صلح الحسن عليه السلام

اشارة

پديدآور: شرف الدين، عبدالحسين1873-1958م.,Sharaf-Din, Abdul Husayn
مقدمة عبدالحسين شرف الدين العاملي
ناشر: موسسه تحقيقات و نشر معارف اهل البيت (ع)
موضوع: صلح با معاويه
حسن بن علي (ع)، امام دوم، 3-50ق.

صفحه 001

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١
صلح الحسن عليه السلام مقدمة الامام السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي
(١)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، السيد عبد الحسين شرف الدين (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)

صفحه 002

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢
الفهرس
(٢)

صفحه 003

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣
المقدمة القسم الأول الإمام الحسن " ع " القسم الثاني: في الموقف السياسي قبل البيعة البيعة قبول الخلافة الكوفة أيام البيعة التصميم علي الحرب النفير والقيادة عدد الجيش عناصر الجيش عبيد الله بن عباس القسم الثالث: الصلح، دوافع الفريقين للصلح معاهدة الصلح صورة المعاهدة التي وقعها الفريقان دراسة النصوص البارزة في المعاهدة الاجتماع في الكوفة الميدان الجديد الوفاء بالشروط هكذا بايع معاوية ليزيد معاوية وشيعة علي " عليه السلام " معاوية وزعماء الشيعة أ - الشهداء المقتولون صبرا..
(1 - حجر بن عدي الكندي) السبب في قتله موقف الكوفة في حادثة حجر مقتله فاجعته في المسلمين الأحاديث في حجر وأصحابه الشهداء من أصحاب حجر 2 - عمرو بن الحمق الخزاعي 3 - عبد الله بن يحيي الحضرمي وأصحابه 4 - رشيد الهجري 5 - جويرية بن مسهر العبدي 6 - أوفي بن حصن التعذيب بغير القتل ب - زعماء الشيعة المرعون..
(1 - عبد الله بن هاشم المرقال) 2 - عدي بن حاتم الطائي 3 - صعصعة بن صوحان 4 - عبد الله بن خليفة الطائي نهاية المطاف خاتمة: في الموازنة بين ظروف الحسن وظروف الحسين 1 - ظروفهما من أنصارهما 2 - ظروفهما من أعدائهما
(٣)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، مدينة الكوفة (3)، صلح (يوم) الحديبية (3)، عبد الله بن خليفة الطائي (1)، عبد الله بن يحيي الحضرمي (1)، عبد الله بن هاشم (1)، حجر بن عدي الكندي (1)، جويرية بن مسهر (1)، صعصعة بن صوحان (1)، عدي بن حاتم (1)، رشيد الهجري (1)، عمرو بن الحمق (1)، الشهادة (1)

صفحه 004

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٥
بسم الله الرحمن الرحيم كان صلح الحسن عليه السلام مع معاوية، من أشد ما لقيه أئمة أهل البيت من هذه الأمة بعد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم.
لقي به الحسن عليه السلام محنا يضيق بها الوسع، لا قوة لاحد عليها الا بالله عز وجل. لكنه رضخ لها صابرا محتسبا، وخرج منها ظافرا بما يبتغيه من النصح لله تعالي، ولكتابه عز وجل، ولرسوله، ولخاصة المسلمين وعامتهم، وهذا الذي يبتغيه ويحرص عليه في كل ما يأخذ أو يدع من قول أو فعل.
ولا وزن لمن اتهمه بأنه أخلد بصلحه إلي الدعة، وآثر العافية والراحة، ولا لمن طوحت بهم الحماسة من شيعته فتمنوا عليه لو وقف في جهاد معاوية فوصل إلي الحياة من طريق الموت، وفاز بالنصر والفتح من الجهة التي انطلق منها صنوه يوم الطف إلي نصره العزيز، وفتحه المبين.
ومن الغريب بقاء الناس في عشواء غماء من هذا الصلح إلي يومهم هذا، لا يقوم أحد منهم في بيان وجهة الحسن في صلحه، بمعالجة موضوعية مستوفاة ببيانها وبيناتها، عقلية ونقلية، وكم كنت أحاول ذلك، لكن الله عز وجل شاء بحكمته أن يختص بهذه المأثرة من هو أولي بها، وأحق بكل فضيلة، ذلك هو مؤلف هذا السفر البكر " صلح الحسن " فإذا هو في موضوعه فصل الخطاب، ومفصل الصواب، والحد الفاصل بين الحق والباطل.
وقفت منه علي فصول غر، تمثل فضل مؤلفها الأغر الأبر، في كل ما
(٥)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (2)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، يوم عاشوراء (1)، كتاب فصل الخطاب لسليمان أخ محمد بن عبد الوهاب (1)، صلح (يوم) الحديبية (3)، الموت (1)، العزّة (1)، الوسعة (1)، الباطل، الإبطال (1)

صفحه 005

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٦
يشتركان فيه من التحقيق، والدقة والاعتدال، وسطوع البيان والبرهان، والتأنق والتتبع، والورع في النقل، والرحابة في المناظرة، والإحاطة بما يناسب الموضوع، مع سهولة الأسلوب، وانسجام التراكيب، وبلاغة الايجاز إذا أوجز، وقبول الاطناب إذا أطنب.
فالكتاب يخضع لفكر منظم مبدع حجة، يصل وحدته بجداول دفاقة بالثراء العقلي والنقلي، وبروادف غنية كل الغني، في كل ما يرجع إلي الموضوع، ويتم عليه عناصره القيمة.
فالاناقة فيه تخامر الاستيعاب، والوضوح يلازم العمق، والنقد التحليلي مرتكز هذه الخصائص.
أما المؤلف - أعلي الله مقامه - فإنك تستطيع أن تستشف ملامحه، من حيث تنظر إلي مواهبه في كتابه هذا، ولو لم أره لقدرت أن أرسم له صورة أستوحي قسماتها من هذا السفر، إذ يريكه واضح الغرة، مشرق الوجه، حلو الحديث، هادئ الطبع، واسع الصدر، لين العريكة، وافر الذهن، غزير الفهم والعلم، واسع الرواية، حسن الترسل، حلو النكتة، لطيف الكناية، بديع الاستعارة، تنطق الحكمة من محاسن خلاله، ويتمثل الفضل بكل معانيه في منطقه وأفعاله، لا تري أكرم منه خلقا، ولا أنبل فطرة، عليما زاخرا بعلوم آل محمد، علامة بحاثة، أمعن في التنقيب عن أسرارهم، يستجلي غوامضها، ويستبطن دخائلها، لا تفوته منها واردة ولا شاردة، إلي خصائص في ذاته وسماته يمثلها كتابه هذا بجلاء.
ومن أمعن فيما اشتمل عليه هذا الكتاب، من أحوال الحسن ومعاوية، علم انهما لم ترتجلهما المعركة ارتجالا، وانما كانا في جبهتيهما خليفتين، استخلفهما الميراث علي خلقين متناقضين: فخلق الحسن انما هو خلق الكتاب والسنة، وان شئت فقل خلق محمد وعلي. وأما خلق معاوية فإنما هو خلق " الأموية "، وان شئت فقل: خلق أبي سفيان وهند، علي نقيض ذلك الخلق.
(٦)
مفاتيح البحث: الدولة الأموية (1)، الكرم، الكرامة (1)، الغني (1)، الوسعة (2)، الحج (1)، الوراثة، التراث، الإرث (1)

صفحه 006

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٧
والمتوسع في تاريخ البيتين وسيرة إبطالهما من رجال ونساء يدرك ذلك بجميع حواسه.
لكن لما ظهر الاسلام، وفتح الله لعبده ورسوله فتحه المبين، ونصره ذلك النصر العزيز، انقطعت نوازي الشر " الأموي "، وبطلت نزعات أبي سفيان ومن اليه مقهورة مبهورة، متوارية بباطلها من وجه الحق الذي جاء به محمد عن ربه عز وجل، بفرقانه الحكيم، وصراطه المستقيم، وسيوفه الصارمة لكل من قاومه.
وحينئذ لم يجد أبو سفيان وبنوه ومن إليهم بدا من الاستسلام، حقنا لدمائهم المهدورة يومئذ لو لم يستسلموا، فدخلوا فيما دخل فيه الناس، وقلوبهم تنغل بالعدواة له، وصدورهم تجيش بالغل عليه، يتربصون الدوائر بمحمد ومن اليه، ويبغون الغوائل لهم. لكن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم كان - مع علمه بحالهم - يتألفهم بجزيل الأموال، وجميل الأقوال والافعال، ويتلقاهم بصدر رحب، ومحيا منبسط، شأنه مع سائر المنافقين من أهل الحقد عليه، يبتغي استصلاحهم بذلك.
وهذا ما اضطرهم إلي اخفاء العداوة له، يطوون عليها كشحهم خوفا وطمعا، فكاد الناس بعد ذلك ينسون " الأموية " حتي في موطنها الضيق - مكة -.
اما في ميادين الفتح بعد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، فلم تعرف " الأموية " بشيء، سوي أنها من أسرة النبي ومن صحابته.
ثم أتيح بعد النبي لقوم ليسوا من عترته، أن يتبوأ مقعده، وأتيح لمعاوية في ظلهم أن يكون من أكبر ولاة المسلمين، أميرا من أوسع أمرائهم صلاحية في القول والعمل.
ومعاوية إذ ذاك يتخذ بدهائه من الاسلام سبيلا يزحف منه إلي الملك العضوض، ليتخذ به دين الله دغلا، وعباد الله خولا، ومال الله دولا، كما انذر به رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، فكان ذلك من اعلام نبوته.
(٧)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (3)، الدولة الأموية (2)، مدينة مكة المكرمة (1)، النفاق (1)، العزّة (1)

صفحه 007

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٨
نشط معاوية في عهد الخليفتين الثاني والثالث، بإمارته علي الشام عشرين سنة، تمكن بها في أجهزة الدولة، وصانع الناس فيها وأطمعهم به فكانت الخاصة في الشام كلها من أعوانه، وعظم خطره في الاسلام، وعرف في سائر الأقطار بكونه من قريش - أسرة النبي صلي الله عليه وآله وسلم - وأنه من أصحابه، حتي كان في هذا أشهر من كثير من السابقين الأولين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، كأبي ذر وعمار والمقداد وأضرابهم.
هكذا نشأت " الأموية " مرة أخري، تغالب الهاشمية باسم الهاشمية في علنها، وتكيد لها كيدها في سرها، فتندفع مع انطلاق الزمن تخدع العامة بدهائها، وتشتري الخاصة بما تغذقه عليهم من أموال الأمة، وبما تؤثرهم به من الوظائف التي ما جعلها الله للخونة من أمثالهم، تستغل مظاهر الفتح واحراز الرضا من الخلفاء.
حتي إذا استتب أمر " الأموية " بدهاء معاوية، انسلت إلي احكام الدين انسلال الشياطين، تدس فيها دسها، وتفسد افسادها، راجعة بالحياة إلي جاهلية تبعث الاستهتار والزندقة، وفق نهج جاهلي، وخطة نفعية، ترجوها " الأموية " لاستيفاء منافعها، وتسخرها لحفظ امتيازاتها.
والناس - عامة - لا يفطنون لشيء من هذا، فان القاعدة المعمول بها في الاسلام - أعني قولهم: الاسلام يجب ما قبله - ألقت علي فظائع " الأموية " سترا حجبها، ولا سيما بعد أن عفا عنها رسول الله وتألفها، وبعد أن قربها الخلفاء منهم، واصطفوها بالولايات علي المسلمين، وأعطوها من الصلاحيات ما لم يعطوا غيرها من ولاتهم. فسارت في الشام سيرتها عشرين عاما (لا يتناهون عن منكر فعلوه) ولا ينهون.
وقد كان الخليفة الثاني عظيم المراقبة لعماله، دقيق المحاسبة لهم، لا يأخذه في ذلك مانع من الموانع أصلا: تعتع بخالد بن الوليد، عامله علي " قنسرين " إذ بلغه أنه اعطي الأشعث عشرة آلاف، فأمر به فعقله " بلال الحبشي " بعمامته، وأوقفه بين يديه علي رجل واحدة، مكشوف الرأس،
(٨)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، الدولة الأموية (4)، الخليفة عمر بن الخطاب (1)، خالد بن الوليد (1)، الشام (3)، الجهل (1)

صفحه 008

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٩
علي رؤوس الاشهاد من رجال الدولة ووجوه الشعب في المسجد الجامع بحمص، يسأله عن العشرة آلاف: أهي من ماله أم من مال الأمة؟ فان كانت من ماله فهو الاسراف، والله لا يحب المسرفين. وان كانت من مال الأمة فهي الخيانة، والله لا يحب الخائنين، ثم عزله فلم يوله بعد حتي مات.
ودعا أبا هريرة، فقال له: " علمت أني استعملتك علي البحرين، وأنت بلا نعلين! ثم بلغني أنك ابتعت أفراسا بألف دينار وستمائة دينار! " قال: " كانت لنا أفراس تناتجت، وعطايا تلاحقت ". قال: " حسبت لك رزقك ومؤونتك وهذا فضل فأده ". قال: " ليس لك ذلك ". قال: " بلي وأوجع ظهرك ". ثم قام اليه بالدرة فضربه حتي أدماه. ثم قال: " إئت بها ". قال: " احتسبها عند الله ". قال: " ذلك لو أخذتها من حلال، وأديتها طائعا!. أجئت من أقصي حجر البحرين يجبي الناس لك لا لله ولا للمسلمين؟ ما رجعت بك أميمة - يعني أمه - الا لرعية الحمر ".
وفي حديث أبي هريرة: " لما عزلني عمر عن البحرين، قال لي: يا عدو الله وعدو كتابه، سرقت مال الله! فقلت: ما أنا عدو الله وعدو كتابه، ولكني عدو من عاداك، وما سرقت مال الله. قال: فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟ فقلت: خيل تناتجت، وعطايا تلاحقت، وسهام تتابعت. قال: فقبضها مني " الحديث.
وكم لعمر مع عماله من أمثال ما فعله بخالد وأبي هريرة يعرفها المتتبعون.
عزل كلا من أبي موسي الأشعري، وقدامة بن مظعون، والحارث بن وهب، أحد بني ليث بن بكر، بعد أن شاطرهم أموالهم (1).
هذه مراقبة عمر لعماله، لا هوادة عنده لاحد منهم، لكن معاوية كان أثيره وخلصه، علي ما كان من التناقض في سيرتيهما. ما كف يده عن شئ ولا ناقشه الحساب في شئ، وربما قال له: " لا آمرك ولا أنهاك " يفوض له العمل برأيه.
(1) فيما رواه الزبير بن بكار في كتابه - الموفقيات - ونقله عنه ابن حجر في ترجمة الحارث بن وهب في القسم الأول من اصابته.
(٩)
مفاتيح البحث: أبو هريرة العجلي (3)، قدامة بن مظعون (1)، الموت (1)، الإسراف (1)، السجود (1)، الزبير بن بكار (1)

صفحه 009

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٠
وهذا ما أطغي معاوية، وأرهف عزمه علي تنفيذ خططه " الأموية ". وقد وقف الحسن والحسين من دهائه ومكره إزاء خطر فظيع، يهدد الاسلام باسم الاسلام، ويطغي علي نور الحق باسم الحق، فكانا في دفع هذا الخطر، أمام أمرين لا ثالث لهما: اما المقاومة، واما المسالمة. وقد رأيا أن المقاومة في دور الحسن تؤدي لا محالة إلي فناء هذا الصف المدافع عن الدين وأهله، والهادي إلي الله عز وجل، والي صراطه المستقيم. إذ لو غامر الحسن يومئذ بنفسه وبالهاشميين وأوليائهم، فواجه بهم القوة التي لا قبل لهم بها (1) مصمما علي التضحية، تصميم أخيه يوم " الطف " لانكشفت المعركة عن قتلهم جميعا، ولانتصرت " الأموية " بذلك نصرا تعجز عنه إمكانياتها، ولا تنحسر عن مثله أحلامها وأمنياتها. إذ يخلو بعدهم لها الميدان، تمعن في تيهها كل امعان، وبهذا يكون الحسن - وحاشاه - قد وقع فيما فر منه علي أقبح الوجوه، ولا يكون لتضحيته أثر لدي الرأي العام الا التنديد والتفنيد (2).
(1) كما أوضحه الشيخ في كتابه هذا.
(2) لان معاوية كان يطلب الصلح ملحا علي الحسن بذلك، وكان يبذل له من الشروط لله تعالي وللأمة كل ما يشاء، يناشده الله في حقن دماء أمة جده، وقد أعلن طلبه هذا فعلمه المعسكران، مع ان الغلبة كانت في جانبه لو استمر القتال، يعلم ذلك الحسن ومعاوية وجنودهما، فلو أصر الحسن - والحال هذه - علي القتال، ثم كانت العاقبة عليه لعذله العاذلون وقالوا فيه ما يشاؤون.
ولو اعتذر الحسن يومئذ بأن معاوية لا يفي بشرط، ولا هو بمأمون علي الدين ولا علي الأمة، لما قبل العامة يومئذ عذره، إذ كانت مغرورة بمعاوية كما أوضحناه. ولم تكن الأموية يومئذ سافرة بعيوبها سفورا بينا بما يؤيد الحسن أو يخذل معاوية كما أسلفنا بيانه من اغترار الناس بمعاوية وبمكانته من أولي الامر الأولين، لكن انكشف الغطاء، في دور سيد الشهداء فكان لتضحيته عليه السلام من نصرة الحق وأوليائه آثاره الخالدة والحمد لله رب العالمين.
اقرأ فصل " سر الموقف " من هذا الكتاب.
(١٠)
مفاتيح البحث: يوم عاشوراء (1)، الدولة الأموية (3)، القتل (3)، النفاذ، التنفيذ (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، الخلود (1)، الشهادة (1)

صفحه 010

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١١
ومن هنا رأي الحسن عليه السلام أن يترك معاوية لطغيانه، ويمتحنه بما يصبو اليه من الملك، لكن أخذ عليه في عقد الصلح، أن لا يعدو الكتاب والسنة في شئ من سيرته وسيرة أعوانه ومقوية سلطانه، وأن لا يطلب أحدا من الشيعة بذنب أذنبه مع الأموية، وأن يكون لهم من الكرامة وسائر الحقوق ما لغيرهم من المسلمين، وأن، وأن، وأن. إلي غير ذلك من الشروط التي كان الحسن عالما بأن معاوية لا يفي له بشيء منها وأنه سيقوم بنقائضها (1).
هذا ما أعده عليه السلام لرفع الغطاء عن الوجه " الأموي " المموه، ولصهر الطلاء عن مظاهر معاوية الزائفة، ليبرز حينئذ هو وسائر أبطال " الأموية " كما هم جاهليين، لم تخفق صدورهم بروح الاسلام لحظة، ثأرين لم تنسهم مواهب الاسلام ومراحمه شيئا من أحقاد بدر واحد والأحزاب.
وبالجملة فان هذه الخطة ثورة عاصفة في سلم لم يكن منه بد، أملاه ظرف الحسن، إذ التبس فيه الحق بالباطل، وتسني للطغيان فيه سيطرة مسلحة ضارية.
ما كان الحسن ببادئ هذه الخطة ولا بخاتمها، بل أخذها فيما أخذه من ارثه، وتركها مع ما تركه من ميراثه. فهو كغيره من أئمة هذا البيت، يسترشد الرسالة في اقدامه وفي احجامه. امتحن بهذه الخطة فرضخ لها صابرا محتسبا وخرج منها ظافرا طاهرا، لم تنجسه الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسه من مدلهمات ثيابها.
أخذ هذه الخطة من صلح " الحديبية " فيما أثر من سياسة جده صلي الله عليه وآله وسلم، وله فيه أسوة حسنة، إذ أنكر عليه بعض الخاصة من أصحابه، كما أنكر علي الحسن صلح " ساباط " بعض الخاصة من أوليائه، فلم يهن بذلك عزمه، ولا ضاق به ذرعه.
وقد ترك هذه الخطة نموذجا صاغ به الأئمة التسعة - بعد سيدي
(1) اقرأ ما يتعلق بنصوص المعاهدة وشروطها ومدي وفاء معاوية بكل منها في فصول هذا الكتاب.
(١١)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الدولة الأموية (2)، صلح (يوم) الحديبية (3)، الباطل، الإبطال (1)، الكرم، الكرامة (1)، اللبس (1)، الطهارة (1)، الجهل (1)

صفحه 011

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٢
شباب أهل الجنة - سياستهم الحكيمة، في توجيهها الهادئ الرصين، كلما اعصوصب الشر. فهي إذا جزء من سياستهم الهاشمية الدائرة أبدا علي نصرة الحق، لا علي الانتصار للذات فيما تأخذ أو تدع.
تهيأ للحسن بهذا الصلح أن يغرس في طريق معاوية كمينا من نفسه يثور عليه من حيث لا يشعر فيرديه، وتسني له به أن يلغم نصر الأموية ببارود الأموية نفسها. فيجعل نصرها جفاءا، وريحا هباءا.
لم يطل الوقت حتي انفجرت أولي القنابل المغروسة في شروط الصلح، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره، إذ انضم جيش العراق إلي لوائه في النخيلة. فقال - وقد قام خطيبا فيهم -: " يا أهل العراق، اني والله لم أقاتلكم لتصلوا ولا لتصوموا، ولا لتزكوا، ولا لتحجوا، وانما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون!. ألا وان كل شئ أعطيته للحسن بن علي جعلته تحت قدمي هاتين! ".
فلما تمت له البيعة خطب فذكر عليا فنال منه، ونال من الحسن، فقام الحسين ليرد عليه، فقال له الحسن: " علي رسلك يا أخي ". ثم قام عليه السلام فقال: " أيها الذاكر عليا! أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله وجدك عتبة، وجدتي خديجة وجدتك فتيلة، فلعن الله أخملنا ذكرا، وألأمنا حسبا، وشرنا قديما، وأقدمنا كفرا ونفاقا! " فقالت طوائف من أهل المسجد: " آمين ".
ثم تتابعت سياسة معاوية، تتفجر بكل ما يخالف الكتاب والسنة من كل منكر في الاسلام، قتلا للأبرار، وهتكا للاعراض، وسلبا للأموال، وسجنا للأحرار، وتشريدا للمصلحين، وتأييدا للمفسدين الذين جعلهم وزراء دولته، كابن العاص، وابن شعبة، وابن سعيد، وابن أرطأة، وابن جندب، وابن السمط، وابن الحكم، وابن مرجانة، وابن عقبة، وابن سمية الذي نفاه عن أبيه الشرعي عبيد، وألحقه بالمسافح أبيه أبي سفيان ليجعله بذلك أخاه، يسلطه علي الشيعة في العراق، يسومهم سوء العذاب،
(١٢)
مفاتيح البحث: الدولة الأموية (2)، دولة العراق (3)، صلح (يوم) الحديبية (2)، ابن مرجانة لعنه الله (1)، السجود (1)، الموت (1)، العذاب، العذب (1)

صفحه 012

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٣
يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ويفرقهم عباديد، تحت كل كوكب، ويحرق بيوتهم، ويصطفي أموالهم، لا يألو جهدا في ظلمهم بكل طريق.
ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعة المهتوك علي رقاب المسلمين، يعيث في دينهم ودنياهم، فكان من خليعة ما كان يوم الطف، ويوم الحرة، ويوم مكة إذ نصب عليها العرادات والمجانيق!.
هذه خاتمة أعمال معاوية، وانها لتلائم كل الملاءمة فاتحة أعماله القاتمة.
وبين الفاتحة والخاتمة تتضاغط شدائد، وتدور خطوب، وتزدحم محن، ما أدري كيف اتسعت لها مسافة ذلك الزمن، وكيف اتسع لها صدر ذلك المجتمع؟ وهي - في الحق - لو وزعت علي دهر لضاق بها، وناء بحملها، ولو وزعت علي عالم لكان جديرا أن يحول جحيما لا يطاق.
ومهما يكن من أمر، فالمهم أن الحوادث جاءت تفسر خطة الحسن وتجلوها. وكان أهم ما يرمي اليه سلام الله عليه، أن يرفع اللثام عن هؤلاء الطغاة، ليحول بينهم وبين ما يبيتون لرسالة جده من الكيد.
وقد تم له كل ما أراد، حتي برح الخفاء، وآذن أمر الأموية بالجلاء، والحمد لله رب العالمين.
وبهذا استتب لصنوه سيد الشهداء أن يثور ثورته التي أوضح الله بها الكتاب، وجعله فيها عبرة لأولي الألباب.
وقد كانا عليهما السلام وجهين لرسالة واحدة، كل وجه منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها، يكافئ الآخر في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها.
فالحسن لم يبخل بنفسه، ولم يكن الحسين أسخي منه بها في سبيل الله، وانما صان نفسه يجندها في جهاد صامت، فلما حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادة حسنية، قبل ان تكون حسينية.
وكان يوم ساباط أعرق بمعاني التضحية من يوم الطف لدي اولي
(١٣)
مفاتيح البحث: يوم عاشوراء (2)، الدولة الأموية (1)، مدينة كربلاء المقدسة (1)، مدينة مكة المكرمة (1)، سبيل الله (1)، الذبح (1)، الإخفاء (1)، الشهادة (3)، الوسعة (1)

صفحه 013

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٤
الألباب ممن تعمق.
لان الحسن عليه السلام، أعطي من البطولة دور الصابر علي احتمال المكاره في صورة مستكين قاعد.
وكانت شهادة " الطف " حسنية أولا، وحسينية ثانيا، لان الحسن أنضج نتائجها، ومهد أسبابها.
كان نصر الحسن الدامي موقوفا علي جلو الحقيقة التي جلاها - لأخيه الحسين - بصبره وحكمته، وبجلوها انتصر الحسين نصره العزيز وفتح الله له فتحه المبين.
وكانا عليهما السلام كأنهما متفقان علي تصميم الخطة: أن يكون للحسن منها دور الصابر الحكيم، وللحسين دور الثائر الكريم، لتتألف من الدورين خطة كاملة ذات غرض واحد.
وقد وقف الناس - بعد حادثتي ساباط والطف - يمعنون في الاحداث فيرون في هؤلاء الأمويين عصبة جاهلية منكرة، بحيث لو مثلت العصبيات الجلفة النذلة الظلوم لم تكن غيرهم، بل تكون دونهم في الخطر علي الاسلام وأهله.
رأي الناس من هؤلاء الأمويين، قردة تنزو علي منبر رسول الله، تكشر للأمة عن أنياب غول، وتصافحها بأيد تمتد بمخالب ذئب، في نفوس تدب بروح عقرب.
رأوا فيهم هذه الصورة منسجمة شائعة متوارثة، لم تخفف من شرها التربية الاسلامية، ولم تطامن من لؤمها المكارم المحمدية. فمضغ الأكباد يوم هند وحمزة، يرتقي به الحقد الأموي الأثيم، حتي يكون تنكيلا بربريا يوم الطف، لا يكتفي بقتل الحسين، حتي يوطئ الخيل صدره وظهره. ثم لا يكتفي بذلك، حتي يترك عاريا بالعراء، لوحوش الأرض وطير السماء، ويحمل رأسه ورؤوس الشهداء من آله وصحبه علي أطراف الأسنة إلي الشام. ثم لا يكتفي بهذا كله، حتي يوقف حرائر الوحي من بنات رسول الله علي درج السبي!!! …
(١٤)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، يوم عاشوراء (3)، الدولة الأموية (2)، رؤوس الشهداء (1)، الشام (1)، الكرم، الكرامة (1)، القتل (1)، العزّة (1)، الشهادة (1)، الجهل (1)

صفحه 014

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٥
رأي الناس الحسن يسالم، فلا تنجيه المسالمة من خطر هذه الوحشية اللئيمة، حتي دس معاوية اليه السم فقتله بغيا وعدوانا. ورأوا الحسين يثور في حين أتيح للثورة الطريق إلي أفهامهم تتفجر فيها باليقظة والحرية، فلا تقف الوحشية الأموية بشيء عن المظالم، بل تبلغ في وحشيتها أبعد المدي.
وكان من الطبيعي أن يتحرر الرأي العام علي وهج هذه النار المحرقة منطلقا إلي زوايا التاريخ وأسراره، يستنزل الأسباب من هنا وهناك بلمعان ويقظة، وسير دائب يدنيه إلي الحقيقة، حقيقة الانحراف عن آل محمد، حتي يكون أمامها وجها لوجه، يسمع همسها هناك في الصدر الأول، وهي تسار وراء الحجب والاستار، وتدبر الامر في اصطناع هذا " الداهية الظلوم الأموي " اصطناعا يطفئ نور آل محمد، أو يحول بينه وبين الأمة.
نعم أدرك الرأي العام بفضل الحسن والحسين وحكمة تدبيرهما كل خافية من أمر " الأموية " وأمور مسددي سهمها علي نحو واضح.
أدرك - فيما يتصل بالأمويين - أن العلاقة بينهم وبين الاسلام انما هي علاقة عداء مستحكم، ضرورة أنه إذا كان الملك هو ما تهدف اليه الأموية، فقد بلغه معاوية، وأتاح له الحسن، فما بالها تلاحقه بالسم وأنواع الظلم والهضم، وتتقصي الأحرار الأبرار من أوليائه لتستأصل شأفتهم وتقتلع بذرتهم؟! …
وإذا كان الملك وحده هو ما تهدف اليه الأموية، فقد أزيح الحسين من الطريق، وتم ليزيد ما يريد، فما بالها لا تكف ولا ترعوي، وانما تسرف أقسي ما يكون الاسراف والاجحاف في حركة من حركات الافناء علي نمط من الاستهتار، لا يعهد في تاريخ الجزارين والبرابرة؟؟..
أما ما أنتجته هذه المحاكمة لأولي الألباب، فذلك ما نترك تقديره وبيانه للعارفين بمنابع الخير، ومطالع النور في التاريخ الاسلامي، علي انا فصلناه بآياته وبيناته في مقدمة " المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة "
(١٥)
مفاتيح البحث: الدولة الأموية (4)، الظلم (2)، الإسراف (1)

صفحه 015

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٦
فليراجع، ولنكتف الآن بالإشارة إلي ما قلناه في التوحيد بين صلح الحسن وثورة الحسين، والتعاون بين هذين المظهرين، علي كشف القناع عن الوجه الأموي المظلم، والاعلان عن الحقيقة الأموية، فأقول عودا علي بدء: كانت شهادة الطف حسنية أولا، وحسينية ثانيا. وكان يوم ساباط، أعرق بمعاني الشهادة والتضحية من يوم الطف عند من تعمق واعتدل وأنصف.
الفضل في كشف هذه الحقيقة انما هو لمولانا ومقتدانا علم الأمة، والخبير بأسرار الأئمة، حجة الاسلام والمسلمين، شيخنا المقدس الشيخ راضي آل ياسين أعلي الله مقامه.
ذلك لان أحدا من الاعلام لم يتفرغ لهذه المهمة تفرغه لها في هذا الكتاب الفذ الذي لا ثاني له، وها هو ذا مشرف من القمة علي الأمة، ليسد في مكتبتها فراغا كانت في فاقة إلي سده، فجزاه الله عن الأمة وعن الأئمة، وعن غوامض العلم التي استجلاها، ومخبآته التي استخرجها، ومحص حقائقها، خير جزاء المحسنين، وحشره في أعلي عليين [مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا].
حرر في صور (جبل عامل).
في الخامس عشر من رجب سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة والف من الهجرة.
عبد الحسين شرف الدين الموسوي العاملي المقدمة
(١٦)
مفاتيح البحث: الثورة الحسينية (1)، يوم عاشوراء (2)، الدولة الأموية (1)، السيد عبد الحسين شرف الدين (1)، شهر رجب المرجب (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، الشهادة (3)، الحج (1)

صفحه 016

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٧
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلي الله علي محمد وآله وصحبه وهأنذا مقدم - الآن - بين يدي قارئي الكريم، عصارة بحوث تستملي حقايقها من صميم الواقع غير مدخول بالشكوك، ولا خاضع للمؤثرات عن الحقبة المظلومة التاريخ، التي لم يحفل في عرضها، بما تستحق - مؤرخونا القدامي، ولم يعن في تحليلها - كما يجب - كتابنا المحدثون.
تلك هي قطعة الزمن التي كانت عهد خلافة الحسن بن علي في الاسلام والتي جاءت بين دوافع الأولين، وتساهل الآخرين، صورة مشوهة من صور التاريخ. وتعرضت في مختلف أدوارها لما كان يجب ان يتعرض له أمثالها من الفترات المطموسة المعالم، المنسية للحقائق، المقصودة - علي الأكثر - بالاهمال أو بالتشويه، فإذا بالحسن بن علي (عليه وعلي أبيه أفضل الصلاة والسلام) في عرف الأكثرين من المتسرعين بأحكامهم - من شرقيين وغربيين - الخليفة الضعيف السياسة! التوفر علي حب النساء! الذي باع " الخلافة " لمعاوية بالمال!!.. إلي كثير من هذا الهذر الظالم، الذي لا يستند في مقاييسه علي منطق، ولا يرجع في تحكماته إلي دليل، ولا يعني في ارتجالياته بتحقيق أو تدقيق.
وعمدت هذه الفصول إلي تقلية هذه الحقبة القصيرة من الزمن بما هي ظرف احداث لا تقل بأهميتها - في ذاتها - ولا بموقعها " الاستراتيجي " في التاريخ - إذا صح هذا التعبير - عن أعظم الفترات التي مر بها تاريخ
(١٧)
مفاتيح البحث: الحسن بن علي (1)، الكرم، الكرامة (1)، الظلم (1)، الصّلاة (2)

صفحه 017

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٨
الاسلام منذ وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) والي يوم الناس، لأنها كانت ظرف الخلافة الفريدة من نوعها في تاريخ الخلائف الآخرين، ولأنها بداية اقرار القاعدة الجديدة في التمييز بين السلطات الروحية والسلطات الزمنية في الاسلام، واللحظة التي صدقت باحداثها الحديث النبوي الشريف الذي أنبأ برجوع الامر بعد ثلاثين عاما إلي الملك العضوض، ولأنها الفترة التي تبلورت فيها الحزازات الطائفية لأول مرة في تاريخ العقائد الاسلامية.
ولم يكن قليلا من مجهود هذه الفصول، ان ترجع - بعد الجهد المرتخص في سبيلها - بالخبر اليقين عن الكثير من تلك الحقائق - أبعد ما تكون تأتيا في البحث، وأكثر ما تكون تفسخا في المصادر، وأقل ما تكون حظا من تسلسل الحوادث وتناسق الاحداث - فتعرضها في هذه السطور مجلوة علي واقعها الأول، أو علي أقرب صورة من واقعها الذي تنشأت عليه بين أحضان جيلها المختلف الألوان.
فإذا الحسن بن علي (ع) - بعد هذا - وعلي قصر عهده في خلافته، من أطول الخلفاء باعا في الإدارة والسياسة، والرجل الذي بلغ من دقته في تصريف الأمور، وسموه في علاج المشكلات، انه استغفل معاوية بن أبي سفيان أعنف ما يكون في موقفه منه حذرا وانتباها واستعدادا للحبائل والغوائل. وإذا بزواجه الكثير دليل عظمته الروحية في الناس. وإذا " بالصلح " الذي حاكه علي معاوية أداته الجبارة للقضاء علي خصومه في التاريخ، دون ان يكون ثمة اية مساومة علي بيعة أو علي خلافة أو علي مال. وإذا كل خطوات هذا الامام، وكل ايجاب أو سلب في سياسته - مخفقا أو منتصرا - آية من آيات عظمته التي جهلها الناس وظلمها المؤرخون.
وكان من أفظع الكفران لمواهب العظماء، ان يتحكم في تاريخهم وتنسيق مراتبهم، ناس من هؤلاء الناس المأخوذين بسوء الذوق، أو المغلوبين بسوء الطوية، يتظاهرون بالمعرفة ويرتجزون بحسن التفكير، ثم يتحذلقون
(١٨)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، معاوية بن أبي سفيان لعنهما الله (1)، كتاب العقائد الإسلامية لمركز المصطفي (ص) (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، الوفاة (1)

صفحه 018

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٩
بالتطاول علي الكرامات المجيدة، دون روية ولا تدقيق ولا اكتراث، فلا يدلون بتفريطهم في احكامهم الا علي فرط الضعف في نفوسهم.
وليس يضر الحسن بن علي أن تظلمه الضمائر البليدة ثم ينصفه التمييز. وان لهذا الامام من مواقفه ومن مواهبه ومن عمقه ومن أهدافه ما يضعه بالمكان الأسني من صفوة " العظماء " الخالدين.
وحسبنا من هذه السطور، أن تجلو عن طريق المنطق الصحيح الذي لا ينبغي أن يختلف عليه الناس، عظمة هذا الامام، خالصة من كل شوب، سالمة من كل عيب، نقية من كل نقد.
وكانت النقود التي جرح بها وقاح الرأي سياسة الحسن عليه السلام، أبعد ما يكونون - في تجريحهم - عن النصف والعمق والإحاطة بالظرف الخاص، هي التي نسجت كيان المشكلة التاريخية في قضية هذا الامام عليه السلام، وكان للشهوة الحزبية من بعض، ولمسايرة السياسة الحاكمة من آخر، وللجهل بالواقع من ثالث، أثره فيما أسف به المتسرعون إلي أحكامهم.
ونظروا اليه نظرتهم إلي زعيم أخفق في زعامته، وفاتهم أن ينظروا إلي دوافع هذا الاخفاق المزعوم، الذي كان - في حقيقته - انعكاسا للحالة القائمة في الجيل الذي قدر للحسن أن يتزعمه في خلافته، بما كان قد طغي علي هذا الجبل من المغريات التي طلعت بها الفتوح الجديدة علي الناس، وأي غضاضة علي " الزعيم " إذا فسد جيله، أو خانت جنوده، أو فقد مجتمعه وجدانه الاجتماعي.
وفاتهم - بعد ذلك - أن ينظروا اليه كألمع سياسي يدرس نفسيات خصومه ونوازع مجتمعه وعوامل زمنه، فيضع الخطط ويقرر النتائج، ويحفظ بخططه مستقبل أمة بكاملها، ويحفر - بنتائجه - قبور خصومه قبرا قبرا، ويمر بزوابع الزمن من حوله رسول السلام المضمون النجاح، المرفوع الرأس بالدعوة إلي الاصلاح. ثم يموت ولا يرضي أن يهرق في أمره محجمة دم
(١٩)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، كتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي (1)، الحسن بن علي (1)، القبر (1)، الموت (1)، الكرم، الكرامة (1)

صفحه 019

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٠
تري، فأي عظمة أجل من هذه العظمة لو أنصف الناقدون المتحذلقون؟.
وان كتابنا هذا ليضع نقاط هذه الحروف كلها، مملاة عن دراسة دقيقة سيجدها المطالع - كما قلنا - أقرب شئ من الواقع، أو هي الواقع نفسه، مدلولا عليه بالمقاييس المنطقية، وبالدراسات النفسية، وبالشواهد الشوارد من هنا وهناك. كل ذلك هو عماد البحث في الكتاب، والقاعدة التي خرج منها إلي احكامه بسهولة ويسر، في سائر ما تناوله من موضوعات أو حاوله من آراء..
* * * وسيجد القارئ أن الكتاب ليس كتابا في أحوال الامام الحسن (ع)، بوجه عام، وانما هو كتاب مواقفه السياسية فحسب. وكان من التوفر علي استيعاب هذا الموضوع أن نتقدم بفصل خاص عن الترجمة له، وأن نستطرد في أطوائه ما يضطرنا البحث اليه.
وان موضوعا من العمق والعسر كموضوعنا، وبحثا فقير المادة قصير المدد كبحثنا - ونحن نتطلع اليه بعد 1328 من السنين - لحري بأن لا يدر علي كاتبه بأكثر مما درت به هذه الفصول، احرص ما تكون توفرا علي استقصاء المواد، وتنسيق عناصر الموضوع، وتهذيبها من الزائف والدخيل. ونحن إذ نومئ إلي " فقر المادة " وأثره علي البحث، لا نعني بالمادة الا هذه " الموسوعات " التي كان بإمكاننا التعاون معها علي تجلية موضوعنا بما هي عليه من تشويش للتناسق أو تشويه للحقايق. اما المؤلفات الكثيرة العدد التي وردت أسماؤها في معاجم المؤلفين الأولين، مما كتب عن قضية الحسن (ع) فقد حيل بيننا وبين الوقوف عليها. وكانت مع الكثير من تراثنا القديم قيد المؤثرات الزمنية، وطعمة الضياع والانقراض أخيرا. وكان ذلك عصب النكبة في الصحيح الصحيح من تاريخ الاسلام، وفي المهم المهم من قضاياه الحساسة أمثال قضيتنا - موضوع البحث -.
فلم نجد - علي هذا - من مصادر الموضوع: كتاب صلح الحسن ومعاوية، لأحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن السبيعي الهمداني المتوفي سنة 333 هجري، ولا كتاب صلح الحسن عليه السلام،
(٢٠)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (3)، صلح (يوم) الحديبية (2)، أحمد بن محمد بن سعيد (1)، التاريخ الإسلامي (1)، الوفاة (1)

صفحه 020

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢١
لعبد الرحمن بن كثير الهاشمي (مولاهم)، ولا كتاب قيام الحسن عليه السلام، لهشام بن محمد بن السائب، ولا كتاب قيام الحسن عليه السلام، لإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي المتوفي سنة 283 هجري ولا كتاب عبد العزيز بن يحيي الجلودي البصري في امر الحسن عليه السلام، ولا كتاب اخبار الحسن عليه السلام ووفاته، للهيثم بن عدي الثعلبي المتوفي سنة 207 هجري، ولا كتاب اخبار الحسن بن علي عليه السلام، لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد الأصفهاني الثقفي (1)، ولا نظائرها.
اما هذه المصادر التي قدر لنا ان لا نجد غيرها سندا، فيما احتاجت به هذه البحوث إلي سند ما، فقد كان أعجب ما فيها انها تتفق جميعها في قضية الحسن عليه السلام علي ان لا تتفق في عرض حادثة، أو رواية خطبة، أو نقل تصريح، أو الحكم علي احصاء، بل لا يتفق سندان منها - علي الأكثر - في تأريخ وقت الحادث أو الخطبة من تقديم أو تأخير، ولا في تعيين اسم القائد مثلا، أو ترتيب القيادة بين الاثنين أو الثلاثة، ولا في رواية طرق النكاية التي أريدت بالحسن (ع) في ميادينه، أو في التعبير عن صلحه، أو في قتله أخيرا، ولا في كل صغيرة أو كبيرة من اخبار الملحمة، من ألفها إلي يائها.
وللمؤثرات التي تحكمت في رقبة هذه المصادر، عند نقاطها الحساسة اثرها المحسوس في الكثير الكثير من عروضها.
وإذا كان من أصعب مراحل هذا التأليف، ارجاع هذه الحقائق إلي تسلسلها الصحيح الذي يجب ان يكون هو واقعها الأول، فقد كان من أيسر
(١) تجد ذكر هذه المؤلفات ضمن تراجم مؤلفيها في كتب الرجال، كفهرست ابن النديم والنجاشي وغيرهما. وستجد معها أسماء كتب أخري تخص موضوع الحسن عليه السلام في صلحه وفي مقتله، لا نريد الإطالة باستقصائها بعد ان أصبحت أسماء بلا مسميات.
(٢١)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (7)، إبراهيم بن محمد بن سعيد (1)، عبد العزيز بن يحيي (1)، إبراهيم بن محمد (1)، هشام بن محمد (1)، سعد بن مسعود (1)، الثعلبي (1)، القتل (2)، الوفاة (2)، الهلال (1)، ابن النديم (1)

صفحه 021

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٢
الوسائل إلي تحقيق هذا الغرض، الاستعانة عليه بقرائن الأحوال، وتناسق الاحداث، اللذين لا يتم بدونهما حكم علي وضع.
وكان من حسن الصدف، ان لا نخرج في اختيار النسق المطلوب عن الشاهد الصريح، الذي بعثرته هذه المصادر نفسها، في اطواء رواياتها الكثيرة المضطربة، فكانت - بمجموعها - وعلي نقص كل منها، أدلتنا الكاملة علي ما اخترناه من تنسيق أو تحقيق، وذلك أروع ما نعتز به من التوفيق.
ووقفنا في فلسفة الموقف - عند مختلف مراحله - وقفاتنا المتأنية المستقرئة الصبور، التي لا تستسلم للنقل أكثر مما تحتكم للعقل. ورجعنا في كثير مما التمسنا تدقيقه، إلي التصريحات الشخصية التي جاءت أدل علي الغرض من روايات كثير من المؤرخين.
* * * وهي - بعد - بضاعتي المزجاة التي لا أريد منها الا ان تكون مفتاح بحوث جديدة، من شأنها ان تكشف كثيرا من الغموض الذي دار مع قضية الحسن في التاريخ.
فان هي وفقت إلي ذلك، فقد أوتيت خيرا كثيرا.
وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه أنيب.
المؤلف القسم الأول الإمام الحسن " ع "
(٢٢)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الإختيار، الخيار (1)

صفحه 022

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٥
أبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وأمه سيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول الله. صلي الله عليه وعليهم.
ولا أقصر من هذا النسب في التاريخ، ولا أشرف منه في دنيا الأنساب.
مولده:
ولد في المدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث للهجرة.
وهو بكر أبويه.
وأخذه النبي صلي الله عليه وآله فور ولادته. فأذن في اذنه اليمني، وأقام في اليسري، ثم عق عنه. وحلق رأسه. وتصدق بزنة شعره فضة فكان وزنه درهما وشيئا. وأمر فطلي رأسه طيبا، وسنت بذلك العقيقة والتصدق بوزن الشعر.
وسماه " حسنا ". ولم يعرف هذا الاسم في الجاهلية.
وكناه " أبا محمد ". ولا كنية له غيرها.
ألقابه:
السبط. السيد. الزكي. المجتبي. التقي.
زوجاته:
تزوج " أم اسحق " بنت طلحة بن عبيد الله. و " حفصة " بنت عبد الرحمن بن أبي بكر. و " هند " بنت سهيل بن عمرو. و " جعدة " بنت الأشعث بن قيس، وهي التي أغراها معاوية بقتله فقتلته بالسم.
ولا نعهد انه اختص من الزوجات - علي التعاقب - بأكثر من ثمان أو عشر.. علي اختلاف الروايتين.. بما فيهن أمهات أولاده.
(٢٥)
مفاتيح البحث: السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها (2)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، شهر رمضان المبارك (1)، طلحة بن عبيد الله (1)، الزوج، الزواج (1)، الجهل (1)، القتل (1)

صفحه 023

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٦
ونسب الناس اليه زوجات كثيرات، صعدوا في أعدادهن ما شاؤوا.. وخفي عليهم ان زواجه الكثير الذي أشاروا اليه بهذه الاعداد، وأشار اليه آخرون بالغمز والانتقاد، لا يعني الزواج الذي يختص به الرجل لمشاركة حياته، وانما كانت حوادث استدعتها ظروف شرعية محضة. من شأنها ان يكثر فيها الزواج والطلاق معا، وذلك هو دليل سمتها الخاصة.
ولا غضاضة في كثرة زواج تقتضيه المناسبات الشرعية، بل هو - بالنظر إلي ظروف هذه المناسبات - دليل قوة الامام في عقيدة الناس - كما أشير اليه -. ولكن المتسرعين إلي النقد، جهلوا الحقيقة وجهلوا انهم جاهلون. ولو فطنوا إلي جواب الامام الحسن عليه السلام لعبد الله بن عامر بن كريز، وقد بني بزوجته، لكانوا غيرهم إذ ينتقدون.
أولاده:
كان له خمسة عشر ولدا بين ذكر وأنثي، هم زيد والحسن وعمرو والقاسم وعبد الله وعبد الرحمن والحسن الأثرم وطلحة، وأم الحسن وأم الحسين وفاطمة وأم سلمة ورقية وأم عبد الله وفاطمة.
وجاء عقبه من ولديه الحسن وزيد، ولا يصح الانتساب اليه من غيرهما.
أوصافه:
" لم يكن أحد أشبه برسول الله صلي الله عليه وآله من الحسن بن علي عليه السلام خلقا وخلقا وهيأة وهديا وسؤددا ".
بهذا وصفه واصفوه. وقالوا:
كان ابيض اللون مشربا بحمرة، أدعج العينين، سهل الخدين، كث اللحية، جعد الشعر ذا وفرة، كأن عنقه إبريق فضة، حسن البدن، بعيد ما بين المنكبين، عظيم الكراديس، دقيق المسربة، ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير، مليحا من أحسن الناس وجها.
(٢٦)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، السيدة أم سلمة بن الحارث زوجة الرسول صلي الله عليه وآله (1)، عبد الله بن عامر (1)، الزوج، الزواج (4)

صفحه 024

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٧
أو كما قال الشاعر:
ما دب في فطن الأوهام من حسن * * * الا وكان له الحظ الخصوصي كأن جبهته من تحت طرته * * * بدر يتوجه الليل البهيمي قد جل عن طيب أهل الأرض عنبره * * * ومسكه فهو الطيب السماوي وقال ابن سعد: " كان الحسن والحسين يخضبان بالسواد ".
وقال واصل بن عطاء: " كان الحسن بن علي عليهما السلام، عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك ".
عبادته:
حج خمسا وعشرين حجة ماشيا، والنجائب لتقاد معه، وإذا ذكر الموت بكي، وإذا ذكر القبر بكي، وإذا ذكر البعث بكي، وإذا ذكر الممر علي الصراط بكي، وإذا ذكر العرض علي الله تعالي ذكره شهق شهقة يغشي عليه منها، وإذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم، وسأل الله الجنة وتعوذ بالله من النار.
وكان إذا توضأ، أو إذا صلي ارتعدت فرائصه واصفر لونه.
وقاسم الله تعالي ماله ثلاث مرات. وخرج من ماله لله تعالي مرتين. ثم هو لا يمر في شئ من أحواله الا ذكر الله عز وجل.
قالوا: " وكان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم بالدنيا ".
* * * أخلاقه:
كان في شمائله آية الانسانية الفضلي، ما رآه أحد الا هابه، ولا خالطه انسان الا أحبه، ولا سمعه صديق أو عدو وهو يتحدث أو يخطب فهان عليه ان ينهي حديثه أو يسكت.
(٢٧)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، البعث، الإنبعاث (1)، الموت (1)، الحج (1)، القبر (1)

صفحه 025

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٨
قال ابن الزبير فيما رواه ابن كثير (ج 8 ص 37): " والله ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي ".
وقال محمد بن اسحق: " ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، ما بلغ الحسن بن علي. كان يبسط له علي باب داره فإذا خرج وجلس انقطع الطريق، فما يمر أحد من خلق الله اجلالا له، فإذا علم قام ودخل بيته فيمر الناس ".
ونزل عن راحلته في طريق مكة فمشي، فما من خلق الله أحد الا نزل ومشي حتي سعد بن أبي وقاص، فقد نزل ومشي إلي جنبه.
وقال مدرك بن زياد لابن عباس، وقد امسك للحسن والحسين بالركاب وسوي عليهما ثيابهما: " أنت أسن منهما تمسك لهما بالركاب؟ ". فقال: " يا لكع! وما تدري من هذان، هذان ابنا رسول الله، أوليس مما أنعم الله علي به ان امسك لهما وأسوي عليهما! " وكان من تواضعه علي عظيم مكانته انه مر بفقراء وضعوا كسيرات علي الأرض، وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها، فقالوا له: " هلم يا ابن رسول الله إلي الغداء! " فنزل وقال: " ان الله لا يحب المتكبرين ". وجعل يأكل معهم. ثم دعاهم إلي ضيافته فأطعمهم وكساهم.
وكان من كرمه انه اتاه رجل في حاجة، فقال له: " اكتب حاجتك في رقعة وارفعها الينا ". قال: فرفعها اليه فأضعفها له، فقال له بعض جلسائه: " ما كان أعظم بركة الرقعة عليه يا ابن رسول الله! ". فقال: " بركتها علينا أعظم، حين جعلنا للمعروف أهلا. أما علمت ان المعروف ما كان ابتداء من غير مسألة، فاما من أعطيته بعد مسألة، فإنما أعطيته بما بذل لك من وجهه. وعسي ان يكون بات ليلته متململا أرقا، يميل بين اليأس والرجاء، لا يعلم بما يرجع من حاجته أبكآبة الرد، أم بسرور النجح، فيأتيك وفرائصه ترعد وقلبه خائف يخفق، فان قضيت له حاجته فيما بذل من وجهه، فان ذلك أعظم مما نال من معروفك ".
(٢٨)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، عمر بن سعد لعنه الله (1)، عبد الله بن عباس (1)، مدينة مكة المكرمة (1)، الحسن بن علي (2)، الخوف (1)، الكرم، الكرامة (1)، الأكل (1)، اليأس (1)

صفحه 026

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٩
وأعطي شاعرا فقال له رجل من جلسائه: " سبحان الله أتعطي شاعرا يعصي الرحمن ويقول البهتان! ". فقال: " يا عبد الله ان خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك، وان من ابتغاء الخير اتقاء الشر ".
وسأله رجل فأعطاه خمسين الف درهم وخمسمائة دينار وقال له: " ائت بحمال يحمل لك ". فأتي بحمال، فأعطاه طيلسانه، وقال: " هذا كري الحمال ".
وجاءه بعض الاعراب. فقال: " أعطوه ما في الخزانة! ". فوجد فيها عشرون الف درهم. فدفعت اليه، فقال الاعرابي: " يا مولاي، ألا تركتني أبوح بحاجتي، وانشر مدحتي؟ ". فأنشأ الحسن يقول:
نحن أناس نوالنا خضل * * * يرتع فيه الرجاء والأمل تجود قبل السؤال أنفسنا * * * خوفا علي ماء وجه من يسل وروي المدائني قال: " خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر حجاجا ففاتتهم أثقالهم، فجاعوا وعطشوا، فرأوا عجوزا في خباء فاستسقوها فقالت: هذه الشويهة احلبوها، وامتذقوا لبنها، ففعلوا. واستطعموها، فقالت: ليس الا هذه الشاة فليذبحها أحدكم. فذبحها أحدهم، وكشطها. ثم شوت لهم من لحمها فأكلوا. وقالوا عندها، فلما نهضوا، قالوا: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فإذا عدنا فألمي بنا، فانا صانعون بك خيرا. ثم رحلوا فلما جاء زوجها، أخبرته فقال: ويحك تذبحين شاتي لقوم لا تعرفينهم، ثم تقولين: نفر من قريش. ثم مضت الأيام، فأضرت بها الحال، فرحلت حتي اجتازت بالمدينة، فرآها الحسن (ع) فعرفها، فقال لها: أتعرفينني؟ قالت: لا. قال: أنا ضيفك يوم كذا وكذا، فأمر لها بألف شاة والف دينار، وبعث بها إلي الحسين (ع) فأعطاها مثل ذلك، ثم بعثها إلي عبد الله بن جعفر فأعطاها مثل ذلك ".
وتنازع رجلان، هاشمي وأموي. قال هذا: " قومي اسمح ". وقال
(٢٩)
مفاتيح البحث: الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، عبد الله بن جعفر الطيار بن أبي طالب عليه السلام (2)، ماء الوجه (1)، الزوج، الزواج (1)

صفحه 027

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٠
هذا: " قومي اسمح ". قال: " فسل أنت عشرة من قومك، وانا اسأل عشرة من قومي ". فانطلق صاحب بني أمية فسأل عشرة، فأعطاه كل واحد منهم عشرة آلاف درهم. وانطلق صاحب بني هاشم إلي الحسن بن علي، فأمر له بمائة وخمسين الف درهم، ثم أتي الحسين فقال: " هل بدأت بأحد قبلي؟ ". قال: " بدأت بالحسن " قال: " ما كنت أستطيع أن أزيد علي سيدي شيئا " فأعطاه مائة وخمسين الفا من الدراهم. فجاء صاحب بني أمية يحمل مائة الف درهم من عشر أنفس، وجاء صاحب بني هاشم يحمل ثلاثمائة الف درهم من نفسين. فغضب صاحب بني أمية، فردها عليهم، فقبلوها. وجاء صاحب بني هاشم فردها عليهما، فأبيا ان يقبلاها، وقالا: " ما كنا نبالي. أخذتها أم ألقيتها في الطريق ".
ورأي غلاما أسود يأكل من رغيف لقمة، ويطعم كلبا هناك لقمة فقال له: " ما حملك علي هذا؟ " قال: " اني استحي منه ان آكل ولا أطعمه ". فقال له الحسن: " لا تبرح مكانك حتي آتيك ". فذهب إلي سيده، فاشتراه واشتري الحائط (البستان) الذي هو فيه، فأعتقه، وملكه الحائط.
واخبار كرمه كثيرة لسنا بسبيل استقصائها.
وكان من حلمه ما يوازن به الجبال - علي حد تعبير مروان عنه.
وكان من زهده ما خصص له محمد بن علي بن الحسين بن بابويه المتوفي سنة 381 هجري كتابا أسماه (كتاب زهد الحسن عليه السلام). وناهيك بمن زهد بالدنيا كلها في سبيل الدين.
* * * مناقبه:
انه سيد شباب أهل الجنة، وأحد الاثنين اللذين انحصرت ذرية رسول الله صلي الله عليه وآله فيهما، وأحد الأربعة الذين باهل بهم النبي
(٣٠)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه (1)، بنو أمية (3)، بنو هاشم (3)، الحسن بن علي (1)، الزهد (2)، الكرم، الكرامة (1)، الأكل (1)، الوفاة (1)

صفحه 028

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣١
نصاري نجران، وأحد الخمسة (أصحاب الكساء)، وأحد الاثني عشر الذين فرض الله طاعتهم علي العباد، وهو أحد المطهرين من الرجس في الكتاب، وأحد الذين جعل الله مودتهم أجرا للرسالة، وجعلهم رسول الله أحد الثقلين اللذين لا يضل من تمسك بهما. وهو ريحانة رسول الله صلي الله عليه وآله وحبيبه الذي يحبه ويدعو الله أن يحب من أحبه.
وله من المناقب ما يطول بيانه، ثم لا يحيط به البيان وان طال.
وبويع بالخلافة بعد وفاة أبيه عليهما السلام، فقام بالامر - علي قصر عهده - أحسن قيام، وصالح معاوية في الخامس عشر من شهر جمادي الأولي سنة 41 - علي أصح الروايات - فحفظ الدين، وحقن دماء المؤمنين، وجري في ذلك وفق التعاليم الخاصة التي رواها عن أبيه عن جده صلي الله عليهما. فكانت خلافته " الظاهرة " سبعة اشهر وأربعة وعشرين يوما.
ورجع بعد توقيع الصلح إلي المدينة، فأقام فيها، وبيته حرمها الثاني لأهلها ولزائريها.
والحسن من هذين الحرمين، مشرق الهداية، ومعقل العلم وموئل المسلمين. ومن حوله الطوائف التي نفرت من كل فرقة لتتفقه في الدين ولتنذر قومها إذا رجعت إليهم. فكانوا تلامذته وحملة العلم والرواية عنه. وكان بما أتاح الله له من العلم، وبما مكن له في قلوب المسلمين من المقام الرفيع، أقدر انسان علي توجيه الأمة وقيادتها الروحية، وتصحيح العقيدة، وتوحيد أهل التوحيد.
وكان إذا صلي الغداة في مسجد رسول الله صلي الله عليه وآله جلس في مجلسه، يذكر الله حتي ترتفع الشمس، ويجلس اليه من يجلس من سادات الناس يحدثهم. قال ابن الصباغ (الفصول المهمة ص 159): " ويجتمع الناس حوله، فيتكلم بما يشفي غليل السائلين ويقطع حجج المجادلين ".
(٣١)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، كتاب الفصول المهمة لإبن صباغ المالكي (1)، أهل الكساء (1)، شهر جمادي الأولي (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، الضلال (1)، السجود (1)، الوفاة (1)

صفحه 029

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٢
وكان إذا حج وطاف بالبيت، يكاد الناس يحطمونه مما يزدحمون للسلام عليه. (عليه السلام).
* * * وفاته:
وسقي السم مرارا - كما سنأتي علي تفصيله عند البحث علي الوفاء بشروط الصلح -. وأحس بالخطر في المرة الأخيرة، فقال لأخيه الحسين عليه السلام: " اني مفارقك ولاحق بربي، وقد سقيت السم، ورميت بكبدي في الطست، واني لعارف بمن سقاني السم ومن أين دهيت، وأنا أخاصمه إلي الله عز وجل ". ثم قال: " وادفني مع رسول الله (ص) فاني أحق به وببيته (1). فان أبوا عليك، فأنشدك الله بالقرابة التي قرب الله عز وجل منك، والرحم الماسة من رسول الله ان لا تهريق في أمري محجمة من دم، حتي نلقي رسول الله صلي الله عليه وآله فنختصم اليه، ونخبره بما كان من الناس الينا ".
(1) اما كونه أحق به، فلانه ابنه وبضعته، بل هو بعضه، ولا أحق من الابن بالأب، ولا من البعض بالكل.
واما كونه أحق ببيته، فلأنه وارثه الشرعي من أمه الصديقة الطاهرة عليها السلام الوارثة الوحيدة من أبيها (صلي الله عليه وآله). وانها لترثه كما ورث سليمان داود. وما من مخصص لعمومات الميراث..
وكانت صيغة التفضيل هنا تعني المفضولين أبا بكر وعمر فيما استأثرا به من الدفن في حجرة رسول الله (ص) بما لابنة كل منهما من الحق في هذه الحجرة. ودل ذلك علي رأيهما في صحة ارث الزوجة من العقار. والمسألة لا تزال محل الخلاف بين فقهاء الاسلام إلي يوم الناس. وكان لكل من عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر في حجرة رسول الله التي دفن فيها - بناء علي صحة ارثهما كزوجتين - سهم واحد من اثنين وسبعين سهما لأنهما ثنتان من تسع. وللتسع كلهن الثمن يتقاسمنه علي هذه النسبة. اما سعة الحجرة المقدسة، فمما لا نعلمه الآن علي التحقيق، فلتكن واسعة بحيث تكفي لاثنين وسبعين قبرا، والا فليكن ورثة الصديقة الطاهرة قد أذنوا لأبي بكر وعمر بالدفن فيها. والا فماذا غير ذلك. وعلينا ان نعترف للحسن (ع) بأنه كان الأحق برسول الله وببيته.
(٣٢)
مفاتيح البحث: الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (3)، صلح (يوم) الحديبية (1)، الطواف، الطوف، الطائفة (1)، الحج (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، عائشة بنت أبي بكر زوجة النبي (ص) (1)، الوسعة (2)، الزوجة (1)، الوراثة، التراث، الإرث (1)، الدفن (2)

صفحه 030

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٣
وأوصي اليه باهله وبولده وتركاته وبما كان أوصي به اليه أبوه أمير المؤمنين عليه السلام. ودل شيعته علي استخلافه للإمامة من بعده.
وتوفي في اليوم السابع من شهر صفر سنة 49 هجري.
قال أبو الفرج الأصفهاني: " وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد، فلم يكن شئ أثقل عليه من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص فدس اليهما سما فماتا منه ".
وللدواهي النكر من هذا النوع، صدماتها التي تهز الشعور وتوقظ الألم، وتجاوبت الأقطار الاسلامية أسي المصيبة الفاجعة، فكان لها في كل كورة مناحة تنذر بثورة، وفي كل عقد من السنين ثورة تنذر بانقلاب.
والله سبحانه وتعالي يقول: " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ".
مدفنه:
روي سبط ابن الجوزي بسنده إلي ابن سعد عن الواقدي: " انه لما احتضر الحسن قال: ادفنوني عند أبي - يعني رسول الله (ص) - فقامت بنو أمية ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وكان واليا علي المدينة فمنعوه!!. قال ابن سعد: ومنهم عائشة وقالت: لا يدفن مع رسول الله أحد ".
وروي أبو الفرج الأموي الأصفهاني عن يحيي بن الحسن انه قال: " سمعت علي بن طاهر بن زيد يقول: لما أرادوا دفنه - يعني الحسن بن علي - ركبت بغلا واستعونت بني أمية ومروان ومن كان هناك منهم ومن حشمهم، وهو قول القائل: فيوما علي بغل ويوما علي جمل ".
وذكر المسعودي ركوب عائشة البغلة الشهباء وقيادتها الأمويين ليومها الثاني من أهل البيت عليهم السلام. قال: " فأتاها القاسم بن محمد بن أبي
(٣٣)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، عمر بن سعد لعنه الله (1)، الدولة الأموية (1)، أبو الفرج الإصبهاني (الإصفهاني) (1)، مروان بن الحكم (1)، شهر صفر الظفر (1)، السبط إبن الجوزي (1)، يحيي بن الحسن (1)، بنو أمية (2)، القاسم بن محمد (1)، طاهر بن زيد (1)، الحسن بن علي (2)، الفرج (1)، الدفن (1)، الوصية (2)

صفحه 031

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٤
بكر فقال: يا عمة ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر (1). أتريدين أن يقال يوم البغلة الشهباء؟ فرجعت ".
واجتمع مع الحسين بن علي خلق من الناس فقالوا له: " دعنا وآل مروان، فوالله ما هم عندنا الا كأكلة رأس ". فقال: " ان أخي أوصي ان لا أريق فيه محجمة دم.. ولولا عهد الحسن هذا، لعلمتم كيف تأخذ سيوف الله منهم مأخذها. وقد نقضوا العهد بيننا وبينهم، وأبطلوا ما اشترطنا عليهم لأنفسنا ". - يشير بهذا إلي شروط الصلح -.
ومضوا بالحسن فدفنوه بالبقيع عند جدته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.
قال في الإصابة: " قال الواقدي: حدثنا داود بن سنان حدثنا ثعلبة بن أبي مالك: شهدت الحسن يوم مات ودفن بالبقيع، فلقد رأيت البقيع ولو طرحت فيه إبرة ما وقعت الا علي رأس انسان ".
(1) وعلي مثل هذا الوتر من التبكيت المؤدب ما رواه البيهقي في المحاسن والمساوئ (ج 1 ص 35) قال: " وعن الحسن البصري ان الأحنف بن قيس قال لعائشة يوم الجمل: يا أم المؤمنين. هل عهد إليك رسول الله صلي الله عليه وسلم هذا المسير؟ قالت: اللهم لا. قال: فهل وجدتيه في شئ من كتاب الله جل ذكره. قالت: ما نقرأ الا ما تقرأون. قال: فهل رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام استعان بشيء من نسائه إذا كان في قلة والمشركون في كثرة. قالت: اللهم لا. قال الأحنف: فإذا ما هو ذنبنا؟ ".
القسم الثاني: في الموقف السياسي قبل البيعة
(٣٤)
مفاتيح البحث: السيدة فاطمه بنت أسد أم أمير المؤمنين عليهما السلام (1)، مقبرة بقيع الغرقد (3)، صلح (يوم) الحديبية (1)، الحسين بن علي (1)، الموت (1)، الوصية (1)، أمهات المؤمنين، ازواج النبي (ص) (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، الأحنف بن قيس (1)، الحسن البصري (1)، الصّلاة (1)

صفحه 032

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٧
يكفينا الآن، ونحن بصدد موضوع لا ندري علي التحقيق، مدي تأثره بسوابقه ومقارناته، ان نرجع - - ولو قليلا - إلي استعراض بعض الأوضاع الاجتماعية التي ثاب إليها المسلمون لأول مرة بعد عهد النبوة، بما كان للنبوة من اثر عميق في النفوس، وسلطان قوي علي تكوين المجتمع، ويد صناع في بناء عناصر الحيوية في الاتباع.
يكفينا ونحن نستوحي الذكريات لوضع الصورة العابرة هنا، ان نأخذ من كل مناسبة صلتها بموضوعنا، أو نأخذ بالمناسبات ذات الصلة من دون غيرها، لنتعرف - علي ضوء هذا الأسلوب - مدي تأثر موضوعنا بماضيه.
* * * وكان الحدث الأكبر في تاريخ الاسلام هو وفاة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، وانقطاع ذلك الاشعاع السماوي الذي كان يفيض علي الدنيا كلها بالخير، فإذا الدنيا كلها مظلمة تستعد للشر. وانقطعت الأرض بموت رسول الله (ص) عن السماء، إذ كان الوحي هو بريدها إلي الأرض وأداة صلتها بها. وهل للأرض غني عن السماء، وفي السماء رزقها ومنها خيرها وحياتها وحيويتها ونورها ودينها. وما كان أشد من هذه الوحشة علي الدنيا، ولا أفدح من هذه الخسارة علي المسلمين، لو انه كان - ونعوذ بالله -
(٣٧)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، التاريخ الإسلامي (1)، الغني (1)، الوفاة (1)

صفحه 033

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٨
انقطاعا باتا وانفصالا نهائيا. ولكن رسول الله (ص) أدرك ما سيمتحن به المؤمنون بعده من عظيم الرزية بانقطاع الوحي من بينهم، وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، فأخبرهم بان حبلا واحدا سيبقي متصلا بينهم وبين السماء. وهل حبل أولي بالتمسك من حبل السماء وقد انقطع الوحي، قال:
" اني تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله حبل ممدود من السماء إلي الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتي يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما " (1).
* * * ومن حق البحث الذي بين أيدينا ان يستقرئ في هذه المناسبة موقف المجتمع من عترة النبي (ص)، أو موقف الجماعات التي كانت تدعي لنفسها حق التمثيل للمجتمع، لينظر فيما خلفوا رسول الله في عترته - استغفر الله - بل لينظر فيما يتصل من ذلك بموضوعنا من هذه المناسبة العابرة. وإذا كانت العترة عشيرة الرجل، فعلي أبرز رجالها بعد رسول الله، وإذا كانت ذريته، فالحسن كبير عترة النبي من بعده. وتجيز اللغة اطلاق العترة علي الصنفين - العشيرة والذرية - معا.
نعم انه قدر لهذا المجتمع، ان ينقسم إنقسامته التاريخية التي وقعت فور الفاجعة العظمي بوفاة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، حين تأول قوم فانساحوا إلي تأولاتهم، وتعبد آخرون فثبتوا علي الصريح من قول نبيهم، وللنبي تصريحات كثيرة في موضوع الترشيح للخلافة ليس هنا
(1) اخرجه الترمذي وهو الحديث 874 من أحاديث كنز العمال (ص 44 ج 1) وعلي نسق هذا الحديث أحاديث كثيرة أخري روتها الصحاح والمسانيد، وجاء في بعضها " اني تارك فيكم خليفتين كتاب الله ممدود بين السماء والأرض أو ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وانهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض " - (الامام احمد والطبراني في الكبير).
(٣٨)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، كتاب كنز العمال للمتقي الهندي (1)، الطبراني (1)

صفحه 034

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٩
مكان استعراضها. ولسنا الآن بصدد مناقشة المتأولين أو مساجلة المتعبدين، لان كل شئ مما نتفق عليه معهم جميعا، أو مع فريق واحد منهم، أو مما نختلف فيه قد تم في حينه علي صورته. وليس فيما تتناوله بحوثنا الآن ما يستطيع ان يغير الواقع عن واقعه.
ولكنا - ولنلتمس المعاذير للمتأولين - علي مخالفتهم لنصوص نبيهم نقول: انهم نظروا إلي هذه النيابة عن الوحي التي جعلها رسول الله (ص) للكتاب وللعترة من بعده، في حديثه هذا وفي نظائره الكثيرة من الأحاديث الأخري، نظرتهم السياسية التي لا تعني الانكار علي رسول الله، ولكنها تهدف - قبل كل شئ - إلي " المصلحة " فيما يرون، ورأوا ان وجوب إطاعة الأوامر النبوية في الموضوعات السياسية، منوط بذوي التجارب من الشيوخ المتقدمين بالسن. فان صادقوا علي ما أراده النبي فذاك، والا فليكن ما أرادوا هم.
وهكذا زويت الخلافة عن العترة. وهكذا صار من الممكن وربما من المستحسن لدي فريق عظيم من مسلمة محمد (صلي الله عليه وآله)، ان يصبح معاوية أيضا ممن ينازع علي خلافة الاسلام ويطلبها لنفسه، ويحتج عليها بالسن (1) أيضا، ويصادق عليها الشيوخ المسنون أيضا كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وأبي هريرة الدوسي. ولم تكن حملة معاوية هذه بما فيها من استخفاف بقدسية الاسلام، الأولي من نوعها، ولكنها كانت تمتد بجذورها إلي عهد أقدم، والي تصالح وتعاون أسبق، ومن طراز أسمي (2).
ولم يبق مخفيا ان الحجر الأساسي لهذا التدهور غير المنتظر، كان هو الذي بني هناك في المدينة المنورة، وقامت عليه سقيفة بني ساعدة بما
(1) يلحظ هنا كتاب معاوية إلي الحسن عليه السلام شرح النهج (ج 4 ص 13).
(2) ويراجع للتأكد تصريح معاوية نفسه فيما رواه المسعودي (ج 6 ص 78 - 79 هامش ابن الأثير). وبني علي ذلك كثير من شعرائنا القدامي قصائدهم العامرة. وهو ما عناه مهيار الديلمي في لاميته بقوله:
وما الخبيثان ابن هند وابنه * * * وان طغي خطبهما بعد وجل بمبدعين في الذي جاءا به * * * وانما تقفيا تلك السبل وهو ما عناه قبله أستاذه الشريف الرضي رحمه الله بقوله:
الا ليس فعل الآخرين وان علا * * * علي قبح فعل الأولين بزائد وهو ما عناه قبلهما الكميت بقوله:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم * * * فيا اخرا أسدي له الشر أول إلي أمثال كثيرة أخري.
(٣٩)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، أبو هريرة العجلي (1)، المدينة المنورة (1)، المغيرة بن شعبة (1)، عمرو بن العاص (1)، السقيفة (1)، الوجوب (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، إبن الأثير (1)، الشريف الرضي، أبو الحسن محمد بن الحسين (1)

صفحه 035

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٤٠
ابرم فيها من حبل جديد هو غير الحبل الممدود - عموديا - من السماء إلي الأرض الذي عناه رسول الله (ص) في حديثه الآنف الذكر. ولكنه حبل آخر أريد ليمتد مع التاريخ - أفقيا -.
وتوالت تحت السقيفة أحدا * * * ث أثارت كوامنا وميولا نزعات تفرقت كغصون ال * * * - عوسج الغض شائكا مدخولا (1) * * * ووقف صاحب الحق بالخلافة من اخوانه المتأولين، موقفه المشرف الذي دل بذاته، وبما حفظ الاسلام من الانهيار، علي انه وحده كان الوسيط بين الناس وحبل السماء. وتلكأ عن بيعتهم بمقدار ما نبه الذهنية الاسلامية إلي الحق المغلوب علي امره، واخذ إلي البيعة - بعد ذلك - أخذا (2). وسأله بعض أصحابه: " كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ " فقال: " انها كانت أثرة، شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، والحكم لله والمعود اليه القيامة. ودع عنك نهبا صيح في حجراته (3) "..
(1) لبولس سلامة.
(2) قال معاوية فيما كتبه اليه مع أبي امامة الباهلي:
" وتلكأت في بيعته - يعني بيعة أبي بكر - حتي حملت اليه قهرا تساق بخزائم الاقتسار كما يساق الفحل المخشوش!!. " اه.
(3) نهج البلاغة (ج 1 ص 299)، شرح محمد عبده.
(٤٠)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، السقيفة (1)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 036

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٤١
لغة تنبئك عما تكظمه في دخيلتها من غيظ، وعما تحمله في ظاهرتها من تسليم.
وعشا عن أنواره مناوئوه، وعلي أبصارهم غشاوة الذحول. فغفلوا عنه غير منكرين سبقه وجهاده وقرابته وصهره واخوته وعلمه وعبادته، وتصريحات رسول الله صلي الله عليه وآله في شأنه، التي كانوا يستوعبونها يومئذ أكثر مما نستوعبها نحن. ولكنهم نقموا عليه كثرة فضائله هذه، ونقموا عليه شدته في احقاق الحق، ونقموا عليه سيفه الذي خلق منهم أعداء موتورين، منذ كان يصنع الاسلام بهذا السيف في سوح الجهاد المقدس.
ونقموا عليه سنه لأنه كان في العقد الرابع. ولا عجب إذا رأي ذوو الحنكة المسنون، ان لا يكون الخليفة بعد رسول الله مباشرة، الا وهو في العقد السابع مثلا.
وخفي عليهم ان الإمامة في الاسلام دين كالنبوة نفسها، ويجوز فيها ما يجوز في النبوة، ولا يجوز عليها ما لا يجوز علي النبوة في عظمتها. فما شأن الاجتهاد بالسن في مقابل النص علي التعيين. وما شأن الملاحظات السياسية في مقابل كلمات الله وتصريحات نبيه (ص). وكانت سن علي يوم وفاة رسول الله صلي الله عليه وآله، سن عيسي بن مريم يوم رفعه الله عز وجل، أفيجوز لعيسي ان ينتهي بقصاري نبوته في الأرض إلي هذه السن، ولا يجوز لعلي أن يبتدئ خلافته في ثلاث وثلاثين، وهي السن التي اختارها الله لسكان جنانه يوم القيامة! ولو لم تكن خير سني الانسان لما اختارها الله للمصطفين من عباده في الجنان.
ونقموا عليه قرباه " فكرهوا اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد " ولا نعرف كيف انقلبت الفضيلة - علي هذا المنطق - سببا لنقمة. ولا نفهم كيف كانت " القرابة " بموجتها القصيرة، وبما هي أقرب إلي النبي صلي الله عليه وآله حائلا دون الخلافة، ثم هي بموجتها الطويلة، وبما هي
(٤١)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (4)، يوم القيامة (1)، الجواز (4)، الوفاة (1)

