معتمد الأصول

اشارة

‏سرشناسه : فاضل موحد لنكرانی، محمد، - ۱۳۱۰
‏عنوان و نام پديدآور : معتمد الاصول: تقریر ابحاث الاستاذ... روح‌الله الموسوی الامام الخمینی/ محمد الفاضل اللنكرانی
‏مشخصات نشر : تهران: موسسه تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی(س)، ۱۴۲۳ق. = ۱۳۸۱.
‏مشخصات ظاهری : ص ۵۲۹
‏يادداشت : چاپ قبلی: موسسه تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی(س)، ۱۳۸۰ در دو مجلد است
‏يادداشت : عربی
‏یادداشت : كتابنامه به‌صورت زیرنویس
‏موضوع : اصول فقه شیعه -- قرن ۱۴
‏شناسه افزوده : خمینی، روح‌الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، ۱۳۶۸ - ۱۲۷۹
‏شناسه افزوده : موسسه تنظیم و نشر آثار امام خمینی(س)
‏رده بندی كنگره : BP۱۵۹/۸/ف‌۱۸م‌۶ ۱۳۸۱
‏رده بندی دیویی : ۲۹۷/۳۱۲
‏شماره كتابشناسی ملی : م‌۸۱-۴۷۴۰۰

مقدمة التحقيق

مقدمة التحقيق مقدمة التحقيق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلي آله الطيبين الطاهرين، واللعن المؤبد علي أعدائهم أجمعين.
لم يعد خافيا علي أحد ما لعلم الفقه من أهمية عظمي ودخالة مباشرة في الحياة العملية للفرد المسلم، وفي برمجة مواقفه الفردية والاجتماعية، ف " ما من واقعة إلا ولله سبحانه فيها حكم " " ولم يدع شيئا تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله ".
فلا غرو إن توسع هذا العلم، وكثرت مطالبه، وتطورت أبحاثه بنحو تنسجم ومعطيات الواقع المعاصر، ذلك أن الاجتهاد لم يؤصد بابه عند معاشر الإمامية - كثرهم الله - ولم يبق حكرا علي طائفة من الفقهاء المتقدمين، فكم ترك الأوائل للأواخر! ولهذا بلغ الفقه الإمامي الذروة من حيث الدقة والتحقيق والسعة والشمولية.
ويبدو هذا واضحا جليا بمقايسة علم الفقه بسائر العلوم الإسلامية التي
(٥)
صفحهمفاتيح البحث: الوسعة (1)، الطهارة (1)
ولدت معه، كالنحو والصرف وغيرهما، فبينما لزمت أمثال هذه العلوم سمة الجمود والتحجر، نجد علم الفقه بديعا في مسالكه، قشيبا في أدلته، وما من يوم يمضي إلا ويزداد حداثة وغضارة، وذلك بفتح باب الاجتهاد والاستنباط عندنا.
هذا، وترتكز عملية الاستنباط من الكتاب والسنة علي مقدمات عديدة وكثيرة، كعلم الأصول والرجال والمنطق واللغة … حيث يقوم كل منها بدوره في الاستنباط، إلا أن لعلم الأصول عنصر الصدارة من بينها، بل لولاه لما تمكن الفقيه من الاستدلال، ولهذا أولاه علماؤنا عناية فائقة من بين سائر المقدمات الدخيلة في الاستنباط، باذلين في تحقيقه جهود أخلاقة وأوقات شريفة.
وقد تمخضت هذه الجهود عن علم يفوق جميع العلوم العقلية والنقلية في شموليته واستيعابه، وصلابته واستحكامه، وعذوبته واسترساله، وتوسع توسعا كبيرا علي يد المبتكرين والمفكرين من علمائه الذين أفردوا له دوائر عديدة وموسوعات كبيرة.
ومن جانب آخر فقد بعدت أفكاره عن المنال، وعزت عرائس أفكاره علي عقول الرجال، نتيجة لممارسة العباقرة لهذا العلم ومدارستهم له، فكان من الطبيعي أن يظهر علي الجانب المعاكس تياران:
أحدهما: يهدف إلي تقليص هذا العلم وتلخيصه، وحذف زوائده وفضوله، ويعد المحقق صاحب " الكفاية " (رحمه الله) المؤسس لهذا التيار. إلا أنه - وللأسف - راح الوضوح والبيان ضحية التلخيص، وتعقدت " الكفاية " وصعب فهمها، ونشأ عن هذا الكثير من الشروح والحواشي التي لا تعبر إلا عن رأي مؤلفيها في غالب الأحيان، والتي يقرنها أربابها بقولهم: " لعل مراده (قدس سره) كذا " أو " يحتمل كذا " ولو علم المحقق الخراساني (رحمه الله) بالسلسلة الطويلة من الشروح التي أحدثتها
(٦)
صفحهمفاتيح البحث: الهدف (1)
وتحدثها " كفايته " وعلم بما سيعانيه دارسوها ومدرسوها، لما اختصرها ولا اختزلها، ولا كتبها موسعة مسهبة، كاشفا عن قناعها، فإن طلسمة كتاب دراسي أمر مرغوب عنه عند مربي الأجيال.
وثانيهما: التيار الداعي إلي الحد من وضع المصطلحات الجديدة، وإلي بيان جميع المقدمات الدخيلة في فهم المطالب الأصولية. وهذا لا يعني الدعوة إلي الإطناب الممل ولا الإيجاز المخل، كما هو واضح. وتعد مدرسة المحقق النائيني (رحمه الله) خير مثال لهذا التيار البليغ، حيث تظهر روح مطالبها مجسدة بقالب من الألفاظ الفصيحة البليغة.
ومع كل المزايا التي تجلت في مدرستي العلامتين الخراساني والنائيني (رحمهما الله) فقد انطوتا في بعض مواضعهما علي الخلط بين التكوين والتشريع، والوحدة الحقيقية والوحدة الاعتبارية، وعلي عدم الوصول إلي مغزي بعض المسائل الفلسفية التي جعلت أساسا للمسألة الأصولية، فجاء الدور لمدرسة السيد الإمام الخميني - أعلي الله مقامه الشريف - ليضع حدا فاصلا بين الحقيقة والاعتبار في المسائل الأصولية، ففيها ما يحكم فيه العرف الساذج وإن خالف الدقة العقلية والبراهين الفلسفية، وفيها ما يرجع فيه إلي المباني الفلسفية والحكمة المتعالية، فالإفراط والتفريط في الاتكاء علي علم المعقول، كلاهما علي جانب كبير من الخطأ.
ونظر الرسوخ الإمام العلامة في الحكمة وإحاطته ببواطن أمورها وخفيات مسائلها، لذا أبان الكثير منها عند مساس الحاجة إليها، ففي مبحث تعلق الأوامر بالطبائع أو الأفراد لم يوافق المحقق الخراساني علي التمسك بقاعدة " الماهية من حيث هي ليست إلا هي " مشيرا إلي أن منظور الحكماء بهذه
(٧)
صفحهمفاتيح البحث: الحاجة، الإحتياج (1)
القضية هو الحمل الأولي الذاتي، لا الشائع الصناعي الذي هو مقصود الأصولي.
كما لم يسلم ما هو المعروف بين الفلاسفة والأصوليين من اعتبارية تقسيم الماهية والأجناس والفصول، ذاهبا إلي أن تقسيم الماهية إلي أقسامها الثلاثة إنما يكون بلحاظ الواقع ونفس الأمر، إذ مجرد اعتبار شئ لا بشرط، لا يوجب انقلاب الواقع وصيرورة الشئ قابلا للاتحاد والحمل، كما أن اعتباره بشرط لا، لا يحدث المغايرة ولا يمنع الحمل، وإلا لاختلف الواقع بحسب الاعتبار، ولصارت ماهية واحدة متحدة مع شئ وغير متحدة معه بعينه، وهو واضح البطلان، وعلي ضوء هذه الدقة بحث عن المراد من المادة والصورة والفرق بينهما وبين الجنس والفصل وأبدي الخلط الواقع في كلام الحكماء في المسألة.
ومن المسائل التي برع في تحقيقها تحقيقا حكميا المسألة المعروفة التي شغلت بال الفلاسفة والأصوليين، أعني مسألة الطلب والإرادة، حيث أفرد لها رسالة مستقلة، وأفرغ فيها من ذوقه المتأله ما يعجز عن نيله أكابر الفلاسفة والحكماء و * (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) * وقد قامت المؤسسة بتحقيقها، وسيتم طبعها في القريب العاجل إن شاء الله تعالي.
وهناك شواهد أخري كثيرة لم يسعنا استقصاؤها في هذه العجالة، يظهر منها أن الإمام الخالد (رحمه الله) قد أرسي قواعد مدرسته الأصولية علي ركائز من الحكمة المتعالية، فلئن عبثت يد الطاغوت بتراث الإمام الفلسفي، ولم ينج منها إلا النزر اليسير، ففي أبحاثه الأصولية معالم لمدرسته الفلسفية، وفيها ضالة الفيلسوف وبغية العارف.
هذا، والمدرسة الخمينية شجرة طيبة، آتت اكلها كل حين بإذن ربها، وتخرج منها الكثير من العلماء والمحققين ومراجع الدين العاملين - أيدهم الله
(٨)
صفحهمفاتيح البحث: الباطل، الإبطال (1)، المنع (1)، الأكل (1)، البول (1)
تعالي - نخص منهم بالذكر هنا: آية الله العظمي المحقق المجاهد الشيخ الفاضل اللنكراني - أدام الله أيام عوائده - حيث لازم الإمام الراحل - طاب ثراه - سنوات عديدة، ونهل من معينه العذب فقها وأصولا، وكتب الكثير من الأبحاث الراقية التي أفاضها الإمام العظيم (رحمه الله) أثناء إقامته بمدينة قم المشرفة، فجاءت تقريراته آية في وضوحها وسلاستها، ومثالا في تجردها من الزوائد والفضول، لذا آثرت مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) نشر ما التقطه دام ظله من لآلئ بحث أستاذه (رحمه الله) في الأصول، رغم عدم تماميته أولا وآخرا، لما رأته من المزية التي تفرد بها سماحة العلامة الحجة الفاضل حفظه الله سائلة لجنابه دوام الصحة والعمر المديد، إنه سميع مجيب.
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) فرع قم المقدسة
(٩)
صفحهمفاتيح البحث: مدينة قم المقدسة (1)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي خير خلقه محمد وعلي آله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين
(١١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم القيامة (1)، الطهارة (1)
المقصد الأول في الأوامر وفيه فصول:
صفحه(١٣)

المقصد الأول: في الأوامر وفيه فصول: الفصل الرابع: في مقدمة الواجب

مقدمة الواجب الفصل الرابع في مقدمة الواجب والبحث حول هذه المسألة يستدعي تقديم أمور:
الأمر الأول في تحرير محل النزاع وقبل الخوض في تحرير محل النزاع وإقامة الدليل نمهد مقدمة، وهي:
أنه لا إشكال في أنه إذا أراد الإنسان شيئا له مقدمة أو مقدمات فلا محالة تتعلق إرادة أخري بإتيان المقدمات، وهذه الإرادة المتعلقة بالمقدمات ليست مترشحة من الإرادة المتعلقة بإتيان ذي المقدمة بمعني أنه كما تكون الإرادة علة فاعلية لتحقق المراد في الخارج كذلك تكون موجدة لإرادة أخري مثلها متعلقة بمقدمات المراد الأولي، بل كما أن الإرادة المتعلقة بالغرض الأقصي والمطلوب الأولي - كلقاء الصديق مثلا - مخلوقة للنفس ومتحققة بفعاليتها كذلك الإرادة المتعلقة بالمقدمات - كالذهاب إلي داره مثلا - موجدة بفاعلية النفس، غاية الأمر أن الاشتياق الحاصل بالمراد إنما هو متعلق بنفس المراد فيما
(١٥)
صفحهمفاتيح البحث: الصدق (1)، الإقامة (1)

فيه أمور: الأمر الأول: في تحرير محل النزاع

مقدمة الواجب الفصل الرابع في مقدمة الواجب والبحث حول هذه المسألة يستدعي تقديم أمور:
الأمر الأول في تحرير محل النزاع وقبل الخوض في تحرير محل النزاع وإقامة الدليل نمهد مقدمة، وهي:
أنه لا إشكال في أنه إذا أراد الإنسان شيئا له مقدمة أو مقدمات فلا محالة تتعلق إرادة أخري بإتيان المقدمات، وهذه الإرادة المتعلقة بالمقدمات ليست مترشحة من الإرادة المتعلقة بإتيان ذي المقدمة بمعني أنه كما تكون الإرادة علة فاعلية لتحقق المراد في الخارج كذلك تكون موجدة لإرادة أخري مثلها متعلقة بمقدمات المراد الأولي، بل كما أن الإرادة المتعلقة بالغرض الأقصي والمطلوب الأولي - كلقاء الصديق مثلا - مخلوقة للنفس ومتحققة بفعاليتها كذلك الإرادة المتعلقة بالمقدمات - كالذهاب إلي داره مثلا - موجدة بفاعلية النفس، غاية الأمر أن الاشتياق الحاصل بالمراد إنما هو متعلق بنفس المراد فيما
(١٥)
صفحهمفاتيح البحث: الصدق (1)، الإقامة (1)
لو كان هو الغرض الأقصي والمطلوب الأصلي ومتعلق بما يكون المراد من شرائط وجود شئ آخر فيما لم يكن المراد هو المنظور إليه بالذات.
وبالجملة فالفائدة المترتبة علي المراد، التي هي من شرائط تحقق الإرادة إنما هي مترتبة علي نفس المراد في الصورة الأولي، ومترتبة علي شئ آخر يكون المراد دخيلا في تحققه في الإرادة المتعلقة بالمقدمات.
هذا فيما لو كان الغرض الإتيان بالفعل بنفسه، وأما لو كان المقصود إتيان العبد به بتوسيط الأمر فهنا شيئان: البعث والتحريك الصادر من المولي بسبب الأمر والإرادة المتعلقة بهذا البعث.
إذا عرفت ما ذكرنا، فنقول: لا يخفي أن ما ذكره المحققين من الأصوليين من أن النزاع في باب المقدمة إنما هو في الملازمة لا في وجوبها لتكون المسألة فقهية (1) يحتمل أن يكون المراد بها الملازمة بين البعث الفعلي المتعلق بذي المقدمة وبين البعث الفعلي نحو المقدمة، وأن يكون المراد الملازمة بينه وبين البعث التقديري نحو المقدمة بمعني أن المقدمة يتعلق بها البعث في الاستقبال لا محالة وإن لم يتعلق بها فعلا، وأن يكون المراد الملازمة بين الإرادة الحتمية الفعلية المتعلقة بالبعث إلي ذي المقدمة وبين الإرادة الفعلية المتعلقة بالبعث إلي المقدمة، وأن يكون المراد الملازمة بينها وبين الإرادة التقديرية المتعلقة بالبعث إلي المقدمة.
وكل من هذه الاحتمالات المتصورة مما لا يمكن أن يكون محلا للنزاع ومورد النقض والإبرام.
١ - مطارح الأنظار: ٣٧ / السطر ٦، كفاية الأصول: ١١٤، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 216، نهاية الأفكار 1: 259.
(١٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، البعث، الإنبعاث (5)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
أما الأول: فلأنه من الواضح عدم كون كثير من المقدمات بل جميعها مبعوثا إليها بمجرد البعث إلي ذي المقدمة.
وأما الثاني: فلأنه لا معني - بناء عليه - للقول بالملازمة، إذ لا يعقل تحقق الملازمة الفعلية بين المتلازمين اللذين أحدهما موجود بالفعل والآخر موجود بالتقدير بمعني أنه لم يوجد بعد وسيوجد في الاستقبال، إذ الملازمة من قبيل الأبوة والبنوة، فكما أنه لا يعقل تحقق الأبوة للشخص الذي يصير ذا ولد في الاستقبال للتضايف الحاصل بينها وبين البنوة، ومن شأن المتضايفين عدم إمكان الانفكاك بينهما في الوجود الخارجي بل الوجود الذهني، كذلك تحقق الملازمة الفعلية وثبوتها بين الشيئين متوقف علي تحققهما في الخارج وثبوتهما بالفعل، وهذا واضح جدا.
وأما الثالث: فلأنه كثيرا ما يكون جميع المقدمات أو بعضها مغفولا عنها، وحينئذ فلا يمكن تعلق الإرادة بالبعث إليها، إذ لا يعقل أن يكون المراد مغفولا عنه.
وقد عرفت بما مهدناه لك: أن الإرادة المتعلقة بالمقدمات إنما تتحقق بفعالية النفس، وليست مترشحة وموجدة بالإرادة المتعلقة بذي المقدمة، فراجع، وحينئذ فلا يعقل أن يكون الشئ متصفا بأنه مراد مع كونه مغفولا عنه بالنسبة إلي المريد، كيف ومن مقدمات الإرادة تصور الشئ والتصديق بفائدته والاشتياق إليه، ولا يمكن اجتماع هذه مع الغفلة أصلا، كما هو واضح لا يخفي.
وأما الرابع: فلما ذكر في الاحتمال الثاني من أنه يستحيل تحقق الملازمة بين الموجود بالفعل والموجود بالتقدير.
فانقدح بما ذكرنا: أن جعل النزاع في الملازمة بالوجوه المذكورة مما لاوجه له، إذ لا يمكن أن يكون ذلك محل النزاع، كما عرفت.
(١٧)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الغفلة (1)، البعث، الإنبعاث (1)
والتحقيق أن يقال: إن محل الكلام ومورد النقض والإبرام هي الملازمة بين الإرادة الفعلية المتعلقة بذي المقدمة وبين الإرادة الفعلية المتعلقة بما يراه المريد مقدمة.
توضيح ذلك: أنه لا شبهة في أن الإرادة قد تتعلق بما لا يترتب عليه فائدة بل ربما يرجع بسببه ضرر إلي الفاعل المريد، وليس ذلك إلا لكون المريد معتقدا بترتب فائدة عليه، كما أنه قد يأبي عن الإتيان بفعل بتخيل أن المترتب عليه ضرر راجع إليه مع كونه في الواقع ذا نفع عائد إليه.
وبالجملة فالإنسان ربما يشتاق إلي فعل، لتخيله أنه ذو نفع فيريده، وربما ينزجر عن فعل آخر، لتوهمه أنه بلا نفع، فينصرف عنه، مع أن الأمر في الواقع بالعكس، فليس تحقق الإرادة متوقفا علي النفع الواقعي، وعدمها علي عدمه.
هذا في الإرادة المتعلقة بنفس الفعل، وأما الإرادة المتعلقة بالمقدمات فهي أيضا كذلك بمعني أنه قد يتخيل المريد بأن مراده متوقف علي شئ فيريده مع أنه لم يكن من شرائط وجوده في الواقع، كما أنه ربما لا يريد المقدمات الواقعية، لتوهمه أنها لا تكون مقدمات.
هذا في إرادة الفاعل، وأما الآمر: فإذا أمر بشئ له مقدمات، فالنزاع واقع في تحقق الملازمة بين الإرادة المتعلقة بذي المقدمة وبين الإرادة المتعلقة بما يراه مقدمة لا المقدمات الواقعية.
نعم لو أخطأ في تشخيص المقدمات، فيجب علي العبد تحصيل المقدمات الواقعية مع علمه بخطأ المولي لا من باب تعلق إرادة المولي بالمقدمات الواقعية، كيف وهي غير متوجهة إليها، فلا يمكن أن تصير مرادة، بل من باب وجوب تحصيل غرض المولي مع الاطلاع عليه وإن لم يتعلق به أمر أصلا.
(١٨)
صفحهمفاتيح البحث: الضرر (1)

