحل له، يستوعب الخاطرة، ويحوم حول الهدف، ويصور الموضوع تصويرا قويا... كانت حياته مليئة بالمفاخر والخدمات الصادقة " (4).

وقال الشيخ جعفر باقر آل محبوبة: " ركن الشيعة وعمادها، وعز الشريعة وسنادها، صاحب القلم الذي سبح في بحر العلوم الناهل من موارد المعقول والمنقول، كم من صحيفة حبرها، وألوكة حررها، وهو بما حبر فضح الحاخام والشماس، وبما حرر ملك رق الرهبان والأقساس، كان مجاهدا بقلمه طيلة عمره، وقد أوقف حياته في الذب عن الدين، ودحض شبه الماديين والطبيعيين، فهو جنة حصينة، ودرع رصينة، له بقلمه مواقف فلت جيوش

ص: 13


1- (11) علماء معاصرين: 162 - 163.
2- (12) شعراء الغري 2 / 437.
3- (13) أي: درسه في تفسير القرآن الكريم من كتابه " آلاء الرحمن ".
4- (14) شعراء الغري 2 / 437 - 439.

الإلحاد، وشتتت جيوش العادين على الإسلام والطاعنين فيه... حضرت بعض دروسه واستفدت منه مدة، كان نحيف البدن، واهي القوى، يتكلف الكلام، ويعجز في أكثر الأحيان عن البيان، فهو بقلمه سحبان الكتابة، عنده أسهل من الخطابة " (1).

وقال المحامي توفيق الفكيكي: " كان - رحمه الله تعالى - داعي دعاة الفضيلة، ومؤسس المدرسة السيارة للهداية والإرشاد وتنوير الأفكار بأصول العلم والحكمة وفلسفة الوجود، فقد أفطمت جوانحه على معارف جمة، ووسع صدره كنوزا من ثمرات الثقافة الإسلامية العالية والتربية الغالية، وقد نهل وعب من مشارع المعرفة والحكمة الصافية حتى أصبح ملاذ الحائدين الذين استهوتهم أهواء المنحرفين عن المحجة البيضاء، وخدعتهم ضلالات الدهريين والماديين...

ومن ملامحه ومخائله الدالة على كماله النفسي هي: فطرته السليمة، وسلامة سلوكه الخلقي والاجتماعي، وحدة ذكائه، وقوة فطنته، وعفة نفسه، ورفعة تواضعه، وصون لسانه عن الفضول، ولين عريكته، ورقة حاشيته، وخفة روحه، وأدبه الجم، وعذوبة منطقه، وفيض يده على عسره وشظف عيشه " (2).

وقال عمر رضا كحالة: " فقيه، متكلم، أديب، شاعر " (3).

وقال خير الدين الزركلي: " باحث إمامي، من علماء النجف في العراق، من آل البلاغي، وهم أسرة نجفية كبيرة، له تصانيف... وكان يجيد الفارسية، ويحسن الإنجليزي، وله مشاركة في حركة العراق الاستقلالية وثورة عام 1920 م " (4).

ص: 14


1- (15) ماضي النجف وحاضرها 2 / 62.
2- (16) مقدمة الهدى إلى دين المصطفى 1 / 7.
3- (17) معجم المؤلفين 3 / 164.
4- (18) الأعلام 6 / 74.

فمن كانت هذه مآثره وصفاته وسجاياه فجدير بمتخصصينا أن يقوموا بدراسة هذه الشخصية الجليلة وآثارها القيمة، فهو أحد نماذج السلف التي ندر وجودها في هذا الزمن، وهو نور من الأنوار التي يهتدي بها في ظلمات الشك والحيرة، وهو بحق من مشاهير علماء الإمامية، علامة جليل، ومجاهد كبير، ومؤلف مكثر خبير.

شعره:

كان - قدس سره - مع عظيم مكانته في العلم وتفقهه في الدين أديبا كبيرا وشاعرا مبدعا، من فحول الشعراء، له نظم رائق سلس متين، تزخر أشعاره بالعواطف الوجدانية، والمشاعر الإنسانية، والتأملات الروحية، وأكثر شعره كان في مدح أهل البيت عليهم السلام ورثائهم، وبقيته في تهنئة خليل، أو رثاء عالم جليل، أو في حالة الحنين إلى الأخلاء يحتمه عليه واجب الوفاء، أو في الدفاع عن رأي علمي، أو شرح عقيدة أو فكرة فلسفية بطريقة المعارضة الشعرية.

فمما قال في قصيدة في ذكرى مولد الإمام المهدي المنتظر عليه السلام، قوله:

حي شعبان فهو شهر سعودي * وعد وصلي فيه وليلة عيدي.

منه حيا (1) الصب المشوق شذا * الميلاد فيه وبهجة المولود.

بهجة المرتضى وقرة عين المصطفى * بل ذخيرة التوحيد.

رحمة الله غوثه في الورى شم * س هداه وظله الممدود.

وهوى خاطري وشائق نفسي * ومناها وعدتي وعديدي.

فانجلت كربتي وأزهر روضي * ونمت نبعتي وأورق عودي.

ص: 15


1- (19) أصله: حياء، وحذفت الهمزة للضرورة.

أطلت فخرا يا ليلة النصف من شعبان * بيض الأيام بالتسويد.

وله من قصيدة في ذكرى مولد الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام في الثالث من شعبان:

شعبان كم نعمت عين الهدى فيه * لولا المحرم يأتي في دواهيه.

وأشرق الدين من أنوار ثالثه * لولا تغشاه عاشور بداجيه.

وارتاح بالسبط قلب المصطفى فرحا * لو لم يرعه بذكر الطف ناعيه.

رآه خير وليد يستجار به * وخير مستشهد في الدين يحميه.

قرت به عين خير الرسل ثم بكت * فهل نهنيه فيه أم نعزيه.

إن تبتهج فاطم في يوم مولده * فليلة الطف أمست من بواكيه.

أو ينتعش قلبها من نور طلعته * فقد أديل بقاني الدمع جاريه.

فقلبها لم تطل فيه مسرته * حتى تنازع تبريح الجوى فيه.

بشرى أبا حسن في يوم مولده * ويوم أرعب قلب الموت ماضيه.

وله من قصيدة في الإمام الحجة المنتظر عليه السلام - أيضا - قوله:

رويدكما أيها الباكيان * فما أنتما أول الوالهينا.

فكم لنواه جرت عبرة * تقل لها أدمع العالمينا.

جرت ولها قبل يوم الفراق * ولم ترحل العيس بالمزمعينا.

فلا نهنه الوجد فيض الدموع * وقد شطت الدار بالظاعنينا.

وبان وأودعنا حسرة * ومن لوعة البين داء دفينا.

أطال نواه ومن نأيه * رزينا بما يستخف الرزينا.

نقضي الليالي انتظارا له * فيا حسرتا، ونقضي السنينا.

نطيل الحنين بتذكاره * ويا برحا أن، نطيل الحنينا.

ص: 16

فما لقيت فاقدات الحمام * من الوجد في نوحها ما لقينا

ومن قصيدة له يرثي بها الإمام الحسين عليه السلام قوله:

يا تريب الخد في رمضا الطفوف * ليتني دونك نهبا للسيوف

يا نصير الدين إذ عز النصير * وحمى الجار إذا عز المجير

وشديد البأس واليوم عسير * وثمال الوفد في العام العسوف

كيف يا خامس أصحاب الكسا * وابن خير المرسلين المصطفى

وابن ساقي الحوض في يوم الظما * وشفيع الخلق في اليوم المخوف

يا صريعا ثاويا فوق الصعيد * وخضيب الشيب من فيض الوريد

كيف تقضي بين أجناد يزيد * ظاميا تسقى بكاسات الحتوف

كيف تقضي ظاميا حول الفرات * داميا تنهل منك الماضيات

وعلى جسمك تجري الصافنات * عافر الجسم لقي بين الصفوف

يا مريع الموت في يوم الطعان * لا خطا نحوك بالرمح سنان

لا ولا شمر دنا منك فكان * ما أمار الأرض هولا بالرجوف

سيدي أبكيك للشيب الخضيب * سيدي أبكيك للوجه التريب

سيدي أبكيك للجسم السليب * من حشا حران بالدمع الذروف

سيدي إن منعوا عنك الفرات * وسقوا منك ظماء المرهفات

فسنسقي كربلا بالعبرات * وكفا من علق القلب الأسوف

سيدي أبكيك منهوب الرحال * سيدي أبكيك مسبي العيال

بين أعداك على عجف الجمال * في الفيافي بعد هاتيك السجوف

سيدي إن نقض دهرا في بكاك * ما قضينا البعض من فرض ولاك

أو عكفنا عمرنا حول ثراك * ما شفى غلتنا ذلك العكوف

ص: 17

لهف نفسي لنساك المعولات * واليتامى إذ غدت بين الطغاة

باكيات شاكيات صارخات * ولها حولك تسعى وتطوف

ومن شعر الإمام البلاغي * رضوان الله عليه - الذي سارت به الركبان، قصيدته التي نظمها ردا على قصيدة أحد علماء بغداد المنكرين لوجود الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر عليه السلام، والتي بعثها إلى علماء النجف الأشرف عام 1317 ه، التي يقوم فيها:

أيا علماء العصر يا من لهم خبر * بكل دقيق حار في مثله الفكر

لقد حار مني الفكر في القائم الذي * تنازع فيه الناس والتبس الأمر

فأجابه العلامة البلاغي بقصيدة طويلة تقع في أكثر من مائة بيت، وهي من عيون شعره، ومطلعها:

أطعت الهوى فيهم وعاصاني الصبر * فها أنا ما لي فيه نهي ولا أمر

أنست بهم سهل القفار ووعرها * فما راعي منهن سهل ولا وعر

أخا سفر ولهان أغتنم السرى * من الليل تغليسا إذا عرس السفر

ومنها قوله:

وفي خبر الثقلين هاد إلى الذي * تنازع فيه الناس والتبس الأمر

ص: 18

إذا قال خير الرسل لن يتفرقا * فكيف إذن يخلو من العترة العصر

وما إن تمسكتم بتينك إنهم * هم السادة الهادون والقادة الغر

ومنها قوله أيضا:

وغاب بأمر الله للأجل الذي * يراه له في علمه وله الآمر

وأوعده أن يحيي الدين سيفه * وفيه لدين المصطفى يدرك الوتر

ويخدمه الأملاك جندا وإنه * يشد له بالروح في ملكه أزر

وإن جميع الأرض ترجع ملكه * ويملأها قسطا ويرتفع المكر

فأيقن أن الوعد حق وأنه * إلى وقت عيسى يستطيل له العمر

فسلم تفويضا إلى الله صابرا * وعن أمره منه النهوض أو الصبر

ولم يك من خوف الأذاة اختفاؤه * ولكن بأمر الله خير له الستر

وحاشاه من جبن ولكن هو الذي * غدا يختشيه من حوى البر والبحر

ص: 19

أكل اختفاء خلت من خيفة الأذى؟! * فرب اختفاء فيه يستنزل النصر

وكل فرار خلت جبنا فربما * يفر أخو بأس ليمكنه الكر

فكم قد تمادت للنبيين غيبة * على موعد فيها إلى ربهم فروا

وإن بيوم الغار والشعب قبله * غناء كما يغني عن الخبر الخبر

ولم أدر لم أنكرت كون اختفائه * بأمر الذي يعيى بحكمته الفكر؟!

أتحصر أمر الله في العجز أم لدى * إقامة ما لفقت أقعدك الحصر؟!

فذلك أدهى الداهيات ولم يقل * به أحد إلا أخو السفه الغمر

ودونك أمر الأنبياء وما لقوا * ففيه لذي عينين يتضح الأمر

فمنهم فريق قد سقاهم (1) حمامهم * بكأس الهوان - القتل والذبح والنشر

أيعجز رب الخلق عن نصر حزبه * على غيرهم؟! كلا، فهذا هو الكفر

ص: 20


1- (20) أي: أمر الله.