صفحه 037

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٤٢
أبعد عن النبي، دليل الخلافة والحجة الوحيدة في ما دلفوا به من حجاج خصومهم.
وحسبوا انهم أحسنوا صنعا للاسلام وللمصلحة العامة بفصلهم الخلافة عن بيت النبوة، وبما فسحوا المجال لبيوتات أخري، تتعاون - بدورها - علي غزو المنصب الديني الأعلي، أبعد ما يكون بطبيعته عن مجالات الغزو والغلبة والاستيلاء بالقوة والعنف.
وخفي عليهم ما كان يحتاط به رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم لامته ولعترته، حين سجل الخلافة في بيته.
* * * وجاءت الاحداث - بعد ذلك - فنبهت العقول الواعية إلي أخطاء القوم وصواب رسول الله صلي الله عليه وآله.
فكانت " عملية الفصل " هذه، هي مثار الخلافات التاريخية الحمر، بين عشاق الخلافة في مختلف الأجيال، ومبعث مآس فظيعة في المسلمين، ومصدر انعكاسات مزرية في مثالية الاسلام، كان المسلمون في غني عنها لو قدر للخلافة - من يومها الأول - ان تأخذ طريقها اللاحب الذي لا يجوز فيه اجتهاد، ولا تمسه سياسة، ولا يتصرف فيه أحد غير الله ورسوله.
" وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمرا ان يكون لهم الخيرة من امرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ".
وهل كان التناحر والتطاحن المديد العمر المتوارث مع الأجيال فيما بين الأسر البارزة في المسلمين، الا نتيجة فسح المجال لهذا أو ذاك في الطماح إلي غزو المقام الرفيع.
وهل كانت المجازر الفظيعة التي جابهها المسلمون في الفترات المختلفة من تاريخ الاسلام: بين بني هاشم وبني أمية: وبين بني الزبير وبني أمية: وبين بني العباس وبني أمية: وبين بني علي وبني العباس … الا النتيجة
(٤٢)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، بنو عباس (2)، التاريخ الإسلامي (1)، بنو أمية (3)، بنو هاشم (1)، البعث، الإنبعاث (1)، الغني (1)، الجواز (1)

صفحه 038

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٤٣
المباشرة لفصم ذلك التقليد الديني الذي احتاط به رسول الله صلي الله عليه وآله، ليكون حائلا دون أمثال هذه المآسي والاحداث المؤسفة في الاسلام.
وهل كانت " فجائع العترة " الفريدة من نوعها - بالقتل والصلب والسبي والتشريد - الا اثر الخطأة الأولي، التي خولفت بها سياسة النبي (ص) فيما اراده لامته ولعترته، وفيما حفظ به أمته وعترته جميعا، لو انهم أطاعوه فيما أراد.
ولكنهم جهلوا مغزي هذه السياسة البعيدة النظر، فكرهوا اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد، انصهارا بسياسة أخري.
وكانت هي المعذرة الظاهرة التي لم يجدوا غيرها معذرة يبوحون بها للناس. اما معذرتهم الباطنة، فلا يعلم بها الا العالم ببواطن الأمور وهي علي الأكثر لا تعدو الذكريات الدامية في حروب الدعوة الاسلامية، أو الحسد الذي " يأكل الدين كما تأكل النار الحطب " - كما في الحديث الشريف -.
وكان حب الرياسة وشهوة الحكم، شر أدواء الناس وبالا علي الناس، وأشدها استفحالا في طباع الأقوياء من زعماء ومتزعمين.
وما النبوة ولا الإمامة بما هما - منصب إلهي - من مجالات السياسة بمعناها المعروف، وكل سياسة في النبوة أو في شئ من ذيولها الإدارية، فهو دين والي الدين. والمرجع الوحيد في كل ذلك، هو صاحب الدين نفسه، وكلمته هي الفصل في الموضوع.
* * * ولكي تتفق معي علي مسيس اتصال هذه المناسبة بموضوعنا اتصالا وشيجا، عليك ان تتطلع إلي اللغة المتظلمة الناقمة التي ينكشف عنها الحسن بن علي عليهما السلام في هذا الشأن، بما كتبه إلي معاوية، ابان البيعة له في الكوفة. قال:
(٤٣)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، مدينة الكوفة (1)، القتل (1)، الأكل (1)

صفحه 039

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٤٤
" فلما توفي - يعني رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم - تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه، ولا يحل لكم ان تنازعونا سلطان محمد وحقه. فرأت العرب ان القول ما قالت قريش وان الحجة في ذلك لهم علي من نازعهم في امر محمد. فأنعمت لهم وسلمت إليهم، ثم حاججنا (1) نحن قريشا بمثل ما حاججت به العرب، فلم تنصفنا قريش انصاف العرب لها. انهم أخذوا هذا الامر دون العرب بالانصاف والاحتجاج، فلما صرنا أهل بيت محمد وأولياءه إلي محاجتهم، وطلب النصف منهم، باعونا واستولوا بالاجتماع علي ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا. فالموعد الله وهو الولي النصير.
" ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا، وسلطان بيتنا. وإذ كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الاسلام، أمسكنا عن منازعتهم، مخافة علي الدين ان يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزا يثلمون به، أو يكون لهم بذلك سبب إلي ما أرادوا من افساده.
" فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية علي أمر لست من أهله، لا بفضل في الدين معروف، ولا أثر في الاسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدي قريش لرسول الله صلي الله عليه وآله، ولكتابه. والله حسيبك فسترد عليه وتعلم لمن عقبي الدار!! " (2).
وهكذا نجد الحسن عليه السلام، يعطف - بالفاء - عجبه من توثب معاوية علي تعجبه لتوثب الأولين عليهم في حقهم وسلطان بيتهم. ومن هنا تنبثق مناسبة اتصال قضيته بقضايا الخلائف السابقين، وتنبثق معها مناسبات أخري. بعضها للأخوين. وبعضها للأبوين. وبعضها للحق العام.
(1) وكان من أفظع النكايات بقضية أهل البيت عليهم السلام، ان تختفي كل هاتيك المحاججات في التاريخ. ثم لا نقف منها الا علي النتف الشاردة التي أغفلتها الرقابة العدوة عن غير قصد.. وهنا الذكر قول الشاعر المجدد الحاج عبد الحسين الآزري:
اقرأ بعصرك ما الأهواء تكتبه * * * ينبئك عما جري في سالف الحقب (2) ابن أبي الحديد (ج 4 ص 12).
(٤٤)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، الحج (1)

صفحه 040

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٤٥
وما نحن بالذاكرين شيئا منها هنا، لأنا لا نريد ان نتصل بهذه البحوث، في سطورنا هذه، الا بمقدار ما تتصل هي بالصميم من موضوعنا.
* * * وعلمنا ان الرشاقة السياسية البارعة التي ربحت الموقف بعد وفاة رسول الله (ص) في لحظات، والتي سماها كبير من أقطابها " بالفلتة " وسماها معاوية " بالابتزاز للحق والمخالفة علي الامر (1) "، كانت بنجاحها الخاطف دليلا علي سبق تصميم في الجماعات التي وليت الحل والعقد هناك. فكان من السهل ان نفهم من هذا التصميم " اتجاها خاصا " نحو العترة من آل محمد (ص) له اثره في حينه، وله آثاره بعد ذلك.
فكانوا المغلوبين علي امرهم، والمقصين - عن عمد - في سائر التطورات البارزة التي شهدها التاريخ يومئذ (2).
فلا الذي عهد بالخلافة قدمهم. ولا الذي حصر الخليفة في الثلاثة من الستة أنصفهم. ولولا رجوع الاختيار إلي الشعب نفسه مباشرة، بعد حادثة الدار، لما كان للعترة نصيب من هذا الامر علي مختلف الادوار.
(1) تجد ذلك صريحا فيما كتبه معاوية لمحمد بن أبي بكر. قال: " كان أبوك وفاروقه أول من ابتزه - يعني عليا عليه السلام - حقه وخالفه علي امره. علي ذلك اتفقا واتسقا، ثم انهما دعواه إلي بيعتهما فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما، فهما به الهموم وأرادوا به العظيم. ثم انه بايع لهما وسلم لهما. وأقاما لا يشركانه في أمرهما، ولا يطلعانه علي سرهما حتي قبضهما الله.. - ثم أردف قائلا -: فان يك ما نحن فيه صوابا، فأبوك استبد به ونحن شركاؤه، ولولا ما فعل أبوك من قبل، ما خالفنا ابن أبي طالب ولسلمنا اليه، ولكنا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا واخذنا بمثله ".. اه المسعودي علي هامش ابن الأثير (ج 6 ص 78 - 79).
(2) ونجد في كلمات أمير المؤمنين (ع) شواهد كثيرة علي ذلك. قال: " فوالله ما زلت مدفوعا عن حقي مستأثرا علي منذ قبض الله نبيه حتي يوم الناس هذا ". وقال: اللهم اني أستعديك علي قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي وصغروا عظيم منزلتي واجمعوا علي منازعتي أمرا هو لي..
(٤٥)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، الوفاة (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، إبن الأثير (1)، محمد بن أبي بكر (1)

صفحه 041

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٤٦
ثم كان لهذا " الاتجاه الخاص " أثره في خلق معارضة قوية للعهدين اللذين رجعا بأمرهما إلي العترة من آل محمد صلي الله عليه وآله.
وفي حروب البصرة وصفين فمسكن شواهد كثيرة علي ما نقول.
وفي موقف ابن عمر (1) وسعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وقدامة بن مظعون وعبد الله بن سلام وحسان بن ثابت وأبي سعيد الخدري وزيد بن ثابت والنعمان بن بشير.. وهم " القعاد " الذين آثروا الحياد، واستنكفوا من البيعة لعلي ولابنه الحسن عليهما السلام شواهد أخري.
ولهذه المعارضة ميادينها المختلفة وألوانها المتعددة. ومنها المواقف السلبية النابية التي جوبه بها زعماء العترة عليهم السلام، في المدينة أولا، وفي الكوفة أخيرا.
والا فما الذي كان يحدو عليا عليه السلام، ليقول من علي منبره في الكوفة:
" يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا أحلام الأطفال وعقول ربات الحجال، أما والله لوددت أن الله أخرجني من بين أظهركم، وقبضني إلي رحمته من بينكم، ووددت أني لم أركم ولم أعرفكم، فقد والله ملأتم صدري غيظا. وجرعتموني الامرين أنفاسا. وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان.. " إلي كثير مما يشبه هذا القول، مما أثر عنه في خطبه وكلماته.
أليست هي المعارضة التي زرعت نوابتها الخبيثة في كل مكان من حواضر علي عليه السلام، فأخذت علي الناس التقاعس عن نصرته بشتي المعاذير.
(١) قال المسعودي (هامش ابن الأثير ج ٥ ص ١٧٨ - ١٧٩): " ولكن عبد الله بن عمر بايع يزيد بعد ذلك وبايع الحجاج لعبد الملك بن مروان!. " ورأي المسعودي ان يسمي هؤلاء " القعاد " بالعثمانية. ورأي أبو الفدا (ج ١ ص ١٧١) ان يسميهم " المعتزلة " لاعتزالهم بيعة علي (ع) - أقول: وما هم بالعثمانية ولا المعتزلة ولكنهم الذين ماتوا ولم يعرفوا امام زمانهم.
(٤٦)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (2)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (2)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، عمر بن سعد لعنه الله (1)، أبو سعيد الخدري (1)، مدينة الكوفة (2)، عبد الله بن سلام (1)، أسامة بن زيد (1)، النعمان بن بشير (1)، مدينة البصرة (1)، قدامة بن مظعون (1)، حسان بن ثابت (1)، زيد بن ثابت (1)، محمد بن مسلمة (1)، مدرسة المعتزلة (2)، إبن الأثير (1)، عبد الله بن عمر (1)

صفحه 042

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٤٧
أقول هذا. ولا أريد ان أتناسي - معه - العوامل الأخري التي شاركت " الاتجاه " - الآنف الذكر - في تكوين هذه المعارضة بموقفيها - الايجابي المسلح والسلبي الخاذل - تجاه العترة النبوية في العهد الهاشمي الكريم.
ولا أشك بان العدل الصارم، والمساواة الدقيقة في التوزيع التي كانت طابع هذا العهد، بل هي - دون ريب - طابع العهود الهاشمية مع القرن الأول، في نبوتها وفي خلافتها. - هي الأخري التي تحسس منها الناس أو قسم من الناس، بشيء من الضيق لا يتسع للطاعة المطلقة ولا للاخلاص الحر اللذين لن ينتفع بغيرهما في ميدان سلم أو ميدان حرب.
والظروف الطارئة بمقتضياتها الزمنية التي طلعت بها علي الناس خزائن الممالك المهزومة في الفتوح، والطعوم الجديدة من الحياة التي لا عهد لهؤلاء الناس بمثلها من قبل - كل ذلك، كان له أثره في خلق الحس المظلم الذي من شأنه ان يظل دائما في الجهة المعاكسة للنور.
وفي بحران هذا " الاتجاه الخاص " الذي تعاون علي تكوينه ربع قرن من السنين، يتمثل عهد علي عليه السلام في خلافته قبل بيعة الحسن في الكوفة.
والحسن من علي (عليهما السلام) كبير ولده، وولي عهده، وشريك سرائه وضرائه، يحس بحسه ويألم بألمه. وهو - إذ ذاك - علي صلة وثيقة بالدنيا التي أحاطت بأبيه من قومه ومن رعيته ومن أعدائه، فهو لا يجهلها ولا يغفل عنها، وكان ينطوي مما يدور حوله علي شجي مكتوم، يشاركه فيه أخوه كما يشاركه في إخوته. وكان هذا الشجي المكتوم، هو الشيء الظاهر مما خلف به هؤلاء المسلمون - يومئذ - نبيهم في عترته، جوابا علي قوله (ص) لهم: " فانظروا كيف تخلفوني فيهما!! ".
* * *
(٤٧)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (2)، كتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي (1)، مدينة الكوفة (1)، الكرم، الكرامة (1)، الظل، التظليل، الظلالة (1)، الحرب (1)

صفحه 043

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٤٨
وكان الحسن عليه السلام، إذ ينطوي علي هذا الشجي، لا يلبث ان يستروح الامل - أحيانا - بما يجده في صحابة أبيه البهاليل من النجدة والحيوية والمفاداة وشمائل الاخلاص الذي لا تشوبه شائبة طمع في دنيا، ولا شائبة هوي في سياسة.
ومن هؤلاء، القواد العسكريون، والخطباء المفوهون. والفقهاء والقراء والصفوة الباقية من بناة الاسلام. كانوا - بجدارة - العدة التي يستند عليها أمير المؤمنين، في حربه وسلمه. وكانوا - بحق - دعامة العهد الهاشمي فيما تعرض له هذا العهد، من زلازل وزعازع واخطار.
وكانوا المسلمين الذين وفوا لرسول الله صلي الله عليه وآله، فيما واثقوه عليه في ذريته، بأن يمنعوهم بما يمنعون به أنفسهم وذراريهم. فلم لا يستروح الحسن بهم روائح الامل لقضية أبيه، بل لقضية نفسه.
وكانوا المؤمنين الذين آمنوا بكلمات الله في أهل بيت نبيهم وذوي قرباه وآمنوا بوصي نبيهم، وبمراتبه التي رتبها الله له أو رتبه لها. وفهموا عليا كما يجب أن يفهم. وعلي هو ذلك البطل الذي لم يحلم المسلمون بعد رسول الله (ص) بمثله، اخلاصا في الحق، وتفاديا في الاسلام، ونصحا للمسلمين، واستقامة علي العدل، واتساعا في العلم. ولن ينقص عليا في كبرياء معانيه، جحود الآخرين فضائله ومميزاته، ولهؤلاء الآخرين من مطامعهم وأهوائهم شغل شاغل يملأ فراغ نفوسهم. وما في ملاكات علي عليه السلام متسع للأهواء والمطامع. فليكن هؤلاء - دائما - في الملاكات البعيدة عن علي، وليكونوا في المعسكر الذي يقوم علي المساومة بالمال والولايات..
وليكن مع علي زمرته المنخولة تلك، المسلمة اسلامها الصحيح أمثال عمار بن ياسر، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله وعبد الرحمن ابني بديل، ومالك بن الحارث الأشتر، وخباب بن الأرت، ومحمد بن أبي بكر، وأبي الهيثم بن التيهان، وهاشم بن عتبة
(٤٨)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، حذيفة بن اليمان (1)، خباب بن الأرت (1)، خزيمة بن ثابت (1)، مالك بن الحارث (1)، محمد بن أبي بكر (1)، هاشم بن عتبة (1)، عمار بن ياسر (1)، الباطل، الإبطال (1)

صفحه 044

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٤٩
ابن أبي وقاص (المرقال)، وسهل بن حنيف، وثابت بن قيس الأنصاري، وعقبة بن عمرو، وسعد بن الحارث بن الصمة، وأبي فضالة الأنصاري، وكعب بن عمرو الأنصاري، وقرضة بن كعب الأنصاري، وعوف بن الحارث بن عوف، وكلاب بن الأسكر الكناني، وأبي ليلي بن بليل … واضراب هؤلاء من قادة الحروب وأحلاس المحاريب، الذين أنكروا الظلم، واستعظموا البدع، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتسابقوا إلي الموت في سبيل الله، استباق غيرهم إلي المطامع في سبيل الدنيا.
ومن الخير، أن ننبه هنا، إلي ان جميع هذه الصفوة المختارة كانت قد استشهدت في ميادين علي عليه السلام، وان ثلاثا وستين بدريا استشهد معهم في صفين (1) وحدها، وان أضعاف هذه الاعداد كانت خسائر الحروب المتعاقبة مدي ثلاث سنوات.
فما ظنك الآن، بذلك الامل الذي كان يداعب الحسن عليه السلام بوجود الأنصار، وهل بقي للحسن - بعد هذا - الا الشجي المكتوم، مضاعفا علي تضاعيف الأيام.
اما معسكر علي عليه السلام، فقد نكب نكبته الكبري، حين أصحر من خيرة رجالاته، ومراكز الثقل فيه.
واما دنيا علي عليه السلام، فقد عادت لسقيا الغصص وشرب الرنق - علي حد تعبيره هو فيما ندب به أصحابه عند مصارعهم -.
وتلفت علي إلي آفاقه المترامية التي تخضع لامره، فلم يجد بين جماهيرها المتدافعة، من ينبض بروح أولئك الشهداء، أو يتحلي بمثل مزاياهم، اللهم الا النفر الأقل الذي لا يناط به أمل حرب ولا أمل سلم.
ولولا قوة تأثيره في خطبه، وعظيم مكانته في سامعيه، لما تألف له - بعد هؤلاء - جيش، ولا قامت له بعدهم قائمة.
(1) اسم موضوع علي شاطئ الفرات بين " عانة " و " دير الشعار ". كان ميدان الحروب الطاحنة بين الكوفة والشام.
(٤٩)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (3)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، عمر بن سعد لعنه الله (1)، الحارث بن عوف (1)، ثابت بن قيس (1)، سهل بن حنيف (1)، عقبة بن عمرو (1)، سبيل الله (1)، كعب بن عمرو (1)، الظلم (1)، الموت (1)، الحرب (1)، الشهادة (2)، الإبداع، البدعة (1)، مدينة الكوفة (1)، نهر الفرات (1)، الشام (1)

صفحه 045

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٥٠
وهكذا أسلمته ظروفه لان يكون هدف المقاطعة من بعض، وهدف العداء المسلح من آخرين، وهدف الخذلان الممقوت من الاتباع (فلا اخوان عند النجاء، ولا أحرار عند النداء).
وأي حياة هذه التي لا تحفل بأمل، ولا ترجي لنجاح عمل. وقد أزمع فيها الترحال عباد الله الأخيار، الذين باعوا قليلا من الدنيا لا يبقي، بكثير من الآخرة لا يفني.
فسمع وهو يقول (اللهم عجل للمرادي شقاءه) وسمع وهو يقول (فما يحبس أشقاها ان يخضبها بدم أعلاها)، وسمع وهو يقول (أما والله لوددت ان الله أخرجني من بين أظهركم وقبضني إلي رحمته من بينكم).
وسلام عليه يوم ولد. ويوم سبق الناس إلي الاسلام. ويوم صنع الاسلام بسيفه. ويوم امتحن. ويوم مات. ويوم يبعث حيا.
* * * وترك من بعده لولي عهده، ظرفه الزمني النابي، القائم علي اثافيه الثلاث - فقر الأنصار. والعداء المسلح. والمقاطعة الخاذلة.
البيعة
(٥٠)
مفاتيح البحث: الموت (1)، البعث، الإنبعاث (1)

صفحه 046

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٥٢
إذا كان الدين في الاسلام، هو ما يبلغه النبي صلي الله عليه وآله وسلم لأنه الذي لا ينطق عن الهوي " ان هو الا وحي يوحي "، وإذا كان الخليفة في الاسلام هو من يعينه النبي للخلافة، لأنه المرجع الأعلي في الاثبات والنفي، فالحسن بن علي، هو الخليفة الشرعي، بايعه الناس أو لم يبايعوه.
ذكره رسول الله صلي الله عليه وآله باسمه في سلسلة أسماء خلفائه الاثني عشر، كما تضافر به الحديث عنه، فيما رواه علماء السنة (1)، وفيما أجمع علي روايته علماء الشيعة، وفيما اتفق عليه الفريقان، من قوله له ولأخيه الحسين: " أنتما الامامان ولأمكما الشفاعة (2) ". وقوله وهو يشير إلي الحسين: " هذا امام ابن امام أخو امام أبو أئمة تسعة (3) " - الحديث -.
وأمره أبوه أمير المؤمنين - منذ اعتل - أن يصلي (4) بالناس، وأوصي اليه عند وفاته قائلا: " يا بني أنت ولي الامر وولي الدم، وأشهد علي وصيته الحسين ومحمدا وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ودفع اليه الكتاب والسلاح، ثم قال له: " يا بني أمرني رسول الله أن أوصي إليك، وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي، كما أوصي إلي رسول الله ودفع إلي
(1) تجد ذلك مفصلا في ينابيع المودة (ج 2 ص 440) فيما يرويه عن الحمويني في فرائد السمطين، وعن الموفق بن احمد الخوارزمي في مسنده. وروي ذلك ابن الخشاب في تاريخه وابن الصباغ في " الفصول المهمة "، والحافظ الكنجي في " البيان ". وأسعد بن إبراهيم بن الحسن بن علي الحنبلي في " أربعينه ". والحافظ البخاري (خاجه بارسا) في " فصل الخطاب ".
(2) الاتحاف بحب الاشراف، للشبراوي الشافعي (ص 129 ط مصر) ونزهة المجالس. للصفوري الشافعي (ج 2 ص 184).
(3) ابن تيمية في منهاجه (ج 4 ص 210).
(4) المسعودي (هامش ابن الأثير ج 6 ص 61).
(٥٢)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، الحسن بن علي (1)، الوصية (2)، كتاب الفصول المهمة لإبن صباغ المالكي (1)، كتاب فصل الخطاب لسليمان أخ محمد بن عبد الوهاب (1)، ابراهيم الحمويني الشافعي (1)، كتاب الأشراف للشيخ المفيد (1)، كتاب ينابيع المودة (1)، كتاب فرائد السمطين (1)، إبن الأثير (1)، إبراهيم بن الحسن (1)، ابن تيمية (1)، الخوارزمي (1)

صفحه 047

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٥٣
كتبه وسلاحه. وأمرني أن آمرك، إذا حضرك الموت أن تدفعها إلي أخيك الحسين ". ثم أقبل علي الحسين فقال: " وأمرك رسول الله أن تدفعها إلي ابنك هذا ". ثم اخذ بيد علي بن الحسين وقال: " وأمرك رسول الله أن تدفعها إلي ابنك محمد. فأقرئه من رسول الله ومني السلام " (1).
* * * صورة تحكيها كل كتب الحديث التي تعرض لهذه المواضيع، وترفعها مسندة بالطرق الصحيحة الموثقة، إلي مراجعها من أهل البيت عليهم السلام وغيرهم. وهي الصورة التي تناسق الوضع المنتظر لمثل ظرفها. والا فما الذي كان ينبغي غير ذلك؟
وهذه هي طريقة الامامية من الشيعة في اثبات الإمامة.
- نصوص نبوية متواترة من طرقهم، ومروية بوضوح من طرق غيرهم، تحصر الإمامة في اثني عشر إماما كلهم من قريش (2)، وتذكر - ضمنا - أو في مناسبة أخري، أسماءهم إماما إلي آخرهم، وهو المهدي المنتظر الذي يملأ الله به الأرض قسطا وعدلا، بعد أن تكون قد امتلأت ظلما وجورا.
- ونصوص خاصة، من كل امام علي خلفه الذي يجب أن يرجع اليه الناس.
ثم يكون من تفوق الامام، في علمه وعمله ومكارمه وكراماته، أدلة وجدانية أخري، هي بمثابة تأييد لتلك النصوص بنوعيها.
(1) أصول الكافي (ص 151) وكشف الغمة (ص 159) وغيرهما.
(2) ففي صحيح مسلم (ج 2 ص 119) في باب " الناس تبع لقريش " عن جابر بن سمرة قال: " سمعت رسول الله (ص) يقول: لا يزال الدين قائما حتي تقوم الساعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ". وروي نحوا منه البخاري (ج 4 ص 164) وأبو داود والترمذي في جامعه والحميدي في جمعه بين الصحيحين. ورواه غيرهم. والحديث بحصره العدد في الاثني عشر من قريش، وبما يفصله صحيح مسلم من كون هذا العدد هو عدد الخلفاء إلي ان تقوم الساعة، صريح بما يقوله الامامية في أئمتهم، دون ما وقع في التاريخ من أعداد الخلفاء ومختلف عناصرهم.
(٥٣)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، علي بن الحسين (1)، الموت (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، حديث اثني عشر خليفة (1)، كتاب أصول الكافي للشيخ الكليني (1)، كتاب كشف الغمة للإربلي (1)، كتاب صحيح مسلم (2)، جابر بن سمرة (1)

صفحه 048

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٥٤
اما بيعة الناس فليست شرطا في امامة الامام. وانما علي الناس أن يبايعوا من أرادته النصوص النبوية. ولا تصحح الامامية بيعة غيره. ولا تقع من أحدهم الا اضطرارا.
وقضت الظروف بدوافعها الزمنية، أن لا يبايع الناس من الأئمة المنصوص عليهم، الا الامامين عليا والحسن عليهما السلام.
* * * وابتدأ بعد الحسن عهد " الخلافات " الاسمية، التي ترتكز في نفوذها علي السلاح، وتقوم في بيعتها علي شراء الضمائر بالمال. أو كما قال الغزالي " وأفضت الخلافة إلي قوم تولوها بغير استحقاق (1) ".
وكان الأولي بالمسلمين، أو بمؤرخة الاسلام علي الأخص، ان يغلقوا عهد " الخلافة " بنهاية عهد الحسن عليه السلام، ليشرعوا بعده عهد " الملك " بظواهره وسياسته وارتجالاته ولو فعلوا لحفظوا مثالية الاسلام مجلوة بما ترسمه خلفاؤه المثاليون من سيرة النبي صلي الله عليه وآله وسلم ولصانوا الاسلام عن كثير مما وصمه به هؤلاء الملوك الذين فرضوا علي المسلمين خلافاتهم فرضا، ثم جاء التاريخ فرضي أن يسميهم " الخلفاء " من دون استحقاق لهذا الاسم، وأساء إلي الاسلام من حيث أراد الاحسان.
تري، أيصح للخليفة الذي يجب أن يكون أقرب الناس شبها بصاحب الرسالة في ورعه وعلمه والتزامه بحرفية الاسلام، أن يصلي " الجمعة " يوم الأربعاء، أو يصليها مرة أخري في ضحي النهار، أو يتطلب محرما، أو يبيع الذهب بأكثر منه وزنا، أو يلحق العهار بالنسب، أو يقتل المؤمن صبرا، أو يرد الكافر بالمال ليتجهز علي اخوانه المسلمين بالحرب؟ إلي غير ذلك والي أنكي من ذلك من ظواهر الملك التي لا يجوز نسبتها إلي الدين. فلم لا يكون صاحبها رئيس دنيا و " ملكا " بدل أن نسميه رئيس دين و " خليفة "؟. وناهيك بمن جاء بعد معاوية من خلائف هذه الشجرة المنعوتة في القرآن - نعتها اللائق بها -. فماذا كان من يزيد وماذا كان من
(١) تراجع " دائرة المعارف " لفريد وجدي مادة " حسن " (ج 3 ص 231).
(٥٤)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (2)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، القرآن الكريم (1)، البيع (1)، القتل (1)، الجواز (1)

صفحه 049

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٥٥
عبد الملك ومن الوليد، ومن آخرين وآخرين.
كل ذلك كان يجب أن يستحث المسلمين إلي الانتصاف للاسلام، فلا يضيفون إلي مراكزه الدينية العليا، الا الأكفاء المتوفرين بتربيتهم علي مثاليته والذين هم أقرب الناس شبها بمصدر عظمته الأول (ص).
وعلمنا - مما تقدم - أن الحسن بن علي عليهما السلام، كان أشبه الناس برسول الله صلي الله عليه وآله خلقا وخلقا وهيأة وسؤددا (1). وانه كان عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك. وعلمنا أنه كان سيد شباب أهل الجنة في الآخرة. والسيد في الآخرة هو السيد في الدنيا غير منازع. و " السيد " المطلق لقبه الشخصي الذي لقبه به جده رسول الله (صلي الله عليه وآله).
وعلمنا أنه كان أشرف الناس نسبا، وخيرهم أبا وأما وعما وعمة وخالا وخالة وجدا وجدة. كما وصفه مالك بن العجلان في مجلس معاوية (2).
فلم لا يكون - علي هذا - هو المرشح بالتزكية القطعية للبيعة العامة. كما كان - إلي ذلك - هو الامام المقطوع علي أمره بالنص. ولم لا يضاف اليه المركز الديني الأعلي، وهو من عرفت مقامه وسموه ومميزاته. وإذا تعذر علينا أن نفهم الإمامة والكفاءة للخلافة، من هذه القابليات الممتازة والمناقب الفضلي، فأي علامة أخري تنوب عنها أو تكفينا فهمها.
* * * خرج عليه السلام إلي الناس، غير ناظر إلي ما يكون من أمرهم معه، ولكنه وقف علي منبر أبيه، ليؤبن أباه بعد الفاجعة الكبري في مقتله صلوات الله وسلامه عليه.
فقال: " لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون، ولا يدركه الآخرون. لقد كان يجاهد مع رسول الله فيقيه بنفسه. ولقد كان يوجهه برايته، فيكتنفه جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتي يفتح الله عليه. ولقد توفي في الليلة التي قبض فيها موسي بن عمران. ورفع بها عيسي بن مريم، وانزل القرآن. وما خلف صفراء ولا بيضاء الا سبعمائة درهم من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادما لأهله (1) ".
وتأبين الحسن هذا - بأسلوبه الخطابي - فريد لا عهد لنا بمثله، لأنه - كما تري - لم يعرض إلي ذكر المزايا المعروفة في الراحل العظيم، كما هي العادة المتبعة في أمثال هذه المواقف، ولا سيما في تأبين الرجال الذين احتوشوا الفضائل، فكان لهم أفضل درجاتها، ومرنوا علي المكارم فإذا هم في القمة من ذرواتها، علما وحلما وفصاحة وشجاعة وسماحة ونسبا وحسبا ونبلا ووفاء واباء، كعلي الذي حير المادحين مدح علاه. فلماذا يعزف الحسن عليه السلام، فيما يؤبنه به عن الطريقة المألوفة في تأبين العظماء؟. تري أكانت الصدمة القوية في مصيبته به، هي التي سدت عليه - وهو الخطيب المصقع وابن أخطب العرب - أبواب القول فيما ينبغي أن يقول، أم أنه كان قد عمد إلي هذا الأسلوب قاصدا، فكان في اختيار
(١) اليعقوبي (ج ٢ ص ١٩٠) وابن الأثير (ج ٣ ص ١٦) ومقاتل الطالبيين.
(٥٥)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، يوم عرفة (1)، موسي بن عمران (1)، القرآن الكريم (1)، الصّلاة (1)، الإختيار، الخيار (1)، القتل (2)، إبن الأثير (1)

صفحه 050

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٥٧
الأسلوب الخاص، أبلغ الخطباء وابرعهم إصابة للمناسبات، وأطولهم خطابة علي اختصار الكلمات.
نعم انه يؤبنه بما لا يسع أحدا في التاريخ أن يؤبن به غيره. وكل تأبين علي غير هذا الأسلوب، كان بالامكان أن يؤبن علي غراره غيره وغيره من عظماء الناس. اما الأوصاف الفريدة التي ذكرها الحسن لأبيه في هذا التأبين، فكانت الخصائص العلوية التي لا تصح لغير علي في التاريخ، ولا يشاركه فيها أحد من العظماء ولا من الأولياء.
انه ينظر اليه من زاويته الربانية - نظر امام إلي امام - فإذا هو الراحل الذي لا يشبهه راحل ولا مقيم، ولا يضاهيه - في شتي مراحله - ولي ولا زعيم.
رجل ولكنه الذي لم يسبقه الأولون ولا يدركه الآخرون. وانسان ولكنه بين جبرئيل وميكائيل، وهل هذا الا الانسان الملائكي. ترفع روحه يوم يرفع عيسي، ويموت يوم يموت موسي، وينزل إلي قبره يوم ينزل القرآن إلي الأرض! مراحل كلها بين ملك مقرب ونبي مرسل وكتاب منزل، ومع رسول الله يقيه بنفسه. فما شأن مكارم الدنيا، إلي جنب هذه المكرمات الكرائم، حتي يعرض إليها في تأبينه.
ولعلك تتفق معي الآن إلي أن هذا الأسلوب الرائع " الفريد " فيما أبن به الحسن أباه عليهما السلام، كان أبلغ تأبين في ظرفه، وأليقه بهذا الفقيد.
وهذه احدي مواقفه الخطابية، التي دلت بموهبتها الممتازة علي نسبها القريب، من جده ومن أبيه (صلي الله عليهما وعلي آلهما). وسيكثر منذ اليوم أمثالها، من الحسن " الخليفة " عليه السلام، بحكم نزوله إلي قبول البيعة من الناس، وبما سيستقبله من طوارئ كثيرة، تستدعيه للكلام وللقول وللخطابة في مختلف المناسبات.
* * *
(٥٧)
مفاتيح البحث: القرآن الكريم (1)، الموت (1)، القبر (1)، الكرم، الكرامة (1)، الجنابة (1)

صفحه 051

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٥٨
ووقف بحذاء المنبر في المسجد الجامع - وقد غص بالناس - ابن عمه " عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب ". ينتظر هدوء العاصفة الباكية المرنة، التي اجتاحت الحفل، في أعقاب تأبين الامام الحسن لأبيه عليهما السلام.
ثم قال - بصوته الجهوري الموروث - الذي يدوي في الأرض دوي أصوات السماء، وما كان عبيد الله منذ اليوم، الا داعي السماء إلي الأرض:
" معاشر الناس هذا ابن نبيكم، ووصي امامكم فبايعوه " " يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلي النور باذنه، ويهديهم إلي صراط مستقيم ".
وفي الناس إلي ذلك اليوم، كثير ممن سمع نص رسول الله صلي الله عليه واله، علي إمامته بعد أبيه. فقالوا: " ما أحبه الينا وأوجب حقه علينا وأحقه بالخلافة ". وبادروا إلي بيعته راغبين.
وكان ذلك يوم الواحد والعشرين من شهر رمضان، يوم وفاة أبيه عليه السلام، سنة أربعين للهجرة (1).
وهكذا وفقت الكوفة لان تضع الثقة الاسلامية في نصابها المفروض لها، من الله عز وجل ومن العدل الاجتماعي، وبايعته - معها - البصرة والمدائن وبايعه العراق كافة، وبايعه الحجاز واليمن علي يد القائد العظيم " جارية بن قدامة "، وفارس علي يد عاملها " زياد بن عبيد "، وبايعه - إلي ذلك - من بقي في هذه الآفاق من فضلاء المهاجرين والأنصار، فلم يكن لشاهد أن يختار ولا لغائب أن يرد، ولم يتخلف عن بيعته - فيما نعلم - الا معاوية ومن اليه، واتبع بقومه غير سبيل المؤمنين، وجري مع الحسن مجراه مع أبيه بالأمس. وتخلف أفراد آخرون عرفوا بعد ذلك بالقعاد.
(1) يرجع فيما ذكرناه هنا إلي شرح النهج لابن أبي الحديد (ج 4 ص 11) وذكر غيره مكان عبيد الله أخاه عبد الله. وسنشير في فصل " القيادة والنفير " إلي ان عبد الله لم يكن في الكوفة أيام بيعة الحسن.
(٥٨)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، المهاجرون والأنصار (1)، دولة العراق (1)، مدينة الكوفة (2)، شهر رمضان المبارك (1)، جارية بن قدامة (1)، مدينة البصرة (1)، زياد بن عبيد (1)، السجود (1)، الوفاة (1)، كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي (1)

صفحه 052

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٥٩
اما الخلافة الشرعية. فقد تمت " علي ظاهرتها العامة " من طريق البيعة الاختيارية، للمرة الثانية في تاريخ آل محمد صلي الله عليه وعلي آله الطاهرين وطلعت علي المسلمين من الزاوية المباركة التي طلعت عليهم بالنبوة قبل نصف قرن. فكانت من ناحية صلتها برسول الله صلي الله عليه وآله، امتدادا لمادة النور النبوي، في المصباح الذي يستضيء به الناس. ومع الخليفة الجديد كل العناصر المادية والمعنوية التي تحملها الوراثة في كينونته ومثاليته.
فكان علي ذلك الأولي بقول الشاعر:
نال الخلافة إذ كانت له قدرا * * * كما أتي ربه موسي علي قدر * * * ويعود الامام الحسن عليه السلام - بعد أن أخذت البيعة له - فيفتتح عهده الجديد، بخطابه التاريخي البليغ، الذي يستعرض فيه مزايا أهل البيت وحقهم الصريح في الامر، ثم يصارح الناس فيه بما ينذر به الجو المتلبد بالغيوم من مفاجئات واخطار..
فيقول. (وهو بعض خطابه):
" نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسول الله الأقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله في أمته، ثاني كتاب الله الذي فيه تفصيل كل شئ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعول علينا في تفسيره، لأنتظنن تأويله بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فان طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة، قال الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فان تنازعتم في شئ فردوه إلي الله والرسول وقال: ولو ردوه إلي الرسول وأولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ".
ثم يمضي في خطابه، ويردف أخيرا بقوله:
(٥٩)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، حزب الله (1)، الباطل، الإبطال (1)، الموت (1)، الطهارة (1)

صفحه 053

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٦٠
" وأحذركم الاصغاء لهتاف الشيطان فإنه لكم عدو مبين فتكونون كأوليائه الذين قال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس واني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص علي عقبيه وقال اني بريء منكم اني أري ما لا ترون. فستلقون للرماح وردا، وللسيوف جزرا، وللعمد حطما، وللسهام غرضا. ثم لا ينفع نفسا ايمانها، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيرا (1) "..
ثم نزل من علي منبره، فرتب العمال، وأمر الامراء ونظر في الأمور (2).
(1) روي هذه الخطبة هشام بن حسان. وقال: انها بعض خطبته بعد البيعة له بالامر البحار (ج 10 ص 99) والمسعودي.
(2) وروي هذا النص أكثر المؤرخين.
* * * قبول الخلافة وتحذلق بعض المترفهين بالنقد، فرأي من " التسرع " قبول الحسن للخلافة، في مثل الظرف الذي بايعه فيه الناس، بما كان يؤذن به هذا الظرف من زعازع ونتائج، بعضها ألم، وبعضها خسران.
ولكي نتبين مبلغ الإصابة في التسرع إلي هذا النقد. نقول:
اما أولا:
فلما كان الواجب علي الناس دينا، الانقياد إلي بيعة الامام المنصوص عليه، كان الواجب علي الامام - مع قيام الحجة بوجود الناصر - قبول البيعة من الناس.
اما قيام الحجة - فيما نحن فيه - فقد كان من انثيال الناس طواعية إلي البيعة في مختلف بلاد الاسلام، ما يكفي - بظاهر الحال - دليلا عليه. ولا مجال للتخلف عن الواجب مع وجود شرطه.
واما ثانيا:
فان مبعث هذا الانعكاس البدائي، عن قضية الحسن عليه السلام هو
(٦٠)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، البعث، الإنبعاث (1)

صفحه 054

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٦١
النظر إليها من ناحيتها الدنيوية فحسب. بينما الأنسب بقضية " امام " ان يستنطقها الباحث من ناحيتها الدينية علي الأكثر. وكثير هو الفرق بين الدنيا والدين في نظر امام. والقضية من هذه الناحية ظفر لا خسارة - كما سنأتي علي توضيحه في محله المناسب - وهي وان تكن معرض آلام، ولكنها آلام في سبيل الاسلام، ومن أولي من الحسن بالاسلام وتحمل آلامه. وانما هو نبت بيته.
واما ثالثا:
فلم يكن الحسن في رفعة مكانه من زعماء المسلمين، وفي نسبه الممتاز ومركزه من العلم، بالذي يستطيع الفراغ وان أراده عن عمد، ولا بالذي يتركه الناس وان أراد هو ان يتركهم، وكان لابد للرجات العنيفة في المجتمع الاسلامي، أن تتدافع اليه، تستدعيه للوثوب احقاقا للحق وانكارا للمنكر - كما وقع لأخيه الحسين عليه السلام في ظرفه.
وأيضا. فلو ترك الناس وتجافي عن بيعتهم، أو تركه الناس وأعفوه خلافتهم، فلن يتركه المتغلبون علي الناس. وانهم لينظرون اليه - دائما - كشبح مخيف، بما يدور حوله من الدعوة إلي الاصلاح، أو النقمة الصارخة علي الوضع، التي كان يتطوع لها مختلف الطبقات، من الساخطين والمعارضين والدعاة لله، ولن يجد هؤلاء يومئذ ملجأ يفيئون اليه، خيرا من ابن رسول الله الامام المحبوب. وهل كانت الوفود التي عرضت عليه استعدادها لمناوأة الحكام الأمويين وإعادة الكرة (1) لاسترجاع الحق المغصوب، الا ظاهرة هذه النقمة الصارخة التي كان يعج بها المجتمع الاسلامي يوم ذاك. وأني لسلطان المتغلبين أن يستقر ما دام هذا المنار قائما يفيء اليه الناس.
ولنتذكر أنه قتل مسموما. ولماذا يقتلونه وقد صالحهم وترك لهم الدنيا برمتها، لولا أنهم خافوه علي سلطانهم، ورأوا من وجوده حاجزا
(1) الإمامة والسياسة (ص 151).
(٦١)
مفاتيح البحث: الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، الدولة الأموية (1)، القتل (1)

صفحه 055

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٦٢
يمنعهم من النفوذ إلي قلوب الناس؟ وهل ذلك الا دليل انقياد الناس - في عقيدتهم - اليه دونهم؟
وهذا كله بعد الصلح، وبعد ظهور جماعات من شيعته وغير شيعته ينكرون عليه موقفه من الصلح.
تري فكيف كانت قوته في الناس لو انه أبي الخلافة من أول الامر، وبقي شغف المسلمين إلي بيعته علي حدته، فهل كان من المحتمل، أن يظل محور الامل ومفزع الناقمين والمعارضين، ثم تنام عنه العيون الحذرة علي دنياها، فلا تعاجله بما ختمت به حياته المقدسة أخيرا؟ وهل كان الا طعمة الاغتيالات الكافرة في سنته الأولي بعد أبيه - علي أغلب الظن -؟.
فأي منطق هذا الذي يري من قبول الحسن للخلافة تسرعا!
والخلافة - في أصلها - مقام أبيه وميراثه وميراث أخيه - علي حد تعبير الامام علي بن موسي بن جعفر عليهم السلام.
واما الزعازع التي لوح بها هذا النقد، فما كانت الا خطط المناوئين في الكوفة، وليس شئ منها بالذي يضير الحسن ابان نشاط الناس معه - كما هو في ابان بيعته - وأي خليفة أو زعيم ليس له مناوئون؟
فلم لا يكون قبول البيعة هو الأرجح علي مختلف الوجوه؟.
بل هو الواجب لضرورة الوقت وللمصلحة العامة ولإحقاق الحق.
الكوفة أيام البيعة
(٦٢)
مفاتيح البحث: الإمام موسي بن جعفر الكاظم عليهما السلام (1)، مدينة الكوفة (2)، صلح (يوم) الحديبية (2)، الظل، التظليل، الظلالة (1)، الظنّ (1)

صفحه 056

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٦٤
الكوفة كما يصفها صعصعة بن صوحان العبدي (1): " قبة الاسلام وذروة الكلام، ومصان (2) ذوي الاعلام، الا ان بها أجلافا (3) تمنع ذوي الامر الطاعة وتخرجهم عن الجماعة، وتلك أخلاق ذوي الهيئة والقناعة ".
مصرها المسلمون في السنة السابعة عشرة (4) للهجرة بعد فتح العراق مباشرة.
وكان بناؤها الأول بالقصب، فأصابها حريق، فبنيت باللبن وكانت شوارعها العامة بعرض عشرين ذراعا - بذراع اليد -، وأزقتها الفرعية بعرض سبعة أذرع. وما بين الشوارع أماكن البناء وهي بسعة أربعين ذراعا، والفطايع وهي بسعة ستين ذراعا.
وكان المسجد أول شئ خطوه فيها. فوقف في وسط الرقعة التي أريدت للمدينة. رجل شديد النزع، رمي إلي كل جهة بسهم، ثم أقيمت المباني فيما وراء السهام، وترك ما دونها للمسجد وساحته. وبنوا في مقدمة المسجد رواقا، أقاموه علي أساطين من رخام كان الأكاسرة قد جلبوها من خرائب الحيرة، وجعلوا علي الصحن خندقا لئلا يقتحمه أحد ببنيان.
وزاد عمران الكوفة زيادة مفاجئة، حين هاجر إليها أمير المؤمنين عليه السلام، فاتخذها مقرا له بعد وقعة الجمل سنة 36 للهجرة وكان دخوله إليها في الثاني عشر من شهر رجب.
(١) تجد ترجمته في " زعماء الشيعة المروعين " في الكتاب، وروي كلمته هذه المسعودي (هامش ابن الأثير ج ٦ ص ١١٨).
(٢) بفتح أوله غلاف القوس.
(٣) الجلف هو الغليظ الجافي.
(٤) البلاذري في فتوح البلدان والبراقي في تاريخ الكوفة، وذكره الحموي في المعجم ثم ناقض نفسه إذ قال في مادة " البصرة ": " وكان تمصير البصرة في السنة الرابعة عشرة قبل الكوفة بستة أشهر! ".
(٦٤)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، دولة العراق (1)، مدينة الكوفة (4)، شهر رجب المرجب (1)، صعصعة بن صوحان (1)، السجود (3)، الجماعة (1)، إبن الأثير (1)، مدينة البصرة (2)

صفحه 057

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٦٥
وكان من بواعث هذه البادرة - هجرة علي إلي الكوفة - ضعف موارد الحجاز، واعتماده في موارده علي غيرها، وما من علة تتعرض لها دولة أضر من اعتمادها في الموارد علي غيرها، وكانت الكوفة وبلاد السواد تكفي نفسها وتفيض. وهذا عدا الأسباب العسكرية التي اضطرته لها الثورات المسلحة التي كانت تتخذ من بلاد الرافدين ميادين لإعمالها العدوانية.
وتقاطر علي الكوفة - إذ هي عاصمة الخلافة - كبار المسلمين من مختلف الآفاق. وسكنتها القبائل العربية من اليمن والحجاز، والجاليات الفارسية من المدائن وإيران. وعمرت فيها الأسواق التجارية. وزهت فيها الدراسات العلمية. وأنشئت حولها الحدائق والبساتين والأرباض والقريات. وأغفت علي ذراعها أمجاد التاريخ والآداب والعلوم زمنا طويلا.
وغلب علي الكوفة تحت ظل الحكم الهاشمي التشيع لعلي وأولاده عليهم السلام، ثم لم يزل طابعها الثابت اللون. ووجد معه بحكم اختلاف العناصر التي يممت المصر الجديد أهواء مناوئه أخري، كانت بعد قليل من الزمن أداة الفتن في أكثر ما عصف بالكوفة من الزعازع التاريخية والرجات العنيفة لها وعليها.
* * * وجاءت بيعة الحسن عليه السلام يوم بايعته الكوفة، عند ملتقي الآراء من سائر العناصر الموجودة فيها يوم ذاك، علي أنها كانت قل ما تلتقي علي رأي.
وكان للحسن من أسلوب حياته في هذه الحاضرة، مدي اقامته فيها، ما جعله قبلة الانظار ومهوي القلوب ومناط الآمال، وملأ أجواء المدينة الجديدة " عاصمة أبيه " بكرائم المكرمات التي تنتقل في آل محمد بالإرث: جود يد، وسجاحة خلق، ونبل شعور، وظرف شمائل، وسعة حلم، ورجاحة عقل وعلم وزهادة وعبادة. وضحك منبر الخلافة - في بحران
(٦٥)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، دولة ايران (1)، مدينة الكوفة (6)، السلاح (1)، الجود (1)

صفحه 058

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٦٦
حزنه علي الامام الراحل - بما شاع في أكنافه من شيم الأنبياء الموروثة في خليفته الجديد، ولم يكن ثمة أعمل بالتقوي، ولا أزهد بالدنيا، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه، لذلك كان الشخصية الفذة التي تتفق عليها الآراء المختلفة عن رغبة وعمد، وتجتمع فيها عناصر الزعامة كما يجب في قائد أمة أو امام قوم.
وانتهت مهرجانات البيعة في الكوفة علي خير ما كان يرجي لها من القوة والنشاط والتعبئة، لولا ان للقدر أحكاما لا تجري علي أقيسة العقول، ولا تسير علي رغائب الأنفس، فكان الجو السياسي في الحاضرة التي تحتفل لأول مرة في تاريخها بتنصيب خليفة، لا يزال راكدا متلبدا مشوبا بشيء كثير من التبليل المريب، وذلك هو ما ورثته الكوفة من مخلفات الحروب الطاحنة التي كانت علي مقربة منها في البصرة والنهروان وصفين. وفي الكوفة يومئذ أنصار كثيرون لشهداء هذه الحروب وضحاياها من الفريقين يشاركونهم الرأي، ويتمنون لو يسر لهم اخذ الثار، ويعملون ما وسعهم العمل لتنفيذ أغراضهم.
ومن هذه الاغراض، الاغراض الصالحة المؤاتية، ومنها الفاسدة المبرقعة الأهداف التي لا تفتأ تخلق ذرائع الخلاف في المجموع.
* * * اما الحسن - وهو في مستهل خلافته - فقد كانت القلوب كلها معه لأنه ابن بنت رسول الله صلي الله عليه وآله، ولان من شرط الايمان مودته، ومن شرط البيعة طاعته.
قال ابن كثير: " وأحبوه أشد من حبهم لأبيه (1) ".
وكان لا يزال بمنجاة من هؤلاء وهؤلاء، ما دام لم يباشر عملا ايجابيا يصطدم بأهداف البعض، أو يمس الوتر الحساس من عصبيات البعض الآخر. ذلك لان الوسائل التي أصبح يعيش بها الاسلام يومئذ، كانت
(١) البداية والنهاية (ج 8 ص 41).
(٦٦)
مفاتيح البحث: إبن بنت رسول الله صلي الله عليه وآله (1)، مدينة الكوفة (3)، مدينة البصرة (1)، كتاب البداية والنهاية (1)

صفحه 059

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٦٧
تخضع في أمثال هؤلاء المسلمين للأهداف الشخصية تارة، وللعصبيات أخري.
وخيل للكثيرين من أولئك الذين تتحكم فيهم الأنانية والنفعية حتي تتجاوز بهم حدود العقيدة، أنهم إذ يبايعون الحسن بالخلافة، انما يتسورون بهذه البيعة إلي اسناد قضاياهم، وارضاء مطامعهم، عن طريق الخلق الثري الواسع، الذي ألفوه في الحسن بن علي منذ عرفوه بين ظهرانيهم، والذي كان يذكرهم - دائما - بخلق جده الأعظم صلي الله عليه وآله وسلم، وكانوا يحفظون من صحابة الرسول أن الحسن أشبه آله به خلقا وخلقا.
والواقع انهم فهموا هذا الخلق العظيم علي غير حقيقته.
وتسابق علي مثل هذا الظن كثير من ذوي المبادئ التي لا تتفق والحسن في رأي ولا عقيدة، فبايعوه راغبين، كما يبايعه المخلصون من المؤمنين. ثم كان هؤلاء - بعد قليل من الزمن - أسرع الناس إلي الهزيمة من ميادينه لا يلوون علي شئ، ذلك لأنهم حين عركوا مواطن طمعهم من ليونة الحسن عليه السلام، وجدوها بعد تسلمه الحكم واضطلاعه بالمسؤولية، أعنف من زبر الحديد، حتي ان كلا من أخيه وابن عمه وهما أقرب الناس اليه وأحظاهم منزلة عنده عجز ان يعدل به عن رأي أراده، ثم مضي معتصما برأيه في غير تكلف ولا اكتراث.
ولهذا، فلم يكن عجيبا أن تدب روح المعارضة وئيدة في الجماعات القلقة من هؤلاء الرؤساء والمترئسين في الكوفة، ولم يكن عجيبا ان يعودوا متدرجين إلي سابق سيرتهم مع الامام الراحل الذي " ملأوا قلبه غيظا وجرعوه نغب التهمام إنفاسا "، وهكذا تنشأت - في هذا الوسط الموبوء - الحزبية الناقمة التي لا تعدم لها نصيرا قويا في الخارج. وهكذا انبثقت مع هذه الحزبية المشاكل الداخلية بمختلف ألوانها.
واستغل هذه المرحلة الدقيقة فئات من النفعيين، تمكنوا ان يخلقوا من
(٦٧)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، مدينة الكوفة (1)، الحسن بن علي (1)، الوسعة (1)، الظنّ (1)

صفحه 060

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٦٨
أنفسهم همزة وصل بين الكوفة والشام، بما في ذلك من تمرد علي الواجب. وخروج علي الخلق، وخيانة للعهد الذي فرضته البيعة في أعناقهم.
وقديما مرن هذا النمط من " أشباه الرجال " علي الشغب والقطيعة والنفور، منذ انتقلت الخلافة الاسلامية إلي الحاضرة الجديدة في العراق بما تحمله معها من الصراحة في الحكم والصرامة في العدل. وكان قلق هؤلاء وتبرمهم ونفورهم، نتيجة اليأس من دنيا هذه الخلافة، لأنها لم تكن خلافة دنيا ولكن خلافة دين. وعلموا أنها لن تقرهم علي ما هم عليه من سماحة التصرفات في الشؤون العامة والاستئثار بالدنيا، وأنها ستأخذ عليهم الطريق دون آمالهم واعمالهم ومختلف تصرفاتهم.
ووجد هؤلاء من نشوء الخلافة الجديدة في الكوفة، ومن استمرار معاوية علي الخلاف لها في الشام، ظرفا مناسبا لبعث النشاط واستئناف أعمال الشغب واستغلال الممكن من المنافع العاجلة، ولو من طريق اللعب علي الجانبين، فاما أن يحتلوا من الامارة الجديدة أمكنتهم التي ترضي طموحهم، واما أن يعملوا علي الهدم ويتعاونوا علي الفساد. وكانت خزائن الشام لا تفتأ تلوح بالمغريات من الأموال والمواعيد، وكانت الأموال والمواعيد أمضي أسلحة الشام في مواقفها من الكوفة علي طول الخط.
وهكذا فت في أعضاد كوفة الحسن تقلب الهوي وتوزع الرأي وتداعي الخلق وتوقح الخصومة في الكثير الكثير من أهلها.
وكان علي هذه الشاكلة من عناصر الكوفة ابان بيعة الحسن عليه السلام أقسام من الناس.
لنا ان نصنفهم كما يلي:
الحزب الأموي:
وأكبر المنتسبين اليه عمرو بن حريث، وعمارة بن الوليد بن عقبة، وحجر بن عمرو، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وأبو بردة بن أبي موسي الأشعري، وإسماعيل واسحق ابنا طلحة بن عبيد الله، واضرابهم.
(٦٨)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، عمر بن سعد لعنه الله (1)، دولة العراق (1)، مدينة الكوفة (5)، طلحة بن عبيد الله (1)، الوليد بن عقبة (1)، عمرو بن حريث (1)، الشام (4)، اليأس (1)

صفحه 061

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٦٩
وفي هذا الحزب عناصر قوية من ذوي الاتباع والنفوذ، كان لها أثرها فيما نكبت به قضية الحسن من دعاوات ومؤامرات وشقاق.
" فكتبوا إلي معاوية بالسمع والطاعة في السر، واستحثوه علي المسير نحوهم، وضمنوا له تسليم الحسن اليه عند دنوهم من عسكره، أو الفتك به (1) ".
وفيما يحدثنا المسعودي في تاريخه (2): " أن أكثرهم اخذوا يكاتبونه - يعني معاوية - سرا، ويتبرعون له بالمواعيد، ويتخذون عنده الايادي ".
" ودس معاوية إلي عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي دسيسة، وآثر كل واحد منهم بعين من عيونه، انك إذا قتلت الحسن، فلك مائة الف درهم، وجند من أجناد الشام، وبنت من بناتي. فبلغ الحسن عليه السلام ذلك فاستلام (لبس اللامة) ولبس درعا وكفرها، وكان يحترز ولا يتقدم للصلاة بهم الا كذلك، فرماه أحدهم في الصلاة بسهم، فلم يثبت فيه لما عليه من اللامة (3) ".
ومثل واحد من هذه النصوص يغني عن أمثال كثيرة.
وهكذا كان يعمل هؤلاء عامدين، شر ما يعمله خائن يتحين الفرص، وكانت محاولاتهم اللئيمة، لا تكاد تختفي تحت غمائم الدجل والنفاق، حتي
(1) المفيد في الارشاد (ص 170) - والطبرسي في اعلام الوري.
(2) هامش ابن الأثير (ج 6 ص 42). أقول: وما يدرينا أن يكون كثير من أهل الشام كاتبوا الحسن يومئذ، بمثل ما كاتب به الكوفيون معاوية. وقد علمنا ان الفريقين - أهل الشام وأهل الكوفة - كانوا سواء في إفلاسهم الخلقي الذي ينزع إلي الخيانة كلما أغرتهم المظاهر. وعليك ان ترجع إلي البيهقي في المحاسن والمساوي (ج 2 ص 200) لتشهد مكاتبة أصحاب معاوية عليا عليه السلام، وترجع إلي اليعقوبي (ج 3 ص 12) لتشهد مكاتبة عامة أصحاب عبد الملك بن مروان لمصعب بن الزبير وطلبهم الأمان والجوائز منه. فلعل مكاتبة الشاميين للحسن انما خفيت علينا لان الحسن كان آمن من صاحبه علي السر فلم يبح بما وصله منهم، أو لان المؤرخين شاءوا اغفالها ككثير من أمثالها.
(3) علل الشرائع (ص 84).
(٦٩)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، حجار بن أبجر (1)، شبث بن ربعي اليربوعي (1)، عمرو بن حريث (1)، الشام (3)، الصّلاة (2)، النفاق (1)، كتاب الإرشاد للشيخ المفيد (1)، كتاب علل الشرايع للصدوق (1)، كتاب إعلام الوري بأعلام الهدي (1)، مدينة الكوفة (1)، إبن الأثير (1)، الإخفاء (1)، الشهادة (2)

صفحه 062

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٧٠
تبدو عارية سافرة في ساعة نداء الواجب.
وهكذا كانوا - علي طول الخط - قادة السخط، وأعوان الثورة، وأصابع العدو في البلد.
ومالأهم " الخوارج " علي حياكة المؤامرات الخطرة، بحكم ازدواج خطة الفئتين، علي مناهضة الخلافة الهاشمية في عهديها الكريمين. ودل علي ذلك اشتراك كل من الأشعث بن قيس وشبث بن ربعي فيما يرويه النص الأخير من هذه الأمثلة الثلاث، وكان هذان من رؤوس الخوارج في الكوفة.
2 - الخوارج:
وهم أعداء علي عليه السلام منذ حادثة التحكيم، كما هم أعداء معاوية.
وأقطاب هؤلاء في الكوفة: عبد الله بن وهب الراسبي، وشبث بن ربعي، وعبد الله بن الكواء، والأشعث بن قيس، وشمر بن ذي الجوشن.
وكان الخوارج أكثر أهل الكوفة لجاجة علي الحرب، منذ يوم البيعة، وهم الذين شرطوا علي الحسن عند بيعتهم له حرب الحالين الضالين - أهل الشام -، فقبض الحسن يده عن بيعتهم علي الشرط، وأرادها (علي السمع والطاعة وعلي أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم)، فأتوا الحسين أخاه، وقالوا له: " ابسط يدك نبايعك علي ما بايعنا عليه أباك يوم بايعناه، وعلي حرب الحالين الضالين أهل الشام ". فقال الحسين: " معاذ الله أن أبايعكم ما دام الحسن حيا ". فانصرفوا إلي الحسن ولم يجدوا بدا من بيعته علي شرطه (1) ".
أقول: وما من ظاهرة عداء للحسن عليه السلام، فيما اقترحه هؤلاء
(1) يراجع كتاب الإمامة والسياسة (ص 150).
(٧٠)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، مدينة الكوفة (3)، عبد الله بن وهب الراسبي (1)، شبث بن ربعي اليربوعي (2)، شمر بن ذي الجوشن لعنه الله (1)، الشام (2)، الخوارج (4)، الحرب (3)

صفحه 063

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٧١
الخوارج لبيعتهم إياه، ولا في اصرارهم علي الحرب، وقد كان في شيعة الحسن من يشاطرهم الالحاح علي الحرب، ولكنك ستري فيما تستعرضه من مراحل قضية الحسن عليه السلام، أن الخوارج كانوا أداة الكارثة في أحرج ظروفها. ورأيت فيما مر عليك - قريبا - أن زعيمين من زعمائهم ساهما في أفظع مؤامرة أموية في الكوفة.
وللخوارج في دعواتهم إلي " الخروج " أساليبهم المؤثرة المخيفة، التي كانت تزعزع ايمان كثير من الناس بالشكوك. وكان هذا هو سر انتشارهم بعد نكبتهم الحاسمة علي شواطئ النهروان.
وكان زياد بن أبيه يصف دعوة الخوارج بقوله: " لكلام هؤلاء أسرع إلي القلوب من النار إلي اليراع (1) ". وكان المغيرة بن شعبة يقول فيهم: " انهم لم يقيموا ببلد يومين الا أفسدوا كل من خالطهم " (2).
والخارجي يقول الزور ويعتقده الحق، ويفعل المنكر ويظنه المعروف، ويعتمد علي الله ولا يتصل اليه بسبب مشروع.
وسنعود إلي ذكرهم في مناسبة أخري عند الكلام علي " عناصر الجيش ".
3 - الشكاكون:
ورأينا ذكر هؤلاء فيما عرضه المفيد (رحمه الله) من عناصر جيش الحسن عليه السلام. والذي يغلب علي الظن، أن تسميتهم بالشكاكين ترجع إلي تأثرهم بدعوة الخوارج من دون أن يكونوا منهم، فهم المذبذبون لا إلي هؤلاء ولا إلي هؤلاء.
ورأيت المرتضي في أماليه (ج 3 ص 93) يذكر " الشكاك " استطرادا ويلوح بكفرهم، وكأنه فهم عنهم التشكيك بأصل الدين.
(1) اليراع: القصب.
(2) الطبري (ج 6 ص 109).
(٧١)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (2)، مدينة الكوفة (1)، المغيرة بن شعبة (1)، الخوارج (5)، الظنّ (1)، الحرب (2)

صفحه 064

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٧٢
وكانوا طائفة من سكان الكوفة ومن رعاعها المهزومين، الذين لا نية لهم في خير ولا قدرة لهم علي شر، ولكن وجودهم لنفسه كان شرا مستطيرا وعونا علي الفساد وآلة " مسخرة " في أيدي المفسدين.
4 - الحمراء:
وهم عشرون الفا من مسلحة الكوفة (كما يحصيهم الطبري في تاريخه). كانوا عند تقسيم الكوفة في السبع الذي وضع فيه أحلافهم من بني عبد القيس، وليسوا منهم، بل ليسوا عربا، وانما هم المهجنون من موال وعبيد، ولعل أكثرهم من أبناء السبايا الفارسيات اللائي أخذن في " عين التمر " و " جلولاء " من سنة 12 - 17 فهم حملة السلاح سنة 41 وسنة 61 في أزمات الحسن والحسين (عليهما السلام) في الكوفة (فتأمل).
والحمراء شرطة زياد الذين فعلوا الأفاعيل بالشيعة سنة 51 وحواليها، وكانوا من أولئك الذين يحسنون الخدمة حين يغريهم السوم، فهم علي الأكثر أجناد المتغلبين وسيوف الجبابرة المنتصرين.
وقويت شوكتهم بما استجابوا له من وقايع وفتن في مختلف الميادين التي مر عليها تاريخ الكوفة مع القرن الأول. وبلغ من استفحال امرهم في الكوفة أن نسبوها إليهم فقالوا " كوفة الحمراء ".
وكان في البصرة مثل ما في الكوفة من هؤلاء المهجنين الحمر. وخشي زياد (وكان والي البصرة إذ ذاك) قوتهم فحاول استئصالهم، ولكن الأحنف بن قيس منعه عما أراد.
ووهم بعض كتاب العصر، إذ نسب هؤلاء إلي التشيع، أبعد ما يكونون عنه آثارا ونكالا بالشيعيين وأئمتهم. ولا ننكر ان يكون فيهم أفراد رأوا التشيع، ولكن القليل لا يقاس عليه.
* * *
(٧٢)
مفاتيح البحث: الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، مدينة الكوفة (8)، مدينة البصرة (2)، الأحنف بن قيس (1)، التمر (1)، العصر (بعد الظهر) (1)

صفحه 065

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٧٣
وكان إلي جنب هذه العناصر العدوة في الكوفة " شيعة الحسن " وهم الأكثر عددا في عاصمة علي عليه السلام، وفي هؤلاء جمهرة من بقايا المهاجرين والأنصار، لحقوا عليا إلي الكوفة، وكان لهم من صحبتهم الرسول صلي الله عليه وآله ما يفرض لهم المكانة الرفيعة في الناس.
وبرهن رجالات الشيعة في الكوفة علي اخلاصهم لأهل البيت عليهم السلام، منذ نودي بالحسن للخلافة، ومنذ نادي - بعد خلافته - بالجهاد، وفي سائر ما استقبله من مراحل. ولو قدر لهؤلاء الشيعة أن يكونوا - يومئذ - بمنجاة من دسائس المواطنين الآخرين، لكانوا العدة الكافية لدرء الاخطار التي تعرضت لها الكوفة من الشام، وكان في هذه المجموعة المباركة من الحيوية والقابلية ما لا يستطيع أحد نكرانه، ونعني بالحيوية القابليات التي تهضم المشاكل وتفهمها، وتعطيها الأهمية المطلوبة في حلولها.
وما ظنك بقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري وحجر بن عدي الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وسعيد بن قيس الهمداني، وحبيب بن مظاهر الأسدي، وعدي بن حاتم الطائي، والمسيب بن نجية، وزياد بن صعصعة، وآخرين من هذا الطراز.
اما الطوارئ المستعجلة المعاكسة، والأصابع المأجورة الهدامة، فقد كانت تعمل دائما، لتغلب هذه القابليات، ولتغير من هذا التقدير.
* * * ولم يخف علي الحسن عليه السلام ما كانت تتمخض عن لياليه الحبالي في الجو المسحور بشتي النزعات، والمتكهرب بشواجر الفتن وألوان الدعوات. وكان لا بد له - وهو في مطلع خلافته - أن يعالن الناس بخطته وأن يصارحهم عن موقفه، وأن يستملي خطته من صميم ظروفه وملابساتها في الداخل والخارج معا.
وكان معاوية هو العدو " الخارج " الذي يشغل بال الكوفة يما يكيده
(٧٣)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، المهاجرون والأنصار (1)، كتاب الكافئة للشيخ المفيد (1)، مدينة الكوفة (5)، حبيب بن مظاهر الأسدي رضوان الله عليه (1)، حجر بن عدي الكندي (1)، عدي بن حاتم (1)، عمرو بن الحمق (1)، سعد بن عبادة (1)، سعيد بن قيس (1)، الشام (1)، الجنابة (1)

صفحه 066

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٧٤
لها من أنواع الكيد، وبما يتمتع به من وسائل القوة والاستقرار في رقعته من بلاد الشام. وما كان معاوية بالعدو الرخيص الذي يجوز للحسن عليه السلام، أن يتغاضي عن أمره، ولا بالذي يأمن غوائله لو تغاضي عنه، وكان الحسن - في حقيقة الواقع - أحرص بشر علي سحق معاوية والكيل له بما يستحق، لو أنه وجد إلي ذلك سبيلا من ظروفه.
واما في " الداخل " فقد كان أشد ما يسترعي اهتمام الامام عليه السلام موقف المعارضة المركزة، القريبة منه مكانا، والبعيدة عنه روحا ومعني وأهدافا.
ولقد عز عليه أن يكون بين ظهراني عاصمته، ناس من هؤلاء الناس، الذين استأسدت فيهم الغرائز، وأسرفت عليهم المطامع، وتفرقت بهم المذاهب، وأصبحوا لا يعرفون للوفاء معني، ولا للدين ذمة، ولا للجوار حقا. نشزوا بأخلاقهم، فإذا بهم آلة مسخرة للانتقاض والغدر والفساد، ينعقون مع كل ناعق ويهيمون في كل واد. ولا يكاد يلتئم معهم ميدان سياسة ولا ميدان حرب. وحسبك من هذا مثار قلق ومظنة شغب وباعث مخاوف مختلفات.
وهكذا كان للعراق - منذ القديم - قابلية غير عادية لهضم المبادئ المختلفة والانتفاضات الثورية العاتية باختلاف المناسبات.
وللحسن في موقفه الممتحن من هذه الظروف، عبقرياته التي كانت علي الدوام بشائر ظفر لامع، لولا ما فوجئ به من نكسات مروعات كانت تنزل علي موقفه كما ينزل القضاء من السماء.
وتنبأ لكثير من الحوادث قبل وقوعها، وكان يمنعه الاحتياط للوضع، من الاصحار بنبوءته، فيلمح إليها الماحا. وعلي هذا النسق جاءت كلمته اللبقة الغامضة، التي اقتبسها من الآي الكريم، والتي قصد لها الغموض عن إرادة وعمد، وهي قوله في خطبته الأولي - يوم البيعة -: " اني أري ما لا ترون ".
(٧٤)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، دولة العراق (1)، الشام (1)، الكرم، الكرامة (1)، الحرب (1)، الجواز (1)

صفحه 067

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٧٥
تري، هل كان بين يديه يومئذ، الا المهرجانات النشيطة التي دلت قبل كل شئ، علي عظيم اخلاص المجتمع لخليفته الجديد؟ فما بال الخليفة الجديد لا يري منهم الا دون ما يرون؟.
انها النظرة البعيدة التي كانت من خصائص الحسن في سلمه وفي حربه وفي صلحه وفي سائر خطواته مع أعدائه ومع أصدقائه.
* * * وعلي أن الموسوعات التاريخية لم تعن بذكر الأمثلة الكثيرة التي يصح اقتباسها كعرض تاريخي عن سياسة الحسن، ولا سيما في الدور الأول من عهده القصير، وهو الدور الذي سبق اعلانه الجهاد في الكوفة، فقد كان لنا من النتف الشوارد التي تسقطناها من سيرته، ما زادنا وثوقا ببراعته السياسية التي لا مجال للريب فيها. فقد اقتاد الوضع المترنح الذي صحب عهده من أوله إلي آخره، قيادته الحكيمة التي لا يمكن أن تفضلها قيادة أخري لمثل هذا الوضع.
وليكن من أمثلة سياسته في قيادة ظروفه قبل الحرب ما يلي:
1 - أنه وضع لبيعته صيغة خاصة، وقبض يده عما أريد معها من قيود، وأرادها هو علي السمع والطاعة والحرب لمن حارب والسلم لمن سالم. فكان عند ظن المعجبين ببلاغته الإدارية، بما ذكر الحرب ولوح بالسلم فأرضي الفريقين من أحزاب الكوفة - دعاة الحرب، والمعارضين -. وكان لديه من الوضع العام (في كوفته) ما يكفيه نذيرا لاتخاذ مثل هذه الحيطة الحكيمة لوقت ما.
2 - أنه زاد المقاتلة مائة مائة، وكان ذلك أول شئ أحدثه حين الاستخلاف، فتبعه الخلفاء من بعده عليه (1).
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد (ج 4: ص 12).
(٧٥)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (2)، القتل (1)، الحرب (3)، الظنّ (1)، البول (1)، كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي (1)

صفحه 068

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٧٦
وللإنعاش في ترفيع مخصصات الجيش سلطانه المحبب علي النفوس، وله أثره في تأليف العدد الأكبر من الناس للخدمة في الجهاد.
وكانت ظاهرة تحتمل الاستعداد للحرب، ولكنها - مع ذلك - غير صريحة بالتصميم عليه، ما دامت ظاهرة إنعاش في عهد جديد. وهي علي هذا الأسلوب، من التصرفات التي تجمع الكلمة ولا تثير خلافا، في حين أنها استعداد حكيم للمستقبل الذي قد يضطره إلي حرب قريبة.
3 - أنه امر بقتل رجلين كانا يتجسسان لعدوه عليه. وهدد بتنفيذ هذا الحكم روح الشغب التي كان يستجيب لها عناصر كثيرة في المصرين (الكوفة والبصرة).
قال المفيد رحمه الله: " فلما بلغ معاوية وفاه أمير المؤمنين وبيعة الناس ابنه الحسن، دس رجلا من حمير إلي الكوفة، ورجلا من بني القين إلي البصرة، ليكتبا اليه بالاخبار، ويفسدا علي الحسن الأمور. فعرف بذلك الحسن، فأمر باستخراج الحميري من عند لحام بالكوفة، فأخرج، وأمر بضرب عنقه. وكتب إلي البصرة باستخراج القيني من بني سليم، فأخرج وضربت عنقه (1) ".
وروي أبو الفرج الأصفهاني نحوا مما ذكره المفيد، ثم قال: " وكتب الحسن إلي معاوية: أما بعد فأنت دسست إلي الرجال، كأنك تحب اللقاء، لا أشك في ذلك، فتوقعه ان شاء الله، وبلغني انك شمت بما لم يشمت به ذوو الحجي (يشير إلي ما تظاهر به معاوية من الفرح بوفاة أمير المؤمنين عليه السلام)، وانما مثلك في ذلك كما قال الأول:
فأنا ومن قد مات منا لكالذي * * * يروح ويمسي في المبيت ليغتدي فقل للذي يبغي الخلاف الذي مضي * * * تجهز لأخري مثلها فكأن قد 4 - تمهله عن الحرب رغم الحاح الأكثرين ممن حوله علي البدار إليها،
(1) الارشاد (ص 168) والبحار وكشف الغمة.
(٧٦)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، أبو الفرج الإصبهاني (الإصفهاني) (1)، مدينة الكوفة (3)، مدينة البصرة (2)، القتل (1)، الموت (1)، الحرب (2)، كتاب كشف الغمة للإربلي (1)

صفحه 069

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٧٧
منذ تسنمه الحكم في الكوفة.
وسنأتي في " الفصل 5 " الذي ستقرؤه قريبا، علي تحليل الموقف السياسي يوم ذاك، وسنري هناك، أن هذا التمهل المقصود كان هو التدبير الوحيد في ظرفه.
5 - استدراجه معاوية من طريق التبادل بالرسائل، إلي نسيان موقفه المتأرجح الذي لم تقو علي دعمه الدعاوي الفارغة الكثيرة، فإذا باضمامة من الغلطات هي أجوبة معاوية للحسن وهي التي كشفت للناس معاوية المجهول، ومهدت للحسن معذرته تجاه الرأي العام في حربه لمعاوية، وإذا بمعاوية الفريق المغلوب في منطق العقلاء، وان يكن الغالب بعد ذلك في منطق القوة.
ومثل واحد من هذه التدابير اللبقة التي أملي فيها الحسن خطته السياسية في العهد القصير، بين وفاة أبيه عليه السلام وبين تصميمه علي الحرب، كاف عن كثير.
التصميم علي الحرب
(٧٧)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (1)، الحرب (2)، النسيان (1)، الوفاة (1)