الأمر الثاني: هل مسألة مقدمة الواجب من المسائل الأصولية؟

هذا، وحيث إن العمدة في مورد البحث هي المقدمات الشرعية، ومن المعلوم أن ما يراه الشارع مقدمة ليس متخلفا عن الواقع، فيصح النزاع في الملازمة بين الإرادة المتعلقة بذي المقدمة وبين الإرادة المتعلقة بالمقدمات الواقعية.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في تحرير محل النزاع.
الأمر الثاني هل مسألة مقدمة الواجب من المسائل الأصولية؟
ثم إنه يقع الكلام بعد ذلك في أن المسألة أصولية أو من المبادئ الأحكامية أو فقهية.
ولا يخفي أنه إن قلنا بأن المسائل الأصولية هي ما يبحث فيها عن عوارض الحجة في الفقه بناء علي أن الموضوع لعلم الأصول هي الحجة في الفقه (1)، فلا يكون النزاع في باب المقدمة الراجع إلي النزاع في ثبوت الملازمة وعدمها نزاعا في المسألة الأصولية، إذ لا يبحث فيها عما يعرض الحجة في الفقه، وهذا واضح.
وإن قلنا بأن مسائل علم الأصول عبارة عن القواعد التي يمكن أن تقع كبري لقياس الاستنباط أو التي ينتهي إليها في مقام العمل بعد عدم الدليل - كما هو المختار المحقق في موضعه (2) - فمن الواضح أن المقام من المسائل الأصولية، كما لا يخفي.
1 - نهاية الأصول: 15.
2 - مناهج الوصول 1: 51 - 54.
صفحه(١٩)

هل المسألة عقلية أو لفظية؟

هل المسألة عقلية أو لفظية؟
ثم إنه بعد الفراغ عن كونها مسألة أصولية يقع الكلام في أنها أصولية عقلية أو لفظية؟
والتحقيق أن يقال بابتناء ذلك علي كون الدلالة الالتزامية من الدلالات اللفظية، نظير المطابقة والتضمن، وعدمه، كما هو الحق، فإن قلنا بالأول، تكون مسألة أصولية لفظية، ولعله الوجه في ذكر المسألة في مباحث الألفاظ.
وإن قلنا بالثاني، تكون عقلية ويمكن أن يقال بكون المقام مسألة أصولية عقلية وإن قلنا بكون الدلالة الالتزامية من الدلالات اللفظية.
توضيحه: أن عد الدلالة الالتزامية من الدلالات اللفظية إنما هو فيما إذا كان الملزوم هو المدلول المطابقي للفظ، فهو يدل أولا عليه، وبتوسيطه يدل علي المعني اللازم لمدلوله المطابقي، وهنا ليس كذلك، لأن النزاع في ثبوت الملازمة بين الإرادة المتعلقة بالبعث إلي ذي المقدمة وبين الإرادة المتعلقة بالبعث إلي المقدمة، فالتلازم علي فرض ثبوته إنما هو بين الإرادتين، ومن المعلوم أنه لا تكون إحداهما مدلولا مطابقيا للفظ حتي يدل اللفظ بتوسيطه علي الآخر، بل مفاد اللفظ هو البعث المتعلق بذي المقدمة، وهو وإن كان كاشفا عن ثبوت الإرادة القبلية إلا أن ذلك ليس من باب الدلالة اللفظية عليه، بل من باب أن الفعل الاختياري كاشف عن ثبوت الإرادة المتعلقة به قبله.
وبالجملة: فلم يكن أحد المتلازمين مدلولا مطابقيا للفظ أصلا، بل كلاهما خارجان عن معناه الموضوع له، وحينئذ فليس إلي ادعاء الدلالة اللفظية في المقام سبيل أصلا، كما هو واضح لا يخفي.
(٢٠)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (1)

الأمر الثالث: في تقسيمات المقدمة

الأمر الثالث في تقسيمات المقدمة ثم إنه ربما تقسم المقدمة بتقسيمات لابد من ذكرها وبيان أن أي قسم منها داخل في محل البحث ومورد النزاع.
تقسيم المقدمة إلي الخارجية والداخلية فنقول: من التقسيمات تقسيمها إلي الخارجية والداخلية، والمراد بالأول هي الأمور الخارجة عن حقيقة المأمور به التي لا يكاد يمكن تحققه بدون واحد منها، وبالثاني هي الأمور التي يتركب منها المأمور به، ولها مدخلية في حقيقته.
لا إشكال في كون المقدمات الخارجية داخلة في مورد البحث، وإنما الكلام في المقدمات الداخلية، وأنها هل تكون داخلة في محل النزاع أم لا؟
قد يقال باختصاص البحث بخصوص المقدمات الخارجية، لأن الأجزاء لا تكون سابقة علي الكل ومقدمة عليه، لأن الكل ليس إلا نفس الأجزاء بالأسر (1).
وقد ذكر بعض الأعاظم في دفع الإشكال أن المقدمة عبارة عن نفس الأجزاء بالأسر، والمركب عبارة عن تلك الأجزاء بشرط الانضمام والاجتماع، فتحصل المغايرة بينهما (2).
١ - انظر هداية المسترشدين: ٢١٦ / السطر ٦.
٢ - كفاية الأصول: ١١٥.
(٢١)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

تقسيم المقدمة إلي الخارجية والداخلية

الأمر الثالث في تقسيمات المقدمة ثم إنه ربما تقسم المقدمة بتقسيمات لابد من ذكرها وبيان أن أي قسم منها داخل في محل البحث ومورد النزاع.
تقسيم المقدمة إلي الخارجية والداخلية فنقول: من التقسيمات تقسيمها إلي الخارجية والداخلية، والمراد بالأول هي الأمور الخارجة عن حقيقة المأمور به التي لا يكاد يمكن تحققه بدون واحد منها، وبالثاني هي الأمور التي يتركب منها المأمور به، ولها مدخلية في حقيقته.
لا إشكال في كون المقدمات الخارجية داخلة في مورد البحث، وإنما الكلام في المقدمات الداخلية، وأنها هل تكون داخلة في محل النزاع أم لا؟
قد يقال باختصاص البحث بخصوص المقدمات الخارجية، لأن الأجزاء لا تكون سابقة علي الكل ومقدمة عليه، لأن الكل ليس إلا نفس الأجزاء بالأسر (1).
وقد ذكر بعض الأعاظم في دفع الإشكال أن المقدمة عبارة عن نفس الأجزاء بالأسر، والمركب عبارة عن تلك الأجزاء بشرط الانضمام والاجتماع، فتحصل المغايرة بينهما (2).
١ - انظر هداية المسترشدين: ٢١٦ / السطر ٦.
٢ - كفاية الأصول: ١١٥.
(٢١)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
هذا، ولا يخفي أن هذا الكلام لا يدفع به الإشكال، لأن مجرد المغايرة الاعتبارية بينهما الراجعة إلي أن في الواقع لا يكون إلا أمر واحد وشئ فارد لا يصحح عنوان المقدمية المتوقف علي أن يكون هنا شئ متقدم في الوجود علي ذيها وسابق عليها، إذ لا يعقل أن يتقدم شئ واحد علي نفسه، وهذا واضح.
وتحقيق المقام أن يقال: إن المركبات علي قسمين:
الأول: المركبات الحقيقية.
الثاني: المركبات غير الحقيقية.
والمراد بالأول هي المركبات من الجنس والفصل والمادة والصورة.
ولا يخفي أن هذا القسم خارج عن محل البحث بالاتفاق، لأن الجنس والفصل من الأجزاء التحليلية العقلية ولا وجود لها في الخارج، والصورة والمادة وإن كانتا موجودتين في الخارج إلا أنه لا امتياز بينهما وبين المركب منهما ليتوقف عليهما، وهذا واضح.
والمراد بالقسم الثاني هو المركب من الأشياء المتخالفة الحقائق والأمور المتبائنة، وهو علي قسمين:
الأول: المركبات الصناعية، وهي المركب من الأمور المتعددة بحيث يكون لذلك المركب عنوان واحد من دون توقف علي أن تكون وحدتها معتبرة باعتبار معتبر، وهذا كالمسجد والدار والبيت والسرير وأمثالها.
والثاني: المركبات الاعتبارية، وهي المركب من الأمور المتعددة الملحوظة بنظر الوحدة لأجل مدخليتها بتمامها في حصول غرض واحد، وترتب مصلحة واحدة عليها، وهذا كأكثر المركبات.
وهذان القسمان قد وقعا محل الخلاف في أنه هل يكونان داخلين في مورد النزاع أم لا.
صفحه(٢٢)
إذا عرفت ما ذكرنا، فنقول: إذا أراد الفاعل بناء مسجد مثلا، فلا إشكال في أنه يتصوره وما يترتب عليه من الفوائد ثم يشتاق إليه ثم يريده، وربما لا يتوجه إلي أجزاء المسجد في مقام تعلق الإرادة ببنائه أصلا، بل تكون كلها مغفولا عنها.
ثم إذا شرع في العمل ورأي أن تحقق المسجد يتوقف علي أمور متعددة، فلا محالة يريد كل واحد منها، لتوقف حصول الغرض الأقصي عليه.
غاية الأمر أن الإرادة المتعلقة بها ليست لأجل نفسها، بل لحصول غيرها، لا أن تكون تلك الإرادة مترشحة عن الإرادة المتعلقة ببناء المسجد ومسببة عنها، كما عرفت في صدر المبحث، وقد حقق في محله أن تعين الإرادة وتشخصها إنما هو أبا لمراد بمعني أنه لا يمكن تحققها بدون المراد، كما يشهد به الوجدان، ويدل عليه البرهان (1). وكذلك لا يمكن تعلق إرادة واحدة بمرادات متعددة، بل كل مراد يحتاج إلي إرادة مستقلة، وحينئذ فالإرادة المتعلقة ببناء المسجد ليست هي الإرادة المتعلقة بالمقدمات، وإلا لزم تعدد المراد مع إرادة واحدة.
وبالجملة: فالمسجد عنوان واحد قد تتعلق به الإرادة لما يترتب عليه من الفوائد، وفي هذه الإرادة لا مدخلية للأجزاء أصلا بمعني أنه لو سئل المريد عن الاشتياق أبا لمقدمات لأجاب بنفيه، وعدم كونها مرادة أصلا، ثم بعد علمه بتوقفه عليها يريدها بالإرادة الغيرية، إذ من المعلوم أن كل واحد من المقدمات يغاير المراد الأولي، فكما أن كل واحد من المقدمات الخارجية يصير مرادة بالإرادة الغيرية فكذلك المقدمات الداخلية بلا فرق بينهما أصلا.
1 - الحكمة المتعالية 6: 323.
(٢٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الوقوف (1)، السجود (5)، الشهادة (1)

دفع وهم: في أنحاء الوحدة الاعتبارية

وما يظهر من بعض الكلمات من أن المقدمة هي الأجزاء بالأسر (1) إن أريد بالمجموعية عموم الأجزاء بالعموم الاستغراقي الراجع إلي أن المقدمة هي كل واحد من الأجزاء مستقلا، فنحن لا نمنعه، ولكن هذا لا يوجب الفرق بينها وبين المقدمات الخارجية أصلا، كما هو واضح.
وإن أريد بها عموم الأجزاء بالعموم المجموعي الراجع إلي أن المجموع مقدمة، فيرد عليه: أن الوجدان شاهد علي خلافه، لعدم تحقق ملاك المقدمية - وهو التوقف - إلا في كل واحد من الأجزاء.
هذا، مضافا إلي أن الأجزاء بالأسر هو المركب لا المقدمات.
ثم بما ذكرنا ظهر أمران:
الأول: تحقق ملاك المقدمية في الأجزاء.
الثاني: كونها داخلة في محل النزاع، لعدم لزوم اجتماع المثلين بعد فرض أن متعلق الإرادة النفسية هي عنوان المسجد مثلا، ومتعلق الإرادة الغيرية هي كل واحد من الأجزاء.
ثم إنا جعلنا المثال في إرادة الفاعل وفي القسم الأول من المركبات، وعليك مقايسة إرادة الآمر بإرادة الفاعل والقسم الثاني بالأول.
دفع وهم: في أنحاء الوحدة الاعتبارية ثم إنه ذكر المحقق العراقي - علي ما في التقريرات المنسوبة إليه - أن الوحدة الاعتبارية يمكن أن تكون في الرتبة السابقة علي الأمر بأن يعتبر عدة أمور متبائنة شيئا واحدا بلحاظ مدخليتها في حصول غرض واحد، ويمكن أن
١ - كفاية الأصول: ١١٥.
(٢٤)
صفحهمفاتيح البحث: الشهادة (1)، دولة العراق (1)، السجود (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
تكون في الرتبة المتأخرة بحيث تنتزع من نفس الأمر بلحاظ تعلقه بعدة أمور، فيكون تعلقه بها منشأ لانتزاع الوحدة لها الملازمة لاتصافها بعنواني الكل والأجزاء.
ثم ذكر بعد ذلك أن الوحدة بالمعني الثاني لا يعقل أن تكون سببا لترشح الوجوب من الكل إلي الأجزاء بملاك المقدمية، لأن الجزئية والكلية الملزومة لهذه الوحدة ناشئة من الأمر علي الفرض، فتكون المقدمية في رتبة متأخرة عن تعلق الأمر بالكل، ومعه لا يعقل ترشحه علي الأجزاء، لأن الأمر الغيري إنما يتعلق بما يكون مقدمة مع الغض عن تحقق الأمر، ولا يمكن تعلقه بما لا يكون مقدمة في رتبة سابقة علي الأمر، فالنزاع في تعلق الوجوب الغيري ينحصر بالقسم الأول (1). انتهي.
ولا يخفي أن في كلامه (قدس سره) خلطا من وجهين:
الأول: أن جعل أشياء متعددة متعلقة لأمر واحد لا يمكن إلا بعد كون المصلحة قائمة بهيئته الاجتماعية، وإلا فمع كون كل واحد منها ذا مصلحة مستقلة موجبة لتعلق إرادة مستقلة بها لا يمكن اجتماعها في متعلق أمر واحد.
وبالجملة فتعلق الأمر بالأشياء المتعددة متوقف علي تصورها بالنحو الذي يترتب المصلحة عليها، وذلك النحو ليس إلا اجتماع كل مع الآخر، فالاجتماع ملحوظ لا محالة قبل تعلق الأمر، إذ المصلحة المنظورة إنما يترتب عليها مع هذا الوصف، ولا نعني بالوحدة إلا لحاظ الأشياء المتغائرة مجتمعة كل واحد منها مع الآخر لا مفهوم الوحدة كما لا يخفي، فلا فرق بين القسمين في أن الوحدة في كليهما ملحوظة قبل تعلق الأمر أصلا.
1 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 315 - 316.
(٢٥)
صفحهمفاتيح البحث: دولة العراق (1)