وكم مختف بين الشعاب وهارب * إلى الله في الأجبال يألفه النسر

فهلا بدا بين الورى متحملا * مشقة نصح الخلق من دأبه الصبر

وإن كنت في ريب لطول بقائه * فهل رابك الدجال والصالح الخضر؟!

أيرضى لبيب أن يعمر كافر * ويأباه في باق ليمحى به الكفر؟!

ومنها أيضا:

فدع عنك وهما تهت في ظلماته * ولا يرتضيه العبد كلا ولا الحر

وإن شئت تقريب المدى فلربما * يكل بميدان الجياد بك الفكر

فمذ قادنا هادي الدليل بما قضى * به العقل والنقل اليقينان والذكر

إلى عصمة الهادين آل محمد * وأنهم في عصرهم لهم الأمر

وقد جاء في الآثار عن كل واحد * أحاديث يعيى من تواترها الحصر

تعرفنا ابن العسكري وأنه * هو القائم المهدي والواتر الوتر

ص: 21

تبعنا هدى الهادي فأبلغنا المدى * بنور الهدى والحمد لله والشكر

وله قصيدة عينية طويلة ذات معان فلسفية عالية، عارض بها عينية ابن سينا في النفس، التي مطلعها:

هبطت إليك من المحل الأرفع * عنقاء ذات تعزز وتمنع

فمما قال فيها - قدس الله نفسه الزكية - ردا عليه:

نعمت بأن جاءت بخلق المبدع * ثم السعادة أن يقول لها: (ارجعي)

خلقت لأنفع غاية يا ليتها * تبعت سبيل الرشد نحو الأنفع

الله سواها وألهمها فهل * تنحو السبيل إلى المحل الأرفع

نعمت بنعماء الوجود ونوديت * هذا هداك وما تشائي فاصنعي

ودعي الهوى المردي لئلا تهبطي * في الخسر ذات توجع وتفجع

إن شئت فارتفعي لأرفع ذروة * وحذار من درك الحضيض الأوضع

إن السعادة والغنى إن تقنعي * موفورة لك والشقا إن تطمعي

وله قصيدة في ثامن شوال سنة 1343 ه، وهو اليوم الذي هدمت فيه قبور أئمة الهدى الأطهار عليهم السلام في البقيع من قبل الوهابيين، ومطلعها:

دهاك ثامن شوال بما دهما * فحق للعين إهمال الدموع دما

ومنها:

يوم البقيع لقد جلت مصيبته * وشاركت في شجاها كربلا عظما

وله - قدس سره - مراسلات شعرية وغير شعرية - علمية ووجدانية - جرت بينه وبين السيد محسن الأمين العاملي - رحمه الله - تنم عن أدبه الجم

ص: 22

وخلفه الرفيع السامي، أوردها السيد الأمين في: أعيان الشيعة 4 / 257 - 261.

وله - رحمة الله واسعة - مراسلات شعرية أخرى جرت بينه وبين آخرين،

ومراث وتهان وأغراض شعرية غير ذلك، مذكورة في أغلب المصادر التي ترجمت

له.

تلامذته:

قد مر ذكر أسماء شيوخه وأساتذته، أما تلامذته.. فقد تتلمذ على الشيخ البلاغي - رضوان الله عليه - العديد من أعيان الطائفة وعلمائها المشهورين، فمن جملة الذين نهلوا من معين علمه وتتلمذوا عليه، أو حضروا مجلس درسه، أو رووا عنه:

1 - السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، المتوفى سنة 1413 ه.

2 - السيد شهاب الدين محمد حسين الحسيني المرعشي النجفي، المتوفى سنة 1411 ه.

3 - الشيخ ذبيح الله بن محمد علي المحلاتي، المتوفى سنة 1405 ه.

4 - السيد محمد هادي الحسيني الميلاني، المتوفى سنة 1395 ه.

5 - الشيخ علي محمد البروجردي، المتوفى سنة 1395 ه.

6 - السيد محمد صادق بحر العلوم، المتوفى سنة 1390 ه.

7 - الشيخ محمد رضا آل فرج الله، المتوفى سنة 1386 ه.

8 - الشيخ محمد علي الأردوبادي، المتوفى سنة 1380 ه.

9 - الشيخ مهدي بن داود الحجار، المتوفى سنة 1358 ه.

10 - الشيخ نجم الدين جعفر العسكري، المتوفى سنة 1397 ه.

11 - الشيخ محمد رضا الطبسي النجفي، المتوفى سنة 1405 ه.

12 - الشيخ جعفر باقر آل محبوبة (1314 - 1378 ه).

ص: 23

13 - السيد صدر الدين الجزائري (1312 - 1394 ه).

14 - الشيخ مجتبى اللنكراني النجفي (1313 - 1406 ه).

15 - الشيخ مرتضي المظاهري النجفي، المتوفى سنة 1414 ه.

16 - الشيخ محمد المهدوي اللاهيجي، المتوفى سنة 1403 ه.

17 - الميرزا محمد علي أديب الطهراني.

18 - الميرزا محمد علي التبريزي المدرس (1296 - 1373 ه).

19 - الشيخ إبراهيم بن مهدي القريشي.

وفاته ومدفنه ورثاؤه:

توفي - نور الله مرقده - بمرض ذات الجنب، ليلة الاثنين 22 شعبان 1352 ه، فارتجت مدينة النجف بأكملها واجتمعت إلى بيته، وشيع تشييعا يليق بمقامه، سار فيه آلاف من الجماهير يتقدمهم عظماء المجتهدين وأساطين العلم والأدب، ودفن في الحجرة الثالثة الجنوبية من طرف مغرب الصحن الشريف لمرقد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وهي حجرة آل العاملي.

ومن العجيب أن مطلع إحدى قصائده - المذكورة آنفا - في مدح الإمام الحجة المنتظر عليه السلام، في ذكرى مولده السعيد المبارك، قوله:

حي شعبان فهو شهر سعودي - وعد وصلي فيه وليلة عيدي فكان كما أجراه الله على لسانه، إذ وصل إلى رحمة ربه في شعبان، ففجع الإسلام بوفاته، وثلم في الدين ثلمة لا يسدها غمده رحمته.

ورثاه أكابر العلماء والأدباء بعيون الشعر الحزين الدامع، وكان في طليعتهم خاله العلامة السيد رضا الهندي - رحمه الله - في قصيدة رائعة ضمنها

ص: 24

بعض أسماء كتبه، ومطلعها:

إن تمس في ظلم اللحود موسدا - فلقد أضأت بهن (أنوار الهدى) ولئن يفاجئك الردى فلطالما - حاولت إنقاذ العباد من الردى هذا مدى تجري إليه فسابق - في يومه أو لا حق يمضي غدا قد كنت أهوى أنني لك سابق - هيهات قد سبق (الجواد) إلى المدى فليندب (التوحيد) يوم مماته - سيفا على (التثليث) كان مجردا وليبك دين محمد لمجاهد - أشجت رزيته النبي محمدا وليجر أدمعه اليراع لكاتب - أجراه في جفن الهداية مرودا وجد الهدى أرقا فأسهر جفنه - حرصا على جفن الهدى أن يرقدا أأخي كم نثرت يداك من (الهدى) - بذرا فطب نفسا فزرعك أحصدا إن كنت لم تعقب بنين فكل من - يهديه رشدك فهو منك تولدا إلى آخرها، وهي طويلة وكلها من هذا النمط العالي.

وله قصيدة أخرى في رثائه أيضا، منها:

قد خصك الرحمن في (آلائه) - فدعاك داعيه لدار لقائه عمت رزيتك السما والأرض يا - داعي هداه بأرضه وسمائه يا محيي الدين الحنيف تلافه - فالدين أوشك أن يموت بدائه أوقدت (أنوار الهدى) من بعدما - قد جد أهل الكفر في إطفائه ورفعت للتوحيد راية باسل - رد الضلال منكسا للوائه يا باري القلم الذي إن يجر في - لوح أصاب الشرك حتم قضائه ما السمر تشبه منه حسن قوامه - كلا ولا الأسياف حد مضائه عجبا له يملي بيانك أخرسا - وترى الأصم ملبيا لدعائه

ص: 25

هو معجز طورا ويسحر تارة - أهل الحجى إن شاء في إنشائه ورثاه العالم الأديب الشيخ محمد رضا المظفر في قصيدة مطلعها:

يا طرف جد بسواد العين أو فذر - ماذا انتفاعك بعد الشمس بالنظر؟! ومنها:

قد كان كالبدر في ليل الشتا ومضى - كالشمس معروفة بالعين والأثر وفي رثائه قال السيد مسلم الحلي قصيدة، منها هذا البيت:

إني أرى الموت الزؤام ممثلا - للناس فعل الصيرف النقاد وقد أرخ عام وفاته السيد محمد الحلي بأبيات، فقال:

دهي الإسلام إذ - به تداعى سوره شرع طه أسفا - لما مضى نصيره مذ غاب أرخت ألا - غاب (الهدى) و (نوره) وقال أحد معارفه:

في ذمة الله نفس بالجهاد قضت - فكان آخر شئ فارقت قلم ورثاه الشيخ محمد تقي الفقيه - أحد علماء جبل عامل - بمرثية، منها:

أفنيت نفسك بالجهاد وطالما - بدمائها روى اليراع الظامي حتى تراءت في الجنان مهيضة - هتف الملائكة: (ادخلي بسلام) ومنها:

صيرت قلبك شمعة وحملته - ضوء أمام الدين للإعظام فأذبته فإذا المدامع أسطر - والنور معناها البديع السامي ورثاه الشيخ محمد علي اليعقوبي بقصيدة مطلعها:

سلوا قبة الإسلام ماذا أمادها؟! متى قوضت منها الليالي عمادها

ص: 26

وقد أحسن أحد الأدباء فخاطبه في رثائه:

زودت نفسك في حياتك زادها - تقوى الإله وذاك خير الزاد ووصفه أحد البارعين فقال:

تحلى به جيد الزمان وأصبحت - تزان به الدنيا وتزهو الصحائف ورثاه كذلك السيد محمود الحبوبي ومحمد صالح الجعفري والشيخ محمد علي الأردوبادي، وغيرهم.

مصنفاته وآثاره العلمية:

في الحقيقة أنه لم يمت من خلف ما خلفه المترجم من الآثار التي تهتدي بها الأجيال، وتحتج بها الأبطال، فإن في مؤلفاته ثمرات ناضجة قدمها المترجم لرواد الحقيقة، وفيما يلي مسرد لها - وقد أشرت إلى ما هو مطبوع منها فعلا قدر المستطاع - عسى الله تعالى أن يقيض من يعثر على غير المطبوع منها فيحييه:

1 - الهدى إلى دين المصطفى.

في الرد على النصارى، طبع لأول مرة في جزءين في صيدا سنتي 1330 و 1331 ه، وطبع في النجف الأشرف سنة 1965 م، ثم أعادت طبعه دار الكتب الإسلامية في قم، بالتصوير على الطبعة الثانية.

2 - الرحلة المدرسية، أو: المدرسة السيارة.

في الرد على اليهود والنصارى، في ثلاثة أجزاء، طبع عدة مرات في النجف الأشرف وبيروت.

ثم طبع الجزء الأول منه بتحقيق يوسف الهادي، وصدر عن مؤسسة البلاغ في طهران سنة 1413 ه.

كما ترجم الكتاب إلى الفارسية، وطبع في النجف الأشرف أيضا.

ص: 27

3 - أعاجيب الأكاذيب.

في الرد على النصارى وبيان مفترياتهم، طبع لأول مرة في النجف الأشرف سنة 1345 ه.

حققته وصدر في قم سنة 1412 ه عن دار الإمام السجاد عليه السلام، ثم أعادت دار المرتضى في بيروت طبعه - بالتصوير على هذه الطبعة - سنة 1413 ه.

ترجم إلى الفارسية تحت عنوان: " شگفت آور دروغ " من قبل عبد الله إيراني - ولعله اسم مستعار آخر للمؤلف - وطبع في النجف الأشرف سنة 1346 ه.

4 - التوحيد والتثليث.