صفحه 070

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٨٠
ودل التتبع في مختلف الفترات التاريخية، علي أن لانتصار الدين في المجتمع شأنا كبيرا في تدرج الاخلاق. ذلك لان الشعوب تنطبع علي غرار قادتها، وتكيف بأهداف قوانينها. ولو لم يكن للدين الا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنزيه النفس عن الطمع بالمادة، لكفي.
أما هذا النفر من بقايا الجاهلية، فقد كانوا - كغيرهم من دعاة الطبقية - مطبوعين علي المحافظة والتمسك بعادات الآباء والجدود والنظم البالية والأوضاع الظالمة. وكانوا من الدين الجديد خصومه الألداء في ابان دعوته، ثم نظروا اليه كوسيلة إلي الدنيا، ابان اعتناقهم له.
وضاعت تحت ظل هذه النوازع أهداف الدين، وخسر المجتمع تدرجه إلي الصلاح المنشود، فإذا بالناس عند مطامع الدنيا " والدين لعق علي ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون ".
* * * ولآل محمد (صلي الله عليه وآله) رسالتهم التي لا يتراجعون عنها، لانقاذ الناس لا لنفع أنفسهم، ولإقامة حامية الدين لا إقامة عروشهم، وصيانة المعنويات لا صيانة ذاتياتهم.
فإذا كان معاوية لا يزال يعاند هذه الأهداف ويحارب المنادين بها، ثم يظل منفردا عن المسلمين ببغيه وعدوانه، مأخوذا بشهوة الحكم مأسورا بحب الاستئثار في مشاعره ومذاهبه، فليسر الحسن اليه بالمسلمين، وليحاكمه إلي الله، وكفي بالله حكما.
قال أبو الفرج الأصفهاني: " وكان أول شئ أحدثه الحسن عليه السلام أنه زاد المقاتلة مائة مائة. وقد كان علي عليه السلام فعل ذلك يوم
(٨٠)
مفاتيح البحث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1)، أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، أبو الفرج الإصبهاني (الإصفهاني) (1)، الظل، التظليل، الظلالة (1)، الهدف (1)، الجهل (1)، القتل (1)

صفحه 071

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٨١
الجمل. وفعله الحسن حال الاستخلاف، فتبعه الخلفاء من بعده في ذلك " قال: " وكتب الحسن عليه السلام إلي معاوية مع حرب بن عبد الله الأزدي: من الحسن بن علي أمير المؤمنين إلي معاوية بن أبي سفيان. سلام عليك فاني أحمد إليك الله الذي لا اله الا هو. أما بعد، فان الله جل جلاله بعث محمدا رحمة للعالمين ومنة للمؤمنين، وكافة للناس أجمعين، لينذر من كان حيا ويحق القول علي الكافرين. فبلغ رسالات الله، وقام بأمر الله، حتي توفاه الله غير مقصر ولا وان، وبعد أن اظهر الله به الحق، ومحق به الشرك.
وخص به قريشا خاصة، فقال له: وانه لذكر لك ولقومك. فلما توفي، تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه. فرأت العرب أن القول ما قالت قريش، وأن الحجة في ذلك لهم، علي من نازعهم أمر محمد، فأنعمت لهم وسلمت إليهم.
ثم حاججنا نحن قريشا، بمثل ما حاججت به العرب، فلم تتصفنا قريش انصاف العرب لها. انهم أخذوا هذا الامر دون العرب بالانصاف والاحتجاج، فلما صرنا - أهل بيت محمد وأولياءه - إلي محاجتهم وطلب النصف منهم، باعدونا واستولوا بالاجتماع علي ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا. فالموعد الله، وهو الولي النصير.
ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا وسلطان بيتنا. وإذ كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الاسلام، أمسكنا عن منازعتهم مخافة علي الدين أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزا يثلمون به، أو يكون لهم بذلك سبب إلي ما أرادوا من افساده.
فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية علي أمر لست من أهله، لا بفضل في الدين معروف، ولا اثر في الاسلام محمود. وأنت ابن حزب من الأحزاب وابن أعدي قريش لرسول الله صلي الله عليه وآله ولكتابه.
(٨١)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، معاوية بن أبي سفيان لعنهما الله (1)، الحسن بن علي (1)، الحرب (1)، النفاق (1)

صفحه 072

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٨٢
والله حسيبك فسترد عليه وتعلم لمن عقبي الدار. وبالله لتلقين عن قليل ربك، ثم ليجزينك بما قدمت يداك. وما الله بظلام للعبيد.
" ان عليا لما مضي لسبيله رحمة الله عليه يوم قبض ويوم من الله عليه بالاسلام ويوم يبعث حيا، ولاني المسلمون الامر من بعده. فأسأل الله ان لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئا ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة. وانما حملني علي الكتابة إليك، الاعذار فيما بيني وبين الله عز وجل في امرك، ولك في ذلك ان فعلته الحظ الجسيم والصلاح للمسلمين.
" فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنك تعلم أني أحق بهذا الامر منك عند الله وعند كل أواب حفيظ، ومن له قلب منيب، واتق الله، ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، فوالله مالك خير في أن تلقي الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به. وادخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الامر أهله ومن هو أحق به منك، ليطفئ الله النائرة بذلك ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين.
" وان أنت أبيت الا التمادي في غيك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك حتي يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين (1) ".
* * * ولقد تري ما ينكشف عنه كتاب الحسن عليه السلام في خواتيمه، من التهديد الصريح بالحرب. وكان لا مناص للحسن من اتباع هذه الطريقة فيما يفضي به إلي معاوية، حين يطلب اليه " أن يدع التمادي في الباطل، وأن يدخل فيما دخل فيه الناس من بيعته " وهي الطريقة السياسية الحكيمة التي يقصد بها اضعاف الخصم عن المقاومة باضعاف عزمه. ثم هو لا يقول له ذلك الا بعد أن يقيم عليه الحجة بما سبق من حجاجهم لقريش.
فدعاه مرشدا، وتوعده مهددا، ثم أنذره الحرب صريحا.
(1) ابن أبي الحديد (ج 4 ص 12).
(٨٢)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الخصومة (1)، الباطل، الإبطال (2)، البعث، الإنبعاث (1)، الحرب (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)

صفحه 073

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٨٣
واتبع خطة أبيه معه. وما كان الحسن في ما أحيط به من ظروف، وفي ما مني به من أعداء، الا ممثل أبيه حقا، حتي لكأن قطعة من الزمن كانت من عهد أمير المؤمنين عليه السلام، تأخرت عن حياته فإذا هي عهد ابنه الحسن في الكوفة. وكما كانت الحرب ضرورة لا مفر منها، في عهد الأب الراحل عليه السلام، كانت كذلك ضرورة لا يغني عنها شئ في عهد الابن القائم علي الامر.
وكان مما يزين الخلافة الجديدة، أن تزهو في فتوتها بما تملكه من قوة وسلطان، ولن يتم ذلك الا بأن تضرب علي أيدي العابثين، لتبعث الهيبة في النفوس، وتشق طريقها إلي الاستقرار لتقبض علي نواصي الأمور. فلا عجب إذا جاء كتاب الحسن هذا صريحا في تهديده، شديدا في وعظه، قويا في لغته الآمرة الناهية " واتق الله ودع البغي واحقن دماء المسلمين، فوالله ما لك خير في أن تلقي الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به، وادخل في السلم والطاعة ولا تنازع الامر أهله ومن هو أحق به منك.. ".
* * * أما الشعار الأموي في الشام، فقد ظل مغاضبا للخلافة الهاشمية في الكوفة، متنمرا علي بيعة الحسن تنمره علي بيعة أبيه من قبل. ولم تجد معه الرسائل المناصحة المصارحة، ولا كبحت من جموحه أساليبها الحكيمة وحججها الواضحة.
ونحن إذا تصفحنا ما وصل الينا من رسائل الحسن عليه السلام إلي معاوية، لم نجد فيها كلمة تستغرب من مثله، أو تتجاوز حد الحجة التي تنهض بحقه فيما فرضه الله من مودة أهل البيت عليهم السلام، وفيما سجله " الكتاب " من الحكم بطهارتهم من الرجس، أو لوح اليه من ولايتهم علي الناس، وبما صح عن رسول الله صلي الله عليه واله في نصوص الإمامة وتعيين الامام، وبالدعوة - أخيرا - إلي الطاعة وحقن الدماء واطفاء النائرة واصلاح ذات البين.
(٨٣)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، مدينة الكوفة (2)، الشام (1)، الحرب (1)

صفحه 074

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٨٤
اما رسائل معاوية إلي الحسن، فقد رأيناها تأخذ - علي الغالب - بأعراض الموضوع دون جوهرياته، وتفزع في الكثير من مضامينها إلي نبش الدفائن وتأريث النعرات الخطرة بين الاخوان المسلمين.
ومن الحق ان نعترف لمعاوية بسبقه استفزاز " الشعور الطائفي " لأول مرة في تاريخ الاسلام. بما كان يقصد اليه من طريق نبش هذه الدفائن، وتأريث هذه النعرات. فكان بذلك أول داع إلي فصم الوحدة التي بني عليها دين التوحيد، والتي هي - بحق - جوهر اصلاحه وسر نجاحه بين الأديان.
وكأن معاوية حين عجز عن اصطياد المغفلين من الناس، عن طريق نفسه أو عن طريق أبيه " أبي سفيان بن حرب " - ولهذين الطريقين سوابقهما المعروفة لدي المسلمين بأرقامها وتواريخها - رفع عقيرته في رسائله إلي الحسن، باسم أبي بكر وعمر وأبي عبيدة ولوح فيها بخلاف أهل البيت (عليهم السلام) علي بيعة أبي بكر..
وكانت [رسائل معاوية] بجملتها لا ينقصها في الموضوع الذي ابردت لأجله الا الحجة لاثبات الحق الشرعي - عبر العرش المقدس -. وحتي الشبهة المتخاذلة التي كان يصطنعها لمقارعة علي عليه السلام، في حروبه الطويلة الأمد، باسم الثأر لعثمان، قد طويت صفحتها بموت الامام الأول، وها هو ذا تجاه الامام الثاني، الذي كان قد جثم بنفسه علي باب دار عثمان يوم مقتله، يدافع الناس عنه، حتي لقد " خضب بالدماء " كما يحدثنا به عامة المؤرخين، ويقول الطقطقي في تاريخه (1): " ان الحسن قاتل عن عثمان قتالا شديدا، حتي كان يستكتفه وهو يقاتل عنه، ويبذل نفسه دونه.. ".
كل ذلك وعثمان بالموقف الدقيق الذي كان لا يفتأ يؤلب عليه فيه الآخرون، ويخذله الأقربون (2).
(1) الفخري (ص 74).
(2) لعل من الخير لمن أراد شرح هذا الاجمال، أن يرجع إلي ما صوره الأستاذ عبد الله العلايلي حفظه الله، من أحوال المجتمع علي عهد عثمان، في
(٨٤)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، التاريخ الإسلامي (1)، القتل (3)، الحرب (1)

صفحه 075

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٨٥
كتابه " أيام الحسن " (من صفحة 112 إلي 128) ولعل من الأفضل أن نختزل هنا الخطوط الرئيسة من تلك الصورة المفصلة، اتماما للفائدة قال:
" وهؤلاء الأمويون لم يكتفوا بأن يفرضوا أنفسهم ووجودهم الخالي من الحياة والجهد، بل تجاوزوا هذا، إلي تعبئة المجتمع في طبقات.. وإذا بالثروات الفاحشة تصير وتجتمع في أيدي الأمويين وأنصارهم، وإذا بمروان يستبد بالمقدرات العليا علي هواه، وإذا بأكثر الأقاليم تذهب إقطاعات بين فلان وفلان.. فيعلي بن أمية يملك ما قيمته مائة الف دينار، عدا عقاراته الكثيرة. وعبد الرحمن بن عوف يملك ما قيمته خمسمائة الف دينار. وزيد بن ثابت يملك من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس.. فلا بدع ان استنكرت الكثرة خطة هذا الجديد، ولا بدع ان تحدوا أنصاره واتهموهم بالمروق، ولا بدع ان دخلوا معهم في صراع بدأ خفيا ثم امتد حميا.
" ولقد باتت الحالة العامة تجيء في كلمتين: حكومة تتآمر بالشعب وشعب يتآمر بالحكومة. ولكن للشعب الكلمة الأخيرة والعليا دائما.. ومن الانصاف والخير ان نذكر ان الجمهور مع ذلك لم يكن أرعن في ثورته، فقد اتصل بأولياء الأمور والسلطة، وطالب بواسطة ممثليه مرارا وتكرارا ولكن مطاليبه في كل مرة كانت تبوء بالفشل وكان فشلا ذريعا متواصلا، ومن النوع المثير.
" وكان عمرو بن العاص في هذه الأثناء يحرض الناس علي عثمان ويجبه سياسته علانية ويتجسس عليه ويفضح الأحاديث التي تجري داخل داره، ولا يلقي أحدا الا أدخل في روعه كراهيته.. ويقابله حينما خطب عثمان علي ملأ من الصاخبين المتمردين بقوله: " يا أمير المؤمنين انك قد ركبت نهابير وركبناها معك فتب نتب ". وهذه عائشة تجترئ وهو يخطب فتقول وقد نشرت قميص النبي: " هذا قميص النبي لم يبل وقد أبليت سنته ". وهذا طلحة والزبير يعينان الثائرين بالمال.. ولكن عليا مع كل ما هو عاتب وواجد.. بادر إلي تقديم ولديه لاعتباراتهما التقديرية ومواليه لكي ينهوا عوادي الاحداث..
" وحين بلغه أن الناس حصروا داره ومنعوه الماء بعث اليه بثلاث قرب وقال للحسن والحسين اذهبا بسيفكما حتي تقوما علي بابه ولا تدعا أحدا يصل اليه بمكروه. وكان أن خضب الحسن بالدماء وشج قنبر مولاه.
" هذا ما عرف التاريخ عن علي وبنيه إزاء المصرع، بينما عرف من ناحية ثانية، أن عثمان وهو محاصر كتب إلي معاوية وهو بالشام: " أن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة، فابعث إلي من قبلك من مقاتلة أهل الشام علي كل صعب وذلول ". فإذا بمعاوية حينما جاءه كتابه يتربص به، فقد كره - علي حد دعواه - مخالفة أصحاب الرسول، وقد علم اجتماعهم علي ذلك. ومن تهكمات القدر أن يحرض عمرو بن العاص علي قتل عثمان ونجبهه عائشة علانية ويتخلي معاوية عن نجدته ويعين عليه طلحة والزبير كلاهما، ثم ينفر هؤلاء أنفسهم هنا وهناك يطالبون بدمه علي بن أبي طالب الذي أخلص له النصيحة وحذره من هذا المصير وكان مجنه دون رواكض الخطوب.. اه ".
(٨٥)
مفاتيح البحث: الدولة الأموية (2)، عبد الرحمن بن عوف (1)، علي بن أبي طالب (1)، يعلي بن أمية (1)، عمرو بن العاص (2)، زيد بن ثابت (1)، الشام (2)، التعبأة، العبء (1)، القتل (1)

صفحه 076

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٨٦
نعم كانت حجة معاوية الوحيدة في رسائله إلي الحسن، ادعاؤه " اني أطول منك ولاية واقدم منك بهذا الامر تجربة وأكبر منك سنا! (1) " ولا شئ غير ذلك.
ولو كان لدي معاوية من وراء هذه الجمل المتعاطفة، حجة حرية بالقول أو عسية بالقبول، لأفضي بها، ولترك النزوع إلي نبش الدفائن وتأريث النعرات.
وليت شعري، أي تجاربك تعني أبا يزيد؟!..
أيوم ضجت الشام منك إلي عمر حتي قام لشكاويها وقعد، واستقدمك - مع البريد - وكنت أخوف منه من غلامه " يرفأ ".؟ أم يوم ضربك بالدرة علي رأسك حين دخلت عليه معجبا بملابسك الخضر؟
أم يوم كنت تقتطع الأمور من دون عثمان، ثم تقول: " هذا أمر عثمان " كذبا حتي لقد كنت أحد أسباب نكبته؟
أم يوم سعيت برجلك وجيشك تحارب امام زمانك بالسلاح باغيا - غير متحرج ولا متأثم -؟
وهل في هذا القديم " من تجاربك " ما يشعر بالحجة علي استحقاقك الولاية أو الاستمرار علي مثلها؟. فأين إذا استحقاق الخلافة يا تري؟..
وهل في ولاية تتقادم علي مثل هذا النسق المجلوب عليه، والقائم علي الكذب والبهتان وإراقة الدماء، ما يدل علي أهلية المقام الديني الرفيع؟.
(1) شرح النهج (4 - 13).
(٨٦)
مفاتيح البحث: الشام (1)، الكذب، التكذيب (1)، الحج (2)

صفحه 077

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٨٧
جمل تتعاطف كما تتعاطف الحجج النواصع، ثم هي لا ترجع في خلاصتها الا إلي معني واحد، هو التماس الحجة (بطول المدة!).
ولا نعرف في منطق الحق مقياسا يثبت الخلافة بطول المدة أو بكبر السن!!
وقد يكون الرجل أبصر الرجال في شراء ضمائر الناس، أو في تأريث الفتن في الناس، ولكن ذلك لا يعني استحقاق هذا الرجل لنيابة النبوة في الاسلام.
وقد يكون الرجل أقوم الرجال في ضبط أعصابه وفي كبت عواطفه، حتي ليعده الناس من كبار الحلماء، ولكن ذلك ليس دليل الإمامة الدينية في الناس، لان الحلم العظيم كما يكون في الامام، يكون في المتزعمين المنافقين.
وقد يكون الرجل في حنكته أقدر الناس علي ترتيب العقائد وتوجيه الرأي العام إلي الاخذ برأيه الخاص - سواء كان رأيه من رأي الله أو من رأي العاطفة - ولكن ذلك لا يعدو بهذا الرجل ان يكون المبتدع في الدين، لا الخليفة علي المسلمين. لان الخليفة لا رأي له الا رأي القرآن، ولا سند له الا من الحديث، ولا مرجع له الا إلي الله عز وجل.
إذا، فليس الرجل الصالح لملكوت الخلافة الاسلامية، والنيابة عن النبوة في الدين، الا مخلوق من نوادر الخلق، يختاره الله من عباده ويصطفيه من جميع خلقه، لمزايا ينفرد بها عن العباد، وفضائل يتميز بها عن الخلق. والله سبحانه الذي برأ العباد أعرف بذلك العبد الصالح الذي انفرد بهذه المزايا، وانماز بهاتيك الفضائل. وهو الذي يوحي باسمه إلي نبيه فيختاره من دون غيره. وليس لاحد - بعد ذلك - أن يختار.
اما معاوية فلم يكن له من سوابقه وسوابق أبيه، ولا من كيفية اسلامه واسلام أبيه، ولا من مواقفه مع عمر وعثمان ومع علي عليه السلام ما يزعه عن التطاول إلي ادعاء أعظم المراتب في الاسلام، حتي جاء يقول
(٨٧)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، القرآن الكريم (1)، النفاق (1)

صفحه 078

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٨٨
للحسن ابن رسول الله (ص) وقد بايعه المسلمون في آفاق الأرض بما فيهم صحابة الرسول وأهل بيته وخاصته وجميع المعنيين باسلاميتهم: " اني أكبر منك سنا واقدم منك وأطول منك..!! ".
وهل تجد في دنيا الحجاج، أبلغ من هذا المنطق في اعلان العجز عن الحجة؟.
وكاتبة ثانية، ولكنه حاول في هذه المرة، التهديد بالاغتيال والاغراء بالأقوال، وكأنه عرف الحسن علي غير حقيقته، فأسف إلي مثل هذا الأسلوب المبتذل الذي لا يخاطب به مثله، قال:
" اما بعد، فان الله يفعل في عباده ما يشاء. لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، فاحذر ان تكون منيتك علي أيدي رعاع من الناس، وايأس من أن تجد فينا غميزة!! ثم الخلافة لك من بعدي، فأنت أولي الناس بها والسلام (1) ".
وكان جوابه الأخير الذي جبه رسولي الحسن اليه، وهما جندب بن عبد الله الأزدي والحرث بن سويد التيمي أنه قال لهما: " ارجعا فليس بيني وبينكم الا السيف! (2) ".
* * * وهكذا ابتدأ معاوية العدوان، وخرج عامدا علي طاعة الخليفة المفروضة طاعته عليه، الخليفة الذي لم يخالف علي بيعته أحد من المسلمين غيره وغير جماعته من جند الشام الذين صقل قرائحهم علي الخلاف، ورباهم علي رأيه، وحبسهم عن الاختلاط بغيرهم، فكانوا حقا، كما وصفهم صعصعة بن صوحان العبدي حين سأله معاوية عنهم فقال: " أطوع الناس لمخلوق وأعصاهم للخالق، عصاة الجبار وحلفة الأشرار (3) ".
(1) و (2) شرح النهج (ج 4 ص 13 و 10).
(3) المسعودي هامش ابن الأثير (ج 6 ص 119).
(٨٨)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، جندب بن عبد الله الأزدي (1)، صعصعة بن صوحان (1)، الشام (1)، إبن الأثير (1)

صفحه 079

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٨٩
ودارت الكوفة دورتها، وهي تستمع إلي تهديد معاوية وتتلقف الاخبار عن زحفه إلي العراق. وارتجزت للحرب علي لسان شيعتها البهاليل.
وهكذا جد الجد ولا مندوحة لولي الامر علي الاستجابة للظرف المفاجئ والنزول علي حكم الامر الواقع.
وكان حرب البغاة واجبه الذي يستمده من عقيدته ويستمليه من أعماق مبدئه، ولا استقرار للخلافة دون القضاء علي هذا الانقسام الذي يفرضه معاوية علي صفوف المسلمين، بثوراته المسلحة في وجه الخلافة الاسلامية قرابة ثلاث سنوات متتاليات، أحوج ما يكون المسلمون فيها إلي الاستقرار والاستعداد.
وكانت حروب الشام منذ تجند لها معاوية، أشأم الحروب علي الاسلام، وأكثرها دما مهراقا، وحقا مضاعا، واجتراء علي الحقايق، وانتصارا للنزق الطائش، والأهواء الدنيوية الرخيصة.
وان الاسلام بمبادئه الانسانية السامية لم يشرع الحرب الا في سبيل الله وإبتغاءا الخير الناس وذيادا عن حياضه، اما نهب الثغور وإخافة الآمنين، ومحاربة الشعوب المؤمنة بالله وبرسوله (لأنه يريد أن يتأمر عليهم) فذلك ما لا تعرفه المبادئ الاسلامية، ولا تعترف بمثله الا الجاهلية الهوجاء. وذلك هو مصدر الصدمات التي مزقت الكلمة وفرقت الدين، وفرضت العداوات بين فئات المسلمين.
واستجاب لمعاوية في هذه الحروب " سفهاء طغام " علي حد تعبير شبث بن ربعي التميمي حين واجهه في أحدث سنة 36، فاستغل تفسخ أخلاقهم، وأتجر بفساد أذواقهم، وقذف بهم في لهوات الموت، وكلهم راض مطيع.
* * * وكانت الشنشنة الموروثة في هاشم، أنهم لا يبدأون أحدا قط بقتال. وتجد فيما عهد به الحسن إلي قائده " عبيد الله بن عباس " تأييدا صريحا
(٨٩)
مفاتيح البحث: دولة العراق (1)، مدينة الكوفة (1)، شبث بن ربعي اليربوعي (1)، سبيل الله (1)، الشام (1)، القتل (1)، السلاح (1)، الموت (1)، الجهل (1)، الحرب (2)

صفحه 080

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٩٠
لهذا الخلق الهاشمي الأفضل. وكان للحسن علي الخصوص، مواريث شخصية كثيرة من وصايا ودساتير، آثره بها سيد العرب أبوه أمير المؤمنين عليه السلام. وكان أبوه كما يحدثنا التاريخ شديد العناية بابنه الحسن " وكان يكرمه اكراما زائدا ويعظمه ويبجله (1) ". وكانت هذه الوصايا، المثل التي لا يقربها الباطل ولا تزيغ عن الصواب علي اختلاف موضوعاتها في الدين والدنيا وفي التربية والاخلاق. وكان فيما أوصي به علي الحسن قوله: " لا تدعون إلي مبارزة، فان دعيت إليها فأجب، فان الداعي إليها باغ. والباغي مصروع ".
لذلك كنا نري الحسن في ابان بيعته، وفي قوة اندفاع أصحابه للهتاف بالحرب، لا يجيب إليها صريحا، ولا يعمل لها جادا، لأنه كان ينظر إلي الحرب نظرته إلي ضرورة بغيضة، يلجأ إليها حين لا حيلة له في اجتنابها، وكان ينتظر تنظيم حرب يضمن لها القوة، أو قوة تضمن له الحرب، وقد حالت الظروف المتأزمة - يومئذ - والذاهبة صعدا في أزماتها بينه وبين ما يريد.
وقد أتينا في الفصل السابق علي استكشاف الأوكار التي كان ينتمي إليها المتحزبون المتحمسون في الكوفة، من أموية، ومحكمة، وشكاكين، وحمراء. وأشرنا هناك إلي ما كانت تعج به هذه المجتمعات من روح الهدم والتخريب، والوقوف في وجه السياسة القائمة بشتي الأساليب.
وكان كل ذلك - وبعضه كاف - سبب التمهل في الحرب، الامر الذي عورض به الحسن عليه السلام من قبل فئات من أصحابه المناصحين له. وكان للنشاط المؤقت المحدود، الذي غمر الكوفة في أيام البيعة، أثره في اغراء هذه الفئات من الأصحاب، ليظنوا كل شئ ميسرا لخليفتهم الجديد. ولكنها كانت النظرة القصيرة التي لا تمتد إلي ما وراء الستار. ولا تزن في حسابها ما تهدفه هاتيك " الأوكار ".
(1) ابن كثير (ج 8 ص 36 - 37).
(٩٠)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، مدينة الكوفة (2)، الباطل، الإبطال (1)، الحرب (4)، الوقوف (1)، الوصية (1)

صفحه 081

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٩١
اما الحسن فقد كان ينظر بالبصيرة الواعية إلي أبعد مما ينظرون، ويعرف بالعقل اليقظان من مشاكلهم أكثر مما يعرفون، ويغار - بدينه - علي الصالح العام أعنف مما يحسبون.
انه يدرك جيدا دقة الموقف، بما يسيطر عليه من ميوعة الاخلاق، في قسم عظيم ممن معه في جيشه، وممن حوله في كوفته وكان ينتظر لهذا التفسخ الأخلاقي الذي باع الدنيا بالدين، أثره السيئ في ظروف الحرب، لو أنه استبق إلي الحرب قبل أن يضطره الموقف إليها.
ورأي أن في تحمل قليل من مفاسد هؤلاء كثيرا من الصلاح لسياسته الحاضرة مع ظرفه الخاص.
ورأي ان يعالج الموقف من وجهه الثاني، فترفق بالناس، ولم يتنكر لاحد من رعيته ولم يبد له أمرا، وأخذ بسياسة التهدئة وإسدال الستار، لئلا يتسع الفتق وتعم الفتنة، وأرجأ التصفية إلي وقتها المناسب لها، ليضع الندي في موضعه والسيف علي أهله.
* * * وهنا يسبق إلي الذهن استفهام لا يجوز للباحث أن يتجاوزه من دون أن يقف علي سره. انه كان الأولي برئيس الدولة إذ جوبه من ظروفه بمثل هذا الجو المتلبد بالغيوم، أن يعمد إلي الحزم في استئصال الشغب، فيستعمل الشدة ويكشف المؤامرات وينكل بالخونة ويكيل لهم الجزاء الذي يستحقون. فما الذي حدا بالحسن عليه السلام، إلي العزوف عن طريقة الشدة إلي الرفق أحوج ما يكون موقفه إلي الأول منهما تعجيلا للاستقرار واستعدادا لمستقبله المهدد بالحروب؟.
وللجواب علي هذا الاستفهام، وجوهه الثلاث التي ستقرؤها في خاتمة الفصل الثامن. ونقول هنا: ان الحسن لو أراد الاخذ بسياسة الشدة - وكانت من أوضح الأساليب التي تتخذ لمثل هذه الظروف - لتعجل الفتنة عن عمد، ولفتح ميدانه للثورات الداخلية التي لن تكون أقل خطرا علي
(٩١)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الحرب (2)، الجواز (1)

صفحه 082

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٩٢
مقدراته من حروب الشام. وكان معاوية العدو الذي لا يفتأ يمد فكرة الثورة في الكوفة بكل ما أوتي من ثراء أو دهاء.
لذلك كان ما اختاره الحسن هو الأحسن لموقفه الدقيق.
ونقول في الجواب علي مقترح بعض نصحائه من أصحابه في تعجيل الحرب حين طلب اليه " بأن يبدأ معاوية بالمسير حتي يقاتله في أرضه وبلاده وعمله (1) ": انه لو فعل ذلك لفتح للمعارضين من زعماء الأحزاب في الكوفة وللمتفيهقين من القراء و (أهل الهيأة والقناعة) فيها، منفذا للخلاف عليه لا يعدم الحجة، إذا أريد الاحتجاج به من ناحية " الابتداء بالعدوان " وهي الحجة التي لا يجد كثير من الناس أو من بسطاء الناس الجواب عليها، والتي قد يؤول بها النقاش إلي مجاهرة هذه الجماعات بنكث البيعة علنا، والتخلي عن الحسن جهارا، ومعني ذلك التعرض إلي أفظع انشقاق داخلي، له عواقبه ومخاوفه.
ولهذا وذاك آثر الحسن التهدئة متمهلا بالحرب بادئ ذي بدء.
ثم ارتجل الامر بالجهاد.
وما كان إذ أمر بالجهاد الا مستجيبا للظرف الطارئ الذي لم يكن يحتمل - في نظر الجميع - الا الامر بالجهاد، وذلك حين بادر معاوية إلي العدوان مبتدئا، وتحلبت أشداقه بالمطامع الإقليمية ولكن في صميم بلاد الاسلام!، فزحف إلي " جسر منبج (2) " باتجاه العراق، وذلك بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام، بقليل من الزمن اختصره اليعقوبي (3) كثيرا
(1) ابن أبي الحديد (ج 4: ص 13).
(2) " منبج " بلد قديم كبير، بينه وبين جسره علي الفرات ثلاثة فراسخ، وبينه وبين " حلب " عشرة فراسخ، وفي المعجم: " بينهما يومان "، قال: " ومنها إلي (ملطية) أربعة أيام والي الفرات يوم واحد، وخرج منها جماعة منهم البحتري وأبو فراس الحمداني.. ".
(3) (ج 2: ص 191).
(٩٢)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، دولة العراق (1)، مدينة الكوفة (2)، الشام (1)، القتل (1)، الحرب (1)، الوفاة (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، ابو فراس الحمداني (1)، نهر الفرات (2)

صفحه 083

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٩٣
فحدده بثمانية عشر يوما.
ومن هناك حيث بلغ أعالي الفرات، رفع صوته " بالعواء " الذي حاول أن يجعل منه زئيرا وجلجلة، ليخيف الثغور الآمنة المطمئنة، ولينبه مرابض الأسود في كوفة الجند فيستدرجها إلي النزال.
ونظر معاوية إلي مصرع علي (عليه السلام)، كأحسن فرصة للاجراءات الحاسمة بين الكوفة والشام. وكان ذلك هو القرار الأخير الذي تم عليه الاتفاق بينه وبين مشاوريه، الذين كانوا يتحلقون حوله ليل نهار، وينظمون معه حركة المعارضة للخلافة الهاشمية، بحنكة تشبه الدهاء، أمثال المغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، والوليد بن عتبة، ويزين بن الحر العبسي، ومسلم بن عقبة، والضحاك بن قيس الفهري.
ونجح معاوية في اختيار الظرف المناسب.
ونجح في خلق الشغب المزعج في كوفة الحسن، بما أولاه من عناية بالغة بشراء الضمائر الرخيصة فيها، وبما بثه من جواسيس يتأبطون في رواحهم ألوان الأكاذيب، ويتزودون في غدوهم الاخبار والمعلومات، عما يجد في الكوفة من تصاميم، وعما يوجد لديها من امكانيات. وكان سلاح معاوية من هذا النوع، أقوي من سلاحه بالرجال والحديد وأشد منهما مضاء وأبعد أثرا.
" واستنفر عشائره وجيوشه، فكتب إلي عماله علي النواحي التابعة له، بنسخة واحدة، يقول فيها: " فاقبلوا إلي حين يأتيكم كتابي هذا بجدكم وجهدكم وحسن عدتكم (1).. ".
* * * ومضي الحسن (عليه السلام) - بدوره - علي تصميمه في الاستعداد
(1) ابن أبي الحديد (ج 4 ص 13).
(٩٣)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، مدينة الكوفة (4)، نهر الفرات (1)، مروان بن الحكم (1)، مسلم بن عقبة المري (1)، المغيرة بن شعبة (1)، الضحاك بن قيس (1)، عمرو بن العاص (1)، الشام (1)، الإختيار، الخيار (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)

صفحه 084

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٩٤
للجواب علي هذا العدوان. فدعا إلي الجهاد، وتألب معه المخلصون من حملة القرآن وقادة الحروب وزهاد الاسلام، أمثال حجر بن عدي الكندي وأبي أيوب الأنصاري، وعمرو بن قرضة الأنصاري، ويزيد بن قيس الأرحبي، وعدي بن حاتم الطائي، وحبيب بن مظاهر الأسدي، وضرار بن الخطاب، ومعقل بن سنان الأشجعي، ووائل بن حجر الحضرمي [سيد الأقيال]، وهانئ بن عروة المرادي، ورشيد الهجري، وميثم التمار، وبرير بن خضير الهمداني، وحبة العرني، وحذيفة بن أسيد، وسهل بن سعد، والأصبغ بن نباتة، وصعصعة بن صوحان، وأبي حجة عمرو بن محصن، وهانئ بن أوس، وقيس بن سعد بن عبادة، وسعيد بن قيس، وعابس بن شبيب، وعبد الله بن يحيي الحضرمي، وإبراهيم بن مالك الأشتر النخعي، ومسلم بن عوسجة، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وبشير الهمداني، والمسيب بن نجية، وعامر بن واثلة الكناني، وجويرية بن مشهر، وعبد الله بن مسمع الهمداني، وقيس بن مسهر الصيداوي، وعبد الرحمن بن عبد الله بن شداد الأرحبي، وعمارة بن عبد الله السلولي، وهانئ بن هانئ السبيعي، وسعيد بن عبد الله الحنفي، وكثير بن شهاب، وعبد الرحمن بن جندب الأزدي، وعبد الله بن عزيز الكندي، وأبي ثمامة الصائدي، وعباس بن جعدة الجدلي، وعبد الرحمن بن شريح الشيباني، والقعقاع بن عمر، وقيس بن ورقاء، وجندب بن عبد الله الأزدي، والحرث بن سويد التيمي، وزياد بن صعصعة التيمي، وعبد الله بن وال، ومعقل بن قيس الرياحي.
وهؤلاء هم الجناح القوي في جبهة الحسن عليه السلام. وهم السادة الذين وصفهم الحسن فيما عهد به إلي " عبيد الله بن عباس " بأن الرجل منهم يزيد الكتيبة، ووصفهم معاوية في حروب صفين بأن قلوبهم جميعا كقلب رجل واحد، وقال عنهم: " انهم لا يقتلون حتي يقتلوا أعدادهم ". وهم الذين عناهم يومئذ بقوله: " ما ذكرت عيوبهم تحت المغافر بصفين الا لبس علي عقلي ". وشهادة العدو وأصدق
(٩٤)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، ميثم بن يحيي التمار النهرواني (1)، أبو أيوب الأنصاري (1)، قيس بن مسهر الصيداوي سفير الحسين (ع) (1)، إبراهيم بن مالك الأشتر النخعي (1)، عبد الله بن يحيي الحضرمي (1)، هاني بن هاني السبيعي (1)، عبد الله بن شداد الأرحبي (1)، جندب بن عبد الله الأزدي (1)، حبيب بن مظاهر الأسدي رضوان الله عليه (1)، هاني بن عروة (1)، يزيد بن قيس الأرحبي (1)، حجر بن عدي الكندي (1)، الأصبغ بن نباتة (1)، عبد الله بن وال (1)، سعيد بن عبد الله (1)، حذيفة بن أسيد (1)، عامر بن واثلة (1)، صعصعة بن صوحان (1)، كثير بن شهاب (1)، القعقاع بن عمر (1)، عدي بن حاتم (1)، قيس بن ورقاء (1)، رشيد الهجري (1)، وايل بن حجر (1)، عمرو بن الحمق (1)، سعد بن عبادة (1)، عابس بن شبيب (1)، مسلم بن عوسجة (1)، سعيد بن قيس (1)، عمرو بن محصن (1)، معقل بن قيس (1)، سهل بن سعد (1)، القرآن الكريم (1)، القتل (1)، الحج (1)، الشهادة (1)

صفحه 085

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٩٥
الشهادات مجدا.
وهز أعصاب الكوفة في فورة الدعوة إلي الجهاد، تفاؤل عنيف غلب الناس علي منازعها، فإذا بالناس يتسابقون إلي صفوفهم بما فيهم العناصر المختلفة التي لا يعهد منها النشاط للدعاوات الخيرة والاعمال الصالحة والمساعي الخالصة لله عز وجل.
فجمع المعسكر إلي جنب أولئك المخلصين من أنصار الحسن سوادا من الناس غير معروفين، وجماعة من أبناء البيوت المرائين، وجمهورا من مدخولي النية الذين لا يتفقون معه في رأي، وربما لا يكونون الا عين عدوه عليه وعلي أصحابه، وآخرين من الضعفاء الرعاديد الذين إذا أكرهوا علي القتال اتقوه بالفرار، وربما لم يكن لهم من الامل الا أمل الغنائم " وليس أحد منهم يوافق أحدا في رأي ولا هوي، مختلفون لا نية لهم في خير ولا شر (1) ". - وفيهم إلي ذلك، المشاجرات الحزبية التي ستكون في غدها القريب شجرة الشوك في طريق التجهيزات التي تستدعيها ظروف الحرب.
* * * وتخوف الحسن - منذ اليوم الأول - نتائج هذا التلون المؤسف الذي انتشر في صفوفه، والذي لا يؤمن في عواقبه من الخذلان، وهو ما تشير اليه بعض المصادر (2) صريحا.
فكان ينظر إلي الجماهير المرتجزة بين يديه للحرب، غير واثق بثباتهم معه، ولا مؤمن باخلاصهم لأهدافه.
وتراءت له من وراء هؤلاء (في الكوفة)، الرؤوس ذوات الوجهين التي يئس من اصلاحها الهدي، أمثال الأشعث بن قيس، وعمرو بن حريث
(1) كلمة الحسن نفسه فيما وصف به أهل الكوفة كما يرويها ابن الأثير (ج 3: ص 62).
(2) يراجع شرح النهج (ج 4: ص 14).
(٩٥)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (3)، عمرو بن حريث (1)، الشهادة (1)، الغلّ (1)، القتل (1)، الحرب (1)، الغنيمة (1)، الجنابة (1)، الجماعة (1)، إبن الأثير (1)

صفحه 086

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٩٦
ومعاوية بن خديج، وأبي بردة الأشعري، والمنذر بن الزبير، واسحق بن طلحة، وحجر بن عمرو، ويزيد بن الحارث بن رويم، وشبث بن ربعي، وعمارة بن الوليد، وحبيب بن مسلمة، وعمر بن سعد، ويزيد بن عمير، وحجار بن أبجر، وعروة بن قيس، ومحمد بن عمير، وعبد الله بن مسلم بن سعيد، وأسماء بن خارجة، والقعقاع بن الشور الذهلي، وشمر بن ذي الجوشن الضبابي.
وعلم أن له من هؤلاء ليوما.
وهؤلاء هم الكوفيون الناشزون، الذين كانوا يشرعون الاخلاق لأنفسهم وللناس الذين يماثلونهم - رغم ادعائهم الاسلام!. وكان الاسلام الذي عمر الاخلاق في النفوس وزخر به النعيم علي المسلمين، قد هزمته المادة بين أوساط هذا المجتمع المأفون، فتباعدت بينهم وبينه القربي، وعجزوا عن مسايرته بتعاليمه وتربيته وتثقيفه، فما بايعوا الحسن علي السمع والطاعة حتي كانوا عملاء أعدائه علي الشغب والعصيان، يرقبون الحوادث، ويتربصون الدوائر، وينتهزون الفرص، ويتآمرون علي أخطر الموبقات غير حافلين بعواقبها ولا عارها ولا نارها.
وكان الخطر المتوقع من انخراط هؤلاء في الجيش، أكبر من الخطر المنتظر من أعدائه الذين يصارحونه العداء وجها لوجه.
فلم لا يتخوف عاهل الكوفة من الخذلان، ولم لا يتمهل بالحرب ما وسعه التمهل، وللنتائج الغامضة حكمها الذي يفرض الأناة ويذكر بالصبر، ويلوح بالخسران.
ولكنه - وقد دعي الآن إلي المبارزة - خليق أن يرجع إلي الميراث النفيس الذي يشيع في نفسه من ملكات أبيه العظيم (وكان لا بد للشبل أن ينتهي إلي طبيعة الأسد).
فليرجع إلي وصية أبيه له، وكان مما أوصاه به أبوه: " لا تدعون
(٩٦)
مفاتيح البحث: عمر بن سعد لعنه الله (1)، مدينة الكوفة (1)، عروة بن قيس (1)، حجار بن أبجر (1)، شبث بن ربعي اليربوعي (1)، شمر بن ذي الجوشن لعنه الله (1)، مسلم بن سعيد (1)، الوراثة، التراث، الإرث (1)، الوصية (1)

صفحه 087

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٩٧
إلي مبارزة، فان دعيت لها فأجب، فان الداعي لها باغ.. ".
وليرجع إلي واجبه الشرعي بما له من ولاية أمر المسلمين، وليس للامام الذي قلده الناس بيعتهم، أن يغضي علي الجهر بالمنكر والبغي علي الاسلام ما وجد إلي ذلك سبيلا.
والله تعالي شأنه يقول: " فقاتلوا التي تبغي حتي تفيء إلي أمر الله ".
ورسول الله صلي الله عليه وآله يقول: " من دعا إلي نفسه، أو إلي أحد، وعلي الناس امام، فعليه لعنة الله فاقتلوه ".
* * * اما السبيل إلي ذلك، ولا نعني به الا القوة علي انكار المنكر، فقد كان للكوفة من القوي العسكرية في مختلف الثغور الخاضعة لها، ما يؤكد الظن بوجود الكفاية للحرب، رغم الأوضاع الشاذة التي نزع إليها كثير من خونة الكوفيين المواطنين.
وكان للدولة الاسلامية في أواسط القرن الأول، أعظم جيش تحتفل بمثله تلك القطعة من الزمن، لولا أن الالتزام بقاعدة " المرابطة " التي تفرضها حماية الثغور والتي كان من لوازمها توزيع القسم الأكثر من الجيوش الاسلامية علي مختلف المواقع البعيدة عن المركز، كان يحول دائما دون استقدام العدد الكثير من تلك الوحدات للاستعانة به في الحروب القريبة من المركز، ولا سيما مع صعوبة العمليات السوقية بنظامها السابق ووسائطها القديمة المعروفة.
وكان الجيش المقدر علي الكوفة وحدها. تسعين الفا أو مائة الف - علي اختلاف الروايتين (1) -. وكان الجيش المقدر علي البصرة ثمانين الفا (2). وهؤلاء هم أهل العطاء في المصرين، أعني الجنود الذين يتقاضون
(1) يرجع إلي اليعقوبي (ج 2: ص 94)، والي الإمامة والسياسة (ص 151).
(2) حضارة الاسلام في دار السلام لجميل مدور.
(٩٧)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، الجهر والإخفات (1)، مدينة الكوفة (2)، مدينة البصرة (1)، القتل (1)، الظنّ (1)

صفحه 088

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٩٨
الرواتب من خزينة الدولة. وفي المصرين العسكريين - الكوفة والبصرة - مثل هؤلاء عددا من اتباعهم ومواليهم ومن متطوعة الجهاد غالبا.
فهذه زهاء ثلاثمائة وخمسين الفا، هي مقاتلة العراق، فيما يحسب علي العراق من القدرة العسكرية، عدا جيوش فارس واليمن والحجاز والمعسكرات الأخري.
وكان من تحمس الشيعة للحرب (يوم الحسن)، ومن الحاح الخوارج علي حرب الحالين الضالين أهل الشام - علي حد تعبيرهم -، ومن انسياح الناس إلي صفوفهم يوم نجحت دعاوة الدعاة إلي الجهاد في الكوفة. ما يكفي وحده رصيدا للظن بوجود الكفاية بل اليقين بوجودها، لو انهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يوم التقت الفئتان وحميت الصدور واحمرت الحدق.
النفير والقيادة
(٩٨)
مفاتيح البحث: دولة العراق (2)، مدينة الكوفة (2)، الشام (1)، الخوارج (1)، الحرب (1)

صفحه 089

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٠٠
ونادي منادي الكوفة - الصلاة جامعة -، واجتمع الناس فخرج الحسن عليه السلام، وصعد المنبر، فحمد الله وأثني عليه ثم قال:
" أما بعد، فان الله كتب الجهاد علي خلقه وسماه كرها، ثم قال لأهل الجهاد: اصبروا ان الله مع الصابرين. فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون الا بالصبر علي ما تكرهون. انه بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا علي المسير اليه فتحرك. لذلك اخرجوا رحمكم الله إلي معسكركم في النخيلة (1) حتي ننظر وتنظرون، ونري وترون ".
قال مؤرخو الحادثة: " وسكت الناس فلم يتكلم أحد منهم ولا أجابه بحرف ".
- ورأي ذلك " عدي بن حاتم " وكان سيد طيء والزعيم المرموق بسوابقه المجيدة في صحبته للنبي والوصي معا (صلي الله عليهما) فانتفض انتفاضته المؤمنة الغضبي، ودوي بصوته الرزين الذي هز الجمع، فاستدارت اليه الوجوه تستوعب مقالته وتعني بشأنه - وفي الناس كثير ممن عرف لابن حاتم الطائي، تاريخه وسؤدده وثباته علي القول الحق - واندفع الزعيم محموم اللهجة قاسي التقريع، يستنكر علي الناس سكوتهم، ويستهجن عليهم ظاهرة التخاذل البغيض.
وقال:
" أنا عدي بن حاتم، ما أقبح هذا المقام!. ألا تجيبون امامكم وابن
(1) تصغير نخلة، موضع قرب الكوفة علي سمت الشام، أقول: ويوجد اليوم علي سمت كربلاء بناية تعرف بخان النخيلة، بينها وبين الكوفة اثنا عشر ميلا.
(١٠٠)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، مدينة الكوفة (3)، عدي بن حاتم (2)، الصبر (1)، الصّلاة (1)، مدينة كربلاء المقدسة (1)، الشام (1)

صفحه 090

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٠١
بنت نبيكم؟. أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة، فإذا جد الجد، راوغوا كالثعالب؟. أما تخافون مقت الله ولا عيبها وعارها؟ ".
ثم استقبل الحسن بوجهه فقال:
" أصاب الله بك المراشد، وجنبك المكاره، ووفقك لما يحمد ورده وصدره. وقد سمعنا مقالتك، وانتهينا إلي أمرك، وسمعنا لك، وأطعنا فيما قلت ورأيت ".
قال: " وهذا وجهي إلي معسكرنا، فمن أحب أن يوافي فليواف ".
ثم خرج من المسجد، ودابته بالباب، فركبها ومضي إلي النخيلة، وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه. وكان المثل الأول للمجاهد المطيع، وهو إذ ذاك أول الناس عسكرا (1). وفي طيء الف مقاتل لا يعصون لعدي أمرا (2).
ونشط - بعده - خطباء آخرون، فكلموا الحسن بمثل كلام عدي بن حاتم، فقال لهم الحسن عليه السلام: " رحمكم الله ما زلت أعرفكم بصدق النية، والوفاء، والمودة. فجزاكم الله خيرا ".
واستخلف الحسن علي الكوفة - ابن عمه - المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأمره باستحثاث الناس للشخوص اليه في النخيلة.
وخرج هو بمن معه، وكان خروجه لأول يوم من اعلانه الجهاد أبلغ حجة علي الناس في سبيل استنفارهم.
وانتظمت كتائب النخيلة خيار الأصحاب من شيعته وشيعة أبيه وآخرين من غيرهم. ونشط المغيرة بن نوفل لاستحثاث الناس إلي الجهاد وكان من المنتظر للعهد الجديد - الذي قوبل بالمهرجانات القوية في أسبوع البيعة، أن لا يتأخر أحد بالكوفة عن النشاط المتحمس لإجابة دعوة الامام. ولكن شيئا من ذلك لم يقع!. وحتي السرايا الجاهزة التي كان أمير المؤمنين
(1) شرح النهج (ج 4 ص 14).
(2) اليعقوبي (ج 2 ص 171).
(١٠١)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، مدينة الكوفة (2)، المغيرة بن نوفل (2)، عدي بن حاتم (1)، الحج (1)، القتل (1)، السجود (1)، الإختيار، الخيار (1)

صفحه 091

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٠٢
(عليه السلام) قد أعدها للكرة علي جنود الشام قبيل وفاته - وكانت تعد أربعين الف مقاتل - قد انفرط عقدها وتمرد أكثرها، وتثاقل معها أكثر حملة السلاح في الكوفة عن الانصياع للامر.
وكان المذبذبون من رؤساء الكوفة، أشدهم نشاطا في اللحظة الدقيقة التي أزفت فيها ساعة الجد.
قالت النصوص التاريخية فيما ترفعه إلي الحارث الهمداني كشاهد عيان: " وركب معه - أي مع الحسن - من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا، وغروه كما غروا أمير المؤمنين من قبله.. وعسكر في النخيلة عشرة أيام فلم يحضره الا أربعة آلاف. فرجع إلي الكوفة، ليستنفر الناس، وخطب خطبته التي يقول فيها: قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي.. (1) ".
أقول: ثم لا ندري علي التحقيق عدد من انضوي اليه - بعد ذلك - ولكنا علمنا أنه " سار من الكوفة في عسكر عظيم " علي حد تعبير ابن أبي الحديد في شرح النهج.
وسنأتي في فصل " عدد الجيش " علي غربلة أقوال المؤرخين لاختيار القول الفصل في عدد جنود الحسن عليه السلام.
وغادر النخيلة وبلغ " دير عبد الرحمن " فأقام ثلاثا، والتحق به عند هذا الموضع مجاهدون آخرون لا نعلم عددهم.
وكان دير عبد الرحمن هذا مفرق الطريق بين معسكري الامام في المدائن (2).
(١) الخرايج والجرايح (ص ٢٢٨ - طبع إيران).
(٢) وهي العاصمة الساسانية التي بلغت من العمر الف سنة. وكانت وريثة بابل في عظمتها ولم يبق من آثارها اليوم الا طاق كسري، ومرقد الصحابي العظيم (سلمان الفارسي) رضي الله تعالي عنه. وكانت سبع مدن متقاربة تتقابل علي ضفاف دجلة. فتحها المسلمون سنة ١٥ هجري وكانت إذ ذاك عاصمة الشرق الفارسي كله، ففي الجانب الغربي سلوقية، ودرزجان وبهرسير، وجند يسابور " كوكه " في ناحية (مظلم ساباط) المتصلة بنهر الملك. وفي الجانب الشرقي اسفانبر، ورومية، وطيشفون (وهي أم الطاق).
وكان لابد من مرور أكثر من مائة عام قبل ان تندثر المدائن نتيجة لانشاء بغداد سنة ١٥٠ هجري. وفي خلال تلك الفترة كانت تغذي الكوفة بصناعاتها وكنوزها ومحصولاتها، وذلك بارسالها الموالي من الفرس إليها وقد صاروا مسلمين.
وكانت المدائن منذ العهد الذي وليها فيه سلمان الفارسي تتشيع لآل محمد (ص) وكانت لا تزال في القرن السابع الهجري قرية لا يسكنها الا شيعة متحمسون.
وذكرها المسعودي عند ذكره العراق فقال: " ومدنه: المدائن وما والاها ولأهلها أعدل الألوان وأنقي الروائح وأفضل الأمزجة وأطوع القرائح وفيهم جوامع الفضائل وفرائد المبرات.. ".
(١٠٢)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، مدينة الكوفة (5)، الحارث الهمداني (1)، الشام (1)، القتل (1)، أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، كتاب الخرائج والجرائح للقطب الراوندي (1)، دولة ايران (1)، دولة العراق (1)، سلمان المحمدي (الفارسي) رضوان الله عليه (2)، مدينة بغداد (1)، بابل (1)

صفحه 092

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٠٣
ومسكن (1).
وللامام الحسن خطته من هذين المعسكرين.
- اما " المدائن " فكانت رأس الجسر صوب فارس والبلاد المتاخمة لها. وهي بموقعها الجغرافي، النقطة الوحيدة التي تحمي الخطوط الثلاث التي تصل كلا من الكوفة والبصرة وفارس، بالأخري. وتقف بقيمتها العسكرية درءا في وجه الاحداث التي تنذر بها ظروف الحرب. وكانت
(1) بفتح أوله وكسر ثالثه، اسم الطسوج الذي منه " أوانا " علي نهر دجيل - القرية الكثيرة البساتين والشجر - التي عناها أبو الفرج السوادي (من شعراء القرن السادس) بقوله.
واجتلوها بكرا نشت " بأوانا " * * * حجبت عن خطابها بالأواني كان بينها وبين بغداد عشرة فراسخ.
وفي " مسكن " هذه، كانت الوقعة بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير سنة 72 هجري وفيها قتل مصعب، وقتل معه إبراهيم بن مالك " الأشتر " النخعي، ودفنا حيث قتلا. ولا يزال القبران ظاهرين وعليهما قبة متواضعة تعرف عند أعراب سميكة " بقبر الشيخ إبراهيم " وبينه وبين بغداد نحو من ستين كيلو مترا. وبينه وبين دجلة عشرة كيلو مترات، فمسكن هي المنطقة التي تترامي حوالي هذا القبر بما في ذلك نهر دجيل وهنالك كانت " أوانا " أيضا.
(١٠٣)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (1)، الحرب (1)، إبراهيم بن مالك الأشتر النخعي (1)، مدينة بغداد (2)، الفرج (1)، القتل (2)، القبر (1)

صفحه 093

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٠٤
فارس معرض الانتفاضات الخطرة علي الدولة. وكان عليها من قبل الامام " زياد بن عبيد " ولما يطبع - بعد - علي صفحته المقلوبة التي غيرت منه كل شئ.
واما " مسكن " فقد كانت النقطة الحساسة في تاريخ جهاد الحسن (ع) لأنها الميدان الذي قدر له ان يقابل العدو وجها لوجه. وهي إذ ذاك أقصي الحدود الشمالية للعراق الهاشمي، أو المناطق الخاضعة لحكومة الكوفة من هذه الجهة. وكان في أراضي مسكن مواطن معمورة بالمزارع والسكان وقري كثيرة مشهورة - منها " أوانا " و " عكبرا " ومنها " العلث " وهي آخر (1) قراها الشمالية، وكان بإزائها قرية " الجنوبية " وهي التي انحدر إليها معاوية بجيوشه منذ غادر " جسر منبج ". والتقي عندها الجمعان.
والمفهوم ان موقع مسكن اليوم لا يعدو هذه السهول الواسعة الواقعة بين قرية " سميكة " وقرية " بلد " دون سامراء.
ولمسكن طبيعتها الغنية بخيراتها الكثيرة ومشارعها القريبة وسهولها الواسعة، فكانت - علي هذا - الموقع المفضل للنزال والحروب، وكانت لأول مرة في تاريخها ميدان الحسن ومعاوية في زحفهما هذا، ثم تبودلت فيها بعد ذلك وقائع كثيرة بين العراق والشام.
* * * ورأي الحسن عليه السلام أن يتخذ من المدائن - بما لموقعها من الأهمية العسكرية - مقرا لقيادته العليا. ليستقبل عندها نجدات جيوشه من الأقطار الثلاث القريبة منه، ثم ليكون من وراء ميدانه الذي ينازل به معاوية وأهل الشام في " مسكن ". وليس بين المعسكرين الهاشميين في - المدائن ومسكن - أكثر من خمسة عشر فرسخا.
(1) قال الماوردي في الاحكام السلطانية - علي رواية الحموي -: " والعلث هو أول العراق من هذه الجهة ". أقول: ويقع العلث بين عكبرا وسامراء. وعكبرا قرية من نواحي دجيل قرب " أوانا ".
(١٠٤)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (2)، دولة العراق (3)، مدينة سامراء المقدسة (2)، مدينة الكوفة (1)، زياد بن عبيد (1)، الشام (2)، الوسعة (2)

صفحه 094

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٠٥
وكانت الخطة المثلي التي لا بدل عنها للوضع الحربي الراهن. وهكذا انكشف الحسن في رسم خططه الحربية، عن القائد الملهم الذي يحسن فنون الحرب كما كان يصطلح عليها عصره أفضل احسان. ودلت خطواته المتدرجة في سبيل مقاومته لعدوه سواء في اختيار الوقت أو في اختيار المواقع أو في تسيير الجيوش، علي مواهب عسكرية ممتازة، كانت كفاء ما رزق من مواهب في سياسته وفي اخلاصه وفي تضحيته.
* * * ونظر عن يمينه وعن شماله، وتصفح - مليا - الوجوه التي كانت تدور حوله من زعماء شيعته ومن سراة أهل بيته، ليختار منهم قائد " مقدمته " التي صمم علي ارسالها إلي مسكن، فلم ير في بقية السيوف من كرام العشيرة وخلاصة الأنصار، أكثر اندفاعا للنصرة ولا اشد تظاهرا بالاخلاص للموقف من ابن عمه (عبيد الله (1) بن عباس بن عبد المطلب) و (قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري) و (سعيد بن قيس الهمداني) - رئيس
(1) الارشاد للشيخ المفيد (ص 170)، وابن أبي الحديد (ج 4 ص 14) واليعقوبي (ج 2 ص 191).
وذكر مؤرخ آخر انه (عبد الله بن عباس اخوه) ولا يصح ذلك، لان عبد الله لم يكن في الكوفة أيام خلافة الحسن، وانما كان في مكة، وكتب إلي الحسن كتابه الذي يشير فيه بالحرب وتجد صورته في شرح النهج (ج 4 ص 8 - 9) ولم يكن عبد الله بالذي يختفي ذكره في احداث هذا العهد لو أنه كان موجودا في الكوفة. قال الطبري في تاريخه (ج 6 ص 81): " وفيها - يعني في سنة 40 - خرج عبد الله بن العباس من البصرة ولحق بمكة في قول عامة أهل السير. وقد انكر بعضهم وزعم انه لم يزل في البصرة عاملا عليها من قبل أمير المؤمنين علي عليه السلام حتي قتل وبعد مقتل علي حتي صالح الحسن ثم خرج حينئذ إلي مكة ". أقول: ولا في البصرة والا لما تأخر جيش البصرة عن الحسن أحوج ما كان اليه في المدائن. وأيد ابن الأثير (ج 3: ص 166) ان عبد الله بن عباس فارق عليا في حياته.
والمظنون ان اتحاد الأخوين أبا وتشابه اسميهما كتابة هو الذي اثار الخطأ في نسبة القيادة لعبد الله. ووهم آخر فذكر قيادة المقدمة لقيس بن سعد. وكان قيس علي الطلائع من هذه المقدمة، كما نص عليه ابن الأثير، ولعل ذلك هو سبب هذا الوهم فلاحظ.
(١٠٥)
مفاتيح البحث: سعد بن عبادة (1)، سعيد بن قيس (1)، الكرم، الكرامة (1)، الإختيار، الخيار (2)، الحرب (2)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، كتاب الإرشاد للشيخ المفيد (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، عبد الله بن عباس (3)، مدينة مكة المكرمة (3)، مدينة الكوفة (2)، إبن الأثير (2)، مدينة البصرة (4)، قيس بن سعد (1)، القتل (2)

صفحه 095

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٠٦
اليمانية في الكوفة -. فعهد إلي هؤلاء الثلاثة بالقيادة مرتبين.
وكان عبيد الله بن عباس أحد أولئك المرتجزين للحرب، المستهترين بالحياة، تحفزه الغيرة الدينية، وتلهبه العنعنات القبلية، فإذا هو الفولاذ المصهور في تعصبه للعرش الهاشمي، وهل هو الا أحد سراة الهاشميين، وقديما قيل: " ليست الثكلي كالمستأجرة ". وهو في سوابقه أمير الحج سنة 36 (علي رواية الإصابة) أو سنة 39 (علي رواية الطبري) أو هو أمير الحج في السنتين معا، وهو والي البحرين، وعامل اليمن (1) وتوابعها علي عهد أمير المؤمنين عليه السلام، والجواد المطعام الذي شهد له الحجيج في مكة، ثم هو أسبق الناس دعوة إلي بيعة الحسن يوم بايعه الناس.
فكان - علي ذلك - حريا بهذه الثقة الغالية التي وضعها فيه ابن عمه الامام عليه السلام (2).
(1) وحاول بعضهم الارتياب في سوابق عبيد الله هذا، بحادثة خروجه من اليمن. ومن الحق ان نعترف بضعف حامية اليمن - يومئذ - عن الصمود لحملة بسر بن أرطأة، وكان من انشقاق بعض اليمانيين علي الحكم الهاشمي ومكاتبتهم معاوية واخراجهم أميرهم (سعيد بن نمران) من الجند وموافقتهم عاملهم (عبيد الله) ما يشهد لعبيد الله بالبراءة من موجبات الريب. ولو أن عبيد الله كان قد حاول مواقفة بسر لكان له من عثمانية اليمن من يكفي بسرا أمره، علي ان الرجل لم يفعل بخروجه من اليمن أكثر مما فعله نظراؤه في مكة والمدينة، حيث فر عاملاها من وجه بسر، وأغار عامل معاوية علي العواصم الثلاث فقتل فيهن زهاء ثلاثين الفا من الآمنين. وعلمنا ان عبيد الله قصد في خروجه من اليمن إلي الكوفة، ولو كان مريبا لما قصد الكوفة وعلمنا ان سعيد بن نمران اعتذر لأمير المؤمنين عليه السلام بقوله: " اني دعوت الناس - يعني أهل اليمن - للحرب وأجابني منهم عصابة فقاتلت قتالا ضعيفا وتفرق الناس عني وانصرفت ". أقول: أفلا تكون تجربة ابن نمران تصحيحا لمعذرة ابن عباس، فالرجل - في سوابقه - لا غمز فيه، ولا غرو إذا رضيه الحسن ثقة بسوابقه.
(2) يراجع عما ذكرناه من القيادة والحركات السوقية ابن أبي الحديد (ج 4 ص 14) والارشاد (ص 168 - 169) واليعقوبي (ج 2 ص 191).
وانفرد اليعقوبي عنهما بعدم ذكر القائد الثالث من قواد المقدمة، ثم قال: " وأمر الحسن عبيد الله بان يعمل بأمر قيس بن سعد ورأيه، فسار إلي ناحية الجزيرة - يعني بين النهرين - واقبل معاوية لما انتهي اليه الخبر بقتل علي (ع) فسار إلي " الموصل " بعد قتل علي بثمانية عشر يوما والتقي العسكران.. ". - أقول: والموصل هذه قرية من قري " مسكن " دفن بالقرب منها سيدنا (محمد ابن الامام علي الهادي) كما أشار اليه الحموي في معجمه وهي غير مدينة الموصل المعروفة. ولا تنافي بين ما رواه اليعقوبي وما رواه الآخرون من تعيين الموقع الذي نزل فيه جيش معاوية في حربه للحسن عليه السلام، فالموصل والحيوضة والجنوبية كلها من قري " مسكن " يومئذ ولعل الجيش أشغل هذه القري كلها فوردت أسماؤها في مختلف الروايات واقتصرت بعضها علي اسم دون اسم كما تري. ونحن انما اخترنا ذكر " الجنوبية " دون غيرها نزولا علي تصريح قيس بن سعد فيما كتب به إلي الحسن كما سيأتي في محله.
(١٠٦)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (3)، مدينة مكة المكرمة (2)، مدينة الكوفة (3)، الحج (2)، الشهادة (2)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، عبد الله بن عباس (1)، قيس بن سعد (2)، القتل (3)، الدفن (1)

صفحه 096

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٠٧
ودعاه، فعهد اليه عهده الذي لم يرو لنا بتمامه، وانما حملت بعض المصادر صورة مختزلة منه. قال فيه:
" يا ابن عم! اني باعث معك اثني عشر الفا من فرسان العرب وقراء المصر، الرجل منهم يزيد الكتيبة، فسر بهم، وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وافرش لهم جناحك، وأدنهم من مجلسك، فإنهم بقية ثقات أمير المؤمنين. وسر بهم علي شط الفرات، ثم امض، حتي تستقبل بهم معاوية، فان أنت لقيته، فاحتبسه حتي آتيك، فاني علي أثرك وشيكا. وليكن خبرك عندي كل يوم، وشاور هذين - يعني قيس بن سعد وسعيد بن قيس -. وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتي يقاتلك، فان فعل، فقاتله. وإن أصبت، فقيس بن سعد علي الناس، فان أصيب فسعيد بن قيس علي الناس ".
ولقد تري أن الامام الحسن عليه السلام، لم يعن في عهده إلي عبيد الله بشيء، عنايته بأصحابه، فمدحهم، وأطري بسالتهم، وأضافهم إلي أبيه أمير المؤمنين عليه السلام. وأراد بكل ذلك تغذية معنوياتهم والهاب حماستهم والتأثير علي عواطفهم. ثم أمر قائده بأن يلين لهم جانبه ويبسط لهم وجهه ويفرش لهم جناحه ويدنيهم من مجلسه. وحرصت هذه التعاليم علي ايثار الثقة المتبادلة بين القائد والجيش. وأحر بهذه الثقة - في حرب
(١٠٧)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، نهر الفرات (1)، سعيد بن قيس (2)، قيس بن سعد (2)، الحرب (1)

صفحه 097

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٠٨
تعوزها النظم العسكرية التي نعرفها اليوم - أن تكون أهم عناصر القوة المرجوة للأيام السود. وجاءت جملا متعاطفة أربعا يؤكد بعضها بعضا، ثم هي لا تعني الا معني واحدا. تري فهل لنا أن نستفيد، من هذا القصد العامد إلي التأكيد، أنها كانت تحاول بتكرارها " المؤكد "، استئصال خلق خاص في عبيد الله [القائد الجديد]؟. وفي الجيش - معه - أعلام من سراة الناس، ومن ذوي السوابق والذكريات المجيدة، الذين لا يهضمون الخلق المزهو ولا الخشونة الآمرة الناهية في الفتي الهاشمي الذي لا يزيدهم كفاءة، ولا يسبقهم جهادا، ولا يفضلهم تقوي، ولا يكبرهم سنا (1).
وقوله له - بعد ذلك -: " وشاور هذين " دليل آخر علي القصد علي تذليل خلق صعب، ربما كان يعهده الامام في ابن عمه، وربما كان يخافه كعائق عن النجاح.
أقول: وليس من وجود الخلق المخشوشن في عبيد الله - إذا صدق الظن - ما يعيقه عن استحقاق القيادة، وقد استدعته إليها ظروف كثيرة أخري، علي أن بين الخشونة والحياة العسكرية أواصر رحم متينة الحلقات في القديم والحديث.
* * * وفي هذه المناسبة ما يفسح المجال للتساؤل عن الحيثيات التي آثر بها الامام الحسن عليه السلام عبيد الله بن عباس للقيادة علي مقدمته، وفي الجيش مثل (قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري) الرجل المعترف بكفاءاته العسكرية وبإخلاصه الصحيح لأهل البيت عليهم السلام وبأمانته.
وللجواب علي هذا السؤال، وجوه:
أولها: أن الحسن حين أراد عبيد الله للقيادة علي " المقدمة " فرض عليه استشارة كل من قيس بن سعد وسعيد بن قيس - كما هو صريح عهده
(1) كان عبيد الله بن عباس يوم قيادته لهذا الجيش في التاسعة والثلاثين من عمره.
(١٠٨)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، سعد بن عبادة (1)، سعيد بن قيس (1)، قيس بن سعد (1)، التصديق (1)، الظنّ (1)

صفحه 098

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٠٩
اليه - فخرج بذلك من الايثار الذي يؤخذ عليه، إذا كان في هذا الايثار تبعة يخاف منها علي مصلحة الموقف. وأصبحت القيادة - علي هذا الأسلوب - شوري بين ثلاثة، هم أليق رجاله لها. اما تقديم قيس علي صاحبيه وعلي غيرهما من صحابة وزعماء، وايثاره بالقيادة وحده فقد كان - في حينه - مظنة لتنافس الأكفاء الآخرين الذين كان يلفهم جناح هذا الجيش. وفي هؤلاء الشخصيات المعروفة في قيادتها الميادين وفي اخلاصها وجهادها وسوابقها، أمثال أبي أيوب الأنصاري وحجر بن عدي الكندي وعدي بن حاتم الطائي وأضرابهم، ممن مر ذكرهم.
لذلك كان تقديم ابن عم الامام، بل ابن عم النبي صلي الله عليه وآله، وتعيينه " اسما " ثم الاستفادة من رأي قيس وصاحبه علي الأسلوب الذي ذكرنا، تخلصا لبقا، لا ينبغي الخلاف فيه، ولا التنافس عليه.
وثانيها: انه كان من الاحتياطات الرائعة للوضع العام يوم ذاك، أن لا يكون القائد في جبهة الحسن الا هاشميا.
وتفسير ذلك، أن سورة التخاذل التي دارت مع قضية الحسن في الكوفة، كانت لا تزال نذيرة تشاؤم كثير في حساب الحسن (ع)، وكان عليه أن يتخذ من التدابير الممكنة كل ما يدفع عنه - في حاضره وفي مستقبله - لوم الناس وتخطئتهم ونقدهم. ومن السهل علي الناس أن يتسرعوا إلي التخطئة والنقد متي وجدوا موضعا للضعف أو منفذا إلي الفشل والحرمان. وكان من المنتظر ان يقولوا فيما لو فشلت قضية الحسن في مسكن أنه لو كان القائد من أهله لكان أولي من غيره بالصبر علي المكاره وتحمل العظائم، ولما آل الامر إلي هذا المآل.
فكان الاستعداد لغوائل الوضع الراهن بتعيين القائد الهاشمي، تدبيرا دقيق الملاحظة.
(١٠٩)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، أبو أيوب الأنصاري (1)، مدينة الكوفة (1)، حجر بن عدي الكندي (1)، عدي بن حاتم (1)، الخوف (1)

صفحه 099

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١١٠
وثالثها: أنه لن يكون انسان آخر غير عبيد الله بن عباس - لا قيس ولا ابن قيس ولا غيرهما - أشد حنقا ولا أعنف تألبا علي معاوية منه كأب قتل ولداه (الصبيان) صبرا، فيما أملته فاجعة بسر بن أرطأة يوم غارته علي اليمن [والقضية من مشهورات التاريخ].
فكان من الاستغلال المناسب جدا، اختيار هذا القائد الحانق لقتال قاتل ولديه.
ورابعها: أن جيش " المقدمة " الذي ولي قيادته عبيد الله هذا، كان أكثره من بقايا الجيش الذي أعده أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة لحرب أجناد الشام، ثم توفي عنه. وكان قيس بن سعد بن عبادة هو قائد (1) ذلك الجيش في زمن أمير المؤمنين (ع) والقائم علي مداراته. ولهذه السوابق أثرها في تونيق الروابط الشخصية بين القائد والمقود. وكان من السهل علي القائد النافذ في جنوده، أن يجنح - متي شاء - إلي حرية التصرف التي لا تعبر عن اتصال ايجابي بالمركز الاعلي، وهو ما كان يجب التحفظ منه، كأهم عنصر في الموقف.
وعلي أننا نحترم سيدنا قيسا كما يجب له الاحترام، ولكننا لا ننكر قابلياته الشخصية التي تجوز عليه هذا اللون من حرية التصرف.
ولا ننسي أنه وقف بين صفوفه - يوم رجعت له قيادة هذا الجيش في مسكن - يخيرهم بين الالتحاق بالامام علي الصلح، وبين الاستمرار علي حرب معاوية بلا امام!!..
فأي احتياط كان أحسن من جعل القيادة في غير هذا الرجل وجعله - مع ذلك - المستشار العسكري للاستفادة من كفاءاته ودهائه، وهو ما فعله الامام الحسن تنفيذا لافضل الرأيين.
أقول: ولا يضير هذه السياسة، تعيين قيس للخلافة علي القيادة بعد
(1) تاريخ ابن كثير (ج 8 ص 14) وغيره.
(١١٠)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (2)، مدينة الكوفة (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، سعد بن عبادة (1)، الشام (1)، القتل (3)، الإختيار، الخيار (1)، الحرب (1)، الجواز (1)

صفحه 100

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١١١
عبيد الله بن عباس، لأنه لن يكون بعد مقتل سلفه في ميادين مسكن - كما كان هو المفروض في نصوص العهد - الا رهن التصميم الذي سار عليه سلفه، والذي لا تسمح بتغييره ظروف الحرب القائمة بين الفريقين، ولعله لن يكون - يومئذ - الا رهن توجيه الامام (القائد الاعلي) مباشرة، وقد علمنا - مما سبق - أن الامام وعد مقدمته بالالتحاق بها وشيكا.
وأي محذور - بعد هذا - من تعيينه للخلافة علي القيادة ما دام مقيدا بتصميم خاص، أو مرتهنا بتسيير الامام واشرافه المباشر.
عدد الجيش
(١١١)
مفاتيح البحث: الحرب (1)، القتل (1)

صفحه 101

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١١٤
كان في الكوفة من الجيش العامل في أواسط القرن الأول أربعون الفا، يغزو كل عام منهم عشرة آلاف (وهو ما تنص علي ذكره المصادر الموثوقة).
وعلمنا ان أمير المؤمنين عليا عليه السلام كان قد أعد للكرة علي جنود الشام أربعين الفا أو خمسين الفا - علي اختلاف الروايتين - ثم توفي قبل الزحف بها. والمظنون أن الحصة المدورة من الجيش العامل، كانت بعض هذه العدة التي كان أمير المؤمنين قد أعدها لحرب معاوية.
ثم انقطع بنا العلم عن موقف هذا الجيش أو ذاك من الحسن بن علي عليهما السلام، ابان دعوته إلي الجهاد. وعلمنا من أكثر من مصدر أن المقدمة التي بعث بها الحسن إلي لقاء معاوية في " مسكن " كانت تعد اثني عشر الفا، والمرجح أنها فلول الجيش الذي مات عنه أمير المؤمنين (ع)، فأجاب الحسن منهم من أجاب وتخلف الباقي.
ثم علمنا من مصدر آخر أن الكوفة جاشت في صميم تثاقلها يوم الحسن فجندت أربعة آلاف (1) أخري.
فهذه ستة عشر الفا، قام علي اثباتها النص الذي لا يقبل النقاش.
وهناك أرقام أخري لعدد الجيش، مر عليها المؤرخون وتضمنتها بعض التصريحات ذات الشأن. ولكنها خاضعة في ثبوتها للتمحيص والمناقشة.
وفيما يلي نصوص المصادر التي تشير إلي تلك الأرقام علي اختلافها نعرضها أولا بحرفها، ثم نعود أخيرا إلي تدقيقها كما يجب.
(1) الخرايج والجرايح للراوندي (ص 228).
(١١٤)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (2)، مدينة الكوفة (2)، الشام (1)، الموت (1)، كتاب الخرائج والجرائح للقطب الراوندي (1)

صفحه 102

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١١٥
قال في البحار (ج 10 ص 110):
" ثم وجه (يعني الحسن) اليه (يعني إلي معاوية) قائدا في أربعة آلاف، وكان من كندة، وأمره أن يعسكر بالأنبار (1)، ولا يحدث شيئا حتي يأتيه أمره. فلما توجه إلي الأنبار، ونزل بها، وعلم معاوية بذلك، بعث اليه رسلا، وكتب اليه معهم: انك ان أقبلت إلي، أوليك بعض كور الشام والجزيرة، غير منفس عليك. وأرسل اليه بخمسمائة الف درهم. فقبض الكندي المال، وقلب علي الحسن، وصار إلي معاوية في مائتي رجل من خاصته وأهل بيته. فبلغ ذلك الحسن فقام خطيبا وقال: هذا الكندي توجه إلي معاوية، وغدر بي وبكم، وقد أخبرتكم مرة بعد مرة، انه لا وفاء لكم، أنتم عبيد الدنيا، وأنا موجه رجلا آخر مكانه، واني أعلم انه سيفعل بي وبكم، ما فعل صاحبكم، ولا يراقب الله في ولا فيكم. فبعث اليه رجلا من مراد في أربعة آلاف. وتقدم اليه بمشهد من الناس وتوكد عليه، وأخبره أنه سيغدر كما غدر الكندي. فحلف له بالايمان التي لا تقوم لها الجبال انه لا يفعل. فقال الحسن: انه سيغدر. فلما توجه إلي الأنبار، ارسل اليه معاوية رسلا وكتب اليه بمثل ما كتب إلي صاحبه وبعث اليه بخمسة آلاف (ولعله يريد خمسمائة الف) درهم، ومناه أي ولاية أحب من كور الشام والجزيرة، فقلب علي الحسن، وأخذ طريقه إلي معاوية، ولم يحفظ ما اخذ عليه من عهود.. ".
ثم ذكر بعد هذا العرض، اتخاذ الحسن النخيلة معسكرا له، ثم خروجه إليها.
* * *
(1) مدينة كانت علي الفرات (غربي بغداد) تبعد عنها عشرة فراسخ سميت بذلك لأنها كانت تجمع بها أنابير الحنطة والشعير منذ أيام الفرس، وأقام بها أبو العباس السفاح العباسي إلي أن مات، وجدد بها قصورا وأبنية، ثم اندثرت عمارتها.
(١١٥)
مفاتيح البحث: الشام (2)، نهر الفرات (1)، مدينة بغداد (1)، الموت (1)، القمح، الحنطة (1)، الشعير (1)