التفصيل بين العلة التامة وغيرها

الثاني: أنه لو سلمنا أن انتزاع الوحدة الملازمة لاتصاف الأشياء بعنواني الكل والأجزاء إنما هو بعد تعلق الأمر بها، ولكن نقول: إن النزاع في باب المقدمة إنما هو فيما يتوقف عليه المأمور به واقعا، ولا يكاد يمكن تحققه بدونه، لا في عنوان المقدمية، ضرورة أنها لم تكن متوقفا عليها أصلا، وحينئذ فمجرد أن عنوان المقدمية يتوقف اتصاف الأجزاء به علي تعلق الأمر لا يوجب خروج الأجزاء عن توقف المأمور به عليها واقعا.
مضافا إلي أن عنوان المقدمية إنما هو من العناوين الإضافية التي من شأنها أن يتحققا معا من دون توقف بينهما أصلا، نظير العلية والمعلولية، فإن العلة منشأ لصدور المعلول بذاتها ومتقدمة عليه بحقيقتها لا بوصف العلية، فإنها من الأمور الإضافية، وعروضها للعلة إنما هو في مرتبة عروض وصف المعلولية للمعلول من دون تقدم وتأخر أصلا. وهذا واضح جدا.
التفصيل بين العلة التامة وغيرها ثم إنه قد يفصل في المقدمات الخارجية بين العلة التامة وغيرها بخروج الأول من مورد النزاع، وذلك، لأن إرادة الأمر لابد أن تتعلق بما يمكن أن تتعلق به إرادة الفاعل، وهي لا يمكن أن تتعلق بالمعلول، لأنه يكون خارجا عن قدرة الفاعل، فمتعلق القدرة هي العلة، فالأمر لابد أن يتعلق بها دون المعلول.
وفيه: أنه علي فرض صحته لا يكون تفصيلا في محل النزاع، لأن مرجعه إلي أن الأمر المتعلق بالمسبب يجب أن ينصرف إلي علته، والنزاع إنما هو علي تقدير تعلق الأمر بالمسبب، كما هو واضح.
هذا، مضافا إلي بطلانه من رأس، فإن المسبب وإن لم يكن من فعل الفاعل من دون وسط، إلا أنه يصح انتسابه إليه، لتعلق القدرة به ولو بواسطة، فيصح
(٢٦)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (2)

تقسيم المقدمة إلي المتقدمة والمقارنة والمتأخرة

تعلق الأمر بالإحراق، لصحة استناده إلي المكلف وإن كان متحققا بمقتضي طبيعة النار، إلا أنه مقدور للمكلف، لقدرته علي الإلقاء فيه.
وهذا واضح جدا، وإلا لم يكن كثير من الأفعال مقدور المكلف، لتوقفها غالبا علي بعض المقدمات. والإشكال لا ينحصر بالعلة التامة، إذ كل فعل فهو غير مقدور للمكلف إلا مع مقدمته، كما لا يخفي.
ومن تقسيمات المقدمة: تقسيمها إلي الشرعية والعقلية والعادية.
ومن تقسيمات المقدمة: تقسيمها إلي مقدمة الصحة ومقدمة العلم ومقدمة الوجود ومقدمة الوجوب.
والكلام فيها ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) في الكفاية (1)، فلا نطيل بالتعرض لما ذكره (قدس سره).
تقسيم المقدمة إلي المتقدمة والمقارنة والمتأخرة ومن تقسيمات المقدمة: تقسيمها إلي المقدمة المتقدمة والمقارنة والمتأخرة بحسب الوجود بالنسبة إلي ذي المقدمة.
وقد أشكل في الأول والأخير بأنه لا ريب في أن المقدمة من أجزاء العلة التامة، ولابد من تقدمها بجميع أجزائها علي المعلول، فلا يعقل تقدم المقدمة وتأخره (2)، ومع ذلك فقد ورد في الشرع ما بظاهره مخالف لهذه القضية العقلية الدالة علي امتناع تأخر العلة عن معلولها، وكذلك تقدمها زمانا، وذلك كالإجازة في عقد الفضولي بناء علي الكشف الحقيقي، والأغسال الليلية المعتبرة في
١ - كفاية الأصول: ١١٦ - 117.
2 - بدائع الأفكار، المحقق الرشتي: 301 / السطر 27 - 28.
(٢٧)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

ما أفاده المحقق العراقي (قدس سره) في المقام

صحة صوم المستحاضة، والعقد في الوصية ونظائرها، بل كل عقد من حيث إن أجزاءه توجد متدرجة، فعند تماميته انعدمت أجزاؤه المتقدمة وغيرها من الموارد.
ولا يخفي أن الموارد التي تكون بظاهرها مخالفا للقاعدة العقلية لا يخلو إما أن يكون شرطا للتكليف أو للوضع أو للمكلف به.
ما أفاده المحقق العراقي (قدس سره) في المقام ومن المحققين من المعاصرين من جوز وقوعه في التكوينيات أيضا.
واستدل علي الجواز في الجميع بما حاصله: أنه لا شبهة في أن المقتضي لتحقق المعلول حصة خاصة من طبيعي المقتضي، لا أن نوعه وطبيعته يقتضي ذلك ويؤثر فيه.
مثلا: النار تقتضي وتؤثر في وجود الإحراق لكن ليس المؤثر في تحقق الإحراق هي طبيعة النار ونوعها، بل المؤثر حصة خاصة من طبيعتها، وهي النار التي تماس الجسم المستعد باليبوسة لقبول الاحتراق، وأما الحصة التي لا تتحصص بخصوصية المماسة والقرب من الجسم المستعد للاحتراق، فهي لاتعقل أن تؤثر الأثر المترتب علي الحصة الأولي، وتلك الخصوصية التي بها تحصصت الحصة المقتضية للمعلول لابد لها من محصل في الخارج، وما به تحصل تلك الخصوصية يسمي شرطا، وهذه الخصوصية عبارة عن إضافة قائمة بتلك الحصة المقتضية حاصلة من إضافة الحصة المزبورة إلي شئ ما، وذلك الشئ المضاف إليه هو الشرط، فان لمؤثر في المعلول إنما هو نفس تلك الحصة، والشرط محصل لخصوصيتها، وهو طرف الإضافة المزبورة، وما يكون
(٢٨)
صفحهمفاتيح البحث: الحيض، الإستحاضة (1)، دولة العراق (1)، الصيام، الصوم (1)، الوصية (1)، الجواز (1)
شأنه كذلك جاز أن يتقدم علي ما يضاف إليه أو يقترن به أو يتأخر عنه (1). انتهي خلاصة كلامه.
ولا يخفي أنه - بعد تسليم جميع ما ذكره من أن المؤثر هي الحصة من معني أو الشرط - يرد عليه: أن الإضافة من الأمور القائمة بالطرفين: المضاف والمضاف إليه، فالمضاف فيما نحن فيه وصف للحصة المؤثرة في المعلول، والمضاف إليه وصف لما عبر عنه بالشرط، وحينئذ فنقول: لا إشكال في أن ثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له في ظرف الاتصاف، ولهذه القاعدة الفرعية قد ثبت أن القضايا يتوقف صدقها ومطابقتها مع الواقع علي ثبوت موضوعاتها ما عدا القضية السالبة المحصلة، فإنه لا يشترط في صدقها وجود الموضوع، وأما غيرها من القضايا سواء كانت سالبة معدولة أو موجبة محصلة أو سالبة المحمول فهي مشروطة بوجود الموضوع ضرورة، وحينئذ فالإضافة إلي الشرط إن كانت محققة بالفعل، فلازمه اتصاف أحد الطرفين بأنه مضاف والآخر بأنه مضاف إليه، ولا يعقل أن يصير المعدوم متصفا بأنه مضاف إليه، لما عرفت من القاعدة الفرعية، وإن لم تكن الإضافة ثابتة فعلا، فتأثير الحصة في المعلول غير معقول، كما اعترف به (قدس سره).
ومما ذكرنا يظهر الجواب عما ربما يقال: من أن الشرط هو التقدم أو التأخر أو التعقب ونظائرها، وذلك لأن صدق عنوان التقدم لا يعقل إلا مع صدق عنوان التأخر للمتأخر، ومع كونه معدوما فعلا يستحيل اتصافه بعنوان التأخر، كما هو واضح.
فانقدح من جميع ما ذكرنا أن التوجيه بما ذكر ليس إلا كرا علي ما فر منه
1 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 320.
(٢٩)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الوقوف (1)، التصديق (2)، دولة العراق (1)
من مخالفة القاعدة العقلية، كما عرفت.
والتحقيق أن يقال: أما شرائط التكليف: فلا يخفي أن الشرط فيه مقارن للتكليف، لأن شرطه ليس هي القدرة الواقعية في زمان الامتثال حتي يقال بأنه كيف يمكن أن يؤثر الأمر المتأخر المعدوم فعلا في الأمر الموجود كذلك، بل الشرط هو تشخيص كون المكلف قادرا في ظرف الامتثال والتشخيص مقارن لصدور التكليف كما هو واضح.
وأما شرائط الوضع والمكلف به: فالمؤثر ليس هو الأمر المتأخر في الوجود الخارجي حتي يلزم تأثير المعدوم في الموجود الممتنع بالبديهة، بل المؤثر هو الأمر المتقدم لا بوصف التقدم بل بنفسه المتقدم بالذات.
توضيح ذلك: أن من الواضح تقدم أجزاء الزمان بعضها علي بعض بالذات بمعني أن الزمان الماضي مثلا متقدم بالطبع علي الزمان المستقبل ولو لم يكن عنوان التقدم والتأخر موجودا في البين أصلا، نعم اتصاف الزمان الماضي بوصف التقدم في مرتبة اتصاف الزمان المستقبل بعنوان التأخر المستلزم لوجوده، للقاعدة الفرعية المسلمة عند العقول بلا تقدم وتأخر بين الاتصافين أصلا، لأن المفروض كونهما متضايفين، ومن شأنهما تحقق الطرفين معا من دون ترتب بينهما.
ونظير الزمان الزمانيات الواقعة في أجزاء الزمان، فإن قيام زيد المتحقق في الأمس متقدم ذاتا لكن بعرض وتبع الزمان علي مجئ عمرو الذي سيوجد غدا وإن كان اتصافه بعنوان المتقدم لا يصح إلا مقارنا لاتصاف مجئ عمرو بعنوان المتأخر، ومن المعلوم توقفه علي تحققه، لتلك القاعدة.
وبالجملة: فلا منافاة بين كون شئ متقدما علي شئ آخر بالذات ومع ذلك فلا يصدق عليه عنوان المتقدم، لكونه من الأمور الإضافية المتوقفة علي تحقق الطرفين، وهذا كالعلة والمعلول، فإنه لا إشكال في تقدمها عليه، لكونه
(٣٠)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)
صادرا عنها وناشئا ومترشحا منها، ومع ذلك فاتصافها بوصف التقدم في مرتبة اتصافه بوصف التأخر من دون تقدم وتأخر بينهما أصلا، كما هو واضح لا يخفي.
ونظير المتقابلين فإنهم وإن جعلوا التقابل مقسما للمتناقضين والمتضادين والمتضايفين وغيرها (1) إلا أن عنوان المقسم - وهو التقابل - من أفراد أحد الأقسام، وهو التضايف، فإن المقابلة والتقابل من الأمور الإضافية المتوقفة علي تحقق أطراف الإضافة، وهكذا عنوان التضاد، فإنه وإن جعل قسيما للتضايف إلا أن هذا العنوان من أفراد قسيمه، أي التضايف، فالتضاد بين الشيئين القسيم له إنما هو عبارة عن امتناع اجتماعهما بالذات، كما أن التقابل المجعول مقسما إنما هو حقيقته مع قطع النظر عن الاتصاف بهذا الوصف.
إذا عرفت ما ذكرنا: فاعلم أن الموضوع للحكم بالصحة في العقد الفضولي إنما هو العقد المتقدم بحسب الذات علي الإجازة من المالك، وهذا إما أن يكون متحققا بحسب الواقع ونفس الأمر حين العقد فيما كان ملحوقا بالإجازة، وإما أن لا يكون كذلك، وهو في غير صورة الإجازة، فالعقد الواقع إما أن يكون صحيحا مترتبا عليه الأثر من حين وقوعه، وهو فيما إذا وجد مع شرطه، وإما أن لا يكون كذلك، وهو فيما إذا فقد شرطه، لعدم تحقق الإجازة فيما بعد.
وهكذا يقال في صوم المستحاضة، فإن صحته متوقفة علي تقدمه بحسب الذات ولو عرضا تبعا للزمان علي الأغسال الليلية فإما أن يكون الموقوف عليه موجودا حينه، فيصح من حين وقوعه، وإما أن لا يكون، فيبطل كذلك، ففي جميع الموارد يكون الشرط مقارنا، فيرتفع الإشكال بمخالفتها للقاعدة العقلية، كما عرفت.
1 - الحكمة المتعالية 2: 100.
(٣١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الحيض، الإستحاضة (1)، الغسل (1)، الصيام، الصوم (1)