في الرد على النصارى، طبع لأول مرة في صيدا سنة 1332 ه.

حققته وصدر في قم سنة 1411 ه عن مؤسسة قائم آل محمد عجل الله تعالى فرجه الشريف، ثم أعادت طبعه - بالتصوير على هذه الطبعة - دار المؤرخ العربي في بيروت.

5 - عمانوئيل.

في المحاكمة مع بني إسرائيل.

6 - داعي الإسلام وداعي النصارى.

في الرد على النصارى.

7 - رسالة في الرد على جرجيس سايل وهاشم العربي.

في الرد على النصارى أيضا.

8 - رسالة في الرد على كتاب " ينابيع الإسلام ".

في الرد على ا لنصارى أيضا.

9 - المسيح والأناجيل.

في الرد على النصارى كذلك، طبع بتمامه في مجلة " الهدى " العمارية

ص: 28

العراقية، في عدة من أعدادها سنة 1348 ه.

10 - رسالة في الرد على كتاب " تعليم العلماء ".

11 - نور الهدى.

في الرد على شبهات وردت من لبنان، مطبوع في النجف الأشرف.

12 - البلاغ المبين.

في الإلهيات، طبع في بغداد سنة 1348 ه.

13 - أنوار الهدى.

في الرد على الطبيعيين والماديين وشبهاتهم الإلحادية، طبع الجزء الأول منه في النجف الأشرف سنة 1340 ه.

وأعيد طبعه في بيروت، ثم طبع بالتصوير على هذه الطبعة في قم.

وترجم إلى الأوردية، وطبع في لكهنو بالهند.

14 - مصابيح الهدى، أو: المصابيح في بعض من أبدع في الدين في القرن الثالث عشر.

في الرد على القاديانية والبابية والبهائية والأزلية، طبع قسم منه.

15 - الشهاب.

في الرد على كتاب " حياة المسيح " للقاديانية.

16 - نصائح الهدى، أو: نصائح الهدى والدين إلى من كان مسلما وصار بابيا.

في الرد على البابية والبهائية، طبع في بغداد سنة 1339 ه.

وترجمه إلى الفارسية السيد علي العلامة الفاني الأصفهاني - المتوفى سنة 1409 ه - تحت عنوان: نصيحت بفريب خوردگان باب وبهاء، وصدر في أصفهان سنة 1369 ه، ثم أعيد طبع الترجمة هذه في قم سنة 1405 ه.

17 - دعوى الهدى إلى الورع في الأفعال والفتوى.

في إبطال فتوى الوهابيين بهدم قبور الأئمة الأطهار عليهم السلام في

ص: 29

البقيع وبقية القبور في مكة المكرمة والمدينة المنورة، طبع في النجف الأشرف سنة 1344 ه.

18 - رسالة أخرى في الرد على الوهابية.

وهي في تفنيد فتواهم أيضا، مطبوعة أيضا.

19 - رسالة في الاحتجاج لكل ما انفردت به الإمامية بما جاء من الأحاديث في كتب غيرهم.

20 - إلزام المتدين بأحكام دينه.

بطراز جذاب وأسلوب فريد في بابه.

21 - رسالة في رد أوراق وردت من لبنان.

ولعلها نفس الكتاب المتقدم برقم 11.

22 - مسألة في البداء.

رسالة صغيرة نشرها الشيخ محمد حسن آل ياسين لأول مرة في بغداد سنة 1374 ه، في آخر المجموعة الرابعة من سلسلة " نفائس المخطوطات ".

حققتها ثانية، وصدرت في قم سنة 1414 ه ضمن كتيب " رسالتان في البداء ".

23 - داروين وأصحابه.

مطبوع.

24 - نسمات الهدى.

طبع في بعض أعداد مجلة " العرفان ".

25 - أجوبة المسائل البغدادية.

في أصول الدين، مطبوعة.

26 - أجوبة المسائل الحلية.

27 - أجوبة المسائل التبريزية.

في الطلاق وتعدد الزوجات والحجاب.

ص: 30

28 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن.

توفي - رحمه الله - ولم يتمه، إذ وصل فيه إلى نهاية تفسير آية الوضوء من سورة المائدة، وقد طبع لأول مرة في لبنان في جزءين، وأعادت مكتبة الوجداني في قم طبعه - بالتصوير - على هذه الطبعة.

29 - رسالة في تكذيب رواية التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام.

حققها الشيخ رضا الأستادي ونشرها في قم، في مجلة " نور علم " العدد 1، السنة 2، ربيع الآخر 1406 ه.

30 - رسالة في وضوء الإمامية وصلاتهم وصومهم.

طبعت بالإنكليزية، أما الأصل العربي فلم يطبع.

31 - رسالة في الأوامر والنواهي.

32 - تعليقة على " العروة الوثقى " للسيد اليزدي.

33 - تعليقة على مباحث البيع من كتاب " المكاسب " للشيخ الأنصاري.

طبعت في النجف الأشرف سنة 1343 ه.

34 - تعليقة على كتاب الشفعة من كتاب " جواهر الكلام ".

35 - رسالة في حرمة حلق اللحية.

طبعت في قم بتقديم الشيخ رضا الأستادي.

36 - رسالة في الخيارات.

37 - رسالة في التقليد.

38 - رسالة في صلاة الجمعة لمن سافر بعد الزوال.

39 - رسالة في بطلان العول والتعصيب.

40 - رسالة في عدم تزويج أم كلثوم.

41 - العقود المفصلة في حل المسائل المشكلة.

وهي 14 عقدا في الفقه وأصوله، وهي:

ص: 31

أ - رسالة في العلم الإجمالي.

ب - رسالة قاعدة على اليد ما أخذت.

ج - رسالة في تنجيس المتنجس.

د - رسالة في اللباس المشكوك.

طبعت الرسائل الأربع هذه مع تعليقته على " المكاسب " في النجف الأشرف.

ه - رسالة في ذبائح أهل الكتاب.

و - رسالة في ضبط الكر.

ز - رسالة في ماء الغسالة.

ح - رسالة في حرمة مس المصحف على المحدث.

ط - رسالة في إقرار المريض.

ي - رسالة في منجزات المريض.

ك - رسالة في مواقيت الإحرام.

ل - رسالة في القبلة وتعيين مواقع البلدان المهمة في العالم من مكة المكرمة بحسب الاختلاف في الطول والعرض.

م - رسالة في إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم.

طبعت بتصحيح علي أكبر الغفاري في إيران سنة 1378 ه.

ن - رسالة في الرضاع.

42 - رسالة أخرى في فروع الرضاع على مذهب الإمامية والمذاهب الأربعة.

وغيرها.

رسالتنا هذه:

لقد ذكر أغلب المترجمين للعلامة البلاغي - قدس الله سره - أن له

ص: 32

رسالتين اثنتين مطبوعتين في رد الوهابية.

فقد ذكر الشيخ آقا بزرگ الطهراني - رحمه الله - رسالة: " دعوى الهدى ... " التي أوردناها آنفا برقم 17، ذكرها في الذريعة 8 / 206 رقم 843 وأنها مطبوعة في سنة 1344 ه، وذكر الرسالة الثانية - التي أوردناها برقم 18 - في الذريعة 10 / 236 رقم 740 وقال: " رأيته بخطه في كتبه في النجف " ولم ينوه بأنها طبعت فما بعد أو لا.

ثم ذكرهما أيضا في نقباء البشر في القرن الرابع عشر 1 / 325 ضمن تعداده لكتب الشيخ البلاغي المطبوعة، ولم يصرح باسم الرسالة الأولى أو بتاريخ طبع الرسالتين أو إحداهما.

وذكرهما له أيضا السيد محسن الأمين العاملي - رحمه الله - في أعيان الشيعة 4 / 256 بالرقمين 12 و 13، ولم يصرح بعنوان خاص لإحداهما أو بتاريخ طبعهما.

كما ذكرهما له الأستاذ المحامي توفيق الفكيكي - رحمه الله - ضمن مؤلفاته المطبوعة، في مقدمته للطبعة الثانية من كتاب " الهدى إلى دين المصطفى " ص 13، بالتسلسلين 9، 10، ولم يصرح بعنوان خاص لإحداهما أو بتاريخ طبعهما أيضا.

وكذلك ذكرهما كوركيس عواد في معجم المؤلفين العراقيين 3 / 124 بالرقمين 10 و 11، ولم يصرح بعنوان خاص لإحداهما أو بتاريخ طبعهما هو الآخر.

أما الرسالة هذه، فقد عثرت على ثلاث نسخ منها بعد جهد جهيد، وكانت جميعها خالية من اسم الرسالة والمؤلف، تتألف من 45 صفحة، ومطبوعة على الحجر في النجف الأشرف، وكان الفراغ منها في ليلة 14 ربيع الأول سنة 1345 ه.

ص: 33

وبقرائن: زماني التأليف والطبع ومكانيهما، وعدم ذكر اسم المؤلف، (1) بل ذكر في الأنهاء اسم مستعار هو " عبد الله "، وقوة العرض والاستدلال بالرغم من صغر الرسالة، وأدب المؤلف وأخلاقه في المحاججة والنقاش، وكل ما يعبر عنه ب:

نفس المؤلف وأسلوب في التصنيف والتأليف...

بقرينة كل ذلك أمكنني الجزم أن رسالتنا هذه هي إحدى الرسالتين اللتين نمقهما يراع المؤلف - قدس سره - في هذا المجال.

فإذا ما احتملنا أن ما ورد في الذريعة 8 / 206 رقم 843 من أن تاريخ طبع رسالة " دعوى الهدى " هو غلط مطبعي، وأن الصحيح هو سنة 1345 ه بدلا من 1344 ه، لكانت هذه الرسالة هي تلك بعينها، مع ملاحظة أن المؤلف - قدس سره - لم يحل أو يشر في رسالته هذه إلى أن له رسالة أخرى في نفس الغرض.

أما إذا لم يصح ما احتملناه، فتكون هذه الرسالة هي الرسالة الثانية للشيخ البلاغي - قدس سره - لا غير.

أهميتها:

رسالة صغيرة الحجم، كبيرة المحتوى فهي بعيدة عن التطويل الممل أو الاختصار المخل، فقد اشتملت على جل المباحث اللازمة في الرد على الوهابية، وامتازت - بالرغم من صغر حجمها، وكبقية رسائل الشيخ البلاغي - بإيفاء الموضوع حقه، بالحجة القاطعة، والدليل النقلي القوي، والبرهان العقلي المقنع، فقد اعتمد المؤلف - رحمه الله - على

ص: 34


1- (21) كما في كتبه: " الهدى إلى دين المصطفى " في طبعته الأولى، " التوحيد والتثليث "، و " أعاجيب الأكاذيب " وقد أنهاه بتوقيع: عبد الله العربي، و " أنوار الهدى " وقد وضع عنوان المراسلة معه على الصفحة الأولى باسم: كاتب الهدى النجفي، و " البلاغ المبين " وهو محاورة بين شخصين، هما: (عبد الله) و (رمزي) وأنهاه بتوقيع: عبد الله وغيرها.

أمهات المصادر المعتمدة لدى عامة المسلمين، لدحض شبهات هذه الفرقة الضالة، وإثبات مراده، مضافا إلى ذلك دماثة الأخلاق والأدب الرفيع في المناقشة والمناظرة.

منهج العمل فيها:

استفدت من علامات الترقيم الحديثة في إعادة تقطيع النص وتوزيعه، وأثبت الإيضاحات في الهامش، وخرجت الأحاديث والروايات اعتمادا على مصادرها الأصلية قدر الإمكان، أما إذا لم يتوفر المصدر الأصلي لدي، فإني قمت بتخريجها على عدة مصادر أخرى، وربما عضدت الجميع بمصادر إضافية إمعانا في إقامة الحجة وإثباتها.

كما أني أصلحت الأغلاط الإملائية والطباعية التي لا تخلو منها أية طبعة لأي كتاب، وخاصة إذا كانت طبعة حجرية، ولم أشر إلى ذلك إلا في موضعين.