صفحه 103

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١١٦
2 - قال ابن أبي الحديد (ج 4 ص 14):
" وخرج الناس، فعسكروا ونشطوا للخروج، وخرج الحسن إلي المعسكر، واستخلف علي الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب وأمره باستحثاث الناس واشخاصهم اليه. فجعل يستحثهم ويخرجهم حتي يلتئم المعسكر. وسار الحسن في عسكر عظيم وعدة حسنة، حتي نزل دير عبد الرحمن، فأقام به ثلاثا حتي اجتمع الناس. ثم دعا عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، فقال له: يا ابن عم اني باعث معك اثني عشر الفا من فرسان العرب وقراء المصر.. ".
3 - روي الزهري فيما ينقله عنه ابن جرير الطبري (ج 6 ص 94) قال:
" فخلص معاوية حين فرغ من عبيد الله بن عباس والحسن عليه السلام إلي مكايدة رجل هو أهم الناس عنده مكايدة، ومعه أربعون الفا. وقد نزل معاوية بهم وعمرو وأهل الشام ".
4 - وجاء في كلام المسيب بن نجية فيما عاتب به الامام الحسن علي صلحه مع معاوية (علي رواية غير واحد من المؤرخين) - والنص للمدائني (1) كما يحدثنا عنه في شرح النهج (ج 4 ص 6) - قال:
" فقال المسيب بن نجية للحسن عليه السلام: ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون الفا!. أو قال: " بايعت " علي اختلاف النقول.
(1) هو أبو الحسن بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف البصري الأصل. سكن المدائن ثم انتقل إلي بغداد وتوفي بها سنة 215 وهو الذي يكثر ابن أبي الحديد النقل عنه في شرح النهج. وله ما يقرب من مائتي كتاب في مختلف الموضوعات رحمه الله.
(١١٦)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (2)، إبن أبي الحديد المعتزلي (2)، نوفل بن الحرث بن عبد المطلب (1)، مدينة الكوفة (1)، عبيد الله بن العباس (1)، الشام (1)، الحسن بن محمد بن عبد الله (1)، مدينة بغداد (1)

صفحه 104

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١١٧
5 - قال ابن الأثير في كامله (ج 3 ص 61):
" كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون الفا من عسكره علي الموت، لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل السام. فبينما هو يتجهز للمسير قتل عليه السلام وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له. فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام اليه، فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا، وسار عن الكوفة إلي لقاء معاوية - وكان قد نزل مسكن - فوصل الحسن إلي المدائن، وجعل قيس بن عبادة الأنصاري علي مقدمته في اثني عشر الفا، وقيل بل كان الحسن قد جعل علي مقدمته عبد الله (1) بن عباس، فجعل عبد الله بن عباس علي مقدمته في الطلائع قيس بن سعد بن عبادة.. ".
أقول: وجري علي مثل هذا الحديث " ابن كثير " والظاهر انه اخذه من الكامل حرفيا.
6 - كلمة الحسن عليه السلام فيما يرويه عنه المدائني (2) في جواب الرجل الذي قال له: " لقد كنت علي النصف فما فعلت؟ "، فقال: " أجل ولكني خشيت أن تأتي يوم القيامة سبعون الفا أو ثمانون الفا تشخب أوداجهم، كلهم يستعدي الله، فيم هريق دمه ".
7 - ما رواه ابن قتيبة الدينوري في الإمامة والسياسة (ص 151) قال:
وذكروا انه لما تمت البيعة لمعاوية، وانصرف راجعا إلي الشام أتاه
(1) هو عبيد الله لا عبد الله ولا قيس كما ذكرنا آنفا ونبهنا علي بواعث الخطأ في ذكر كل منهما.
(2) شرح النهج (ج 4 ص 7)، وابن كثير (ج 8 ص 42).
(١١٧)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، عبد الله بن عباس (1)، يوم القيامة (1)، مدينة الكوفة (1)، إبن الأثير (1)، قيس بن عبادة (1)، سعد بن عبادة (1)، الشام (2)، القتل (2)، الموت (2)

صفحه 105

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١١٨
- يعني أتي الحسن - سليمان بن صرد، وكان غائبا عن الكوفة، وكان سيد أهل العراق ورأسهم، فدخل علي الحسن فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين! فقال الحسن: وعليك السلام، اجلس لله أبوك. قال: فجلس سليمان وقال: أما بعد فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية، ومعك مائة الف مقاتل من أهل العراق، وكلهم يأخذ العطاء، مع مثلهم من أبنائهم ومواليهم، سوي شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز!! ".
أقول: وروي كل من المرتضي في " تنزيه الأنبياء "، وابن شهرآشوب في " مناقبه " والمجلسي في " البحار " النص الكامل لما دار بين سليمان بن صرد ورفاقه، وبين الحسن عليه السلام. ولم يرو أحد منهم عن سليمان أو أصحابه فيما عرضوا له من عدد الجيش، أكثر من أربعين الفا.
فابن قتيبة ينفرد برواية المائة الف عن سليمان، كما ينفرد بالتعبير عن الصلح بلفظ " البيعة "!.
8 - التصريح الذي فاه به زياد ابن أبيه، يوم كان لا يزال عاملا للحسن بن علي علي فارس، وذلك فيما أجاب به علي تهديد معاوية إياه، قال:
" ان ابن آكلة الأكباد، وكهف النفاق، وبقية الأحزاب، كتب يتوعدني ويتهددني، وبيني وبينه، ابنا رسول الله في تسعين الفا (وعلي رواية في سبعين الفا) واضعي قبائع سيوفهم تحت أذقانهم، لا يلتفت أحدهم حتي يموت. أما والله لئن وصل إلي ليجدني أحمز ضرابا بالسيف (1) ".
المناقشة:
وهكذا توفرت هذه النصوص بمختلف صيغها، علي أرقام فرضتها في
(1) اليعقوبي (ج 2 ص 194)، وابن الأثير (ج 3 ص 166). ورواه الأول بتسعين الفا، والثاني بسبعين الفا.
(١١٨)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (2)، دولة العراق (2)، سليمان بن صرد الخزاعي (2)، مدينة الكوفة (1)، العلامة المجلسي (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، مدينة البصرة (1)، ابن شهرآشوب (1)، الموت (1)، القتل (1)، إبن الأثير (1)

صفحه 106

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١١٩
موضوع عدد الجيش، وتدرج العدد الكبير فيها من أربعين الفا إلي ثمانين الفا فمائة الف.
والواقع أن المراتب الثلاث بجملتها، معرضة للشك وخاضعة للتمحيص، وحتي أدناها. واليك البيان:
اما أولا: فالعدد الاعلي (وهو مائة الف أو أكثر، أو تسعون الفا) فيما يشير اليه زياد ابن أبيه (علي رواية اليعقوبي)، أو فيما ينسب إلي سليمان بن صرد (برواية ينفرد بها الدينوري خلافا لمؤرخين كثيرين) مشكوك فيه من جهات:
أهمها أن كلا من هذين الزعيمين - سليمان وزياد - كانا غائبين عن بيعة الحسن وجهاد الحسن وكوفة الحسن، طيلة خلافته في الكوفة وكانا قد غادرا مواطنهما في العراق منذ سنتين (1). وأي قيمة لتصريح غائب لم يشهد الوضع السائد في الكوفة، بما كان يجتاح هذه الحاضرة من تحزب قوي وتثاقل لئيم فيما واجهت به امامها وصاحب بيعتها.
وان زيادا وسليمان إذ يفرضان هذه الاعداد من الجيش فإنما يقيسان حاضر الكوفة علي ماضيها، ويظنان أنها جندت مع الحسن ما كانت تجنده مع أبيه أمير المؤمنين سنة 37 و 38 يوم كان كل منهما لا يزال في الكوفة يساهم بنصيبه من تلك الصفوف. هذا أولا. واما ثانيا، فقد كان من موقف الرجلين كليهما في اللحظة العاطفية التي إندفعا بها إلي هذا التصريح، ما يبرر لهما الجنوح إلي أسلوب المبالغات، وكانت المبالغة في عدد الجيش تهويلا قريب التناول من جموح العاطفة الناقمة في سليمان، وهو ينكر علي
(١) صرح بغياب سليمان بن صرد عن الكوفة كل من ابن قتيبة في الإمامة والسياسة، والمرتضي في تنزيه الأنبياء ونص فيه علي غيبته سنتين. واما زياد فكان والي فارس من سنة 39 بعثه إليها عبد الله بن عباس وهو إذ ذاك والي البصرة. وكان زياد قبل سنة 39 في البصرة كما صرح به الطبري في حوادث 39.
(١١٩)
مفاتيح البحث: دولة العراق (1)، سليمان بن صرد الخزاعي (2)، مدينة الكوفة (6)، الشهادة (1)، عبد الله بن عباس (1)، مدينة البصرة (2)، البعث، الإنبعاث (1)

صفحه 107

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٢٠
الامام الحسن عليه السلام الرضا بالصلح، وقريب التناول - كذلك - من سياق التهديد والوعيد في زياد وهو يرد في خطابه علي تهديد معاوية.
وبعد هذا كله، فليس في هذين التصريحين ما يصح الركون اليه من احصاء أو تعيين أعداد.
وعلمنا ان سليمان هذا، كان صديق المسيب بن نجية وصاحبه الذي تربطه به وشائج أخري هي أبعد أثرا من الصداقات الشخصية. وقد مر عليك في النص [رقم 4] قول المسيب للحسن في معرض العتاب علي الصلح: " ومعك أربعون الفا ". ومن المقطوع عليه أن مثل هذين الصديقين لا يختلفان في قضايا أهل البيت (ع) اختلافهما في هذا التقدير.
أذا، فما من سبب لشذوذ كلمة ابن صرد، الا كون راويها الدينوري الذي انفرد في قضية الحسن بعدة روايات لم يهضمها التمحيص الصحيح!.
وشاءت المقادير أن لا يفارق الزعيمان الصديقان الدنيا، حتي يأخذا جوابهما - عمليا - عن عتابهما الطائش الذي قابلا به امامهما أبا محمد عليه السلام، فيما أنكرا عليه من الصلح.
فبايعهما علي الاخذ بثأر الحسين عليه السلام سنة 65 هجري ثمانية عشر الفا من أهل الكوفة، ثم لم يكن معهما حين جد الجد في ساحة " عين الوردة " غير ثلاثة آلاف ومائة. ومنيا من خذلان الناس بما ذكرهما بالصميم من قضايا أهل البيت عليهم السلام.
ثم استشهد سليمان والمسيب وهما زعيما حركة التوابين في عين الوردة، واستشهد معهما - يوم ذاك - أكثر من كان قد انضوي إليها.
واما ثانيا: فالعدد ثمانون الفا أو سبعون الفا، وهو ما تضمنه كلام الحسن في جواب الرجل الذي قال له: " لقد كنت علي النصف فما فعلت؟ ".
وكلام الحسن - في حقيقته - لا يدل علي أكثر من عشرين الفا علي
(١٢٠)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (2)، الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، مدينة الكوفة (1)، صلح (يوم) الحديبية (3)، الشهادة (1)

صفحه 108

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٢١
أكبر تقدير، وذلك لان الحسن حين يذكر الذين " تشخب أوداجهم يوم القيامة " ثم يتردد في تعيين عددهم بين السبعين والثمانين الفا، لا يعني جنوده خاصة، وانما يشير بذلك إلي الجيشين المتحاربين جميعا. وعلمنا ان عدد أهل الشام في زحفهم علي الحسن، كان ستين الفا، فيكون الباقي عدد جيشه الخاص.
وكان تردده في تعيين العدد صريحا بما أفدناه، لأنه لو عني جيشه دون غيره، لذكره برقمه الذي لا تردد فيه، وهو أعلم الناس بعدده.
واما ثالثا: فالعدد أربعون الفا، وهو الذي سبق إلي ذكره غير واحد من المؤرخين، وذكره المسيب بن نجية، فيما رويناه عنه في النص الرابع من النصوص الثمانية. ولا كلام لنا علي هذا العدد الا من وجهين.
(أحدهما) أنه لا يتفق وكلمة الحسن نفسه التي أشار بها إلي عدد الجيش، وقد عرفت أن كلمته لم تعن أكثر من عشرين الفا علي أكبر تقدير، ولا يتفق وكلمته الأخري التي وصف بها موقف الناس منه [بالنكول عن القتال (1)]. ومن كان معه أربعون الفا لم ينكل الناس معه عن القتال، فالعدد إذا لا يزال معرضا للشك.
(وثانيهما) أنه عدد أملاه الظن علي القائلين به، فرأوا ان أمير المؤمنين (ع) كان قد جهز لحملته الأخيرة علي الشام أربعين الفا، ثم اخترمت حياته الكريمة ولما يزحف بهذا الجيش، فظنوا - اجتهادا - أن جنود الأب انضافت إلي الابن، وفاتهم أن يقدروا حيال هذا الظن قيمة التخاذل الذي جوبه به الخليفة الجديد في الكوفة.
وبعد، فأي قيمة للاحصاء مبتنيا علي هذه الأخطاء.
وكانت أغرب روايات الموضوع، رواية الزهري التي تشير إلي وجود
(1) وذلك فيما أجاب به بشير الهمداني وهو أحد وجوه شيعته في الكوفة، البحار (ج 10 ص 113).
(١٢١)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، يوم القيامة (1)، مدينة الكوفة (2)، يوم عرفة (1)، الشام (2)، الكرم، الكرامة (1)، الظنّ (2)، القتل (2)

صفحه 109

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٢٢
أربعين الفا من جيش الحسن، مع قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، بعد أن رجعت اليه قيادة المقدمة في " مسكن " بفرار عبيد الله ومن معه. ومعني ذلك ان مقدمة الحسن وحدها كانت قبل حوادث الفرار ثمانية وأربعين الف مقاتل!!
وهذا ما لا يصح في التاريخ.
فلم تكن المقدمة الا اثني عشر الفا، منذ كان عليها عبيد الله بن عباس كما هو صريح الفقرة التي تخص العدد فيما عهد به الحسن إلي قائده، حين سرحه علي رأس هذه المقدمة، وصريح نصوص كثيرة للمؤرخين لا يتخللها شك.
وروايات الزهري في قضايا أهل البيت أضعف الروايات، وأشدها إرباكا لموضوعاتها. وسمه صاحب " دراسات في الاسلام " (ص 16) بأنه كان " عاملا مأجورا للأمويين " وكفي.
علي اننا إذا حاولنا التصرف في رواية الزهري هذه وأردنا علاج إرباكها المقصود، فأرجعنا الضمير في قوله " وقد نزل معاوية بهم وعمرو وأهل الشام " إلي جيش معاوية دون جيش قيس، يكون المعدود حينئذ جنود معاوية التي نزل بها علي قيس، وليكن المقصود منهم " أهل العطاء خاصة " وليكن المقصود من " أهل الشام " المتطوعين غير أهل العطاء، ليتم بذلك التوفيق بين روايته هذه، والروايات الأخري التي تعد مقدمة الحسن، والتي تعد جنود معاوية.
واما رابعا: فالعسكر العظيم، وهو تصريح ابن أبي الحديد فيما وصف به مسير الحسن من النخيلة صوب دير عبد الرحمن في طريقه إلي معسكراته. والكلمة كما تري، مجملة لا تأبي الانطباق علي العدد الذي ذكرناه آنفا، فان ستة عشر الفا " عسكر عظيم "، وان أبيت فعشرين الفا.
واما خامسا: فرواية البحار، وهي أولي النصوص التي أوردناها في سبيل استيعاب
(١٢٢)
مفاتيح البحث: إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، سعد بن عبادة (1)، الشام (2)، القتل (1)

صفحه 110

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٢٣
ما روي في الموضوع، وان لهذه الرواية من التناسق في حوادثها المتكررة ما يفرض الشك بها فرضا.
وهي تغفل عند عرضها الحوادث المتشابهة تسمية كل من القائدين - الكندي والمرادي - اللذين تفرض أنهما سبقا عبيد الله بن عباس إلي لقاء معاوية وسبقاه إلي الخيانة أيضا. ولا يعهد في تاريخ قضية من هذا الوزن، اغفال تسمية قائدين في حادثتين من أبشع حوادث الانسان في التاريخ.
ولعل الأغرب من ذلك، ان رواية البحار هذه تشير إلي اصرار الامام علي اتهام القائدين قبل بعثهما، ثم تصر علي ان الامام بعثهما - مع ذلك - إلي لقاء معاوية عالما بما سيصيران اليه من غدر!!.
وبعض هذا يكفينا عن الاستمرار في نقاش هذه الرواية التي يجب أن نتركها لتعلن هي عن نفسها.
* * * أقول:
ولم نحصل - بعد هذا كله - علي محصل في الموضوع الذي أردناه تحت عنوان " عدد الجيش " ولتكن هذه النصوص - علي كثرتها - أحد أمثلتنا التي نقدمها للقارئ عما نكبت به قضية الحسن في التاريخ، من اختلاف كثير واختلاق صريح، ولا بدع في تقرير هذه الحقيقة وتكرارها وتعظيم خطرها وانكارها والتنبيه إلي تبعاتها. فهذه ثمانية نصوص، ليس فيها ما يصبر علي النقاش، ولا ما يصح الاعتماد عليه كسند تاريخي.
ولم يبق لدينا الا عدد جيش المقدمة، وهو اثنا عشر الفا، وعدد المتطوعين بعد ذلك في الكوفة، وهو أربعة آلاف، ثم الفصائل التي تواردت علي الحسن في دير عبد الرحمن حين أقام بإزائه ثلاثا - كما أشير اليه آنفا - فهذه قرابة عشرين الفا، هي جيش الحسن عند زحفه إلي معسكريه في مسكن والمدائن.
اما مقاتلة المدائن نفسها، فقد عرفنا انها لم تتخلف - فيما سبق - عن
(١٢٣)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (1)، الصبر (1)

صفحه 111

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٢٤
ميادين علي عليه السلام، ومن البعيد جدا ان يعسكر ابنه الحسن بين ظهرانيهم ثم لا يلتحق به القادرون منهم علي حمل السلاح.
وهذا ما يؤكد الظن ببلوغ عدد الجيش في كلا المعسكرين العشرين الفا أو يزيد قليلا.
وهو " العسكر العظيم " الذي عناه ابن أبي الحديد، وهو - أيضا - العدد الذي يلتقي بتصريح الحسن عليه السلام - الانف الذكر - ولا أحسن من تصريح الحسن دليلا فيما يخص قضاياه.
ثم لا نعلم ان الحسن عليه السلام، تلقي بعد وجوده في المدائن أي نجدة من أي جهة.
عناصر الجيش
(١٢٤)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (2)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، الظنّ (1)

صفحه 112

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٢٦
قال المفيد في الارشاد (169): " وبعث الحسن حجر بن عدي فأمر العمال - يعني امراء الأطراف - بالمسير، واستنفر الناس للجهاد، فتثاقلوا عنه، ثم خفوا، وخف معه أخلاط من الناس، بعضهم شيعة له ولأبيه، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم، وبعضهم شكاك، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون إلي دين.. (1) ".
أقول: علمنا مما سبق قريبا ان جيش الحسن تألف من زهاء عشرين الفا، أو يزيد قليلا، ولكنا لم نعلم بالتفصيل الطريقة التي اتخذت لتأليف هذا الجيش. والمعتقد انها كانت الطريقة البدائية التي لم تدخلها التحسينات المكتسبة بعد ذلك. وهي - إذ ذاك - الطريقة المتبعة في التجمعات الاسلامية مع القرون الأولي في الاسلام، وهي الطريقة التي لا تشترط لقبول الجندي أو لقبول المجاهد أي قابليات شخصية، ولا سنا خاصة، ولا تنزع في مناهج تجنيدها إلي الاجبار بمعناه المعروف اليوم. وللمسلم القادر علي حمل السلاح وازعه الديني حين يسمع داعي الله بالجهاد فاما ان يبعث فيه هذا الوازع، الشعور بالواجب فيتطوع بدمه في سبيل الله. واما ان يكون المغلوب علي أمره بدوافع الدنيا، فيخمد في نفسه هذا الشعور، ويحرم نصيبه من الاجر ومن الغنيمة إذا قدر لهذه الحرب الظفر والغنائم.
اما النظم الحديثة المتبعة اليوم في الاجبار علي خدمة العلم، ودعوة (مواليد) السنوات المعينة، وفحص القابليات المحدودة، فلم تكن يومئذ
(1) وروي هذا النص الأربلي في كشف الغمة (ص 161) والبحار (ج 10 ص 110).
(١٢٦)
مفاتيح البحث: كتاب الإرشاد للشيخ المفيد (1)، حجر بن عدي الكندي (1)، سبيل الله (1)، البعث، الإنبعاث (1)، القتل (1)، الحرب (1)، كتاب كشف الغمة للإربلي (1)

صفحه 113

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٢٧
ولا هي مما يتفق والتشريع الاسلامي بسعته وسماحته.
وللاسلام اعتداده بصحة حقائقه التي تكفل له بعث الناس إلي الطاعة والانقياد. وليس في عناصر هذا الدين إكراه أحد علي الطاعة بالقوة. ولكنه دلهم علي السبيلين وأعان علي خيرهما بالهدي " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " وكان هذا هو شعار الاسلام في جميع ما أمر به أو نهي عنه.
وعلي ذلك جري رؤساء المسلمين فيما دعوا الناس اليه، وفيما حذروا الناس منه.
وكان لهم عند اعتزامهم الحرب، دعاواتهم الرائعة، في التحريض علي الجهاد، وأساليبهم المؤثرة التي لا تتأخر - غالبا - عن إقناع أكبر عدد من المطلوبين إلي حمل السلاح.
فمن ذلك، أنهم كانوا يزيدون في مخصصات أهل العطاء من مقاتلتهم، ويأمرون عمالهم علي البلاد فيستنفرون الناس للجهاد، ويبثون ألسنتهم وخطباءهم وذوي التأثير من رجالهم لبعث الناس إلي التطوع في سبيل الله عز وجل.
وفعل الحسن عليه السلام كل ذلك منذ ولي الخلافة في الكوفة، ومنذ أعلن النفير للحرب. وكان من أولياته - كما أشير اليه آنفا -: انه زاد المقاتلة مائة مائة، وبعث حجر بن عدي إلي عماله يندبهم إلي الجهاد، ونهض معه مناطقته الأفذاذ من خطباء الناس أمثال عدي بن حاتم، ومعقل بن قيس الرياحي، وزياد بن صعصعة التيمي، وقيس بن سعد الأنصاري. فأنبوا الناس (1)، ولاموهم علي تثاقلهم، وحرضوهم علي إجابة داعي الله، ثم تسابقوا بأنفسهم إلي صفوفهم في المعسكر العام، يغلبون الناس عليه.
ونشرت ألوية الجهاد في " أسباع الكوفة " وفي مختلف مرافقها العامة، تدعو الناس إلي الله عز وجل، وتدين بالطاعة لآل محمد عليهم السلام.
(1) ابن أبي الحديد (ج 4 ص 14).
(١٢٧)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، مدينة الكوفة (2)، حجر بن عدي الكندي (1)، عدي بن حاتم (1)، سبيل الله (1)، معقل بن قيس (1)، قيس بن سعد (1)، القتل (1)، الحرب (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)

صفحه 114

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٢٨
وانبعث في الحاضرة المتخاذلة وعي جديد يشبه ان يكون تحسسا بالواجب، أو استعدادا له.
وكان التثاقل عن الحرب حبا بالعافية أو انصهارا بدعاوات الشام، قد اخذ حظه من أهل الكوفة وممن حولها.
اما هذا الوعي الجديد الذي يدين لهؤلاء الخطباء المفوهين، فلم يلبث أن بعث في كثير من المتثاقلين رغبة، فأثارت الرغبة نشاطا، فانبثق من النشاط حماس.
ونجحت دعاوة الشيعة إلي حد ما، في اكتساب العدد الأكبر من المتحمسين للحرب، رغم المواقف اللئيمة التي وقفها يومئذ المعارضون في الكوفة " ونشط الناس للخروج إلي معسكرهم (1) ".
ونجحت - إلي حد بعيد - في اكتساب الرأي العام، في الكوفة وأسباعها وقبائلها، وفي الضواحي القريبة التي لا تنقطع بمواصلاتها اليومية، عن أسواق الكوفة، وعن مراكز القضاء والإدارة فيها.
وكان من براعة خطباء الحسن، انهم أحسنوا استغلال الذهنية المؤاتية في الناس، فبذلوا قصاري امكانياتهم في الدعوة إلي أهل البيت تحت ستار الدعوة للجهاد.
وبحت حناجر الأولياء، فيما يعرضون من مناقب آل محمد ومثالب أعدائهم. ومروا علي مختلف نوادي الكوفة وأحيائها وأماكنها العامة، ينبهون الناس إلي المركز الممتاز الذي ينفرد به سيدا شباب أهل الجنة اللذان لا يعدل بهما أحد من المسلمين، والي الصلابة الدينية المركزة الموروثة في أهل بيت الوحي، والمزايا التي يستأثر بها هذا الفخذ من هاشم في العلم والطهارة والزهد بالدنيا والتضحية في الله والعمل لاصلاح الأمة ووجوب المودة علي المؤمنين.
(1) نص عبارة ابن أبي الحديد في الموضوع (ج 4 ص 14).
(١٢٨)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (5)، الشام (1)، الحرب (1)، الزهد (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)

صفحه 115

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٢٩
ثم ذكروا البيعة وما الله سائلهم عنه من طاعة اولي الامر ووجوب الوفاء بالميثاق.
وعرضوا في حماستهم إلي الأنساب، فإذا هي " مقامة " ظريفة جدا وصادقة جدا ومؤثرة جدا، ملكت الألباب حتي أذهلت وأثارت الاعجاب حتي أدهشت.
ذكروا الحسن ومعاوية فقالوا: أين ابن علي من ابن صخر، وابن فاطمة من ابن هند، وأين من جده رسول الله (صلي الله عليه وآله) ممن جده حرب، ومن جدته خديجة ممن جدته فتيلة؟؟.. ولعنوا أخمل الرجلين ذكرا، وألامهما حسبا، وشرهما قديما وحديثا، وأقدمهما كفرا ونفاقا، فعج الناس قائلين آمين آمين. ثم جاءت بعدهم الأجيال، فما استعرض هذه الموازنة الظريفة مسلم من المسلمين، الا سجل علي حسابه (آمين) جديدة.
وعملت هذه الأساليب الحكيمة، والخطب الحماسية البليغة عملها وانتشرت - كما قلنا - القناعة بخذلان الشام والثقة بظفر الكوفة.
وفي الكوفة، وهي الحاضرة الجديدة الجبارة التي طاولت أهم الحواضر الاسلامية الكبري - يومئذ - أجناس من الجاليات العربية وعير العربية ومن حمراء الناس وصفرائها وممن لم يرضهم الاسلام ولم يجدهم اعتناقه توجيها جديدا، ولا أدبا اسلاميا ظاهرا، الا أن يكونوا قد أنسوا منه وسيلته إلي منافعهم العاجلة. فكان هؤلاء لا يفهمون من الجهاد إذا نودي بالجهاد الا دعوته للمنافع ووسيلته إلي الغنائم. ورأوا من انتشار القناعة بنجاح هذه الحرب، أن الالتحاق بجيش الحسن (عليه السلام) هو الذريعة المضمونة إلي استعجال المنافع والرجوع بالغنائم، فلم لا يكونون من السابقين الأولين إلي هذا الجهاد؟.
ولعلك تتفق معي الآن، علي اكتشاف الحوافز التي اندفعت تحت تأثيرها " الأخلاط المختلفة " من رعاع الناس إلي الالتحاق بجيش الحسن، فإذا بأصحاب الفتن، وأصحاب الطمع بالغنائم، وأصحاب العصبيات التي لا
(١٢٩)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، مدينة الكوفة (2)، الشام (1)، الحرب (2)، القناعة (2)، الغنيمة (1)

صفحه 116

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٣٠
ترجع إلي دين، والشكاك ومن إليهم - جنود متطوعون في هذا الجيش، أبعد ما يكونون في طماحهم وفي طباعهم عن أهدافه وغاياته.
ولم يكن ثمة في نظم التجنيد المتبعة في التجمعات الاسلامية يومئذ - كما بينا آنفا - ما يحول دون قبول هؤلاء كجنود أو كمجاهدين، لان الكفاءة الاسلامية، والقدرة علي حمل السلاح، هي كل شئ في حدود قابليات المجاهد المسلم.
* * * واما الخوارج، فيقول المفيد رحمه الله في تعليل التحاقهم بجيش الحسن: " انهم كانوا يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ".
ولكنا لا نؤمن بهذا التعليل علي اجماله، ولا ننكره علي بعض وجوهه وقد يكون ما يقوله المفيد بعض هدفهم، وقد يكون هدفهم شيئا آخر غير هذا.
وليس فيما نعهده من علاقات " الخوارج " مع الحسن وأبي الحسن عليهما السلام ما يشجعنا علي الظن الحسن بهم، وان لنا من دراسة أحداث النهروان ما يزيدنا فيهم ريبا علي ريب. وإذا صح أنهم انما أرادوا قتال معاوية حين تبعوا الحسن، وأنهم كانوا لا يقصدون بالحسن سوءا، فأين كانوا عن معاوية قبل ذلك، ولم لم يتألبوا عليه كما كانوا يتألبون علي علي عليه السلام في انتفاضاتهم التي حفظها التأريخ؟..
وكان للخوارج من ذحولهم القريبة العهد، ومن أسلوب دعاواتهم النكراء ما يحفزنا حفزا إلي سوء الظن بما يهدفون اليه في خروجهم مع الحسن عليه السلام.
وعلمنا من أحوالهم قبل خروجهم لهذه الحرب، أنهم كانوا يداهنون الناس ويجاملون الحسن، بعد وقيعتهم الكافرة بالامام الراحل عليه السلام، يتقون بذلك غوائل الكراهة العامة التي غمرتهم في أعقاب الفاجعة الكبري.
أفلا يقرب إلي الذهن، أن يكون من جملة أساليب دهائهم الذي اضطروا اليه تحت ضغط الظروف الموقتة، ان يتظاهروا بالتطوع في الجيش
(١٣٠)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (2)، الخوارج (3)، الظنّ (2)، الهدف (2)، القتل (2)، الحرب (1)

صفحه 117

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٣١
كما لو كانوا جنودا مناصحين، وان يبطنوا من وراء هذا التظاهر مقاصدهم فإذا هم جنود مبادئهم المعروفة بل مبادئهم المبطنة التي لم تعرف لحد الآن.
وكانت فكرة " الخروج " بذرة خبيثة انبثقت عن قضية التحكيم بصفين، ومنها سموا " المحكمة "، ورسخت جذور هذه الفكرة كعقيدة مكينة في نفوس هؤلاء، واستطالت بمرور الزمن، فبسقت عليها أشجار أثمرت للمسلمين ألوانا من الخطوب والنكبات.
وكان الخوارج علي ظاهرتهم المخشوشنة في الدين، قوما يحسنون المكر كثيرا.
فلم لا يغتنمون ظروف الحرب القائمة بين عدوين كبيرين من أعدائهم؟. ولم لا يكونون في غمار هذا الجيش الزاحف من الكوفة يقتنصون الفرص المؤاتية، بين تجهيزات المجاهدين، والحركات السوقية، والمعارك المنتظرة التي ستكون في كثير من أيامها سجالا - والفرص في الحرب السجال أقرب تناولا، وأيسر حصولا، وأفظع مفعولا، إذا حذق المتآمرون استخدامها -؟.
ولا أريد أن انكر - بهذا - عداوتهم لمعاوية وايثارهم قتاله بكل حيلة كما أفاده شيخنا المفيد (رحمه الله). ولكني أري أنهم كانوا يرمون من خطتهم إلي غرضين … وما من غرض للخوارج في ثوراتهم ومؤامراتهم الا اقتناص الرؤوس العالية في الاسلام! سواء في العراق أو في مصر أو في الشام. وعشعشت بين ظهراني هؤلاء القوم كوامن الغيلة فغلبت علي سائر مناهجهم الأخري، فمشوا مع الحسن ولكن إلي الفتنة، وحبوا في طريق الجهاد ولكن إلي الفساد. وكانت الطعنة المركزة الجريئة التي " أشوت " الحسن عليه السلام في " مظلم ساباط (1) "، هي الحلقة الجهنمية الثانية من سلسلة جرائم هذه العصابة الخطرة في البيت النبوي العظيم.
(١) الساباط لغة سقيفة بين دارين من تحتها طريق نافذ، وساباط قرية في " المدائن " عندها قنطرة علي " نهر الملك " ولعلها انما سميت بهذا الاسم لوجود سقيفة نادرة من " السوابيط " فيها، والمظنون ان هذه السقيفة هي " مظلم ساباط ".
(١٣١)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، دولة العراق (1)، مدينة الكوفة (1)، الشام (1)، الخوارج (2)، القتل (1)، الحرب (2)، السقيفة (3)

صفحه 118

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٣٢
وكلتا الجريمتين وليدة المؤامرات السرية النشيطة التي حذقها الخوارج الطغام، في مختلف المناسبات.
وشاء الله بلطفه أن لا تبلغ طعنة ابن سنان الأسدي (1) من الحسن، ما بلغته بالأمس القريب ضربة صاحبه ابن ملجم المرادي من أمير المؤمنين أبي الحسن عليه السلام.
ومثلت هذه المؤامرة الدنيئة أفظع قطيعة لرسول الله صلي الله عليه وآله من نوعها، بما حاولته من القضاء علي الامام الثاني - سبطه الأكبر -. وازدلفت إلي معاوية بالخدمة الفريدة التي لا تفضلها خدمة أخري لأهدافه، من القوم الذين كان يقال عنهم " انهم انما خرجوا مع الحسن لأنهم يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة "!!
وهكذا ثبت للامام الحسن بصورة لا تقبل الشك، نيات المحكمة معه رغم مجاملاتهم الكاذبة له. وكان هو منذ البداية شديد الحذر منهم ولكنه كان يعاملهم - دائما - علي ضغن مكتوم.
وليس أنكي من عدو في ثوب صديق. ذلك هو العدو الذي ينافقك ظاهرا، ويحاربك سرا. وأنكي أقسام هذا العدو عدو يحاربك بذحوله وعصبيته كما حاربت الخوارج الحسن بذحولها وعصبيتها.
* * * وهكذا قدر لجيش الحسن عليه السلام، أن يتخم بالكثرة من هؤلاء وأولئك جميعا، وأن يفقد بهذا التلون المنتشر في صفوفه، روحية الجيش المؤمل لربح الوقائع. وأن يبتلي بالصريح والدخيل من كيد العدوين الداخل والخارج، وفي المكانين العراق والشام معا.
(1) ووهم حسن مراد في كتابه (الدولة الأموية في الشام والأندلس) (الباب الرابع: ص 50) حيث نسب طعن الحسن عليه السلام بالخنجر إلي اتباع الأمويين دون الخوارج. وستقرأ في فصل " سر الموقف " نصوص الحادثة كما يرويها موؤرخوها القدامي وكما يجب أن يفهمها المحدثون.
(١٣٢)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (3)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، دولة العراق (1)، ابن ملجم المرادي لعنه الله (1)، الشام (2)، الخوارج (3)، القتل (1)، الدولة الأموية (2)

صفحه 119

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٣٣
وأحر بجيش يتألف من أمثال هذه العناصر، أن يكون مهددا لدي كل بادرة بالانقسام علي نفسه، والانتقاض علي رؤسائه.
ولم يكن الجهاد المقدس - يوما من الأيام - وسيلة لطمع مادي، ولا مجالا للمؤامرات الشائكة، ولا مظهرا للعصبيات الجاهلية الهزيلة، ولا مسرحا لتجارب الشكاكين.
و " ازدادت بصيرة الحسن بخذلان القوم له (1) "، وتراءي له من خلال ظروفه شبح الخيبة الذي ينتظر هذه الحرب في نهاية مطافها، إذ كانت العدة المدخرة لها، هي هذا الجيش الذي لا يرجي استصلاحه بحال.
وأثر عنه كلمات كثيرة في التعبير عن ضعف ثقته بجيشه.
وكان من أبلغ ما أفضي به في هذا الصدد - مما يناسب موضوع هذا الفصل - خطابه الذي خاطب به جيشه في المدائن.
وقال فيه:
" وكنتم في مسيركم إلي صفين، ودينكم أمام دنياكم. وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم. وأنتم بين قتيلين، قتيل بصفين تبكون عليه، وقتيل بالنهروان تطلبون (2) بثاره. فأما الباقي فخاذل، واما الباكي فثائر.. ".
وهذه هي خطبته الوحيدة التي تعرض إلي تقسيم عناصر الجيش من ناحية نزعاته وأهوائه في الحرب.
فيشير بالباكي الثائر إلي الكثرة من أصحابه وخاصته، وبالطالب للثأر إلي الخوارج الموجودين في معسكره [وما كان ثأرهم الذي يعنيه الا عنده] ويشير بالخاذل إلي العناصر الأخري من أصحاب الفتن واتباع المطامع وعبدة الأهواء.
(١) نص عبارة المفيد في الارشاد (ص ١٧٠).
(٢) وبرواية ابن طاووس في كتاب " الملاحم والفتن " (ص 142 طبع النجف سنة 1368): " وقتيل بالنهروان تطلبون منا ثاره ".
(١٣٣)
مفاتيح البحث: الخوارج (1)، الجهل (1)، الحرب (2)، كتاب الإرشاد للشيخ المفيد (1)، مدينة النجف الأشرف (1)

صفحه 120

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٣٤
واستطرد التاريخ بين صفحاته أسطرا قاتمة دامية. بما انقاد اليه الاغرار المفتونون من هذه " العناصر "، وبما صبغوا به ميدان الجهاد المقدس - بعد ذلك - من أساليب الغدر، والخلاف، ونقض العهود، والمؤامرات، ونسيان الدين، وخفر الذمام … حتي قد عادت بقية آثار النبوة - متمثلة بالطيبين من آل محمد وبنيه عليهم السلام - نهبا صيح في حجراتها. ولعلنا سنأتي علي استطراد صورة من هذه المآسي في محلها المناسب لذكرها من الكتاب.
تتميم:
وبقي علينا ان نستمع هنا إلي ما يدور في خلد كثير من الناس حين يدرسون هذا العرض المؤسف لعناصر جيش الحسن عليه السلام، فيسألون: لماذا فسح الحسن مجاله لهذه العناصر؟ ولماذا تأخر بعد ذلك عن تصفية جيشه بسبيل من هذه السبل التي يفزع إليها رؤساء الجيوش في تصفية جيوشهم بقطع العضو الفاسد، أو بإدانته، أو بإقصائه علي الأقل؟.
ونحن من هذه النقطة بإزاء قلب المشكلة وصميمها علي الأكثر.
ونقول في الجواب علي هذا السؤال:
أولا: ان الاسلام كما الغي الطبقات فيما شرعه من شؤون الاجتماع، ألغاها في الجهاد أيضا، فكان علي أولياء الأمور أن لا يفرقوا في قبولهم الجنود بين سائر طبقات المسلمين، ما دام المتطوع للجندية مدعيا للاسلام وقادرا علي حمل السلاح. ولما لم يكن أحد من هؤلاء " الأخلاط " الذين التحقوا بالحسن، الا مدعيا للاسلام وقادرا علي حمل السلاح، فلا مندوحة للامام - بالنظر إلي صميم التشريع الاسلامي - عن قبوله.
(١٣٤)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)

صفحه 121

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٣٥
وثانيا: ان النبي نفسه صلي الله عليه وآله، وأمير المؤمنين أيضا، منيا في بعض وقائعهما بمثل هذا الجيش، ولا يؤثر عنهما انهما منعا قبول أمثال هؤلاء الجنود في صفوفهما، ولا طردا أحدا منهم بعد قبوله، مع العلم بأن كلا منهما، جني بعد ذلك أضرار وجود هذه العناصر في كل من ميدانيهما.
فقالت السير عن واقعة حنين ما لفظه بحرفه: " رأي بعض المسلمين كثرة جيشهم فأعجبتهم كثرتهم، وقالوا سوف لا نغلب من قلة، ولكن جيش المسلمين كان خليطا، وبينهم الكثيرون ممن جاء للغنيمة.. ".
وجاء في حوادث أقفال المسلمين من غزوة بني المصطلق ما يشعر بمثل ذلك.
وقالوا عن حروب علي عليه السلام: " كان جند علي في صفين خليطا من أمم وقبائل شتي، وهو جند مشاكس معاكس لا يرضخ لامر ولا يعمل بنصيحة.. ".
وقال معاوية - فيما يحكيه البيهقي في " المحاسن والمساوئ ": " وكان - يعني عليا عليه السلام - في أخبث جيش وأشدهم خلافا، وكنت في أطوع جند وأقلهم خلافا ".
أقول: وما علي الحسن الا أن يسير بسنة جده وبسيرة أبيه، ومن الحيف أن يطالب بأكثر مما اتي به جده وأبوه، وكفي بهما أسوة حسنة وقدوة صالحة.
وكان التحرج في الدين والالتزام بحرفية الاسلام يقيدان الحسن في كل حركة وسكون، ولكنهما لا يقيدان خصومه فيما يفعلون أو يتركون، ولولا ذلك لرأيت تاريخ هذه الحقبة من الزمن تكتب علي غير ما تقرأه اليوم.
وثالثا: فان معالجة الوضع بما يرجع اليه رؤساء الجيوش في تنقية جيوشهم
(١٣٥)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، معركة حنين (1)

صفحه 122

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٣٦
بالقتل، أو بالافصاء، أو بالإدانة، كان في مثل ظروف الحسن تعجلا للنكبة قبل أوانها - كما ألمحنا اليه في غمار الفصل الرابع - وسببا مباشرا لإثارة الشقاق واعلان الخلاف ورفع راية العصيان في نصف جيشه علي أقل تقدير ومعني ذلك القصد إلي اشعال نار الثورة في صميم الجيش. ومعني هذا ان ينقلب الجهاد المقدس إلي حرب داخلية شعواء، هي أقصي ما كان يتمناه معاوية في موقفه من الحسن وأصحابه، وهي أقصي ما يحذره الحسن في موقفه من معاوية وأحابيله.
وشئ آخر:
هو أن الحسن عليه السلام، لم يكن له من عهده القصير الذي احتوشته فيه النكبات بشتي ألوانها، مجال للعمل علي استصلاح هذه الألوان من الناس، وجمعهم علي رأي واحد. بل ان ذلك لم يكن - في وقته - من مقدور أحد الا الله عز وجل، ذلك لان الصلاح في الاخلاق ليس مما يمكن تزريقه في الزمن القليل، وانما هو تهذيب الدين وصقال الدهر الطويل، ولان التيارات المعاكسة التي طلعت علي ذلك الجيل بأنواع المغريات، حالت دون امكان الاصلاح وجمع الأهواء، الا من طريق المطامع نفسها، وكان معني ذلك معالجة الداء بالداء، وكان من دون هذه الأساليب في عرف الحسن حاجز من أمر الله.
عبيد الله بن عباس
(١٣٦)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، القتل (1)، الحرب (1)

صفحه 123

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٣٨
اما ذلك القائد الملتهب بالحماسة للحرب، والموتور من معاوية بابنيه المقتولين صبرا في اليمن، فقد كان منذ انفصل بجيشه من دير عبد الرحمن، لا ينفك يتسقط أخبار الكوفة، وانه ليعهد في الكوفة دعاوتها الشيعية السائرة علي وتيرتها المحببة، والذاهبة صعدا في نشاطها والتي كان ينتظر من تعبئتها النجدات التي يجب أن لا تنقطع عنه.
ونمي اليه، وقد انتهي إلي " مسكن " وهي النقطة التي التقي عندها الجيشان المتحاربان، أن الدعاوات النشيطة البارعة في أسباع الكوفة لم تأمر شيئا جديدا، الا ان تكون بعض الفصائل من مقاتلة الأطراف أو من متطوعة المدائن نفسها، قد التحقت بمعسكرها هناك.
وبلغه أن المناورات العدوة التي كان يقودها بعض الزعماء الكوفيين هي التي أحبطت المساعي الكثيرة لرجالات الشيعة، وهي التي عرقلت النفير العام بنطاقه الواسع الذي كان ينتظر نتيجة لذلك النشاط المحسوس.
ولم يكن عجيبا، ان تغيظ هذه الانباء عبيد الله بن العباس فتملأ اهابه ثورة علي الوضع وحنقا علي الناس.
وكان عليه كقائد جيش ضعف أمله بالنجدات القريبة التي كان يعلق عليها أروع آماله، أن ينتفع من هذا الدرس الذي أملته عليه ظروف الكوفة، وأن يرجع إلي قواته هذه فيوازن بها قوات عدوه التي تنازله وجها لوجه، والتي علم أنها لا تقل عن ستين الفا من أجناد الشام المعروفين
(١٣٨)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (4)، عبيد الله بن العباس (1)، الشام (1)، الوسعة (1)

صفحه 124

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٣٩
بالطاعة العمياء لأمرائهم وقوادهم.
ولم يكن التفاوت بالعدد مما يستفزه كثيرا، ولكنه كان شديد العناية بالمزايا المعنوية التي يتحلي بها جنود الفريقين. وكان القائد الحريص علي روحية جيشه التي هي كل ما يدخره للقاء عدوه.
ولاح له في سبيل موازنته، اشتراك " الأخلاط " من العناصر المختلفة في جيشه. وانه ليستقبل حربا لن تجدي فيها غير الكثرة المخلصة من المحاربين الأشداء، فما شأن الجماعات التي لم تفهم الجهاد الا كوسيلة للغنائم.
وتشاءم عبيد الله بن عباس، منذ الساعة الأولي التي يمم بها معسكره في " مسكن "، تشاؤما كان له أثره في المراحل القريبة مما استقبله من خطوات.
وكان أنكي ما يخافه علي مقدرات جيشه، أن تتسرب إلي صفوفه أخبار التعبئة الفاشلة في الكوفة، أو أن تحبو اليه أحابيل معاوية بما تحمله من أكاذيب ومواعيد، وهاهم أولاء وقد جمعهم صعيد واحد ومشارع واحدة وأظلتهم سماء مسكن جميعا، وماذا يؤمنه من أن يكون مع جنوده أو من جنوده أنفسهم من هو بريد معاوية في الافساد عليه وعلي الامام. وكانت أسلحة معاوية (الباردة) أروع أسلحته في هذا الميدان بل في سائر ميادينه.
وصدق ظن عبيد الله.
فإذا بباكورة دسائس معاوية تشق طريقها إلي معسكر مسكن، وفي هذا المعسكر من أصحاب الحسن مخلصون ومنافقون، وآخرون يؤثرون العافية ويتمنون لو صدقت الشائعة الجديدة، وكانت الشائعة الكاذبة " أن الحسن يكاتب معاوية علي الصلح، فلم تقتلون أنفسكم (1) ".
(1) شرح النهج (ج 4: ص 15).
(١٣٩)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، القتل (1)، الظنّ (1)

صفحه 125

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ١٤٠
ولم يجد ابن عباس أن يعلم هو وخاصته كذب الشائعة، واصطدامها بالواقع الذي لا يقبل الشك، لان الحسن الذي لا يزال يشمر للحرب في رسله إلي الأطراف، وفي رسائله إلي معاوية، وفي خطبه بالكوفة، لن يكتب في صلح ولن ينزل عن رأي ارتآه.
ولكنها كانت أحبولة الشيطان الرائعة الصنع.
وارتفعت أصوات المخلصين من الأنصار، تدعو الناس إلي الهدوء، وتستمهلهم ريثما يصل بريد المدائن، ولكنها كانت صيحات في واد، ونفخات في رماد، واجتاح الموقف ارتباك مؤسف لا يناسب ساحة قتال.
وتخاذل عبيد الله للخدعة الخبيثة التي أصابت المحز من موقفه الدقيق.
فخلا بنفسه، وانقبع تحت سماء خيمته البعيدة عن ضوضاء الناس. ورأي ان قيادته هذه ستطوح بمكانته العسكرية إلي أبعد الحدود، فثار لسمعته وحديث الناس عنه، وندم علي قبولها. وكان من دفعات الحدة التي طبع عليها، أن لعن الظروف التي عاكسته في رحلته العسكرية هذه والظروف التي خلقت منه قائدا علي هذه الجبهة. ثم انطوي علي نفسه تحت كابوس من القلق وحب الذات لا يدري ماذا يصنع.
ورأي أخيرا [وكان المخرج الذي بلغته قصاري براعته] أن يتقدم باستقالته، نزولا علي حكم ملكاته الأنانية التي كان يستكين لها راغبا عامدا. وما يدرينا، فربما لم يكن له من القابليات الشخصية ما يمكنه من محاسبة نفسه والتفكير في اصلاح ما يمر به من أخطاء أو ما يفجؤه من نكبات.
وكان عليه - وقد صمم علي الاستقالة - أن يترك مقر القيادة إلي مصيرها الذي لا يعدو رأي الامام، أو يتخلي عنها لخليفته وهو (قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري).
ولكنه فطن - ولما يغادر فسطاطه المترفع الذي كان يقع علي جانب بعيد من مضارب جنوده، والذي شهد وحده ثورة القائد المتخاذل، وسمع
(١٤٠)
مفاتيح البحث: عبد الله بن عباس (1)، مدينة الكوفة (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، سعد بن عبادة (1)، الكذب، التكذيب (1)، الشهادة (1)، القتل (1)

صفحه 126

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢١٨
كما احتملها ظرف أخيه الحسين، فيما كان قد اصطلح عليه من مضايقات هي في الكثير من ملامحها، صورة طبق الأصل عن ظروف أخيه، وقد خرج منها بالشهادة دون الصلح، وكانت آية خلوده في تاريخ الانسانية الثائرة علي الظلم.
إذا، فلماذا لم يفعل الحسن أولا، ما فعله الحسين أخيرا؟.
الجبن - واستغفر الله - وما كان الحسين بأشجع من الحسن جنانا، ولا امضي منه سيفا، ولا أكثر منه تعرضا لمهاب الأهوال. وهما الشقيقان بكل مزاياهما العظيمة، خلقا، ودينا، وتضحية في الدين، وشجاعة في الميادين، وابنا أشجع العرب، فأين مكان الجبن منه يا تري؟.
أم لطمع بالحياة، وحاشا الامام الروحي المعطر التاريخ، أن يؤثر الحياة، علي ما ادخره الله له من الكرامة والملك العظيم، في الجنان التي هو سيد شبابها الكريم، والطليعة من ملوكها المتوجين، وما حياة متنازل عن عرشه، حتي تكون مطمعا للنفوس العظيمة التي شبت مع الجهاد، وترعرعت علي التضحيات؟.
أم لأنه رضي معاوية لرياسة الاسلام، فسالمه وسلم له، وليس مثل الحسن بالذي يرضي مثل معاوية، وهذه كلماته التي أثرت عنه في شأن معاوية، وكلها صريحة في نسبة البغي اليه، وفي وجوب قتاله، وفي عدم الشك في أمره، وفي كفره أخيرا.
فيقول فيما كتبه اليه أيام البيعة في الكوفة: " ودع البغي واحقن دماء المسلمين، فوالله مالك خير في أن تلقي الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به (1)!.. ".
ويقول وهو يجيب أحد أصحابه العاتبين عليه بالصلح: " والله لو وجدت أنصارا لقاتلت معاوية ليلي ونهاري (2) ".
(1) شرح النهج (ج 4 ص 12).
(2) احتجاج الطبرسي (151).
(٢١٨)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (1)، صلح (يوم) الحديبية (2)، الكرم، الكرامة (2)، الظلم (1)، الجبن (1)، الشهادة (1)، القتل (1)، الوجوب (1)، كتاب الإحتجاج للطبرسي (1)

صفحه 127

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢١٩
ويقول في خطابه التاريخي في المدائن " انا والله ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم.. ".
ويقول لأبي سعيد فيما نقلناه عنه آنفا: " علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة، حين انصرف من الحديبية، أولئك كفار بالتنزيل، ومعاوية وأصحابه " كفار " بالتأويل.
إذا، فما سالم معاوية رضا به، ولا ترك القتال جبنا عن القتال، ولا تجافي عن الشهادة طمعا بالحياة، ولكنه صالح حين لم يبق في ظرفه احتمال لغير الصلح، وبذلك ينفرد الحسن عن الحسين، إذ كان للحسين محرجان ميسران من ظرفه - الشهادة والصلح - ولن يتأخر أفضل الناس عن أفضل الوسيلتين، اما الحسن فقد أغلق في وجهه طريق الشهادة، ولم يبق أمامه الا باب واحد لا مندوحة له ومن ولوجه.
وأقول ذلك وانا واثق بما أقول.
وقد يبدو مستغربا قولي [أغلق في وجهه طريق الشهادة]، وهل شهادة المؤمن الذي نزل لله عن حقه في حياته، الا أن يقتحم الميدان مستقتلا في سبيل الله، تاركا ما في الدنيا للدنيا، وبائعا لله نفسه تنتاشه السيوف، وتنهل من دمه الأسنة والرماح، فإذا هو الشهيد الخالد. وكيف يغلق مثل هذا علي مجاهد له من ميدانه متسع للجهاد؟. وللحسن ميدانه الذي يواجه به العدو في " مسكن "، فلماذا لم يخف اليه؟. ولم لم نسمع أنه وصله أو بارز العدو فيه، أو اقتحمه إقتحامة الموت، يوم ضاقت به الدنيا، فسدت في وجهه كل باب الا بابا واحدا؟. وانه لو فعل ذلك فبرز إلي ميدانه مستميتا، لاستمات بين يديه عامة شيعته المخلصين لأهدافه، فإنما كانوا ينتظرون منه كلمته الأخيرة لخوض غمرات الموت.
نعم، ومن هنا كان مهب الرياح التي اجتاحت قضية الحسن بين قضايا أهل البيت عليهم السلام، ومن هنا جاءت الشبهات التي نسجت هيكل المشكلة التاريخية التي لغا حولها اللاغون ما شاء لهم اللغو، فزادوا
(٢١٩)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، مدينة مكة المكرمة (1)، صلح (يوم) الحديبية (2)، سبيل الله (1)، الشام (1)، الموت (2)، الشهادة (6)، القتل (2)

صفحه 128

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٢٠
الواقع تعقيدا وابتعادا به عن فهم الناس.
ثم كان من طبيعة هذا اللغو - أبعد ما يكون عن التغلغل في الصميم من تسلسل الحوادث - أن يرتجل الاحكام، وأن يتناول قبل كل شئ سياسة الحسن فينبزها بالضعف، ويتطاول عليها بالنقد غير مكترث ولا مرتاب.
وسنري بعد البحث، أي هاتيك الآراء مما اختاره الحسن أو مما افترضه الناقدون، كان أقرب إلي الصواب، وانفذ إلي صميم السياسة.
وما كان الحسن في عظمته بالرجل الذي تستثار حوله الشبه، ولا بالزعيم الذي يسهل علي ناقدة أن يجد المنفذ إلي نقده والمأخذ عليه.
* * * وإذ قد انتهينا الآن عامدين، إلي مواجهة المشكلة في صميمها، وبما حيك حولها من نقدات ونقمات، فمن الخير أن نسبق الكلام علي حلها، باستحضار حقائق ثلاث، هن هنا أصابع البحث التي تمتد بتدرج رقيق إلي كشف الغطاء عن السر، فإذا الموضوع كله وضوح بعد تعقيد، وعذر بعد نقمة، وتعديل بعد تجريح.
الأولي في بيان معني الشهادة.
والثانية في رسم صورة مصغرة عن الواقع الذي حاق بالحسن في لحظاته الأخيرة في " المدائن ".
والثالثة في خطة معاوية تجاه أهداف الحسن عليه السلام.
وسيجرنا البحث إلي التلميح بحقائق تقدم عرضها في أطواء دراستنا السابقة في الكتاب، ولكن الحرص علي استيفاء ما يجب أن يقال هنا، هو الذي سوغ لنا هذا التجاوز فرأيناه جائزا.
1 - الشهادة في الله:
(٢٢٠)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الشهادة (2)، الهدف (1)

صفحه 129

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٢١
وهي بمعناها الذي يصنع الحياة، تضحية النفس لاحياء معروف أو إماتة منكر.
وليس منها التضحية لغاية ليست من سبل الله، ولا التضحية في ميدان ليس من ميادين الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فلو قتل كافر مسلما في ساحة جهاد، كان المسلم شهيدا.
ولو قتل باغ مسلما في ميدان دفاع كان المسلم شهيدا.
اما لو قتل مسلم مسلما في نزاع شخصي، أو قتله انتصارا لمبدأ ديني صحيح، فلا شهادة ولا مجادة، ذلك لان الكرامة التي تواضع عليها تاريخ الانسانية للشهيد، هي أجرة تضحيته بروحه في سبيل المصلحة العامة فلا الحوادث الشخصية، ولا التضحيات التي تناقض المصلحة في خط مستقيم، مما يدخل في معني الشهادة.
وقتلة أخري، أضيع دما، وأبعد عن " الشهادة " معني واسما، هي ميتة رئيس يثور به أتباعه وذوو الحق في أمره، فيلقونه أرضا. والمجموع في كل مجتمع هو مصدر السلطات لكل من يتولي شيئا من أموره باسمه، وكانت هذه هي القاعدة التي بنيت عليها السلطات الجماعية في الاسلام، وعلي هذه القاعدة قال المسلم الأول لعمر بن الخطاب: " لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا ".
وانما كانت هذه القتلة أضيع دما، وأبعد عن الشهادة اسما، لان الأيدي الصديقة التي اجتمعت علي إراقة هذا الدم، كانت في ثورتها لحقها، وتضافرها الناطق ببلاغة حجتها، أولي عند الناس بالعذر.. " ولان الأمة التي ولته هي التي تقيم عليه الحدود " - علي حد تعبير القفال الشافعي -.
فعثمان - مثلا - الذي كان ثالث ثلاثة من أكبر الشخصيات التاريخية، التي هزت الأرض بسلطانها المرهوب، مات مقتولا بسلاح الثائرين من ذوي الحق في أمره. فلم يستطع التاريخ، ولم يوفق أصدقاؤه في التاريخ،
(٢٢١)
مفاتيح البحث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1)، الخليفة عمر بن الخطاب (1)، القتل (5)، الكرم، الكرامة (1)، الموت (3)، الشهادة (4)

صفحه 130

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٢٢
أن يسجلوا له " الشهادة " كما تقتضيها كلمة " شهيد ".
أما ذلك العبد الأسود الفقير، الذي لم يكن له من الأثر في الحياة، ما يملأ الشعور أو يشغل الذاكرة [جون مولي أبي ذر الغفاري]، فقد أرغم التاريخ علي تقديسه، لأنه قتل في سبيل الله فكان " الشهيد " بكل ما في الكلمة من معني.
إذا، فليس من شروط الشهادة ولا من لوازم كرامتها، أن لا تكون الا في العظيم، وليس من شروط العظيم إذا قتل أي قتلة كانت، ان يكون شهيدا علي كل حال.
ولندع الآن هذا التمهيد لنخطو عنه إلي الموضوع الثاني، ثم لنأخذ منه حاجتنا عند اقتضاء البحث.
2 - صورة مصغرة عن الوضع الشاذ في المدائن:
علمنا مما سبق - وبعض الإعادة ضرورة للبحث - أن خيرة أجناد الحسن كان في الركب الذي سبقه في مقدمته إلي " مسكن "، وأن الفصائل التي عسكر بها الحسن في " المدائن " كانت من أضعف الجيوش معنوية، ومن أقربها نزعة إلي النفور والقلق والانقسام.
وعلمنا أنه فوجئ في أيامه الأول من المدائن - ولما يتلق نجداته من معسكراته الأخري - ببوادر ثلاث، كانت نذر الكارثة علي الموقف.
1 - أنباء الخيانة الواسعة النطاق في " مسكن ".
2 - الشائعة الاستفزازية التي ناشدت الناس بأن ينفروا، لان قيس بن سعد - وهو القائد الثاني علي جيش مسكن - قد قتل!.
3 - فتنة الوفد الشامي الذي جاء ليعرض كتب الخونة الكوفيين علي الامام، ثم خرج وهو يعلن في المعسكر أن الحسن أجاب إلي الصلح!.
(٢٢٢)
مفاتيح البحث: القتل، القتال في سبيل الله (1)، أبوذر الغفاري (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، قيس بن سعد (1)، القتل (3)، الشهادة (4)، الوسعة (1)

صفحه 131

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٢٣
وفي هذا الجيش - كما قدمنا في الفصل (8) -، أصحاب الفتن، وأصحاب الطمع بالغنائم، والخوارج، وغيرهم، ولم يكن لهؤلاء مرتع أخصب من هذه الفتن التي زرعتها هذه البوادر المؤسفة الثلاث.
وجمع الحسن الناس فخطبهم وناشدهم سلامة النية وحسن الصبر، وذكرهم بالمحمود من أيامهم في صفين، ثم نعي عليهم اختلافهم في يومه منهم. وكان أروع ما أفاده الحسن من خطابه هذا، أنه انتزع من الناس اعترافهم علي أنفسهم بالنكول عن الحرب صريحا، واستدرجهم إلي هذا الاعتراف بما تظاهر به من استشارتهم فيما عرضه عليه معاوية، فقال في آخر خطابه: " الا وان معاوية دعانا لامر ليس فيه عز ولا نصفة، فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلي الله عز وجل بظبا السيوف، وان أردتم الحياة قبلناه منه وأخذنا لكم الرضا؟ ". فناداه الناس من كل جانب: " البقية البقية وأمض الصلح (1) ".
أقول: وليس في تاريخ قضية الحسن عليه السلام روايتان كثر رواتهما حتي لقد أصبحت من مسلمات هذا التاريخ، كرواية جواب الناس علي هذه الخطبة بطلب البقية وامضاء الصلح، ورواية ثورة الناس في المدائن انكارا للصلح والحاحا علي الحرب!!. وليت شعري. فأي الرأيين كان هدف هؤلاء الناس؟.
وهل هذه الا بوادر الانقسام الذي أشرنا اليه آنفا، بل " الفوضي " التي لن يستقيم معها ميدان حرب، والتي لا تمنع ان يكون المنادون بالصلح من كل جانب هم المنادين بالحرب أنفسهم.
وما للفوضي ودعوة جهاد وصحبة امام؟!
وعلي أي، فقد كان هذا أحد ألوان معسكر المدائن وأحد ظواهر التلون في عساكره وتحكم العناصر المختلفة في مقدراته.
(1) ابن خلدون وابن الأثير والبحار وغيرهم - وكنا عرضنا القسم الأول من هذه الخطبة فيما رويناه في تصريحات المؤرخين من هذا الفصل.
(٢٢٣)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، صلح (يوم) الحديبية (4)، الخوارج (1)، الموت (1)، الحرب (3)، الصبر (1)، إبن الأثير (1)

صفحه 132

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٢٤
ولقد تدل ملامح النداء بالتكفير للحسن عليه السلام من قبل الثائرين عليه من جنوده هناك، أنه كان لسان حال " الخوارج "، وكانت هذه هي لغتهم النابية إذا استشري غضبهم علي أحد من المسلمين أو أئمة المسلمين. وانهم إذ يستغلون هذه اللحظة، أو يبعثونها من مرقدها، فإنما كانوا يقصدون التذرع إلي أعظم جريمة في الدم الحرام، وفق مبادئهم الجهنمية التي طعن بها أحدهم الامام الحسن في فخذه فشقه حتي بلغ العظم!.
وتدل ملامح النهب والسلب الذي مزق الستار وتناول حتي رداء الحسن ومصلاه، علي أنه كان عمل الفريق الآخر الذي سمته المصادر " أصحاب الطمع بالغنائم ".
ويدل طغيان الفتنة وسرعة انتشار الاضطرابات في المعسكر علي أنه صنيعة " أصحاب الفتن " الذين كان يعج بهم هذا الجيش منذ كان في الكوفة ومنذ انتقل إلي المعسكرين تحت لواء الجهاد المقدس!.
وهكذا جمحت الفتنة في المدائن جماحها الذي خرجت به من أعنة المخلصين والمنظمين، وحال الأكثرون بأحداثهم دون قيام الأقلين بواجبهم، ولم يعد لهذا الجيش من الاستقرار ما يستطيع به الثبات، ولا من الأهداف الا الأهداف الطائشة. فان لم يتسن لهم قتال معاوية فليقتلوا الحسن امامهم، وان لم يبلغوا غنائم الحرب من أعدائهم فليتبلغوا بالغنائم من نهب أصدقائهم، وان لم يمكنهم الفرار إلي معاوية - كما فعل أمثالهم في المعسكر الثاني - فليكتبوا إلي معاوية ليجيء هو إليهم!!!
وكان هذا هو ما حفظه التاريخ علي هذه المجموعة من الناس، أما ما نسيه التاريخ أو تناساه أو حيل بينه وبين ذكره، فذلك ما لا يعلمه الا الله عز وجل.
تري، فهل لو وضعنا معاوية مكان الحسن من هذه اللحظة أو من هذا الجيش بما لمعاوية من دهاء وسخاء، أكان يستطيع أن يخرج من مأزقه بأحسن مما خرج به الحسن مضمون السلامة علي مبادئه وخططه ومستقبله؟.
(٢٢٤)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، مدينة الكوفة (1)، الخوارج (1)، القتل (1)، الحرب (1)

صفحه 133

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٢٥
ولكي نزداد تحريا للأسباب التي أغلقت في وجه الحسن طريق الشهادة الكريمة، ننتقل بالقارئ إلي الموضوع الثالث من مراحل هذه الجولة الكئيبة الخطوات.
3 - خطة معاوية من أهداف الحسن (ع) ومات بموت عثمان لقب " الوالي " عن معاوية، ولا نعرف ما كان يجب أن يلقب به بعد ذلك، ولا نوع مسؤوليته في العرف الاسلامي. وقد علمنا أن الخليفتين الشرعيين عليا وابنه الحسن (عليهما السلام) لم يولياه، فليس هو بالوالي، وعلمنا أن الاسلام لا يتسع في تشريعه لخليفتين في عصر واحد، فليس هو بالخليفة.
إذا، فما معاوية بعد عثمان؟.
لا ندري.
نعم، انه شهر السلاح في وجه هذين الخليفتين منذ عزل عن ولاية الشام، ورأينا أن التشريع الاسلامي يثبت للقائم بمثل عمله هذا، لقبا نشك أن يكون معاوية رضي به لنفسه، وهذا اللقب هو " الباغي ".
تري، فهل كان هو يعرف لنفسه لقبا آخر غير زعامة البغاة؟.
والمظنون أن معاوية في طموحه العتيد، لم يكن بالذي يزعجه أن يظل مجهول اللقب، أو محكوما في " الشرع " بلقب الباغي، ما دام هو في طريقة إلي غزو أكبر الألقاب بالقوة، رضي الشرع أو أبي. فهو الملك - بعد ذلك - علي لسان سعد بن أبي وقاص، وهو " الخليفة " و
(٢٢٥)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (2)، عمر بن سعد لعنه الله (1)، الشام (1)، الكرم، الكرامة (1)، الشهادة (1)، الظل، التظليل، الظلالة (1)، الهدف (1)، الجهل (1)

صفحه 134

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٢٦
" أمير المؤمنين " علي لسان مسلم (1) بن عقبة والمغيرة (2) بن شعبة وعمرو (3) بن العاص، وهو المتنعم الدنيوي الذي " لم يبق شئ يصيبه الناس من
(1) هو صاحب واقعة الحرة في مدينة الرسول صلي الله عليه وآله يوم أباحها ثلاثا شر إباحة. وهو هادم الكعبة (زادها الله شرفا) يوم رماها بالمنجنيق. وكان معاوية هو الذي نصح لابنه يزيد، فيما مهد له من الأمور. بأن يولي " مسلما " هذا. قال له: " ان لك من أهل المدينة ليوما، فان فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإنه رجل قد عرفت نصيحته!!. " " يراجع الطبري والبيهقي وابن الأثير ".
(2) كان المغيرة [فيما يحدثنا عنه البيهقي في المحاسن والمساوئ] أول من رشي في الاسلام. وكان [فيما يحدثنا به سائر مؤرخته] الوسيط في قضية استلحاق زياد - رغم النواميس الاسلامية -. وكان السابق إلي ترشيح يزيد بن معاوية للخلافة، وهو الذي يقول في ذلك: " لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية علي أمة محمد، وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبدا!!.. " -. وكان هو الذي عناه حسان بن ثابت بقوله:
لو ان اللؤم ينسب كان عبدا * * * قبيح الوجه أعور من ثقيف تركت الدين والايمان جهلا * * * غداة لقيت صاحبة النصيف وراجعت الصبا وذكرت لهوا * * * من الأحشاء والخصر اللطيف (3) نار علي علم. اعتركت الدنيا والآخرة علي قلبه - علي حد تعبير غلامه " وردان " - فقدم الدنيا علي الآخرة، وشايع معاوية علي أن تكون له مصر طعمة، فلا ظفرت يد البائع وخزيت أمانة المبتاع.
روي ابن عبد ربه بسنده إلي الحسن البصري قال: " علم معاوية والله ان لم يبايعه عمرو لم يتم له أمر، فقال له: يا عمرو اتبعني. قال: لماذا؟ الآخرة فوالله ما معك آخرة، أم للدنيا فوالله لا كان حتي أكون شريكك فيها. قال: فأنت شريكي فيها. قال: فاكتب لي مصر وكورها. فكتب له مصر وكورها. وكتب في آخر الكتاب: وعلي عمرو السمع والطاعة. قال عمرو: واكتب ان السمع والطاعة لا يغيران من شرطه شيئا. قال معاوية: لا ينظر إلي هذا. قال عمرو: حتي تكتب … !! ".
ورضي الصحابي المسن الذي مات في الثامنة والتسعين أن يختم هذا العمر المديد علي مثل هذه المداورة الخبيثة في الدين، وراح يقول غير مبال: " لولا مصر وولايتها لركبت المنجاة منها فاني أعلم ان علي بن أبي طالب علي الحق، وأنا علي ضده! ".
اما بواكير حياته فكانت أبعد أثرا في النكاية بالاسلام ونبي الاسلام (ص). وهو إذ ذاك أحد السهميين الذين ساهموا في فكرة قتل النبي (ص) ليلة الفراش في مكة. وهو " الأبتر " المقصود بقوله تعالي " ان شانئك هو الأبتر ". ثم كان بعد ذلك من المساهمين في التأليب علي عثمان، ولم يخرج إلي فلسطين حتي نكأ القرحة كما قال هو عن نفسه يوم بلغه مقتل عثمان. والتحق أخيرا بمعاوية علي هذه المساومة المفضوحة. ونجا من القتل المحقق في صفين بأشنع وسيلة عرفها التاريخ. ثم كان صاحب الفكرة في رفع المصاحف التي فتن بها المسلمين ونقض بها فتل الاسلام. وحضرته الوفاة فقال لابنه: " اني قد دخلت في أمور لا أدري ما حجتي عند الله فيها ". ثم نظر إلي ماله فرأي كثرته فقال: " يا ليته كان بعرا، يا ليتني مت قبل هذا بثلاثين سنة، أصلحت لمعاوية دنياه وأفسدت ديني، آثرت دنياي وتركت آخرتي، عمي علي رشدي حتي حضرني أجلي ". وخلف من المال ثلاثمائة الف دينار ذهبا ومليوني درهم فضة عدا الضياع. وكان رسول الله (ص) يقول فيه وفي معاوية: " انهما ما اجتمعا الا علي غدر ". أخرج هذا الحديث كل من الطبراني وابن عساكر، وأخرج أحمد وأبو يعلي في مسنديهما عن أبي برزة قال: " كنا مع النبي (ص) فسمع صوت غناء فقال: انظروا ما هذا. فصعدت فإذا معاوية وعمرو بن العاص يتغنيان فجئت فأخبرت النبي (ص) فقال: اللهم أركسهما في الفتنة ركسا. اللهم دعهما في النار دعا ". وعن تطهير الجنان لابن حجر: " أن عمرا صعد المنبر فوقع في علي ثم فعل مثله المغيرة بن شعبة، فقيل للحسن: اصعد المنبر لترد عليهما، فامتنع الا أن يعطوه عهدا انهم يصدقونه ان قال حقا ويكذبونه ان قال باطلا فأعطوه ذلك، فصعد المنبر، فحمد الله وأثني عليه ثم قال: أنشدك الله يا عمرو ويا مغيرة، أتعلمان ان رسول الله لعن السائق والقائد أحدهما فلان - يعني معاوية -، قالا: بلي، ثم قال: أنشدك الله يا معاوية ويا مغيرة ألم تعلما ان النبي لعن عمرا بكل قافية قالها لعنة، فقالا: اللهم بلي، ثم قال: أنشدك الله يا عمرو ويا معاوية ألم تعلما ان النبي لعن قوم هذا - يعني المغيرة - قال الحسن فاني احمد الله الذي جعلكم فيمن تبرأ من هذا - يعني عليا - ". وكان ابن العاص هذا، هو الذي عناه الصحابي الكريم عمار بن ياسر (رض) بقوله للمجاهدين في صفين: " أتريدون ان تنظروا إلي من عادي الله ورسوله وجاهدهما، وبغي علي المسلمين وظاهر المشركين، فلما رأي الله عز وجل يعز دينه ويظهر رسوله صلي الله عليه وسلم، أسلم وهو فيما نري راهب غير راغب. ثم قبض الله رسوله (ص) فوالله أن زال بعده معروفا بعداوة المسلم وهوادة المجرم. فاثبتوا له وقاتلوه، فإنه يطفئ نور الله ويظاهر أعداء الله عز وجل!! " (الطبري، ابن أبي الحديد، المسعودي، وغيرهم).
(٢٢٦)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (7)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، مدينة مكة المكرمة (1)، الطبراني (1)، إبن عساكر (1)، إبن الأثير (1)، يوم عرفة (1)، مسلم بن عقبة المري (1)، يزيد بن معاوية لعنهما الله (1)، علي بن أبي طالب (1)، المغيرة بن شعبة (1)، عمار بن ياسر (1)، عمرو بن العاص (1)، حسان بن ثابت (1)، الحسن البصري (1)، الكرم، الكرامة (1)، القتل (3)، الجهل (1)، الموت (1)، العزّة (1)، القرح (1)

صفحه 135

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٢٨
الدنيا الا وقد أصابه " - علي حد تعبيره عن نفسه -. ولن يضيره بعد اعتراف ابن العاص وابن عقبة وابن شعبة له بالخلافة وامارة المؤمنين، أن يكون التشريع الاسلامي ينكر عليه هذا اللقب، لأنه لا يسيغ غزو الألقاب الدينية بالقوة، ولا يسبغ لقب " الخليفة " علي أحد، الا عند قرب الشبه بين صاحبه وبين النبي (ص)، ويصرفه دائما عن الرجل الذي يكون بينه وبين النبي كما بين دينين.
ولا ندري علي التحقيق مبلغ ما كلفت معاوية هذه الألقاب في دينه، يوم غزاها لنفسه، أو يوم غزاها لابنه يزيد، وانه لأعرف الناس بابنه؟!.
ولا ندري مبلغ اهتمام الرجل، بمحاسبة نفسه تجاه الله، فيما كان يجب أن يحاسبها عليه؟.
ولكننا علمنا - علي ضوء محاولاته الكثيرة في الاخذ والرد -، أنه لم يعن بمحاسبة نفسه قط، وعلمنا أن الأنانية الطموح كانت تملأ مجاهل نفسه، فتنسيه موقفه الواهن - المفضوح الوهن - الواقف في مهاب الرياح، والمرتكز في حقيقته علي خيوط العنكبوت، يوم طارت من حواليه الألقاب كلها.
وعلمنا أن قبليته الطاغية الجامحة، كانت تأخذ عليه منافذ تفكيره، فتريه من شهادة ابن العاص له بالخلافة، ومن ترشيح المغيرة بن شعبة ابنه يزيد لامارة المؤمنين، مبررا يرد به الصريح من شرائط الاسلام. وهل كانت هذه الشهادة أو ذاك الترشيح، الا نبت المساومات الرخيصة علي ولاية مصر وولاية الكوفة، كما هو الثابت تاريخيا؟.
ولا عجب من " ابن أبي سفيان " ان يكون كما كان، وهو الأموي الصريح، أو الأموي اللصيق الذي يعمل جاهدا ليكون أمويا صريحا (1).
(1) يراجع الزمخشري في " ربيع الأبرار " وابن السائب في " المثالب " وأبو الفرج في " الأغاني " وابن السمان في " مثالب بني أمية " وجعفر بن محمد الهمداني في " بهجة المستفيد ". ثم ليكن القارئ بعد ذلك عند اختياره في نسبة معاوية إلي أي آبائه الأربعة المذكورين هناك بأسمائهم.
أقول: والي ذلك يشير سيد العرب في نهجه بقوله: " وليس الصريح كاللصيق ".
(٢٢٨)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، مدينة الكوفة (1)، المغيرة بن شعبة (1)، الشهادة (2)، الزمخشري (1)، جعفر بن محمد الهمداني (1)، بنو أمية (1)، الفرج (1)