كلام المحقق النائيني (قدس سره) في تحرير محل النزاع

هذا كله لو قلنا بأن الحكم في الشرعيات نظير العقليات من باب التأثير والتأثر، وأما لو قلنا بخلافه فالمقام بعيد عن الإشكال بمراحل، كما لا يخفي.
كلام المحقق النائيني (قدس سره) في تحرير محل النزاع ثم إن لبعض الأعاظم من المتأخرين كلاما في المقام في تحرير محل النزاع وبيان ما ذهب إليه لا بأس بذكره والتعرض له علي نحو الإجمال.
فنقول: قد ذكر في تحرير محل النزاع أولا: أن شرط متعلق التكليف خارج عن حريم النزاع، لأن حال الشرط حال الجزء في توقف الامتثال عليه، فكما أنه لا إشكال فيما إذا كان بعض أجزاء المركب متأخرا عن الآخر في الوجود ومنفصلا عنه في الزمان - كما إذا أمر بمركب بعض أجزائه في أول النهار والبعض الآخر في آخر النهار - كذلك لا ينبغي الإشكال فيما إذا كان شرط الواجب متأخرا في الوجود، لأن ما يلزم علي تقدير كون الشرط متأخرا - وهو لزوم المناقضة وتقدم المعلول علي علته وتأثير المعدوم في الموجود - لا يجري في شرط متعلق التكليف، فأي محذور يلزم إذا كان غسل الليل المستقبل شرطا في صحة صوم المستحاضة؟ فإن حقيقة الاشتراط يرجع إلي أن الإضافة الحاصلة بين الصوم والغسل شرط في صحة الصوم بحيث لا يكون الصوم صحيحا إلا بحصول هذه الإضافة.
نعم لو قلنا: إن غسل الليل الآتي موجب لرفع حدث الاستحاضة عن الزمان الماضي، كان الإشكال في الشرط المتأخر جاريا فيه، ولكنه خارج عن مقتضي الدليل. وبالجملة فتسرية إشكال الشرط المتأخر إلي قيود متعلق التكليف مما لا وجه له.
وثانيا: أنه لا إشكال في خروج العلل الغائية من حريم النزاع، فإنها غالبا
(٣٢)
صفحهمفاتيح البحث: الغسل (2)، الصيام، الصوم (2)
متأخرة في الوجود عما تترتب عليه، وليست هي بوجودها العيني علة للإرادة وحركة العضلات حتي يلزم تأثير المعدوم في الموجود، بل المؤثر والمحرك هو وجوده العلمي، وكذا الحال في علل التشريع، فإنه لافرق بينها وبين العلل الغائية إلا في مجرد التعبير.
وثالثا: أنه ليس المراد من الشرط المتأخر المبحوث عنه في المقام باب الإضافات والعناوين الانتزاعية، كالتقدم والتأخر والسبق واللحوق وغير ذلك من الإضافات والأمور الانتزاعية، فإن ذلك كله مما لا إشكال فيه، لعدم لزوم محذور الشرط المتأخر بالنسبة إليها، وذلك لأن عنوان التقدم ينتزع من ذات المتقدم عند تأخر شئ، ولا يتوقف علي وجود المتأخر في موطنه، بل في بعض المقامات لا يمكن ذلك، كتقدم بعض أجزاء الزمان علي البعض الآخر.
ورابعا: أنه لا إشكال في خروج العلل العقلية عن حريم النزاع، فإن امتناع الشرط المتأخر فيها أوضح من أن يحتاج إلي بيان بعد تصور معني العلية الراجعة إلي إعطاء العلة وإفاضتها وجود المعلول، ومعني المعلولية الراجعة إلي ترشحه منها.
ثم قال: إذا عرفت هذه الأمور، ظهر لك: أن محل النزاع في الشرط المتأخر إنما هو في الشرعيات في خصوص شروط الوضع والتكليف. وبعبارة أخري:
محل الكلام إنما هو في موضوعات الأحكام وضعية كانت أو تكليفية، فقيود متعلق التكليف والعلل الغائية والأمور الانتزاعية والعلل العقلية خارجة عن حريم النزاع.
ثم ذكر بعد ذلك أن امتناع الشرط المتأخر في موضوعات الأحكام يتوقف علي بيان المراد من الموضوع، وهو يتوقف علي بيان الفرق بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية، وأن المجعولات الشرعية إنما تكون علي نهج القضايا
(٣٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الوقوف (2)
الحقيقية لا القضايا الخارجية.
ثم ذكر في بيان الفرق بينهما ما ملخصه: أن القضايا الخارجية عبارة عن قضايا جزئية شخصية خارجية، كقوله: صل يا عمرو، وصم يا زيد، من القضايا التي تكون موضوعاتها آحاد الناس، وهذا بخلاف القضايا الحقيقية، فإن الملحوظ في موضوعاتها عنوان كلي من غير أن يكون للآمر نظر إلي زيد، وعمرو، وبكر أصلا، بل لو كان واحد منهم منطبقا لعنوان الموضوع، فان لحكم يرتب عليه قهرا.
ومن هنا يحتاج في إثبات الحكم لموضوع خاص إلي تأليف قياس، ويجعل هذا الموضوع الخاص صغري له، وتلك القضية كبري، وهذا بخلاف القضايا الخارجية، فإن المحمول فيها ثابت لموضوعها ابتداء من دون توسط قياس.
والفرق بينهما من وجوه شتي، والمهم منه في المقام هو أن العلم إنما يكون له دخل في القضية الخارجية دون الحقيقية.
مثلا: لو كان زيد عا لما وكان الحكم مترتبا علي عنوان العالم، فالحكم يترتب علي زيد قهرا، سواء كان الآمر عالما بكون زيد عالما أو جاهلا، وهذا بخلاف القضية الخارجية، فإن علم الآمر بكون زيد عالما يوجب الأمر بإكرامه، سواء كان في الواقع عالما أو جاهلا، وهذا بمكان من الوضوح.
ثم ذكر بعد ذلك أنه من الواضح أن المجعولات الشرعية إنما هي علي نهج القضايا الحقيقية دون الخارجية.
ومن هنا يظهر المراد من موضوعات الأحكام، وأنها عبارة عن العناوين الكلية الملحوظة مرآة لمصاديقها المقدر وجودها في ترتب المحمولات عليها، ويكون نسبة ذلك الموضوع إلي المحمول نسبة العلة إلي معلولها وإن لم يكن من ذلك الباب حقيقة، بناء علي المختار من عدم جعل السببية إلا أنه يكون نظير
(٣٤)
صفحهمفاتيح البحث: الصّلاة (1)

الجواب عن مختار المحقق النائيني (قدس سره)

ذلك من حيث التوقف والترتب، فحقيقة النزاع في الشرط المتأخر يرجع إلي تأخر بعض ما فرض دخيلا في الموضوع علي جهة الجزئية أو الشرطية من الحكم التكليفي أو الوضعي بأن يتقدم الحكم علي بعض أجزاء موضوعه.
ثم اعترض بعد ذلك علي الكفاية والفوائد بكلام طويل لا مجال لذكره.
ثم ذكر بعد ذلك أنه مما ذكرنا يظهر أن امتناع الشرط المتأخر من القضايا التي قياساتها معها من غير فرق بين أن نقول بجعل السببية أو لا نقول بذلك.
أما بناء علي الأول: فواضح.
وأما بناء علي الثاني: فلأن الموضوع وإن لم يكن علة للحكم إلا أنه ملحق بها من حيث تقدمه علي الحكم وترتبه عليه، فلا يعقل تقدم الحكم عليه بعد فرض أخذه موضوعا، للزوم الخلف وأن ما فرض موضوعا لم يكن موضوعا (1).
انتهي موضع الحاجة من كلامه.
الجواب عن مختار المحقق النائيني (قدس سره) ولا يخفي أن في كلامه وجوها من النظر.
أما ما ذكره أولا: من أن شرائط متعلق التكليف خارجة عن حريم النزاع.
ففيه: المنع من ذلك، وتشبيهها بالأجزاء لا يجدي، لأن النزاع يجري فيها أيضا، فإنه إذا فرض أن صحة الجزء الأول متوقفة علي الإتيان بالجزء الأخير الذي سيوجد بعدا، يلزم محذور الشرط المتأخر بلا فرق بينهما أصلا، كما لا يخفي.
ومجرد إرجاع الشرطية إلي الإضافة الحاصلة بين المشروط والشرط
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 271 - 280.
(٣٥)
صفحهمفاتيح البحث: الحاجة، الإحتياج (1)
لا يفيد بعدما عرفت منا في الجواب عن المحقق العراقي (قدس سره) من أن الإضافة من الأمور الإضافية التي من شأنها تحقق أطرافها بالفعل، ومع انتفاء بعضها لا يعقل تحققها، كما هو واضح لا يخفي.
وأما ما ذكره ثالثا: من أن النزاع ليس في الأمور الاعتبارية الانتزاعية.
ففيه: أنه لم يقل أحد بأن النزاع في هذه الأمور، وإنما ذكرها بعض في مقام التخلص عن الإشكال (1). وقد عرفت سابقا أنه لا يمكن الجواب به، لأن صدق هذه العناوين متوقف علي تحقق الأطراف، وقد ذكرنا ذلك بما لا مزيد عليه، فلا نطيل بالإعادة.
وأما ما ذكره من الفرق بين القضايا الحقيقية والخارجية: من أن العلم لادخل له في الأولي دون الثانية.
فيرد عليه: المنع من مدخلية العلم في جميع القضايا الخارجية، ألا تري أنه لو أنفذ المولي عقدا فضوليا خاصا، فهل يرضي أحد بكون المؤثر هو علم المولي بتحقق الإجازة فيما بعد دون نفس الإجازة من المالك؟ وهل هو إلا القول بعدم مدخلية رضي المالك في انتقال ملكه إلي شخص آخر؟ والضرورة قاضية بخلافه، كما أن ما ذكره من أنه لو كانت القضية بنحو القضايا الحقيقية كما هو كذلك في المجعولات الشرعية يكون الامتناع ضروريا غير محتاج إلي إقامة برهان، لا يتم بناء علي ما ذكرنا في مقام الجواب من أن الموضوع في تلك القضايا التي توهم انخرام القاعدة العقلية بها هو ذات الموضوع المتقدم بحسب الحقيقة لا مع اتصافه بعنوان التقدم المستلزم لاتصاف الآخر بعنوان التأخر المستلزم لوجوده في الخارج للقاعدة الفرعية، كما هو واضح.
1 - الفصول الغروية: 80 / السطر 32.
(٣٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، دولة العراق (1)

الأمر الرابع: في الواجب المطلق والمشروط

الأمر الرابع في الواجب المطلق والمشروط ينقسم الواجب ببعض الاعتبارات إلي واجب مطلق ومشروط، ولا يخفي أن الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيان لا حقيقيان، فالواجب بالنسبة إلي كل قيد إما مشروط أولا، فالثاني غير مشروط بالنسبة إلي ذلك القيد ولو فرض كونه مشروطا بالإضافة إلي غيره.
ثم إنه ربما ينسب إلي الشيخ - كما في التقريرات المنسوبة إليه - نفي الواجب المشروط، وأن الشرائط والقيود كلها راجعة إلي المادة لا الهيئة، لامتناع تقييد الهيئة (1)، كما سيجئ وجهه.
ولابد من التكلم في مقامين:
الأول: في أن القيود هل هي راجعة في الواقع إلي الهيئة أو إلي المادة؟
أو تكون علي قسمين بعضها إلي الأولي وبعضها إلي الثانية.
الثاني: في أن القيود بحسب اللفظ هل يرجع إلي المادة أو الهيئة؟
في مقام الثبوت وتصوير الواجب المشروط أما المقام الأول، فنقول: إنه قد يتعلق إرادة الإنسان بشئ من دون التقييد بشئ آخر لتماميته في حصول الغرض الباعث علي تعلق الإرادة بها، مثل العطشان المريد لرفع عطشه، فإنه لا يريد إلا مجرد ذلك من غير نظر إلي أن
1 - مطارح الأنظار: 46 / السطر 2.
صفحه(٣٧)

في مقام الثبوت وتصوير الواجب المشروط

الأمر الرابع في الواجب المطلق والمشروط ينقسم الواجب ببعض الاعتبارات إلي واجب مطلق ومشروط، ولا يخفي أن الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيان لا حقيقيان، فالواجب بالنسبة إلي كل قيد إما مشروط أولا، فالثاني غير مشروط بالنسبة إلي ذلك القيد ولو فرض كونه مشروطا بالإضافة إلي غيره.
ثم إنه ربما ينسب إلي الشيخ - كما في التقريرات المنسوبة إليه - نفي الواجب المشروط، وأن الشرائط والقيود كلها راجعة إلي المادة لا الهيئة، لامتناع تقييد الهيئة (1)، كما سيجئ وجهه.
ولابد من التكلم في مقامين:
الأول: في أن القيود هل هي راجعة في الواقع إلي الهيئة أو إلي المادة؟
أو تكون علي قسمين بعضها إلي الأولي وبعضها إلي الثانية.
الثاني: في أن القيود بحسب اللفظ هل يرجع إلي المادة أو الهيئة؟
في مقام الثبوت وتصوير الواجب المشروط أما المقام الأول، فنقول: إنه قد يتعلق إرادة الإنسان بشئ من دون التقييد بشئ آخر لتماميته في حصول الغرض الباعث علي تعلق الإرادة بها، مثل العطشان المريد لرفع عطشه، فإنه لا يريد إلا مجرد ذلك من غير نظر إلي أن
1 - مطارح الأنظار: 46 / السطر 2.
صفحه(٣٧)
يكون الماء واقعا في ظرف كذا أو مع خصوصية كذا، ولا إشكال في كون الإرادة المتعلقة بمراده إرادة مطلقة، فلو أمر غلامه بسقيه، يكون السقي واجبا مطلقا من حيث خصوصيات الماء أو الظرف الواقع فيه ونظائرهما.
وقد يتعلق إرادة الإنسان بشئ مقيد بأمر كذا بحيث لا يحصل غرضه إلا بحصول الشئ مقيدا، كما إذا أراد السقي بالماء الخاص لترتب الأثر المقصود عليه مع الخصوصية، فيأمر بالسقي بذلك الماء، ولا إشكال أيضا في كون الإرادة المتعلقة بما يحصل به غرضه إرادة مطلقة غير مقيدة بشئ، إذ الإرادة لا تتعلق إلا بما يؤثر في حصول غرضه، كيف ومن مقدماته التصديق بفائدة الشئ المراد، والمفروض أن الفائدة مترتبة علي الشئ المقيد بوصف كذا.
وقد يتعلق إرادة الإنسان بشئ من دون التقييد بوصف ولكن لا يتمكن من الأمر به مطلقا، لمانع فيه أو في المأمور، كما إذا أشرف ولده علي الغرق والهلاك، فالإرادة المتعلقة بنجاة ولده إرادة مطلقة غير مقيدة بشئ ولكن لا يمكن له الأمر بذلك مطلقا، لأنه ربما يكون العبد عاجزا عن الإتيان بالمأمور به، وربما يكون المانع من قبل نفسه.
وقد يتعلق إرادة الإنسان بشئ علي فرض حصول شئ آخر، لأن الغرض يترتب عليه علي ذلك التقدير، كما إذا أراد ضيافة صديقه علي فرض مجيئه إلي منزله، فالإرادة المتعلقة بالضيافة ليست إرادة مطلقة، بل مقيدة بحصول ذلك الشئ.
ومن جميع ما ذكرنا ظهر: أن القيود بحسب الواقع واللب مع قطع النظر عن ظاهر الدليل علي قسمين: قسم يتعلق بالمادة، وهو الذي له دخل في حصول الغرض المطلوب، كالقسم الثاني من الأقسام المتقدمة، وقسم يتعلق بالهيئة التي مفادها البعث والتحريك، كالقسمين الأخيرين.
(٣٨)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (1)

في مقام الإثبات وإمكان رجوع القيد إلي الهيئة

في مقام الإثبات وإمكان رجوع القيد إلي الهيئة وأما المقام الثاني فقد يقال: - كما قيل - بامتناع رجوع القيود إلي الهيئة وإن كان بحسب ظاهر اللفظ راجعا إليها.
إما لأن الهيئة من المعاني الحرفية، وهي غير قابلة للتقييد.
وإما لأن الوضع فيها علي نحو الوضع العام والموضوع له الخاص، ومن المعلوم امتناع تقييد الجزئيات.
وإما للزوم التناقض بعد كون المنشأ أولا هو الوجوب مطلقا، فتقييده بثبوته علي تقدير وعدم ثبوته علي تقدير أخري مناقض للمنشأ أولا.
هذا، ولا يخفي ما في هذه الوجوه من النظر بل المنع.
أما الوجه الأول: فيرد عليه أن التقييد أمر واقعي، غاية الأمر أن المتكلم لابد له أن يأتي بالألفاظ طبقا له، لوضوح أن كل لفظ لا يحكي إلا عن معناه الموضوع له، وقد عرفت في وضع الحروف أن القضايا الخبرية أكثرها يرجع إلي الإخبار عن المعاني الحرفية، فإن المعني بقول: " زيد قائم " ليس إلا الإخبار عن انتساب القيام إليه، واتحاد القائم معه، وهذا المعني لا إشكال في كونه معني حرفيا، كما أن القيود الواقعة في الكلام راجعة إلي ذلك المعني الحرفي، فقوله: ضربت زيدا يوم الجمعة، مثلا يكون الظرف راجعا إلي تحقق الضرب عليه الذي يكون من المعاني الحرفية.
وبالجملة فالإخبارات والتقييدات أكثرها مرتبطة بالمعاني الحرفية وراجعة إليه، وقد عرفت أن التقييد أمر واقعي لا ارتباط له باللفظ حتي يحتاج تقييد المعاني الحرفية إلي لحاظها ثانيا بالاستقلال، فيلزم في الجملة المشتملة علي تقييدات عديدة لحاظ تلك المعاني بقدر القيود، بل يكون في المثال تحقق
(٣٩)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الضرب (1)