أما ما وضعته بين معقوفتين [] ولم أشر إليه في الهامش، فهو أحد ثلاثة:

* أما عنوان وضعته بين الفقرات والمطالب لزيادة الإيضاح.

* أو إضافة من المصدر المنقول عنه يقتضيها نسق المطلب، ربما سقطت أثناء الطبع.

* أو زيادة من عند نفسي يقتضيها السياق، ربما سقطت أثناء الطبع أيضا.

شكر لا بد منه:

لا يسعني وأنا أقدم هذه الرسالة ألا أن أشكر كل من أعانني وأسدى إلي معروفا، لإخراجها بأفضل صورة ممكنة، لا سيما سماحة حجة الإسلام والمسلمين المحقق السيد محمد رضا الحسيني الجلالي، الذي تفضل علي

ص: 35

بقراءتها وإبداء الملاحظات العلمية حولها، وكذا كل من ساهم بمراحل تهيئتها وإخراجها الأخرى.

وأشكر كذلك مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، في قم، لتفضلها بنشر هذه الرسالة المهمة على صفحات مجلتها الغراء " تراثنا ".

وفق الله الجميع لخدمة دينه الحنيف ومراضيه.

وكلمة أخيرة لا بد منها:

فأنا لا أدعي كمالا في عملي هذا، فما كان إلا في خدمة الدين والدفاع عنه ابتغاء غفران الله جل وعلا ورضوانه، وما هو إلا من منه وفضله وحسن توفيقه، عسى الله ينفع به، فهو ولي ذلك، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.

وإن هو إلا صفحات متواضعة أعددتها ليوم فقري وفاقتي، أرفعها إلى مقام الإمام الحجة المنتظر المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، راجيا منه عليه السلام نظرة عطف ولطف.

والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله وسلم على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

محمد علي الحكيم 9 جمادى الأولى 1415 ه

ص: 36

صورة الصفحة الأولى من الرسالة

ص: 37

صورة الصفحة الأخيرة من الرسالة

ص: 38

[الرد على الوهابية]

تمهيد:

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمد سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله أجمعين.

وبعد، فقد عثرت في بعض الجرائد (1) على سؤال نصه هذا:

" غادر مكة في شهر رمضان الماضي الشيخ عبد الله بن بليهد، قاضي قضاة الوهابيين في الحجاز، قاصدا المدينة المنورة، وقد تلقت جريدة أم القرى من مكاتبها في المدينة أن الشيخ ابن بليهد اجتمع بعلماء المدينة وباحثهم في أمور كثيرة، ثم وجه إليهم السؤال الآتي:

بسم الله الرحمن الرحيم، ما قول علماء المدينة المنورة - زادهم

ص: 39


1- (1) هي جريدة " أم القرى " العدد 69، بتاريخ 17 شوال 1344 ه. وهذا مما أفادني به سماحة العلامة المحقق السيد عبد العزيز الطباطبائي دام بقاؤه.

الله فهما وعلما - في البناء على القبور واتخاذها مساجد، هل هو جائز أم لا؟ وإذا كان غير جائز، بل ممنوع منهي عنه نهيا شديدا، فهل يجب هدمها ومنع الصلاة عندها أم لا؟ وإذا كان البناء في مسبلة - كالبقيع - وهو مانع من الانتفاع بالمقدار المبني عليه، فهل هو غصب يجب رفعه، لما فيه من ظلم المستحقين ومنعهم استحقاقهم، أم لا؟ وما يفعله الجهال عند هذه الضرائح، من التمسح بها، ودعائها مع الله، والتقريب بالذبح والنذر لها، وإيقاد السرج عليها، هل هو جائز أم لا؟ وما يفعل عند حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، من التوجه إليها عند الدعاء وغيره، والطواف بها وتقبيلها والتمسح بها، وكذلك ما يفعل في المسجد الشريف، من الترحيم والتذكير بين الأذان والإقامة وقبل الفجر ويوم الجمعة، هل هو مشروع أم لا؟ أفتونا مأجورين، وبينوا لنا الأدلة المستند إليها، لا زلتم ملجأ للمستفيدين ".

وهذا نص الجواب:

" أما البناء على القبور فهو ممنوع إجماعا، لصحة الأحاديث الواردة في منعه، وبهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه، مستندين على ذلك بحديث علي رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا تدع

ص: 40

تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته) رواه مسلم (1).

وأما اتخاذ القبور مساجد والصلاة فيها فممنوع مطلقا، وإيقاد السرج عليه ممنوع أيضا، لحديث ابن عباس: (لعن رسول الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج) رواه أهل السنن (2).

وأما ما يفعله الجهال عند الضرائح، من التمسح بها، والتقرب إليها بالذبائح والنذور، ودعاء أهلها مع الله، فهو حرام، ممنوع شرعا، لا يجوز فعله أصلا.

وأما التوجه إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم عند الدعاء، فالأولى منعه، كما هو معروف من فقرات كتب المذهب، ولأن أفضل الجهات جهة القبلة.

وأما الطواف بها والتمسح بها وتقبيلها، فهو ممنوع مطلقا.

وأما ما يفعل من التذكير والترحيم والتسليم في الأوقات المذكورة، فهو محدث.

هذا ما وصل إليه علمنا السقيم ".

ويلي ذلك توقيع 15 عالما.

وقد علقت جريدة " أم القرى " على هذه الفتوى بمقالة افتتاحية قائلة:

" إن الحكومة ستسير في تنفيذ أحكام الدين، رضي الناس أم كرهوا "! انتهى.

ص: 41


1- (2) صحيح مسلم 2 / 666 ح 93 ب 31، كما ورد الحديث باختلاف يسير في بعض ألفاظه في المصادر التالية: مسند أحمد 1 / 96 و 129، سنن النسائي 4 / 88، سنن أبي داود 3 / 215 ح 3218، سنن الترمذي 3 / 366 ح 1049 ب
2- 56. (3) سنن أبي داود 3 / 218 ح 3236، سنن النسائي 4 / 95.

واطلعت أيضا على مقالة في بعض الجرائد المصرية (*)، وهذا نصها:

" تغلب الوهابيون على الحجاز، فأوفدت حكومة إيران وفدا - على رأسه حضرات أصحاب السعادة: ميرزا غفار خان جلال السلطنة، وزيرها المفوض في مصر، وميرزا حبيب الله خان هويدا عين الملك، قنصلها الجنرال (1) بالشام - إلى الحجاز، ليتبينوا وجه الحقيقة فيما أذيع على العالم الإسلامي أجمع من فظائع الوهابيين في البلاد المقدسة، وأتم هذا الوفد الرسمي مهمته، ورفع تقريره إلى حكومته.

ولما تجدد نشر الإشاعات بأن الوهابيين هم هم.

وأن التطور الذي غشي العالم أجمع لم يصلح من فساد تطرفهم شيئا.

وأنهم هدموا القباب والمزارات المباركة المنبثة في أرجاء ذلك الوادي المقدس.

وأنهم ضيقوا الحرية المذهبية الإسلامية، نشرا لمذهبهم، وتوسيعا لنطاق نحلتهم، في الوقت الذي تقوم فيه جميع حكومات العالم على رعاية الحريات المذهبية.

أصدرت (2) أمرها بوقت التصريح بالسفر للحجاز، حماية لرعاياها، وحفظا لهم من قصد بلاد لم يعرف تماما كنه الحكم فيها.

وعادت فأوفدت سعادة ميرزا حبيب الله خان هويدا - قنصلها

ص: 42


1- * هي جريدة " المقطم " في عددها الصادر في 22 شوال سنة 1344 ه. (4) أي: القنصل العام.
2- (5) جواب " لما " المتقدمة.

الجنرال (1) في الشام - ثانية، للتحقق من مبلغ صدق تلك الإشاعات، فإذا بها صحيحة في جملتها! لم تمنع الحكومة الإيرانية رعاياها من السفر إلى الحجاز لأن حكومته وهابية فحسب، ولكن الإيرانيين ألفوا في الحج والزيارة شؤونا يعتقدون أنها من مستلزمات أداء ذلك الركن، ويشاركهم في ذلك جمهور المسلمين من غير الوهابيين، كزيارة مشاهد أهل البيت، والاستمداد من نفحاتهم، وزيارة مسجد منسوب للإمام علي عليه السلام.

وقد قضى الوهابي على تلك الآثار جملة، وقضى رجاله - وكل فرد منهم حكومة قائمة - على الحرية المذهبية.

فمن قرأ الفاتحة على مشهد من المشاهد، جلد.

ومن دخن سيجارة أو نرجيلة، أهين وضرب وزج في السجن، في الوقت الذي تحصل فيه إدارة الجمارك الحجازية رسوما على واردات البلاد من الدخان والتمباك.

ومن استنجد بالرسول المجتبى عليه صلوات الله وسلامه بقوله: (يا رسول الله) عد مشركا.

ومن أقسم بالنبي أو بآله، عد خارجا عن سياج الملة.

وما حادثة السيد أحمد الشريف السنوسي (2) - وهو علم من

ص: 43


1- (6) أي: القنصل العام.
2- (7) هو السيد أحمد الشريف بن محمد بن محمد بن علي السنوسي (1284 - 1351 ه) ولد وتفقه في " الجغبوب " من أعمال ليبيا، قاتل الإيطاليين في حربهم مع الدولة العثمانية سنة 1339 ه، دعي إلى إسلامبول بعد عقد الصلح بين إيطاليا والعثمانيين ثم رحل منها إلى الحجاز، كان من أنبل الناس جلالة قدر وسراوة حال ورجاحة عقل، وكان على علم غزير، وقد صنف في أوقات فراغه كتبا عديدة. انظر: الأعلام 1 / 135.

أعلام المسلمين المجاهدين - ببعيدة، إذ كان وقوفه وقراءته الفاتحة على ضريح السيدة خديجة رضوان الله عليها، سببا كافيا في نظر الوهابيين لإخراجه من الحجاز.

كل هذا حاصل في الحجاز لا ينكره أحد، ولا يستطيع الوهابي ولا دعاته ولا جنوده أن يكذبوه ".

انتهى ما أردنا نقله من تلك الجريدة.

فرأيت أن أتكلم معهم بكلمات وجيزة، جارية في نهج الإنصاف، خالية عن الجور والتعصب والاعتساف، سالكا سبيل الرفق والاعتدال، ناكبا عن طريق الخرق والجدال، فما المقصود إلا هداية العباد، والله ولي الرشاد.

ثم إنا نتكلم فما طعن به الوهابيون على سائر المسلمين في ضمن فصول، والله المستعان.

واجتنبت فيه عن الفحش في المقال، والطعن والوقيعة والجدال.

هذا، والجرح لما يندمل، وإن القلوب لحرى، والعيون لعبرى، على الرزية التي عمت الإسلام والمسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ويا لها من رزية جليلة! ومصيبة فاظعة (1) فادحة! وثلمة عظيمة في الإسلام أليمة فجيعة! كحلت بمقطرك العين عماية وأجل وقعك كل أذن تسمع (2)

ص: 44


1- (8) كذا في الأصل، ولعلها: " قاطعة "، والأصوب لغة أن تكون: " فظيعة ".
2- (9) من قصيدة لدعبل الخزاعي، يرثي بها سيد الشهداء الإمام أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وقد ورد البيت باختلاف في بعض ألفاظه في الديوان المطبوع ومصادر أخرى هكذا: كحلت بمنظرك العيون عماية * وأصم نعيك كل أذن تسمع انظر: ديوان دعبل: 226، معجم الأدباء 11 / 110 و 3 / 129 وفيه: " رزؤك " بدل " نعيك " ولم يسم قائله هنا، الحماسة البصرية 1 / 201.