صفحه 136

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٢٩
وللأموية والهاشمية تاريخهما الذي يصعد بهما حتي يلتقيا وينزل معهما كلما نزل الزمان.
وكان من طبيعة " رد الفعل " في النفوس التي شبت مع العنعنات القبلية جاهلية واسلاما، والتي قبلت الاسلام مرغمة يوم الفتح، ثم لم تهضم الاسلام - كما يريده الاسلام - أن تكون دائما عند ذحولها من الضغائن الموروثة، والترات القديمة العميقة الجروح.
وكان معاوية - بعد الفتح - وعلي عهد النبوة الطالعة بالنور، الطليق " الحافي القدمين " كما يحدثنا هو عن نفسه. أما في الدور الذي تململ معه النفوذ الأموي ليسترجع مكانته في المجتمع، وعلي عهد السياسة الجديدة التي رشحت للشوري عضوا أمويا عتيدا، فلم لا يكون ابن عم عثمان والي الشام القوي المرهوب، الذي يصطنع الأعوان والمؤيدين، ويسترضي الاتباع والأجناد والمشاورين، ويتخذ القصور والستور والبوابين، وفي ثروة ولايته ما يسع كل صاحب طمع أو بائع ضمير أو لأحسن قصعة!!.
ولئن كان معاوية في دور النبوة الرعية المخذول العاجز عن الانتصاف لنفسه ولقبيله من القوة التي غلبت علي أمره وأمر قبيله، فلم لا يحاسب تلك القوة حسابها العسير في الدور الذي ملك فيه مقاليد القوة بنفسه أو بقبيلة، ولم لا يعود إلي طبيعته فيتحسس بذحوله القديمة من الأبناء والاخوة والأصحاب، ويأخذ بثاره من المبادئ والأهداف؟. ولذلك فقد كان من المنتظر المرقوب لمعاوية، أن يشن غاراته المسلحة علي علي والحسن (عليهما السلام) في أول فرصة تمكنه من ذلك، وأن يشن معهما حروبه (الباردة) الأخري، التي كانت أطول الحربين أمدا، وأبعدهما حرا، وأفظعهما نكالا في الاسلام.
ويستدل من كثير كثير من الاعمال الدبلوماسية التي قام بها معاوية في عهده الطويل الأمد، أنه كان قد قرر التوفر علي حملة واسعة النطاق لتحطيم المبادئ العلوية، أو قل لتحطيم جوهرية الاسلام متمثلة في دعوة
(٢٢٩)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الشام (1)، السلاح (1)، الوسعة (1)، الجهل (1)

صفحه 137

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٣٠
علي وأولاده المطهرين عليهم السلام.
ويظهر أنه كان ثمة أربعة أهداف تكمن وراء هذه الحملة.
1 - شل الكتلة الشيعية - وهي الكتلة الحرة - والقضاء تدريجيا علي كل منتم إلي التشيع وتمزيق جامعتهم.
2 - خلق الاضطرابات المقصودة في المناطق المنتمية لأهل البيت والمعروفة بتشيعها لهم، ثم التنكيل بهؤلاء الآمنين بحجة تسبيب الشغب.
3 - عزل أهل البيت عن العالم الاسلامي، وفرض نسيانهم علي المسلمين الا بالذكر السيئ، والحؤول - بكل الوسائل - دون تيسر النفوذ لهم، ثم العمل علي إبادتهم من طريق الغيلة.
4 - تشديد حرب الأعصاب.
ولمعاوية في الميدان الأخير جولات ظالمة سيطول حسابها عند الله عز وجل كما طال حسابها في التاريخ، وسيجرنا البحث إلي عرض نماذج منها عند الكلام علي مخالفاته لشروط الصلح، وهو مكانها من الكتاب.
وكان من أبرز هذه الجولات في سبيل مناوأته لعلي وأولاده ولمبادئهم وأهدافهم، أنه فرض لعنهم في جميع البلدان الخاضعة لنفوذه، بما ينطوي تحت مفاد " اللعن " من انكار حقهم، ومنع رواية الحديث في فضلهم، وأخذ الناس بالبراءة منهم فكان - بهذا - أول من فتح باب اللعن في الصحابة، وهي السابقة التي لا يحسده عليها مسلم يغار علي دينه، وتوصل إلي استنزال الرأي العام علي ارادته في هذه الأحدوثة المنكرة " بتدابير محبوكة " تبتعد عن مبادئ الله عز وجل، بمقدار ما تلتحم بمبادئ معاوية.
وان من شذوذ أحوال المجتمع، أنه سريع التأثر بالدعاوات الجارفة القوية - مهما كان لونها - ولا سيما إذا كانت مشفوعة بالدليلين من مطامع المال ومطامع الجاه.
وما يدرينا بم رضي الناس من معاوية، فلعنوا معه عليا وحسنا
(٢٣٠)
مفاتيح البحث: صلح (يوم) الحديبية (1)، الحج (1)، الهدف (1)، الحرب (1)

صفحه 138

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٣١
وحسينا عليهم السلام؟ وما يدرينا بماذا نقم الناس علي أهل البيت فنالوا منهم كما شاء معاوية أن ينالوا؟!.
ربما يكون قد أقنعهم بأن عليا وأولاده، هم الذين حاربوا النبي صلي الله عليه وآله ابان دعوته، وأنهم هم الذين حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله، وهم الذين ألحقوا العار بالنسب، وهم الذين نقضوا المواثيق وحنثوا بالايمان، وقتلوا كبار المسلمين صبرا، ودفنوا الأبرياء أحياء، وصلوا الجمعة يوم الأربعاء (1).
وربما يكون قد أطمعهم دون أن يقنعهم، وربما يكون قد أخافهم دون أن يطمعهم، فكان ما أراد " وارتقي بهم الامر في طاعته إلي أن جعلوا لعن علي سنة ينشأ عليها الصغير ويهلك الكبير (2) ". والمرجح أن معاوية هو الذي فضل تسمية هذه البدعة " بالسنة " فسماها معه المغرورون بزعامته والمأخوذون بطاعته كما أحب، وظل الناس بعده علي بدعته. إلي أن ألغاها عمر بن عبد العزيز - " وأخذ خطيب جامع (حران) يخطب ثم ختم
(١) يراجع عن هذا مروج الذهب (ج ٢ ص ٧٢) وعن غيره مما ذكر قبله، المصادر التي أشرنا إليها آنفا عند ذكر بعض هذه الحقائق، والمصادر التي سنذكرها في فصل الوفاء بشروط الصلح فيما يأتي، عند ذكرنا للبعض الآخر.
(٢) مروج الذهب (ج ٢ ص ٧٢).
ولنتذكر هنا، أن عليا عليه السلام سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين، فنهاهم، وقال لهم: " اني اكره لكم أن في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا تكونوا سبابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتي يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به … " - النهج: (ج ١ ص ٤٢٠ و ٤٢١). - وجاء يوما رسول معاوية إلي الحسن عليه السلام وكان فيما قال له: " أسأل الله ان يحفظك ويهلك هؤلاء القوم ". فقال له الحسن: " رفقا لا تخن من ائتمنك، وحسبك ان تحبني لحب رسول الله (ص) ولأبي وأمي، ومن الخيانة ان يثق بك قوم وأنت عدو لهم وتدعو عليهم.. ". الملاحم والفتن (ص 143 طبع النجف).
(٢٣١)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، عمر بن عبد العزيز (1)، القتل (1)، الإبداع، البدعة (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، كتاب مروج الذهب للمسعودي (2)، مدينة النجف الأشرف (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، الشام (1)، الجهل (1)، الضلال (1)، السب (1)

صفحه 139

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٣٢
خطبته ولم يقل شيئا من سب أبي تراب كعادته، فتصايح الناس من كل جانب: ويحك ويحك السنة السنة، تركت السنة! (1) ".
ثم كانت " سنة معاوية " هي الأصل التاريخي لتكوين هذه الكلمة تكوينا اصطلاحيا آخر، تناسل مع الأجيال، وتنسيق معه مناسباته السياسية الأولي.
وانتباهة منصفة في تناسق نفسيات الرجل، تغنيك عن استعراض أمثلة كثيرة من أعماله في هذا السبيل..
وبعد هذا، فما ظنك بمعاوية لو قدر له الظفر في حربه مع الحسن، وقدر للحسن الشهادة في الحرب؟.
أفكان من سوابق الرجل هذه، ما يدل علي أنه سيلزم جانب الاعتدال والقصد، في استغلال انتصاره تجاه فلول الحرب من شيعة الحسن والبقية الباقية من الثابتين علي العقيدة والايمان؟ أم أن موجة إبادة ساحقة ستكون هي عنوان علاقاته بهؤلاء، بعد موقفه الصريح من السلالة النبوية نفسها، وبعد أن يكون قد طحن في هذه الحرب أكبر رأس في البيت النبوي العظيم.
ان معاوية سوف لا يتقي بعد ذلك أحدا. وانه سوف لا يتردد سياسيا، ولا يتورع دينا، من أن يمضي قدما في تصفية حسابه مع المبدأ الذي أقض مضجعه وأكل قلبه وهزئ بكيانه، منذ ولي علي الخلافة، بل منذ طلعت الهاشمية بالنور علي الدنيا، بل منذ هزمت المنافرة أمية إلي الشام.
وما كان معاوية بالذي يعجز عن وضع " تدابير محبوكة " أخري لعملية محق الشيعة، بعد مقتل الحسن، يحتال بها علي المغرورين بزعامته من الجيل الذي شد أزره علي اصطناع ما أتاه من مخالفات.
(1) " الاسلام بين السنة والشيعة " (ص 25).
(٢٣٢)
مفاتيح البحث: الشام (1)، الشهادة (1)، الحرب (3)، القتل (1)، السب (1)

صفحه 140

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٣٣
وهو صاحب تدابير " لعن أهل البيت " وصاحب تدابير " رمي علي بدم عثمان "، فلتكن ثالثة أثافيه تدابيره في " القضاء علي التشيع " ماديا ومعنويا. وانه لرجل الميدان في تعبئة هذه الألوان من التدابير.
وفي جنبات قصوره الشاهقات في الشام، الضمائر المعروضة للبيع والأقلام المفوضة للايجار، فلتضع الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، وفق الخطط المرسومة، ولتنتهك المبادئ العلوية انتهاكا فتمسخها مسخا وتزدريها ازدراء تنتزع به استحقاقها للبقاء بين الناس، ثم لتخلق منها - وقد خلا الجو من آل محمد (ص) - ردة أخري عن الاسلام تتهم بها بناة الاسلام ومهابط تنزيله ومنازل وحيه ومصادر تعاليمه أنفسهم، ثم لتشرع للناس - مع تمادي الوضع والرفع - اسلاما آخر، هو قريحة معاوية - لا ما هتفت به الهاشمية من وحي السماء.
وكان هذا هو الذي عناه الحسن عليه السلام حين قال: " ما تدرون ما عملت، والله للذي عملت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس ".
وما شئ خيرا مما طلعت عليه الشمس من حفظ العقيدة وتخليد المبدأ.
وكان هو ما عناه - أيضا - الامام محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (الباقر) عليه السلام، حين سئل عن صلح الحسن (ع) فقال: " انه أعلم بما صنع ولولا ما صنع لكان أمر عظيم ".
النتائج:
وأغلب الظن أن خطوات هذه المراحل الثلاث، بلغت بالقارئ الكريم هدفنا المقصود من البحث، قبل ان نعلن عنه صريحا، وكشفت له بتدرجها الرفيق كثيرا من الغموض الذي هيأ جوا للنقد الموروث.
ونقول الآن تدليلا علي ما ادعيناه أولا من انغلاق طريق الشهادة عن الحسن (ع)، الذي كان معناه امتناعها هي منه، دون امتناعه هو منها:
(٢٣٣)
مفاتيح البحث: الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام (1)، أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (3)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، علي بن الحسين بن علي (1)، الشام (1)، الكرم، الكرامة (1)، التعبأة، العبء (1)، الشهادة (1)، الظنّ (1)

صفحه 141

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٣٤
ان الحسن لو حاول أن يجيب علي حدة مأزقه التي اصطلحت عليه في لحظته الأخيرة في المدائن، بإراقة دمه الطاهر في سبيل الله عز وجل انكارا علي البغي الذي صارحه به ستون ألفا من أجناد الشام، وايثارا للشهادة ومقامها الكريم - لحيل بينه وبين ما يريد، ولكان - بلا ريب - ذلك المقتول الضائع الدم الذي لن يستطيع أصدقاؤه في التاريخ أن يسجلوا له الشهادة كما تقتضيها كلمة " شهيد ".
ذلك لان الظرف المؤسف الذي انتهي اليه طالع المدائن بما عبرت عنه الفوضي الرعناء في صيحاتها الكافرة وفي سلاحها - أيضا -، وبما كشفت عنه كتب الخونة الكوفيين في مواثيقهم لمعاوية علي الفتك بالحسن - وهو ما وقف عليه الحسن نفسه في رسائلهم -، كل ذلك يفرض علينا الاستسلام للاعتقاد بأن فكرة قوية الأنصار من رجالات المعسكر، كانت قد قررت التورط في أعظم جريمة من أمر الامام عليه السلام، وأنهم كانوا يتحينون الفرص لاقتراف هذه البائقة الكبري.
ووجدوا من تلاشي النظام في المعسكر، بما انتاشه من الفزع وبما انتابه من الفتن، وبما بلغه من أخبار مسكن، ومن الفوضي " المصطنعة " التي اطلعت رأسها بين جماهيره الهوج - ظرفا مناسبا لانزال الضربة الحاسمة التي كانت هدف الخوارج فيما أرادوه من جهادهم مع الحسن وكانت غاية " الحزب الأموي " فيما تم عليه الاتفاق بينه وبين معاوية. ولا ننسي أن معاوية نفسه كان قد لوح للحسن عليه السلام في رسائله الأولي اليه، بما يشعره التهديد بهذه الخطة العدوة - من أول الامر -. والا فما معني قوله هناك: " فاحذر أن تكون منيتك علي أيدي رعاع من الناس!!. ".
وبلغ من دقة الموقف وتوتر الوضع، في لحظات المدائن الأخيرة، أن أي حركة من الامام عليه السلام سواء في سبيل الحرب أو في سبيل الصلح، وفي سبيل الانضمام إلي الجبهة في مسكن أو في سبيل العودة إلي الكوفة - مثلا -، لابد أن تنقلب إلي خلاف حاد، فتمرد واسع، فثورة
(٢٣٤)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، مدينة الكوفة (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، سبيل الله (1)، الشام (1)، الخوارج (1)، الكرم، الكرامة (1)، الشهادة (3)، الوسعة (1)، الفزع (1)، الحرب (1)

صفحه 142

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٣٥
مسلحة هوجاء، هي كل ما يتمناه معاوية، ويصوب له ذهبه وخزائنه.
ولن يطفئ النائرة يومئذ لو اتقدت جذوتها الا دم الحسن الزكي.
وللثورات الجامحة أحكامها القاسية وتجنياتها التي لا تبالي في سبيل الوصول إلي أهدافها بالاشخاص مهما عظمت مكانتهم في النفوس.
أوليست طعنة الحسن في ساباط المدائن دليلا علي ما نقول؟. وهل كانت الا الطعنة التي تطوعت إلي قتله عن إرادة وعمد؟ وكان قد خرج إذ ذاك من فسطاطه يؤم مقصورة عامله علي " المدائن " ليتجنب ضوضاء الناس، وليكون هناك أقدر علي اتخاذ ما يحتمله الظرف من تدبير.
وهنا يقول المؤرخون ما لفظه: " وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته، ومنعوا عنه من أراده ". وفي نص آخر: " فأطافوا به ودفعوا الناس عنه " أقول: فمم كانوا يدفعون الناس عنه؟ ومم منعوا من أراده؟.. أوليس هذا كله صريحا بأنه أصبح مهددا علي حياته، وأن الذين خرجوا معه كمجاهدين يدافعون عنه انكشفوا - بعد قليل - عن أعداء يتدافعون عليه؟؟.
وهل كان انكفاؤه إلي مقصورة سعد بن مسعود، الا ليبتعد عن المحيط المفتون الذي أصبح يستعد لثورة لا يدري مدي اندفاعها بالموبقات؟. ورأي بأم رأسه انسياح فصائله أنفسهم في مضاربه نهبا، وفي مقامه المقدس تكفيرا وسبا، ورأي تحاملهم المقصود علي ايذائه وتدافعهم العامد علي العظيم من أمره، فعلم أنهم أصبحوا لا يطيقون رؤيته، وأن ظهوره بشخصه بينهم هو مثار تمردهم الخبيث، فانتقل غير بعيد، وكانت انتقالته نفسها احدي وسائله لعلاج الموقف، لو أنه وجد للعلاج سبيلا.
وبديهي أنه لم يكن أحد آخر في الدنيا كلها، أحرص من الحسن نفسه علي الفوز في قضيته، ولا أكثر عملا، ولا أشد اهتماما، ولا أنشط حيوية، ولا أسرع تضحية فيما تستدعيه من تضحيات.
(٢٣٥)
مفاتيح البحث: سعد بن مسعود (1)، القتل (1)

صفحه 143

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٣٦
وبديهي أيضا، أنه لم يكن ليفوته ما لا يفوتنا من رأي، ولا يخطئه ما لا يخطئنا من تدبير. ولقد برهنت سائر مراحله علي أنه الرجل الحصيف الذي غالب مشاكله كلها ثم اختار لها أفضل الحلول في حربه وسلمه ومع مراحل جهاده ومعاهدات صلحه، وفي عاصمة ملكه " الكوفة " وعاصمة إمامته " المدينة ".
تري، أفكان من جنون هذه اللحظات في المدائن، مجال للموت الذي يصنع الحياة؟ أم هو المجال الذي لا يصنع الا الموت في الموت أبديا، وهو ما يجب أن تربأ عنه النفوس الكريمة التي لا تموت الا لتحيي بعدها سنة أو تنقذ أمة.
فأين امكان الشهادة للحسن يا تري؟..
* * * ولقد يحز في النفس حتي ليضيق محب الحسن ذرعا بما يترسمه في ذهنه من معالم الخطوب السود، التي كانت تتدفق بطوفانها الرهيب علي هذا الامام الممتحن في أحرج ساعاته وأدق لحظاته.
ربما كان للذهن قابلية التصور أو قابلية الهضم للحوادث التي ترجع إلي مصادرها الاعتيادية في الناس، من العداء الشخصي، أو النزاع القبلي، أو الخلاف النظري - كعداء معاوية للحسن، أو خصومة بني أمية للهاشميين، أو خلاف الخوارج علي علي وأولاده (ع) -. أما الحوادث التي لا مرجع لها الا الطمع الدنئ فإنه من آلم ما يتصوره الانسان من شذوذ الناس.
أفتظن ان من الممكن لشيعي يعتقد امامة الحسن كما يعتقد نبوة النبي، ويعيش في نعمة الحسن كما يعيش في نعمة أبيه، ثم تحدثه نفسه بالخيانة العظمي في أحرج اللحظات التي تمر بامامه وولي نعمته، وأحوجها إلي الاخلاص الصحيح من شيعته؟.
أجل، انها للمؤامرة الدنيئة التي كانت من صميم الواقع الذي دار
(٢٣٦)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (1)، بنو أمية (1)، الخوارج (1)، الموت (4)، الكرم، الكرامة (1)، الشهادة (1)

صفحه 144

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٣٧
حول الحسن عليه السلام، في ابان وجوده في المقصورة البيضاء بالمدائن!!..
فانظر إلي أي حد كان قد بلغ التفسخ الخلقي في الجيل الذي قدر للحسن أن يتخذ منه أجناده إلي جهاد عدوه.
قد يكون الفرد بذاته من ذوي الحسب، وقد يكون علي انفراده من ذوي السكينة، ولكنه إذا انساح بضعفه المتأصل في نفسه مع العاصفة الطارئة، واحتضنته الجماهير المتحمسة من حوله، كان جديرا بان تغلب عليه روح الجماعة فلا يشعر الا بشعورها، ولا يفكر الا بفكرها، ولا يعمل الا بعملها - ويخالف - عندئذ - مشاعره الفطرية مخالفة لا تنفك في أكثر الأحيان عن الندم الجارح عند سكون العاصفة وتبدل الأحوال.
وهكذا كان من السورة الجامحة في ضوضاء المدائن يومئذ ما أخضع لتياره حتي الشيعي الضعيف، فنسي تشيعه ونسي عنعناته، ونسي حتي المعنويات العربية الساذجة التي تتحلل من الدين علي اختلاف نزعاته!!..
فإنه ان لم يكن امامك فولي نعمتك، وان لم يكن ولي نعمتك فالكريم الجريح.
وهذا مثل واحد - حفظه التاريخ - عن شيعيهم، ظنك بخارجيهم وأمويهم وشكاكهم وأحمرهم؟.
ومثل واحد حفظه التاريخ، يدل علي أمثال كثيرة نسيها التاريخ أو تناساها.
ووجه آخر:
هو ما أشار اليه الحسن نفسه في أجوبته لشيعته الذين نقموا عليه الصلح. قال: " ما أردت بمصالحتي معاوية الا أن ادفع عنكم القتل (1) ".
(1) الدينوري (ص 303).
(٢٣٧)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، القتل (1)، الجماعة (1)

صفحه 145

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٣٨
وأثر عنه بهذا المعني كلمات كثيرة.
وللتوفر علي فهم هذه الحقيقة بشيء من التفصيل الذي يخرج بنا إلي القناعة بما أجمله الامام بهذا القول، نقول:
لم يكن النزاع بين الحسن ومعاوية في حقيقته، نزاعا بين شخصين يتسابقان إلي عرش، وانما كان صراعا بين مبدأين يتنازعان البقاء والخلود. وكان معني الانتصار في هذا النزاع، خلود المبدأ الذي ينتصر له أحد الخصمين المتنازعين. وكذلك هي حرب المبادئ التي لا تسجل انتصاراتها من طريق السلاح، ولكن من طريق الظفر بثبات العقيدة وخلود المبدأ. وربما ظفر المبدأ بالخلود ولكن تحت ظل اللواء المغلوب ظاهرا.
وانقسم المسلمون يومئذ، علي اختلاف رأيهم في المبدأين، إلي معسكرين يحمي كل منهما مبدأه، ويتفادي له بكل ما أوتي من حول وقوة.
فكانت العلوية والأموية، وكانت الكوفة والشام.
ونخلت الادوار الاستفزازية التي لعبها معاوية، باسم الثأر لعثمان، معسكر الشام من شيعة علي وأولاده عليهم السلام. فكان لابد لهؤلاء أن ينضووا إلي معسكرهم في الكوفة، وفي البلاد التي ترجع بأمرها إلي الكوفة، غير مروعين ولا مطاردين.
واجتمع - علي ذلك - في الكوفة والبصرة والمدائن والحجاز واليمن عامة القائلين بالتشيع لأهل البيت عليهم السلام.
وخلص إلي عاصمة الامام في العراق من الأمصار كلها، الثقل الأكبر من أعلام المسلمين، وبقايا السيوف من المهاجرين والأنصار. فكانت كوفة علي علي عهد الخلافة الهاشمية، مباءة الاسلام، والمركز الذي احتفظ بتراث الرسالة بأمانة وصبر وايمان.
وكان طبيعيا ان يستجيب لدعوة الحسن، في زحفه للموقعة الفاصلة بين المبدأين، عامة هذه النخبة المختارة المتبقية في الكوفة بعد وفاة أبيه عليه
(٢٣٨)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، المهاجرون والأنصار (1)، دولة العراق (1)، مدينة الكوفة (6)، الشام (2)، الحرب (1)، القناعة (1)، الوفاة (1)

صفحه 146

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٣٩
السلام، من شيعته وشيعة أبيه وصحابة جده صلي الله عليه وآله، فإذا هم جميعا عند مواقعهم من صفوف وحداتهم، في الجيش الذي يستعد في " النخيلة ".
ولم يكن في الدنيا كلها، قابلية أخري لصيانة التراث الاسلامي علي وجهه الصحيح، كالقابليات التي لفها جناح هذا الجيش، بانضواء هذه الكتل الكريمة اليه، وفيها أفراد الأسرة المطهرة من الهاشميين.
واحتضنت وحدات النخيلة مع هؤلاء، أجناسا كثيرة من الناس، أتينا - فيما سبق - علي عرض واسع لمختلف عناصرهم وشتي منازعهم ونتائج أعمالهم.
وكان المضي في الزحف ضرورة اقتضاها الظرف الطارئ كما أشير اليه آنفا.
وما هي الا أيام لم تبلغ عدد الأصابع، حتي انتظم المعسكران في " المدائن " و " مسكن " أقسام الجيش كلها، فكان في كل منهما جماعة من الطبقة الممتازة في مسلكها ومعنوياتها وإخلاصها، وجماعات أخري من طبقات مختلفة منوعة.
وجاءت هزيمة عبيد الله بن عباس ومن معه إلي معاوية، أشبه بعملية تصفية قد تكون نافعة، لو لم تعززها نكبات أخري من نوعها ومن غير نوعها، ذلك لأنها نخلت معسكر مسكن، وهو المعسكر الذي نازل العدو وجها لوجه، من الأخلاط التي كانت العضو الفاسد في هذا الجيش.
أما في المدائن فقد كان الحسن وخاصته في سواد من أشباه المهزومين لا يتسني لهم الوصول إلي معاوية فيفرون، ولا يستفزهم الواجب فيرضخون. وكانوا في المستقبل القريب، أداة الكارثة التاريخية، بما حالوا بين الحسن وبين أهدافه من هذه الحرب، وبما أغلقوا عليه من طريق الشهادة الكريمة، وبما أفسدوا عليه كل شئ من أمره، (كما مر
(٢٣٩)
مفاتيح البحث: الكرم، الكرامة (2)، الوراثة، التراث، الإرث (1)، الشهادة (1)، الوسعة (1)، الطهارة (1)، الحرب (1)

صفحه 147

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٤٠
بيانه قريبا).
* * * ولنفترض الآن أن شيئا واحدا كان لا يزال تحت متناول الحسن في سبيل الاستمرار علي الحرب، أو في سبيل الامتناع علي الصلح.
ذلك هو أن يصدر أوامره من حصاره في " المدائن " إلي أنصاره في " مسكن " بمباشرة الحرب، تحت قيادة القائد الجديد " قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري "، الرجل العظيم الذي نعرف من دراسة ميوله الشخصية، أنه كان يؤثر الحرب حتي ولو صالح الامام (1). وإذا كانت ثورة المشاكسين في المدائن، قد حالت دون تكتيب هذا الجيش للقتال، فما كانت لتحول دون ارسال الأوامر إلي المخلصين الأوفياء في جيش مسكن بالحرب، ان سرا وان علنا.
ومن المحتمل أن كثيرا من المغلوبين علي أمرهم من مجاهدة المدائن المخلصين، كانوا يستطيعون التسلل إلي " مسكن " لإنجاد القوات المحاربة هناك، فيما لو وجدوا من جانب الحسن استعدادا لهذه الفكرة أو تشجيعا عليها.
ولعل من المحتمل أيضا ان الامام نفسه كان يستطيع هو أيضا وبعد تريث غير طويل، ينتظر به خفوت الزوابع الدائرة حوله في المدائن، أن يخف إلي مسكن حيث النصر الحاسم، أو الشهادة بكل معانيها الكريمة في الله وفي التاريخ.
فلماذا ينزل إلي الصلح، وله من هذا التدبير مندوحة عنه؟.
نقول:
ربما كان في مستطاع الحسن اصدار هذه الأوامر في لحظاته الأخيرة في المدائن، وربما لم يكن.
(1) يراجع عن هذا ابن الأثير (ج 3 ص 162).
(٢٤٠)
مفاتيح البحث: صلح (يوم) الحديبية (2)، سعد بن عبادة (1)، الكرم، الكرامة (1)، الشهادة (1)، القتل (1)، الحرب (3)، إبن الأثير (1)

صفحه 148

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٤١
وعلي كل من التقديرين، فما كل مندوحة لوحت بنجاح، يجوز الاخذ بها، ورب تدبير في ظرف هو نفسه مفتاح مآزق صعاب لظرف آخر. وهذه هي القاعدة التي يجب الالتفات إليها عند الاخذ بأي اقتراح في أي من المآزق.
وهنا أيضا، فهل فكر مقترح هذا التدبير، في المدة التي كان يمكن أن تستوعبها حرب أربعة آلاف - هم جيش الحسن في مسكن - لستين الفا هم جيش معاوية أو ثمانية وستين الفا؟ واستغفر الله، بل حرب مجموعة من جيش تنازل مجموعة من جيش تزيدها خمسة وأربعين ضعفا! [ارجع إلي تحليل النسبة العددية بين الفريقين عسكر مسكن وعسكر الشام في الفصل - 11 -].
وهل فكر مقترح هذه المندوحة، فيما عسي ان يكون موقف الحسن عند انتهاء اللحظات القصيرة من عمر هذه الحرب، وعندما يتفاني المساعير من أنصاره في مسكن.
انه ولا شك الموقف الذي سيضطره - لو بقي حيا - إلي التسليم بدون قيد ولا شرط.
وانه ولا شك الطالع الجديد الذي كان ينتظره معاوية للإجراءات الحاسمة بين الكوفة والشام، الاجراءات التي لا تعدو الاحتلال العسكري المظفر بويلاته ونقماته التي لا حد لفظاعتها في أهل البيت وشيعتهم، وأخلق باحتلال كهذا أن يطوح بكل أماني البلاد، وبشعائرها الممتازة، ومبادئها التي قامت علي جماجم عشرات الألوف من صفوة الشهداء المجاهدين في الله.
ولا أخال أن أحدا يفطن إلي هذه النتائج المحتمة، ثم لا يحكم بفشل هذه المندوحة المنتقضة علي نفسها، وأن من أبرز أخطائها انها تنقل الحسن - في أقصر زمان - من خصم مرهوب يملي الشروط علي عدوه، إلي محارب مغلوب لا مفر له من التسليم بدون قيد ولا شرط.
وهذا فيما لو انكشفت الحرب والحسن حي يحال بينه وبين
(٢٤١)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (1)، الشام (2)، الحرب (4)، الشهادة (1)، الجواز (1)

صفحه 149

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٤٢
الاشتراك فيها.
وأما لو قدر لهذه الحرب القصيرة العمر، أن تجتاح في طاحونتها حتي الحسن لينال الشهادة، وافترضنا أنه كان قد استطاع التسلل إلي مسكن والاشتراك في القتال - الامر الذي لا ينسجم وسير الحوادث هناك كما عرفت قريبا - فالجواب هو أن الشهادة التي يكون ثمنها إمحاء المبدأ إمحاء أبديا، لا يمكن ان تكون وسيلة نجاح في الله ولا في التاريخ.
وان التاريخ الذي سيناط به ذكر هذه الحرب، بعد شهادة الحسن وذيولها المؤسفة، سيروي للأجيال من شؤون الحسن وحروبه، ما لا يخرج بمفهومه عن معني " الخروج ". وذلك هو ما أردنا التلميح اليه في كلامنا علي " خطة معاوية تجاه أهداف الحسن " من هذا الفصل.
ولكي نزيد هذا الاجمال توضيحا نقول:
علمنا مما تقدم، أن الصفوة من حملة الكتاب، والبقية من الصحابة الأبرار، والنخبة المختارة من الشيعة الأوفياء، كانوا قد اجتمعوا للحسن عليه السلام فيمن دلف به إلي معاوية في زحفه هذا. ولا نعرف أن أحدا من هذا الطراز تخلف مختارا عن تلبية الحسن فيما دعا اليه من الجهاد.
فكان الموقف في هذه اللحظة المبدئية الدقيقة بين الحسن ومعاوية، أشبه بالموقف الآنف بين أبويهما رسول الله (ص) وأبي سفيان بن حرب يوم كان يبرز الايمان كله للشرك كله.
وعلمنا مما تقدم أيضا أنه لم يكن في الدنيا كلها مجموعة أخري تؤتمن علي الثقل الأكبر من نواميس الاسلام، والمبادئ المثالية الصحيحة علي وجهها الصحيح، مثل هذه المجموعة التي اجتمعت للحسن في هذا الزحف.
فكان معني تنفيذ فكرة الحرب، والتورط بهذه الزمرة في القتال المستميت الذي لن ينكشف منهم علي نافخ ضرمة قط، هو التفريط بالثقل الأكبر الذي يحملونه ولا يحمله في الدنيا أحد غيرهم.
(٢٤٢)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، يوم عرفة (1)، الشهادة (3)، الهدف (1)، الحرب (4)، القتل (2)، النفاذ، التنفيذ (1)

صفحه 150

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٤٣
وكان معني التفريط به، انقطاع الصلة بين علي وأولاده الأئمة الميامين، وبين الأجيال الآتية إلي يوم الدين.
ثم لتعودن قضية الحسن - بعد ذلك - أشبه بقضايا الاشراف العلويين، الذين نهضوا في ظروف مختلفة من أيام الحكم الاسلامي، يهتفون بالاصلاح، ويحتجون بالرحم الماسة من رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، ثم غلبوا علي امرهم، فلم يبق من دعوتهم الا أسماؤهم في أطواء التاريخ أو في كتب الأنساب.
وما يدرينا، فيما لو صفي الحساب مع آل محمد تصفيته الأموية الأخيرة، فقتل الحسن، وقتل معه جميع أهل بيته، وقتل معهم الصفوة المختارة من عباد الله المخلصين، وانقلب الاسلام أمويا، ماذا سيكون من ذكريات محمد (صلي الله عليه وآله) في التاريخ؟. وماذا سيكون من شأن المثاليات التي نفخ الاسلام روحها في الصفوة من رجالاته؟. وهل رجالاته المصطفون الا هذه الأشلاء التي طحنتها سيوف الشام في هذه الحروب؟.
وعلمنا - مما تقدم - مبلغ ما تهتز به أوتار معاوية بن أبي سفيان من العنعنات القبلية والأنانيات والترات. فهل لنا - وقد أيسنا من ذكر علي وأولاده في أعقاب هذه التصفية الا بالسوء، أن نطمئن إلي ذكر محمد صلي الله عليه وآله وذكر تعاليمه ومبادئه الصحيحة بخير؟.
والعدو المنتصر هو معاوية بن أبي سفيان، الذي ضاق بذكر الناس لأخي هاشم (النبي ص) في كل يوم خمس مرات كما تقتضيه السنة الاسلامية في " الاذان "، حتي قال للمغيرة بن شعبة: " فأي عمل يبقي بعد هذا لا أم لك، الا دفنا دفنا (1)!!.. ".
(1) مروج الذهب (ج 2 ص 343)، وابن أبي الحديد (ج 2 ص 357) " قال مطرف بن المغيرة بن شعبة: وفدت مع أبي المغيرة إلي معاوية فكان أبي يأتيه يتحدث عنده، ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية ويذكر عقله، ويعجب مما يري منه، إذ جاء ذات ليلة، فأمسك عن العشاء، فرأيته مغتما فانتظرته ساعة، وظننت أنه لشيء حدث فينا أو في عملنا، فقلت له: مالي أراك مغتما منذ الليلة. قال: يا بني اني جئت من أخبث الناس. قلت له: وما ذاك. قال: قلت له وقد خلوت به: انك قد بلغت مناك يا أمير المؤمنين فلو أظهرت عدلا وبسطت خيرا، فإنك قد كبرت، ولو نظرت إلي اخوتك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شئ تخافه، فقال لي: هيهات هيهات، ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فوالله ما عدا ان هلك، فهلك ذكره، الا أن يقول قائل أبو بكر. ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمر عشر سنين، فوالله ما عدا ان هلك فهلك ذكره، الا أن يقول قائل عمر، ثم ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه، فعمل ما عمل وعمل به، فوالله ما عدا أن هلك ذكره وذكر ما فعل به. وان أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات أشهد ان محمدا رسول الله. فأي عمل يبقي بعد هذا لا أم لك، الا دفنا دفنا ".
(٢٤٣)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (4)، معاوية بن أبي سفيان لعنهما الله (2)، الدولة الأموية (1)، كتاب الأشراف للشيخ المفيد (1)، يوم القيامة (1)، الشام (1)، القتل (3)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، كتاب مروج الذهب للمسعودي (1)، المغيرة بن شعبة (1)، بنو هاشم (1)، الشهادة (1)، الهلاك (3)

صفحه 151

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٤٤
ورجاله المنتصرون هم: أخوه [الشرعي؟!] " زياد ابن أبيه "، والصحابي المسن " عمرو بن العاص "، والداهية [النزيه؟!] " المغيرة بن شعبة "، وفاتح الحرمين!! " مسلم بن عقبة "، وأمثال هذه النماذج من الغياري علي روحيات الاسلام!!..
وفي مجازر (زياد) في الكوفة، وفتن (عمرو) في صفين ودومة الجندل، ومساعي أول مرتش في الاسلام (المغيرة بن شعبة) لتنصيب يزيد للخلافة ولإلحاق زياد للاخوة، ومواقف (ابن عقبة) من المدينة والكعبة، كفاية للاطمئنان علي الرقم القياسي الذي صعدت اليه غيرة كل من هؤلاء، علي التراث الاسلامي، وعلي مقدسات الاسلام، وعلي مصالح المسلمين.
انهم عملوا ما عملوا، وهم إذ ذاك علي مسمع ومشهد، من آل محمد والصفوة الباقية من تلامذة محمد (ص) ومن أشياعهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والواقفين لهم بالمرصاد.
فكيف بهم، وماذا كانوا يعملون، لو أصفرت الدنيا من آل محمد وعباد الله الصالحين؟؟.
* * * ان النتائج الواضحة المستقيمة التي لا عوج في تأويلها، هي أن الامام
(٢٤٤)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، مدينة الكوفة (1)، مسلم بن عقبة المري (1)، المغيرة بن شعبة (2)، عمرو بن العاص (1)، الوراثة، التراث، الإرث (1)، الشهادة (1)

صفحه 152

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٤٥
الحسن عليه السلام لو سخا بنفسه وبشيعته، وفرضنا أنه كان قد استطاع حضور ميدانه في " مسكن "، لحكم علي نفسه بالموت حتي لا يبقي اسمه الا في كتب الأنساب، وعلي مبدئه المقدس بالاعدام حتي لا يبقي منه أي أثر بين سمع الأرض وبصرها، ولرأيت تاريخه المجيد وتاريخ بيته العتيد، أسطورة مشوهة من أبشع الأساطير، يمليها معاوية كما يشتهي، ويشرحها بعده مروان وآل مروان كما يشاؤون.
وكان معني ذلك نهاية تاريخ الروحية الاسلامية، وبداية تاريخ أموي له طابعه المعروف وخصائصه الغنية عن البيان.
وفي الحديث الشريف: " لو لم يبق من بني أمية الا عجوز درداء لبغت دين الله عوجا (1) ".
تري، فهل كان في امكان الحسن غير ما كان؟.
وان أقل استقراء وتدبر، يثبتان أنها كانت أفضل طريقة للتخفيف من عرامة الاجراءات المتوقعة، بل كانت الطريقة الوحيدة التي لا ثانية لها.
وحفظ الحسن بها - حين استيقن هذه النتائج كحقائق واقعة - خطوط اتصاله بالأجيال، بل خطوط اتصال أبيه وجده عليهما الصلاة والسلام، من طريق الابقاء علي شيعته، وأنقذ بذلك مبدأه من الإبادة المحققة، وصان تاريخه من التشويه والتزوير والمسخ والازدراء.
وانتزع من الخذلان الذي حاق به في دنياه، الانتصار اللامع لروحيته وعقيدته وأخراه.
وهكذا ترك الدنيا ليحفظ الدين.
وذلك هو طابع الإمامة في هذه الزمرة المباركة من آل الله.
(1) الخرائج والجرائح لسعيد بن هبة الله الراوندي المتوفي سنة 573 (ص 228).
القسم الثالث: الصلح، دوافع الفريقين للصلح
(٢٤٥)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، بنو أمية (1)، الموت (1)، الصّلاة (1)، كتاب الخرائج والجرائح للقطب الراوندي (1)، صلح (يوم) الحديبية (2)، سعيد بن هبة الله (1)، الوفاة (1)

صفحه 153

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٤٨
وما كان بدعا من محاولات معاوية فيما يهدف اليه، أن يبتدر هو إلي طلب الصلح (1)، فيعطي الحسن كل شرط، ليأخذ عليه شرطا واحدا هو " الملك ".
وقرر معاوية خطته هذه، في بحران نشاط الفريقين للحرب، وكان في توفره علي تنفيذ هذه الخطة، أعنف منه في عمله لتنظيم المعسكرات وتدبير شؤون الحرب. ورأي ان يبادئ الحسن بطلب الصلح، فان أجيب اليه فذاك، والا فلينتزعه انتزاعا، دون أن يلتحم والحسن في قتال.
وكان عليه قبل كل شئ، أن يصطنع في سبيل التمهيد إلي غايته، ظرفا من شأنه ان ينبه خصومه إلي تذكر الصلح.
ومن هنا طلعت علي معسكرات الحسن عليه السلام، ألوان الأراجيف، وعمرت سوق الرشوات، وجاء في قائمة وعوده التي خلب بها ألباب كثير من الزعماء أو المتزعمين: رئاسة جيش، وولاية قطر، ومصاهرة علي أميرة أموية!!.. وجاء في أرقام رشواته النقدية الف الف [مليون]!.
واستعمل في سبيل هذه الفكرة كل قواه وكل مواهبه وكل تجاربه، واستجاب له كثير من باعة الضمائر الذين كانوا لا يفارقون الحسن ظاهرا فإذا هم عيون معاوية التي تري، وأصابعه التي تعمل، وعملاؤه الذين لا يدخرون وسعا في ترويج أهدافه.
(1) هذا هو الصحيح كما دل عليه خطاب الحسن فيما استشار به أصحابه في " المدائن " فقال: " ألا وان معاوية دعانا لامر ليس فيه عز ولا نصفة.. "، وكما دلت عليه مصادر أخري خلافا لبعض المؤرخين الآخرين، والترجيح لخطاب الحسن عليه السلام.
(٢٤٨)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (2)، صلح (يوم) الحديبية (3)، الهدف (1)، القتل (1)، الحرب (1)، النفاذ، التنفيذ (1)

صفحه 154

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٤٩
وكانت الجيوش والأسلحة والحركات السوقية في الزحف إلي المعسكرات، هي الأخري بعض وسائله إلي الصلح، ولم يشأ أن يبدأ بهم غاراته علي العراق، لأنه لن يلتحم مع الحسن بقتال، الا إذا أعيته الوسائل كلها، والوسائل في عرف معاوية، غير الوسائل في عرف الناس أو في عرف الدين الجديد.
ومن الحق أن نقول: ان وسائله في هذا الميدان، كانت من النوع المحبوك الصنع، الدقيق الأساليب، الموفق كل التوفيق، في سبيل الغرض الذي رمي اليه، من اصطناع الظرف الخاص الذي يذكر عدوه بالصلح.
فإذا باع القائد في جبهة العراق ضميره لمعاوية بالمال، وباع معه أكثر الرؤساء ضمائرهم بالعدات.
وإذا أصبح المعسكران في مسكن والمدائن يعجان بالشائعات التي راحت تمطرهما بوابل من الويل والثبور والمخاوف.
وإذا أصبح الحسن نفسه لا يتسني له تنفيذ أوامره في جيشه بما فعلته الأراجيف من حوله، بل لا يستطيع الظهور بشخصه أمام الكثرة من جنوده، الا ليغتال بين مضاربه وعلي سواعد أصحابه.
فهل من سبيل الا الصلح؟..
* * * انه الظرف الذي استعصي صلاحه بفساد ناسه، ولا تثريب علي الحسن من ظرفه إذا فسد، وناسه إذا فشت فيهم الفتنة، وان لانحراف الطبائع حكمه، ولحداثة الاسلام خاصتها، في القلقين من المسلمين أو في المفروضين علي الاسلام فرضا.
وإذا قدر للحسن أن يخسر بخيانة جنوده، أو ببراعة الفتن التي تسلح بها عدوه " معركته الأولي "، فليكن منذ اليوم عند " معركته الثانية " التي لا تنالها خيانة الجنود، ولا يضيرها انحراف الطبائع، ولا تزيدها
(٢٤٩)
مفاتيح البحث: دولة العراق (2)، صلح (يوم) الحديبية (3)، القتل (1)، النفاذ، التنفيذ (1)

صفحه 155

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٥٠
دسائس العدو ولا أساليب فتنه البارعة الا مضاء ونفوذا وانتصارا مع الأيام.
وتلك هي " الفذلكة " التي أجاد الحسن استغلالها كأحسن ما تكون الإجادة، واستغفل بها معاوية أشد ما يكون في موقفه من الحسن يقظة ونشاطا وانتباها.
انه لبي طلب معاوية للصلح، ولكنه لم يلبه الا ليركسه في شروط لا يسع رجلا كمعاوية الا أن يجهر في غده القريب بنقضها شرطا شرطا. ثم لا يسع الناس - إذا هو فعل ذلك - الا ان يجاهروه السخط والانكار، فإذا بالصلح نواة السخط الممتد مع الأجيال، وإذا بهذا السخط نواة الثورات التي تعاونت علي تصفية السيطرة الاغتصابية في التاريخ.
وليكن هذا هو التصميم السياسي الذي نزل الحسن من طريقه إلي قبول الصلح، ولتكن هذه هي الفذلكة التي استغفل بها معاوية فكانت من أبرز معاني العبقرية المظلومة في الامام المظلوم.
وأي غضاضة علي الحسن - بعد هذا - إذا هو وقع الصلح وفق الخطط المرسومة.
وان له من حراجة ميدانه الأول، ومن الامل بنتائج ميدانه الثاني ما يزين له حديث الصلح، فضلا عما يستأثر به هذا الحديث من ظاهرة الاصلاح في الأمة، وما يتفق معه من حقن الدماء وصيانة المقدسات، وتحقيق وجهة النظر الاسلامي.
وكانت أشهرا لم تناهز عدد الأصابع العشر، ولكنها ناهزت عدد النجوم هزاهز وزعازع، وكانت قطعة من الزمن يتجه إليها القلب بكل ما يملكه من حب واعجاب، فاحت بروائح النبوة، وتجلت فيها مزايا الإمامة الصادقة، وتكشفت علي قلتها وقصر مدتها عن حقائق كثير كثير من
(٢٥٠)
مفاتيح البحث: صلح (يوم) الحديبية (5)، الظلم (1)

صفحه 156

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٥١
الناس هنا وهناك. وهي الأشهر التي ختمت أعمالها بأفضل خواتيم الاعمال في الاصلاح، ووصلت بخاتمتها الفضلي مصلحة الدنيا بمصلحة السماء.
وإذا بالحسن بن علي، هو ذلك المصلح الأكبر، الذي بشر به جده رسول الله صلي الله عليه وآله في الحديث الذي سبق ذكره: " ان ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ".
وان الله سبحانه عود أهل هذا البيت أن يحفظ لهم الشرف في أعلي مراتبه وفي مختلف ميادينه، فان لم يكن بالانتصار بالسلاح، فليكن بالشهادة الكريمة في الله وفي التاريخ. وان لم يكن بهذا ولا ذاك فليكن بالاصلاح وجمع الكلمة وتوحيد أهل التوحيد. وكفي بالاصلاح شرفا وكفي ببقاء الشرف انتصارا. وبقاء الشرف ضمان لبقاء العزة. والعزة حافز دائب يدفع إلي الحياة ويقوم علي السيادة.
ومن السهل ان نفهم دوافع الحسن إلي الصلح مما ذكرنا.
* * * أما دوافع معاوية التي اندلف بها من جانبه إلي طلب الصلح، فقد كانت من نوع آخر لا يرجع في جوهره إلي العجز عن القتال، ولا ينظر في واقعه إلي وجهة نظر دين أو اصلاح أو حقن دماء، فلا الاصلاح ولا حقن الدماء بالذي يعني به معاوية فينزل له عن مطامعه في الفتح. وفي غاراته علي المدينة ومكة واليمن، ومواقفه الجريئة بصفين، ما يزيدنا بصيرة في معرفة الرجل وان قل عارفوه.
إذا، فليكن طموحا نفعيا خالصا، هو الأشبه بتاريخ معاوية الذي جاء تاريخه أشبه باسطورة.
انه خيل اليه بأن تنازل الحسن له عن الحكم، سيكون معناه في الرأي العام، تنازله عن " الخلافة ". وظن أنه سيصبح - علي هذا -
(٢٥١)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، مدينة مكة المكرمة (1)، صلح (يوم) الحديبية (2)، الحسن بن علي (1)، الكرم، الكرامة (1)، الشهادة (1)، القتل (1)

صفحه 157

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٥٢
" الخليفة الشرعي في المسلمين (1) ".
وكان الحلم اللذيذ الذي استرخص في سبيله كل غال، وخفي عليه أن الاسلام أعز جانبا من أن يهضم الأساليب الهوج، أو يعطي اقليده للطلقاء وأبناء الطلقاء.
هذا، ولا ننكر ان يكون لمعاوية بواعث أخري جعلت منه انسانا آخر ينكر الحرب ويمد يده إلي الصلح ويوقع الشروط ويحلف الايمان ويؤكد المواثيق. ولكنا - إذ نتحري بواعثه الأخري - لا نزول عن الاعتقاد بأن الحلم اللذيذ الذي ذكرنا، كان أكبر دوافعه وأشد بواعثه.
وفيما يلي قائمة مناسبات، تصلح لان تكون بعض دوافعه إلي الصلح:
1 - انه كان يري أن الحسن بن علي عليهما السلام، هو صاحب الحق في الامر، ولا سبيل إلي اقتناص " الامر " الا من طريق إسكات الحسن - ولو ظاهرا -، ولا سبيل إلي إسكاته الا بالصلح.
اما رأيه بأولوية الحسن بالامر، فقد جاء صريحا في كتاب اليه قبيل زحفهما للصراع في مسكن، بقوله له: " انك أولي بهذا الامر وأحق به ". وجاء صريحا فيما قاله لابنه يزيد علي ذكر أهل
(1) وللحسن البصري كلمته الذهبية في هذا الموضوع [انتظرها فيما تقرأه عن " معاوية والخلافة " في الفصل 17]. وأخرج أحمد في مسنده وأبو يعلي والترمذي وابن حيان وأبو داود والحاكم قوله صلي الله عليه وآله وسلم: " الخلافة بعدي ثلاثون ثم ملك بعد ذلك " وبلفظ أبي نعيم في الفتن والبيهقي في الدلائل وغيرهما: " ثم تكون ملكا عضوضا ". والحديث عند جماعة أهل السنة صحيح علي شرطهم، وقال قائلهم فيما علق عليه: " انتهت الثلاثون سنة بعده صلي الله عليه (وآله) وسلم بخلافة الحسن بن علي عليهما السلام "، وأخرج أبو سعيد عن عبد الرحمن بن أبزي عن عمر أنه قال: " هذا الامر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد، وفي كذا وكذا، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شئ ".
أقول: أما بيعته التي أخذها علي الناس بأساليبها المعروفة، فلن تجعل غير الجائز جائزا.
(٢٥٢)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (2)، صلح (يوم) الحديبية (3)، العزّة (1)، الحرب (1)، كتاب مسند أحمد بن حنبل (1)، الحافظ أبو نعيم (1)

صفحه 158

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٥٣
البيت: " يا بني ان الحق حقهم (1) "، وفيما كتبه إلي زياد ابن أبيه حيث يقول له علي ذكر الحسن عليه السلام: " وأما تسلطه عليك بالامر فحق للحسن أن يتسلط (2) ".
وكذلك رأيناه يستفتي الامام الحسن، فيما يعرض له من معضلات كمن يعترف بإمامته (3).
ويعترف للحسن بأنه " سيد المسلمين (4) ". وهل سيد المسلمين الا امامهم؟.
2 - انه كان - علي كثرة الوسائل الطيعة لامره - شديد التوجس من نتائج حربه مع الحسن، ولم يكن كتوما (كما يدعي لنفسه) يوم قال في وصف خصومه العراقيين: " فوالله ما ذكرت عيونهم تحت المغافر بصفين الا لبس علي عقلي (5) "، ويوم قال فيهم " ما لهم غضبهم الله بشر، ما قلوبهم الا كقلب رجل واحد (6) "، فكان يري في الجنوح إلي الصلح، مفرا من منازلة هؤلاء ومواجهة عيونهم تحت المغافر!!.
3 - انه كان يهاب موقع الحسن ابن رسول الله (ص) في الناس، ومقامه الروحي الفريد في العقيدة الاسلامية، فيتقي حربه بالصلح.
وكان يري من الجائز، أن يقيض الله لمعسكر الشام من يتطوع لتنبيه الناس فيه إلي حقيقة أمر الحسن وفظاعة موقفهم منه، الامر الذي من شأنه ان لا يتأخر بمسلمة الجيش في جبهة معاوية عن
(١) و (٢) ابن أبي الحديد (ج ٤ ص ٥ وص ١٣ وص ٧٣).
(٣) وتجد الشواهد الكثيرة علي ذلك فيما أورده اليعقوبي في تاريخه (ج ٢ ص ٢٠١ وص ٢٠٢)، وفيما استعرضه ابن كثير في البداية والنهاية (ج 8 ص 40)، وفيما رواه في البحار (ج 10 ص 98).
(4) الإمامة والسياسة (ص 159 - 160).
(5) المسعودي هامش ابن الأثير (ج 6 ص 67) وغيره.
(6) الطبري (ج 6 ص 3).
(٢٥٣)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، صلح (يوم) الحديبية (2)، الشام (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، كتاب البداية والنهاية (1)، إبن الأثير (1)

صفحه 159

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٥٤
الانتقاض عليه والنكول عنه، وبالجيش كله عن الانهيار أخيرا.
وكان معاوية لا يزال يتذكر في زحفه علي الحسن، حديث النعمان بن جبلة التنوخي معه في " صفين " - وهو إذ ذاك أحد رؤساء جنوده المحاربين -، وقد صارحه بما لم يصارحه بمثله شامي آخر، وسخر منه بما لم يسخر بمثله رعية من سلطان. وما يؤمن معاوية أن يشعر الناس تجاهه - اليوم - شعور ذلك التنوخي المغلوب علي أمره - يومئذ.
وكان مما قاله هذا التنوخي لمعاوية في صفين: " والله لقد نصحتك علي نفسي، وآثرت ملكك علي ديني، وتركت لهواك الرشد وأنا أعرفه، وحدت عن الحق وأنا أبصره، وما وافقت لرشد وأنا أقاتل عن ملك ابن عم رسول الله صلي الله عليه (وآله) وسلم وأول مؤمن به ومهاجر معه، ولو أعطيناه ما أعطيناك، لكان أرأف بالرعية وأجزل في العطية، ولكن قد بذلنا لك الامر، ولابد من اتمامه كان غيا أو رشدا، وحاشا أن يكون رشدا. وسنقاتل عن تين الغوطة وزيتونها، إذا حرمنا أثمار الجنة وأنهارها!.. (1) ".
وكان من سياسة معاوية، حبس أهل الشام عن التعرف علي أحد من كبراء المسلمين - خارج الشام - لئلا يكون لهم من ذلك منفذ إلي انكاره أو الانقسام عليه. ولذلك فلا نعرف كيف تسني لهذا الشامي معرفة ابن عم رسول الله (ص) ومعرفة سبقه إلي الايمان ورأفته بالناس وكرمه في العطاء وأولويته بالامر.
وحري معاوية علي تجهيل أهل الشام بأعلام الاسلام إلي آخر عهده، وكانت سياسته هذه، هي أداته في التجمعات التي ساقها لحروب صفين أولا، ولحرب الحسن بن علي في مسكن أخيرا.
وتجد ظاهرة هذه السياسة - بما فيها من اعلان عن ضعف
(1) المسعودي (هامش ابن الأثير ج 5 ص 216).
(٢٥٤)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، الحسن بن علي (1)، الشام (3)، إبن الأثير (1)

صفحه 160

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٥٥
صاحبها - فيما قاله معاوية ذات يوم لعمرو بن العاص وفد تحدي الحسن بن علي (عليهما السلام)، فرد عليه الحسن بتحديه البليغة التي لم يسلم منها المحرض عليها - أيضا -، فقال معاوية لعمرو: " والله ما أردت الا هتكي، ما كان أهل الشام يرون أن أحدا مثلي حتي سمعوا من الحسن ما سمعوا (1) ".
4 - وكان من الرشاقة السياسية التي لا يخطئها معاوية في سبيل طموحه الأناني الا نادرا، أن يدعو إلي " الصلح " فيلح عليه ويشهد علي دعوته هذه أكبر عدد ممكن من الناس في القطرين - الشام والعراق - وفي سائر الآفاق التي يصلها صوته من بلاد الاسلام. ثم هو لا يقصد من وراء هذه الدعوة - علي ظاهرتها - الا التمهيد لغده القريب الذي ستنكشف عنه نتائج الحرب بينه وبين الحسن. وكان أحد الوجهين
(1) المحاسن والمساوئ للبيهقي (ج 1 ص 64).
وفي القصص التاريخي نوادر كثيرة عن جهل أهل الشام بأعلام الاسلام فمن ذلك أن أحدهم سأل رجلا من زعمائهم وذوي الرأي والعقل فيهم: " من أبو تراب الذي يلعنه الامام - يعني معاوية! - علي المنبر؟ " قال: " أراه لصا من لصوص الفتن!!! ". وسأل شامي صديقا له وقد سمعه يصلي علي محمد (ص): " ما تقول في محمد هذا، أربنا هو؟ ".
ولما فتح عبد الله بن علي الشام سنة 132 هجري وجه إلي أبي العباس السفاح أشياخا من أهل الشام من أرباب النعم والرئاسة، فحلفوا لأبي العباس أنهم ما علموا لرسول الله صلي الله عليه (وآله) وسلم قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية، حتي وليتم الخلافة..!! " يراجع عنه مروج الذهب علي هامش الجزء السادس من الكامل لابن الأثير (ص 107 و 108 و 109).
أقول: وهذا يدل علي أن عامة الملوك الأمويين نهجوا علي سياسة معاوية في تجهيل الناس بعظمائهم ولا سيما بأهل البيت عليهم السلام ومنع نفوذ أسمائهم إلي الشام. ويدل - أيضا - علي مبلغ عناية أولئك الشاميين باسلاميتهم. والمظنون أن الشام - علي العهد الأموي - كانت لا تزال تزخر بأكثرية غير مسلمة من بقايا أهلها الأصليين - الروم والآراميين -. ولا نعهد غير قضية الفتح عملا جديا آخر كان من شأنه أن يغير القديم عن قدمه، ولا نعهد تصريحا تاريخيا ينقض علينا هذا الظن.
(٢٥٥)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، دولة العراق (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، عمرو بن العاص (1)، الشام (7)، الحرب (1)، أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، كتاب الكامل لإبن الأثير (1)، الدولة الأموية (1)، كتاب مروج الذهب للمسعودي (1)، عبد الله بن علي (1)، بنو أمية (1)، الظنّ (1)، الجهل (1)

صفحه 161

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٥٦
المحتملين، أن يدال للشام من الكوفة وأن تقضي الحرب وذيولها علي الحسن والحسين وعلي من اليهما من أهل بيتهما وشيعتهما. ولا تدبير - يومئذ - للعذر من هذه البائقة الكبري أروع من أن يلقي معاوية مسؤوليتها علي الحسن نفسه، ويقول للناس - غير كاذب - " اني دعوت الحسن للصلح، ولكن الحسن أبي الا الحرب، وكنت أريد له الحياة، ولكنه أراد لي القتل، وأردت حقن الدماء، ولكنه أراد هلاك الناس بيني وبينه … ".
ولمعاوية من هذه اللباقة الرائعة أهدافه التي لا تتأخر به عن تصفية الحساب مع آل محمد (ص) تصفيته الأموية الأخيرة، وهو إذ ذاك المنتصر العادل المتظاهر بالانصاف، الذي يشهد له علي انصافه كل من كان قد أشهده - قبل الحرب - علي ندائه بالصلح. أما الحسن عليه السلام، فلم يكن الرجل الذي تفوته الرشاقة السياسية ولا الأساليب الدقيقة التي يبرع فيها عدوه للكناية به. وانما كان - علي كل حال - أكبر من عدوه دهاء، وأبرع منه في استغلال الظروف واقتناص الفرص السانحة التي تجتمع عليها كلمة الله وكلمة المصلحة معا. فرأي من ظروفه المتداعية، ومن سوء نوايا عدوه فيما أراد من الدعوة إلي " الصلح "، ما استدعاه إلي الجواب بالايجاب.
ثم لم يكفه أنه قضي بذلك علي خطط معاوية وشلها عن التنفيذ، حتي أخذ يضع الخطة الحكيمة من جانبه للقضاء علي خصومه باسم الصلح. وسيجئ في الفصول القريبة التوضيح اللائق بالموضوع.
معاهدة الصلح
(٢٥٦)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الدولة الأموية (1)، مدينة الكوفة (1)، صلح (يوم) الحديبية (5)، القتل (1)، الشهادة (1)، الحرب (3)

صفحه 162

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٥٨
وروي فريق من المؤرخين، فيهم الطبري وابن الأثير: " أن معاوية أرسل إلي الحسن صحيفة بيضاء مختوما علي أسفلها بختمه "، وكتب اليه: " أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت، فهو لك (1) ".
ثم بتروا الحديث، فلم يذكروا بعد ذلك، ماذا كتب الحسن علي صحيفة معاوية. وتتبعنا المصادر التي يسر لنا الوقوف عليها، فلم نر فيما عرضته من شروط الحسن عليه السلام، الا النتف الشوارد التي يعترف رواتها بأنها جزء من كل. وسجل مصدر واحد صورة ذات بدء وختام، فرض أنها [النص الكامل لمعاهدة الصلح]، ولكنها جاءت - في كثير من موادها - منقوضة بروايات أخري تفضلها سندا، وتزيدها عددا.
* * * ولنا لو أردنا الاكتفاء، أن نكتفي - في سبيل التعرف علي محتويات المعاهدة - برواية (الصحيفة البيضاء)، كما فعل رواتها السابقون، فبتروها اكتفاء باجمالها عن التفصيل، ذلك لان تنفيذ الصلح علي قاعدة " اشترط ما شئت فهو لك " معناه أن الحسن أغرق الصحيفة المختومة في أسفلها، بشتي شروطه التي أرادها، فيما يتصل بمصلحته، أو يهدف إلي فائدته، سواء في نفسه أو في أهل بيته أو في شيعته أو في أهدافه، ولا شئ يحتمل غير ذلك.
وإذا قدر لنا - اليوم - أن لا نعرف تلك الشروط بمفرداتها، فلنعرف أنها كانت من السعة والسماحة والجنوح إلي الحسن، بحيث صححت ما يكون من الفقرات المنقولة عن المعاهدة أقرب إلي صالح الحسن،
(1) الطبري (ج 6 ص 93) وابن الأثير (ج 3 ص 162).
(٢٥٨)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، صلح (يوم) الحديبية (2)، إبن الأثير (2)، الوسعة (1)، الهدف (1)، النفاذ، التنفيذ (1)

صفحه 163

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٥٩
ورجحته علي ما يكون منها في صالح خصومه، كنتيجة قطعية لحرية الحسن عليه السلام في أن يكتب من الشروط ما يشاء.
ورأينا بدورنا، وقد أخطأنا التوفيق عن تعرف ما كتبه الحسن هناك، أن ننسق - هنا - الفقرات المنثورة في مختلف المصادر من شروط الحسن علي معاوية في الصلح، وأن نؤلف من مجموع هذا الشتات صورة تحتفل بالأصح الأهم، مما حملته الروايات الكثيرة عن هذه المعاهدة، فوضعنا الصورة في مواد، وأضفنا كل فقرة من الفقرات إلي المادة التي تناسبها، لتكون - مع هذه العناية في الاختيار والتسجيل - أقرب إلي واقعها الذي وقعت عليه.
واليك هي صورة المعاهدة التي وقعها الفريقان المادة الأولي:
تسليم الامر إلي معاوية، علي أن يعمل بكتاب الله وبسنة رسوله (1) (صلي الله عليه وآله)، وبسيرة الخلفاء الصالحين (2).
المادة الثانية:
أن يكون الامر للحسن من بعده (3)، فان حدث به حدث
(١) المدائني - فيما رواه عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج - (ج ٤ ص ٨).
(٢) " فتح الباري " شرح صحيح البخاري - فيما رواه عنه ابن عقيل في النصايح الكافية - (ص ١٥٦ الطبعة الأولي)، والبحار (ج ١٠ ص ١١٥).
(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص ١٩٤)، وابن كثير (ج ٨ ص ٤١)، والإصابة (ج ٢ ص ١٢ و ١٣)، وابن قتيبة (ص ١٥٠) ودائرة المعارف الاسلامية لفريد وجدي (ج 3 ص 443 الطبعة الثانية) وغيرهم.
(٢٥٩)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، جلال الدين السيوطي الشافعي (1)، كتاب الكافئة للشيخ المفيد (1)، كتاب صحيح البخاري (1)، كتاب فتح الباري (1)

صفحه 164

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٦٠
فلأخيه الحسين (1)، وليس لمعاوية أن يعهد به إلي أحد (2).
المادة الثالثة:
أن يترك سب أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة (3)، وأن لا يذكر عليا الا بخير (4).
المادة الرابعة:
استثناء ما في بيت المال الكوفة، وهو خمسة آلاف الف فلا يشمله تسليم الامر. وعلي معاوية أن يحمل إلي الحسين كل عام الفي الف درهم، وأن يفضل بني هاشم في العطاء والصلات علي بني عبد شمس، وأن يفرق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل وأولاد من قتل معه بصفين الف الف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار ابجرد (5).
المادة الخامسة:
" علي أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله، في شامهم
(١) عمدة الطالب لابن المهنا (ص ٥٢).
(٢) المدائني - فيما يرويه عنه في شرح النهج - (ج ٤ ص ٨)، والبحار (ج ١٠ ص ١١٥)، والفصول المهمة لابن الصباغ وغيرهم.
(٣) أعيان الشيعة (ج ٤ ص ٤٣).
(٤) الأصفهاني في مقاتل الطالبيين (ص 26)، وشرح النهج (ج 4 ص 15) وقال غيرهما: " ان الحسن طلب إلي معاوية أن لا يشتم عليا، فلم يجبه إلي الكف عن شتمه، وأجابه علي أن لا يشتم عليا وهو يسمع ". قال ابن الأثير: " ثم لم يف به أيضا ".
(5) تجد هذه النصوص متفرقة في الإمامة والسياسة (ص 200) والطبري (ج 6 ص 92) وعلل الشرائع لابن بابويه (ص 81) وابن كثير (ج 8 ص 14) وغيرهم.
و (دار ابجرد) ولاية بفارس علي حدود الأهواز. وجرد أو جراد: هي البلد أو المدينة بالفارسية القديمة والروسية الحديثة، فتكون دار ابجرد بمعني (مدينة دار ابجرد).
(٢٦٠)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (1)، بنو هاشم (1)، القتل (2)، السب (1)، كتاب الفصول المهمة لإبن صباغ المالكي (1)، كتاب علل الشرايع للصدوق (1)، كتاب مقاتل الطالبيين لأبو الفرج الأصفهاني (1)، كتاب أعيان الشيعة للأمين (1)، إبن الأثير (1)

صفحه 165

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٦١
وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمن الأسود والأحمر، وان يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع أحدا بما مضي، وأن لا يأخذ أهل العراق باحنة (1) ".
" وعلي أمان أصحاب علي حيث كانوا، وأن لا ينال أحدا من شيعة علي بمكروه، وأن أصحاب علي وشيعته آمنون علي أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وان لا يتعقب عليهم شيئا، ولا يتعرض لاحد منهم بسوء، ويوصل إلي كل ذي حق حقه، وعلي ما أصاب أصحاب علي حيث كانوا.. (2) ".
" وعلي أن لا يبغي للحسن بن علي، ولا لأخيه الحسين، ولا لاحد من أهل بيت رسول الله، غائلة، سرا ولا جهرا، ولا يخيف أحدا منهم، في أفق من الآفاق (3) ".
الختام:
قال ابن قتيبة: " ثم كتب عبد الله بن عامر - يعني رسول معاوية إلي الحسن (ع) - إلي معاوية شروط الحسن كما أملاها عليه، فكتب معاوية جميع ذلك بخطه، وختمه بخاتمه، وبذل عليه العهود المؤكدة، والايمان المغلظة، وأشهد علي ذلك جميع رؤساء أهل الشام، ووجه به إلي عبد الله
(١) المصادر: مقاتل الطالبيين (ص ٢٦)، ابن أبي الحديد (ج ٤ ص ١٥)، البحار (ج ١٠ ص ١٠١ و ١١٥)، الدينوري (ص ٢٠٠)، ونقلنا كل فقرة من مصدرها حرفيا.
(٢) يتفق علي نقل كل فقرة أو فقرتين أو أكثر، من هذه الفقرات التي تتضمن الأمان لأصحاب علي عليه السلام وشيعته، كل من الطبري (ج ٦ ص ٩٧)، وابن الأثير (ج ٣ ص ١٦٦)، وأبي الفرج في المقاتل (ص ٢٦)، وشرح النهج (ج ٤ ص ١٥)، والبحار (ج ١٠ ص ١١٥)، وعلل الشرائع (ص ٨١)، والنصائح الكافية (ص ١٥٦).
(٣) البحار (ج ١٠ ص ١١٥)، والنصائح الكافية (ص 156 - ط. ل).
(٢٦١)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، دولة العراق (1)، عبد الله بن عامر (1)، الشام (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، كتاب علل الشرايع للصدوق (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، كتاب مقاتل الطالبيين لأبو الفرج الأصفهاني (1)، كتاب الكافئة للشيخ المفيد (2)، إبن الأثير (1)، الفرج (1)

صفحه 166

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٦٢
ابن عامر، فأوصله إلي الحسن (1) ".
وذكر غيره نص الصيغة التي كتبها معاوية في ختام المعاهدة فيما واثق الله عليه من الوفاء بها، بما لفظه بحرفه:
" وعلي معاوية بن أبي سفيان بذلك، عهد الله وميثاقه، وما أخذ الله علي أحد من خلقه بالوفاء، وبما أعطي الله من نفسه (2).
وكان ذلك في النصف من جمادي الأولي سنة 41 - علي أصح الروايات -.
(1) الإمامة والسياسة (ص 200).
(2) البحار (ج 10 ص 115).
دراسة النصوص البارزة في المعاهدة
(٢٦٢)
مفاتيح البحث: معاوية بن أبي سفيان لعنهما الله (1)، شهر جمادي الأولي (1)

صفحه 167

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٦٤
لتكن صيغة المعاهدة بما لولوت عليه من عناصر موضوعية لها أهميتها في الناحيتين الدينية والسياسية، شاهدا جديدا علي ما وفق له واضع بنودها من سمو النظر في الناحيتين جميعا.
ومن الحق ان نعترف للحسن بن علي عليهما السلام - علي ضوء ما أثر عنه من تدابير ودساتير هي خير ما تتوصل اليه اللباقة الدبلوماسية لمثل ظروفه من زمانه وأهل زمانه - بالقابليات السياسية الرائعة التي لو قدر لها أن تلي الحكم في ظرف غير هذا الظرف، وفي شعب أو بلاد رتيبة بحوافزها ودوافعها، لجاءت بصاحبها علي رأس القائمة من السياسيين المحنكين وحكام المسلمين اللامعين. ولن يكون الحرمان يوما من الأيام، ولا الفشل في ميدان من الميادين بدوافعه القائمة علي طبيعة الزمان، دليلا علي ضعف أو منفذا إلي نقد، ما دامت الشواهد علي بعد النظر وقوة التدبير وسمو الرأي، كثيرة متضافرة تكبر علي الريب وتنبو عن النقاش.
وللقابليات الشخصية مضاؤها الذي لا يعدم مجال العمل، مهما حد من تيارها الحرمان أو ثني من عنانها الفشل. وها هي ذي من لدن هذا الرجل العظيم تستجد - منذ الآن - ميدانها البكر، القائم علي الفكرة الجديدة القائمة علي صيانة حياة أمة بكاملها في حاضرها ومستقبلها، بما تضعه في هذه المعاهدة من خطوط، وبما تستقبل به خصومها من شروط.
وانك لتلمح من بلاغة المعاهدة بموادها الخمس، أن واضعها لم يعالج موضوعه جزافا، ولم يتناوله تفاريق وأجزاء، وانما وضع الفكرة وحدة متماسكة الاجزاء متناسقة الاتجاهات. وتوفر فيها علي تحري أقرب المحتملات إلي التنفيذ عمليا، في سبيل الاحتياط لثبوت حقه الشرعي، وفي
(٢٦٤)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الخمس (1)، الشهادة (1)

صفحه 168

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٦٥
سبيل صيانة مقامه ومقام أخيه، وتيسير شؤون أسرته وحفظهم، واعتصم فيها بالأمان لشيعته وشيعة أبيه وإنعاش أيتامهم، ليجزيهم بذلك علي ثباتهم معه ووفائهم مع أبيه، وليحتفظ بهم أمناء علي مبدئه وأنصارا مخلصين لتمكين مركزه ومركز أخيه، يوم يعود الحق إلي نصابه. وسلم فيها " الأمر " إلي معاوية مشروطا بالعمل علي سنة النبي (ص) وسيرة الخلفاء الصالحين، فقلص بذلك من نفوذ عدوه في " الأمر " بما عرضه - من وراء هذا الشرط - للمخالفات التي لا عد لها ولا حد لنقمتها، وهو إذ ذاك اعرف الناس بمعاوية وبقابلياته الخلقية تجاه هذا الشرط.
والمعاهدة - بعد - هي الصك الذي وقعه الفريقان ليسجلا علي أنفسهما الالتزام بما أعطي كل منها صاحبه وبما أخذ عليه. وهي هنا - علي الأكثر - قضية " ماديات " محدودة لج في تحصيلها أحد الفريقين لقاء " معنويات " لا حد لها استأثر بها الفريق الثاني.
فلم يهدف معاوية في صلحه مع الحسن (ع)، الا للاستيلاء علي الملك، ولم يرض الحسن بتسليم الملك لمعاوية الا ليصون مبادئه من الانقراض، وليحفظ شيعته من الإبادة، وليتأكد السبيل إلي استرجاع الحق المغصوب يوم موت معاوية.
ومن سداد الرأي أن لا نفهم مغزي هذه المعاهدة الا علي هذا الوجه.
ولكي نتبين صحة هذا التفسير لأهداف الفريقين يوم صلحهما، علينا ان نتحلل هنا في سبيل الكشف عن حقيقة تاريخية لها أهميتها، من التعبد بأقوال المؤرخين وبتصرفاتهم، وأن نرجع توا إلي التصريحات الشخصية التي فاه بها كل من المتعاقدين أنفسهما، فيما يمت إلي عناصر اتفاقيتهما هذه، أو فيما يلقي الضوء علي تفسير ما يفتقر إلي التفسير منها. ولعلنا سنصل من وراء هذا الأسلوب في طريقة الاستنتاج، إلي حل شئ كثير من الرموز التي استعصي حلها علي كثير من الأصدقاء في التاريخ.
(٢٦٥)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، الهدف (1)

صفحه 169

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٦٦
1 - تصريحات الفريقين:
ويكفينا الآن من تصريحات معاوية بعد الصلح، فيما يمت إلي معاهدته مع الحسن عليه السلام قوله فيما يرويه عنه كثير منهم ابن كثير (1): " رضينا بها ملكا "، وقوله في التمهيد لهذه المعاهدة - قبل الصلح - فيما كان يراسل به الحسن: " ولك أن لا يستولي عليك بالإساءة ولا تقضي دونك الأمور ولا تعصي في أمر (2) ".
ويكفينا من تصريحات الحسن (ع) ما قاله أكثر من مرة في سبيل افهام شيعته حيثيات صلحه مع معاوية: " ما تدرون ما فعلت والله للذي فعلت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس ". وما قاله مرة أخري لبشير الهمداني وهو أحد رؤساء شيعته في الكوفة: " ما أردت بمصالحتي الا ان أدفع عنكم القتل (3) "، وما قاله في خطابه - بعد الصلح -: " أيها الناس ان الله هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وقد سالمت معاوية، وان أدري لعله فتنة ومتاع إلي حين (4) ".
وليس في شئ من هذه التصريحات ولا في الكثير مما جري علي نسقها، سواء من معاوية أو من الحسن عليه السلام، ما يستدعينا إلي الالتواء في فهم العقد القائم بينهما، الذي لم يقصد منه الا الأهداف التي أشرنا إليها آنفا. فلمعاوية طموحه إلي الملك، وللحسن خطته في حماية الشيعة من القتل، وصيانة المبادئ الدينية التي هي خير مما طلعت عليه الشمس، والمسالمة إلي حين.
ولا بدع - بعد هذا - في تقرير هذه الحقيقة علي واقعها، وفي التنبيه إلي جنف كثير من المؤرخين فيما حرفوا من أهداف كل من المتعاقدين، وفيما أساءوا فهمه من نصوصهما. ولقد تري، ان المعاهدة نفسها
(1) في تاريخه (ج 6 ص 220).
(2) ابن أبي الحديد (ج 4 ص 13).
(3) الدينوري (ص 203).
(4) اليعقوبي (ج 2 ص 192).
(٢٦٦)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (3)، مدينة الكوفة (1)، صلح (يوم) الحديبية (3)، الهدف (1)، القتل (2)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)