نقل وتحصيل: في ضابط قيود الهيئة والمادة

الضرب في يوم الجمعة واقعا، والمتكلم لابد أن يأتي بالألفاظ علي طبق المعاني الواقعية، لا أن يكون لفظ الضرب المأتي به أولا مطلقا، فيلاحظ تقييده ثانيا، كما لا يخفي.
وأما الوجه الثاني: فلأن التحقيق في وضع الحروف وإن كان ما ذكر إلا أنه لا امتناع في تقييد الجزئي أصلا باعتبار الحالات والعوارض الطارئة له أليس التقييد في قوله: " أكرم زيدا إن جاءك " راجعا إلي زيد الذي هو فرد جزئي بناء علي ما ذكره من رجوع القيد إلي المادة دون الهيئة.
وأما الوجه الثالث: فبطلانه أظهر من أن يخفي.
فانقدح من جميع ما ذكرنا أولا أن القيود بحسب الواقع علي قسمين، وثانيا إمكان رجوعها إلي الهيئة، فلاوجه لرفع اليد عما هو ظاهر القضية الشرطية من توقف التالي علي المقدم، كما لا يخفي.
نقل وتحصيل: في ضابط قيود الهيئة والمادة ثم إنه ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) في مقام بيان الفرق بين شروط الأمر والوجوب وبين شروط المأمور به والواجب أن القيود علي نحوين:
أحدهما: ما يتوقف اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة علي حصوله في الخارج، كالزوال والاستطاعة بالنسبة إلي الصلاة والحج، فإن الصلاة لا تكون ذات مصلحة إلا بعد تحقق الزوال، وكذلك الحج بالإضافة إلي الاستطاعة، وأما قبل تحقق هذين القيدين فلا يري المولي مصلحة في الصلاة والحج، ولهذا يأمر بهما معلقا أمره علي تحقق هذين القيدين في الخارج.
ثانيهما: القيود التي تتوقف فعلية المصلحة وحصولها في الخارج علي تحققها، فلا تكاد تحصل تلك المصلحة في الخارج إلا إذا اقترن الفعل بتلك القيود
(٤٠)
صفحهمفاتيح البحث: الحج (3)، الوقوف (1)، الكرم، الكرامة (1)، الصّلاة (3)
والشروط، كالطهارة والستر والاستقبال ونحوها بالإضافة إلي الصلاة.
ثم قال: وبلحاظ هذا الفرق بين النحوين من القيود صح أن يقال للنحو الأول: شروط الأمر والوجوب، وللنحو الثاني: شروط المأمور به والواجب.
ثم قال: ويمكن تقريب كلا النحوين من القيود الشرعية ببعض الأمور الطبيعية العرفية.
مثلا: شرب المسهل قبل أن يعتري الإنسان مرض يستدعيه لا مصلحة فيه تدعو الإنسان إليه أو الطبيب إلي الأمر به مطلقا. نعم يمكن أن يأمر به معلقا علي الابتلاء بالمرض، فيقول للإنسان: إذا مرضت بالحمي مثلا فاشرب المسهل، فالمرض يكون شرطا لتحقق المصلحة في شرب المسهل، وأما المنضج فهو شرط فعلية أثر المسهل ومصلحته، ولهذا يترشح عليه أمر غيري من الأمر النفسي المتعلق بالمسهل، فيقول الطبيب للمريض: اشرب المنضج أولا ثم اشرب المسهل (1). انتهي كلامه علي ما في التقريرات المنسوبة إليه (قدس سره).
وأنت خبير بأن ما ذكره: من المناط في شرائط الوجوب وشرائط الواجب لا يتم، بل مورد للنقض طردا وعكسا، فإن ما يتوقف عليه اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة يمكن أن لا يكون قيد الأمر، بل للمأمور به، فإنه يمكن أن يأمر المولي بالحج عقيب الاستطاعة، لا أن يكون أمره مشروطا بتحققها، غاية الأمر أنه يلزم أن يكون تحصيلها واجبا، لأن المصلحة متوقفة عليه، ولا منافاة بين توقف المصلحة علي شئ وعدم كون الأمر معلقا عليه، كما أنه يمكن أن لا يكون للقيد دخل في حصول المصلحة، ولكن كان الأمر معلقا علي وجوده، كما فيما ذكرناه من المثال المتقدم في القسم الأخير من الأقسام الأربعة المتقدمة، فإن
1 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 335 - 336.
(٤١)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (1)، المرض (1)، الصّلاة (1)، الطب، الطبابة (2)، دولة العراق (1)

في توقف فعلية الوجوب علي شرطه

ترتب المصلحة علي ضيافة زيد مثلا قد لا يتوقف علي نزوله في منزل المضيف ولكن يمكن أن يكون أمره معلقا عليه.
وبالجملة فجعل هذا هو الملاك في شرائط الوجوب منقوض طردا وعكسا، كما عرفت، ومنه يظهر بطلان ما ذكره ملاكا لشرائط الواجب، كما لا يخفي.
فالمناط فيهما هو ما ذكرناه: من أن شرائط الوجوب عبارة عن القيود التي لا يكون لها دخل في تحقق المراد بمعني عدم مدخليته في تعلق الإرادة به، كما أن شرائط الواجب هي التي لها مدخلية في حصول الغرض الباعث علي تعلق الإرادة.
في توقف فعلية الوجوب علي شرطه ثم إنه يقع الكلام بعد هذا في أنه هل يكون الواجب المشروط متعلقا للإرادة عند حصول شرطه بمعني أنه لا إرادة قبل تحققه، أو أن الإرادة تتعلق به فعلا ولكن علي تقدير حصول أمر خاص؟ ويكون الفرق حينئذ بينه وبين الواجب المعلق هو أن الوجوب المطلق يتعلق بأمر خاص في الواجب المعلق، والوجوب الخاص يتعلق بأمر مطلق في الواجب المشروط.
ربما ينسب إلي المشهور الأول (1)، واختار بعض الأعاظم - علي ما في التقريرات المنسوبة إليه - الثاني (2).
١ - كفاية الأصول: ١٢١، بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 338 / السطر الأخير.
2 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 338 / السطر 19.
(٤٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الوقوف (1)، الباطل، الإبطال (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)، دولة العراق (2)
ولابد قبل الخوض في ذلك من بيان حقيقة الحكم.
فنقول: هل الحكم عبارة عن نفس الإرادة التشريعية الكامنة في نفس الحاكم مطلقا أو بشرط أن يظهرها المريد بأحد المظهرات من القول أو الفعل أو أنه منتزع من البعث أو الزجر اللذين هما مفاد هيئة الأمر والنهي؟ وجوه، والظاهر هو الثالث، لأن مجرد تعلق الإرادة التشريعية بشئ لا يعد من باب تعلق الحكم به وإن كانت ربما يجب متابعتها، فإن وجوب المتابعة ليس متفرعا علي خصوص حكم المولي، بل لو اطلع العبد علي تعلق إرادة المولي بإتيانه شيئا، فاللازم - كما يحكم به العقل والعقلاء - متابعة إرادته، بل ربما يجب تحصيل غرضه وإن لم تنقدح إرادة متعلقة به في نفس المولي لغفلته أو نومه أو غيرهما.
ألا تري أنه لو أشرف ولد المولي مثلا علي الغرق في البحر ولم يكن المولي مطلعا عليه حتي يبعث العبد نحو خلاص ولده، يكون علي العبد ذلك وأن ينجي ولده من الهلاك.
وبالجملة، فوجوب الإتيان عقلا أعم من الحكم، والذي يطابقه الوجدان هو أن منشأ انتزاع الحكم هو نفس البعث والزجر المتوجهين إلي العبد، وحينئذ فلا إشكال في عدم تحقق الحكم قبل حصول الشرط، لعدم ثبوت البعث قبله، كما هو واضح.
إذا عرفت ما ذكرنا: فاعلم أن بعض الأعاظم بعد اختياره أن الحكم عبارة عن نفس الإرادة التشريعية التي يظهرها المريد بالقول أو الفعل (1) ذهب إلي خلاف ما عليه المشهور، وأن الإرادة في الواجب المشروط موجودة قبل تحقق
1 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 339 / السطر 2.
(٤٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، النهي (1)، البعث، الإنبعاث (4)، النوم (1)، الهلاك (1)، الوجوب (1)، دولة العراق (1)

في إشكالات الواجب المشروط علي مسلك المشهور

الشرط مدعيا أن الوجدان دليل عليه.
قال: فإنا نجد من أنفسنا إرادة العمل الذي يكون فيه مصلحة لنا علي تقدير خاص وإن لم يكن ذلك التقدير متحققا بالفعل (1).
وأنت خبير بأنه لو سلم انتزاع الحكم عن نفس الإرادة المظهرة، فلا نسلم انتزاعه عن هذا النحو من الإرادة المتحققة في الواجب المشروط، كما لا يخفي.
في إشكالات الواجب المشروط علي مسلك المشهور ثم إنه ربما يورد علي مذهب المشهور بإيرادات شتي:
منها: ما أورده عليه ذلك البعض المتقدم - علي ما في التقريرات المنسوبة إليه - من أنه لا إشكال في إنشاء الشارع للتكليف المشروط قبل تحقق شرطه، ولا ريب في أن إنشاء التكليف من المقدمات التي يتوصل بها المولي إلي تحصيل المكلف به في الخارج، والواجب المشروط علي المشهور ليس بمراد للمولي قبل تحقق شرطه في الخارج، فكيف يتصور أن يتوصل العاقل إلي تحصيل ما لا يريده فعلا؟! فلابد أن يلتزم المشهور في دفع هذا الإشكال بوجود غرض نفسي في نفس إنشاء التكليف المشروط قبل تحقق شرطه، وهو كما تري.
ولكن من التزم بما ذهبنا إليه لا يرد عليه هذا الإشكال، لفعلية الإرادة قبل تحقق الشرط، فالمولي يتوصل بإنشائه إلي ما يريده فعلا وإن كان علي تقدير (2). انتهي.
وأنت خبير بأنه لم يكن للمشهور الالتزام بما ذكره أصلا، فإن الإنشاءات
1 - نفس المصدر 1: 342 / السطر 3.
2 - نفس المصدر 1: 346 - 347.
صفحه(٤٤)
وإن كانت للتوصل إلي تحصيل المراد إلا أنه حيث يكون المكلفون مختلفين من حيث تحقق الشرط بالنسبة إليهم وعدمه لا بأس بإنشاء الوجوب علي النحو المذكور وإن لم يكن الشرط حاصلا بالنسبة إلي بعض المكلفين، كما أن الإنشاءات الواقعة في الشريعة إنما هي علي نحو القوانين الكلية، فلا يمكن أن تكون متوقفة علي تحقق شرائطها، كما هو واضح لا يخفي.
هذا، مضافا إلي أن هذا الإيراد لا يدفع بما التزمه في الواجب المشروط، فتدبر.
منها: - وهي عمدتها - أنه لو كانت الإرادة المتعلقة بالواجب المشروط حاصلة عند تحقق الشرط لا قبله، يلزم أن لا تكون المقدمات الوجودية لتحقق الواجب المشروط واجبة بالوجوب الغيري قبل تحقق الشرط، لعدم كون ذي المقدمة واجبا قبله حتي يسري الوجوب منها إلي مقدمته، وهذا بخلاف ما لو قيل بتحقق الإرادة قبل حصول الشرط، كما التزم به بعض الأعاظم (قدس سره) علي ما عرفت، فإن تعلق الإرادة الغيرية بالمقدمات لوجود الإرادة النفسية المتعلقة بذي المقدمة بالفعل.
والتحقيق في دفع الإيراد عن المشهور أن يقال: إن ما اشتهر في الألسن وتكرر في أكثر الكلمات من أن الإرادة المتعلقة بالمقدمة ناشئة ومترشحة من الإرادة المتعلقة بذي المقدمة، وكذا الوجوب المتعلق بالأولي سار من الوجوب المتعلق بالثانية ليس علي ما ينبغي، بل محل نظر ومنع، كما عرفت في صدر مبحث المقدمة، فإنه لا معني لكون الإرادة علة موجدة لإرادة أخري، فإن كل إرادة فلها مباد ومقدمات مخصوصة، فكما أن الإرادة المتعلقة بذي المقدمة ناشئة من المبادئ الخاصة بها فكذلك الإرادة المتعلقة بالمقدمة لها مقدمات ومباد مخصوصة بها، غاية الأمر أن تعلق الإرادة بها لحصول مطلوبه الأولي
(٤٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)
الذي تعلقت به الإرادة الأولية.
وبالجملة فلا إشكال في أن كل إرادة معلولة للنفس وموجدة بفعاليتها، ولا يعقل أن تكون علته الإرادة المتعلقة بشئ آخر، كما حقق في محله، وهكذا الوجوب المتعلق بشئ لا يعقل أن يسري إلي شئ آخر أصلا.
وحينئذ فنقول: إن الملازمة بين الإرادة المتعلقة بذي المقدمة وبين الإرادة المتعلقة بالمقدمة علي تقدير ثبوتها إنما هي لتوقف حصول غرض المولي علي تحققها في الخارج، لا لتحقق الإرادة بذي المقدمة، فإن تعلقها بها أيضا للتوصل إلي تحصيل غرضه، فإذا فرض في مقام عدم تعلق الإرادة الفعلية بذي المقدمة - كما في المقام - فلا يمنع عن تعلق الإرادة الفعلية بالمقدمة، لبقاء ملاك تعلق الإرادة بها، وهي توقف حصول غرض المولي عليها علي حالها.
وبالجملة، فلو فرض في مقام اطلاع العبد علي أن المولي يريد شيئا علي تقدير خاص، وفرض العلم بتحقق ذلك التقدير المستلزم للعلم بإرادته قطعا، وفرض أيضا توقف حصول ذلك الشئ علي أمر لا يمكن تحصيله بعد تحقق شرط الوجوب، فمن الواضح أن العقل يحكم بوجوب الإتيان بمقدمة ذلك الشئ وإن لم تكن الإرادة المتعلقة بذي المقدمة موجودة بالفعل.
والحاصل أنه حيث يكون الدائر علي ألسنتهم أن الإرادة المتعلقة بالمقدمة ناشئة من الإرادة المتعلقة بذي المقدمة، ورأوا أن المشهور لا يلتزمون بوجود الإرادة قبل تحقق الشرط في الواجب المشروط، فلذا أوردوا علي المشهور بأنه لايبقي وجه لوجوب المقدمة قبل تحقق الشرط (1).
1 - هداية المسترشدين: 217 / السطر 1، بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 346 / السطر 22.
(٤٦)
صفحهمفاتيح البحث: المنع (1)، دولة العراق (1)
وبما حققناه قد ظهر لك أنه لا وجه لهذا الإيراد أصلا، كما عرفت.
ثم إنه لو قلنا بخلاف ما عليه المشهور والتزمنا بما التزم به ذلك البعض من تحقق الإرادة قبل تحقق الشرط، فتعلقها بالمقدمة أيضا مورد منع، فإنه لا يعقل ترشح الإرادة المطلقة بالمقدمة من الإرادة التقديرية المتعلقة بذي المقدمة بعد لزوم السنخية بين المعلول وعلته، فإنه كيف يمكن أن تكون الإرادة المتعلقة بالمقدمة مطلقة بمعني وجوب تحصيلها فعلا، مع أن الإرادة المتعلقة بذي المقدمة تقديرية كما هو واضح.
والمتحصل من جميع ما ذكرنا في الواجب المشروط أمور:
الأول: أن القيود بحسب الواقع علي قسمين.
الثاني: أن القيود راجعة إلي الهيئة، كما هو ظاهر اللفظ، ولا امتناع في رجوعها إليها، كما ينسب إلي الشيخ الأنصاري (قدس سره) (1).
الثالث: أن الحكم إنما ينتزع من نفس البعث والزجر، والدليل عليه أنه يجعل مقسما للحكم التكليفي والوضعي، ولا معني للقول بأن الحكم في الأحكام الوضعية عبارة عن الإرادة مطلقة أو مقيدة بالإظهار، كما هو واضح.
الرابع: أن الوجوب في الواجب المشروط إنما هو بعد تحقق الشرط لا قبله.
الخامس: أنه تكون المقدمات واجبة قبل تحقق الشرط ولو لم تكن ذو المقدمة واجبا قبله، كما عرفت تحقيقه.
1 - مطارح الأنظار: 46 / السطر 2.
(٤٧)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، البعث، الإنبعاث (1)، المنع (1)، الوجوب (1)

الأمر الخامس: في الواجب المعلق والمنجز

الأمر الخامس في الواجب المعلق والمنجز ربما يقسم الواجب أيضا ببعض الاعتبارات إلي معلق ومنجز، ويقال - كما في الفصول -: إن المراد بالمنجز هو الذي يتعلق وجوبه بالمكلف، ولا يتوقف حصوله علي أمر غير مقدور له، كالمعرفة وبالمعلق هو الذي يتعلق وجوبه بالمكلف ويتوقف حصوله علي أمر غير مقدور له كالحج، فإن وجوبه يتعلق بالمكلف من أول زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة، ويتوقف فعله علي مجئ وقته، وهو غير مقدور له.
والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو: أن التوقف هناك للوجوب وهنا للفعل (1).
ولا يخفي: أن الالتزام بالواجب المعلق إنما هو للتخلص عما أورد علي المشهور في الواجب المشروط من أنه بناء علي عدم تحقق الإرادة قبل حصول الشرط كما هو مذهبه لم يبق وجه لسراية الإرادة إلي المقدمات قبل حصوله فإنه حيث تعسر عليهم رفع هذا الإيراد مع ما رأوا في بعض الموارد من دلالة بعض الأخبار علي وجوب المقدمات في بعض الواجبات المشروطة قبل تحقق شرطها فلذا تمسكوا بذيل الواجب المعلق والتزموا بثبوت الوجوب فيه قبل حصول شرط الواجب بخلاف المشروط.
1 - الفصول الغروية: 79 / السطر 35.
(٤٨)
صفحهمفاتيح البحث: الوجوب (1)