وعلى الجملة:

فقد هدموا شعائر الدين، وجرحوا قلوب المسلمين، بفتوى خمسة عشر، تشهد القرائن بأنهم مجبورون مضطرون على هاتيك الفتيا! ويشهد نفس السؤال - أيضا - بذلك، حيث إن السائل يعلمهم الجواب في ضمن السؤال بقول: " وإذا كان غير جائز، بل ممنوع منهي عنه نهيا شديدا "! ويومئ إليه - أيضا - ما في الجريدة، أنه اجتمع إليهم أولا، وباحثهم ثانيا، ومن بعد ذلك وجه إليهم السؤال المزبور! ولقد حدثني بعض الثقات من أهل العلم - بعد رجوعه من المدينة - عن بعض علمائها، أنه قال: إن الوهابية أوعدوني وعالمين غيري بالقتل والنهب والنفي (على مساعدتهم) (1) في الجواب، فلم نفعل.

هذي المنازل بالغميم فنادها***واسكب سخي العين بعد جمادها (2).

ص: 45


1- (10) كذا في الأصل، والصواب: " إن لم نساعدهم ".
2- (11) مطلع قصيدة للشريف الرضي، يرثي بها سيد الشهداء الإمام أبي عبد الله الحسين بن علي ابن أبي طالب عليهم السلام، في يوم عاشوراء سنة 391 ه. انظر: ديوان الشريف الرضي 1 / 360.

الفصل الأول: في توحيد الله في العبادة

اشارة

إعلم أن من ضروريات الدين، والمتفق عليه بين جميع طبقات المسلمين، بل من أعظم أركان أصول الدين: اختصاص العبادة بالله رب العالمين.

فلا يستحقها غيره، ولا يجوز إيقاعها لغيره، ومن عبد غيره فهو كافر مشرك، سواء عبد الأصنام، أو عبد أشرف الملائكة، أو أفضل الأنام.

وهذا لا يرتاب فيه أحد ممن عرف دين الإسلام.

وكيف يرتاب؟! وهو يقرأ في كل يوم عشر مرات: (إياك نعبد وإياك نستعين) (1).

ويقرأ: (قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين) (2).

ويقرأ في سورة يوسف: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا

ص: 46


1- (12) سورة الفاتحة 1: 5.
2- (13) سورة الكافرون 109: 1 - 6.

إياه) (1).

ويقرأ في سورة النحل: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) (2).

ويقرأ في سورة التوبة: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) (3).

ويقرأ في سورة البقرة: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون) (4).

ويقرأ في سورة الأعراف: (وإلى عاد أخاهم هودا - إلى قوله عز من قائل: - قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده) (5).

ويقرأ في [سورة] الزمر: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) (6).

ويقرأ فيها: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن

ص: 47


1- (14) سورة يوسف 12: 40.
2- (15) سورة النحل 16: 35.
3- (16) سورة التوبة 9: 31.
4- (17) سورة البقرة 2: 133.
5- (18) سورة ا لأعراف 7: 65 - 70.
6- (19) سورة الزمر 39: 3.

من الشاكرين) (1).

ويقرأ فيها: (قل الله أعبد مخلصا له ديني) (2).

ويقرأ في سورة النساء: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا) (3).

ويقرأ في سورة هود: (ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير) (4).

ويقرأ في سورة العنكبوت: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) (5).

إلى غير ذلك من الآيات الفرقانية، والأحاديث المتواترة (6).

لكن العبادة - كما هو المفسر في لسان المفسرين، وأهل العربية، وعلما الإسلام -: غاية الخضوع، كالسجود، والركوع، ووضع الخد على التراب والرماد تواضعا، وأشباه ذلك، كما يفعله عباد الأصنام لأصنامهم (7).

ص: 48


1- (20) سورة الزمر 39: 65 و 66.
2- (21) سورة الزمر 39: 14.
3- (22) سورة السناء 4: 36.
4- (23) سوره هود 11: 2.
5- (24) سورة العنكبوت 29: 56.
6- (25) انظر ذلك في تفسير الآيات الكريمة المتقدمة - على سبيل المثال - وغيرها في مختلف التفاسير، ولاحظ كتاب " التوحيد " للشيخ الصدوق، والكافي 1 / 57 - 127 كتاب التوحيد.
7- (26) انظر ذلك - على سبيل المثال - في تفسير آية (إياك نعبد وإياك نستعين) في: التبيان 1 / 37 - 39، مجمع البيان 1 / 25 - 26، الصافي 1 / 71 - 72، كنز الدقائق 1 / 54 - 56، نور الثقلين 1 / 19 - 20، آلاء الرحمن 1 / 56 - 59، البيان: 456 - 483، الجامع لأحكام القرآن 1 / 145، جامع البيان 1 /

وأما زيارة القبور والتمسح بها وتقبيلها والتبرك بها، فليس من ذلك في شئ كما هو واضح، بل ليس فيها شئ من الخضوع فضلا عن كونها غاية الخضوع.

مع أن مطلق الخضوع - كما عرفت - ليس بعبادة، وإلا لكان جميع الناس مشركين حتى الوهابيين! فإنهم يخضعون للرؤساء والأمراء والكبراء بعض الخضوع، ويخضع الأبناء للآباء، والخدم للمخدومين، والعبيد للموالي، وكل طبقة من طبقات الناس للتي فوقها، فيخضعون إليهم بعض الخضوع، ويتواضعون لهم بعض التواضع.

هذا، وقد قال الله عز من قائل في تعليم الحكمة: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) (1).

أترى الله حين أمر بالخضوع للوالدين أمر بعبادتمها؟! ويقول سبحانه: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول...) إلى آخرها (2).

أليس هذا خضوعا وتواضعا؟! أترى الله سبحانه أمر بعبادة نبية؟! أوليس التواضع من الأخلاق الجميلة الزكية، وهو متضمن لشئ من الخضوع لا محالة؟! أوترى الله نهى يصنع بأنبيائه وأوليائه نظير ما أمر أن يصنع بسائر المسلمين من التواضع والخضوع؟! وقد كان الصحابة يتواضعون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم،

ص: 49


1- (27) سورة الإسراء 17: 24.
2- (28) سورة الحجرات 49: 2.

ويخضعون له، وذلك من المسلمات بين أهل السير والأخبار.

بل روى البخاري في صحيحه:

* " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضأ، ثم صلى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، وبين يديه عنزة.

قال شعبة: وزاد فيه عون: عن أبيه، عن أبي جحيفة، قال: كان تمر (1) من ورائها المرأة.

وقام الناس فجعلوا يأخذون يده (2) فيمسحون بها وجوههم.

قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك " (3).

[زيارة القبور:]

وأما الأخبار الدالة على زيارة القبور فنذكر عدة منها، وإن كان لا حاجة إلى ذكرها لوضوح المسألة، حتى أن الوهابيين - أيضا - غير مانعين عن أصل الزيارة.

* فروى البخاري عنه صلى الله عليه وآله وسلم، أنه " خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر... " إلى آخره (4).

ص: 50


1- (29) في المصدر: يمر.
2- (30) في المصدر: يديه.
3- (31) صحيح البخاري 4 / 229، والعنزة - بالتحريك -: هي أطول من العصا وأقصر من الرمح، فيها سنان كسنان الرمح، وربما في أسفلها زج كزج الرمح. انظر: القاموس المحيط 2 / 184، لسان العرب 5 / 384.
4- (32) صحيح البخاري 2 / 114، سنن أبي داود 3 / 216 ح 3223 إلى كلمة " انصرف ".

* وروى فيه عن أنس، قال: " مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري... " إلى آخره (1) ولم ينهها عن زيارة القبر.

* وروى الدارقطني في السنن وغيرها، والبيهقي، وغيرهما، من طريق موسى بن هلال العبدي، عن عبد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر، قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ": من زار قبري وجبت له شفاعتي " (2).

* وعن نافع، عن سالم، عن ابن عمر، مرفوعا، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " من جاءني زائرا ليس له حاجة إلا زيارتي، كان حقا علي أن أكون له شفيعا يوم القيامة " (3).

* وعن ليث ومجاهد، عن [ابن] عمر، مرفوعا، قال صلى الله عليه وسلم:

" من حج وزار قبري بعد وفاتي، كان كمن زارني في حياتي " (4).

ص: 51


1- (33) صحيح البخاري 9 / 81 باختلاف يسير في بعض الألفاظ، وفي 2 / 93 إلى كلمة " واصبري " باختلاف يسير في بعض الألفاظ أيضا، وانظر: الأنوار في شمائل النبي المختار 1 / 200 ح 239 والمصادر الأخرى التي في هامشه.
2- (34) سنن الدارقطني 2 / 278 ح 194، شعب الإيمان 3 / 490 ح 4159، مجمع الزوائد 4 / 2، الصلات والبشر: 142، الدر المنشور 1 / 569، كنز العمال 15 / 651 ح 42583، الكنى والأسماء 2 / 64، الكامل 6 / 2350، والنظر: الغدير 5 / 93 - 96 ح 1 ومصادره.
3- (35) ورد الحديث باختلاف يسير في: المعجم. الكبير 12 / 291 ح 13149، مجمع الزوائد 4 / 2، الصلات والبشر: 142، الدر المنصور 1 / 569، كنز العمال 15 / 256 ح 34928، وانظر: الغدير 5 / 97 - 98 ح 2 ومصادره.
4- (36) سنن الدارقطني 2 / 278 ح 192، شعب الإيمان 3 / 489 ح 4154، السنن الكبرى 5 / 246، المعجم الكبير 12 / 406 ح 13497، الصلات والبشر: 143، الدر المنثور

* وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من زارني كنت له شهيدا أو شفيعا " (1).

* وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من حج [ البيت] ولم يزرني فقد جفاني " (2).

* وعن أبي هريرة، مرفوعا، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من زارني بعد موتي فكأنما زارني حيا " (3).

* وعن أنس، مرفوعا، عن النبي صلى الله عليه وسلم، [قال]: " من زارني ميتا كمن زارني حيا، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة " (4).

* وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي، ومن لم يزرني فقد

ص: 52


1- (37) ورد الحديث باختلاف يسير في: شعب الإيمان 3 / 489 ذ ح 4153، كنز العمال 5 / 135 ح 12371، كما ورد مضمونه في: السنن الكبرى 5 / 245، شعب الإيمان 3 / 488 ح 4152 و 489 ح 4157، الصلات والبشر: 143، الدر المنثور 1 / 569، وانظر: الغدير 5 / 100 - 101 ح 5 ومصادره.
2- (38) الدر المنثور 1 / 569، الصلات والبشر: 143، كنز العمال 5 / 135 ح 12396، الكامل 7 / 2480، والنظر: الغدير 5 / 100 ح 4 ومصادره.
3- (39) ورد الحديث باختلاف في سنده وبعض ألفاظه في: مجمع الزوائد 4 / 2، الصلات والبشر: 142 و 143، الدر المنثور 1 / 569، كنز العمال 5 / 135 ح 12372، المواهب اللدنية 8 / 298 و 299، وانظر: الغدير 5 / 101 - 102 ح
4- (40) الصلات والبشر: 143، كشف الخفاء 2 / 328 - 329 ح 2489، وانظر: الغدير 5 / 104 ح 10 ومصادره.

جفاني " (1).

إلى غير ذلك من الأحاديث التي يجوز مجموعها حد المتواتر.

* وفي " الموطأ " أن ابن عمر كان يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيسلم عليه وعند أبي بكر وعمر (2).

* وسئل نافع: هل كان [ابن] عمر يسلم على قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: رأيته مائة مرة أو أكثر يسلم على النبي وعلى أبي بكر (3).

قال عياض: زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أجمع عليها المسلمون (4).

* وروى بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها " (5).

* وعن بريدة، أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى المقابر قال: " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ".

ص: 53


1- (41) مختصر تاريخ دمشق 2 / 407، وفاء الوفا 4 / 1346 - 1347 ح 14 و 16، وانظر: الغدير 5 / 104 - 105 ح 12 ومصادره، وقد روي فيها عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام مرفوعا بدلا من ابن عباس.
2- (42) الموطأ 1 / 166 ح 68، شعب الإيمان 3 / 490 ح 4161، الدر المنثور 1 / 570، وفاء الوفا 4 / 1358.
3- (43) حقيقة التوسل والوسيلة: 111، وقال في الهامش: أخرجه الإمام عبد الله بن دينار عن ابن عمر.
4- (44) شرح الشفا 3 / 511، وفاء الوفا 4 / 1362.
5- (45) صحيح مسلم 2 / 672 ح 977، سنن النسائي 8 / 310 - 311 و ج 4 / 89، سنن الترمذي 3 / 370 ح 1054، سنن أبي داود 3 / 218 ح 3235، السنن الكبرى 4 / 77، المعجم الكبير 2 / 19 ح 1152 و 94 ح 1419، المصنف 3 / 342.