صفحه 170

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٦٧
وتصريحات المتعاقدين أنفسهما، لم تنبس قط، بذكر بيعة ولا امامة ولا خلافة. فأين إذا، ما يدعيه غير واحد من هؤلاء المؤرخين وعلي رأسهم ابن قتيبة الدينوري، من أن الحسن بايع معاوية علي الإمامة!!..
وقبل الانتقال إلي مناقشة هذا الموضوع، أو مناقشة القائلين به نتقدم بتمهيد عابر عن نسبة الخلافة الاسلامية إلي معاوية بن أبي سفيان، وامتناع البيعة الشرعية لمثله، فنقول:
معاوية والخلافة:
لقد مر فيما ذكرناه بين أطواء المناسبات الآنفة، أن خلافة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في الاسلام لا ينبغي ان تكون الا في أقرب المسلمين شبها به في سائر مزاياه الفضلي، وانه ليس لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شئ في هذا الامر (كما قاله عمر)، وأن الخلافة بعد رسول الله ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضا (الحديث كما صححه أهل السنة)، وأن لا امامة الا بالنص والتعيين (كما عليه الشيعة والمعتزلة)، وأن الغلبة والقوة لا تجعل غير الجائز جائزا، فلا يصح أخذ الخلافة عنوة ولا فرضها علي المسلمين قسرا، وأن الذي يكون خليفة النبي (ص) لا يمكن أن ينقاد - لا ظاهرا ولا سرا - إلي مناقضته في أحكامه، فيلحق العهار بالنسب ويصلي الجمعة يوم الأربعاء وينقض عهد الله بعد ميثاقه.
ونزيد هنا: أن قادة الرأي في الأمة الاسلامية منذ عهد معاوية والي يوم الناس هذا، لم يفهموا من استيلاء معاوية علي الامر، معني الخلافة عن رسول الله (ص) بما في هذا اللفظ من معني، رغم الدعاوة الأموية النشيطة التي تجند لها الخلفاء الأميون من بني أمية ومن إليهم، زهاء الف شهر، هي مدة حكمهم في الاسلام، أنفقوا فيها الرشوات بسخاء، ووضعوا فيها الأحاديث والأقاصيص وفق الخطط والأهواء، ثم بقي معاوية - مع كل ذلك - ملكا دنيويا وخليفة اسميا لا أقل ولا أكثر.
دخل عليه - بعد أن استقر له الامر - سعد بن أبي وقاص فقال له:
(٢٦٧)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (3)، عمر بن سعد لعنه الله (1)، معاوية بن أبي سفيان لعنهما الله (1)، الدولة الأموية (1)، مدرسة المعتزلة (1)، بنو أمية (1)، الصّلاة (1)

صفحه 171

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٦٨
" السلام عليك أيها الملك " فضحك له معاوية وقال: " ما كان عليك يا أبا اسحق لو قلت: يا أمير المؤمنين "، قال: " أتقولها جذلان ضاحكا، والله ما أحب اني وليتها بما وليتها به (1) ".
وقال ابن عباس لأبي موسي الأشعري في كلام طويل: " وليس في معاوية خصلة تقربه من الخلافة (2) ".
وقال أبو هريرة في سبيل انكاره خلافة معاوية فيما يرويه عن رسول الله (ص): " الخلافة بالمدينة والملك بالشام (3) ".
وسئل سفينة مولي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم - فيما أخرجه ابن أبي شيبة - عن استحقاق بني أمية للخلافة، فقال: " كذب بنو الزرقاء بل هم ملوك من شر الملوك، وأول الملوك معاوية (4) ".
وأنكرت عائشة علي معاوية ادعاءه الخلافة وبلغه ذلك، فقال: " عجبا لعائشة تزعم اني في غير ما أنا أهله، وأن الذي أصبحت فيه ليس لي بحق، مالها ولهذا يغفر الله لها (5) ".
وحضر أبو بكرة (أخو زياد لامه) مجلس معاوية، فقال له: " حدثنا يا أبا بكرة "، فقال [فيما أخرجه ابن سعيد]: " اني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: الخلافة ثلاثون ثم يكون الملك قال عبد الرحمن بن أبي بكرة: " وكنت مع أبي فأمر معاوية فوجئ في أقفائنا حتي أخرجنا (6) ".
(١) ابن الأثير في الكامل (ج ٣ ص ١٦٣) والنصائح الكافية (ص ١٥٨).
(٢) المسعودي (هامش ابن الأثير ج ٦ ص ٧).
(٣) ابن كثير (ج ٦ ص ٣٢١).
(٤) النصائح الكافية (ص ١٥٣ - طبع إيران).
(٥) شرح النهج (ج ٤ ص ٥).
(٦) النصائح الكافية (ص 159 - ط. أ).
(٢٦٨)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (3)، عبد الله بن عباس (1)، أبو هريرة العجلي (1)، بنو أمية (1)، الشام (1)، الكذب، التكذيب (1)، السفينة (1)، دولة ايران (1)، كتاب الكافئة للشيخ المفيد (3)، إبن الأثير (2)

صفحه 172

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٦٩
وسأل معاوية صعصعة بن صوحان العبدي قائلا: " أي الخلفاء رأيتموني؟ "، فقال صعصعة: " أني يكون الخليفة من ملك الناس قهرا ودانهم كبرا، واستولي بأسباب الباطل كذبا ومكرا. أما والله ما لك في يوم بدر مضرب ولا مرمي، ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير، ممن أجلب علي رسول الله صلي الله عليه (وآله) وسلم. وانما أنت طليق وابن طليق أطلقكما رسول الله صلي الله عليه (وآله) وسلم. فأني تصلح الخلافة لطليق؟! (1) ".
ودخل عليه صديقه المغيرة بن شعبة، ثم انكفأ عنه وهو يقول لابنه: " اني جئت من أخبث الناس!! (2) ".
ولعنه عامله سمرة يوم عزله عن ولاية البصرة، فقال: " لعن الله معاوية والله لو أطعت الله كما أطعته لما عذبني أبدا (3) ".
وقال الحسن البصري: " أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه علي هذه الأمة بالسفهاء حتي ابتزها امرها (يعني الخلافة) بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زيادا وقد قال رسول الله صلي الله عليه (وآله) وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجرا، ويل له من حجر وأصحاب حجر، (مرتين) (4) ".
وأبي المعتزلة بيعة معاوية بعد الصلح، واعتزلوا الحسن ومعاوية جميعا، وبذلك سموا أنفسهم " المعتزلة " (5).
(1) المسعودي (هامش ابن الأثير ج 6 ص 7).
(2) مروج الذهب (ج 2 ص 342)، وابن أبي الحديد (ج 2 ص 357).
(3) ابن الأثير فيما يرويه عنه في النصائح (ص 9).
(4) الطبري (ج 6 ص 157 - الطبعة الأولي).
(5) كتاب التنبيه والرد علي أهل الأهواء والبدع: لمحمد بن أحمد الملطي المتوفي سنة 377 هجري (ص 28).
(٢٦٩)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (3)، مدرسة المعتزلة (2)، صلح (يوم) الحديبية (1)، المغيرة بن شعبة (1)، مدينة البصرة (1)، صعصعة بن صوحان (1)، الحسن البصري (1)، الباطل، الإبطال (1)، القتل (1)، اللبس (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، كتاب مروج الذهب للمسعودي (1)، إبن الأثير (2)، محمد بن أحمد (1)، الوفاة (1)

صفحه 173

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٧٠
ثم مشي موكب الزمان بتاريخ معاوية، فإذا به المثال الذي يضربه فقهاء المذاهب الأربعة، للسلطان الجائر (1)..
وإذا به الباغي الذي يجب قتاله برأي أبي حنيفة النعمان بن ثابت (2).
فأين الخلافة المزعومة، يا تري؟.
وجاء المعتضد العباسي، فنشر من جديد فعال معاوية وبوائقه الكبري وما قيل فيه، وما روي في شأنه. ودعا المسلمين إلي لعنه، في مرسوم ملكي أذيع علي الناس سنة 284 للهجرة (3).
وقال الغزالي بعد ذكره لخلافة الحسن بن علي (ع): " وأفضت الخلافة إلي قوم تولوها بغير استحقاق (4) ".
وكان أروع ما ذكره به القرن السادس، قول نقيب البصرة فيه: " وما معاوية الا كالدرهم الزائف (5) ".
وصرح ابن كثير بنفي الخلافة عن معاوية استنادا إلي الحديث، قال: " قد تقدم أن الخلافة بعده عليه السلام ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا، وقد انقضت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي، فأيام معاوية أول الملك (6) ".
وقال الدميري المتوفي سنة 808 هجري بعد ذكره مدة خلافة الحسن (ع): " وهي تكملة ما ذكره رسول الله صلي الله عليه (وآله) وسلم من مدة
(١) وذلك في اتفاقهم علي جواز تقلد القضاء من السلطان الجائر، استنادا إلي عمل الصحابة في تقلدهم القضاء من معاوية.
(٢) قال أبو حنيفة: " أتدرون لم يبغضنا أهل الشام؟ ". قالوا: " لا ". قال: " لأنا نعتقد أن لو حضرنا عسكر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، لكنا نعين عليا علي معاوية، ونقاتل معاوية لأجل علي، فلذلك لا يحبوننا ". يراجع النصائح الكافية لابن عقيل (ص ٣٦) فيما يرويه عن أبي شكور في كتابه " التمهيد في بيان التوحيد ".
(٣) نجد نص المرسوم علي طوله في تاريخ الطبري (ج ١١ ص ٣٥٥).
(٤) دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي (ج ٣ ص ٢٣١).
(٥) أبو جعفر النقيب (ص ٤١ - طبع بغداد).
(٦) البداية والنهاية (ج 8 ص 19).
(٢٧٠)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، السلطان الجائر (2)، النعمان بن ثابت (1)، مدينة البصرة (1)، الحسن بن علي (1)، الدميري (1)، القتل (1)، الوفاة (1)، كتاب البداية والنهاية (1)، كتاب الكافئة للشيخ المفيد (1)، علي بن أبي طالب (1)، كتاب تاريخ الطبري (1)، مدينة بغداد (1)، الشام (1)، البغض (1)، الجواز (1)

صفحه 174

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٧١
الخلافة، ثم تكون ملكا عضوضا ثم تكون جبروتا وفسادا في الأرض، وكان كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم (1) ".
وجاء محمد بن عقيل - أخيرا - فكتب كتابه الجليل " النصائح الكافية لمن يتولي معاوية " وهو بحق: القول الفصل في موضوع معاوية، وقد طبع الكتاب مرتين، فليراجع.
* * * وفي اباء التشريع الاسلامي مثل هذه الخلافة - أولا -.
وفي المخالفات الصلع التي ثبتت علي معاوية للنبي صلي الله عليه وآله وسلم - ثانيا -.
وفي انكار قادة الرأي المسلمين عليه - في مختلف العصور الاسلامية - ادعاءه الخلافة - ثالثا - ما يكفينا مؤنة البحث في موضوع (معاوية والخلافة).
وكذلك كان الحسن نفسه بعد تسليم الامر لمعاوية، صريحا في نفي الخلافة عنه، شأنه في ذلك شأن سائر القادة من المسلمين. فقال في خطابه يوم الاجتماع في الكوفة: " وان معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلا ولم أر نفسي لها أهلا، فكذب معاوية. نحن أولي الناس بالناس في كتاب الله عز وجل وعلي لسان نبيه ". وسيأتي ذكر خطابه هذا في [الفصل 18].
وقال في خطاب آخر له - بعد الصلح - وكان معاوية حاضرا: " وليس الخليفة من دان بالجور وعطل السنن واتخذ الدنيا أبا وأما، ولكن ذلك ملك أصاب ملكا يمتع به، وكان قد انقطع عنه، واستعجل لذته وبقيت عليه تبعته، فكان كما قال الله جل وعز: وان أدري لعله فتنة ومتاع إلي حين (2) ".
* * *
(1) حياة الحيوان (ج 1 ص 58).
(2) ذكرها البيهقي في المحاسن والمساوئ (ج 2 ص 63) وذكرها غيره.
(٢٧١)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، كتاب الكافئة للشيخ المفيد (1)، مدينة الكوفة (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، محمد بن عقيل (1)، كتاب حياة الحيوان للدميري (1)

صفحه 175

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٧٢
2 - حديث البيعة:
وجاء فيما يرويه الكليني رحمه الله (ص 61): " ان الحسن اشترط علي معاوية أن لا يسميه أمير المؤمنين ".
وجاء فيما يرويه ابن بابويه رحمه الله في العلل (ص 81)، ورووا غيره أيضا: " أن الحسن اشترط علي معاوية أن لا يقيم عنده شهادة ".
ولا أكثر مما تضمنته هاتان الروايتان تحفظا عن الاعتراف بصحة خلافة معاوية فضلا عن البيعة له. ولم يكن ثمة الا تسليم الملك الذي عبرت عنه المعاهدة " بتسليم الامر " وعبر عنه آخرون بتسليم الحكم.
اما قول الدينوري في " الإمامة والسياسة " أن الحسن بايع معاوية علي الإمامة، فهو القول الذي يصطدم قبل كل شئ بقابليات معاوية التي عرفنا قريبا النسبة بينها وبين الخلافة وصلاحية البيعة علي المسلمين، ويصطدم ثانيا بتصريحات الحسن في انكار خلافة معاوية. سواء في خطابيه الآنفين، أو في تحفظاته الواضحة في هاتين الروايتين.
وهكذا دل الدينوري فيما مر عليه من قضايا الحسن ومعاوية، علي تحيز واضح لا يليق بمؤرخ يعيش في القرن الثالث حيث لا معاوية ولا رشواته ولا دعاواته، ولكنها الدوافع العاطفية التي لم يسلم من تأثيرها كثير من مؤرخينا المسلمين … فقال مرة أخري: " ولم ير الحسن والحسين طول حياة معاوية منه سوءا في أنفسهما ولا مكروها! ". أقول: وأي سوء يصاب به انسان أعظم من قتله سما؟. وأي مكروه ينزل بانسان أفظع من اغتصاب عرشه ظلما؟. فأين مقاييس الدينوري بعد هذا يا تري؟
ونحن إذ أردنا هنا، ان نتعسف للمتسرعين إلي ذكر البيعة عذرا أو شبه عذر، حملناهم علي التأثر بالدعاوات الكثيرة التي كانت لا تزال آخذة بالإسماع، ولم يكن في التاريخ قضية أبرز من انتقال الحكم في الاسلام من سبط النبي نفسه، إلي طليق من الطلقاء المعروفين بتاريخهم القريب، ولذلك
(٢٧٢)
مفاتيح البحث: القتل (1)، الشهادة (1)

صفحه 176

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٧٣
فقد بلغ الكلف بالمنكرين علي الصلح حدا استساغوا به الاسترسال في ذيوله وحواشيه، فحوروا ما كان، وزوروا ما لم يكن. ومن هنا نسج الخيال حديث البيعة، وكان في اللغط بهذا الحديث - المصطنع - غرض قوي للقوة القائمة علي الحكم بعد حادثة الصلح، لأنه الدعامة التي تسند دعاواتهم باستحقاق الخلافة المزعومة، الامر الذي تصايح المسلمون بانكاره لهم وانكارهم له، منذ قال سفينة مولي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: " كذب بنو الزرقاء بل هم ملوك من شر الملوك وأول الملوك معاوية ".
ثم جاءت السطحية الساذجة التي تقمصها اخواننا المؤرخون فيما جمعوه أو فيما فرقوه من تاريخ الاسلام، فمروا علي هذه الاقصوصة المصطنعة كحقيقة واقعة، وكان القليل منهم من وقف عن الفضول في الكلام، وكان منهم من جاوز الحقيقة فخلط وخبط، حتي نسب إلي الحسن نفسه الاعتراف بالبيعة صريحا!. وكان منهم من أوقعه الخلط والخبط في فرية وضيعة لا تجمل بمروءة الرجل المسلم فيما يكتبه عن سبط من أسباط نبيه العظيم (ص)، فضلا عن نبوها المكشوف بأمانة التاريخ، فادعي انه باع الخلافة بالمال!!..
ولسنا الآن بصدد الرد علي تقولات الأفاكين.
ولكننا إذ نبرئ حديث الصلح بواقعه الأول الذي رضيه الفريقان من قضية البيعة المزعومة، لا نعتمد في التبرئة الا علي الفهم الذي يجب ان يفهمه المسلم من معني البيعة ومن معني الإمامة علي حقيقتهما - هذا أولا وأما ثانيا فلما مر عليك قريبا من روايات الحادثة، ومن تصريحات ذوي الشأن في الموضوع.
وما من حقيقة تتعاون علي تقريرها مثل هذه الأدلة فتبقي مجالا للشك.
وقديما اعتاد الناس أن يرجعوا في كشف الوقائع الماضية إلي أقوال المؤرخين القدامي، ممن عاصر تلك الوقائع أو جاء بعدها بقليل أو كثير من الزمن. وكان من الجمود علي هذه الطريقة ما أدي في الأجيال المتأخرة
(٢٧٣)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، صلح (يوم) الحديبية (3)، التاريخ الإسلامي (1)، الكذب، التكذيب (1)، السفينة (1)

صفحه 177

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٧٤
إلي مختلف الآراء وشتي التحزبات، بين المجتمع الواحد وفي الأفق الواحد والدين الواحد، ذلك لان مراجع هذا التاريخ أنفسهم، كانوا يعيشون تحت تأثير آراء وتحزبات لا معدي لهم عنها في مثل عصورهم. ومن الصعب جدا أن يطيق كاتب ما يومئذ التحلل - فيما يكتب - من المؤثرات العاطفية التي تشترك في تكوينه أدبيا وفي تدوير أعماله ومصالحه اجتماعيا. ومن هنا كان هذا القلق الملموس - المأسوف عليه - في كثير من موضوعات التاريخ الاسلامي.
ومن الحق أن نعتقد هنا، بأن قصة " البيعة " التي طعنت بها قضية الحسن في صلحه مع معاوية، انما كانت وليدة تلك المؤثرات التي كتب المؤرخون تحت تأثيرها تواريخهم، فرأوا من الدعاوات المغرضة لتسجيل هذه القصة كحقيقة واقعة ما يحفزهم إلي حسن الاحتذاء، تطوعا للمنفعة العاجلة أو جهلا بالواقع، ورأوا من التصريح " بتسليم الامر " في صلب المعاهدة ما يسوغ لهم - أو قل - ما ييسر لهم التوسع إلي ادعاء الاعتراف بالخلافة، ثم إلي ادعاء الانقياد بالبيعة!!. وخفي عليهم ان الخلافة - بما هي منصب الهي - لا يمكن ان تنقاد إلي مساومة أو تسليم، ولا يمكن ان تمسها الظروف الزمنية في " صلح " أو " تحكيم ".
ولكي نزداد بصيرة في تفهم معني " تسليم الامر " الوارد في المادة الأولي من معاهدة الصلح، علينا أن نرجع إلي طريقتنا في استنتاج الحد بين هزل المؤرخين فندرس علي المتعاقدين أنفسهما تفسير هذا المجمل من حيث التقييد والاطلاق.
3 - تسليم الامر:
علمنا - مما تقدم - أن معاوية قال لابنه يزيد، وهو يشير إلي أهل البيت عليهم السلام: " ان الحق حقهم ".
وعلمنا انه كتب إلي الحسن في التمهيد للصلح " ولا تقضي دونك الأمور ولا تعصي في أمر ".
(٢٧٤)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، صلح (يوم) الحديبية (3)، الجهل (1)، الصّلب (1)

صفحه 178

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٧٥
وعلمنا أنه قال بعد الصلح: " رضينا بها ملكا ".
وعلمنا أنه خطب علي منبر الكوفة يوم وصوله إليها. فقال: " اني لم أقاتلكم لتصلوا ولا لتزكوا.. وانما قاتلتكم لأتأمر عليكم ".
وعلمنا أن الحسن بن علي أنكر عليه الخلافة وجاها، فسكت ولم يرد عليه.
فلنعلم إذا، بأن معاوية حين رضيها ملكا نفاها عن نفسه خلافة، وحين قال: " لم أقاتلكم لتصلوا ولا لتزكوا.. " دل علي أنه ليس خليفة دين، ولكنه ملك دنيا لا هم له في صلاة ولا زكاة، وانما كل همه في التأمر علي الناس. وهو حين يقول للحسن: " لا تقضي دونك الأمور " ويقول لابنه: " ان الحق حقهم "، يعترف للحسن بالمقام الاعلي وبالسلطة التي لا تعصي في أمر. وما ذلك الا مقام الخلافة فحسب. وكان لابد لمعاوية أن يسكت - والحال هذه - حين يصارحه الحسن بانكار خلافته، ويكذبه علي ادعائها بغير استحقاق.
فأين من هذا، تسليم الخلافة الذي فسروا به تسليم الامر؟.
وشئ آخر، قد يكون في مغزاه أدق دلالة علي اعتراف معاوية ببراءته من استحقاق الخلافة، وذلك هو ضحكته المخذولة لسعد بن أبي وقاص يوم دخل عليه وقال له: " السلام عليك أيها الملك "، ولم يقل يا أمير المؤمنين، فقد كانت هذه الضحكة بلغتها المبطنة، صريحة بالاعتراف بالخطأ إذ يريد أن يأخذ الخلافة لقبا من غنائم الحرب، لا واسطة بين المسلمين ونبيهم (ص)، وبهذا استحق من سعد، وهو الرجل الذي لا تغلبه مداورات معاوية، أن يقول له: " والله ما أحب أني وليتها بما وليتها به "، يعني أنه كان يترفع عنها لقبا ينبت علي الدماء المحرمة، والفتن السود، والعهود الخائسة.
وتري - علي هذا - أن سعدا لم يفهم من تسليم الامر الا تسليم الملك وهو ما يجب أن يفهمه كل من فهم لغة القرآن في الخلافة، أو لغة الفريقين
(٢٧٥)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، عمر بن سعد لعنه الله (1)، مدينة الكوفة (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، الحسن بن علي (1)، القرآن الكريم (1)، الحرب (1)، الصّلاة (1)، الزكاة (1)

صفحه 179

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٧٦
المتعاقدين في المعاهدة. ولما مر البحاثة الاسلامي الجليل السيد أمير علي الهندي رحمه الله، علي ذكر هذا الصلح عبر عنه " بالتنازل عن الحكم (1) ".
وكان فيما قاله الحسن عليه السلام في سبيل التعبير عن صلحه مع معاوية جوابا لبعضهم: " لا تقل ذلك يا أبا عامر، لم أذل المؤمنين ولكني كرهت أن أقتلهم علي الملك (2) ".
وقال لآخر: " أضرب هؤلاء بعضهم ببعض في ملك من ملك الدنيا لا حاجة لي به (3) ".
وهكذا نجد الفريقين - الحسن ومعاوية - يتفقان علي أن الحرب التي زحفا إليها بجيوشهما، انما كانت حربا علي الملك. ومعني ذلك أن الصلح الذي اتفقا عليه في معاهدتهما، انما كان صلحا علي الملك، لأنهما يصطلحان اليوم علي ما تنازعا عليه أمس. وليس في وجهة النظر القائمة بين الاثنين في خلال هذه التصريحات ولا يوم صلحهما، ذكر للخلافة تسلما ولا تسليما.
ثم نجدهما يتفقان في هذه التصريحات، علي ايثار أحدهما دون الآخر بالمركز الذي لا تقضي دونه الأمور.. وهو المركز الذي سوغ للحسن أن يقول عن معاوية كما لو قلده عملا من اعماله وهو إذ ذاك حاضر مجلسه: " انه أعرف بشأنه وأشكر لما وليناه هذا الامر (4) " يعني امر الملك.
أقول: وكم هو الفرق بين هذا المركز وبين ما توهمه المتحذلقون من حديث البيعة أو من تفسير تسليم الامر بتسليم الخلافة؟.
وكانت فيما نظن غلطة سبق إليها كاتب عن قصد، ثم أخذها عنه
(1) مختصر تاريخ العرب والتمدن الاسلامي (ص 61).
(2) ابن كثير (ج 8 ص 19)، وأعيان الشيعة (ج 4 ص 52)، والمستدرك للحاكم.
(3) الإصابة (ج 2 ص 12).
(4) المحاسن والمساوئ للبيهقي (ج 1 ص 64).
(٢٧٦)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، صلح (يوم) الحديبية (2)، الحرب (1)، كتاب المستدرك علي الصحيحين للحاكم النيسابوري (1)، كتاب أعيان الشيعة للأمين (1)

صفحه 180

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٧٧
كتاب عن غير قصد، واندست علي مثل هذا الأسلوب أخطاء كثيرة في التاريخ، شوهت من حقائقه وبدلت من روعته وضاعفت من جهد الباحثين فيه، ثم إذا أنت عنيت بموضوعك فدققت مراجعه، رأيته لا يرجع الا إلي أصل واحد، ثم إذا محصت الأصل رأيته لا يرجع إلي أصل!.
* * * هذا، واما الخلافة الاسمية، فلا خلاف فيها علي معاوية ولا علي أحد من هؤلاء المتنفذين الذين ادعوها لأنفسهم، أو غزوها بسلاحهم، أو ورثوها من الغزاة والمدعين.
وإذا صح في عرف المجتمع الذي بايع معاوية، أو بايع أحد هؤلاء، ان ينتزع من الادعاء أو قوة السلاح " خلافة " فلا مشاحة في الاصطلاح.
وليكن معاوية - علي هذا - خليفة النفوذ والسلطان، وليبق الحسن بن علي خليفة النبي وشريك القرآن.
وليكن ما ورد في بعض النصوص - علي تقدير صحة السند والامن من التحريف - تطبيقا عمليا لاستعمال الكلمة في مصطلحها الجديد!.
4 - مصير الامر بعد معاوية ولم يعهد في كتب معاوية إلي الحسن فيما كان يراسله به في سبيل التمهيد للصلح، كتاب يغفل تعيين المصير الذي كان يجب أن يرجع اليه الامر من بعد معاوية. وهو إذ يطلب من الحسن في هذه الرسائل تسلم الامر محدودا بحياته، يقول في بعضها: " ولك الامر من بعدي (1) " ويقول في بعضها الآخر: " وأنت أولي الناس بها (2) ".
وهكذا جاء النص في المعاهدة.
وهكذا فهم الناس الصلح، انتزاعا للسلطة محدودا بعمر معاوية
(1) و (2) ابن أبي الحديد في شرح النهج (ج 4 ص 13).
(٢٧٧)
مفاتيح البحث: صلح (يوم) الحديبية (2)، الحسن بن علي (1)، القرآن الكريم (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)

صفحه 181

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٧٨
الذي كان يكبر الحسن زهاء ثلاثة عقود، فكان من المتوقع القريب أن يسبقه إلي الموت، وأن يعود الحق إلي نصابه، والحسن بعد في أوائل كهولته أو أواخر شبابه، لولا أن للخطط الجهنمية حسابا لا يخضع للمقاييس!!.
وظلت المادة الصريحة باستحقاق الحسن الامر بعد معاوية، أبرز مواد المعاهدة في المجتمعات الاسلامية، وأكثرها ذيوعا بين الناس، مدي عقد كامل من السنين. ثم طغت عليها الدعاوات العدوة، وأخذها حملة الاخبار إلي مصانعهم الجديدة، فبدلوا من معالمها وغيروا من حقائقها، وصاغها بعضهم بقوله: " ليس لمعاوية أن يعهد إلي أحد ". وتلطف آخر بها من عنده فقال: " ويكون الامر بعده شوري بين المسلمين ". - أما الصادقون فرووها علي حقيقتها. وفات المؤرخين المحترفين، أن صرف الحقيقة عن واقعها في هذا النص، لن يجديهم في صرف الواقع عن حقيقته في مرحلة التطبيق، فلم يكن من المحتمل عادة، أن يتجاوز المسلمون - في شوراهم أو في غير شوراهم - ابن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، لو قدر له أن يكون حيا يوم يموت معاوية، وقدر للمسلمين أن يختاروا الخليفة أحرارا، أو يتشاوروا أمرهم مختارين. فالروايتان - الصحيحة والمحرفة - بل الصور الثلاث المزعومة للرواية الواحدة، تتحد عمليا ما دام الحسن حيا.
إذا، فلماذا التهرب من أمانة التاريخ الا أن يكون تعاونا رخيصا مع السلطة القائمة علي التمهيد لبيعة يزيد؟!!.
وخيل للمؤرخ البارع الذي الغي التعيين الصريح، ونقل الامر إلي الشوري، أنه أحسن اتخاذ الأسلوب للوضع والتحريف، وخفي عليه، أنه لم يزد فيما هدف اليه علي صاحبه الذي ألغاهما معا، وذلك لان الشوري التي عناها لا تكون في انتخاب الخليفة، وانما تكون في الشؤون التي يديرها الخليفة أو رئيس المسلمين من أمورهم، وهكذا كان تشريعها الأول يوم
(٢٧٨)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، الموت (2)

صفحه 182

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٧٩
قال سبحانه " وشاورهم في الامر "، وعلي ذلك مدحهم بقوله تعالي " وأمرهم شوري بينهم ".
والآية في نفي الرئاسات التي جعلها الناس، أصرح منها في فرضها علي الناس.
وليس فيما توهمه هذا المؤرخ أو توهمه آخرون، من الاستناد إلي الكتاب في قضية الانتخاب الا الوهم - ولذلك فان عائشة لما أرادت الدعوة إلي الشوري لم تنسبها إلي الله عز وجل وانما نسبتها إلي عمر بن الخطاب ولو وجدت في نسبتها إلي الله سبيلا لما تأخرت عنه لأنه كان - إذ ذاك - أدعم لحجتها، فقالت يوم دخولها البصرة: " ومن الرأي ان تنظروا إلي قتلة عثمان فيقتلوا به، ثم يرد هذا الامر شوري علي ما جعله عمر بن الخطاب (1) ".
وأخيرا، فان القرائن القطعية الكثيرة، لا تقبل لهذا النص - موضوع البحث - الا الرواية الصريحة التي ذكرناها في المادة الثانية من صورة المعاهدة.
أما أولا - فلما دلت عليه كتب معاوية إلي الحسن (ع) - كما أشير اليه قريبا -.
واما ثانيا - فلأنها الأنسب بشروط يضعها الحسن نفسه - كما نبهنا اليه في حديث (الصحيفة البيضاء).
واما ثالثا - فلأن رواتها أكثر، وروايتها أشهر.
واما رابعا - فلما أشرنا اليه من ذيوع المادة الثانية بنصها الصريح مدة حياة الحسن عليه السلام، حتي لقد كانت الشاهد في كثير من الخطب والأحاديث.
فنري سليمان بن صرد يشير إليها فيما يعرضه للحسن
(1) دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي (ج 4 ص 535).
(٢٧٩)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (2)، الخليفة عمر بن الخطاب (2)، سليمان بن صرد الخزاعي (1)، مدينة البصرة (1)، القتل (1)

صفحه 183

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٨٠
بعد الصلح. ونري جارية بن قدامة يذكر لمعاوية حق الحسن بالأمر بعده كقرار معروف. ونري الأحنف بن قيس يرسله ارسال المسلمات، في خطبته التي يرد بها علي البيعة، ليزيد، وهو إذ ذاك يخاطب معاوية نفسه في حفل حاشد.
قال: " وقد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة، ولم تظهر عليه مقصا. ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت، ليكون له الامر من بعدك، فان تف، فأنت أهل الوفاء، وان تغدر تظلم. والله ان وراء الحسن خيولا جيادا وأذرعا شدادا وسيوفا حدادا، ان تدن له شبرا من غدر، تجد وراءه باعا من نصر. وانك تعلم من أهل العراق، ما أحبوك منذ أبغضوك.. (1) ".
إلي كثير من الشواهد الأخري التي يزهدنا في استيعابها رغبتنا في الاختصار.
* * * 5 - بقية المواد ولقد تري - إلي هنا - بأن دراستنا للنقاط البارزة في مواد المعاهدة لم تتجاوز المادتين - الأولي والثانية -.
اما المادة الثالثة، فقد سبق في (الفصل: 14) مناقشة معاوية في موضوعها كما يجب - فليراجع -، وسبق في الكلام علي حديث الصحيفة البيضاء التي أرسلها معاوية إلي الحسن عليه السلام، ليكتب عليها ما يشاء من شروط، (في الفصل: 16) أن حديث هذه الصحيفة هو القرينة علي ترجيح ما يكون من روايات المعاهدة أقرب إلي صالح الحسن منه إلي صالح خصومه، وعلي هذا فالمادة الثالثة لا تعني الا الاطلاق في منع معاوية من شتم
(1) تجد تمام هذه الخطبة وذكر مصادرها في (الفصل 20) عند ذكرنا طريقة التمهيد لبيعة يزيد.
(٢٨٠)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، دولة العراق (2)، صلح (يوم) الحديبية (1)، جارية بن قدامة (1)، الأحنف بن قيس (1)، الحسن بن علي (1)، المنع (1)

صفحه 184

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٨١
أمير المؤمنين علي عليه السلام، سواء حضر الحسن أو غاب. ولا يؤخذ بما ألحقه بها بعض المؤرخين من اشتراط الامتناع عن السب بحال حضور الحسن واستماعه (1)، ولا هو مما يتمشي مع روح الصلح إذا كان الفريقان في صدد صلح حقيقي وتفاهم دائم.
وأما المادة الرابعة، فلم تكن في حقيقتها الا استثناء متصلا من الماديات التي اشترطت المعاهدة تسليمها لمعاوية. ومعني ذلك أن المعاهدة سلمت لمعاوية ما أراد من الملك عدا المبالغ المنوه عنها في هذه المادة، فاستأثر الحسن بها لنفسه ولأخيه ولشيعته، وكانت من حقوقه التي جعل له الله تعالي التصرف فيها. واختار من الخراج الحلال - فيما استثني - أبعده عن الشبهات من الوجهة الشرعية، وهو خراج دار ابجرد (2).
أقول:
وأين هذا التفسير مما تطاول به بعضهم من التحامل الجرئ والافتئات البذيء، علي مقام الامام الحسن بن علي عليهما السلام، حين أساء فهم هذه المادة فخلق من هذه الأموال ثمنا للخلافة ومن الحسن بائعا ومن معاوية مشتريا. وان الأولي بهذا الفهم البليد - الذي هان عليه أن يتصور الثمن والمثمن كليهما من البائع، ثم يدعي مع ذلك وقوع البيع - ان لا يتعرض فيما يكتب للموضوعات التي تكشف لقارئه بلادته، فيسئ إلي نفسه قبل أن يسيء إلي موضوعه.
(1) قاله ابن الأثير (ج 3 ص 162)، وقال بعده: " ثم لم يف به أيضا!! ".
(2) قال في الكامل (ج 3 ص 162): " وأما خراج دار ابجرد فان أهل البصرة منعوه، وقالوا هو فيئنا لا نعطيه أحدا ". قال: " وكان منعهم بأمر معاوية أيضا!! ".
(٢٨١)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (2)، صلح (يوم) الحديبية (2)، البيع (1)، السب (1)، إبن الأثير (1)، مدينة البصرة (1)، المنع (1)

صفحه 185

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٨٢
وقد مر في معني الخلافة (لذاتها)، وفي قابليات معاوية للخلافة ما يكفينا القول باستحالة هذا الهذر، ولا نعيد.
واما المادة الخامسة، فللفصول القريبة الآتية ما تحمله عنها:
الاجتماع في الكوفة
(٢٨٢)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (1)

صفحه 186

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٨٤
وكان طبيعيا أن يتفق الفريقان بعد توقيعهما الصلح، علي مكان يلتقيان فيه علي سلام، ليكون اجتماعهما في مكان واحد تطبيقا عمليا للصلح الذي يشهده التاريخ، وليعترف كل منهما علي مسمع من الناس بما أعطي صاحبه من نفسه وبما يلتزم له من الوفاء بعهوده. واختارا الكوفة، فأقفلا إليها، وأقفل معهما سيول من الناس غصت بهم العاصمة الكبري، وهم - علي الأكثر - أجناد الفريقين، تركوا معسكريهما وخفوا لليوم التاريخي الذي كتب علي طالع الكوفة النحس أن تشهده راغمة أو راغبة. وللمرة الأولي تزخر عاصمة العراق بعشرات الألوف من أجناد الشام الحمر - مسلمين ومسيحيين -. ولهذين المعسكرين - الكوفة والشام - سوابقهما التي لا تعهد الهوادة في سلسلة العداوات التاريخية والوقائع الدامية، منذ حوادث سلمان الباهلي وحبيب بن مسلمة الفهري (علي عهد عثمان بن عفان) والي يوم الصلح هذا. فما ظنك يومئذ بحال الجندي الكوفي الثابت علي الوفاء، الذي قدر له ان يلقي سلاحه تحت موجة طاغية من مكاء الجنود الشاميين وتصديتهم التي عجت بها أروقة المسجد الجامع، الذي كان أسس علي تقوي من الله.
وكانت الفجيعة القاتلة للفئة المخلصة من أنصار أهل البيت عليهم السلام، وللذين جهلوا من هؤلاء الأنصار أهداف الحسن في الصلح، أو جهلوا حقيقة الوضع بدوافعه التي اقتادت الحسن إلي الصلح. أما الأكثرية الخائنة فقد مزقت الستار في يومها المنشود، وظهرت علي المسرح باللون الذي لا تشتبه فيه الابصار، وشوهد بين جماهير الشاميين زمر من الكوفيين يساهمونهم الفرح المغبون في مهرجاناتهم الباردة، وانتصارهم
(٢٨٤)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الخليفة عثمان بن عفان (1)، دولة العراق (1)، مدينة الكوفة (3)، صلح (يوم) الحديبية (5)، سلمان الباهلي (1)، الشام (2)، الشهادة (1)، الهدف (1)، السجود (1)

صفحه 187

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٨٥
المغلوب!!.
ونودي في الناس إلي المسجد الجامع، ليستمعوا هناك إلي الخطيبين الموقعين علي معاهدة الصلح.
وكان لابد لمعاوية أن يستبق إلي المنبر، فسبق اليه وجلس عليه (1)، وخطب في الناس خطبته الطويلة التي لم ترو المصادر منها الا فقراتها البارزة فحسب.
منها (علي رواية اليعقوبي):
" أما بعد ذلكم، فإنه لم تختلف أمة بعد نبيها، الا غلب باطلها حقها!! " - قال: " وانتبه معاوية لما وقع فيه. فقال: الا ما كان من هذه الأمة، فان حقها غلب باطلها (2)!! ".
ومنها (علي رواية المدائني):
" يا أهل الكوفة، أترونني قاتلتكم علي الصلاة والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون؟، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وألي رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون!. ألا ان كل دم أصيب في هذه الفتنة مطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين!!. ولا يصلح الناس الا ثلاث: اخراج العطاء عند محله، وأقفال الجنود لوقتها، وغزو العدو في داره، فان لم تغزوهم غزوكم ".
وروي أبو الفرج الأصفهاني عن حبيب بن أبي ثابت مسندا، أنه ذكر في هذه الخطبة عليا فنال منه، ثم نال من الحسن (3)!!.
(1) قال جابر بن سمرة: " ما رأيت رسول الله يخطب الا وهو قائم، فمن حدثك أنه خطب وهو جالس فكذبه " رواه الجزائري في آيات الاحكام (ص 75)، والظاهر أن معاوية أول من خطب وهو جالس.
(2) تاريخ اليعقوبي (ج 2 ص 192).
(3) شرح النهج (ج 4 ص 16).
(٢٨٥)
مفاتيح البحث: أبو الفرج الإصبهاني (الإصفهاني) (1)، مدينة الكوفة (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، حبيب بن أبي ثابت (1)، الحج (1)، السجود (1)، الغلّ (2)، الصّلاة (1)، جابر بن سمرة (1)

صفحه 188

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٨٦
وزاد أبو اسحق السبيعي (1) فيما رواه من خطبة معاوية قوله: " الا وان كل شئ أعطيت الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به!! ".
قال أبو اسحق: " وكان والله غدارا (2) ".
ثم تطلع الناس، فإذا هم بابن رسول الله الذي كان أشبههم به خلقا وخلقا وهيبة وسؤددا، يخطو من ناحية محراب أبيه في المسجد العظيم ليصعد علي منبره. وفي غوغاء الناس ولع بالفضول لا يصبر عن استقراء الدقائق من شؤون الكبراء، فذكروا لجلجة معاوية في خطبته، ورباطة الجأش الموفورة في الحسن وقد استوي علي أعواده، وأخذ يستعرض الجموع الزاخرة التي كانت تضغط المسجد الرحب علي سعته، وكلها - إذ ذاك - أسماع مرهفة لا هم لها الا أن تعي ما يرد به علي معاوية، فيما خرج به عن موضوع الصلح، فنقض العهود وأهدر الدماء وتطاول علي الأولياء. وكان الحسن بن علي (ع) أسرع الناس بديهة بالقول، وأبرع الخطباء المفوهين علي تلوين الموضوعات، فخطب في هذا الموقف الدقيق، خطبته البليغة الطويلة التي جاءت من أروع الوثائق عن الوضع القائم بين الناس وبين أهل البيت عليهم السلام بعد وفاة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، ووعظ ونصح ودعا المسلمين - في أولها - إلي المحبة والرضا والاجتماع، وذكرهم - في أواسطها - مواقف أهله بل مواقف الأنبياء، ثم رد علي معاوية - في آخرها - دون أن يناله بسب أو شتم، ولكنه كان بأسلوبه البليغ، أوجع شاتم وساب.
قال: " الحمد لله كلما حمده حامد، وأشهد ان لا اله الا الله كلما شهد له شاهد. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدي، وائتمنه علي
(١) هو عمرو بن عبد الله الهمداني التابعي، الذي يقال عنه أنه صلي أربعين سنة صلاة الغداة بوضوء العتمة، وكان يختم القرآن في كل ليلة، ولم يكن في زمانه أعبد منه ولا أوثق في الحديث.
(2) شرح النهج (ج 4 ص 16).
(٢٨٦)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، الحسن بن علي (1)، الشهادة (2)، الصبر (1)، السجود (2)، الضغط (1)، الوفاة (1)، عمرو بن عبد الله (1)، القرآن الكريم (1)، الصّلاة (1)، الوضوء (1)

صفحه 189

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٨٧
الوحي، صلي الله عليه وآله وسلم. أما بعد، فوالله اني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنه، وأنا انصح خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملا علي مسلم ضغينة، ولا مريدا له سوءا ولا غائلة. ألا وإن ما تكرهون في الجماعة، خير لكم مما تحبون في الفرقة، الا واني ناظر لكم خيرا من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردوا علي رأيي. غفر الله لي ولكم، وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا (1) ".
ثم قال: " أيها الناس، ان الله هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وان لهذا الامر مدة، والدنيا دول. قال الله عز وجل لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم: قل ان أدري أقريب أم بعيد ما توعدون. انه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون. وان أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلي حين (2) ".
ثم قال: ".. وان معاوية زعم لكم أني رأيته للخلافة أهلا، ولم أر نفسي لها أهلا، فكذب معاوية. نحن أولي الناس بالناس في كتاب الله عز وجل وعلي لسان نبيه. ولم نزل - أهل البيت - مظلومين منذ قبض الله نبيه. فالله بيننا وبين من ظلمنا، وتوثب علي رقابنا، وحمل الناس علينا، ومنعنا سهمنا من الفيء، ومنع أمنا ما جعل لها رسول الله. واقسم بالله لو أن الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله، لأعطتهم السماء قطرها والأرض بركتها، ولما طمعت فيها يا معاوية.. فلما خرجت من معدنها، تنازعتها قريش بينها، فطمع فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء، أنت وأصحابك. وقد قال رسول الله: ما ولت أمة أمرها رجلا وفيهم من هو أعلم منه، الا لم يزل أمرهم يذهب سفالا، حتي يرجعوا إلي ما تركوا. فقد ترك بنو
(1) الارشاد للشيخ المفيد (ص 169 - طبع إيران).
(2) المسعودي (هامش ابن الأثير ج 6 ص 61 - 62)، وابن كثير (ج 8 ص 18)، والطبري (ج 6 ص 93).
(٢٨٧)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، الجهر والإخفات (1)، الجماعة (1)، كتاب الإرشاد للشيخ المفيد (1)، دولة ايران (1)، إبن الأثير (1)

صفحه 190

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٨٨
إسرائيل هارون وهم يعلمون أنه خليفة موسي فيهم، واتبعوا السامري، وتركت هذه الأمة أبي وبايعوا غيره وقد سمعوا رسول الله يقول له: أنت مني بمنزلة هارون من موسي الا النبوة، وقد رأوا رسول الله نصب أبي يوم غدير خم، وأمرهم ان يبلغ أمره الشاهد الغائب. وهرب رسول الله من قومه وهو يدعوهم إلي الله، حتي دخل الغار، ولو أنه وجد أعوانا لما هرب، كف أبي يده حين ناشدهم، واستغاث فلم يغث. فجعل الله هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه، وجعل الله النبي في سعة حين دخل الغار ولم يجد أعوانا. وكذلك أبي وأنا في سعة من الله، حين خذلتنا هذه الأمة. وانما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضا (1) ".
ثم قال:
" فوالذي بعث محمدا بالحق، لا ينتقص من حقنا - أهل البيت - أحد الا نقصه الله من عمله، ولا تكون علينا دولة الا وتكون لنا العاقبة، ولتعلمن نبأه بعد حين (2) ".
ثم دار بوجهه إلي معاوية ثانيا، ليرد عليه نيله من أبيه، فقال - وما أروع ما قال -:
" أيها الذاكر عليا! أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله وجدك عتبة بن ربيعة، وجدتي خديجة وجدتك فتيلة - فلعن الله أخملنا ذكرا، وألأمنا حسبا وشرنا قديما وحديثا، وأقدمنا كفرا ونفاقا!! ".
قال الراوي: " فقال طوائف من أهل المسجد: آمين. قال الفضل بن الحسن: قال يحيي بن معين: وانا أقول آمين. قال أبو الفرج قال أبو عبيد قال الفضل: وانا أقول آمين. ويقول علي بن الحسين الأصفهاني
(1) البحار (ج 10 ص 114).
(2) المسعودي (هامش ابن الأثير ج 6 ص 61 - 62).
(٢٨٨)
مفاتيح البحث: علي بن الحسين (1)، الفضل بن الحسن (1)، غدير خم (1)، الفرج (1)، الوسعة (3)، السجود (1)، إبن الأثير (1)

صفحه 191

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٨٩
(أبو الفرج): آمين قال ابن أبي الحديد: قلت ويقول عبد الحميد بن أبي الحديد مصنف هذا الكتاب (يعني شرح النهج): آمين (1) ".
أقول: ونحن بدورنا نقول: آمين.
وهذه الخطبة هي الوحيدة في تاريخ الخطابات العالمية، التي حظيت بهتاف الأجيال علي طول التاريخ.
وكذلك قول الحق، فإنه لا ينفك يعلو صعدا ولا يعلي عليه.
* * * وتجهز الحسن - بعد ذلك - للشخوص إلي المدينة، وجاءه من سراة شيعته المسيب بن نجية الفزاري وظبيان بن عمارة التيمي ليودعاه، فقال الحسن: " الحمد لله الغالب علي أمره. لو أجمع الخلق جميعا علي أن لا يكون ما هو كائن ما استطاعوا ". وتكلم المسيب وعرض اخلاصه الصميم لأهل البيت (ع). فقال له الحسين (ع): " يا مسيب نحن نعلم أنك تحبنا " وقال الحسن (ع): " سمعت أبي يقول سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: من أحب قوما كان معهم ". ثم عرض له المسيب وظبيان بالرجوع، فقال: " ليس إلي ذلك سبيل ". فلما كان من غد خرج من الكوفة، وشيعه الناس بالبكاء!! ولم تكن اقامته فيها بعد الصلح الا أياما قلائل.
فلما صار بدير هند (2) (الحيرة) نظر إلي الكوفة وقال:
ولا عن قلي فارقت دار معاشري * * * هم المانعون حوزتي وذماري (3) أقول: وأي نفس ملائكية هذه التي لقيت من نشوز هذه الخاصرة ومن بوائقها ما لقيت، ثم هي تودعها بهذا البيت من الشعر، فلا تذكر من
(1) شرح النهج (ج 4 ص 16).
(2) هند هذه، هي بنت النعمان بن المنذر، وكانت مترهبة في ديرها هذا بالحيرة.
(3) يراجع عما سبق شرح النهج (ج 4 ص 6).
(٢٨٩)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (2)، مدينة الكوفة (2)، صلح (يوم) الحديبية (1)، ظبيان بن عمارة (1)، عبد الحميد (1)، الفرج (1)

صفحه 192

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٩٠
تاريخها الطويل العريض، الا وفاء الأوفياء " المانعين الحوزة والذمار " وهم الذين منعوا عنه من أراده في المدائن، والذين ثبتوا علي طاعته يوم العسرة في مسكن، فكانوا اخوان الصدق وخيرة الأنصار، علي قلتهم.
ثم سار الموكب الفخم الذي كان يقل علي رواحله، بقية الله في الأرض، وتراث رسول الله (ص) في الاسلام، وقد ضاقت بهم الكوفة أو ضاقوا بها، فيمموا شطر وطنهم الأول، ليمتنعوا هناك بجوار قبر جدهم الأعظم من مكاره الدهر الخوان.
وصب الله علي الكوفة بعد خروج آل محمد منها، الطاعون الجارف، فكان عقوبتها العاجلة علي موقفها من هؤلاء البررة الميامين. وهرب منها واليها الأموي [المغيرة بن شعبة] خوف الطاعون، ثم عاد إليها فطعن به فمات (1).
(1) ارجع إلي المسعودي علي هامش ابن الأثير (ج 6 ص 97).
الميدان الجديد
(٢٩٠)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، مدينة الكوفة (2)، القبر (1)، الصدق (1)، الخوف (1)، إبن الأثير (1)

صفحه 193

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٩٢
لعلك تتفق معي علي أن من أدق المقاييس التي توزن بها شخصيات الرجال فيما يضطربون فيه من محاولات، هو موقفهم من شروطهم التي يأخذونها علي أنفسهم راغبين مختارين. وما من انسان معني بإنسانيته يعطي الشرط من نفسه، الا وانه ليعلم ما يستوبله في شخصيته وفي سمعته وفي ذمامه إذا هو حنث في شرطه أو رجع عن وعده أو نقض ميثاقه الذي واثق علي الوفاء به. ومن السهل ان نتصور انسانا يستميت في سبيل الوفاء لقول قاله أو عهد أعطاه، لأنه انما يموت ضحية خلق رفيع خسر به الحياة المحدودة فربح به الحياة التي لا حد لها، وبني - إلي ذلك - لبنة جديدة في صرح الانسانية المثالية التي لا تفتأ تتعاون علي نشر الخير في المجموع.
أما ذلك الخائس بعهده الحانث بيمينه الكاذب بمواعيده، الذي بسم لصاحبه وهو يخادعه علي شروطه، ثم عبس وتولي وندم علي ما أعطي، فليس من السهل أن نتصوره انسانا، ولكنه عدو الانسانية بما هدم من قواعدها وشل من مقرراتها، وعدو نفسه بما عرضها للنقمة والاحتقار وسوء السمعة والحرمان من ثقة المجتمع. ولن ينفعه - بعد ذلك - أن يقول أو يقال عنه: ان الغاية تبرر الواسطة - فان هذا الاعتذار بذاته جريمة كاملة لا يتسع لها صدر الغفران. وللغايات - علي اختلافها - قيمتها الاعتبارية التي تواضع عليها الناس، فليكن لكل غاية واسطتها التي تتناسب وغايتها في الاعتبار، ولن تكون الغاية شريفة قط الا إذا قامت علي وسائط شريفة أيضا.
وكان من الخير العام، أن يتواضع المجموع منذ بناية المجتمع، علي اعتبار " اليمين " و " العهد " ضمانا في الاخذ والرد، وأن تتضافر الأديان
(٢٩٢)
مفاتيح البحث: الموت (1)، الخسران (1)

صفحه 194

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٩٣
السماوية كلها علي أن العهد كان مسؤولا …
ولعل من الأفضل أن نستمع هنا إلي ما عهد به أمير المؤمنين علي عليه السلام للأشتر النخعي في هذا الموضوع، قال:
" وان عقدت بينك وبين عدوك عقدة، أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت. فإنه ليس من فرائض الله شئ الناس أشد عليه اجتماعا مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود. وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين، لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرن بذمتك ولا تخيسن بعهدك ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ علي الله الا جاهل شقي. وقد جعل الله عهده وذمته أمنا أفضاه بين العباد برحمته، وحريما يسكنون إلي منعته ويستفيضون إلي جواره … ".
أقول: وإذا رجعنا بعد الالمام بهذه الحقائق إلي موضوعنا، رأينا أن الشروط التي أخذها الحسن بن علي (ع) علي معاوية فيما تم بينهما من التعاهد علي الصلح، كانت أكثر شروط عرفها التاريخ عهودا مؤكدة وأيمانا مغلظة، وكان معاوية هو الذي كتب نسختها الأخيرة بقلمه ووقعها بخاتمه.
ولم يكن بدعا أن يترقب الرأي العام الاسلامي، يومها، الوفاء بها كما يجب لمثل هذه العهود والايمان، وكما هو الأنسب بشخصيتين من هذا الطراز في الاسلام.
اما تلك المفاجأة الغريبة التي سبق إليها معاوية في خطابه علي منبر الكوفة، ولما يمض علي امضائه المعاهدة الا أيام ربما كانت لا تزيد علي أسبوع واحد، فقد وقعت في المجتمع الاسلامي وقوع الصاعقة التي لا يسبقها انذار. فقال (علي رواية المدائني) كما أشير اليه آنفا: " وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين! "، وصرح (علي رواية أبي اسحق السبيعي) بقوله: " ألا ان كل شئ أعطيته للحسن بن علي تحت قدمي
(٢٩٣)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (2)، مدينة الكوفة (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، اللبس (1)، الجهل (1)

صفحه 195

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٩٤
هاتين لا أفي به! " ثم شهد عليه الحصين بن المنذر الرقاشي قائلا: " ما وفي معاوية للحسن بشيء مما أعطاه، قتل حجرا وأصحاب حجر، وبايع لابنه، وسم الحسن!! (1) ".
وهكذا قدر لهذا الرجل الواسع الممتلكات الضيق الملكات أن يعود بعد حنثه بأيمانه علنا، ونقضه لمواثيقه صراحة، أبعد الناس عن ثقة الناس، وأقلهم وزنا في المقاييس المعنوية التي يتواضع عليها الناس، وكان جزاء وفاقا، أن ينكره أكثر المغرورين بما كان أنكر هو عهوده ومواثيقه، وأن يضعوه من أنفسهم في المحل الذي وضع هو شروطه من نفسه..
وما يدرينا، فلعلنا الآن عند مفترق الطريق بين الماضي المغلوب والمستقبل الغالب، الذي سينكشف عنه الصراع التاريخي بين الحسن ومعاوية. ولعلنا الآن علي أبواب الخطة الجبارة التي نزل الحسن بن علي (ع) من طريقها إلي الصلح، والتي فرضت ارادتها علي معاوية أبعد ما يكون في المعروف من دهائه عن الفشل في الخطط التي تمسه في الصميم من مصالحه.
وكان الحسن - كما نعلم - أعرف الناس بمعاوية وبحظه من الصدق والوفاء، وهو إذ يأخذ عليه الصيغ المغلظة في الايمان والعهود، لا يقصد من ذلك إلي التأكد من صدقه أو وفائه، ولكن ليكشف للأغبياء قابليات الرجل في دينه وفي ذمامه وفي شرفه بالقول.
وانها للمبادأة الأولي التي ابتدأ الحسن عليه السلام زحفه منها إلي ميدانه الثاني. ومن هنا وضع أول حجر في البناء الجديد لقضية أهل البيت (ع). ثم مشي موكب الزمان، فإذا بالخطوات الموفقة تمشي وئيدا مع الزمان وإذا بطلائع النجاح كفيالق الجيش التي تتلاحق تباعا لتتعاون علي الفتح. وان من الفتوح ما لا يعتمد في أداته علي السلاح، ومنها ما يكون وسائله الأولية أشبه بالهزيمة، حتي ليخاله الناس تسليما محضا، ولكنه
(1) يراجع ابن أبي الحديد (ج 4 ص 16 و 6 و 7).
(٢٩٤)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، كتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، الحصين بن المنذر (1)، الوسعة (1)، الشهادة (1)، القتل (1)، الصدق (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)

صفحه 196

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٩٥
في منطق العقلاء، ظفر لامع وفتح مبين.
وكان من أبرز الخطوات التي وفقت إليها خطة الحسن عليه السلام عن طريق الصلح، في سبيل التشهير بمعاوية حيا وميتا، والنكاية ببني أمية اطلاقا.
1 - أنها ألبت علي معاوية في بداية عهده الاستقلالي عددا ضخما من الشخصيات البارزة في المملكة الاسلامية.
فلعنه صراحة بعضهم، وخبثه آخر، وقرعه وجاها ثالث بل ثلاثة، وقاطعه رابع، وانكر عليه حتي مات غما من فعاله كبير خامس، وقال فيه أحدهم: " وكان والله غدارا ". وقال الآخر (1): " اربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقة ". وقابله علي مثل ذلك كثير من سادة وسيدات، لسنا الآن بصدد إحصائهم، أو استيعاب كلماتهم.
2 - وخلقت له معارضة الطبقات التي شملتها بنود المعاهدة، سواء في الأمان المفروض فيها، أو في الحقوق المالية المنصوص عليها. فإذا بعالم عظيم من الناس أصبح ينظر إلي معاوية نظره إلي العدو الواتر في النفس والمال، بما نقضه من شروطهم، في نفوسهم وأموالهم.
3 - وظن معاوية أنه سيجعل من نقضه معاهدة الحسن وضعا شكليا لبيعة ابنه يزيد، يتغلب به علي عنعنات الاسلام المقررة بين المسلمين في أمر البيعة وصلاحية الخلافة.
ولكنه لم يلبث أن اصطدم بالواقع، فإذا بهذه البيعة الجديدة،
(1) كان الذي لعنه صاحبه سمرة، والذي وصفه بأخبث الناس صديقه المغيرة، وكان الذي قرعه وجاها عائشة وآخرون، والذي قاطعه مالك بن هبيرة السكوني، والذي مات غما من فعاله الربيع بن زياد الحارثي، وكان السادس أبا اسحق السبيعي، والسابع الحسن البصري. ويراجع عن ذلك شرح النهج وابن الأثير ومروج الذهب وغيرها.
(٢٩٥)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، بنو أمية (1)، الموت (2)، كتاب مروج الذهب للمسعودي (1)، إبن الأثير (1)، الربيع بن زياد (1)، الحسن البصري (1)

صفحه 197

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٩٦
مثار النقمة الاسلامية العامة التي أصبحت تتحسس منذ ترشيح يزيد للخلافة بنوايا بني أمية من الاسلام.
4 - ثم كانت البوائق الدامية التي جهر بها معاوية بعد نقض الصلح، في قتله خيار المسلمين - من صحابة وتابعين - بغير ذنب، عوامل أخري للتشهير به، ولتحطيم معنوياته المزعومة، تمشيا مع الخطة المكينة، التي أرادها الامام الحسن (ع) منذ قرر الاقدام علي الصلح.
5 - وقضية الحسين في كربلاء سنة (61) هجري، كبري قضايا الحسن فيما مهد له من الزحف علي عدوهما المشترك، وعدو أبيهما من قبل.
ولا ننسي أنه قال له يوم وفاته: " ولا يوم كيومك أبا عبد الله ".
وهذه الكلمة علي اختزالها - المقصود - هي الرمز الوحيد الذي سمع من الحسن عليه السلام، فيما يشير به إلي الخطة المقنعة بالسر، التي اعتورها الغموض من ست جهاتها، منذ يوم الصلح إلي يوم صدور هذا الكتاب. وانك لتقرأ من هذه الكلمة لغة " القائد الاعلي " الذي يوزع القواد لوقائعهم، ويوزع الأيام لمناسباتها، ثم يميز أخاه ويوم أخيه فيقول: " ولا يوم كيومك.. ".
وكان من طبيعة الحال ان تبعث المناسبات الزمنية حلقات الخطة كلا ليومها. وكان لابد لكل حلقة أن توقظ الأخري، وأن تؤرث السابقة اللاحقة، وتوقد الأولي جذوة الثانية، وهكذا دواليك.
وحسب الحسن لكل هذه الخطوات حسابها المناسب لها، منذ قاول معاوية علي هذا الصلح المعلوم، ودرس - إلي ذلك - نفسيات خصومه بما كانت تشرئب له من النقمة عليه وعلي أخيه وعلي شيعته وعلي أهدافه جميعا. وكانت هذه المطالعات بنطاقها الواسع، الأساس الذي بني عليه الحسن خطواته المستقبلة فيما مهده لنفسه ولعدوه معا.
(٢٩٦)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (2)، مدينة كربلاء المقدسة (1)، صلح (يوم) الحديبية (4)، بنو أمية (1)، الوسعة (1)، القتل (1)، الإختيار، الخيار (1)

صفحه 198

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٩٧
وكان من طبيعة الحال، أن تلقي هذه الخطوات قيادتها إلي الحسين فيما لو حيل بين الحسن وبين قيادتها بنفسه. وهذا هو ما أردناه في بداية هذا القول.
وهكذا كانت نهضة الحسين الخالدة الخطوة الجبارة في خطة أخيه العبقري العظيم.
ولا تزال فاجعة كربلاء التي استوعبتها كل لغات الأرض، اللطخة السوداء التي صبغت تاريخ أمية بالعار، ما دام لكربلاء رسم، ولأمية اسم.
6 - ثم لم تزل الخطة البعيدة الأهداف، تستعرض في الفترات المتقاربة التاريخ، بعد واقعة الحسين عليه السلام بكربلاء، سلسلة أحداث قانية انبثقت من صميم الوضع الأموي المتشابه في أكثر ملامحه - بين عهد معاوية وابن عمه " الحمار " (1) -.
وعادت الأموية في عرف المسلمين المعنيين باسلاميتهم الحكومة الجائرة المتغلبة بالظلم والاسراف وبالتحلل من كثير كثير من النواميس الدينية. واشتدت نقمة الناس عليها مع تمادي الأيام، وكان أي علم يرفع لحرب بني أمية، لا يعدم الألوف وعشرات الألوف من المبايعين له علي الموت.
* * *
(1) هو مروان الأموي الذي انقرضت دولة بني أمية علي يده - ويلقب " بالحمار " و " بالجعدي " نسبة إلي مربيه (الجعد بن درهم). وكان ابن درهم زنديقا فعلمه مذهبه، وكان الناس يذمونه بنسبته اليه. ولما تعقب الفاتحون العباسيون مروانا في هزيمته، أودع حرمه (الكنيسة) في بوصير!. فأين هو عن المساجد يا تري؟ - يراجع ابن الأثير (ج 5 ص 159 و 160).
(٢٩٧)
مفاتيح البحث: الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، الدولة الأموية (1)، مدينة كربلاء المقدسة (3)، بنو أمية (2)، الموت (1)، الظلم (1)، الخلود (1)، إبن الأثير (1)، السجود (1)

صفحه 199

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٢٩٨
إذا، فلتكن عملية الصلح - علي هذا - البذرة المستمدة من صميم مصلحة الاسلام ومصلحة أهل البيت عليهم السلام، ومن الوحي أيضا. وليعد الحسن بن علي عليهما السلام بعد أقل من قرن، الغالب المنتصر علي الخصوم المغلوبين، المنهزمين في التاريخ.
خطوات موفقات، وسياسة صاعدة لا تبلغها السياسات، في صمت وتواضع واتئاد، وتحت ظل اصلاح وتسليم وحقن دماء.
وهل العظمة شئ آخر غير هذا، يا تري؟.
الوفاء بالشروط
(٢٩٨)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)

صفحه 200

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٠٠
عرفنا - إلي هنا - بواعث كل من الفريقين فيما تطلعا به إلي الصلح. وعرفنا شروط كل فيما اعتبره ضمانا لبواعثه تلك.
وعرفنا - بعد ذلك - أنهما أرادا الجنوح إلي التصالح عمليا، فاجتمعا في الكوفة، وكان من المنتظر لهذا الاجتماع التاريخي أن يبعث بينهما من التقارب ما لم تبعثه الصكوك التحريرية ولا المقاولات الرسمية، التي تبودلت بينهما في الصلح، لولا أن معاوية لم يشأ ان يلتزم في هذا الاجتماع جانب المجاملة، رغم أنه كان في ظرفه الخاص أحوج الرجلين إلي هذا النمط من السلوك، وانه ليمر - إذ ذاك - بأدق امتحان في سياسته العامة وفي شخصيته كملك يريد ان يحكم شعبا ما أحبه منذ أبغضه - علي حد تعبير الأحنف بن قيس -، فاجتمع بالحسن ولكن كما يجتمع " ابن أبي سفيان " بابن فاتح مكة، لا كما يجتمع متناجزان ألقيا السلاح وتبادلا وثائق الصلح، وكان من هذا الخلق الثابت لمعاوية - رغم ما يتكلفه من الحلم الكثير أحيانا - ما هو أداة الحسن في حملته المنظمة التي جردها عليه في (ميدانه الثاني) - كما أشير اليه في آخر فصل مضي -.
وإذ قد عرفنا ذلك كله من فصولنا القريبة السابقة، فلنعرف الآن موقف كل من شروطه وفاء ونقضا. وها نحن أولاء من هذه المرحلة بإزاء النقطة الحساسة التي طال حسابها في التاريخ.
وكان بودنا لو طوينا كشحا عن استنطاق هذا الموضوع، بما تثيره تفاصيله من ذكريات: بعضها ألم، وبعضها فضيحة سافرة، وقليل منها تاريخ تعافه الأمجاد. ولكننا - وقد أخذنا علي أنفسنا في هذا الكتاب مهمة البحث التحليلي المكشوف، عن قضية الحسن ومعاوية - لا نجد مجالا
(٣٠٠)
مفاتيح البحث: مدينة مكة المكرمة (1)، مدينة الكوفة (1)، صلح (يوم) الحديبية (3)، الأحنف بن قيس (1)، البعث، الإنبعاث (1)، البغض (1)

صفحه 201

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٠١
للتغافل عن عناصر الموضوع التي كان لها أروع الأثر في النتائج التي توخاها الحسن بن علي من صلحه مع معاوية بن أبي سفيان. ولذلك، ولما لهذه التفاصيل الحساسة الثقيلة علي النفس من الأهمية القصوي لموضوعنا العام، فلابد لنا من مسايرة هذا الموضوع في سائر خطواته، حتي ينتهي بنا أو ننتهي به إلي النتائج الواضحة المملاة عن مقدماتها المسلمة، بما في هذه النتائج من مجد المظلوم (الغالب) وخزاية الظالم (المغلوب)، فنقول:
1 - الوفاء بالشرط الأول كان هذا الشرط هو الشرط الوحيد الذي لمعاوية علي الحسن.
فكان هو الشرط الوحيد الذي حظي بالوفاء من شروط هذه المعاهدة اطلاقا.
ثم لا يعهد من الحسن بعد توقيعه الصلح، أي محاولة لنقض شرطه هذا ولا التحدث بذلك، ولا الرضا بالحديث عنه.
وجاءه زعماء شيعته بعد أن أعلن معاوية التخلف عن شروطه، فعرضوا عليه - وقد رجع إلي المدينة - أنفسهم واتباعهم للجهاد بين يديه، ووعده الكوفيون منهم بإخلاء الكوفة من عاملها الأموي، وضمنوا له الكراع والسلاح لإعادة الكرة علي الشام، فلم تهزه العواصف ولا قلقلته حوافز الأنصار المتوثبين.
فقال له سليمان بن صرد، وهو إذ ذاك سيد العراق ورئيسهم - علي حد تعبير ابن قتيبة عنه -: " وزعم - يعني معاوية - علي رؤوس الناس ما قد سمعت: اني كنت شرطت لقوم شروطا ووعدتهم عدات ومنيتهم أماني..
(٣٠١)
مفاتيح البحث: معاوية بن أبي سفيان لعنهما الله (1)، دولة العراق (1)، سليمان بن صرد الخزاعي (1)، مدينة الكوفة (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، الحسن بن علي (1)، الشام (1)، الظلم (2)

صفحه 202

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٠٢
فان كل ما هنالك تحت قدمي هاتين، ووالله ما عني بذلك الا نقض ما بينك وبينه، فأعد الحرب خدعة وأذن لي أشخص إلي الكوفة، فأخرج عاملها منها وأظهر فيها خلعه، وأنبذ اليه علي سواء، ان الله لا يهدي كيد الخائنين.
" ثم سكت ابن صرد، فتكلم كل من حضر مجلسه بمثل مقالته، وكلهم يقول: ابعث سليمان بن صرد وابعثنا معه، ثم ألحقنا، إذا علمت انا قد أشخصنا عامله، وأظهرنا خلعه (1) ".
وجاءه - أيضا - حجر بن عدي الكندي، ومركزه القوي في العراق مركزه، كما ستعرف قريبا.
وجاءه المسيب بن نجية، فارس مضر الحمراء كلها، إذا عد من أشرافها عشرة كان هو أحدهم - علي حد تعبير زفر بن الحارث الكلابي عنه -.
وجاءه آخرون من نظرائهم، وكلهم لم يحظ من الحسن الا بالرد الجميل والاستمهال إلي موت معاوية، لأنه صاحب عهده فيما تعاهدا عليه، ولأنه كان قد درس من أحوال الكوفة في تجربته الأولي، ما أغناه عن تجارب أخري.
وكان آخر جوابه إليهم قوله: " ليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس (2) بيته ما دام معاوية حيا، فان يهلك معاوية، ونحن وأنتم احياء، سألنا الله العزيمة علي رشدنا، والمعونة علي أمرنا، وأن لا يكلنا إلي أنفسنا، فان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (3) ".
(1) ابن قتيبة (ج 1: ص 151).
(2) فلان حلس بيته يعني (ملازم بيته لا يبرحه).
(3) الإمامة والسياسة (ج 1 ص 152).
(٣٠٢)
مفاتيح البحث: دولة العراق (1)، سليمان بن صرد الخزاعي (1)، مدينة الكوفة (2)، حجر بن عدي الكندي (1)، الهلاك (1)، البعث، الإنبعاث (1)، الحرب (1)، السكوت (1)

صفحه 203

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٠٣
2 - الوفاء بالشرط الثاني أجمع المؤرخون - بما فيهم المتحزبون والمستقلون - علي أن العهد لذي أعطاه معاوية للحسن في شروط الصلح، هو أن لا يعهد بالامر من بعده إلي أحد، ومعني ذلك رجوع الامر من بعده إلي صاحبه الشرعي، أعني الحسن بن علي فان لم يكن فللحسين أخيه، تمشيا مع مفهوم الشرط القائل بتسليم الامر محدودا بحياته، ومفهوم سلبه صلاحية العهد إلي أحد من بعده.
وأجمع المؤرخون - بعد ذلك - علي أن معاوية نقض هذا العهد علنا، وعهد من بعده إلي ابنه يزيد (المعروف!!!).
ولسنا الآن بصدد مناقشة معاوية علي نقضه العهد بعد ميثاقه، وهو - علي كل حال - جماع غلطاته التي أركسه " الصلح " فيها من حيث يدري أو لا يدري، ولكنا وقد مررنا علي موقف معاوية من عهوده مرات ومرات، لا نريد ان نمر هنا علي تعيينه يزيد ابنه لخلافة المسلمين دون أن نقول: انه ارتكب بهذا العمل الجرئ أكبر اثم في دينه، وأفظع جريمة في الصالح العام. وقد كان من أبرز النتائج، لاعمال معاوية الارتجالية الجريئة هذه، ان تنحرف قيادة الاسلام عن منهجها القويم، وان تفقد الرعية قدوتها العملية، وان تسود الأثرة، ويضطرب حبل الثقة بين الافراد والجماعات، وأن ينعدم التجاوب والتفاعل الوجداني بين القادة والاتباع. فتتوزع الميول وتتباين المقاصد، ثم لا يزال الامر يأخذ بهم سفالا، حتي يستعد إلي الثورات الدامية والانتفاضات الداخلية التي كان لابد منها لتدارك الأخطاء والتنبه علي الاخطار. دع عنك ما كان يقال عن يزيد هذا، وعن قابلياته الشخصية والخلقية التي عجت بها التواريخ، من يومه إلي يومنا، والتي
(٣٠٣)
مفاتيح البحث: صلح (يوم) الحديبية (2)، الحسن بن علي (1)

صفحه 204

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٠٤
كان من آثارها - في حكومته - ما كان (مما لا نريد التوسع في ذكره)، وانما جل ما نريد هو التنبيه علي الغلطة الكبري التي أتاها معاوية، فتقمص بها مسؤولية الحرمات الاسلامية التي انتهكها بهذه الغلطة غير متحرج ولا متأثم.
وكان من الأساليب العجيبة التي توفر علي روايتها أصدقاء الرجل فضلا عن أعدائه، فيما لجأ اليه يوم نصب ابنه وليا لعهد المسلمين، ما يكفينا للتأكد من وزنه كمسلم فضلا عن وزنه كخليفة!!.. وانها لصفحة من أنكد صفحات التاريخ، وأبعدها عن " الاسلام " روحا ومعني وأهدافا، ولولا أنها - بنتائجها التي تنكشف عنها في معاوية وفي المجتمع الذي كان يدور في فلك معاوية - أحد شرايين بحثنا الواسع فيما يهدف اليه هذا البحث من بيان أسرار الحسن فيما أتاه من الصلح، لأعرضنا عن ذكرها، ولكنا أحرص علي سترها، رغم إفتضاحها المكشوف مدي ثلاثة عشر قرنا.
أما الآن فسنعرض خلاصة من نصوص المؤرخين، دون ان نتعمد الشرح والتعليق في الأثناء، لان هذه النصوص بذاتها غنية عن الشرح والتعليق.
هكذا بايع معاوية ليزيد قال أبو الفرج الأصفهاني: " وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد، فلم يكن شئ أثقل عليه من أمر الحسن وسعد بن أبي وقاص، فدس اليهما سما، فماتا منه (1) ".
وقال ابن قتيبة الدينوري: " ثم لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن الا يسيرا حتي بايع ليزيد بالشام وكتب ببيعته إلي الآفاق (2) ".
وقال ابن الأثير: " وكان ابتداء ذلك وأوله من المغيرة بن شعبة، فان
(1) المقاتل (ص 29).
(2) الإمامة والسياسة (ج 1: ص 160).
(٣٠٤)
مفاتيح البحث: عمر بن سعد لعنه الله (1)، أبو الفرج الإصبهاني (الإصفهاني) (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، إبن الأثير (1)، المغيرة بن شعبة (1)، الشام (1)، الوسعة (1)، الهدف (1)، الوفاة (1)

صفحه 205

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٠٥
معاوية أراد ان يعزله عن الكوفة، ويستعمل عوضه سعيد بن العاص، فبلغه ذلك، فقال: الرأي ان أشخص إلي معاوية فاستعفيه، ليظهر للناس كراهتي للولاية، فسار إلي معاوية وقال لأصحابه حين وصل اليه: ان لم أكسبكم الآن ولاية وامارة لا أفعل ذلك أبدا، ومضي حتي دخل علي يزيد (1) وقال له: انه ذهب أعيان أصحاب النبي صلي الله عليه (وآله) وسلم، وكبراء قريش وذوو أسنانهم! (2) وانما بقي أبناؤهم، وأنت من أفضلهم! وأحسنهم رأيا! وأعلمهم بالسنة!! والسياسة!، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟ قال: أو تري ذلك يتم؟ قال: نعم. فدخل علي أبيه، وأخبره بما قال المغيرة، فأحضر المغيرة وقال له: ما يقول يزيد؟. فقال: يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان، وفي يزيد خلف (!)، فاعقد له، فان حدث بك حادث كان كهفا للناس وخلفا منك، ولا تسفك دماء (!!). ولا تكون فتنة (!!). قال: ومن لي بهذا؟ قال: أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. قال: فارجع إلي عملك، وتحدث مع من تثق اليه في ذلك، وتري ونري.
" فودعه ورجع إلي أصحابه. فقالوا: مه؟. قال: لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية علي أمة محمد!!، وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبدا! (3) ".
" وتواطأ معاوية مع رؤساء الوفود المناصحين له، أن يخطبوا ويذكروا
(1) وذكر البيهقي في المحاسن والمساوئ (ج 1: ص 108) مناورة المغيرة بن شعبة هذه، ولكنه رأي أو روي ان المغيرة ابتدأ بمعاوية أولا، وان معاوية لما وثق منه أرجعه إلي عمله وقال له: " انصرف إلي عملك، وأحكم الامر لابن أخيك، وأعاده علي البريد يركض (كذا) ".
(2) انظر إلي مكانة السن في عرف المغيرة..
(3) كامل ابن الأثير (ج 3: ص 198 - 201). وفي هذا الحديث ما يشعرك بروحية المغيرة بن شعبة ومدي غيرة هذا الصحابي ذي الفتوق علي أمة محمد (ص)!.
(٣٠٥)
مفاتيح البحث: صحابة (أصحاب) رسول الله (ص) (1)، مدينة الكوفة (2)، مدينة البصرة (1)، المنع (1)، العقد (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، كتاب الكامل لإبن الأثير (1)، المغيرة بن شعبة (2)