ما أفاده بعض الأعلام في إنكار الواجب المعلق

ما أفاده بعض الأعلام في إنكار الواجب المعلق ثم إنه يظهر من بعضهم إنكار الواجب المعلق مدعيا استحالة كون الإرادة موجودة قبل المراد (1).
وأطال الكلام في النقض والإبرام في هذا المقام بعض المحققين في تعليقته علي الكفاية.
وخلاصة ما ذكره هناك: أن النفس مع وحدتها ذات منازل ودرجات، ففي مرتبة القوة العاقلة مثلا تدرك في الفعل فائدة عائدة إليها، وفي مرتبة القوة الشوقية ينبعث لها شوق إلي ذلك الفعل، فإذا لم يجد مزاحما ومانعا، يخرج ذلك الشوق من حد النقصان إلي حد الكمال الذي يعبر عنه بالقصد والإرادة، فينبعث من هذا الشوق البالغ حد نصاب الباعثية هيجان في مرتبة القوة العاملة المنبثة في العضلات، ومن الواضح أن الشوق وإن أمكن تعلقه بأمر استقبالي إلا أن الإرادة ليس نفس الشوق بأية مرتبة كان، بل الشوق البالغ حد النصاب بحيث صارت القوة الباعثة باعثة للفعل، وحينئذ فلا يتخلف عن انبعاث القوة العاملة وهيجانها لتحريك العضلات غير المنفك عن حركتها، ولذا قالوا: إن الإرادة هو الجزء الأخير من العلة التامة لحركة العضلات (2).
فمن يقول بإمكان تعلقها بأمر استقبالي إن أراد حصول الإرادة التي هي علة تامة لحركة العضلات إلا أن معلولها حصول الحركة في ظرف كذا، فهو عين انفكاك العلة عن المعلول.
1 - تشريح الأصول: 191 / السطر 21.
2 - شرح المنظومة، قسم الحكمة: 294، الحكمة المتعالية 6: 323، الهامش 1.
(٤٩)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (1)
وإن أراد أن ذات العلة - وهي الإرادة - موجودة من قبل إلا أن شرط تأثيرها - وهو حضور وقت المراد - حيث لم يكن موجودا ما أثرت العلة في حركة العضلات.
ففيه: أن حضور الوقت إن كان شرطا في بلوغ الشوق إلي حد الكمال المعبر عنه بالإرادة، فهو عين ما قلنا من أن حقيقة الإرادة لا تنفك عن الانبعاث، وإن كان شرطا في تأثير الشوق البالغ حد الإرادة الموجود من أول الأمر، فهو غير معقول، لأن عدم التأثير مع كون الشوق بالغا إلي حد الباعثية لا يعقل، لعدم انفكاك البعث الفعلي عن الانبعاث، فاجتماع البعث وعدم تحقق الانبعاث ليس إلا كاجتماع المتناقضين.
وأما ما ذكر في المتن: من لزوم تعلق الإرادة بأمر استقبالي إذا كان المراد ذا مقدمات كثيرة، فإن إرادة مقدماته منبعثة عن إرادة ذيها قطعا (1)، فتوضيح الحال فيه أن الشوق إلي المقدمة لابد من انبعاثه من الشوق إلي ذيها، لكن الشوق إلي ذيها لما لم يمكن وصوله إلي حد الباعثية لتوقف المراد علي مقدمات، فلا محالة يقف في مرتبته إلي أن يمكن الوصول، وهو بعد طي المقدمات، فالشوق بالمقدمة لا مانع من بلوغه إلي حد الباعثية الفعلية، بخلاف الشوق إلي ذيها، وما هو المسلم في باب التبعية تبعية الشوق للشوق لا تبعية الجزء الأخير من العلة، فإنه محال، وإلا لزم إما انفكاك العلة عن المعلول أو تقدمه عليها.
هذا كله في الإرادة التكوينية.
وأما الإرادة التشريعية: فهي عبارة عن إرادة فعل الغير منه اختيارا وحيث إن المشتاق إليه فعل الغير الصادر باختياره، فلا محالة ليس بنفسه تحت
١ - كفاية الأصول: ١٢٨ - 129.
(٥٠)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (2)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
اختياره، بل بالتسبيب إليه بجعل الداعي إليه، وهو البعث نحوه، فلا محالة ينبعث من الشوق إلي فعل الغير اختيارا الشوق إلي البعث نحوه، فالشوق المتعلق بفعل الغير إذا بلغ مبلغا ينبعث منه الشوق نحو البعث الفعلي، كان إرادة تشريعية، وإلا فلا، ومعه لا يعقل البعث نحو أمر استقبالي، إذ لو فرض حصول جميع مقدماته وانقياد المكلف لأمر المولي، لما أمكن انبعاثه نحوه بهذا البعث، فليس ما سميناه بعثا في الحقيقة بعثا ولو إمكانا.
ثم أورد علي نفسه ببعض الإيرادات مع الجواب عنها (1) لا مجال لنقلها.
ولا يخفي أنه يرد علي ما ذكره في الإرادة التكوينية وجوه من الإيراد:
منها: أن ما ذكره من أن الإرادة هي المرتبة الكاملة من الشوق، محل نظر، بل منع، فإن الشوق نظير المحبة والعشق من الأمور الانفعالية للنفس والإرادة بمنزلة القوة الفاعلية لها، ولا يعقل أن يبلغ ما يكون من الأمور الانفعالية إلي مرتبة الأمور الفاعلية ولو بلغ من الكمال ما بلغ، فإن الكمال البالغ إليه إنما هو الكمال في مرتبته، لا انقلاب حقيقته إلي حقيقة أخري، وهذا من الأمور الواضحة المحققة في محلها (2).
منها - وهي العمدة -: أن ما ذكره - بل اشتهر في الألسن وتكرر في الكلمات - من أن الإرادة هي الجزء الأخير من العلة التامة ليس مبرهنا عليه، بل إنما هو صرف ادعاء لا دليل عليه لو لم نقل بكون الوجدان شاهدا وقاضيا بخلافه، فإنه من الواضح أن الإرادة المتعلقة بالمراد فيما لو كان غير نفس تحريك العضلات ليست بعينها هي الإرادة المتعلقة بتحريك العضلات لأجل
١ - نهاية الدراية ٢: ٧٢ - ٨٠.
٢ - الحكمة المتعالية ١: ٤٣٦ - ٤٣٧، الطلب والإرادة، الإمام الخميني (قدس سره): ١٠٩، أنوار الهداية ١: ٦٣.
(٥١)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (6)، المنع (1)، الشهادة (1)
تحقق ذلك المراد، فالإرادة المتعلقة بشرب الماء ليست هي نفس الإرادة المتعلقة بتحريك العضلات نحو الإناء الواقع فيه الماء، لما قد حقق في محله من عدم إمكان تعلق إرادة واحدة بمرادين، وكذا لا يجوز تعلق إرادتين بمراد واحد، ضرورة أن تشخص الإرادة إنما هو بالمراد، كما قرر في محله (1).
فإذا ثبتت تعدد الإرادة، فنقول: إن الإرادة المتعلقة بتحريك العضلات هي التي تكون علة تامة لحركتها، لا لكون الإرادة علة لحصول كل مراد، بل لأنه حيث تكون القوي مقهورة للنفس محكومة بالنسبة إليها، فلا محالة لا تتعصي عن إطاعتها، كما أنه ربما يعرض بعض تلك القوي ما يمنعه عن الانقياد لها، فربما تريد تحريكها ومعه لا تتحرك لثبوت المزاحم.
وبالجملة فالإرادة لا تكون علة تامة بالنسبة إلي كل مراد، بل إنما تكون كذلك فيما لو كان المراد تحريك قوي النفس مع كونها سليمة عن الآفة وقابلة للانقياد عنها، لما عرفت من عدم التعصي عنها، وحينئذ فلو فرض أن النفس أراد تحريكها في الاستقبال فهل الانقياد لها يقتضي التحرك في الحال أو في الاستقبال؟
والحاصل: أن منشأ الحكم بامتناع تعلق الإرادة بأمر استقبالي هو كون الإرادة علة تامة، وبعدما عرفت من عدم كونها كذلك في جميع الموارد وفي موارد ثبوتها لا ينافي كون المراد أمرا استقباليا كما عرفت، لم يبق وجه لامتناع انفكاك الإرادة عن المراد بعد وضوح إمكان تعلق الإرادة بما هو كذلك.
منها: أن ما ذكره في مقام الجواب عن المتن من أنه إذا كان المراد ذا مقدمات كثيرة تكون المقدمات تابعة لذيها بالنسبة إلي الشوق لا الإرادة، فيرد
1 - الحكمة المتعالية 6: 423 - 424.
(٥٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (3)، الجواز (1)
عليه - مضافا إلي ما ذكرنا في محله من أن الشوق ليس من مقدمات الإرادة (1)، لأن الإنسان كثيرا ما يريد بعض الأشياء مع عدم الاشتياق إليه أصلا، بل ربما ينزجر عنه كمال الانزجار، كشرب الدواء مثلا - أنه لو سلمنا ذلك، فلا نسلم بالنسبة إلي المقدمات، فإنها لا تكون مشتاقا إليها للمريد من حيث المقدمية أصلا، فكيف تتبع ذيها في الشوق؟!
هذا، مضافا إلي أنه لو لم يكن الشوق في ذي المقدمة بالغا إلي حد إرادتها - كما اعترف به - فكيف يمكن بلوغه في المقدمة إلي حد الإرادة مع كونها مرادة بوصف المقدمية؟! كما لا يخفي.
هذا بالنسبة إلي ما ذكره في الإرادة التكوينية.
وأما ما ذكره في الإرادة التشريعية التي هي محل النزاع في المقام.
فيرد عليه - مضافا إلي أن البعث ليس لإيجاد الداعي للمكلف إلي الفعل، بل لإيجاد موضوع الإطاعة والعصيان - أن امتناع انفكاك الانبعاث عن البعث الفعلي وإن كان غير قابل للمنع أصلا إلا أنه لو فرض أن العبد مبعوث إلي أمر استقبالي - كما في المقام - فامتناع تخلف الانبعاث إنما هو في وقت حضوره.
وبالجملة، فالبعث إلي الأمر الفعلي يمتنع انفكاك الانبعاث الفعلي إليه، وأما البعث إلي الأمر الاستقبالي فالانبعاث بالنسبة إليه يلحظ في زمان حضور وقت ذلك الأمر، كما لا يخفي.
ثم إنه ذكر بعض الأعاظم - علي ما في التقريرات المنسوبة إليها - في مقام امتناع الواجب المعلق ما ملخصه: أن امتناعه ليس لأجل استحالة تعلق التكليف بأمر مستقبل، كيف والواجبات الشرعية كلها من هذا القبيل، ولا لعدم
١ - الطلب والإرادة، الإمام الخميني (قدس سره): ٣٩، أنوار الهداية ١: ٦٣.
(٥٣)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (2)، الدواء، التداوي (1)، كتاب أنوار الهداية للسيد الخميني (1)
إمكان تعلق الإرادة بأمر مستقبل، فإن إمكانه بمكان من الوضوح بحيث لا مجال لإنكاره، بل يستحيل أن لا تتعلق الإرادة من الملتفت به إذا كان متعلقا لغرضه، كما هو واضح، بل امتناعه إنما هو لكون الأحكام الشرعية إنما هو علي نهج القضايا الحقيقية، ومعني كون القضية حقيقية هو أخذ العنوان الملحوظ مرآة لمصاديقه المفروضة الوجود موضوعا للحكم، فيكون كل حكم مشروطا بوجود الموضوع بماله من القيود من غير فرق بين أن يكون الحكم من الموقتات أو غيرها، غايته أن في الموقتات يكون للموضوع قيد آخر سوي القيود المعتبرة في موضوعات سائر الأحكام من العقل والبلوغ والقدرة وغير ذلك.
وحينئذ ينبغي أن يسئل ممن قال بالواجب المعلق أنه أي خصوصية بالنسبة إلي الوقت حيث قلت بتقدم الوجوب عليه دون سائر القيود؟
وليت شعري ما الفرق بين الاستطاعة في الحج والوقت في الصوم حيث كان وجوب الحج مشروطا بها ولم يكن وجوب الصوم مشروطا بالوقت، فإن كان الملاك في الأول هو كونها مأخوذا قيد للموضوع ومفروض الوجود، فالوقت أيضا كذلك، بل الأمر فيه أوضح، لأنه لا يمكن إلا أخذه مفروض الوجود، لأنه أمر غير اختياري، وكل ما هو كذلك لابد أن يؤخذ مفروض الوجود، ويقع فوق دائرة الطلب، ويكون التكليف بالنسبة إليه مشروطا لا مطلقا، وإلا يلزم تكليف العاجز.
والحاصل: أن القول بتقدم التكليف عليه - كما هو الشأن في سائر القيود التي يتقدم التكليف عليها، كالطهارة والساتر وغير ذلك - يستلزم محالا في محال، لأنه يلزم أولا لزوم تحصيله، كما في تلك القيود، والمفروض عدم إمكان تحصيله، وثانيا تحصيل الحاصل، لاستلزامه تحصيل ما هو مفروض الوجود.
وبالجملة دعوي إمكان الواجب المعلق في القضايا الشرعية التي تكون
(٥٤)
صفحهمفاتيح البحث: الأحكام الشرعية (1)، الحج (2)، الصيام، الصوم (2)، الوجوب (2)
علي نهج القضايا الحقيقية في غاية السقوط. هذه خلاصة ما ذكره المحقق النائيني علي ما في التقريرات (1).
ويتوجه عليه ما عرفت سابقا: من أن القيود علي قسمين:
فإنه قد تتعلق إرادة المريد بالصلاة في المسجد مثلا بمعني كون مراده هو هذا الأمر المقيد لأجل دخالة القيد في حصول غرضه، فلا محالة يصير بصدد تحصيل مطلوبه حتي لو لم يكن المسجد موجودا يريد بناءه حتي يصلي فيه أو يأمر ببنائه لذلك.
وقد تتعلق إرادته بالصلاة علي تقدير تحقق المسجد بمعني أنه لا يكون طالبا لأصل الصلاة ومريدا لها لكن علي تقدير وجود المسجد يري نفسه مجبورا بالإتيان بها لبعض الجهات، فربما يتوصل بأسباب مختلفة ووسائط متعددة لأجل عدم تحقق المسجد لعدم كونه مشتاقا إلي الصلاة مريدا لها أصلا ولكن علي تقدير تحققه يجبر نفسه علي الإتيان بها فيه، ولهذا نظائر كثيرة، فإنه قد تتعلق إرادة الإنسان بضيافة صديقه مطلقا، فإنه لا محالة يصير بصدد تحصيل مقدماته حتي لو لم يكن في بلده يدعوه إليه، وقد تتعلق إرادته بضيافته علي تقدير مسافرته إلي بلد المضيف ونزوله في منزله وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة.
ففي الصورة الأولي من المثالين لا يكون القيد مفروض الوجود حتي يكون التكليف متأخرا عنه وثابتا علي تقدير وجوده، بل هو من القيود الواقعة تحت دائرة الطلب لا فوقها لو كان أمرا مقدور المكلف، كما أنه لو لم يكن مقدورا يكون التكليف ثابتا قبله وإن لم يكن متوجها إليه أصلا، وهذا هو الفرق بين الاستطاعة في الحج والوقت في الصوم.
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 186 - 189.
(٥٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الحج (1)، السجود (5)، الصّلاة (2)، الصيام، الصوم (1)