رواه مسلم (1).

* وعن ابن عباس، أن النبي [كان] يخرج إلى البقيع آخر الليل فيقول:

" السلام عليكم... " الخبر.

رواه مسلم (2).

[التبرك بالقبور:]

وأما التبرك بالقبور وتقبيلها والتمسح بها:

فقد نقل عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب " العلل والسؤالات " قال: سألت أبي عن الرجل يمس منبر رسول الله يتبرك بمسه وتقبيله، ويفعل بالقبر ذلك رجاء ثواب الله، فقال: لا بأس به (3).

ونقل عن مالك التبرك بالقبر (4).

وروي عن يحيى بن سعيد - شيخ مالك - أنه حينما أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر وتمسح به (5).

ونقل السبكي رواية ليحيى بن الحسن، عن عمر بن خالد، عن أبي نباتة، عن كثير بن يزيد، عن المطلب بن عبد الله، قال: أقبل

ص: 54


1- (46) صحيح مسلم 2 / 671 ح 975، وسنن النسائي 4 / 94.
2- (47) صحيح مسلم 2 / 669 ح 974 عن عائشة، وسنن الترمذي 3 / 369 ح 1053 عن ابن عباس.
3- (48) العلل ومعرفة الرجال 2 / 492 ح 3243، وعنه في وفاء الوفا 4 / 1404، وانظر مؤداه أيضا في ص 1403.
4- (49) انظر مؤداه في وفاء الوفا 4 / 1407.
5- (50) وفاء الوفا 4 / 1403.

مروان بن الحكم وإذا رجل ملتزم القبر، فأخذ مروان برقبته وقال: ما تصنع؟! فقال: إني لم آت الحجر ولا اللبن، إنما جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

وذكر رواية أحمد، قال: وكان الرجل أبا أيوب الأنصاري (2).

* ونقل هذه الرواية أحمد، وزاد فيها أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تبكوا على الدين إذا ولوه أهله، وابكوا عليه إذا وليه غير أهله (3).

وذكر ابن حماد أن ابن عمر كان يضع يده اليمنى على القبر (4).

ولو رمنا ذكر جميع الأحاديث لخرجنا من حد الاختصار، وفيما ذكر كفاية، فضلا عن سيرة المسلمين.

وما عرفت من أن تلك الأمور خارجة عن حقيقة العبادة، فإذا لا وجه للمنع عنها وإن لم يكن دليل عليها.

هذا، وقد قال الله عز وجل: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) (5).

ص: 55


1- (51) شفاء السقام عن مسند أحمد 5 / 422.
2- (52) شفاء السقام عن مسند أحمد 5 / 422.
3- (53) شفاء السقام عن مسند أحمد 5 / 422، وفاء الوفا 4 / 1358 - 1359.
4- (54) وفاء الوفا 4 / 1405.
5- (55) سورة الحج 22: 32.

الفصل الثاني: في توحيد الله سبحانه في الأفعال

اشارة

إعلم أن من ضروريات دين الإسلام، والمجمع عليه بين جميع الفرق المنتحلة لدين سيد الأنام، بل ومن أعظم أركان التوحيد: توحيد الله عز وجل في تدبير العالم، كالخلق والرزق والإماتة والإحياء، إلى غير ذلك مما يرجع إلى تدبير العالم، كتسخير الكواكب، وجعل الليل والنهار، والظلم والأنوار، وإجراء البحار، وإنزال الأمطار، وغير ذلك مما لا نحصيه ولا نحيط به.

وبالجملة:

لا كلام بين طوائف أهل الإسلام، أن المدبر لهذا النظام، هو الله الملك العلام، وحده وحده.

وكيف يرتاب مسلم في ذلك؟! وهو يقرأ في كل يوم مرارا من الفرقان العظيم: (الله الصمد) (1).

ويقرأ قوله عز من قائل: (وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم) (2).

ص: 56


1- (56) سورة الإخلاص 112: 2.
2- (57) سورة الأنعام 6: 101.

وقوله سبحانه: (ألا له الخلق والأمر) (1).

وقوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) (2).

وقوله عز اسمه: (إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) (3).

وقوله عظم سلطانه: (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شاء) (4).

وقوله جل شأنه: (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شئ) (5).

وقوله عز جبروته: (الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحيين) (6).

وقوله جل وعز: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض

ص: 57


1- (58) سورة الأعراف 7: 54.
2- (59) سورة يونس 10: 31.
3- (60) سورة التوبة 7: 116.
4- (61) سورة هود 11: 32 و 33.
5- (62) سورة الرعد 13: 16.
6- (63) سورة الشعراء 26: 78 - 81.

وسخر الشمس والقمر ليقولن الله) (1).

وقوله عم إحسانه: (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله) (2).

وقوله جلت قدرته: (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم) (3).

وقوله تعالى شأنه: (خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم * هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين) (4).

وقوله تعالى: (الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل * له مقاليد السماوات والأرض) (5).

وقوله تعالى من قائل: (وأن إلى ربك المنتهى * وأنه هو أضحك وأبكى * وأنه هو أمات وأحيا * وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى * من نطفة إذا تمنى * وأن عليه النشأة الأخرى * وأنه هو أغنى وأقنى) (6).

ى إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

ص: 58


1- (64) سورة العنكبوت 29: 61.
2- (65) سورة العنكبوت 29: 63.
3- (66) سورة الروم 30: 40.
4- (67) سورة لقمان 31: 10 و 11.
5- (68) سورة الزمر 39: 62 و 63.
6- (69) سورة النجم 53: 42 - 48.

[التوسل والاستغاثة والاستشفاع:]

اشارة

لكن التوسل بغير الله سبحانه، والاستغاثة، والاستشفاع - المعمولة عند المسلمين، في جميع الأزمان، بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء - ليس بمعنى التشريك في أفعال الله تعالى.

بل الغرض أن يفعل الله فعله ويقضي الحاجة ببركتهم وشفاعتهم، حيث إنهم مقربون لديه، مكرمون عنده، ولا مانع من أن يكونوا سببا ووسيلة لجريان فيضه.

هذا، ومن المركوز في طباع البشر توسلهم في حوائجهم التي يطلبونها من العظماء والملوك والأمراء إلى المخصوصين بحضرتهم، ويرون هذا وسيلة لنجح حاجتهم، وليس ذلك تشريكا لذلك المخصوص مع ذاك الأمير أصلا.

فلماذا يعزل أنبياء الله والأولياء من مثل ما يصنع بمخصوصي العظماء؟! إن هذا إلا اختلاق، وقد قال الله عز وجل: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (1) فاستثنى، وقال سبحانه: (لا يشفعون إلا لمن ارتضى) (2).

ى ومما ذكر ظهر أن قول القاضي: " ودعائها مع الله " يعني الضرائح، افتراء على المسلمين من جهتين:

الأولى: دعوى تشريك غير الله معه في الدعاء:

مع أنهم لا يدعون إلا الله الواحد القهار، ويتوسلون بأوليائه إليه.

ص: 59


1- (70) سورة البقرة 2: 255.
2- (71) سورة الأنبياء 21: 28.

وإن كان المراد أنهم يدعون الله عز وجل لقضاء الحاجات، ويدعون أولياءه ليكونوا شفعاء لديه سبحانه، فاختلفت جهتا الدعوة، فهذا حق وصدق، ولا مانع منع أصلا.

بل الوهابية ما قدروا الله حق قدره إذ قالوا: لا ضرورة في استنجاح الحاجة عنده إلى شفيع! ولا حسن في ذلك، ويرون ذلك أمرا مرغوبا مطلوبا بالنسبة إلى غيره سبحانه! فإذا كان لهم حاجة إلى الناس، يتوسلون في نجاحها إلى المقربين لديهم، ولا يرون في ذلك بأسا! فما بال الله عز وجل يقصر به عما يصنع بعباده؟!

الجهة الثانية: إضافة الدعوة إلى الضرائح:

والحال أنهم لا يدعون الضريح للشفاعة، بل يدعون صاحب الضريح، لأنه ذو مكان مكين عند الله وإن كان متوفى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتيهم الله....) (1).

وبالجملة:

فالتوسل وطلب الشفاعة من أولياء الله أمر مرغوب فيه عقلا وشرعا، وقد جرت سيرة المسلمين عليه قديما وحديثا.

* فعن أنس بن مالك، أنه قال: " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت المواشي وتقطعت

ص: 60


1- (72) سورة آل عمران 3: 169 و 170.

السبل، فادع الله.

فدعا الله، فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة.

فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت وتقطعت السبل وهلكت المواشي.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم على ظهور الجبال والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر.

فانجابت عن المدينة انجياب الثوب ".

رواه البخاري في الصحيح، (1)، وروى عدة أحاديث في هذا المعنى يشبه بعضها بعضا. (2).

* وفيه أيضا: حدثنا عبد الله بن أبي الأسود، [حدثنا حرمي،] حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: " قالت أمي: يا رسول الله، خادمك [أنس]، ادع الله له.

قال: اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته " (3).

ى * وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم، عن الجعد بن عبد الرحمن، قال: سمعت السائب بن يزيد يقول: " ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابن أختي وجع.

فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه مثل زر الحجلة " (4).

ص: 61


1- (73) صحيح البخاري 2 / 37.
2- (74) صحيح البخاري 2 / 34 - 38.
3- (75) صحيح البخاري 8 / 93.
4- (76) صحيح البخاري 8 / 94، والحجلة: بيت كالقبة يستر بالثياب ويكون له أزرار كبار. انظر: لسان العرب 11 / 144 - حجل.

* وروى البيهقي، أنه جاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، استق لأمتك، فسقوا (1).

ى * وروى الطبراني وابن المقرئ وأبو الشيخ، أنهم كانوا جياعا، فجاؤوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، الجوع الجوع، فأشبعوا (2).

ى * ونقل أن آدم لما اقترف الخطيئة قال: يا ربي أسألك بحق محمد لما غفرت لي.

فقال: يا آدم، كيف عرفته؟ قال: لأنك لما خلقتني نظرت إلى العرش فوجدت مكتوبا فيه: " لا إله إلا الله، محمد رسول الله " فرأيت اسمه مقرونا مع اسمك، فعرفته أحب الخلق إليك.

صححه الحاكم (3).

ى * وعن عثمان بن حنيف، أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت صبرت فهو خير لك، وإن شئت دعوت.

قال: فادعه.

فأمره أن يتوضأ ويدعو بهذا الدعاء:

ص: 62


1- (77) انظر قريبا منه في الوفا 4 / 1374.
2- (78) انظر: وفاء الوفا 4 / 1380.
3- (79) المستدرك على الصحيحين 2 / 615 باختلاف يسير، وانظر: دلائل النبوة - للبيهقي - 5 / 489، ووفاء الوفا 4 / 1371 - 1372.

" اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبي الرحمة، يا محمد، إنني توجهت بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي.

اللهم شفعه ".

رواه الترمذي والنسائي (1) ى، وصححه البيهقي وزاد: فقام وأبصر (2).

ى * ونقل الطبراني، عن عثمان بن حنيف، أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة، فكان لا يلتفت إليه، فشكا ذلك لا بن حنيف، فقال له: اذهب وتوضأ وقل:... وذكر نحو ما ذكر الضرير.

قال: فصنع ذلك، فجاء البواب فأخذه وأدخله إلى عثمان، فأمسكه على الطنفسة وقضى حاجته (3).

ى * وفي رواية الحافظ، عن ابن عباس، أن عمر قال: اللهم إنا نستسقيك بعم نبينا، ونستشفع بشيبته، فسقوا (4).