صفحه 206

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٠٦
فضل يزيد!!.. فلما اجتمعت عند معاوية وفود الأمصار، وفيهم الأحنف بن قيس الفهري، فقال له: إذا جلست علي المنبر، وفرغت من بعض موعظتي وكلامي فاستأذن للقيام فإذا أذنا لك، فاحمد الله تعالي واذكر يزيد، وقل فيه الذي يحق له من حسن الثناء عليه!!.. ثم ادعني إلي توليته!. ثم دعا عبد الرحمن بن عثمان الثقفي وعبيد الله بن مسعدة الفزاري وثور بن معن السلمي وعبد الله بن عصام الأشعري، فأمرهم ان يقوموا إذا فرغ الضحاك، وان يصدقوا قوله!! فقام هؤلاء النفر خطباء يشيدون بيزيد!!.. إلي أن قام الأحنف بن قيس [ولم يكن من الممثلين الذين رتبهم معاوية لهذه الرواية] فقال:
" أصلح الله الأمير، ان الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف، ومعروف زمان مؤتنف، وقد حلبت الدهور وجربت الأمور، فاعرف من تسند اليه الامر بعدك، ثم أعص من يأمرك، ولا يغررك من يشير عليك ولا ينظر إليك، مع أن أهل الحجاز وأهل العراق، لا يرضون بهذا، ولا يبايعون ليزيد ما دام الحسن حيا ".
ثم أردف قائلا:
" وقد علمت يا معاوية، أنك لم تفتح العراق عنوة، ولم تظهر عليه مقصا، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت، ليكون له الامر من بعدك (1). فان تف فأنت أهل الوفاء، وان تغدر تظلم. والله ان وراء الحسن خيولا جيادا، وأذرعا شدادا، وسيوفا حدادا. وان تدن له شبرا من غدر، تجد وراءه باعا من نصر. وانك تعلم من أهل العراق، ما أحبوك منذ أبغضوك، ولا أبغضوا عليا وحسنا منذ أحبوهما، وما نزل
(1) وأخطأ فهم هذه الحقبة من الزمن كثير ممن كتب عنها، فقال حسن مراد في " الدولة الأموية " (ص 70): " ومن هنا نري أن عهد معاوية بالخلافة لابنه يزيد علي ما سيجيء لم يكن انتقالا غير منتظر!! ". وقد عرفت من كلام الأحنف هنا ومن كلامنا في البحوث الآنفة أنه كان انتقالا غير منتظر.
(٣٠٦)
مفاتيح البحث: دولة العراق (3)، الأحنف بن قيس (2)، الحسن بن علي (1)، عثمان الثقفي (1)، الدولة الأموية (1)، يوم عرفة (1)

صفحه 207

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٠٧
عليهم في ذلك غير من السماء، وان السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين، لعلي عواتقهم، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم (1) ".
أقول: وكلام الأحنف هذا، صريح بأن معاوية حاول البيعة لابنه يزيد في حياة الحسن بن علي، بينما صرح آخرون، بأن بيعة يزيد انما وقعت بعد وفاة الحسن، حتي قال أبو الفرج: " انه سم الحسن وسعد بن أبي وقاص تمهيدا لبيعة ابنه يزيد " (كما أشير اليه). إذا فقد كان لمعاوية محاولتان لهذا التصميم: إحداهما في حياة الحسن رغم العهود والأيمان والمواثيق، وهي انما فشلت لمكان وجود صاحب العهد حيا. وثانيتهما بعد وفاة الحسن عليه السلام، وهي التي تمت بأساليبها الظالمة التي عرضها أكثر المؤرخين.
" فعزل مروان عن المدينة حين عجز عن أخذ البيعة علي أهلها ليزيد، وولي المدينة سعيد بن العاص، فاظهر الغلظة وأخذهم بالعزم والشدة، وسطا بكل من أبطأ عن البيعة ليزيد، فأبطأ الناس عنها الا اليسير، لا سيما بني هاشم، فإنه لم يجبه منهم أحد.
" أما مروان فذهب إلي الشام مغاضبا، وواجه معاوية بكلام طويل قال فيه: وأقم الامر يا ابن أبي سفيان، وأهدأ من تأميرك الصبيان، واعلم أن لك في قومك نظراء، وأنهم علي مناوأتك وزراء..
- ثم سكت لأنه رزقه الف دينار في كل هلال!! - " وكتب معاوية إلي عبد الله بن عباس والي عبد الله بن الزبير والي عبد الله بن جعفر والي الحسين بن علي، يدعوهم إلي البيعة ليزيد!.
- وكان كتابه إلي الحسين عليه السلام ما لفظه -:
" أما بعد. فقد انتهت إلي منك أمور، لم أكن أظنك بها، رغبة
(1) ابن قتيبة (ج 1 ص 156 - 158)، والمسعودي - هامش ابن الأثير (ج 6 ص 100 - 102).
(٣٠٧)
مفاتيح البحث: الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، عمر بن سعد لعنه الله (1)، عبد الله بن عباس (1)، عبد الله بن جعفر الطيار بن أبي طالب عليه السلام (1)، عبد الله بن الزبير (1)، الحسين بن علي (1)، بنو هاشم (1)، الحسن بن علي (1)، الشام (1)، الفرج (1)، الموت (1)، السكوت (1)، الهلال (1)، الوفاة (2)، إبن الأثير (1)

صفحه 208

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٠٨
بك عنها، وان أحق الناس بالوفاء من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها، فلا تنازع إلي قطيعتك، واتق الله!!. ولا تردن هذه الأمة في فتنة!!. وانظر لنفسك ودينك وأمة محمد، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون!! ".
- فكتب اليه الحسين بما يلي -:
" أما بعد فقد جاءني كتابك، تذكر فيه أنها انتهت إليك مني أمور لم تكن تظنني بها رغبة بي عنها، وان الحسنات لا يهدي لها ولا يسدد عليها الا الله تعالي. واما ما ذكرت انه رقي إليك عني، فإنما رقاه الملاقون المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الجمع. وكذب الغاوون المارقون، ما أردت حربا ولا خلافا. واني أخشي الله في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلين، حزب الظلم وأعوان الشيطان الرجيم. الست قاتل حجر وأصحابه العابدين المخبتين، الذين كانوا يستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟. فقتلتهم ظلما وعدوانا، من بعد ما أعطيتهم المواثيق الغليظة والعهود المؤكدة، جراءة علي الله واستخفافا بعهده، أولست بقاتل عمرو بن الحمق الذي أخلقت وأبلت وجهه العبادة؟ فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم (1) لنزلت من شعف (2) الجبال. أولست المدعي زيادا في الاسلام فزعمت أنه ابن أبي سفيان؟، وقد قضي رسول الله صلي الله عليه (وآله) وسلم، أن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم سلطته علي أهل الاسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويصلبهم علي جذوع النخل!. سبحان الله يا معاوية، لكأنك لست من هذه الأمة وليسوا منك!!. أولست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه إليك زياد أنه علي دين علي؟، ودين علي هو دين ابن عمه صلي الله عليه وسلم الذي
(1) العصم [جمع أعصم] وهو: (الظبي في ذراعيه أو في إحداهما بياض وسائره أسود أو احمر).
(2) الشعفة بالتحريك: (رأس الجبل). وشعفة كل شئ: (أعلاه) وجمعه: [شعف] محركا في النص.
(٣٠٨)
مفاتيح البحث: الامر بالمعروف (1)، النهي عن المنكر (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، عمرو بن الحمق (1)، الظلم (1)، القتل (2)، الإبداع، البدعة (1)

صفحه 209

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٠٩
أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين، رحلة الشتاء والصيف، فوضعها الله عنكم بنا، منة عليكم!.
وقلت فيما قلت: لا ترد هذه الأمة في فتنة. واني لا أعلم فتنة لها أعظم من أمارتك عليها.
وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك ولامة محمد، واني والله ما أعرف أفضل من جهادك (أي: قتالك)، فان أفعل، فإنه قربة إلي ربي، وان لم أفعل، فأستغفر الله لذنبي، واسأله التوفيق لما يحب ويرضي.
وقلت فيما قلت: متي تكدني أكدك، فكدني يا معاوية فيما بدا لك، فلعمري لقديما يكاد الصالحون، واني لأرجو ان لا تضر الا نفسك، ولا تمحق الا عملك، فكدني ما بدا لك!.
" واتق الله يا معاوية!، واعلم ان لله كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها! واعلم ان الله ليس بناس لك قتلك بالظنة وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبيا يشرب الشراب ويلعب بالكلاب!!. ما أراك الا وقد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعية، والسلام (1) ".
ثم قدم معاوية بعد ذلك إلي المدينة، ومعه خلق كثير من أهل الشام عدهم ابن الأثير بألف فارس. قال: " ثم دخل علي عائشة، وكان قد بلغها انه ذكر الحسين وأصحابه وقال: لأقتلنهم ان لم يبايعوا.. فقالت له فيما قالت: وارفق بهم فإنهم يصيرون إلي ما تحب، ان شاء الله!! (2) ".
وقال الدينوري (3) بعد ذكره ورود معاوية إلي المدينة: " ثم جلس معاوية صبيحة اليوم الثاني، وأجلس كتابه بحيث يسمعون ما يأمر به،
(1) ابن قتيبة (ج 1 ص 63 - 65).
(2) أقول: ولنا ان نفهم من هذه اللغة أن أم المؤمنين نفسها كانت قد صارت إلي ما يحب معاوية من البيعة ليزيد!!
(3) (ج 1 ص 168 - 172).
(٣٠٩)
مفاتيح البحث: إبن الأثير (1)، الشام (1)، أمهات المؤمنين، ازواج النبي (ص) (1)

صفحه 210

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣١٠
وأمر حاجبه ان لا يأذن لاحد من الناس وان قرب. ثم أرسل إلي الحسين بن علي وعبد الله بن عباس، فسبق ابن عباس، فأجلسه عن يساره، وشاغله بالحديث حتي أقبل الحسين ودخل، فأجلسه عن يمينه، وسأله عن حال بني الحسن (!!) وأسنانهم، فأخبره.
" ثم خطب معاوية خطبة أثني فيها علي الله ورسوله وذكر الشيخين وعثمان، ثم ذكر أمر يزيد، وانه يحاول ببيعته سد خلل الرعية!، وذكر علمه بالقرآن والسنة!، واتصافه بالحلم!، وأنه يفوقهما سياسة ومناظرة! وان كانا أكبر منه سنا (1)، وأفضل قرابة. واستشهد بتولية النبي صلي الله عليه (وآله) وسلم عمرو بن العاص في غزوة " ذات السلاسل " علي أبي بكر وعمر وأكابر الصحابة ثم استجابهما عما ذكر ".
قال: " فتهيأ ابن عباس للكلام، فقال له الحسين: علي رسلك، فانا المراد (2)، ونصيبي في التهمة أوفر.
وقام الحسين، فحمد الله تعالي وصلي علي الرسول صلي الله عليه وآله وقال:
" أما بعد - يا معاوية -، فلن يؤدي القائل وان أطنب في صفة الرسول صلي الله عليه وسلم من جميع جزءا، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله (3) من ايجاز الصفة، والتنكب عن استبلاغ البيعة. وهيهات هيهات يا معاوية، فضح الصبح فحمة الدجا، وبهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضلت حتي أفرطت، واستأثرت حتي أجحفت ومنعت حتي بخلت، وجرت حتي جاوزت، ما بذلت لذي حق من اسم حقه
(1) سبق ان معاوية كان يحتج علي الحسن بكبر سنه، ولم تكن له حجة غيرها علي استحقاقه الخلافة دونه. فما لهذه الباء لا تجر هنا؟!!.
(2) لأنه هو صاحب الحق بالخلافة بعد الحسن، كما نص عليه جده رسول الله (ص) أولا، وكما نصت عليه معاهدة الصلح ثانيا.
(3) يشير إلي اعراضه عن ذكر أمير المؤمنين عليه السلام فيمن ذكره بعد رسول الله (ص).
(٣١٠)
مفاتيح البحث: الصلاة علي النبي صلي الله عليه وآله (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (4)، عبد الله بن عباس (3)، عمرو بن العاص (1)، الحسين بن علي (1)، القرآن الكريم (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، الحج (1)

صفحه 211

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣١١
من نصيب، حتي أخذ الشيطان حظه الأوفر (1)، ونصيبه الأكمل.
" وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لامة محمد، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوبا أو تنعت غائبا، أو تخبر عما كأنك احتويته بعلم خاص، وقد دل يزيد من نفسه علي موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبق لأترابهن، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي - تجده ناصرا.
ودع عنك ما تحاول!!. فما أغناك ان تلقي الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدح باطلا في جور، وحنقا في ظلم، حتي ملئت الأسقية، وما بينك وبين الموت الا غمضة، فتقدم علي عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص..
" وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلي الله عليه وسلم وما صار ذلك لعمرو يومئذ، حتي أنف القوم امرته، وكرهوا تقديمه، وعدوا عليه أفعاله، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لا جرم معشر المهاجرين، لا يعمل عليكم بعد اليوم. فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف ضاهيت بصاحب تابعا؟ وحولك من يؤمن في صحبته، ويعتمد في دينه وقرابته، تتخطاهم إلي مسرف مفتون، تريد أن تلبس الناس شبهة، يسعد بها الباقي في دنياه، وتشقي بها في آخرتك. ان هذا لهو الخسران المبين، واستغفر الله لي ولكم ".
قال: " فنظر معاوية إلي ابن عباس، فقال: ما هذا يا ابن عباس؟ ولما عندك أدهي وأمر!.. فقال ابن عباس: لعمر الله، انه لذرية الرسول، وأحد أصحاب الكساء، ومن البيت المطهر فاله عما تريد، فان لك في
(1) يريد ان هذا الاجحاف المقصود كان هو منية الشيطان في تأريث الخلاف..
(٣١١)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، عبد الله بن عباس (3)، أهل الكساء (1)، الموت (1)

صفحه 212

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣١٢
الناس مقنعا، حتي يحكم الله بأمره، وهو خير الحاكمين.
ثم خرج معاوية إلي مكة كما يحدثنا ابن الأثير وغيره من المؤرخين، قال: " وسبقه الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر إليها. ولما كان آخر أيامه بمكة، أحضر هؤلاء … وقال لهم: اني أحببت ان أتقدم إليكم، انه قد أعذر من انذر، اني كنت اخطب فيكم، فيقوم إلي القائم منكم فيكذبني علي رؤوس الناس، فأحمل ذلك وأصفح. واني قائم بمقالة، فأقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع اليه كلمة غيرها حتي يسبقها السيف إلي رأسه، فلا يبقين رجل الا علي نفسه!.
ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال: أقم علي رأس كل رجل من هؤلاء رجلين، ومع كل واحد سيف، فان ذهب رجل منهم يرد علي كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما!!..
ثم خرج وخرجوا معه، حتي أتي المنبر، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: ان هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، لا يبتز أمر دونهم، ولا يقضي الا عن مشورتهم. وانهم قد رضوا وبايعوا يزيد!! فبايعوا علي اسم الله!. فبايع الناس. انتهي ملخصا.
وولدت هذه البيعة البغيضة ولكن بعد اعسار شديد، لم تنجع فيه الا السيوف المشهورة علي رؤوس الرجال، فإذا هي بنت مؤامرات ومناورات وإرهاب!.
وإذا كانت هذه هي خلافة الاسلام، فعلي الاسلام السلام.
وأخرج البخاري في صحيحه عن النبي (ص): " ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم، الا حرم الله عليه الجنة ".
(٣١٢)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، مدينة مكة المكرمة (2)، إبن الأثير (1)، عبد الله بن الزبير (1)، الحسين بن علي (1)

صفحه 213

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣١٣
3 - الوفاء بالشرط الثالث قال ابن الأثير " ان معاوية كان إذا قنت سب عليا وابن عباس والحسن والحسين والأشتر (1) ". ونقل أبو عثمان الجاحظ في كتاب [الرد علي الامامية]: " ان معاوية كان يقول في آخر خطبته: اللهم ان أبا تراب - يعني عليا - الحد في دينك، وصد عن سبيلك، فالعنه لعنا وبيلا وعذبه عذابا أليما. وكتب بذلك إلي الآفاق، فكانت هذه الكلمات يشاد بها علي المنابر (2) ".
وقيل لمروان: " ما لكم تسبونه علي المنابر؟ " فقال: " لا يستقيم لنا الامر الا بذلك!! "..
وكان من مجهود معاوية في هذا السبيل ما طفحت به السير والتواريخ. وهو - علي هذا - أول من سن الجهر بسب صحابة الرسول، وأول من فتح هذا الباب علي مصراعيه لمن جاء من بعده، ولا نعرف أن أحدا سبقه إلي مثل هذا اللهم الا ما كان من عائشة يوم قالت: " اقتلوا نعثلا فقد كفر!! "، ثم لا نعهد في علماء المسلمين من حكم علي عائشة بالكفر، ولا علي معاوية بالمروق من الدين، لأنهما استباحا سب الصحابة، أو لأنهما أو غلا في السب حتي عمدا إلي التكفير. ومما لا شك فيه أن حكم الأمثال واحد لا يختلف مع الزمان، ولذلك، فانا لا نجد مساغا إلي الحكم علي من نال من معاوية أو نال من صحابي آخر، الا بما حكم به علماء المسلمين علي معاوية وعائشة في نيلهما من علي وعثمان، لا أقل ولا أكثر.
وأما الأثر المزعوم القائل " بأيهم اقتديتم اهتديتم "، فقد خص حتي سقط عمومه عن الحجية، والا لكان السبابون للصحابة من الصحابة أولي
(١) " النصائح الكافية " لابن عقيل (ص ١٩ - ٢٠).
(٢) " النصائح الكافية " لابن عقيل (ص 19 - 20).
(٣١٣)
مفاتيح البحث: سب الصحابة (2)، الجهر والإخفات (1)، عبد الله بن عباس (1)، إبن الأثير (1)، السب (2)، كتاب الكافئة للشيخ المفيد (2)

صفحه 214

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣١٤
بالعمل به. ولو كف معاوية لسانه عن النجوم من آل محمد (ص) الذين كان عليه ان يقتدي بهم ليهتدي، لكف الناس ألسنتهم عنه وعن أمثاله من الظالمين، ولماتت النعرات ولتم الصلح بصلاح المسلمين.
ولكنها كانت البذرة الخبيثة التي زرعها الرجل عامدا، ثم تعاهدها هو وذووه بالتغذية والسقي، فإذا بها شجرة العوسج في تاريخ الاسلام، استغفلوا بها البسطاء ولبسوا بها علي عقول الجهلاء، وجعلوا من السبة في التاريخ " سنة " في المسلمين، يتنادون عليها، ويحتفلون بها، ويحتجون (1) علي تركها إذا تركت!!..
وما لمعاوية فيما قدم لنفسه من هذه الباقيات من عذر يرجي، ولا فيما أخر لتاريخه من مجد يحسد عليه أو يطري. وإذا كان الدهاء هو فشل الانسان فيما قدم وفيما أخر، فمعاوية أدهي الدهاة!.
وكان من أروع مظاهر الدهاء فيه موقفه من صلح الحسن عليه السلام بما جر عليه هذا الصلح من ويلات معنوية ونكبات تاريخية في حياته وبعد مماته!!.
وكان معني الصلح في مفهوم الناس، وأعني الصلح الذي لج هو في تحصيله حتي أقام الدنيا وأقعدها - هو ان يحطم السنان وان يكم اللسان وان يكون كل وشأنه. وفق الحدود التي ستقررها المعاهدة فيما يتفق عليه الفريقان. وجاءت المادة الثالثة من اتفاقيتهما، وهي صريحة بوجوب الكف عن السب، فكان علي معاوية ان يكف، لو انه أراد الصلح حقيقة، أو أراد الوفاء بالشروط كما يفرضه الذمام والعهد والايمان.
ولكن الرجل لم يطلب الصلح الا ليسرح الجنود، وليأمن غائلة حربه مع الحسن ابن رسول الله (ص) - كما أشير اليه -، لم يشأ ان يرجع في صلحه إلي التزام المقررات، أو الاكتراث بالمعاهدات، فوقع الصلح ولكنه انما وقعه حبرا علي ورق، وحلف الايمان وأعطي المواثيق ولكنه
(1) سبق في الفصل (14) زيادة توضيح للبحث مع ذكر المصادر بأرقامها.
(٣١٤)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، صلح (يوم) الحديبية (8)، التاريخ الإسلامي (1)، الظلم (1)، السب (1)

صفحه 215

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣١٥
أرسلها ارسالا لا يتحسس من ورائه ذمة ولا سؤالا. وجاء الكوفة، وسبق إلي منبرها فذكر عليا ونال منه، ثم نال من الحسن، فقام الحسين ليرد عليه، فأخذ الحسن بيده فأجلسه، ثم قام فقال ما شاء أن يقول من أسلوب حكيم، ودعوة حق إلي صراط مستقيم.. [وقد مرت خطبة الحسن بطولها وما قاله معاوية قبلها في الفصل (18)].
وكان فيما هتف الناس به للحسن علي خطابه وجوابه، ما لم يرض له معاوية، وهو إذ ذاك لا يزال ثملا بخمرة الانتصار الموهوم، فرأي أن ينظم حملة جديدة لتربيت الخلق الذي لا يحسد عليه - خلق السباب والشتم والطعن في الناس -، رغم أن المثالية الاسلامية تناقض هذا الخلق وتنكره علي الناس وتدعوهم إلي التراحم والتحابب والاخوة في الدين، وتقول فيما تقول: " لا يكون المؤمن سبابا ولا فحاشا ولا طعانا ولا لعانا ".
" فقال أبو الحسن علي بن محمد بن أبي يوسف المدائني في كتاب الاحداث: كتب معاوية نسخة واحدة بعد عام الجماعة، أن برئت الذمة ممن روي شيئا من فضل أبي تراب - يعني عليا عليه السلام - وأهل بيته. فقامت الخطباء في كل كورة وعلي كل منبر، يلعنون عليا ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي عليه السلام (1) ".
ودعا المغيرة بن شعبة وهو يريد أن يستعمله علي الكوفة - بعد الصلح - فقال له: أما بعد. فان لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا، ولا يجزي عنك الحليم بغير التعليم، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة، انا تاركها، اعتمادا علي بصرك. ولست تاركا إيصاءك بخصلة واحدة، لا تترك شتم علي وذمه!! (2) ".
ثم خلف المغيرة علي الكوفة زياد " فكان يجمع الناس بباب قصره
(1) ابن أبي الحديد (ج 3 ص 15).
(2) ابن الأثير (ج 3 ص 187)، والطبري (ج 6 ص 141).
(٣١٥)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، مدينة الكوفة (4)، صلح (يوم) الحديبية (1)، المغيرة بن شعبة (1)، علي بن محمد (1)، الجماعة (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، إبن الأثير (1)

صفحه 216

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣١٦
يحرضهم علي لعن علي، فمن أبي عرضه علي السيف!! (1) ".
وأما في البصرة. فإنه استعمل عليها بسر بن أرطاة " فكان يخطب علي منبرها فيشتم عليا، ويقول: ناشدت الله رجلا علم أني صادق الا صدقني أو كاذب الا كذبني ". قال الطبري في تاريخه: " فقال له أبو بكرة: اللهم انا لا نعلمك الا كاذبا!، قال: فأمر به فخنق، ثم أنقذوه منه!! (2) ".
واما في المدينة، وواليه عليها مروان بن الحكم، فكان لا يدع سب علي عليه السلام علي المنبر كل جمعة. قال ابن حجر المكي: " وكان الحسن يعلم ذلك ولا يدخل المسجد الا عند الإقامة، فلم يرض بذلك مروان، حتي أرسل إلي الحسن في بيته بالسب البليغ لأبيه وله!! (3) ".
" ولما حج معاوية - بعد الصلح - طاف بالبيت ومعه سعد بن أبي وقاص، فلما فرغ انصرف معاوية إلي دار الندوة، فأجلسه معه علي سريره، ووقع معاوية في علي وشرع في سبه، فزحف سعد، ثم قال: أجلستني معك علي سريرك ثم شرعت في سب علي!. والله لأن يكون في خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس!. والله لأن أكون صهر الرسول صلي الله عليه وسلم، لي من الولد ما لعلي، أحب إلي من ان يكون لي ما طلعت عليه الشمس!. ولله لأن يكون رسول الله صلي الله عليه وسلم قال لي ما قاله يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، ليس بفرار، يفتح الله علي يديه، أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس!. والله لأن يكون رسول الله صلي الله عليه وسلم قال لي ما قاله له في غزوة تبوك: ألا ترضي ان تكون مني بمنزلة هارون من موسي الا أنه لا نبي بعدي، أحب إلي من ان يكون لي ما طلعت عليه الشمس!، وأيم الله
(١) المسعودي (هامش ابن الأثير ج ٦ ص ٩٩).
(٢) الطبري (ج ٦ ص ٩٦) وابن الأثير (ج ٣ ص ١٠٥).
(٣) يراجع النصائح الكافية (ص 73 الطبعة الأولي).
(٣١٦)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (3)، عمر بن سعد لعنه الله (1)، معركة تبوك (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، مروان بن الحكم (1)، مدينة البصرة (1)، خيبر (1)، الطواف، الطوف، الطائفة (1)، السجود (1)، الحج (1)، السب (2)، كتاب الكافئة للشيخ المفيد (1)، إبن الأثير (2)

صفحه 217

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣١٧
لا دخلت لك دارا ما بقيت (1) ".
وروي المسعودي من جواب معاوية لسعد، ما نربأ بقلمنا عن التصريح به لقبحه، ولكنه علي كل حال دليل جديد علي مبلغ إسفاف الرجل في خلقه وفي آدابه وفي مجاملاته..
4 - الوفاء بالشرط الرابع قال الطبري (ج 6 ص 95): " وحال أهل البصرة بينه - يعني بين الحسن - وبين خراج دار ابجرد، وقالوا: فيئنا ".
وقال ابن الأثير (ج 3 ص 162): " وكان منعهم - يعني منع أهل البصرة - بأمر من معاوية أيضا!! ".
5 - الوفاء بالشرط الخامس وكان الشرط - كما علمت - هو العهد بالأمان العام، والأمان لشيعة علي علي الخصوص، وأن لا يبغي للحسنين عليهما السلام وأهل بيتهما غائلة سرا ولا جهرا.
وللمؤرخين فيما يرجع إلي موضوع هذا الشرط نصوص كثيرة، بعضها وصف للكوارث الداجية التي جوبه بها الشيعة من الحكام الأمويين في عهد معاوية، وبعضها قضايا فردية فيما نكب به معاوية الشخصيات الممتازة من أصحاب أمير المؤمنين، وبعضها خيانته تجاه الحسن والحسين خاصة. وليكن عرضنا لهذه النصوص هنا علي الترتيب المذكور أيضا.
(1) المسعودي (هامش ابن الأثير ج 6 ص 81 - 82).
معاوية وشيعة علي " عليه السلام "
(٣١٧)
مفاتيح البحث: الدولة الأموية (1)، إبن الأثير (2)، مدينة البصرة (2)، المنع (2)، الترتيب (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)

صفحه 218

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٢٠
كانت السياسة الأموية التي وضعها معاوية ثم تبعه عليها الامراء الأمويون من بعده، هي أن يخلقوا من أنفسهم سادة يستأثرون بكل محمدة في الناس، فما الكرم ولا الحلم ولا الدهاء ولا الشجاعة ولا الفصاحة الا بعض هباتهم الخاصة التي احتجزوها من دون الناس جميعا، وقد وضعوا في سبيل تركيز هذه السياسة المتعمدة، التاريخ الزائف الذي ظل يفيض بسلسلة من الأحاديث الموضوعة، والقصص المصطنع، والأكاذيب المنوعة، والادعاء الفارغ، وأمروا الوعاظ المأجورين، ومعلمي الكتاتيب في سائر بلدان المملكة الاسلامية، بدراسة الأمالي الأموية بما فيها من مدح زائف أو قدح كاذب، وعملوا كل ما كان بوسعهم أن يعملوه ليثيروا في قلوب الناشئة من أولاد الناس الغرور بحبهم، والانقياد المطلق لدهائهم، فإذا بهذه الناشئة بعد لأي جنود لامية يتخاصمون بدمائهم البريئة لأهدافها، وإذا بسيول الدماء تصبغ بقاع الأرض لتستقيم صفوف الخدم والحشم والوكلاء والمقدمين في بلاد الأسياد المتغلبين.
ولم يكن ثمة هدف آخر غير هدف الاستئثار بالسيادة والملك والثراء واللذات الدنيوية الرخيصة، وهو ما كان يضيق به المعنيون بدينهم من آل محمد صلي الله عليه وآله، ومن المسلمين الثابتين علي الاخلاص لله في إسلاميتهم، ومن هنا كان مبعث الشقاق المتواصل الحلقات بين هذه الطبقة من أموية الاسلام، وتلك الفئة من حملة تراث الاسلام ودعاته المخلصين.
جاء في تاريخ الطبري (ج 7 ص 104) استطراد مقتضب يرفعه إلي زيد بن أنس عن الوضع العام الذي كان يرزح تحته معاشر الشيعة في أيام معاوية، وكان فيما يقوله أحدهم وهو يخاطبهم: " انكم كنتم تقتلون
(٣٢٠)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، كتاب أمالي الصدوق (1)، الدولة الأموية (3)، الأحاديث الموضوعة (1)، كتاب تاريخ الطبري (1)، القتل (1)، البعث، الإنبعاث (1)، الكرم، الكرامة (1)

صفحه 219

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٢١
وتقطع أيديكم وأرجلكم وتسمل أعينكم وترفعون علي جذوع النخل في حب أهل بيت نبيكم وأنتم مقيمون في بيوتكم وطاعة عدوكم!! ".
والحديث علي اقتضابه تفصيل غريب ومعرض رهيب لم يحدثنا المسعودي الا بطرف منه فيما نقلناه عنه قريبا.
أما المدائني المتوفي سنة 225، وسليم بن قيس المتوفي سنة 70، فإنهما عرضا صورة كاملة من هذه المعارض الرهيبة والمآسي الكئيبة، وكان سليم بن قيس أحد شهودها المروعين بها، لأنه عاش معاصرا لمعاوية ومات بعده بعشر سنين، ولا شاهد كشاهد عيان، ولذلك فلنؤثر لفظه، وان كان المدائني يكاد لا يختلف عنه في قليل ولا كثير، قال:
" قدم معاوية حاجا - في خلافته - بعدما قتل أمير المؤمنين وصالح الحسن.. واستقبله أهل المدينة وفيهم قيس بن سعد - وكان سيد الأنصار وابن سيدهم - فدار بينهما الحديث حتي انتهيا إلي [الخلافة]. فقال قيس: ولعمري ما لأحد من الأنصار ولا لقريش ولا لاحد من العرب والعجم في الخلافة حق مع علي وولده من بعده. فغضب معاوية.. ونادي مناديه وكتب بذلك نسخة واحدة إلي عماله: (ألا برئت الذمة ممن روي حديثا في مناقب علي وأهل بيته!!). وقامت الخطباء في كل كورة ومكان علي المنابر بلعن علي بن أبي طالب والبراءة منه، والوقيعة في أهل بيته، واللعنة لهم بما ليس فيهم. ثم ان معاوية مر بحلقة من قريش، فلما رأوه قاموا اليه غير عبد الله بن عباس، فقال له: يا ابن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك الا لموجدة علي بقتالي إياكم يوم صفين، يا ابن عباس ان ابن عمي عثمان قتل مظلوما، قال ابن عباس: فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوما فسلم الامر إلي ولده، وهذا ابنه. قال: ان عمر قتله مشرك، قال ابن عباس: فمن قتل عثمان؟ قال: قتله المسلمون، قال: فذلك أدحض لحجتك، ان كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس الا بحق، قال: فانا كتبنا إلي الآفاق ننهي عن ذكر مناقب علي وأهل بيته، فكف
(٣٢١)
مفاتيح البحث: عبد الله بن عباس (5)، الخليفة عمر بن الخطاب (1)، علي بن أبي طالب (1)، سليم بن قيس (2)، قيس بن سعد (1)، القتل (6)، الشهادة (1)، الظلم (2)، الوفاة (1)

صفحه 220

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٢٢
لسانك يا ابن عباس. قال: فتنهانا عن قراءة القرآن؟ قال: لا، قال: فتنهانا عن تأويله؟ قال: نعم، قال: فنقرأه ولا نسأل عما عني الله به؟ قال: نعم، قال: فأيهما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟ قال: العمل به، قال: فكيف نعمل به حتي نعلم ما عني الله بما أنزل علينا؟ قال: سل عن ذلك من يتأوله علي غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك، قال: انما أنزل القرآن علي أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط؟! قال: فاقرأوا القرآن ولا ترووا شيئا مما أنزل الله فيكم ومما قال رسول الله، وارووا ما سوي ذلك! قال ابن عباس: قال الله تعالي: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبي الله الا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. قال معاوية: يا ابن عباس اكفني نفسك وكف عني لسانك، وان كنت لابد فاعلا فليكن سرا ولا تسمعه أحدا علانية! - ثم رجع إلي منزله واشتد البلاء بالأمصار كلها علي شيعة علي وأهل بيته، وكان أشد الناس بلية أهل الكوفة لكثرة من بها من الشيعة، واستعمل عليها زيادا، وجمع له العراقين، وكان يتتبع الشيعة وهو بهم عالم، لأنه كان منهم، فقتلهم تحت كل كوكب، وتحت كل حجر ومدر وأحلأهم وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل منهم، وصلبهم علي جذوع النخل، وسمل أعينهم، وطردهم وشردهم، وكتب معاوية إلي قضاته وولاته في الأمصار أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي الذين يروون فضله ويتحدثون بمناقبه شهادة!! وكتب إلي عماله، انظروا من قبلكم من شيعة عثمان الذين يروون فضله ويتحدثون بمناقبه فأكرموهم وشرفوهم، واكتبوا إلي بما يروي كل واحد منهم فيه باسمه واسم أبيه، وبعث إليهم بالصلات والكسا، وأكثر القطائع للعرب والموالي فكثروا، وتنافسوا في المنازل والضياع، واتسعت عليهم الدنيا، ثم كتب إلي عماله: ان الحديث قد كثر في عثمان فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوهم إلي الرواية في أبي بكر وعمر، فقرأ كل قاض وأمير كتابه علي الناس، وأخذ الناس في الروايات فيهم وفي مناقبهم، ثم كتب نسخة جمع فيها جميع ما روي فيهم من المناقب، وأنفذها إلي عماله، وأمرهم بقراءتها علي المنابر. وفي كل
(٣٢٢)
مفاتيح البحث: عبد الله بن عباس (3)، مدينة الكوفة (1)، القرآن الكريم (3)، الشهادة (1)

صفحه 221

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٢٣
كورة، وفي كل مسجد، وأمرهم أن ينفذوا إلي معلمي الكتاتيب أن يعلموها صبيانهم حتي يرووها ويتعلموها كما يتعلمون القرآن حتي علموها بناتهم ونساءهم وخدمهم - ثم كتب إلي عماله نسخة واحدة: (انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان)، ثم كتب كتابا آخر: (من اتهمتموه ولم تقم عليه بينة فاقتلوه!!) فقتلوهم علي التهم والظن والشبه تحت كل كوكب، حتي لقد كان الرجل يسقط بالكلمة فتضرب عنقه!!. وجعل الامر لا يزداد الا شدة، وكثر عددهم، وأظهروا أحاديثهم الكاذبة فنشأ الناس علي ذلك، لا يتعلمون الا منهم. وكان أعظم الناس في ذلك القراء المراؤون المتصنعون الذين يظهرون الحزن والخشوع والنسك ويكذبون، ليحظوا عند ولاتهم، ويصيبوا بذلك الأموال والقطائع والمنازل. حتي صارت أحاديثهم في أيدي من يحسب انها حق فرووها وعلموها. وصارت في أيدي المتدينين الذين لا يستحلون الكذب، فقبلوها وهم يرون أنها حق، ولو علموا انها باطل لم يرووها ولم يتدينوا بها، فلما مات الحسن بن علي عليه السلام. لم تزل الفتنة والبلاء يعظمان ويشتدان ".
أقول: وروي مثل ذلك بكامله أبو الحسن المدائني فيما أخذه عنه ابن أبي الحديد (ج 3 ص 15 - 16) وقال في آخره:
" فلم يزل الامر كذلك حتي مات الحسن بن علي عليه السلام، فازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل الا وهو خائف علي دمه أو طريد في الأرض ".
وكان هذا أسلوبا من الحوادث تستسيغه المحاكمة في ظروف الفريقين، ويصدقه التناسق التاريخي في تسلسل الاحداث. ولا يضيره اغفال المؤرخين الآخرين لأنهم - ولنعذرهم - انما كانوا يكتبون للسياسة القائمة، أو لما لا يضيرها علي الأقل.
وتقدم أن الطبري والمسعودي ألمحا إلي كل ذلك باختصار. وعلي
(٣٢٣)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (2)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، أبو الحسن المدائني (1)، القرآن الكريم (1)، الكذب، التكذيب (1)، القتل (1)، الموت (2)، الحزن (1)، الخوف (1)، السجود (1)

صفحه 222

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٢٤
هذا فمصادر هذه المادة: سليم بن قيس، المدائني، ابن أبي الحديد، الطبري، المسعودي.
وفي سبيل الله أشلاء مضرجة، وشمل شتيت، وحطام من مساكن يشرد أهلها أو يساقون إلي الجزر سوق القطيع! فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
وتلك هي تعبئة معاوية لاقتناص الخلافة في الاسلام له ولبنيه!.
وتلك هي طريقته البكر في وفائه بعهود الله ومواثيقه!.
* * * وزاد سليم بن قيس بعد ذلك فقال:
" ولما كان قبل موت معاوية بسنة، حج الحسين بن علي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر فجمع الحسين بني هاشم، ثم رجالهم ونساءهم ومواليهم ومن حج منهم من الأنصار، ممن يعرفه الحسين عليه السلام وأهل بيته، ثم أرسل رسلا: لا تدعوا أحدا حج العام من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله المعروفين بالصلاح والنسك الا أجمعوهم لي، فاجتمع اليه بمني أكثر من سبعمائة رجل، وهم في سرادقه، عامتهم من التابعين، ونحو من مائتي رجل من أصحاب النبي صلي الله عليه وآله وسلم. فقام فيهم خطيبا.
" فحمد الله واثني عليه ثم قال: أما بعد، فان هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم. واني أريد أن أسألكم عن شئ فان صدقت فصدقوني وان كذبت فكذبوني، اسمعوا مقالتي، واكتبوا قولي، ثم ارجعوا إلي أمصاركم وقبائلكم فمن أمنتم من الناس، ووثقتم به فادعوهم إلي ما تعلمون من حقنا. فاني أتخوف أن يدرس هذا الامر ويذهب الحق ويغلب، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
" وما ترك شيئا مما أنزله الله فيهم من القرآن الا تلاه وفسره، ولا
(٣٢٤)
مفاتيح البحث: صحابة (أصحاب) رسول الله (ص) (2)، الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، عبد الله بن عباس (1)، عبد الله بن جعفر الطيار بن أبي طالب عليه السلام (1)، الحسين بن علي (1)، بنو هاشم (1)، سليم بن قيس (2)، سبيل الله (1)، القرآن الكريم (1)، الكذب، التكذيب (1)، التعبأة، العبء (1)، الحج (3)

صفحه 223

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٢٥
شيئا مما قاله رسول الله صلي الله عليه وآله في أبيه وأخيه وأمه وفي نفسه وأهل بيته الا رواه.. وكل ذلك يقول أصحابه، اللهم نعم وقد سمعنا وشهدنا. ويقول التابعي: اللهم قد حدثني به من أصدقه وأئتمنه من الصحابة. فقال: أنشدكم الله الا حدثتم به من تثقون به وبدينه ".
* * * معاوية وزعماء الشيعة وكان موقف معاوية من زعماء الشيعة بعد صلحه مع الحسن موقف المنتقم الحاقد الذي لا تأخذه بهم رأفة ولا ذمة ولا " عهد "، وكان لخوفه من الدعاوة الفعالة التي يحملها هؤلاء السادة من زعماء الشيعة أثره فيما توفر عليه من القصد إلي ايذائهم وإقصائهم وقتلهم والتنكيل بهم. ولسنا الآن بسبيل استقصاء ما عمله معاوية تجاه هؤلاء الشيعة، ولا استقصاء ما كان ينويه بهم من خطط بعيدة الأهداف. ولكننا - لندل علي مدي وفاء هذا الأموي بشروطه وإيمانه - سنورد في هذا الفصل بعض أعماله تجاههم وبعض نواياه بهم. وفي قليل من هذه الأمثلة كفاية عن الكثير آثرنا تركه أو خفي علينا علمه.
وقد خسر تاريخ هؤلاء الشيعة انصاف المؤرخين بعد ذلك، ولعب التعصب الذميم دوره المهم في طمس معالم هذا التاريخ أحفل ما يكون بالقضايا البارزة التي كان من حقها أن تأخذ مكانها من عبرة الأجيال. وكان للسلطات الحاكمة عملها في توجيه ما يكتب للتاريخ أو يملي للحديث، حتي فيما يتناول أئمة الشيعة فضلا عن زعمائهم أو سوادهم.
" روي ابن عرفة المعروف بنفطويه وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم في تاريخه ما يناسب هذا.. قال: ان أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم!.
" وقال المدائني عن عصر معاوية: وظهر حديث كثير موضوع،
(٣٢٥)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، الأحاديث الموضوعة (1)، يوم عرفة (1)، بنو أمية (1)، بنو هاشم (1)، القتل (1)، الظنّ (1)، الخسران (1)

صفحه 224

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٢٦
وبهتان منتشر، ومضي علي ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراؤون، والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا مجلسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتي انتقلت تلك الاخبار والأحاديث إلي أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها، وهم يظنون انها حق، ولو علموا انها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها (1) ".
وقال ابن أبي الحديد: " وذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي.. أن معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين علي رواية أخبار قبيحة في علي عليه السلام، تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم علي ذلك جعلا يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه. منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة. ومن التابعين عروة بن الزبير (2) ".
أقول: وشئ قليل من حيدة في النظر ودقة في الاستنتاج يكفينا للقناعة بألوان التصرفات الكيفية الواسعة النطاق التي نكب بها كل من حديث الاسلام وتاريخ أحداثه معا. حتي لقد يعز علي المتتبع في ما جريات الحوادث الاسلامية الأولي ان لا يجد قضية من مهمات القضايا الاسلامية يومئذ سلمت في تناسقها التاريخي من الاصطدام بالمفارقات البعيدة التي تغمرها بالشك، ثم لا تزال تأخذ بها بين التيارات المتعاكسة ذات اليمين وذات الشمال.
ولا حاجة بنا بعد ذلك إلي جمع الشهادات والتصريحات علي شيوع الوضع (3) وكثرة الوضاعين، لان خير شهود كل شئ ما كان منه مباشرة.
وكانت قضية الحسن بن علي عليهما السلام بملابساتها وذيولها احدي
(1) و (2) ابن أبي الحديد (ج 3 ص 16) و (ج 1 ص 358).
(3) وللعلامة الأميني النجفي في " كتاب الغدير " (ج 5 من ص 185 إلي 329) بحثه القيم عن الوضاعين الكذابين جمع فيه ستمائة وعشرين كذابا وضاعا ممن سلكهم القوم في رواة الحديث والتاريخ. فليراجع.
(٣٢٦)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (2)، إبن أبي الحديد المعتزلي (2)، أبو هريرة العجلي (1)، المغيرة بن شعبة (1)، عمرو بن العاص (1)، الكذب، التكذيب (1)، الشهادة (1)، الظنّ (1)، العزّة (1)، الوسعة (1)

صفحه 225

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٢٧
هاتيك القضايا التي لعبت الأهواء في التحدث عنها وضعا ورفعا وجمعا وتفريقا، وفقدت تحت تأثير هذا التلاعب المؤسف الذي لم يكن كله مقصودا، كما لم يكن كله غير مقصود، روعة واقعها الأول. وكان من طبيعة هذا الوضع أن تختلف عليه الافهام، ويكثر حوله النقض والابرام. وما هي الا كنموذج واحد من قضايا كثيرة في تاريخ الاسلام ظلمها التاريخ وجللها بالظلام.
وانهم ليعرفون، وهم يؤرخون الحسن، مكانة الحسن في التاريخ ويعلمون أنهم انما يكتبون عن " أحد الأحدين " في العالم الاسلامي كله.
فكيف بهم إذا جاوزوا فيما يؤرخون مثل هذه النقطة المركزة، إلي نقاط لا تبلغ في موضوعها خطورة امام؟.
لذلك يجب أن لا نطمع في موضوع [معاوية وزعماء الشيعة] بالحصول علي الحقائق الكافية التي تملأ نهم البحث، ولا بالوقوف علي الاحصاءات الصحيحة التي تسد نطاق الموضوع، بما يتناسب وحديث المدائني، وتفاصيل سليم بن قيس.
ذلك لأن كل شئ من هذا القبيل، وكل شئ من تاريخ الشيعة الصحيح، قد طغت عليه التصرفات المعارضة، وأكلته الأكاذيب المأجورة علي طول التاريخ.
وليس لنا الآن، الا أن نعود فنتسقط الاخبار من هنا ومن هنالك لنعرض شيئا له صورته التاريخية التي نعتقد أنها - علي فظاعتها - قليل من كثير، وبعض من كل.
واليك الآن القائمة المحزونة التي تحمل أسماء هؤلاء بما فيهم من صحابة وتابعين، ولندرس علي ضوء هذه القائمة جواب معاوية علي الشرط الخامس من شروط معاهدة الصلح. ثم لنتدرج مع فقرات هذا الشرط فيما نأتي عليه من فصول.
أ - الشهداء المقتولون صبرا..
(1 - حجر بن عدي الكندي) يعرف بحجر الخير، ويكني بأبي عبد الرحمن بن عدي بن الحرث بن عمرو بن حجر المقلب بآكل المرار [ملك الكنديين]. وقيل هو ابن عدي بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين من كندة (1)، ومن ذؤابتها العليا.
صحابي من أعيان أصحاب علي وابنه الحسن عليهما السلام، وسيد من سادات المسلمين في الكوفة ومن أبدالها.
وفد هو وأخوه هانئ بن عدي علي النبي صلي الله عليه وآله، قال في الاستيعاب: " كان حجر من فضلاء الصحابة، وصغر سنه عن كبارهم "، وذكره بمثل ذلك في أسد الغابة، ووصفه الحاكم في المستدرك بأنه: " راهب
(1) وكندة هي من بني كهلان، وبلادهم في اليمن، ثم كان من كبرائهم في العراق - وكهلان وحمير ابنا سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وسبأ اسم يجمع القبيلتين كلتيهما. وكان يقال: ان العرب تعد البيوتات المشهورة بالكبر والشرف بعد بيت هاشم بن عبد مناف أربعة بيوت: بيت قيس الفزاري، والدارميين، وبني شيبان، وبيت اليمن من بني الحارث بن كعب - واما كندة فلا يعدون من أهل البيوتات انما كانوا ملوكا. ومنهم " الملك الضليل - امرؤ القيس " وكان لهم ملك باليمن وبالحجاز - وبقي لكندة مجدها في الاسلام، فمن كندة من كان له ذكر في الفتوح والثورات، ومنهم من ولي الولايات، ومنهم من تقلد القضاء كحسين بن حسن الحجري، ومنهم الشعراء كجعفر بن عفان المكفوف شاعر الشيعة، وكان هانئ بن الجعد بن عدي - ابن أخي حجر - من أشراف الكوفة، وكان جعفر بن الأشعث وابنه العباس بن جعفر من شيعة الامام أبي الحسن موسي بن جعفر وابنه الرضا عليهما السلام. اما الأشعث بن قيس الكندي فكان أكبر منافقي الكوفة. أسلم ثم ارتد بعد النبي ثم أسلم وقبل أبو بكر اسلامه، وزوجه أخته وهي أم محمد بن الأشعث، وتزوج الامام الحسن ابنته، وهي التي سقته السم باغراء معاوية إياها.
(٣٢٧)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، كتاب أسد الغابة لإبن الأثير (1)، كتاب الكافئة للشيخ المفيد (1)، مدينة الكوفة (3)، صلح (يوم) الحديبية (1)، حجر بن عدي الكندي (1)، التاريخ الإسلامي (1)، سليم بن قيس (1)، الشهادة (1)، الإمام علي بن موسي الرضا عليهما السلام (1)، كتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي (1)، دولة العراق (1)، أشعث بن قيس الكندي (1)، العباس بن جعفر (1)، محمد بن الأشعث (1)، موسي بن جعفر (1)

صفحه 226

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٢٩
أصحاب محمد صلي الله عليه وآله وسلم ".
وبلغ من عبادته أنه ما أحدث الا توضأ وما توضأ الا صلي. وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكان ظاهر الزهد، مجاب الدعوة (1)، ثقة من الثقات المصطفين، اختار الآخرة علي الدنيا حتي سلم نفسه للقتل دون البراءة من امامه، وانه مقام تزل فيه الاقدام وتزيغ الأحلام.
كان في الجيش الذي فتح الشام، وفي الجيش الذي فتح القادسية، وشهد الجمل مع علي، وكان أمير كندة يوم صفين، وأمير الميسرة يوم النهروان، وهو الشجاع المطرق الذي قهر الضحاك بن قيس في غربي تدمر. وهو القائل: " نحن بنو الحرب وأهلها، نلقحها وننتجها، قد ضارستنا وضارسناها ".
ثم كان أول من قتل صبرا في الاسلام.
قتله وستة من أصحابه معاوية بن أبي سفيان سنة 51 في " مرج عذراء " بغوطة دمشق علي بعد 12 ميلا منها. وقبره إلي اليوم ظاهر مشهور، وعليه قبة محكمة تظهر عليها آثار القدم في جانب مسجد واسع، ومعه في ضريحه أصحابه المقتولون معه وسنأتي علي ذكرهم.
وهدم زياد ابن أبيه دار حجر في الكوفة.
(1) قال في الإصابة (ج 1 ص 329): " أصابته جنابة - وهو أسير - فقال للموكل به أعطني شرابي أتطهر به، ولا تعطني غدا شيئا، فقال: أخاف ان تموت عطشا فيقتلني معاوية. قال: فدعا الله فانسكبت له سحابة بالماء، فأخذ منها الذي احتاج اليه فقال له أصحابه: ادع الله أن يخلصنا، فقال: اللهم خر لنا ".
السبب في قتله أنه كان يرد علي المغيرة وزياد حين يشتمان عليا عليه السلام، ويقول: " أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل، ومن تزكون أولي بالذم، وكان
(٣٢٩)
مفاتيح البحث: صحابة (أصحاب) رسول الله (ص) (1)، معاوية بن أبي سفيان لعنهما الله (1)، كتاب الثقات لابن حبان (1)، مدينة الكوفة (1)، الضحاك بن قيس (1)، الشام (1)، دمشق (1)، القتل (2)، الوسعة (1)، الزهد (1)، السجود (1)، الحرب (1)، الشهادة (1)، الموت (1)

صفحه 227

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٣٠
إذا جهر بكلمته هذه، وافقه أكثر من ثلثي الناس، وقالوا: " صدق والله حجر وبر ".
أما المغيرة بن شعبة فقد قدر المعنويات التي تعزز حجرا كصحابي فاضل، وكرأس من رجالات علي في الكوفة، وكأمير عربي يرث تاج الكنديين من أقرباء الجدود، وسمع بأذنيه تأييد الناس دعوته غير آبهين بالقوة، ولا خائفين نقمة السلطان، فرأي أن يتمهل في أمره وأن يعتذر إلي ذوي مشورته الذين كانوا يحرضونه علي التنكيل به. ثم قال لهم: " اني قد قتلته ". قالوا: " وكيف ذلك؟ " قال: " انه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيها بما ترونه، فيأخذه عند أول وهلة فيقتله شر قتلة ". وكان المغيرة في موقفه من حجر المنافق الحكيم، وكذلك كان فيما أجاب به صعصعة بن صوحان يوم فتنة المستورد بن علفة الخارجي سنة 43 قال له: " وإياك أن يبلغني عنك أنك تظهر شيئا من فضل علي علانية، فإنك لست بذاكر من فضل علي شيئا أجهله، بل أنا أعلم بذلك!!. ولكن هذا السلطان - يعني معاوية - قد ظهر، وقد أخذنا باظهار عيبه للناس، فنحن ندع كثيرا مما أمرنا به، ونذكر الشيء الذي لا نجد من ذكره بدا، ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقية (1) ".
وولي ابن سمية الكوفة بعد هلاك المغيرة سنة 50 أو 51، فرأي أن يخدم أمويته " المزعومة " بقتل حجر بن عدي ليريحها من أكبر المشاغبين عليها. ولكنه جهل أن دم حجر سيظل يشاغب علي تاريخ أمية ما عرف الناس هذين الاسمين.
وأطال الوالي الجديد خطبته يوم الجمعة حتي ضاق وقت الصلاة - ولصلاة الجمعة وقتها المحدود - فقال حجر - وكان لا يفارق جمعتهم وجماعتهم -: " الصلاة! " فمضي زياد في خطبته. فقال ثانيا: " الصلاة! " فمضي في خطبته. وخشي حجر فوت الفريضة فضرب بيده إلي كف من
(1) الطبري (ج 6 ص 108).
(٣٣٠)
مفاتيح البحث: مواقيت الصلاة (1)، مدينة الكوفة (2)، صلاة الجمعة (1)، حجر بن عدي الكندي (1)، المغيرة بن شعبة (1)، صعصعة بن صوحان (1)، القتل (4)، التصديق (1)، الخوف (1)، الجهل (1)، الصّلاة (2)، النفاق (1)

صفحه 228

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٣١
الحصا، وثار إلي الصلاة وثار الناس معه.
وما كان أبو عبد الرحمن بمكانته الاجتماعية وبروحه العابدة الزاهدة بالذي يترخص في دينه أو يلجأ إلي مجاملة المترخصين، وكان يظن ان في هؤلاء بقية من الحسن قد تنفعها الذكري وقد يجدي معها الانكار، فأنكر انتصافا للحق المهضوم، وجاهد لدينه ولإمامه ولصلاته بلسانه، كما كان يجاهد بسيفه في فتوح الاسلام.
وجاءت قائمة جرائمه - في عرف بني أمية - أنه يرد السب عن علي عليه السلام، وأنه يريد الصلاة لوقتها، ولا شئ غير ذلك!.
ودعا زياد " حواشيه الطيعة " الذين كانوا يبادلونه الذمم بالنعم أمثال عمر بن سعد [قاتل الحسين عليه السلام]، والمنذر بن الزبير، وشمر بن ذي الجوشن العامري، وإسماعيل واسحق ابني طلحة بن عبد الله، وخالد بن عرفطة، وشبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، وعمرو بن الحجاج، وزجر بن قيس.. و " درازن " أخري من هذه النماذج التي طلقت المروءة ثلاثا، وكانوا سبعين رجلا، عدهم الطبري في تاريخه واحدا واحدا [ج 6 ص 150 - 151]، وماز من بينهم أبا بردة بن أبي موسي الأشعري لأنه كان أضعفهم عنده أو لأنه كان أقواهم عند معاوية، وقال له اكتب: - " بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسي الأشعري لله رب العالمين!!، أشهد ان حجر بن عدي خلع الطاعة، وفارق الجماعة!! ولعن الخليفة، ودعا إلي الحرب، وجمع اليه الجموع يدعوهم إلي نكث البيعة، وكفر بالله عز وجل كفرة صلعاء!!.. ".
وقال للسبعين: " علي مثل هذه الشهادة فاشهدوا. أما والله لأجهدن علي قطع خيط هذا الخائن الأحمق!! ". فشهد علي هذه الصحيفة الخائنة الحمقاء سبعون من اشراف الكوفة و " أبناء البيوتات "!!.. وكتب إلي معاوية في حجر وكثر عليه فكتب اليه معاوية: " شده في الحديد واحمله إلي ".
(٣٣١)
مفاتيح البحث: الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، عمر بن سعد لعنه الله (1)، مدينة الكوفة (1)، حجار بن أبجر (1)، شبث بن ربعي اليربوعي (1)، حجر بن عدي الكندي (1)، طلحة بن عبد الله (1)، شمر بن ذي الجوشن لعنه الله (1)، بنو أمية (1)، الشهادة (3)، القتل (1)، الصّلاة (2)، الحرب (1)، الظنّ (1)، السب (1)، الجماعة (1)

صفحه 229

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٣٢
ولنتذكر هنا سوابق هذه الحفنة من أبناء بيوتات الكوفة في قضية الحسن بن علي عليهما السلام أيام خلافته، وهل كان الفارون من الزحف في مسكن، والمتألبون علي الشر في المدائن، والمكاتبون معاوية علي الغدر بالامام وتسليمه إياه الا هؤلاء؟. فمن هو إذا الذي خلع الطاعة وفارق الجماعة ونكث البيعة أحجر بن عدي أم هم؟
ثم لنتذكر مواقف هؤلاء أنفسهم في فاجعة الحسين عليه السلام بكربلاء، وكانوا يومئذ سيوف الجبابرة الأمويين الذين تحملوا مسؤوليات تلك الاحداث المؤلمة التي لا حد لفظاعتها في تاريخ العرب والاسلام.
موقف الكوفة في حادثة حجر وكان باستطاعة حجر ان يشعل نار الثورة التي تقض مضجع معاوية في الكوفة، لو انه شاء المقاومة بالسلاح. وفهم معاوية ذلك حين راح يقول - بعد مقتل حجر -: " لو بقي حجر لأشفقت أن يعيدها حربا أخري "، وفهم زياد ذلك حين اتبع حجرا بريده وقال له: " اركض إلي معاوية وقل له: ان كان لك في سلطانك حاجة فاكفني حجرا ".
ولكن الزعيم الشيعي الذي كان قد درس علي الامام الحسن بن علي عليهما السلام تضحياته الغالية في سبيل حقن الدماء، منع قومه من الحرب صريحا.
ولكن جماعة من أصحابه اشتبكت بشرطة زياد و (بخاريته) عند أبواب كندة، وجماعة أخري التحمت بهم عند باب داره - قرب جبانة كندة - وكان من ابطال هاتين الموقعتين عبد الله بن خليفة الطائي، وعمرو بن الحمق الخزاعي - وسنأتي علي ذكرهما في الفصول القريبة -، وعبد الرحمن بن محرز الطمحي، وعائذ بن حملة التميمي، وقيس بن يزيد، وعبيدة بن عمرو، وقيس بن شمر، وعمير بن يزيد الكندي المعروف (بأبي العمرطة). قالوا: " وكان سيف أبي العمرطة أول سيف ضرب
(٣٣٢)
مفاتيح البحث: الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (2)، الدولة الأموية (1)، مدينة كربلاء المقدسة (1)، مدينة الكوفة (3)، عبد الله بن خليفة الطائي (1)، عبيدة بن عمرو (1)، قيس بن يزيد (1)، عمرو بن الحمق (1)، المنع (1)، الضرب (1)، الحرب (1)، القتل (1)، الجماعة (2)

صفحه 230

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٣٣
به في الكوفة يوم حجر ". - وخرج قيس بن فهدان الكندي علي حمار له، يسير في مجالس كندة يحرضهم علي الحرب.
وحصب أهل الكوفة زيادا (1) - وكان ذلك هو ميراثه الشرعي من أمه سمية.
أما حجر نفسه فأصر علي قومه بأن يردوا السيوف إلي أغمادها، وقال لهم: " لا تقاتلوا فاني لا أحب ان أعرضكم للهلاك.. وانا آخذ في بعض هذه السكك ".
وأخطأته عيون زياد التي كانت تلاحقه، لان الناس كلهم أو أكثر من ثلثي الناس كانوا يمنعون حجرا من هذه العيون.
وهكذا ضاق زياد بحجر وأصحابه، فجمع اشراف الكوفة وقال لهم: " يا أهل الكوفة: أتشجون بيد وتأسون بأخري، أبدانكم معي، وأهواؤكم مع حجر، أنتم معي واخوانكم وأبناؤكم وعشائركم مع حجر. هذا والله من دحسكم وغشكم. والله لتظهرن لي براءتكم، أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم ".. ثم قال: " فليقم كل امرئ منكم إلي هذه الجماعة حول حجر. فليدع كل رجل منكم أخاه وابنه وذا قرابته ومن يطيعه من عشيرته، حتي تقيموا عنه كل من استطعتم أن تقيموه ".
ثم أمر زياد أمير شرطته [شداد بن الهيثم الهلالي] بالقبض علي حجر. وعلم ان شرطته ستعجز عنه، فدعا محمد بن الأشعث الكندي، وقال له: " يا أبا ميثاء، أما والله لتأتينني بحجر، أو لا ادع لك نخلة الا قطعتها، ولا دارا الا هدمتها، ثم لا تسلم حتي أقطعك إربا إربا! " قال له: " أمهلني حتي أطلبه ". قال " أمهلتك ثلاثا، فان جئت به والا عد نفسك في الهلكي! ".
أقول: ولم كل هذا الحنق؟ أللدين وما كان ابن سمية بأولي به
(1) قال الطبري: " ومن يومه اتخذ المقصورة " (ج 6 ص 132).
(٣٣٣)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (4)، محمد بن الأشعث (1)، القتل (1)، الهدم (1)، الحرب (1)، الجماعة (1)

صفحه 231

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٣٤
من الصحابي العابد الذي كان يصلي كل يوم وليلة الف ركعة، ثم لا ذنب له الا أن ينهي عن المنكر ويريد الفرائض لوقتها؟! - أم للدنيا، وقد خسروا في مقتل حجر صبابة معنوياتهم في التاريخ!!
وحاول زياد ان يقتل الكنديين بعضهم ببعض بما أمر به ابن الأشعث الكندي، وكان ذلك من جملة الأساليب الرثة التي يتوارثها الحاكمون بأمرهم في الشعوب المغلوبة علي أمرها في القديم والحديث.
وعلم حجر ما أراده زياد في الكنديين وأصحابهم فقال: " ولكن سمع وطاعة ".
ودارت الشرطة للقبض علي الأسماء البارزة من مؤازريه، فجمعوا تسعة من أهل الكوفة وأربعة من غيرها - برواية المسعودي -.
وعدهم ابن الأثير هكذا: " حجر بن عدي الكندي، والأرقم بن عبد الله الكندي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة العبسي، وكريم بن عفيف الخثعمي، وعاصم بن عوف البجلي، وورقاء بن سمي البجلي، وكدام بن حيان، وعبد الرحمن بن حسان العنزيان، ومحرز بن شهاب التميمي، وعبد الله بن حوبة السعدي التميمي ". قال: " فهؤلاء اثنا عشر رجلا. واتبعهم زياد برجلين وهما: عتبة بن الأخنس من سعد بن بكر، وسعد بن نمران الهمداني. فقوموا أربعة عشر رجلا ".
ونشط - إذ ذاك - المشاؤون بالنميم، وما كان أكثرهم في هذا البلد المنكوب!
ومكث حجر في سجن الكوفة عشرة أيام حتي جمعوا اليه من أصحابه من ذكرنا، ثم أمر بهم فسيقوا إلي الشام. وكان كل ما في الكوفة يدل علي تمخض الوضع عن وثبة لا يدري مدي بلائها علي الحاكم والمحكوم.
ولكن زيادا فطن إلي ذلك، فأمر باخراجهم " عشية " ليتستر بالظلام،
(٣٣٤)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (3)، إبن الأثير (1)، حجر بن عدي الكندي (1)، صيفي بن فسيل (1)، سعد بن بكر (1)، الشام (1)، القتل (2)

صفحه 232

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٣٥
فيخفف من عرامة هذا الظلم المفضوح.
ونظر قبيصة بن ربيعة - أحد أصحاب حجر - فإذا هو يمر علي داره في جبانة " عرزم " وإذا بناته مشرفات يبكينه، فكلمهن ووعظهن بما سنأتي علي ذكره عند ترجمته، ثم انصرف.
وأنشأت ابنة حجر في احدي لياليها السود وقد قطع الخوف علي أبيها نياط قلبها وهي تخاطب القمر - وقيل بل الأبيات لهند بنت زيد الأنصارية ترثي حجرا:
ترفع أيها القمر المنير * * * لعلك أن تري حجرا يسير يسير إلي معاوية بن حرب * * * ليقتله كما زعم الأمير ويصلبه علي بابي دمشق * * * وتأكل من محاسنه النسور تجبرت الجبابر بعد حجر * * * وطاب لها الخورنق والسدير وأصبحت البلاد له محولا * * * كأن لم يحيها مزن مطير ألا يا حجر حجر بني عدي * * * تلقتك السلامة والسرور أخاف عليك ما أردي عليا * * * وشيخا في دمشق له زئير فان تهلك فكل عميد قوم * * * من الدنيا إلي هلك يصير * * * مقتله وصاروا بهم إلي عذراء، وكانت قرية علي اثني عشر ميلا من دمشق، فحبسوا هناك، ودار البريد بين معاوية وزياد، فما زادهم التأخير الا عذابا. وجاءهم أعور معاوية في رهط من أصحابه يحملون أمره بقتلهم ومعهم أكفانهم فقال لحجر: " أن أمير المؤمنين أمرني بقتلك يا رأس الضلال!!.. ومعدن الكفر والطغيان!!.. والمتولي لأبي تراب، وقتل أصحابك الا أن ترجعوا عن كفركم، وتلعنوا صاحبكم وتتبرأوا منه " - فقال حجر وأصحابه: " ان الصبر علي حد السيف لأيسر علينا مما تدعوننا
(٣٣٥)
مفاتيح البحث: دمشق (3)، الظلم (1)، الأكل (2)، الحرب (1)، القتل (1)، الضلال (1)، الخوف (1)، الهلاك (1)، الصبر (1)

صفحه 233

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٣٦
اليه ثم القدوم علي الله وعلي نبيه وعلي وصيه أحب الينا من دخول النار ".
وحفرت القبور، وقام حجر وأصحابه يصلون عامة الليل، فلما كان الغد قدموهم ليقتلوهم فقال لهم حجر: " اتركوني أتوضأ وأصل فاني ما توضأت الا صليت ". فتركوه فصلي ثم انصرف، وقال: " والله ما صليت صلاة أخف منها، ولولا أن تظنوا في جزعا من الموت لاستكثرت منها ".
ثم قال: " اللهم انا نستعديك علي أمتنا، فان أهل الكوفة شهدوا علينا، وان أهل الشام يقتلوننا، أما والله لئن قتلتموني بها، فاني لأول فارس من المسلمين هلك في واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها (1) ".
ثم مشي اليه هدبة بن فياض القضاعي بالسيف، فارتعد - فقالوا له: " زعمت أنك لا تجزع من الموت، فابرأ من صاحبك وندعك!! ".
فقال: " مالي لا أجزع وأري قبرا محفورا، وكفنا منشورا، وسيفا مشهورا، واني والله ان جزعت من القتل، لا أقول ما يسخط الرب! ".
وشفع في سبعة من أصحاب حجر ذوو حزانتهم من المقربين لدي معاوية في الشام.
وعرض الباقون علي السيف، وقال حجر في آخر ما قال: " لا تطلقوا عني حديدا، ولا تغسلوا عني دما، فاني لاق معاوية غدا علي الجادة واني مخاصم ". وذكر معاوية كلمة حجر هذه فغص بها ساعة هلك - معاوية - فجعل يغرغر بالصوت ويقول: " يومي منك يا حجر يوم طويل ".
(1) ابن الأثير (ج 3 ص 192) وقال ابن سعد ومصعب الزبيري فيما رواه الحاكم عنه عند ذكر حجر: " وقتل بمرج عذراء بأمر معاوية وكان حجر هو الذي افتتحها فغدر بها ". أقول: وهو معني قوله هنا: " وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها " يعني يوم فتحها.
فاجعته في المسلمين حج معاوية بعد قتله حجرا وأصحابه فمر بعائشة " واستأذن عليها
(٣٣٦)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (1)، الشام (2)، الموت (2)، القتل (3)، القبر (1)، الهلاك (2)، الشهادة (1)، الصّلاة (2)، إبن الأثير (1)

صفحه 234

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٣٧
فأذنت له، فلما قعد قالت له: يا معاوية أأمنت ان أخبئ لك من يقتلك؟ قال: بيت الامن دخلت، قالت: يا معاوية أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه؟ (1) ". وقالت: " لولا انا لم نغير شيئا الا صارت بنا الأمور إلي ما هو أشد منه لغيرنا قتل حجر، أما والله ان كان ما علمت لمسلما حجاجا معتمرا (2) ".
وكتب شريح بن هاني إلي معاوية يذكر حجرا ويفتيه بحرمة دمه وماله ويقول فيه: " انه ممن يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويديم الحج والعمرة، ويأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، حرام الدم والمال (3) ".
وكان ابن عمر - منذ أخذ حجر - يتخبر عنه فأخبر بقتله وهو بالسوق فأطلق حبوته وولي وهو يبكي (4).
ودخل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام علي معاوية وقد قتل حجرا وأصحابه، فقال له: " أين غاب عنك حلم أبي سفيان!؟ " قال: " غاب عني حين غاب عني مثلك من حلماء قومي، وحملني ابن سمية فاحتملت!! " قال: " والله لا تعد لك العرب حلما بعد هذا أبدا ولا رأيا، قتلت قوما بعث بهم إليك أساري من المسلمين.. ".
وقال مالك بن هبيرة السكوني حين أبي معاوية أن يهب له حجرا، وقد اجتمع اليه قومه من كندة والسكون وناس من اليمن كثير، فقال: " والله لنحن اغني عن معاوية من معاوية عنا وانا لنجد في قومه (5) منه بدلا ولا يجد منا في الناس خلفا.. ".
وقيل لأبي اسحق السبيعي: " متي ذل الناس؟ " فقال: " حين مات الحسن، وادعي زياد، وقتل حجر بن عدي (6) ".
وقال الحسن البصري: " أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه
(1) الطبري (ج 6 ص 156).
(2) ابن الأثير (ج 3 ص 193).
(3) و (4) الطبري (ج 6 ص 153).
(5) يعني بني هاشم.
(6) ابن أبي الحديد (ج 4 ص 18).
(٣٣٧)
مفاتيح البحث: الامر بالمعروف (1)، حجر بن عدي الكندي (1)، شريح بن هاني (1)، الحسن البصري (1)، الحج (1)، الزكاة (1)، القتل (5)، الموت (1)، الصّلاة (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، إبن الأثير (1)، بنو هاشم (1)

صفحه 235

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٣٨
منهن الا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه علي هذه الأمة بالسفهاء حتي ابتزها أمرها - يعني الخلافة - بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكيرا خميرا يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زيادا، وقد قال رسول الله صلي الله عليه (وآله) وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجرا. ويل له من حجر وأصحاب حجر - مرتين - (1) ".
ومات الربيع بن زياد الحارثي غما لمقتل حجر، وكان عاملا لمعاوية علي خراسان. قال ابن الأثير (ج 3 ص 195): " وكان سبب موته أنه سخط قتل حجر بن عدي، حتي انه قال: لا تزال العرب تقتل صبرا بعده، ولو نفرت عند قتله، لم يقتل رجل منهم صبرا، ولكنها قرت فذلت، ثم مكث بعد هذا الكلام جمعة، ثم خرج يوم الجمعة فقال: أيها الناس، اني قد مللت الحياة فاني داع بدعوة فأمنوا. ثم رفع يديه بعد الصلاة فقال: اللهم ان كان لي عندك خير فاقبضني إليك عاجلا، وأمن الناس - ثم خرج، فما توارت ثيابه حتي سقط (2) ".
وكتب الحسين عليه السلام إلي معاوية في رسالة له: " ألست القاتل حجرا أخا كندة، والمصلين العابدين، الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ولا يخافون في الله لومة لائم؟. قتلتهم ظلما وعدوانا من بعدما كنت أعطيتهم الايمان المغلظة والمواثيق المؤكدة [يشير إلي نصوص المادة الخامسة من معاهدة الصلح] أن لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ولا بإحنة تجدها في نفسك عليهم (3) ".
ثم جاء دور التاريخ فخصص نصر بن مزاحم المنقري كتابا في مقتل حجر بن عدي، ولوط بن يحيي بن سعيد الأزدي كتابا (4)، وهشام بن محمد
(١) الطبري (ج ٦ ص ١٥٧) وغيره.
(٢) وذكر ذلك كل من الاستيعاب وأسد الغابة والدرجات الرفيعة والشيخ في الأمالي.
(٣) البحار (ج ١٠ ص ١٤٩).
(٤) فهرست ابن النديم (ص 136).
(٣٣٨)
مفاتيح البحث: الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، إبن الأثير (1)، حجر بن عدي الكندي (2)، الربيع بن زياد (1)، يحيي بن سعيد (1)، هشام بن محمد (1)، نصر بن مزاحم (1)، خراسان (1)، الظلم (1)، القتل (7)، الموت (1)، الصّلاة (1)، اللبس (1)، الإبداع، البدعة (1)، كتاب أمالي الصدوق (1)، كتاب أسد الغابة لإبن الأثير (1)، ابن النديم (1)

صفحه 236

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٣٩
ابن السائب كتابا في حجر، وكتابا آخر في مقتل رشيد وميثم وجويرية بن مشهر (1) ".
(1) النجاشي (ص 306).
الأحاديث في حجر وأصحابه قال ابن عساكر: " ان عائشة بعد أن أنكرت علي معاوية قتله حجرا وأصحابه، قالت: سمعت رسول الله صلي الله عليه (وآله) وسلم يقول: سيقتل بعذراء - الموضع الذي قتل فيه حجر وأصحابه - أناس يغضب الله لهم وأهل السماء ".
وروي مثله بطريق آخر عنها.
وروي البيهقي في الدلائل ويعقوب بن سفيان في تاريخه: " عن عبد الله بن زرير الغافقي قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: يا أهل العراق، سيقتل منكم سبعة نفر بعذراء، مثلهم كمثل أصحاب الأخدود ".
الشهداء من أصحاب حجر علمنا - مما سبق - أن أصحاب حجر صفوة من رجال الله القليلين، وأنهم " المصلون العابدون، الذين ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ولا يخافون في الله لومة لائم " علي حد تعبير الحسين عليه السلام عنهم فيما كتبه إلي معاوية.
ورأينا - إلي ذلك - كيف يذكرهم كبراء المسلمين الآخرون كلما ذكروا حجرا.
وإذا شاءت المقادير، أو شاءت الرقابات الأموية طمس أخبارهم وتناسي آثارهم، فإنهم شهداء المبادئ، وقرابين الحق المغصوب، وكفاهم ذلك فضلا ومجدا وظهورا في التاريخ.
(٣٣٩)
مفاتيح البحث: القتل (3)، الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، الدولة الأموية (1)، دولة العراق (1)، إبن عساكر (1)، الظلم (1)، الشهادة (1)، الإبداع، البدعة (1)

صفحه 237

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٤٠
ولقي معاوية في حجته " المقبولة.. " بعد قتل هذه الزمرة الكريمة، الحسين بن علي عليهما السلام في مكة، فقال له - مزهوا -: " هل بلغك ما صنعنا بحجر وأصحابه وأشياعه شيعة أبيك؟ ". قال: " وما صنعت بهم؟ " قال: " قتلناهم وكفناهم وصلينا عليهم ودفناهم!! " فضحك الحسين عليه السلام، ثم قال: " خصمك القوم يا معاوية، لكنا لو قتلنا شيعتك، ما كفناهم، ولا صلينا عليهم، ولا قبرناهم (1) ".
* * * واليك الآن أسماء الشهداء الممتحنين مرتبة علي الحروف وملحقة بما يتصل بكل منهم من معلومات:
أ - شريك بن شداد أو ثداد الحضرمي وسماه آخر عريك بن شداد.
ب - صيفي بن فسيل الشيباني، رأس في أصحاب حجر حديد القلب شديد العقيدة سديد القول. القي القبض عليه واحضر لزياد فقال له: " يا عدو الله!! ما تقول في أبي تراب؟ "، قال: " ما اعرف أبا تراب "، قال: " ما أعرفك به؟ "، قال: " ما أعرفه "، قال: " اما تعرف علي بن أبي طالب؟ "، قال: " بلي "، قال: " فذاك أبو تراب "، قال: " كلا، ذاك أبو الحسن والحسين عليه السلام ". فقال له صاحب الشرطة: " يقول لك الأمير: هو أبو تراب، وتقول أنت: لا؟ "، قال: " وان كذب الأمير أتريد ان أكذب انا واشهد علي باطل كما شهد!؟ " [انظر إلي خلقه وصلابته] قال له زياد: " وهذا أيضا مع ذنبك!!، علي بالعصا "، فأتي بها، فقال: " ما قولك؟ "، قال: " أحسن قول أنا قائله في عبد من عباد الله المؤمنين "، قال: " اضربوا عاتقه بالعصا حتي يلصق بالأرض "، فضرب حتي لزم الأرض!! ثم قال: " أقلعوا عنه - ايه ما قولك في علي؟ "،
(1) البحار وغيره، وروي مثلها الطبري عن الحسن ولا يصح لان فجائع حجر وأصحابه كانت بعد وفاة الحسن بسنتين. وروي مثلها ابن الأثير عن الحسن البصري قال: " فقال: حجوهم ورب الكعبة ".
(٣٤٠)
مفاتيح البحث: الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (3)، مدينة مكة المكرمة (1)، علي بن أبي طالب (1)، صيفي بن فسيل (1)، الكذب، التكذيب (2)، الشهادة (2)، الكرم، الكرامة (1)، القتل (1)، الشراكة، المشاركة (1)، إبن الأثير (1)، الحسن البصري (1)، الوفاة (1)