حول ما تردد القيد بين رجوعه إلي المادة أو الهيئة

وما ذكره من لزوم تحصيل الحاصل، ففيه: أنه لم يؤخذ مفروض الوجود حتي يلزم ذلك، كما عرفت.
وبالجملة فإمكان الواجب المعلق في الشرعيات وإن كانت الأحكام علي نهج القضايا الحقيقية بمكان من الوضوح، لما عرفت من عدم الاستحالة بشئ من الوجوه التي ذكروها.
هذا كله فيما لو علم رجوع القيد الواقع في الكلام إلي الهيئة أو المادة.
حول ما تردد القيد بين رجوعه إلي المادة أو الهيئة ولو شك في رجوع القيد ودار الأمر بين رجوعه إلي الهيئة أو المادة ولم يكن في اللفظ ما يقتضي الرجوع إلي أحدهما معينا، فقد قيل بترجيح تقييد المادة وإبقاء إطلاق الهيئة علي حاله، لأن الإطلاق في جانب الهيئة يكون شموليا، بخلاف جانب المادة، فإن إطلاقها يكون بدليا، فإن قولك: أكرم زيدا إن جاءك، لو كان القيد فيه راجعا إلي المادة يكون وجوب الإكرام ثابتا علي جميع التقادير التي يمكن أن يكون تقديرا له، كما أنه لو رجع إلي الهيئة يكون صرف وجود الإكرام واجبا، وهذا معني الشمول والبدلية.
والظاهر أنه لو دار الأمر بين تقييد الإطلاق الشمولي والإطلاق البدلي، يكون الترجيح مع الثاني، لأن الإطلاق البدلي لا يشمل الفردين في حالة واحدة كما لا يخفي (1).
أقول: ينبغي أن نتكلم في مقامين:
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 215.
(٥٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الكرم، الكرامة (1)، الوجوب (1)
الأول: فيما ذكروه في باب المطلق والمقيد من معني الإطلاق الشمولي والبدلي.
الثاني: في جريان ذلك في المقام علي تقدير صحته وعدم جريانه.
أما الكلام في المقام الأول: فملخصه أن معني الإطلاق - كما حقق في محله - عدم كون الكلام مقيدا بقيد، كما أن معني المقيد خلافه (1)، وحينئذ فإذا تكلم بكلام مع عدم التقييد بقيد، فيحمل علي أن مراده هو المطلق، لأن التكلم من الأفعال الاختيارية الصادرة عن المتكلم كسائر أفعاله الاختيارية، فمع عدم التقييد يحمل علي الإطلاق، لأنه لو كان مراده المقيد، يلزم عليه التقييد بعد كونه فاعلا مختارا غير مكره، ومعني الإطلاق كما عرفت هو عدم التقييد، فإذا قال: أعتق رقبة، ولم يقيدها بالمؤمنة، فيحمل علي أن مراده هو طبيعة الرقبة بمعني أن ماله دخل في تحقق غرضه هي هذه الطبيعة المطلقة المرسلة غير المتقيدة بقيد أصلا، وحينئذ فما ذكروه من الإطلاق الشمولي (2) لم يعلم له وجه، لأنه ليس في الإطلاق بما ذكرناه من المعني شمول أصلا، فإن بين الشمول وبين كون الموضوع هي الطبيعة مع عدم القيد بون بعيد فإنه فرق بين قوله: أعتق كل رقبة، وقوله: أعتق رقبة، فإن المطلوب في الأول هو ما يشمل جميع الأفراد، بخلاف الثاني، فإن المطلوب فيه ليس إلا نفس الطبيعة المرسلة المحمولة علي الإطلاق من حيث صدورها من الفاعل المختار غير متقيدة بقيد لا من حيث دلالة اللفظ عليه.
1 - مناهج الوصول 2: 313.
2 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 562.
(٥٧)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، العتق (3)
وبالجملة، فليس في الطبيعة المحمولة علي الإطلاق شمول أصلا، فإن لفظ الإنسان لا يحكي إلا عن نفس طبيعته، واتحادها مع الأفراد في الخارج لا يوجب كون اللفظ موضوعا بإزائها، فإن مسألة الوضع غير مسألة الاتحاد في التحقق، فحمل لفظ الإنسان علي إطلاقه لا يوجب إلا أن يكون المراد هي نفس طبيعته، لا الشمول لأفراده بعد عدم كون اللفظ موضوعا بإزائها.
هذا في الإطلاق الشمولي، وأما الإطلاق البدلي: فكذلك، غاية الأمر أن البدلية تستفاد من دال آخر، كالتنوين في قوله: أكرم عالما، فإن لفظ " العالم " لا يدل إلا علي طبيعته، والتنوين يدل علي وحدته، وتفصيل الكلام في محله.
وأما الكلام في المقام الثاني: فملخصه أنه ولو سلمنا الإطلاق الشمولي بالمعني الذي ذكروه، فلا نسلم جريانه في المقام أصلا، فإن مرجع الإطلاق الشمولي إلي الاستغراق، ولا يعقل تعلق البعث التأسيسي بطبيعة واحدة متكررا، كما أنه لا يعقل تعلق إرادات متعددة بمراد واحد، لأن تشخص الإرادة إنما هو بالمراد.
وبالجملة، فمرجع الإطلاق الشمولي في جانب البعث إلي الأبعاث المتعددة، ولا يمكن أن يكون متعلقها أمرا واحدا، كما هو المفروض في المقام.
ثم إنه لو سلم جريان الإطلاق الشمولي فيما نحن فيه، فما المرجح لإبقائه علي حاله وتقييد الإطلاق البدلي؟ بعدما عرفت من أن البدلية تستفاد من دال آخر، كالتنوين في المثال المتقدم فإن قولك: أكرم عالما، يحمل علي الإطلاق، لعدم كون القيد مذكورا معه بعد كون المتكلم فاعلا مختارا، وهذا بعينه موجود في الإطلاق الشمولي، غاية الأمر أن التنوين يدل علي البدلية في القسم الأول، فلا ترجيح لتقييد أحد الإطلاقين علي تقييد الآخر أصلا، كما لا يخفي.
(٥٨)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، البعث، الإنبعاث (2)، الكرم، الكرامة (2)

الأمر السادس: في الواجب النفسي والغيري

الأمر السادس في الواجب النفسي والغيري والكلام فيه يقع في مقامين:
الأول: في الإرادة المتعلقة بالأفعال أعم من إرادة الفاعل، والأمر.
الثاني: في البعث الصادر منه.
أما الكلام في المقام الأول: فملخصه أن إرادة الفاعل لا تتعلق أولا إلا بما هو محبوب له بالذات ومعشوق له بنفسه، والإرادات المتعلقة بمقدمات حصول ذلك المحبوب الأولي إنما هي في طول تلك الإرادة المتعلقة به، ومتأخرة عنها ومترشحة منها، لا بمعني كونها علة موجدة لها، فإن ذلك لا يعقل كما مر مرارا، بل بمعني أن تعلق الاشتياق بمراداتها إنما هو لتحصيل الغرض الأقصي والمطلوب الأولي.
وبالجملة، فأكثر الإرادات المتعلقة بالأفعال الصادرة من البشر بل كلها إنما هو لتحصيل ما يكون مرادا بالذات ومشتاقا إليه بنفسه، وهي اللذة والاستراحة، كما لا يخفي، وكذا يقال في إرادة الآمر بلا فرق بينهما أصلا.
وأما الكلام في المقام الثاني: الذي هو المقصود بالأصالة في هذا المقام، إذ التقسيم إنما هو للواجب باعتبار الوجوب، وقد عرفت أنه لا يكون عبارة عن مجرد الإرادة المظهرة، بل إنما هو عبارة عن البعث الصادر من الآمر، فملخصه:
أن البعث إلي شئ إن كان للتوصل إلي حصول ما يكون متعلقا للبعث الآخر، وبعبارة أخري: كان فوق هذا البعث بعث آخر يكون الغرض منه التوصل إلي حصول المبعوث إليه بالبعث الأولي، فهو واجب غيري، وإن لم يكن الغرض
(٥٩)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، البعث، الإنبعاث (4)

مقتضي الأصل اللفظي في المقام

الباعث الداعي علي البعث الوصول إلي مبعوث إليه ببعث آخر، فالواجب واجب نفسي.
مقتضي الأصل اللفظي في المقام ثم إنه لو دار الأمر بينهما وتردد بين أن يكون هو الواجب النفسي أو الغيري ولم يكن في البين ما يدل علي أحدهما، فقد يقال بأن مقتضي الإطلاق هو الحمل علي الواجب النفسي، لأن غيره يحتاج إلي خصوصية زائدة، وهي كون المقصود منه التوصل إلي شئ آخر، وأما النفسية فلا يزيد علي أصل الوجوب، فالإطلاق يقتضي تعيينه (1).
وفيه ما لا يخفي من الضعف، فإنه لا إشكال في أن الواجب النفسي والغيري قسمان لطبيعة الواجب، ولا يعقل أن يكون أحد الأقسام عين المقسم، بل لابد أن يكون لها خصوصية زائدة علي أصل المقسم وجودية كانت أو عدمية.
والذي ينبغي أن يقال: إنه حيث كانت الحجة من قبل المولي تامة غير محتاجة إلي شئ آخر، فهي قاطعة للعذر بالنسبة إلي العبد، ويصح للمولي الاحتجاج بها عليه، فلا محالة تحتاج إلي الجواب، كما مر نظيره في مبحث دلالة صيغة الأمر علي الوجوب، فلو قال: ائتني بالماء، وشك في أن المقصود هو مجرد تمكنه من الماء أو استعماله في الوضوء فتوضأ، فمجرد احتمال أن يكون المقصود استعماله في الوضوء، فلم يبق له موضوع لفرض التوضي بماء آخر لا يصحح الاحتجاج به علي المولي بعد تمامية الحجة من قبله، بل اللازم تحصيل الماء للمولي. نعم لا يثبت بما ذكرنا كون الواجب واجبا نفسيا حتي يترتب
١ - مطارح الأنظار: ٦٧ / السطر ١٠، كفاية الأصول: ١٣٦.
(٦٠)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (1)، الوضوء (2)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
عليه ما يترتب علي هذا العنوان، كما لا يخفي.
ثم لا يخفي أن التقسيم إلي النفسي والغيري ليس تقسيما للواجب بمعني كون الوجوب أمرا جامعا بينهما، كيف وقد عرفت أن الحروف بتمامها يكون الوضع فيها عاما والموضوع له خاصا، فكيف يمكن أن يكون مدلول الهيئة أمرا جامعا بين القسمين؟! بل التقسيم لأجل اختلاف الداعي، بمعني أن الداعي إلي البعث إلي شئ قد يكون للتوصل إلي شئ آخر وقد لا يكون، وإلا فالبعث أمر واحد لا يختلف في القسمين أصلا، كما هو الشأن في الوجوب والاستحباب، فإنهما ليسا من أقسام الطلب والبعث بمعني أن يكون البعث علي نحوين، بل البعث الصادر عن إرادة حتمية يقال له: الوجوب، كما أن البعث الصادر عن إرادة غير حتمية يقال له: الاستحباب، فتأمل جيدا.
ثم إن بعض الأعاظم من المعاصرين ذكر فيما لو شك في واجب أنه نفسي أو غيري ما ملخصه بالنسبة إلي الأصل اللفظي أنه لما كان الواجب الغيري وجوبه مترشحا عن وجوب الغير، كان وجوبه مشروطا بوجوب الغير، كما أن نفس غير الواجب يكون وجوده مشروطا بنفس الواجب الغيري، فيكون وجوب الغير من المقدمات الوجوبية للواجب الغيري، ووجود الواجب الغيري من المقدمات الوجودية لنفس ذلك الغير.
مثلا: يكون وجوب الوضوء مشروطا بوجوب الصلاة، وتكون نفس الصلاة مشروطة بوجود الوضوء، وحينئذ يكون مرجع الشك في النفسية والغيرية إلي شكين: أحدهما: الشك في تقييد وجوبه بوجوب الغير، وثانيهما: الشك في تقييد مادة الغير به.
إذا عرفت ذلك، فنقول: إن هناك إطلاقا في كلا طرفي الغير والواجب الغيري، كما إذا كان دليل الصلاة مطلقا لم يأخذ الوضوء قيدا لها، ودليل إيجاب
(٦١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، البعث، الإنبعاث (3)، الصّلاة (2)، الوضوء (3)، الوجوب (2)
الوضوء كذلك لم يقيد وجوبه بوجوب الصلاة، فلا إشكال في صحة التمسك بكل من الإطلاقين، وتكون النتيجة هو الوجوب النفسي ولو كان لأحدهما فقط إطلاق يكفي في إثبات الوجوب النفسي أيضا، لأن مثبتات الأصول اللفظية حجة (1). انتهي ملخص ما في التقريرات المنسوبة إليه.
ولكن هذا الكلام مخدوش من وجوه:
الوجه الأول: أنك عرفت فيما تقدم أنه لا يعقل كون وجوب المقدمة مترشحا من وجوب ذيها بمعني أن يكون الثاني علة موجدة للأول، كما هو معني الترشح، كما أنه لا يعقل ترشح الإرادة المتعلقة بالمقدمة من الإرادة المتعلقة بذيلها، وهذا واضح جدا.
الوجه الثاني: أن ما ذكره من أنه حيث كان وجوب المقدمة مترشحا من وجوب ذيها، فلا محالة يكون مشروطا به، محل نظر بل منع، لأنه لو سلم الترشح والنشو، فلا نسلم كونه مشروطا به، بل لا يعقل، لأن معني الترشح - كما عرفت - هو كون المترشح معلولا للمترشح منه، وحينئذ فاشتراط المعلول بوجود العلة إن كان في حال انتفاء المعلول، فبطلانه أظهر من أن يخفي، لأن الاشتراط وصف وجودي لا يعقل عروضه للمعدوم أصلا، وإن كان في حال وجوده، فانتزاع المعلولية منه إنما هو في الرتبة المتأخرة عن الاشتراط، ومن المعلوم خلافه.
الوجه الثالث: أن ما ذكره من أنه يكون وجود الغير مشروطا بوجود الواجب الغيري بمعني أن المقصود من الغير هو تحققه مقيدا بذلك الواجب الغيري، فلا يتم علي إطلاقه وإن كان في المثال صحيحا، لأنه لو فرض أن المولي أمر بنصب السلم وشك في أن وجوبه هل يكون نفسيا أو غيريا، فإنه ولو سلم
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 220 - 222.
(٦٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، المنع (1)، الصّلاة (1)، الوضوء (1)، الوجوب (3)