[الشفاعة:]

وأخبار الشفاعة متواترة:

* روى البخاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: من سمع الأذان ودعا بكذا حلت له شفاعتي يوم القيامة (5).

ص: 63


1- (80) سنن الترمذي 5 / 569 ح 3578 باختلاف يسير، ورواه النسائي في كتاب " اليوم والليلة "، وفي سنن ابن ماجة 1 / 441 ح 1385 باختلاف يسير أيضا.
2- (81) انظر: وفاء الوفا 4 / 1372.
3- (82) المعجم الكبير 9 / 30 - 31 ح 8311 باختلاف يسير، وانظر: وفاء الوفا 4 / 1373.
4- (83) دلائل النبوة - للأصبهاني - 2 / 725 ح 511 باختلاف يسير.
5- (84) صحيح البخاري 1 / 159 باختلاف يسير.

* وروى مسلم، عنه صلى الله عليه وسلم أنه: ما من ميت يموت يصلي عليه أمة من الناس يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه (1).

ى * وروى الترمذي والدارمي، عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه: يدخل بشفاعتي رجال من أمتي أكثر من بني تميم (2).

ى * وروى الترمذي، عن أنس، أنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة.

فقال: أنا فاعل.

قلت: فأين أطلبك؟ قال: أولا على الصراط.

قلت: فإن لم ألقك.

قال: عند الميزان.

قلت: فإن لم ألقك؟ قال: عند الحوض، فأني [لا] أخطئ هذه المواضع (3).

ى وقد نقل عن الصحابة، بطرق عديدة، أن الصحابة كانوا يلجأون إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويندبونه في الاستسقاء ومواقع الشدائد وسائر الأمراض (4).

ى ولا يخفى أن وفاة المتوسل به لا تنافي التوسل أصلا، فإن مكانه

ص: 64


1- (85) صحيح مسلم 2 / 654 ح 947، باختلاف يسير.
2- (86) سنن الترمذي 4 / 626 ح 2438، وسنن الدارمي 2 / 328، باختلاف يسير فيهما.
3- (87) سنن الترمذي 4 / 621 - 622 ح 2433، الوفا بأحوال المصطفى 2 / 824 باختلاف يسير.
4- (88) انظر: وفاء الوفا 4 / 1372 - 1387.

عند الله لا يزول بالموت، كما هو واضح.

هذا، مع أنهم في الحقيقة أحياء كما ذكر الله عز وجل في حال الشهداء، فالشهداء إذا كانوا أحياء فالأنبياء والأولياء أحق بذلك.

هذا كله مع أن الأرواح لا تفنى بالموت، والعبرة بها لا بالأجساد، وإن كان أجساد الأنبياء لا تبلى كما نص عليه في الأخبار (1).

ى * وفي خبر النسائي وغيره، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغونني من أمتي السلام (2).

ى والأخبار في هذا الباب كثيرة (3).

ى * وأخرج أبو نعيم في " دلائل النبوة " عن سعيد بن المسيب، قال: لقد كنت في مسجد رسول الله فيما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الأذان من القبر (4).

ى * وأخرج سعد في " الطبقات " عن سعيد بن المسيب، أنه كان يلازم المسجد أيام الحرة، فإذا جاء الصبح سمع أذانا من القبر الشريف (5).

* وأخرج زبير بن بكار في " أخبار المدينة " عن سعيد بن المسيب، قال: لم أزل أسمع الأذان والإقامة من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الحرة حتى عاد الناس (6).

ص: 65


1- (89) سنن ابن ماجة 1 / 524 ح 1637، وانظر مؤداه في وفاء الوفا 4 / 1350 - 1356.
2- (90) سنن النسائي 3 / 43، مسند أحمد 1 / 441، سنن الدارمي 2 / 317.
3- (91) انظر: وفاء الوفا 4 / 1349 - 1354.
4- (92) دلائل النبوة - للأصبهاني - 2 / 724 - 725 ح 510 باختلاف يسير.
5- (93) الطبقات الكبير 5 / 132.
6- (94) انظر: وفاء الوفا 4 / 1356.

* ونقل أبو عبد الله البخاري، أن الشهداء وسائر المؤمنين إذا زارهم المسلم وسلم عليهم عرفوه وردوا عليه السلام (1).

* وروى الثعلبي في تفسيره، وابن المغازلي الشافعي الواسطي في " المناقب " أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما حملهم البساط وصلوا إلى موضع أهل الكهف، فقال: سلموا عليهم، فسلموا عليهم، فلم يردوا، فسلم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته (2).

* ونقل أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي، أن عيسى عليه السلام لما دفن مريم عليها السلام قال: السلام عليك يا أماه، فأجابته من جوف القبر: وعليك السلام حبيبي وقرة عيني... إلى آخره (3).

* وروى الحاكم، عن سالم بن أبي حفصة، قال: توفي أخ لي فوضعته في القبر وسويت عليه التراب، ثم وضعت أذني على لحده فسمعت قائلا يقول له: من ربك؟ فسمعت أخي يقول بصوت ضعيف: ربي الله... إلى آخره (4).

والأخبار التي يستدل بها على الدعوى أكثر من أن تحصى.

ص: 66


1- (95) انظر: وفاء الوفا 4 / 1351.
2- (96) مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: 232 - 233 ح 280، وفيه: " علي عليه السلام " بدل " النبي صلى الله عليه وآله وسلم ".
3- (97) لم أعثر على تخريج له في المصادر المتوفرة لدي.
4- (98) المستدرك على الصحيحين، وروي قريب منه وبسند آخر وباختلاف يسير في كتاب من عاش بعد الموت: 86 و 87 ح 42 و 43.

الفصل الثالث: في البناء على القبور

إعلم أن البناء على قبور الأنبياء والعباد المصطفين تعظيم لشعائر الله، وهو من تقوى القلوب، ومن السنن الحسنة.

حيث إنه احترام لصاحب القبر، وباعث على زيارته، وعلى عبادة الله عز وجل - بالصلاة والقراءة والذكر وغيرها - عنده، وملجأ للزائرين والغرباء والمساكين والتالين والمصلين.

بل هو إعلاء لشأن الدين.

* وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها " (1).

ى وقد بني على مراقد الأنبياء قبل ظهور الإسلام وبعده، فلم ينكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أحد من الصحابة والخلفاء، كالقباب المبنية على قبر دانيال عليه السلام في شوشتر (2)، وهود وصالح ويونس وذي الكفل عليهم السلام، والأنبياء في بيت المقدس وما يليها، كالجبل الذي دفن فيه موسى عليه السلام، وبلد الخليل مدفن سيدنا إبراهيم عليه السلام.

ص: 67


1- (99) ورد الحديث باختلاف يسير في: مسند أحمد 4 / 361، سنن ابن ماجة 1 / 74 - 75 ح 203 - 208 باب من سن سنة حسنة أو سيئة، مشكل الآثار 1 /
2- 94 و 96 و 481. (100) هي إحدى مدن مقاطعة خوزستان في إيران، ومعربها: تستر، انظر معجم البلدان 2 / 29 (تستر).

بل الحجر المبني على قبر إسماعيل عليه السلام وأمه رضي الله عنها.

بل أول من بنى حجرة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باللبن - بعد أن كانت مقومة بجريد النخل - عمر بن الخطاب، على ما نص عليه السمهودي في كتاب " الوفا " (1) ثم تناوب الخلفاء على تعميرها (2).

* وروى البنائي (3) واعظ أهل الحجاز، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده الحسين، عن أبيه علي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " والله لتقتلن في أرض العراق وتدفن بها.

فقلت: يا رسول الله، ما لمن زار قبورنا وعمرها وتعاهدها؟ فقال: يا أبا الحسن، إن الله جعل قبرك وقبر ولديك بقاعا من بقاع الجنة [ وعرصة من عرصاتها]، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه، وصفوة من عباده، تحن إليكم [وتحتمل المذلة والأذى]، فيعمرون قبوركم، ويكثرون زيارتها تقربا [ منهم] إلى الله تعالى، ومودة منهم لرسوله [أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي، الواردون حوضي، وهم زواري غدا في الجنة].

يا علي، من عمر قبوركم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس... " إلى آخره (4).

ص: 68


1- (101) وفاء الوفا 2 / 481.
2- (102) وفاء الوفا 2 / 481 - 647.
3- (103) في المصدر: التباني.
4- (104) فرحة الغري: 77، وعنه في بحار الأنوار 100 / 120 ح 22.

ولا يخفى أن جعل معمر قبورهم كالمعين على بناء بيت المقدس، دال على أن تعظيم مراقدهم تعظيم لشعائر الله سبحانه.

ونقل نحو ذلك - أيضا - في حديثين معتبرين، نقل أحدهما الوزير السعيد بسند، وثانيهما بسند آخر (1).

والسيرة القطعية - من قاطبة المسلمين - المستمرة، والإجماع، يغنيان عن ذكر الأحاديث الدالة على الجواز.

وما أعجب قول المفتين: " أما البناء على القبور فممنوع إجماعا "! فإن مذهب الوهابية - وهم فئة قليلة بالنسبة إلى سائر المسلمين - لم يظهر إلا قريبا من قرن واحد، ولا يتفوه أحد من المسلمين - سوى الوهابية - بحرمة البناء، فأين الإجماع المدعى؟! ودعوى ورود الأحاديث الصحيحة على المنع - لو ثبت - غير مجد لإثبات الحرمة، لأن أخبار الآحاد لا تنهض لدفع السيرة والإجماع القطعي، مع أن أصل الدعوى ممنوع جدا.

فإن مثل رواية جابر: " نهى رسول الله أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ " (2) لا تدل على التحريم، لعدم حرمة الكتابة على القبور ووطئها، فذلك من أقوى القرائن على أن النهي في الرواية غير دال على الحرمة، ولا نمنع الكراهة في غير قبور مخصوصة.

مع أن الظاهر من قوله: " يبنى عليها " إحداث بناء كالجدار على

ص: 69


1- (105) فرحة الغري: 78، وعنه في بحار الأنوار 100 / 121 ح 23 و 24.
2- (106) سنن الترمذي 3 / 368 ح 1052.

نفس القبر، فإن بناء القبة وجدرانها بعيدة عن القبر، ليس بناء على القبر على الحقيقة، وإنما هو نوع من المجاز، وحمل اللفظ على الحقيقة حيث لا صارف عنها معين، مع أن النهي عن الوطء يؤكد هذا المعنى، لا الذي فهموه من الرواية.

وأما الاستدلال على وجوب هدم القباب بحديث أبي الهياج، فغير تام في نفسه - مع قطع النظر عن مخالفته للإجماع والسيرة - لوجوه:

* الأول: إن الحديث مضطرب المتن والسند.

فتارة يذكر عن أبي الهياج أنه قال: " قال لي علي " كما في رواية أحمد عن عبد الرحمن (1).

وتارة يذكر عن أبي وائل، أن عليا قال لأبي الهياج (2).

ورواه عبد الله بن أحمد في " مسند علي " هكذا: " لأبعثنك فيما بعثني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أسوي كل قبر، وأن أطمس كل صنم " (3).

فالاضطراب المزبور يسقطه عن الحجية والاعتبار.

* الثاني: إنه من الواضح أن المأمور به في الرواية لم يكن هدم جميع قبور العالم، بل الحديث وارد في بعث خاص وواقعة مخصوصة، فلعل البعث قد كان إلى قبور المشركين لطمس آثار الجاهلية - كما يؤيده ذكر الصنم - أو إلى غيرها مما لا نعرف وجه مصلحتها، فكيف يتمسك بمثل هذه الرواية لقبور الأنبياء والأولياء؟!

ص: 70


1- (107) مسند أحمد 1 / 96.
2- (108) مسند أحمد 1 / 129.
3- (109) مسند أحمد 1 / 89 و 111.