صفحه 238

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٤١
قال: " والله لو شرحتني بالمواسي والمدي ما قلت الا ما سمعت مني ". قال: " لتلعننه، أو لأضربن عنقك! " قال: " إذا تضربها والله قبل ذلك، فان أبيت الا ان تضربها، رضيت بالله وشقيت أنت! ".
قال: " ادفعوا في رقبته " - ثم قال -: " أوقروه حديدا، وألقوه في السجن! ".
ثم كان في قافلة الموت مع حجر، ومن شهداء عذراء الميامين.
ج - عبد الرحمن بن حسان العنزي. كان من أصحاب حجر وسيق معه مكبلا بالحديد، ولما كانوا في مرج عذراء طلب ان يبعثوا به إلي معاوية - وكأنه ظن أن معاوية خير من ابن سمية -. فلما ادخل عليه، قال له معاوية: " يا أخا ربيعة! ما تقول في علي؟ " قال: " دعني ولا تسألني، فهو خير لك! "، قال: " والله لا أدعك "، قال: أشهد انه كان من الذاكرين الله كثيرا، والآمرين بالحق، والقائمين بالقسط، والعافين عن الناس ". قال: " فما قولك في عثمان؟ "، قال: " هو أول من فتح باب الظلم وأغلق أبواب الحق "، قال: " قتلت نفسك "، قال: " بل إياك قتلت، ولا ربيعة بالوادي " - يعني ليشفعوا فيه أو يدفعوا عنه -. فرده معاوية إلي زياد في الكوفة وأمره بقتله شر قتلة!!..
وكان عبد الرحمن هذا هو القائل يوم كبسهم جلادو معاوية في مرج عذراء: " اللهم اجعلني ممن تكرم بهوانهم وأنت عني راض، فطالما عرضت نفسي للقتل فأبي الله الا ما أراد ".
وذكره حبة العرني، فيما حدث عنه في تاريخ الكوفة، (ص 274) قال: " وكان عبد الرحمن بن حسان العنزي من أصحاب علي عليه السلام، أقام بالكوفة يحرض الناس علي بني أمية، فقبض عليه زياد، وأرسله إلي الشام، فدعاه معاوية إلي البراءة من علي عليه السلام، فأغلظ عبد الرحمن بالجواب، فرده معاوية إلي زياد فقتله ".
(٣٤١)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (2)، مدينة الكوفة (3)، بنو أمية (1)، الشام (1)، القتل (3)، الظلم (1)، الشهادة (2)، الموت (1)، الظنّ (1)

صفحه 239

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٤٢
وقال ابن الأثير (ج 3 ص 192) والطبري (ج 6 ص 155) أنه دفنه حيا بقس الناطف (1).
أقول: ولو أدرك معاوية قتلات زياد لشيعة علي في الكوفة، وقطعه الأيدي والأرجل والألسنة، وسمله العيون، لما زاده وصاة بابن حسان العنزي حين أمره بان يقتله شر قتلة، وهل قتلة شر من هذه الفتلات والمثلات؟ ولكن زيادا نزل علي وصية معاوية فابتدع قتلة الدفن حيا!!. (2).
وما أدراك ما سيلقي معاوية علي هذه الوصاة، وما سيجازي زياد علي هذه القتلات يوم يردون جميعا إلي الله مولاهم الحق؟؟.
* * * د - قبيصة بن ربيعة العبسي. وسماه بعضهم ابن ضبيعة - بدل ربيعة - وهو الشجاع المقدام الذي صمم علي المقاومة بسلاحه وبقومه، لولا أن صاحب الشرطة آمنه علي دمه وماله، فوضع يده في أيديهم، ايمانا ببراءة " الأمان " الذي كان لا يزال متبعا لدي العرب فضلا عن أهل الاسلام، ولولا أن الخلائق الاسلامية والعربية معا، كانت قد تبخرت عند القوم، أو انهم كانوا قد فهموها علي أنها وسائل للغلبة والبطش فحسب!.
وأحضر ابن ضبيعة العبسي لزياد فقال له: " اما والله لأجعلن لك شاغلا عن تلقيح الفتن والتوثب علي الامراء!! " [انظر إلي المنفذ الضيق الذي
(1) موضع قريب من الكوفة علي شاطئ الفرات الشرقي ويقابله " المروحة " علي شاطئها الغربي كانت فيه موقعة أبي عبيد والد المختار الثقفي.
(2) ثم كان هذا النوع من القتل السنة السيئة التي تبعه عليها الجبابرة من بعده. ولما غضب بنو أمية علي عمر المقصوص وهو مؤدب معاوية بن يزيد بن معاوية، الذي استقال من خلافتهم احتجاجا عليهم، أخذوه ودفنوه حيا!. الدميري في حياة الحيوان (ص 62) وروي هناك خطبة معاوية هذا التي يشرح فيها حيثيات استقالته بما يشعر بتشيعه لأهل البيت عليهم السلام.
(٣٤٢)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (2)، إبن الأثير (1)، القتل (5)، الدفن (1)، الوصية (1)، أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، كتاب حياة الحيوان للدميري (1)، المختار بن أبي عبيدة الثقفي (1)، نهر الفرات (1)، يزيد بن معاوية لعنهما الله (1)، بنو أمية (1)، الدميري (1)

صفحه 240

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٤٣
ينظر منه الأقوياء]، قال: " اني لم آتك الا علي الأمان "، قال: " انطلقوا به إلي السجن ".
ثم كان بعد ذلك في الركب المثقل بالحديد الذي يسار به إلي القتل صبرا. وفي الحديث: " من آمن رجلا علي دمه فقتله فأنا بريء من القاتل وان كان المقتول كافرا (1) ".
ومروا به - ولما يخرجوا بالقافلة من الكوفة - علي داره فإذا بناته مشرئبات اليه يبكينه، فقال للحرسيين وائل وكثير: " إئذنا لي فأوصي إلي أهلي "، فلما دنا منهن وهن يبكين سكت عنهن - ساعة -، ثم قال لهن: " اسكتن "، فسكتن، فقال: " اتقين الله عز وجل واصبرن فاني أرجو من ربي في وجهي هذا احدي الحسنيين: اما الشهادة وهي السعادة، واما الانصراف ليكن في عافية. وان الذي يرزقكن مؤونتكن هو الله تعالي، وهو حي لا يموت [انظر إلي النفس الملائكية في اهاب البشر الانساني] أرجو ان لا يضيعكن، وأن يحفظني فيكن ". ثم انصرف.
وباتت الأسرة اليائسة الولهي (كما يشاء معاوية) تخلط البكاء بالبكاء، وتصل الدعاء بالدعاء، وكم لبنات قبيصة يومئذ من أمثال.
قال الطبري: " ووقع قبيصة من ضبيعة في يدي أبي شريف البدي فقال له قبيصة: ان الشر بين قومي وبين قومك آمن فليقتلني سواك، فقال: برتك رحم! ثم قتله القضاعي! ".
أقول: وأي نفس قوية هذه التي تنتبه في مثل هذه اللحظة إلي الحؤول دون الشر بين القومين والاحتياط علي الاصلاح.
ه - كدام بن حيان العنزي.
و - محرز بن شهاب بن بجير بن سفيان بن خالد بن منقر التميمي (2)
(١) الإصابة (ج ٤ ص ٢٩٤).
(٢) يراجع عما كتبناه في حجر وأصحابه: الدينوري وابن الأثير والطبري وابن أبي الحديد والاستيعاب والنصائح الكافية وتاريخ الكوفة.
(٣٤٣)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (2)، سفيان بن خالد (1)، البكاء (1)، القتل (3)، الموت (1)، الشهادة (1)، السكوت (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، كتاب الكافئة للشيخ المفيد (1)، إبن الأثير (1)

صفحه 241

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٤٤
وكان من رؤساء الناس، ومن نقاوة الشيعة المعروفين بتشيعهم، وكان محرز هذا علي ميسرة جيش معقل بن قيس في حربه للخوارج سنة 43، وكان جيش معقل في هذه الحرب ثلاثة آلاف هم نقاوة الشيعة وفرسانهم علي حد تعبير الطبري فيما وصفهم به (ج 6 ص 108).
* * * 2 - عمرو بن الحمق الخزاعي هو ابن الكاهن بن حبيب بن عمرو بن القين بن ذراح بن عمرو بن سعد بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي.
أسلم قبل الفتح، وهاجر إلي المدينة، فكان الصحابي البر الذي حظي بدعوة النبي صلي الله عليه وآله بأن يمتعه الله بشبابه، فمرت عليه ثمانون سنة ولم ير له شعرة بيضاء علي صباحة في وجهه كانت تزيده بهاء. وصحب بعده أمير المؤمنين عليا عليه السلام، فكان الحواري المخلص الذي يقول له بحق: " ليت في جندي مائة مثلك ". وشهد معه الجمل وصفين والنهروان.
ودعا له أمير المؤمنين بقوله: " اللهم نور قلبه بالتقي، واهده إلي صراطك المستقيم ". وقال له: " يا عمرو انك لمقتول بعدي، وان رأسك لمنقول، وهو أول رأس ينقل في الاسلام. والويل لقاتلك (1) ".
قال ابن الأثير (ج 3 ص 183): " ولما قدم زياد الكوفة قال له عمارة بن عقبة بن أبي معيط: ان عمرو بن الحمق يجمع اليه شيعة أبي تراب، فأرسل اليه زياد: ما هذه الجماعات عندك؟ من أردت كلامه ففي المسجد (2) ".
(1) سفينة البحار (ج 2 ص 360).
(2) وذكر الطبري وشاية عمارة بن عقبة ثم قال: " ويقال ان الذي رفع علي عمرو بن الحمق وقال له: قد انغل المصرين هو يزيد بن رويم ".
(٣٤٤)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، مدينة الكوفة (1)، إبن الأثير (1)، عمرو بن الحمق (3)، معقل بن قيس (1)، عمرو بن سعد (1)، كعب بن عمرو (1)، الخوارج (1)، السجود (1)، الحرب (1)، السفينة (1)

صفحه 242

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٤٥
" ثم لم يزل عمرو [فيما يروي الطبري] خائفا مترقبا حتي كانت حادثة حجر بن عدي الكندي فأبلي فيها بلاء حسنا وضربه رجل من الحمراء - شرطة زياد - يدعي بكر بن عبيد بعمود علي رأسه فوقع وحمله الشيعة فخبأه في دار رجل من الأزد، ثم خرج فارا وصحبه الزعيم الآخر [رفاعة بن شداد] فيما المدائن ثم ارتحلا حتي أتيا ارض الموصل فكمنا في جبل هناك، واستنكر عامل ذلك الرستاق شأنهما فسار اليهما بالخيل، فأما عمرو فلم يصل الموصل الا مريضا بالاستسقاء، ولم يكن عنده امتناع. واما رفاعة بن شداد - وكان شابا قويا - فوثب علي فرس له جواد، وقال لعمرو: أقاتل عنك، قال: وما ينفعني ان تقاتل، انج بنفسك ان استطعت. فحمل عليهم فأفرجوا له، فخرج تنفر به فرسه، وخرجت الخيل في طلبه - وكان راميا - فأخذ لا يلحقه فارس الا رماه فجرحه أو عقره فانصرفوا عنه. وسألوا عمرا: من أنت؟ فقال: من ان تركتموه كان أسلم لكم، وان قتلتموه كان أضر لكم!. فسألوه فأبي ان يخبرهم، فبعث به ابن أبي بلتعة، عامل الرستاق، إلي عامل الموصل، وهو (عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي)، فلما رأي عمرو بن الحمق عرفه، وكتب إلي معاوية بخبره، فأمره معاوية بأن يطعنه تسع طعنات كما كان فعل بعثمان فطعن ومات بالأولي منهن أو الثانية ".
وخالف ابن كثير رواية الطبري هذه، فقال: " ان أصحاب معاوية عثروا عليه في الغار ميتا، فحزوا رأسه، وبعثوا به إلي معاوية، وهو أول رأس طيف به في الاسلام. ثم بعث معاوية برأسه إلي زوجته (آمنة بنت الشريد) وكانت في سجن معاوية [انظر إلي أفظع ألوان الارهاب] فألقي في حجرها، فوضعت كفها علي جبينه، ولثمت فمه، وقالت: غيبتموه عني طويلا، ثم أهديتموه إلي قتيلا، فأهلا به من هدية غير قالية ولا مقلية.
" ثم كان فيما كتب به الحسين عليه السلام إلي معاوية: الست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلي الله عليه وآله - العبد الصالح الذي أبلته العبادة - فانحلت جسمه، وصفرت لونه، بعدما أمنته وأعطيته
(٣٤٥)
مفاتيح البحث: صحابة (أصحاب) رسول الله (ص) (1)، الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، يوم عرفة (1)، حجر بن عدي الكندي (1)، عبد الله بن عثمان (1)، رفاعة بن شداد (2)، عمرو بن الحمق (2)، الزوجة (1)، الجود (1)، القتل (1)

صفحه 243

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٤٦
من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائرا لنزل إليك من رأس الجبل، ثم قتلته جرأة علي ربك واستخفافا بذلك العهد ".
أقول: هو يشير بذلك " العهد " إلي نصوص المادة الخامسة في معاهدة الصلح.
وقال في سفينة البحار: " وقبره بظاهر الموصل، ابتدأ بعمارته أبو عبد الله سعيد بن حمدان، ابن عم سيف الدولة، في شعبان من سنة 336 ".
وجاء في أصول التاريخ والأدب (ج 9 ص 2):
" قال أبو الحسن علي بن أبي بكر الهروي في كتاب الزيارات: وظاهر الموصل علي الشرف الاعلي مشهد عمرو بن الحمق، دفنت جثته، ورأسه حمل إلي دمشق، وقيل هو أول رأس حمل في الاسلام، وفي المشهد بعض الاشراف من ولد الحسين عليه السلام ".
* * * 3 - عبد الله بن يحيي الحضرمي وأصحابه عن محمد بن بحر الشيباني في كتابه " الفروق بين الأباطيل والحقوق " فيما أسنده إلي القاسم بن مجيمة: " ما وفي معاوية للحسن بن علي بشيء عاهده عليه، واني قرأت كتاب الحسن إلي معاوية يعدد عليه ذنوبه اليه والي شيعة علي عليه السلام فبدأ بذكر عبد الله بن يحيي الحضرمي ومن قتلهم معه (1) ".
أقول: ولا نعرف الآن من أحوال الحضرمي وحادثة قتله وعدة أصحابه المستشهدين شيئا، ولكنا نعرف أن هذا الرجل كان من رجال أمير المؤمنين وأنه الذي قال له يوم الجمل: " ابشر يا ابن يحيي أنت وأبوك ".
وعلمنا فيما علل به بعضهم تقديم الحسن عليه السلام ذكر الحضرمي
(1) البحار (ج 10 ص 101).
(٣٤٦)
مفاتيح البحث: مولد الإمام الحسين (ع) (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، كتاب الأشراف للشيخ المفيد (1)، شهر شعبان المعظم (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، عبد الله بن يحيي الحضرمي (2)، أبو عبد الله (1)، عمرو بن الحمق (1)، محمد بن بحر (1)، دمشق (1)، القتل (3)، الشهادة (2)، السفينة (1)

صفحه 244

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٤٧
علي غيره ممن قتلهم معاوية من الشيعة، أن الحضرمي هذا كان أبعدهم عن الدنيا وأقربهم إلي حياة الرهبنة التي لا توهم أي خطر علي سياسة الملك. قالوا: " وعلم معاوية ما كان عليه ابن يحيي وأصحابه من الحزن لوفاة علي أمير المؤمنين، وحبهم إياه، وإفاضتهم في ذكره وفضله، فجاء بهم وضرب أعناقهم صبرا. ومن أنزل راهبا من صومعته فقتله بلا جناية منه إلي قاتله أعجب ممن يخرج قسا من دير فيقتله، لأن صاحب الدير أقرب إلي بسط اليد لتناول ما معه من صاحب الصومعة الذي هو بين السماء والأرض، فتقديم الحسن - فيما عدده علي معاوية من الذنوب - العباد علي العباد، والزهاد علي الزهاد، ومصابيح البلاد علي مصابيح البلاد، لا يتعجب منه، بل يتعجب لو قدم في الذكر مقصرا علي مخبت ومقتصدا علي مجتهد (1) ".
وفاجعة (عبد الله بن يحيي) أشبه بفاجعة حجر بن عدي، وكلاهما قتلا صبرا، وكلاهما قتل معهما أصحاب، وكلاهما أخذا بغير ذنب الا الذنب الذي هو عنوان فضيلتهما.
* * *
_ (1) البحار (ج 10 ص 102).
4 - رشيد الهجري (2) تلميذ علي عليه السلام، وصاحبه المنقطع اليه، والعالم المعترف له بعلم البلايا والمنايا، يروي عنه ناس كثيرون، ولكنهم جميعا سكتوا عن اسمه خوف السلطان الأموي، فلم ترو عنه علنا الا ابنته الوحيدة التي كانت قد حضرت مقتله، وهي التي جمعت أطرافه - يديه ورجليه - وقد قطعها ابن سمية!.
قالت تسأله حين قطعت أطرافه: " يا أبت هل تجد ألما لما أصابك؟ فقال: " لا يا بنيتي الا كالزحام بين الناس! ".
(2) رشيد [بالتصغير] وهجري (بفتح أولية) نسبة إلي بلاد الهجر - البحرين -.
(٣٤٧)
مفاتيح البحث: عبد الله بن يحيي (1)، حجر بن عدي الكندي (1)، صاحب الصومعة (1)، القتل (5)، الحزن (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، رشيد الهجري (1)، الخوف (1)

صفحه 245

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٤٨
أتي به إلي زياد فقال له: " ما قال لك خليلك - يعني عليا عليه السلام - انا فاعلون بك؟ "، قال: " تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني "، فقال زياد: " أما والله لأكذبن حديثه، خلوا سبيله ". فلما أراد أن يخرج، قال: " ردوه، لا نجد لك شيئا أصلح مما قال صاحبك، انك لن تزال تبغي لنا سوءا ان بقيت، اقطعوا يديه ورجليه "، فقطعوها وهو يتكلم!، فقال: " أصلبوه خنقا في عنقه "، فقال رشيد: " قد بقي لي عندكم شئ ما أراكم فعلتموه "، فقال زياد: " اقطعوا لسانه "، فلما أخرجوا لسانه قال: " نفسوا عني حتي أتكلم كلمة واحدة "، فنفسوا عنه فقال: " هذا والله تصديق خبر أمير المؤمنين، أخبرني بقطع لساني ".
وأخرج من القصر مقطعا، فاجتمع الناس حوله، ومات من ليلته رضوان الله عليه.
قالت ابنته: " قلت لأبي: ما أشد اجتهادك! "، قال: " يا بنية يأتي قوم بعدنا بصائرهم في دينهم أفضل من اجتهادنا ".
وقال لها: " يا بنيتي أميتي الحديث بالكتمان، واجعلي القلب مسكن الأمانة (1) ".
* * *
(1) سفينة البحار (ج 1 ص 522).
5 - جويرية بن مسهر العبدي قال ابن أبي الحديد: " ونظر اليه علي عليه السلام يوما فناداه: يا جويرية الحق بي فاني إذا رأيتك هويتك، ثم حدثه بأمور سرا، وفي آخر ما حدثه قال: يا جويرية أحب حبيبنا ما أحبنا فإذا أبغضنا فأبغضه، وابغض بغيضنا ما أبغضنا فإذا أحبنا فأحبه. وكان من اختصاصه بعلي عليه السلام ما روي انه دخل يوما عليه وهو عليه السلام مضطجع، وعنده قوم من أصحابه، فناداه جويرية: أيها النائم استيقظ فلتضربن علي رأسك ضربة تخضب منها لحيتك. قال: فتبسم أمير المؤمنين عليه السلام، ثم
(٣٤٨)
مفاتيح البحث: الأمانة، الإئتمان (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (3)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، جويرية بن مسهر (1)، السفينة (1)

صفحه 246

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٤٩
قال: وأحدثك يا جويرية بأمرك، أما والذي نفسي بيده لتعتلن (1) إلي العتل الزنيم، فليقطعن يدك ورجلك وليصلبنك تحت جذع كافر! قال: فوالله ما مضت الأيام علي ذلك حتي أخذ زياد جويرية فقطع يده ورجله، وصلبه إلي جانب جذع ابن معكبر، وكان جذعا طويلا، فصلبه علي جذع قصير إلي جانبه ".
أقول: وروي هذا الحديث أيضا حبة العرني رحمه الله. وزاد قوله: " وكان زياد ابن أبيه ممن نصب العداوة لأمير المؤمنين عليه السلام وكان يتتبع أصحاب علي وهو بهم أبصر فيقتلهم تحت كل حجر ومدر ".
* * * 6 - أوفي بن حصن أحد فرائس الظلم الأموي. طلبه زياد فأبي مواجهته، واستعرض زياد الناس فمر به فقال: " من هذا؟ " فقيل له: " أوفي بن حصن "، فقال زياد: " أتتك بخائن رجلاه "، وقال له: " ما رأيك في عثمان؟ " قال: " ختن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم علي ابنتيه " قال: " فما تقول في معاوية؟ " قال: " جواد حليم ".
وكان أوفي لبقا في لغته وأسلوبه فلم يجد عليه زياد ملزما.
وعاد عليه فقال له: " فما تقول في؟ " قال: " بلغني أنك قلت بالبصرة: والله لآخذن البريء بالسقيم والمقبل بالمدبر "، قال: " قد قلت ذاك (2) " قال: " خبطتها خبط عشواء! ".
أقول: وكان من لباقة هذا الرجل الحصيف أنه تدرج في أجوبته لزياد - كما تري - إلي طريقة حكيمة من الوعظ حاول بها تنبيهه إلي أخطائه. ولا تنس أنه كان يقف من عدوه ساعتئذ بين النطع والسيف،
(1) عتله: جذبه - والعتل - الجافي الغليظ - والزنيم: الدعي.
(2) روي خطبته أكثر المؤرخين، وروينا هذا الفصل منها في هوامش الفصل الحادي عشر.
(٣٤٩)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، الجود (1)، الظلم (1)

صفحه 247

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٥٠
ومن ذمته بين الحق والباطل. وهذا هو ما يزيدنا اعجابا بهؤلاء الابطال من تلامذة علي عليه السلام، ولكن شيئا من وعظه لم يجده نفعا سوي أن يقول زياد فيه: " ليس النفاخ بشر الزمرة " ثم أمر به فقتل (1) ".
ولا أدري، ولا أظن زيادا نفسه يدري، بأي جريرة أخذ ابن حصن فأشاط بدمه و " كل المسلم علي المسلم حرام دمه وعرضه وماله " - كما في الحديث -؟.
والرجل في أجوبته كلها كما رأيت لم يفضح سرا، ولم يهتك أمرا. ولكن الذي ناقض الكتاب صريحا فأخذ البريء بالسقيم والمقبل بالمدبر خلافا لقوله تعالي: " ولا تزر وازرة وزر أخري " لحري بأن لا يفهم لغة الحديث ولا لغة الكتاب.
واعتصم بغلوائه فإذا الناس من حوله في أشد محن الدنيا: جماعات تساق إلي السجون، وزرافات تطارد أينما تكون، ومئات تعرض عليه كل يوم لتسمل عيونهم، أو لتقطع أطرافهم، أو ليؤمر بهم فتحطم ضلوعهم (2). وبين الكوفة والشام فرائس أخري ترزح بالأصفاد. وما في الكوفة الا الارهاب المميت، وما في الشام لهؤلاء الا الموت المرهوب.
وخشعت الكوفة التي كانت تفور - في أمسها القريب - بالمؤامرات والمعارضات خشوع الجناح الكسير، بما وسعها من مظالم الحكام الأمويين. وكان المتآمرون بالأمس هم المتآمرين بالجور اليوم، وكانوا هم الحاكمين بأمرهم فيما يسنون أو فيما ينفذون، فما بالها لا ترتجف فرقا؟ وما بال أهلها لا يلوذون بالفرار هربا؟..
(1) يراجع ابن الأثير (ج 3 ص 183)، والطبري (ج 6 ص 130 - 132).
(2) جيء إلي زياد بعمير بن يزيد (من أصحاب حجر بن عدي) وقد أعطي الأمان علي دمه وماله، فأمر به زياد فأوقر بالحديد، ثم أخذته الرجال ترفعه حين إذا بلغ سورها - أعلي القامة - ألقوه فوقع علي الأرض ثم رفعوه ففعلوا به ذلك مرارا! الطبري (ج 6 ص 147).
(٣٥٠)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الدولة الأموية (1)، مدينة الكوفة (3)، الشام (2)، القتل (1)، الموت (1)، الباطل، الإبطال (2)، البول (1)، إبن الأثير (1)، حجر بن عدي الكندي (1)

صفحه 248

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٥١
وخفي علي معاوية وعلي ابن أبيه ورجال مدرسته أن الامعان بالعنف من أكبر الأسباب التي تغذي المثل الاعلي الذي يحاربه الحاكم العنيف، وان العنف لن يستطيع ان يقتل الفكرة التي كتب لها الخلود، ولكنها ستظل نواة الشجرة التي ستبقي مع التاريخ.
وهذا حييت مئات الملايين - بعد ذلك - وهي تشارك الكوفة في فكرتها، وتحمل لمعاوية ورجاله وترها الذي لا تخلقه الأيام.
التعذيب بغير القتل وكان للغارة الأموية ألوان أخري غير القتل والتشريد وهدم البيوت ومصادرة الأموال وكم الأفواه.
فقال ابن الأثير عند ذكره لفاجعة (أوفي بن حصن): " وكأن أول قتيل قتله زياد، بعد حادثة الثلاثين أو الثمانين الذين قطع أيديهم!! ".
واستبطن معاوية دخائل البصرة والكوفة فلم يدع في هذين المصرين رئيس قوم، ولا صاحب سيف، ولا خطيبا مرهوبا، ولا شاعرا موهوبا من الشيعة، الا أزعجه عن مقره، فسجنه، أو غله، أو شرده، أو أهدر دمه!.
واليك فيما يلي أمثلة قليلة من هذه النكبات التي قارفها أبو يزيد في الشخصيات البارزة من رؤساء الشيعة يومئذ.
* * * ب - زعماء الشيعة المرعون..
(1 - عبد الله بن هاشم المرقال):
كان كبير قريش في البصرة، ورأس الشيعة فيها.
(٣٥١)
مفاتيح البحث: الدولة الأموية (1)، مدينة الكوفة (2)، إبن الأثير (1)، عبد الله بن هاشم (1)، مدينة البصرة (2)، القتل (3)

صفحه 249

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٥٢
وكان أبوه هاشم - المرقال - بن عتبة بن أبي وقاص، القائد الجرئ المقدام الذي لقي منه معاوية في صفين الرعب المميت، وهو يومئذ علي ميسرة علي عليه السلام.
كتب معاوية إلي عامله زياد: " اما بعد، فانظر عبد الله بن هاشم بن عتبة، فشد يده علي عنقه، ثم ابعث به إلي ".
فطرقه زياد في منزله ليلا، وحمله مقيدا مغلولا إلي دمشق. فأدخل علي معاوية، وعنده عمرو بن العاص، فقال معاوية لعمرو: " هل تعرف هذا؟ " قال: " هذا الذي يقول أبوه يوم صفين … " وقرأ رجزه وكان يحفظه ثم قال متمثلا:
" وقد ينبت المرعي علي دمن الثري * * * وتبقي حزازات النفوس كما هيا " واستمر قائلا: " دونك يا أمير المؤمنين الضب المضب، فأشخب أوداجه علي أثباجه، ولا ترده إلي العراق، فإنه لا يصبر علي النفاق، وهم أهل غدر وشقاق وحزب إبليس ليوم هيجانه، وانه له هوي سيوديه، ورأيا سيطغيه، وبطانة ستقويه، وجزاء سيئة مثلها ".
وكان مثل هذا المحضر ومثل هذا التحامل علي العراق وأهله هو شنشنة عمرو بن العاص المعروفة عنه، ولا نعرف أحدا وصف أهل العراق هذا الوصف العدو قبله.
أما ابن المرقال فلم يكن الرعديد الذي يغلق التهويل عليه قريحته، وهو الشبل الذي تنميه الأسود الضراغم - فقال، وتوجه بكلامه إلي ابن العاص: " يا عمرو! ان اقتل، فرجل أسلمه قومه، وادركه يومه. أفلا كان هذا منك إذ تحيد عن القتال، ونحن ندعوك إلي النزال، وأنت تلوذ بشمال النطاف (1)، وعقائق الرصاف (2)، كالأمة السوداء، والنعجة
(1) أي بأشأم الجانبين من الماء القليل.
(2) العقائق: سهام الاعتذار. كانوا يرمون بها نحو السماء - والرصاف: الحجارة المرصوف بعضها علي بعض في مسيل الماء، فكأنه يقول له: انك تلوذ في أرض صلبة عند ماء قليل ترمي بسهام الاعتذار.
(٣٥٢)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، عمر بن سعد لعنه الله (1)، دولة العراق (3)، عبد الله بن هاشم (1)، عمرو بن العاص (2)، دمشق (1)، البعث، الإنبعاث (1)، الصبر (1)، القتل (1)

صفحه 250

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٥٣
القوداء، لا تدفع يد لامس؟ ".
فقال عمرو: " أما والله لقد وقعت في لهاذم شدقم (1) للأقران ذي لبد، ولا أحسبك منفلتا من مخالب أمير المؤمنين ".
فقال عبد الله: " أما والله يا ابن العاص انك لبطر في الرخاء، جبان عند اللقاء، غشوم إذا وليت، هياب إذا لقيت، تهدر كما يهدر العود المنكوس المقيد بين مجري الشوك، لا يستعجل في المدة، ولا يرتجي في الشدة. أفلا كان هذا منك، إذ غمرك أقوام لم يعنفوا صغارا، ولم يمرقوا كبارا، لهم أيد شداد، والسنة حداد، يدعمون العوج، ويذهبون الحرج، يكثرون القليل، ويشفون الغليل، ويعزون الذليل "؟.
فقال عمرو: " أما والله لقد رأيت أباك يومئذ تخقق (3) أحشاؤه، وتبق أمعاؤه، وتضطرب اصلاؤه (3) كما انطبق عليه ضمد ".
فقال عبد الله: " يا عمرو! انا قد بلوناك ومقالتك فوجدنا لسانك كذوبا غادرا، خلوت بأقوام لا يعرفونك، وجند لا يساومونك، ولو رمت المنطق في غير أهل الشام لجحظ (4) عليك عقلك، ولتلجلج لسانك، ولاضطرب فخذاك اضطراب القعود الذي أثقله حمله ".
فقال معاوية: " أيها عنكما ". وأمر باطلاق عبد الله لنسيبه. فلم يزل عمرو بن العاص يلومه علي اطلاقه ويقول:
" أمرتك أمرا عازما فعصيتني * * * وكان من التوفيق قتل ابن هاشم أليس أبوه يا معاوية الذي * * * أعان عليا يوم حز الغلاصم؟
فلم ينثن حتي جرت من دمائنا * * * بصفين أمثال البحور الخضارم وهذا ابنه والمرء يشبه شيخه * * * ويوشك ان تقرع به سن نادم " * * *
(1) أي واسع الشدقين.
(2) تشقق.
(3) أوساط الظهر.
(4) جحظ اليه عمله نظر في عمله فرأي سوي ما صنع، وجحط اليه عقله أي نظر إلي رأيه فرأي سوء ما ارتأي.
2 - عدي بن حاتم الطائي صحابي كريم، كان رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يكرمه إذا دخل عليه، وزعيم عظيم، وخطيب مدره، وشجاع مرهوب. أسلم سنة تسع وحسن اسلامه. قال: " فلما قدمت المدينة استشرفني الناس فقالوا: عدي بن حاتم! وقال لي رسول الله صلي الله عليه وآله: يا عدي أسلم تسلم، قلت: ان لي دينا، قال: أنا أعلم بدينك منك.. قد أظن أنه انما يمنعك غضاضة تراها ممن حولي، وأنك تري الناس علينا ألبا واحدا. قال: هل اتيت الحيرة؟ قلت: لم آتها وقد علمت مكانها. قال: يوشك ان تخرج الظعينة منها بغير جوار حتي تطوف بالبيت، ولتفتحن علينا كنوز كسري بن هرمز. فقلت: كسري بن هرمز؟ قال: نعم وليفيضن المال حتي يهم الرجل من يقبل صدقته ". قال عدي: " فرأيت اثنتين: الظعينة، وكنت في أول خيل غارت علي كنوز كسري، وأحلف بالله لتجيئن الثالثة (1) ". وقال: " أتيت عمر في أناس من قومي فجعل يفرض للرجل ويعرض عني، فاستقبلته فقلت: أتعرفني؟. قال: نعم آمنت إذ كفروا، وعرفت إذ نكروا، ووفيت إذ غدروا، وأقبلت إذ أدبروا. ان أول صدقة بيضت وجوه أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم صدقة طيئ (2) ". وقال: " ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت الا وأنا علي وضوء (3) ".
* * * ونازعه الراية يوم صفين عائذ بن قيس الحزمري الطائي، وكانت بنو حزمر أكثر من " عدي " (4) رهط حاتم، فوثب عليهم " عبد الله بن خليفة الطائي " البولاني عند علي عليه السلام فقال: " يا بني حزمر أعلي عدي تتوثبون؟ وهل فيكم مثل عدي؟. أو في آبائكم مثل أبي عدي؟ أليس بحامي القربة؟. ومانع الماء يوم (روية)؟ أليس بابن ذي المرباع (1) و (2) و (3) الإصابة (ج 4 ص 228 - 229).
(4) هو الأب الخامس لعدي. فعدي الصحابي هو ابن حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي - هذا -.
(٣٥٣)
مفاتيح البحث: عمرو بن العاص (1)، الشام (1)، القتل (1)، صحابة (أصحاب) رسول الله (ص) (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، يوم عرفة (1)، عبد الله بن خليفة الطائي (1)، عدي بن حاتم (2)، الوسعة (1)، المنع (1)، الطواف، الطوف، الطائفة (1)، الصّلاة (1)، الكرم، الكرامة (1)، الوضوء (1)، التصدّق (2)

صفحه 251

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٥٥
وابن جواد العرب؟. أليس بابن المنهب ماله ومانع جاره؟ أليس من لم يغدر، ولم يفجر، ولم يجهل، ولم يبخل، ولم يمنن ولم يجبن؟. هاتوا في آبائكم مثل أبيه!، أو هاتوا فيكم مثله!. أوليس أفضلكم في الاسلام؟. أوليس وافدكم إلي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم؟. أليس برأسكم - يوم النخيلة - ويوم القادسية - ويوم المدائن - ويوم جلولاء الوقيعة - ويوم نهاوند - ويوم تستر؟. فما لكم وله!. والله ما من قومكم أحد يطلب مثل الذي تطلبون ".
فقال له علي عليه السلام: " حسبك يا ابن خليفة. هلم أيها القوم إلي، وعلي بجماعة طي ". فأتوه جميعا. فقال علي عليه السلام: " من كان رأسكم في هذه المواطن؟
"، قالت له طيئ: " عدي ". فقال له ابن خليفة: " فسلهم يا أمير المؤمنين: أليسوا راضين مسلمين لعدي الرياسة "، ففعل. فقالوا: " نعم ". فقال لهم: " عدي أحقكم بالراية. فسلموها له (1) ".
* * * وبعث اليه زياد سنة (51) وكان في مسجده الذي يعرف (بمسجد عدي) في الكوفة فأخرجه منه، وحبسه. فلم يبق رجل من أهل المصر من اليمن وربيعة ومضر الا فزع لعدي بن حاتم. فأتوا زيادا وكلموه فيه، وقالوا: " تفعل هذا بعدي بن حاتم صاحب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم؟ ".
وطلب زياد من عدي أن يجيئه بعبد الله بن خليفة الطائي، وكان من أصحاب حجر بن عدي أشدائهم علي شرطة زياد " الحمراء "، فأبي ثم رضي زياد من عدي أن يغيب ابن خليفة عن الكوفة (2).
* * * ودخل عدي بن حاتم علي معاوية، وان معاوية ليهابه ويعرف سداده
(1) الطبري (ج 6 ص 5).
(2) ابن الأثير (ج 3 ص 189).
(٣٥٥)
مفاتيح البحث: صحابة (أصحاب) رسول الله (ص) (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (2)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، مدينة الكوفة (2)، عبد الله بن خليفة الطائي (1)، حجر بن عدي الكندي (1)، عدي بن حاتم (3)، السجود (2)، الجود (1)، الجهل (1)، الفزع (1)، الجماعة (1)، إبن الأثير (1)

صفحه 252

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٥٦
الحصيف في مزالق الفتن، وتمرسه البصير في الشدائد، وبصيرته النافذة وتجاربه الكثيرة الماضية، فجري في حديثه معه عند " موهبته الخاصة " التي كان يفزع إليها في منازلة العظماء من أعدائه، فقال: " يا عدي أين الطرفات؟ - يعني بنيه طريفا وطارفا وطرفة - " قال: " قتلوا يوم صفين بين يدي علي بن أبي طالب ". فقال: " ما أنصفك ابن أبي طالب، إذ قدم بنيك واخر بنيه ". قال، " بل ما أنصفت أنا عليا، إذ قتل وبقيت بعده ". فقال معاوية: " أما انه قد بقي قطرة من دم عثمان ما يمحوها الا دم شريف من أشراف اليمن! ". فقال عدي: " والله ان قلوبنا التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وان أسيافنا التي قاتلناك بها لعلي عواتقنا، ولئن أدنيت لنا من الغدر فترا لندنين إليك من الشر شبرا! وان حز الحلقوم، وحشرجة الحيزوم، لاهون علينا من أن نسمع المساءة في علي فسلم السيف يا معاوية لباعث السيف ".
فقال معاوية: " هذه كلمات حكم فاكتبوها " - هزيمة منكرة من معاوية - وأقبل علي عدي يحادثه كأنه ما خاطبه بشيء (1).
" ولا خير في حلم إذا لم يكن له * * * بوادر تحمي صفوه ان يكدرا " ثم قال له: " صف لي عليا ". فقال: " ان رأيت ان تعفيني ". قال: " لا أعفيك ". قال:
" كان والله بعيد المدي، شديد القوي، يقول عدلا، ويحكم فصلا، تتفجر الحكمة من جوانبه، والعلم من نواحيه. يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته. وكان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يحاسب نفسه إذا خلا، ويقلب كفيه علي ما مضي. يعجبه من اللباس القصير، ومن المعاش الخشن. وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه، ويدنينا إذا أتيناه. ونحن مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه لهيبته، ولا نرفع أعيننا اليه لعظمته. فان تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم. يعظم أهل الدين،
(1) المسعودي هامش ابن الأثير (ج 6 ص 65).
(٣٥٦)
مفاتيح البحث: علي بن أبي طالب (1)، القتل (2)، اللبس (1)، إبن الأثير (1)

صفحه 253

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٥٧
ويتحبب إلي المساكين. لا يخاف القوي ظلمه، ولا ييأس الضعيف من عدله. فأقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل في محرابه، وأرخي الليل سرباله، وغارت نجومه، ودموعه تتحادر علي لحيته، وهو يتململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه وهو يقول:
" يا دنيا! إلي تعرضت أم إلي أقبلت؟، غري غيري، لا حان حينك، قد طلقتك ثلاثا، لا رجعة لي فيك، فعيشك حقير، وخطرك يسير. آه من قلة الزاد وبعد السفر وقلة الأنيس ".
فوكفت عينا معاوية، وجعل ينشفهما بكمه. ثم قال: " يرحم الله أبا الحسن، كان كذلك. فكيف صبرك عنه؟ " قال: " كصبر من ذبح ولدها في حجرها، فهي لا ترقأ دمعتها، ولا تسكن عبرتها ". قال: " فكيف ذكرك له؟ " قال: " وهل يتركني الدهر أن أنساه؟ (1) ".
أقول: وتوفي عدي بن حاتم في عهد المختار بن أبي عبيد سنة (68) (2) وهو ابن مائة وعشرين سنة فماتت معه نفس كريمة لا تخلق الا في ملك، ورأي حصيف لا يختمر الا في حكيم، وايمان صادق لا يعهد الا في ولي.
3 - صعصعة بن صوحان سيد من سادات العرب، وعظيم من أقطاب الفضل والحسب. أسلم علي عهد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، ولكنه لم يلقه لصغره، وأشكلت علي عمر أيام خلافته قضية فخطب الناس وسألهم عما يقولون - فقام صعصعة، وهو غلام شاب، فأماط الحجاب، وأوضح منهاج الصواب -، وعملوا برأيه -، وكان من أصحاب الخطط في الكوفة، وشهد مع أمير المؤمنين " الجمل " و " صفين ". قال في الإصابة (3) " ان المغيرة نفي صعصعة بأمر معاوية من الكوفة إلي الجزيرة أو إلي البحرين، وقيل إلي جزيرة ابن كافان فمات بها ".
(١) البيهقي في المحاسن والمساوئ (ج ١ ص ٣٣).
(٢) تاريخ الكوفة (ص 388) والإصابة (ج 4 ص 119).
(3) (ج 3 ص 23).
(٣٥٧)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، مدينة الكوفة (3)، صعصعة بن صوحان (1)، عدي بن حاتم (1)، البكاء (2)، الخوف (1)

صفحه 254

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٥٨
و " حبس (1) معاوية صعصعة بن صوحان العبدي وعبد الله بن الكواء اليشكري ورجالا من أصحاب علي مع رجال من قريش، فدخل عليهم معاوية يوما فقال: نشدتكم بالله الا ما قلتم حقا وصدقا، أي الخلفاء رأيتموني؟ فقال ابن الكواء: لولا انك عزمت علينا ما قلنا، لأنك جبار عنيد، لا تراقب الله في قتل الأخيار، ولكنا نقول: انك ما علمنا واسع الدنيا ضيق الآخرة، قريب الثري بعيد المرعي، تجعل الظلمات نورا والنور ظلمات، فقال معاوية: ان الله أكرم هذا الامر بأهل الشام الذابين عن بيضته، التاركين لمحارمه، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم الله، والمحلين ما حرم الله، والمحرمين ما أحل الله. فقال عبد الله ابن الكواء: يا ابن أبي سفيان ان لكل كلام جوابا، ونحن نخاف جبروتك، فان كنت تطلق ألسنتنا ذببنا عن أهل العراق بألسنة حداد لا يأخذها في الله لومة لائم، والا فانا صابرون حتي يحكم الله ويضعنا علي فرحه. قال: والله لا يطلق لك لسان - ثم تكلم صعصعة فقال: تكلمت يا ابن أبي سفيان فأبلغت ولم تقصر عما أردت، وليس الامر علي ما ذكرت، أني يكون الخليفة من ملك الناس قهرا، ودانهم كبرا، واستولي بأسباب الباطل كذبا ومكرا، أما والله مالك في يوم بدر مضرب ولا مرمي، وما كنت فيه الا كما قال القائل: لا حلي ولا سيري، ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجلب علي رسول الله صلي الله عليه (وآله) وسلم. وانما أنت طليق ابن طليق، أطلقكما رسول الله صلي الله عليه (وآله) وسلم. فأني تصلح الخلافة لطليق؟. فقال معاوية: لولا أني ارجع إلي قول أبي طالب حيث يقول:
قابلت جهلهمو حلما ومغفرة * * * والعفو عن قدرة ضرب من الكرم لقتلتكم، وسأله معاوية: من البررة ومن الفسقة؟ فقال: يا ابن أبي سفيان ترك الخداع من كشف القناع، علي وأصحابه من الأئمة الأبرار، وأنت وأصحابك من أولئك. وسأله عن أهل الشام فقال: أطوع الناس
(1) المسعودي هامش ابن الأثير (ج 6 ص 117).
(٣٥٨)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، دولة العراق (2)، صعصعة بن صوحان (1)، الشام (2)، الباطل، الإبطال (1)، الكرم، الكرامة (1)، القتل (1)، الوسعة (1)، الضرب (1)، إبن الأثير (1)

صفحه 255

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٥٩
لمخلوق، وأعصاهم للخالق، عصاة الجبار، وخلفة الأشرار، فعليهم الدمار، ولهم سوء الدار. فقال معاوية: والله يا ابن صوحان انك لحامل مديتك منذ أزمان، الا أن حلم ابن أبي سفيان يرد عنك. فقال صعصعة: بل أمر الله وقدرته، ان امر الله كان قدرا مقدورا ".
قال المسعودي: " ولصعصعة بن صوحان أخبار حسان وكلام في نهاية البلاغة والفصاحة والايضاح عن المعاني علي ايجاز واختصار ".
وكان صعصعة شخصية بارزة في أصحاب أمير المؤمنين. ووصفه أمير المؤمنين بالخطيب الشحشح، ثم وصفه الجاحظ بأنه من أفصح الناس.
وقال له معاوية يوم دخل الكوفة بعد الصلح: " أما والله اني كنت لأبغض ان تدخل في أماني ". قال: " وأنا والله أبغض أن أسميك بهذا الاسم ". ثم سلم عليه بالخلافة فقال معاوية: " ان كنت صادقا فاصعد المنبر والعن عليا ". فصعد المنبر وحمد الله وأثني عليه ثم قال: " أيها الناس أتيتكم من عند رجل قدم شره، وأخر خيره. وانه أمرني ان العن عليا فالعنوه لعنه الله ". فضج أهل المسجد بآمين. فلما رجع اليه فأخبره بما قال. قال: " لا والله ما عنيت غيري، ارجع حتي تسميه باسمه ". فرجع وصعد المنبر ثم قال: " أيها الناس ان أمير المؤمنين أمرني أن العن علي بن أبي طالب فالعنوه ". فضجوا بآمين. فلما أخبر معاوية قال: " والله ما عني غيري، أخرجوه لا يساكنني في بلد ". فأخرجوه (1).
وقال ابن عبد ربه: " دخل صعصعة بن صوحان علي معاوية ومعه عمرو بن العاص جالس علي سريره فقال: وسع له علي ترابية (2) فيه. فقال صعصعة: اني والله لترابي، منه خلقت واليه أعود ومنه ابعث، وانك مارج من مارج من نار ".
وقدم وفد العراقيين علي معاوية، فقدم في وفد الكوفة عدي بن حاتم، وفي وفد البصرة الأحنف بن قيس وصعصعة بن صوحان. فقال عمرو بن
(1) السفينة (ج 2 ص 31).
(2) يعني علي حبه لأبي تراب. ويكنون بها عن علي عليه السلام.
(٣٥٩)
مفاتيح البحث: مدينة الكوفة (2)، صلح (يوم) الحديبية (1)، علي بن أبي طالب (1)، مدينة البصرة (1)، الأحنف بن قيس (1)، عمرو بن العاص (1)، صعصعة بن صوحان (3)، عدي بن حاتم (1)، البعث، الإنبعاث (1)، السجود (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، السفينة (1)

صفحه 256

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٦٠
العاص لمعاوية: " هؤلاء رجال الدنيا، وهم شيعة علي الذين قاتلوا معه يوم الجمل ويوم صفين فكن منهم علي حذر ".
وفي أحاديث سيد عبد القيس صعصعة بن صوحان سعة لا يلم بها ما نقصده من الايجاز. وانما أردنا ان نعطي بهذا صفحة من تاريخه مع معاوية وموقف معاوية منه.
4 - عبد الله بن خليفة الطائي مسعار حرب. كان من مواقفه في العذيب، وجلولاء الوقيعة، ونهاوند، وتستر، وصفين ما شهد له بالبطولة النادرة، وهو الخطيب الذي رد الطائيين يوم صفين عن مزاحمة (عدي بن حاتم) علي الراية - كما مر عليك في الحديث عن عدي -.
وصحب حجر بن عدي الكندي في موقفه القوي الذي وقفه في الذب عن أمير المؤمنين عليه السلام.
وطاردته شرطة زياد [وهم أهل الحمراء يومئذ] فامتنع عليهم، وهزمهم بقومه. خرجت أخته النوار فقالت: " يا معشر طيء أتسلمون سنانكم ولسانكم عبد الله بن خليفة؟ " فشد الطائيون علي الشرط فضربوهم، وأعيت الحيلة به زيادا فقبض علي زعيم قبيلته (عدي بن حاتم) فحبسه أو يأتيه بابن خليفة. وأبي عدي أن يأتيه به ليقتله، فرضي زياد منه بأن يغيبه عن الكوفة.
فأشار عدي علي عبد الله بمغادرة الكوفة ووعده أن لا يألو جهدا في ارجاعه إليها، فسار إلي " الجبلين (1) " وقيل إلي " صنعاء ". ولم يزل مشردا هناك مشبوب الأشواق إلي وطنه.
وطال عليه الأمد فكتب إلي عدي يستنجزه وعده، وكان شاعرا يجيد الوصف، وله عدة قصائد ومقطوعات يعاتب بها عديا ويذكره سوابقه وغربته واسارته، ولكن ظروف عدي لم تساعده علي إسعافه، فبقي هناك حتي مات رحمه الله (2) قبل موت (زياد) بقليل.
(1) هما جبلا طيء: أجأ وسلمي، بينهما وبين " فدك " يوم، وبين " خيبر " خمس ليال، وبينهما وبين المدينة ثلاث مراحل.
(2) يراجع الطبري (ج 6 ص 5 وص 157 - 160).
نهاية المطاف
(٣٦٠)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، مدينة الكوفة (2)، عبد الله بن خليفة الطائي (1)، عبد الله بن خليفة (1)، حجر بن عدي الكندي (1)، صعصعة بن صوحان (1)، عدي بن حاتم (2)، الوسعة (1)، الشهادة (1)، الموت (1)، القتل (1)، الحرب (1)، خيبر (1)، الطواف، الطوف، الطائفة (1)

صفحه 257

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٦٢
وبقي بين فجوات هذه الاحداث خلاء ملحوظ في التاريخ، لم تملأه المصادر التي بين أيدينا بالعروض التي تناسب تلك الاحداث.
رأينا - إلي هنا - مبلغ وفاء معاوية بما أخذه علي نفسه من شروط.
وعلمنا - إلي هنا - ان المعاهدة بأبوابها الخمس، لم تلق من الرجل أية رعاية تناسب تلك العهود والمواثيق والايمان التي قطعها علي نفسه. فلا هو حين تسلم الحكم عمل علي كتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء الصالحين. ولا ترك الامر من بعده للشوري، أو لصاحب الحق فيه. ولا أقلع عن شتم علي عليه السلام. ولكنه زاد حتي ملأ منابر الاسلام سبابا وشتما. ولا وفي بخراج. ولا سلم من غوائله شيعة علي وأصحابه. ولكنه - وبالرغم من كل هذه الشروط والعهود - طالعهم بالأوليات البكر والأفاعيل النكر من بوائقه:
فكان أول رأس يطاف به في الاسلام منهم، وبأمره يطاف به.
وكان أول انسان يدفن حيا في الاسلام منهم، وبأمره يفعل به ذلك.
وكانت أول امرأة تسجن في الاسلام منهم، وهو الآمر بسجنها.
وكان أول شهداء يقتلون صبرا في الاسلام منهم، وهو الذي قتلهم.
واستقصي معاوية بنود المعاهدة كلها بالخلف!!.
فاستقصي أيمانه المغلظة بالحنث، ومواثيقه المؤكدة التي واثق الله تعالي عليها بالنقض!!..
فأين هي الخلافة الدينية يا تري؟؟..
* * *
(٣٦٢)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الشهادة (1)، القتل (2)، الدفن (1)، الخمس (1)

صفحه 258

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٦٣
وبقيت آخر فقرة من المعاهدة، تحاماها معاوية لأنها كانت أدق شروطها حساسية وأروعها وقعا. وكان عليه إذا أساء الصنيع بهذه الفقرة ان يتحدي القرآن صراحة، ورسول الله صلي الله عليه وآله وسلم مباشرة.
فصبر عليها ثماني سنين، ثم ضاق بها ذرعا، وثارت به أمويته التي كان لا يزال يصارع لصاقتها، بأمثال هذه الأفاعيل، ليعود بها أموية صريحة تشهد لهند بالبراءة من قالة الناس وشهادات المؤرخين، وليكون ابن أبي سفيان حقا!.
فما لابن أبي سفيان ولرسول الله؟. وما لابن هند وكتاب الله؟.
وكانت مطفئة الرضف التي أنست الناس الرزايا قبلها.
ثم هي أول ذل دخل علي العرب - كما قال ابن عباس رضي الله تعالي عنه -.
بل أول ذل دخل علي الناس - كما قال أبو اسحق السبيعي رحمه الله -.
وكانت بطبيعتها، أبعد مواد المعاهدة عن الخيانة، كما كانت بظروفها وملابساتها أجدرها بالرعاية. وكانت بعد نزع السلاح ولف اللواء والالتزام من الخصم بالوفاء، أفظع جريمة في تاريخ معاوية الحافل بالجرائم.
وما في المدينة - موطن الحسن عليه السلام - ولا في أهل البيت، ولا في شيعة الحسن، ولا في جميع ما يمت إلي الحسن بسبب أو نسب، أي موجب يستدعي الوهم، أو يوقظ الريبة، أو يثير الظنون بأمر يخشاه معاوية علي دنياه.
إذا، فما هذا الغدر وما هو العذر؟..
وأين تلك العهود والعقود والايمان التي لا تبلغ قواميس اللغة أشد منها ألفاظا غلاظا وتأكيدا شديدا؟.
تري، فهل نعتذر عن معاوية بما اعتذر به الاغرار المنسوبون إلي الاسلام عن ابنه يزيد في قتله الحسين ابن رسول الله عليه وعلي جده أفضل الصلاة والسلام، فقالوا: " شاب مغرور، ألهته القرود وغلبت عليه الخمور والفجور؟. ".
(٣٦٣)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، عبد الله بن عباس (1)، القرآن الكريم (1)، الخصومة (1)، القتل (1)، الظنّ (1)، الشهادة (1)، الصّلاة (1)

صفحه 259

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٦٤
فأين - إذا - حنكة معاوية ودهاؤه المزعوم؟. وأين سنه الطاعنة وتجاربه في الأمور؟.
ان بائقة الأب هذه، كانت هي السبب الذي بعث روح القدوة في طموح الابن. فليشتركا - متضامنين - في انجاز أعظم جريمة في تاريخ الاسلام، تلك هي قتل سيدي شباب أهل الجنة الأحدين الذين لا ثالث لهما. وليتعاونا معا، علي قطع " الواسطة الوحيدة " التي انحصر بها نسل رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم. والجريمة - بهذا المعني - قتل مباشر لحياة رسول الله بامتدادها التاريخي!!.
نعم، والقاتلان - مع ذلك - هما الخليفتان في الاسلام!!..
فوا ضيعة الاسلام ان كان خلفاؤه من هذه النماذج!!..
* * * وكان الدهاء المزعوم لمعاوية هو الذي زين له أسلوبا من القتل قصر عنه ابنه يزيد. فكان هذا " الشاب المغرور " - وكان ذاك " الداهية المحنك في تصريف الأمور "!!..
ولو تنفس العمر بأبي سفيان إلي عهد ولديه هذين، لأيقن انهما قد أجادا اللعبة التي كان يتمناها لبني أبيه.
فاستعمل معاوية مروان بن الحكم (1)، علي إقناع جعدة بنت الأشعث
(1) وروي المسعودي هامش ابن الأثير (ج 5 ص 198) والبيهقي (ج 1 ص 64) سعيي الحسن عليه السلام بالأمان لمروان يوم الجمل، وكان قد أخذ أسيرا، وقيل كان مختفيا في بيت امرأة في البصرة.
وقال الشريف الرضي في النهج (ج 1 ص 121) قالوا: " أخذ مروان بن الحكم أسيرا يوم الجمل، فاستشفع الحسن والحسين عليهما السلام إلي أمير المؤمنين عليه السلام، فكلماه فيه فخلي سبيله، فقالا له: يبايعك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام: أولم يبايعني بعد قتل عثمان، لا حاجة لي في بيعته، انها كف يهودية، لو بايعني بكفه لغدر بسبته. اما ان له امرة كلعقة الكلب أنفه. وهو أبو الأكبش الأربعة. وستلقي الأمة منه ومن ولده يوما أحمر! ". أقول: وجزي مروان سعي الحسن له بالأمان بسعيه إلي جعدة بقتله " وكل اناء بالذي فيه ينضح ".
(٣٦٤)
مفاتيح البحث: سبطي رسول الله الحسنان عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، مروان بن الحكم (2)، التاريخ الإسلامي (1)، الضياع (1)، القتل (5)، السب (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، إبن الأثير (1)، مدينة البصرة (1)، الشريف الرضي، أبو الحسن محمد بن الحسين (1)

صفحه 260

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٦٥
ابن قيس الكندي - وكانت من زوجات الحسن عليه السلام - بأن تسقي الحسن السم [وكان شربة من العسل بماء رومة]. فان هو قضي نحبه زوجها بيزيد، وأعطاها مائة الف درهم.
وكانت جعدة هذه بحكم بنوتها للأشعث بن قيس - المنافق المعروف - الذي اسلم مرتين، بينهما ردة منكرة، أقرب الناس روحا إلي قبول هذه المعاملة النكراء.
قال الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: " ان الأشعث شرك في دم أمير المؤمنين عليه السلام، وابنته جعدة سمت الحسن، وابنه محمد شرك في دم الحسين ".
أقول: وهكذا تم لمعاوية ما أراد.
وحكم بفعلته هذه علي مصير أمة بكاملها، فأغرقها بالنكبات، وأغرق نفسه وبنيه بالذحول والحروب والانقلابات.
وتم له بذلك نقض المعاهدة إلي آخر سطر فيها.
وقال الحسن عليه السلام وقد حضرته الوفاة: " لقد حاقت شربته وبلغ أمنيته، والله ما وفي بما وعد، ولا صدق فيما قال (1) ".
* * * وورد بريد مروان إلي معاوية، بتنفيذ الخطة المسمومة، فقال: " يا عجبا من الحسن شرب شربة من العسل بماء رومة فقضي نحبه (2) ".
ثم لم يملك نفسه من اظهار السرور بموت الحسن عليه السلام.
" وكان بالخضراء، فكبر، وكبر معه أهل الخضراء، ثم كبر أهل المسجد بتكبير أهل الخضراء، فخرجت فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف [زوج معاوية] من خوخة (3) لها، فقالت: " سرك
(1) المسعودي هامش ابن الأثير (ج 6 ص 55 - 56).
(2) ابن عبد البر.
(3) هي الكوة التي تؤدي الضوء إلي البيت، والباب الصغير في الباب الكبير.
(٣٦٥)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (3)، التصديق (1)، الزوج، الزواج (3)، السجود (1)، النفاق (1)، إبن الأثير (1)

صفحه 261

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٦٦
الله يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي بلغك فسررت به؟ ". قال: " موت الحسن بن علي "، فقالت: " انا لله وانا اليه راجعون "، ثم بكت وقالت: " مات سيد المسلمين، وابن بنت رسول الله صلي الله عليه (وآله) وسلم " فقال معاوية: " نعما والله ما فعلت، انه كان كذلك، أهل ان يبكي عليه ".
وزاد ابن قتيبة علي هذا بقوله: " فلما أتاه الخبر أظهر فرحا وسرورا حتي سجد وسجد من كان معه، وبلغ ذلك عبد الله بن عباس - وكان بالشام يومئذ - فدخل علي معاوية فلما جلس، قال معاوية: يا ابن عباس، هلك الحسن بن علي. فقال ابن عباس: نعم هلك انا لله وانا اليه راجعون ترجيعا مكررا. وقد بلغني الذي أظهرت من الفرح والسرور لوفاته. أما والله ما سد جسده حفرتك، ولا زاد نقصان أجله في عمرك. ولقد مات وهو خير منك. ولئن أصبنا به، لقد أصبنا بمن كان خيرا منه، جده رسول الله صلي الله عليه وسلم. فجبر الله مصيبته وخلف علينا من بعده أحسن الخلافة.
" ثم شهق ابن عباس وبكي من حضر في المجلس، وبكي معاوية. قال الراوي: فما رأيت يوما أكثر باكيا من ذلك اليوم. فقال معاوية: كم اتي له من العمر؟ فقال ابن عباس: امر الحسن أعظم من ان يجهل أحد مولده. قال: فسكت معاوية يسيرا ثم قال: يا ابن عباس، أصبحت سيد قومك من بعده. فقال ابن عباس: أما ما أبقي الله أبا عبد الله الحسين فلا (1) ".
* * * وعرض اليعقوبي (ج 2 ص 203) صورة عن الأثر العظيم الذي قوبل به نبأ وفاة الحسن عليه السلام في الكوفة، وما اجتمع عليه زعماء الشيعة هناك في دار كبيرهم (سليمان بن صرد) وتعزيتهم الحسين عليه السلام بكتاب مفتجع بليغ.
(1) ابن قتيبة المتوفي سنة 276 (ص 159 - 160) وذكر مثله أو قريبا منه اليعقوبي والمسعودي أيضا.
(٣٦٦)
مفاتيح البحث: إبن بنت رسول الله صلي الله عليه وآله (1)، الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، عبد الله بن عباس (7)، سليمان بن صرد الخزاعي (1)، مدينة الكوفة (1)، الحسن بن علي (2)، الشام (1)، البكاء (1)، الموت (2)، الجهل (1)، الهلاك (2)، الوفاة (2)

صفحه 262

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٦٧
وبلغ نعيه البصرة - وعليها زياد بن سمية - فبكي الناس وعلا الضجيج فسمعه أبو بكرة [أخو زياد لامه] - وهو إذ ذاك مريض في بيته - فقال: " أراحه الله من شر كثير، وفقد الناس بموته خيرا كثيرا يرحم الله حسنا (1) ".
وأبنه أخوه محمد بن الحنفية، وقد وقف علي جثمانه الشريف، واليك نص تأبينه:
" رحمك الله أبا محمد، فوالله لئن عزت حياتك، لقد هدت وفاتك. ونعم الروح روح عمر به بدنك، ونعم البدن بدن ضمه كفنك، ولم لا تكون كذلك، وأنت سليل الهدي، وحلف أهل التقوي، وخامس أصحاب الكساء. غذتك كف الحق، وربيت في حجر الاسلام، وأرضعتك ثديا الايمان. فطب حيا وميتا، فعليك السلام ورحمة الله، وان كانت أنفسنا غير قالية لحياتك، ولا شاكة في الخيار لك (2) ".
* * * والنصوص علي اغتيال معاوية الحسن بالسم متضافرة كاوضح قضية في التاريخ.
ذكرها صاحب الاستيعاب، والإصابة، والارشاد، وتذكرة الخواص ودلائل الإمامة (3). ومقاتل الطالبيين، والشعبي، واليعقوبي، وابن سعد في الطبقات، والمدائني، وابن عساكر، والواقدي، وابن الأثير، والمسعودي، وابن أبي الحديد، والمرتضي في تنزيه الأنبياء. والطوسي في أماليه، والشريف الرضي في ديوانه، والحاكم في المستدرك، وغيرهم.
وقال في " البدء والختام ": " وتوفي الحسن سنة 49 للهجرة. سمته جعدة بنت الأشعث بما دسه معاوية إليها، ومناها بزواج ولده يزيد، ثم
(1) ابن أبي الحديد (ج 4 ص 4).
(2) اليعقوبي (ج 2 ص 200) والمسعودي هامش ابن الأثير (ج 6 ص 57) بتفاوت قليل في بعض الكلمات.
(3) للطبري.
(٣٦٧)
مفاتيح البحث: كتاب تذكرة خواص الأمة للسبط إبن الجوزي (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (2)، أهل الكساء (1)، محمد بن الحنفية إبن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام (1)، إبن عساكر (1)، إبن الأثير (2)، مدينة البصرة (1)، الشريف الرضي، أبو الحسن محمد بن الحسين (1)، القتل (1)، الزوج، الزواج (1)

صفحه 263

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٦٨
نقض عهدها ".
وقال ابن سعد في طبقاته: " سمه معاوية مرارا ".
وقال المدائني: " سقي الحسن السم أربع مرات ".
وقال الحاكم في مستدركه (1): " ان الحسن بن علي سم مرارا. كل ذلك يسلم حتي كانت المرة الأخيرة التي مات فيها، فإنه رمي كبده ".
وقال اليعقوبي: " ولما حضرته الوفاة قال لأخيه الحسين: يا أخي ان هذه آخر ثلاث مرات سقيت فيها السم، ولم أسقه مثل مرتي هذه، وانا ميت من يومي. فإذا أنا مت فادفني مع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، فما أحد أولي بقربه مني، الا أن تمنع من ذلك، فلا تسفك فيه محجمة دم! ".
وقال ابن عبد البر: " دخل الحسين علي الحسن، فقال: يا أخي اني سقيت السم ثلاث مرات، ولم اسق مثل هذه المرة. اني لأضع كبدي. فقال الحسين: من سقاك يا أخي؟. قال: ما سؤالك عن هذا؟ أتريد أن تقاتلهم؟ كلهم إلي الله ".
وقال الطبري في دلائل الإمامة (2): " وكان سبب وفاته أن معاوية سمه سبعين مرة فلم يعمل فيه السم، فأرسل إلي امرأته جعدة بنت محمد (كذا) بن الأشعث بن قيس الكندي وبذل لها عشرين الف دينار واقطاع عشر ضياع من شعب السواد، سواد الكوفة، وضمن لها أن يزوجها يزيد ابنه. فسقت الحسن السم في برادة من الذهب في السويق المقند ".
* * * وقال الله عز من قائل: " فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمي ابصارهم ".
(١) (ج ٦ ص ٥) طبع باريس.
(٢) ص ٦١.
خاتمة: في الموازنة بين ظروف الحسن وظروف الحسين
(٣٦٨)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، مدينة الكوفة (1)، أشعث بن قيس الكندي (1)، الحسن بن علي (1)، الموت (1)

صفحه 264

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٧٠
ورأي كثير من الناس، ان الشمم الهاشمي الذي اعتاد ان يكون دائما في الشواهق، كان أليق بموقف الحسين عليه السلام، منه بموقف الحسن عليه السلام.
وهذه هي النظرة البدائية التي تفقد العمق ولا تستوعب الدقة.
فما كان الحسن في سائر مواقفه، الا الهاشمي الشامخ المجد، الذي واكب في مجادته مثل أبيه وأخيه معا، فإذا هم جميعا أمثولة المصلحين المبدئيين في التاريخ. ولكل - بعد ذلك - جهاده، ورسالته، ومواقفه التي يستمليها من صميم ظروفه القائمة بين يديه، وكلها الصور البكر في الجهاد، وفي المجد، وفي الانتصار للحق المهتضم المغصوب.
* * * وكان احتساء الموت - قتلا - في ظرف الحسين، والاحتفاظ بالحياة - صلحا - في ظرف الحسن، بما مهدا به - عن طريق هاتين الوسيلتين - لضمان حياة المبدأ، وللبرهنة علي إدانة الخصوم، هو الحل المنطقي الذي لا معدي عنه، لمشاكل كل من الظرفين، وهو الوسيلة الفضلي إلي الله تعالي، وان لم يكن الوسيلة إلي الدنيا. وهو الظفر الحقيقي المتدرج مع التاريخ وان كان فيه الحرمان حالا، وخسارة السلطان ظاهرا.
وكانت التضحيتان: تضحية الحسين بالنفس، وتضحية الحسن بالسلطان، هما قصاري ما يسمو اليه الزعماء المبدئيون في مواقفهم الانسانية المجاهدة.
وكانت عوامل الزمن التي صاحبت كلا من الحسن والحسين في زعامته، هي التي خلقت لكل منهما ظرفا من أصدقائه، وظرفا من أعدائه،
(٣٧٠)
مفاتيح البحث: الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الموت (1)

صفحه 265

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٧١
لا يشبه ظرف أخيه منهما، فكان من طبيعة اختلاف الظرفين اختلاف شكل الجهادين، واختلاف النهايتين أخيرا.
1 - ظروفهما من أنصارهما ومثلت خيانة الأصدقاء الكوفيين، بالنسبة إلي الحسين عليه السلام خطوته الموفقة في سبيل التمهيد لنجاحه المطرد في التاريخ، ولكنها كانت بالنسبة إلي أخيه الحسن عليه السلام - يوم مسكن والمدائن - عقبته الكؤود التي شلت ميدانه عن تطبيق عملية الجهاد. ذلك لان حوادث نقض بيعة الحسين كانت قد سبقت تعبئته للحرب، فجاء جيشه الصغير يوم وقف به للقتال، منخولا من كل شائبة تضيره كجيش امام له أهدافه المثلي.
أما الجيش الذي أخذ مواقعه من صفوف الحسن، ثم فر ثلثاه ونفرت به الدسائس المعادية، فإذا هو رهن الفوضي والانتقاض والثورة، فذلك هو الجيش الذي خسر به الحسن كل أمل من نجاح هذه الحرب.
ومن هنا ظهر أن هؤلاء الأصدقاء الذين بايعوا الحسن وصحبوه إلي معسكراته كمجاهدين، ثم نكثوا بيعتهم وفروا إلي عدوهم أو ثاروا بامامهم، كانوا شرا من أولئك الذين نكثوا بيعة الحسين قبل ان يواجهوه.
وهكذا مهد الحسين لحربه - بعد أن نخلت حوادث الخيانة أنصاره - جيشا من أروع جيوش التاريخ اخلاصا في غايته وتفاديا في طاعته وان قل عددا.
أما الحسن فلم يعد بامكانه أن يستبقي حتي من شيعته المخلصين أنصارا يطمئن إلي جمعهم وتوجيه حركاتهم، لان الفوضي التي انتشرت عدواها في جنوده كانت قد أفقدت الموقف قابلية الاستمرار علي العمل، كما أشير اليه سابقا.
وأي فرق أعظم من هذا الفرق بين ظرفيهما من أنصارهما؟.
2 - ظروفهما من أعدائهما وكان عدو الحسن هو معاوية، وعدو الحسين هو يزيد بن معاوية. وللفرق بين معاوية ويزيد ما طفح به التاريخ، من قصة البلادة السافرة في " الابن ". والنظرة البعيدة العمق التي زعم الناس لها الدهاء في " الأب ".
وما كان لعداوة هذين العدوين ظرفها المرتجل مع الحسن والحسين، ولكنها الخصومة التاريخية التي أكل عليها الدهر وشرب بين بني هاشم وبني أمية.
ولم تكن الأموية يوما من الأيام كفوا للهاشمية (1). وانما كانت عدوتها التي تخافها علي سلطانها، وتناوئها - دون هوادة -. وكان هذا هو سر ذكرها بإزائها في أفواه الناس وعلي أسلات أقلام المؤرخين. والا فأين سورة الهوي من مثل الكمال؟ وأين انساب الخنا من المطهرين في الكتاب؟. وأين شهوة الغلب، وحب الأثرة، وألوان الفجور، من شتيت المزايا في ملكات العقل، وسمو الاخلاق، وطهارة العنصر، وآفاق العلوم التي تعاونت علي تغذية الفكر الانساني في مختلف مناحي الثقافات العالية، فأضافت إلي ذخائره ثروة لا تطاول؟. أولئك هم بنو هاشم الطالعون بالنور.
وأين هؤلاء من أولئك؟.
ولم يكن من الاحتمال البعيد ما قدره الحسن بن علي احتمالا قريبا، - فيما لو اشتبك مع عدوه التاريخي معاوية بن أبي سفيان بن حرب في
(1) قال أمير المؤمنين عليه السلام فيما كتبه إلي معاوية جوابا: " ولم يمنعنا قديم عزنا ولا عادي طولنا علي قومك أن خلطناكم بأنفسنا فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء، ولستم هناك، وأني يكون ذلك كذلك ومنا النبي ومنكم المكذب، ومنا أسد الله ومنكم أسد الاحلاف، ومنا سيدا شباب أهل الجنة ومنكم صبية النار، ومنا سيدة نساء العالمين ومنكم حمالة الحطب، إلي كثير مما لنا وعليكم ".
(٣٧١)
مفاتيح البحث: الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، معاوية بن أبي سفيان لعنهما الله (1)، الدولة الأموية (1)، يزيد بن معاوية لعنهما الله (1)، بنو أمية (1)، بنو هاشم (2)، الحسن بن علي (1)، القتل (1)، الحرب (2)، الشهوة، الإشتهاء (1)، الخسران (1)، الأكل (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها (1)

صفحه 266

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٧٣
حرب يائسة مثل هذه الحرب - أن تجر الحرب بذيولها أكبر كارثة علي الاسلام، وأن تبيد بمكائدها آخر نسمة تنبض بفكرة التشيع لأهل البيت عليهم السلام. ولمعاوية قابلياته الممتازة لتنفيذ هذه الخطة وتصفية الحساب الطويل في التاريخ، وهو هو في عدائه الصريح لعلي ولأولاده ولشيعتهم.
وفيما مر من الكلام علي هذا الموضوع كفاية عن الإعادة.
أما الحسين فقد كفي مثل هذا الاحتمال حين كان خصمه الغلام المترف الذي لا يحسن قيادة المشاكل، ولا تعبئة التيارات، ولا حياكة الخطط، ثم هو لا يعنيه من الامر الا ان يكون الملك ذا الخزائن، حتي ولو واجهه الأخطل الشاعر بقوله - علي رواية البيهقي -:
" ودينك حقا كدين الحمار * * * بل أنت اكفر من هرمز " وكفي الحسين هذا الاحتمال، بما ضمنه سيف الارهاب الذي طارد الشيعة تحت كل حجر ومدر في الكوفة وما إليها، والذي حفظ في غيابات السجون والمهاجر وكهوف الجبال سيلا من السادة الذين كانوا يحملون مبادئ أهل البيت، وكانوا يؤتمنون علي ايصال هذه المبادئ إلي الأجيال بعدهم.
فرأي ان يمضي في تصميمه مطمئنا علي خطته وعلي أهدافه وعلي مستقبلهما من أعدائه.
أما الحسن فلم يكن له أن يطمئن علي مخلفاته المعنوية طمأنينة أخيه وفي أعدائه معاوية وثالوثه المخيف وخططهم الناصبة الحقود التي لا حد لفظاعتها في العداوة والحقد.
* * * وأخيرا فقد أفاد الحسين من غلطات معاوية في غاراته علي بلاد الله الآمنة المطمئنة، وفي موقفه من شروط صلح الحسن، وفي قتله الحسن بالسم، وفي بيعته لابنه يزيد وفي أشياء كثيرة أخري، بما زاد حركته في
(٣٧٣)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، مدينة الكوفة (1)، صلح (يوم) الحديبية (1)، التعبأة، العبء (1)، القتل (1)، الحرب (3)

صفحه 267

صلح الحسن (ع) - السيد شرف الدين - الصفحة ٣٧٤
وجه الأموية قوة ومعنوية وانطباقا صريحا علي وجهة النظر الاسلامي في الرأي العام.
وأفاد - إلي ذلك - من مزالق الشاب المأخوذ بالقرود والخمور " خليفة معاوية "، فكانت كلها عوامل تتصرف معه في تنفيذ أهدافه.
وكانت ظروفه من أعدائه وظروفه من أصدقائه تتفقان معا علي تأييد حركته، وانجاز مهمته، والاخذ به إلي النصر المجنح الذي فاز به في الله وفي التاريخ.
أما الحسن فقد أعيته - كما بينا سابقا - ظروفه من أصدقائه فحالت بينه وبين الشهادة، وظروفه من أعدائه فحالت بينه وبين مناجزتهم الحرب التي كان معناها الحكم علي مبادئه " بالاعدام ".
لذلك رأي لزاما ان يطور طريقة جهاده، وان يفتتح ميدانه من طريق الصلح.
وما كانت الألغام التي وضعها الحسن في الشروط التي أخذها علي معاوية الا وسائله الدقيقة التي حكمت علي معاوية وحزبه بالفشل الذريع في التاريخ.
ومن الصعب حقا أن نميز - بعد هذا - أي الأخوين عليهما السلام كان أكبر أثرا في جهاده، وأشد نفوذا إلي أهدافه، وأبعد امعانا في النكاية بأعدائه.
ولم يبق مخفيا أن تاريخ نكبات أمية بعد عملية الحسن في الصلح كان متصلا بالحسن، مرهونا بخططه، خاضعا لتوجيهه. وأن حادثا واحدا من أحداث تلك النكبات لم يكن ليقع كما وقع، لولا هذه العملية الناجحة التي كان من طبيعة ظروفها أن تستأثر بالنجاح، وكان من طبيعة خصومها أن يكونوا أعوانا علي نجاحها من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
(٣٧٤)
مفاتيح البحث: الدولة الأموية (1)، صلح (يوم) الحديبية (2)، الشهادة (1)، الحرب (1)، النفاذ، التنفيذ (1)

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.