قال بعض علماء الشيعة من المعاصرين:

إن المقصود من تلك القبور، التي أمر علي عليه السلام بتسويتها، ليست هي إلا تلك القبور التي كانت تتخذ قبلة عند بعض أهل الملل الباطلة، وتقام عليها صور الموتى وتماثيلهم، فيعبدونها من دون الله.

إلى أن قال:

وليت شعري لو كان المقصود من القبور - التي أمر علي عليه السلام بتسويتها - هي عامة القبور على الإطلاق، فأين كان عليه السلام - وهو الحاكم المطلق يومئذ - عن قبور الأنبياء التي كانت مشيدة على عهده؟! ولا تزال مشيدة إلى اليوم في فلسطين وسورية والعراق وإيران، ولو شاء تسويتها لقضى عليها بأقصر وقت.

فهل ترى أن عليا عليه السلام يأمر أبا الهياج بالحق وهو يروغ عنه فلا يفعله؟! انتهى ما أردنا نقله منه.

* الثالث: قال بعض المعاصرين من أهل العلم:

لا يخفى من اللغة والعرف أن تسوية الشئ من دون ذكر القرين المساوي معه، إنما هو جعل الشئ متساويا في نفسه، فليس لتسوية القبر في الحديث معنى إلا جعله متساويا في نفسه، وما ذلك إلا جعل سطحه متساويا.

ولو كان المراد تسوية القبر مع الأرض، لكان الواجب في صحيح الكلام أن يقال: إلا سويته مع الأرض.

فإن التسوية بين الشيئين المتغايرين لا بد فيها من أن يذكر الشيئان اللذان تراد مساواتهما.

ص: 71

وهذا ظاهر لكل من يعطي الكلام حقه من النظر، فلا دلالة في الحديث إلا على أحد أمرين:

أولهما: تسطيح القبور وجعلها متساوية برفع سنامها، ولا نظر في الحديث إلى علوها، ولا تشبث فيه بلفظ (المشرف) فإن الشرف إن ذكر أنه بمعنى العلو، فقد ذكر أنه من البعير سنامه، كما في القاموس وغيره، (1) فيكون معنى (المشرف) في الحديث هو: القبر ذو السنام، ومعنى تسويته: هدم سنامه.

وثانيهما: أن يكون المراد: القبور التي يجعل لها شرف من جوانب سطحها، والمراد من تسويته أن تهدم شرفه ويجعل مسطحا أجم، كما في حديث ابن عباس:

أمرنا أن نبني المدائن شرفا والمساجد جما (2).

وعلى كل حال، فلا يمكن في اللغة والاستعمال أن يراد من التسوية في الحديث أن يساوى القبر مع الأرض، بل لا بد أن يراد منه أحد المعنيين المذكورين.

وأيضا: كيف يكون المراد مساواة القبر مع الأرض، مع أن سيرة المسلمين المتسلسلة على رفع القبور عن الأرض؟! وفي آخر كتاب الجنائز من جامع البخاري، مسندا عن سفيان التمار، أنه رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنما (3).

ص: 72


1- (110) انظر مادة (شرف) في: القاموس المحيط 3 / 157، تهذيب اللغة 11 / 341، لسان العرب 9 / 171.
2- (111) غريب الحديث 4 / 225، الفائق 1 / 234، لسان العرب 9 / 171، والجم: هي التي لا شرف لها.
3- (112) صحيح البخاري 2 / 128.

وأسند أبو داود في كتاب الجنائز عن القاسم، قال: دخلت على عائشة فقلت:

يا أمه، اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة (1).

وأسند ابن جرير، عن الشعبي، أن كل قبور الشهداء مسنمة. (2) انتهى ما أردنا نقله منه.

وأقول بعد ذلك: لو كان قوله: " مشرفا " بمعنى عاليا، فليس يعم كل قبر ارتفع عن الأرض ولو بمقدار قليل، فإنه لا يصدق عليه القبر العالي، فإن العلو في كل قبر إنما هو بالإضافة إلى سائر القبور، فلا يبعد أن يكون أمرا بتسوية القبور العالية فوق القدر المتعارف المعهود في ذلك الزمان إلى حد المتعارف، وقد أفتى جمع من العلماء بكراهة رفع القبر أزيد من أربع أصابع (3).

ولتخصيص الكراهة - لو ثبت - بغير قبور الأنبياء والمصطفين من الأولياء وجه.

* الرابع: لو سلم أي دلالة في الرواية، فلا ربط لها ببناء السقوف والقباب ووجوب هدمها، كما هو واضح.

وأما قول السائل: " وإذا كان البناء في مسبلة - كالبقيع - وهو مانع... إلى آخره ".

فقد أجاب بعض المعاصرين عنه بما حاصله:

ص: 73


1- (113) سنن أبي داود 3 / 215 ح 3220، ولاطئة: أي لازقة بالأرض. انظر: لسان العرب 15 / 247 - لطا.
2- (114) كنز العمال 15 / 736 ح 42932.
3- (115) منتهى المطلب 1 / 462.

أن أرض البقيع ليست وقفا، بل هي باقية على إباحتها الأصلية، ولو شككنا في وقفيتها يكفينا استصحاب إباحتها.

وأقول: بل وقفيتها غير مانع عن البناء، لأنها موقفة مقبرة على جميع الشؤون المرعية في المقابر، ومنها: البناء على قبور أشخاص مخصوصين كالأصفياء، فإن البناء على القبور ليس أمرا حديثا، بل كان أمرا متعارفا من قديم الأيام.

ص: 74

الفصل الرابع: في الصلاة عند القبور، وإيقاد السرج عليها

[الصلاة عند القبور:]

وقد جرت سيرة المسلمين - السيرة المستمرة - على جواز ذلك.

وأما حديث ابن عباس: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج " (1) فالظاهر والمتبادر - من اتخاذ المسجد على القبر -: السجود على نفس القبر، وهذا غير الصلاة عند القبر.

هذا لو حملنا المساجد على المعنى اللغوي.

ولو حملناه على المعنى الاصطلاحي، فالمذموم اتخاذ المسجد عند القبور، لا مجرد إيقاع الصلاة، كما هو المتعارف بين المسلمين، فإنهم لا يتخذون المساجد على المراقد، فإن اتخاذ المسجد ينافي الغرض في إعداد ما حول القبر إعانة للزوار على الجلوس لتلاوة القرآن وذكر الله والدعاء والاستغفار، بل يصلون عندها، كما يأتون بسائر العبادات هنالك.

هذا، مع أن اللعن غير دال على الحرمة، بل يجامع الكراهة أيضا.

ص: 75


1- (116) سنن أبي داود 3 / 218 ح 3236، سنن النسائي 4 / 95.

[إيقاد السرج:]

وأما إيقاد السرج، فإن الرواية لا تدل إلا على ذم الإسراج لمجرد إضاءة القبر، وأما الإسراج لإعانة الزائرين على التلاوة والصلاة والزيارة وغيرها، فلا دلالة في الرواية على ذمه.

وإن شئت توضيح ذلك فارجع إلى هذا المثل:

إنك لو أضعت شيئا عند قبر، فأسرجت هناك لطلب ضالتك، فهل في تلك الرواية دلالة على ذم هذا العمل؟! فكذلك ما ذكرناه.

هذا، مع ما عرفت أن اللعن - حقيقة - هو البعد من الرحمة، ولا يستلزم الحرمة، فإن عمل المكروه - أيضا - مبعد من الله، كما أن فعل المستحب مقرب إليه عز وجل.

هذا، وذكر بعض العلماء في الجواب: أن المقصود من النهي عن اتخاذ القبور مساجد، أن لا تتخذ قبلة يصلى إليها باستقبال أي جهة منها، كما كان يفعله بعض أهل الملل الباطلة.

ومما يدل عليه ما رواه مسلم في " الصحيح ": عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل يوم القيامة (1) .

وقال صلى الله عليه وسلم: لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2).

ص: 76


1- (117) صحيح مسلم 1 / 376 ح 528.
2- (118) مسند أحمد 2 / 285.

فإنه من المعلوم لدى الخبراء بتقاليد أولئك المبطلين، أنهم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد على الوجه المذكور، وذلك بجعل ما برز من أثر القبر قبلة: وما دار حوله من الأرض مصلي، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير إنه خشي أن يتخذ مسجدا (1).

فلو كان اتخاذه مسجدا على معنى إيقاع الصلاة عنده - وإن كان التوجه بها إلى الكعبة - لما كان الإبراز سببا لحصول الخشية، فإن الصلاة - كذلك - غير موقوفة على أن يكون للقبر أثر بارز، وإنما الذي يتوقف على بروز الأثر هو:

الصلاة إليه نفسه.

انتهى.

ثم استشهد بكلام النووي في شرح صحيح مسلم، قال:

" قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدا خوفا من الافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية، ولما احتاجت الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة - رضي الله عنها - بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله، لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام ويؤدي إلى المحذور.

ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر، ولهذا قال في الحديث: (ولولا

ص: 77


1- (119) مسند أحمد 6 / 80، صحيح مسلم 1 / 376 ح 529.

ذلك لأبرز قبره، غير إنه خشي أن يتخذ مسجدا) والله العالم بالصواب " (1).

انتهى.

ثم استظهر العالم المومى إليه أن يكون الإسراج المنهي عنه:

أما الإسراج على قبور أولئك المبطلين الذين كانوا يتخذونها قبلة، كما ربما يشهد بذلك سياق الحديث المومى إليه.

أو الإسراج الذي يتخذه بعض جهلة المسلمين على مقابر موتاهم في ليال مخصوصة، لأجل إقامة المناجاة عليها والنوح على أهلها بالباطل.

ص: 78


1- (120) شرح النووي على صحيح مسلم 5 / 13 - 14.

الفصل الخامس: في الذبائح والنذور

إعلم أن من المسائل المسلمة الواضحة الضرورية عند طوائف المسلمين:

اختصاص الذبح والتقرب بالقربان به سبحانه، فلا يصح الذبح إلا لله.

وهكذا أمر النذر، فمن المؤكد المتفق عليه بين طوائف المسلمين أن النذر لا يصح إلا لله، ولذا يذكر في صيغته: لله علي كذا.

أما الذبح عن الأموات، فلا بد أن يكون لله وحده وإن كان عن الميت، وكم بين الذبح عن الميت والذبح له، والممنوع هو الثاني لا الأول.

قال بعض العلماء - رحمه الله - في " المنهج " (1): وأما من ذبح عن الأنبياء والأوصياء والمؤمنين، ليصل الثواب إليهم - كما نقرأ القرآن ونهدي إليهم، ونصلي لهم، وندعو لهم، ونفعل جميع الخيرات عنهم - ففي ذلك أجر عظيم.

وليس قصد أحد من الذابحين للأنبياء أو لغير الله سوى ذلك.

أما العارفون منهم فلا كلام، وأما الجهال فهم على نحو عرفائهم.

ص: 79


1- (121) ورد مضمونه في: منهج الرشاد: 160.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذبح بيده وقال: اللهم هذا عني وعن من لم يضح من أمتي.

رواه أحمد وأبو داود والترمذي (1)... إلى آخره.

وقال بعض المعاصرين:

أما التقرب إلى الضرائح بالنذور ودعاء أهلها مع الله، فلا نعهد واحدا من أوباش المسلمين وغيرهم يفعل ذلك، وإنما ينذرون لله بالنذر المشروع، فيجعلون المنذور في سبيل إعانة الزائرين على البر، أو للإنفاق على الفقراء والمحاويج، لإهداء ثوابه لصاحب القبر، لكونه من أهل الكرامة في الدين والقربى... إلى آخره.

وهذا أوان اختتام الرسالة، وأرجو أن ينفع الله بها، أنه هو المتفضل المنان.

وقد حصل الفراغ منه بيد مؤلفه الفقير إلى الله:

عبد الله، أحد طلبة العراق، في ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول، سنة خمس وأربعين بعد ألف وثلاثمائة هجرية.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 80


1- (122) مسند أحمد 3 / 356 و 362، سنن أبي داود 3 / 99 ح 2810 وليس فيه: " اللهم "، ونحوه في سنن الترمذي 4 / 91 ح 1505.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.