مقتضي الأصل العملي في المقام

أنه بناء علي الغيرية يكون وجوبه مترشحا من وجوب الكون علي السطح مشروطا به، ولكن لا نسلم أن المقصود من الأمر بالكون علي السطح هو الكون عليه مقيدا بنصب السلم، كما كانت الصلاة مشروطة بالطهارة.
الوجه الرابع: أن ما ذكره من كون مثبتات الأصول اللفظية حجة دون الأصول العملية، ليس مبرهنا عليه، بل يكون محل شك وريبة، وسيجئ إن شاء الله تعالي.
هذا كله فيما يتعلق بما ذكره البعض المتقدم فيما يقتضيه الأصول اللفظية التي لا مجال معها للأصول العملية أصلا.
مقتضي الأصل العملي في المقام وأما بالنسبة إلي الأصول العملية، فذكر للمسألة صورا ثلاثة:
الصورة الأولي: ما إذا علم بوجوب كل من الغير والغيري من دون أن يكون وجوب الغير مشروطا بشرط غير حاصل، كما إذا علم بعد الزوال بوجوب كل من الوضوء والصلاة وشك في وجوب الوضوء من حيث كونه غيريا أو نفسيا، ففي هذه الصورة يرجع الشك إلي الشك في تقييد الصلاة بالوضوء، فيكون من باب الأقل والأكثر الارتباطي، وأصالة البراءة نافية للشرطية، فمن هذه الجهة تكون النتيجة النفسية، وأما من جهة تقييد وجوب الوضوء بوجوب الصلاة فلا أثر لها، للعلم بوجوبه علي كل حال نفسيا كان أو غيريا. نعم ربما يثمر في وحدة العقاب وتعدده عند تركه لكل من الوضوء والصلاة، وليس كلامنا الآن في العقاب.
الصورة الثانية: هي الصورة الأولي ولكن كان وجوب الغير مشروطا بشرط غير حاصل، كالمثال المتقدم فيما إذا علم قبل الزوال، فحينئذ يرجع الشك
(٦٣)
صفحهمفاتيح البحث: الحج (1)، الصّلاة (5)، الوضوء (3)، الوجوب (4)
في غيرية الوضوء ونفسيته إلي الشك في اشتراطه بالزوال وعدمه، إذ لو كان واجبا غيريا، يكون مشروطا بالزوال، كالصلاة، وحينئذ فمقتضي الأصل العملي هو الاشتراط، للشك في وجوبه قبل الزوال، كما أن أصالة البراءة تنفي تقييد الصلاة بالوضوء، ولا منافاة بين إجراء البراءة لنفي وجوبه قبل الزوال وبين إجرائها لنفي قيديته للصلاة، كما لا يخفي.
الصورة الثالثة: ما إذا علم بوجوب ما شك في غيريته ولكن شك في وجوب الغير، كما إذا شك في وجوب الصلاة وعلم بوجوب الوضوء ولكن شك في كونه غيريا حتي لا يجب، لعدم وجوب الصلاة بمقتضي البراءة، أو نفسيا حتي يجب، والأقوي في هذه الصورة وجوب الوضوء، لأن المقام يكون من التوسط في التنجيز الذي عليه يبتني جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطي (1). انتهي ملخصا.
أقول: لا يخفي أن ما ذكره في القسم الأول مناف لما ذهب إليه في مبحث الأقل والأكثر الارتباطي (2).
توضيحه: أنه يظهر من الشيخ في الرسائل في ذلك المبحث جريان البراءة بالنسبة إلي وجوب الأكثر، لأن العلم الإجمالي بوجوب الأقل والأكثر ينحل إلي علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في وجوب الأكثر، لأن الأقل واجب علي كل حال، سواء كان الأكثر واجبا أم لم يكن، غاية الأمر أن وجوبه في الأول غيري، وفي الثاني نفسي، فيكون وجوب الأكثر مورد الجريان البراءة (3).
١ - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي ١: ٢٢٢ - ٢٢٣.
٢ - لاحظ فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي ٤: ١٥٦ - ١٥٧.
٣ - فرائد الأصول ٢: ٤٦٢ - 463.
(٦٤)
صفحهمفاتيح البحث: الصّلاة (3)، الوضوء (3)، الوجوب (6)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)
واعترض عليه المحقق الخراساني في الكفاية بما حاصله: أن وجوب الأقل علي كل تقدير يتوقف علي تنجز التكليف علي كل تقدير، سواء كان متعلقا بالأقل أو بالأكثر، فإنه لو لم يتنجز التكليف بالأكثر علي تقدير تعلقه به، لم يجب الإتيان بالأقل أيضا، لأن وجوبه إنما يكون بتبع وجوب الأكثر، كما هو واضح، فلو لم يكن الأمر المتعلق به منجزا، لم يلزم الإتيان بالأقل أيضا، فوجوب الإتيان به علي كل تقدير يتوقف علي وجوب الإتيان بالأكثر علي كل تقدير، فيلزم من وجوب الأقل علي كل تقدير عدم وجوبه علي كل تقدير، وما يلزم من وجوبه عدمه محال (1).
وأورد عليه المحقق النائيني - علي ما في التقريرات - بما حاصله: أن ذلك مبني علي أن يكون وجوب الأقل مقدميا علي تقدير تعلق التكليف بالأكثر، فيستقيم حينئذ ما أفاده من عدم الانحلال.
ألا تري أنه لو علم إجمالا بوجوب نصب السلم أو الصعود علي السطح وتردد وجوب الأول بين كونه نفسيا أو غيريا متولدا من وجوب الثاني، فالعلم التفصيلي بوجوب نصب السلم لا يوجب انحلال العلم الإجمالي بوجوب النصب أو الصعود، فإن العلم التفصيلي بوجوبه يتوقف علي وجوب الصعود علي السطح، إذ مع عدم الوجوب - كما هو لازم الانحلال - لا يعلم تفصيلا بوجوب النصب، لاحتمال أن يكون وجوبه غيريا متولدا من وجوب الصعود، وذلك كله واضح، إلا أن المقام ليس من هذا القبيل، لما عرفت من أن وجوب الأقل علي تقدير تولده من وجوب الأكثر لا يكون غيريا، فإن الأجزاء إنما تجب بعين وجوب الكل، ولا يمكن أن يجتمع في الأجزاء كل من الوجوب النفسي والغيري، فحينئذ
١ - كفاية الأصول: ٤١٣.
(٦٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الوقوف (3)، الوجوب (10)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
لا يكون وجوب الأقل علي كل تقدير متوقفا علي وجوب الأكثر علي تقدير تعلقه به، فلا يكون العلم بوجوبه علي كل تقدير متوقفا علي شئ آخر، فهو واجب بالوجوب النفسي علي كل تقدير، كما هو واضح (1). انتهي ملخص ما أفاده من الإيراد الأول علي الكفاية.
وأنت خبير بأن لازم ما ذكره هناك من تسليم عدم الانحلال فيما لو كان وجوب الأقل غيريا، لا كالأجزاء: عدم جريان البراءة في الصورة الأولي من المقام بالنسبة إلي تقييد الصلاة بالوضوء، لأنه يعلم إجمالا بوجوبها إما مطلقا أو مشروطا بالوضوء، والمفروض عدم انحلال العلم الإجمالي هنا، لأنه لاشك في أن وجوب الوضوء علي تقدير كونه قيد للصلاة يكون غيريا، وليس كالأجزاء، فمقتضي ما ذكره في مبحث الأقل والأكثر عدم جريان البراءة بالنسبة إلي تقييد الصلاة به كما اختاره هنا.
ثم إنه لو قلنا بجريان البراءة بالإضافة إلي هذا التقييد، فلا يكون الإتيان بالوضوء لازما عند العقل، لأن وجوبه متردد بين الوجوب الذي يستحق العقوبة علي تركه وبين الوجوب الغيري الذي لا يكون كذلك، والمفروض عدم حجة للمولي بالنسبة إلي العقاب، فلا يحكم العقل بلزوم إتيانه أصلا، كما هو واضح لا يخفي.
هذا كله بالنسبة إلي الصورة الأولي.
وأما الصورة الثانية: فالأمر كما ذكره (قدس سره).
وأما الصورة الثالثة: فيرد عليها أنه كيف يمكن اجتماع العلم بوجوب الوضوء علي كل تقدير مع الشك في وجوب الصلاة؟! لما ذكره المحقق
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 4: 156 - 157.
(٦٦)
صفحهمفاتيح البحث: الصّلاة (3)، الوضوء (1)، الوجوب (4)

تنبيهات: التنبيه الأول: في كيفية الثواب والعقاب الأخروي

الخراساني اعتراضا علي الشيخ، وقد عرفت أنه (قدس سره) قد سلم الاعتراض في أمثال المقام مما يكون الوجوب غيريا، لا كالأجزاء، فالواجب في هذه الصورة الإتيان بالصلاة والوضوء معا.
تنبيهات التنبيه الأول: في كيفية الثواب والعقاب الأخروي بقي في المقام شئ، وهو: أنه هل يترتب العقاب والثواب علي فعل الواجب الغيري وتركه بعد الفراغ عن استحقاق الثواب والعقاب علي فعل الواجب النفسي وتركه؟ وإلا فالأمر فيه أيضا مورد إشكال، وينبغي بيان الحال فيه علي نحو الاختصار.
فنقول: لو كان الثواب عبارة عن الصور البهية التي تتمثل الأعمال الحسنة بتلك الصور، وتصير النفس بها مستعدة للكمالات، والعقاب عبارة عن الصور الموحشة التي تتمثل الأعمال القبيحة بتلك الصور الملازمة للنفس المبتلي بها ويكون لها مدخلية في انحطاط النفس ونقصانها، كما يقول به الأعاظم من الفلاسفة (1)، فلا إشكال في أنهما من لوازم العمل بحيث يمتنع الانفكاك عنه، لأنهما من الآثار الوضعية للأعمال الحسنة والقبيحة، ولا يعقل الانفكاك بينهما وبين تلك الصور، وحينئذ فلا يصح التعبير بالاستحقاق بعدما عرفت من استحالة الانفكاك، كما لا يخفي لو كان الثواب عبارة عما تدل عليه ظواهر
1 - مجموعة مصنفات شيخ الإشراق 2: 229 - 235، الحكمة المتعالية 9: 4 - 5 و 293 - 296.
(٦٧)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الوضوء (1)

في استحقاق الثواب علي الواجب الغيري

الآيات والأخبار، ولكن قلنا بكونه جعليا بمعني أنه قد جعل للعمل الفلاني مقدار مخصوص من الأجر والثواب، وللعمل الآخر مقدار كذلك من العقوبة، فلا إشكال في صحة التعبير بالاستحقاق، ولكنه لا يخفي أن ذلك إنما هو بالمقدار الذي دل الدليل عليه وقامت الحجة من قبل المولي علي ذلك المقدار، كما لا يخفي.
وأما لو لم نقل بجعلية الثواب والعقاب، فلا وجه للقول بالاستحقاق أصلا، فإنه كيف يمكن أن يستحق العبد - الذي يكون مملوكا لمولاه بجميع جهاته خصوصا إذا أعطاه من النعم الظاهرية والباطنية ما لا يحصي - علي مولاه شيئا في مقابل عمله القليل الذي لا يقابل بعض تلك النعم فضلا عن جميعها، كما هو واضح لا يخفي.
هذا كله في الواجبات النفسية.
في استحقاق الثواب علي الواجب الغيري وأما الواجبات الغيرية: فإن قلنا بأن الثواب عبارة عما يظهر من بعض الفلاسفة، فثبوته في الواجبات الغيرية وعدمه لا يكون له كثير ارتباط بالأصول، لأنه من العلم بالأشياء وحقائقها ولوازمها، كما لا يخفي، كما أنه لو قلنا بالوجه الثاني، فاللازم مراجعة الأدلة حتي يظهر أنه هل يكون الثواب علي فعلها مجعولا؟ كما ورد في بعض المقدمات، مثل: ما ورد في الذهاب إلي زيارة قبر الحسين عليه الصلاة والسلام من أنه لكل قدم كذا وكذا من الثواب (1).
١ - ثواب الأعمال: ١١٦ / ٣١، وسائل الشيعة ١٤: ٤٣٩، كتاب الحج، أبواب المزار وما يناسبه، الباب 41، الحديث 1.
(٦٨)
صفحهمفاتيح البحث: قبر الحسين (ع) (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)، الحج (1)
وأما بناء علي الوجه الأخير: فلا يخفي أنه لو قلنا بثبوته في الواجبات النفسية ولكن لا نسلم ترتبه علي الواجبات الغيرية، لأنه لا إشكال في أن الثواب والعقاب إنما يترتبان علي الإطاعة والمعصية، والامتثال والمخالفة، والأمر الغيري بعيد منهما بمراحل، لأنه لا يصلح للتحريك والداعوية أصلا، فإن المكلف إما أن يريد امتثال الأمر المتعلق بذي المقدمة بمعني أنه صار داعيا له ومحركا إلي الإتيان بها، وإما أن لا يريد الامتثال أصلا.
فعلي الأول يأتي بالمقدمة بعدما رأي توقف الإتيان بذي المقدمة عليها، ولو لم يكن الأمر الغيري متعلقا بها أصلا، فالإتيان بالمقدمة في هذه الصورة ليس لإطاعة الأمر الغيري وتحريكه المكلف إلي متعلقه، بل الإتيان به لتوقف المطلوب النفسي عليه.
وعلي الثاني لا يكون الأمر النفسي بالنسبة إليه داعيا فضلا عن الأمر الغيري.
وبالجملة فوجود الأمر الغيري وعدمه متساويان في الصورتين، فلا يكون له إطاعة حتي يترتب علي فعله الثواب وعلي تركه العقاب، كما هو واضح.
وتوهم: وجود الفرق بنظر العقل بين العبد الذي يأتي بمقدمات العمل ثم يعرضه بعض الموانع عن الإتيان بذي المقدمة - كالموت أو النسيان أو غيرهما من الموانع - وبين العبد الذي لا يأتي بمقدمة أصلا ثم يعرض له بعض تلك الموانع ويمنعه عن الإتيان بالمقدمة وذيها معا (1).
يدفعه أن ثبوت الفرق وإن كان بديهيا إلا أنه لا يوجب الفرق في المقام، فإن كلامنا إنما هو في استحقاق الثواب والعقاب علي فعل الواجب الغيري وتركه
1 - نهاية الأصول: 186.
صفحه(٦٩)

التنبيه الثاني: الإشكال في الطهارات الثلاث ودفعه

بمعني أنه لو منعه المولي من الثواب بعد الإتيان به، عد ظالما ومورد التقبيح العقلاء، كمن يمنع من أداء حق الغير إليه، وهذا لا فرق فيه بين الآتي بالواجب الغيري وتاركه أصلا، فإنه كيف يستحق العبد علي مولاه شيئا بعدما فرض أنه لم يأت بمطلوبه النفسي أصلا، كما هو واضح.
نعم يكون بينهما فارق لا من حيث الاستحقاق الذي يكون مورد النزاع في المقام، بل من حيث الممدوحية والمذمومية عند العقلاء، فإن العبد الذي يأتي بمقدمات الواجب يستحسنه العقلاء لكونه منقاد للمولي مريد للإتيان بمطلوباته وإطاعة أوامره، كما لا يخفي.
ومن هنا يظهر: أنه لا فرق بين ما لو كان العمل متوقفا علي مقدمات كثيرة وبين ما لو لم يكن إلا متوقفا علي بعض المقدمات، كالحج بالنسبة إلي الساكنين في البلاد البعيدة والقريبة من حيث استحقاق المثوبة علي فعل المقدمات وعدم الاستحقاق أصلا.
نعم يمكن أن يقال بازدياد الثواب علي نفس العمل فيما لو كان متوقفا علي مقدمات كثيرة لا ثبوته بالنسبة إلي المقدمات، كما لا يخفي.
التنبيه الثاني: الإشكال في الطهارات الثلاث ودفعه ثم إنه ربما يستشكل في الطهارات الثلاث بوجهين:
الأول: أنه لا ريب في ترتب الثواب عليها، وفي كونها عبادة مع أن الأمر الغيري لا يكون إلا توصليا ولا يترتب علي امتثاله الثواب (1).
ويرده: أنه لو كان المراد بترتب الثواب عليها استحقاق المكلف له
1 - مطارح الأنظار: 70 / السطر 18.
(٧٠)
صفحهمفاتيح البحث: المنع (1)
بالمعني المتقدم المتنازع فيه، فلا نسلم ثبوته فيها بعدما عرفت من أن الأمر الغيري لا يصلح للداعوية ولا يكون له إطاعة حتي يترتب عليه الثواب ويستحق علي تركه العقاب.
وإن كان المراد به جعل الثواب علي الطهارات الثلاث، فلا إشكال فيه، ولا اختصاص له بها، بل [لها] نظائر في التوصليات أيضا، مثل ما جعل من الثواب علي الذهاب إلي زيارة قبر الحسين (عليه السلام) لكل قدم كذا وكذا، مع أنه لا إشكال في كونه توصليا.
الثاني - وهو العمدة -: أنه لا إشكال في أن الطهارات الثلاث قد اعتبرت مقدمة للصلاة بنحو العبادية، وليس حالها كحال سائر المقدمات، كالستر والاستقبال وغيرهما في أن مطلق وجودها في الخارج قد اعتبرت مقدمة لها، وحينئذ فعباديتها مأخوذة في الرتبة السابقة علي تعلق الأمر الغيري بها، إذ لا يكاد يتعلق إلا بما يكون مقدمة بالحمل الشائع، والمفروض أن مقدميتها إنما هو في حال كونها عبادة، وحينئذ فنقول: إن كان المصحح لعباديتها هو تعلق الأمر الغيري بها، فيلزم الدور، لأن تعلقه بها متوقف علي كونها مقدمة الراجعة إلي كونها عبادة، فلو كانت عباديتها متوقفة علي تعلق الأمر الغيري بها يلزم توقف الشئ علي نفسه، كما هو واضح، وإن كان المصحح لعباديتها هو تعلق الأمر النفسي بذواتها، فهو فاسد، لوجوه ثلاثة:
الأول: أنه لا يتم في خصوص التيمم، لعدم تعلق الأمر الاستحبابي النفسي به قطعا.
الثاني: أنه كيف يمكن اجتماع الأمر الغيري مع الأمر الاستحبابي النفسي علي شئ واحد؟! فمع ثبوت الأول - كما هو المفروض - لايبقي مجال للثاني، كما لا يخفي.
(٧١)
صفحهمفاتيح البحث: قبر الحسين (ع) (1)، يوم عرفة (1)، الصّلاة (1)، الزيارة (1)، التيمّم (1)
الثالث: أنه من الواضح أنه يصح إتيان الطهارات الثلاث بقصد أمرها الغيري من دون التفات إلي رجحانها النفسي، بل يكون مغفولا عنه بالنسبة إلي أغلب الناس، فكيف يكون هو المحقق لعباديتها؟! كما لا يخفي.
وأجاب عن الإشكال بعض الأعاظم - كما في تقريراته - بما ملخصه أنه كما تكون الطهارات الثلاث بوصف عباديتها مقدمة للصلاة فكذلك تكون ذواتها مقدمة لها أيضا بمعني أن لها الدخل في إيجاد الصلاة.
وبعبارة أخري: الأمر الغيري المتعلق بها متقربا بها إلي الله تعالي ينبسط علي أجزاء متعلقه كانبساط الأمر النفسي علي أجزاء الواجب، فينحل إلي أوامر غيرية ضمنية، وحينئذ فتكون ذوات الأفعال في الطهارات الثلاث مأمورا بها بالأمر الضمني من ذلك الأمر الغيري، وإذا أتي بها بداعي ذلك الأمر الضمني يتحقق ما هو المقدمة، أعني الأفعال الخارجية المتقرب بها، وبذلك يسقط الأمر الضمني المتوجه إلي القيد بعد فرض كونه توصليا، لحصول متعلقه قهرا بامتثال الأمر الضمني المتعلق بذات الفعل (1). انتهي ملخصا.
أقول: يرد عليه: أنه كيف يكون الأمر الغيري مصححا للعبادية؟! بعدما عرفت من أنه لا يكون صالحا للداعوية أصلا، فإنه لا يكون الغرض منه إلا مجرد التوصل إلي حصول ذي المقدمة، فمتعلقه لا يكون إلا واجبا توصليا، وعلي تقدير كونه داعيا فهو إنما يدعو إلي متعلقه، لحصول المأمور به بالأمر النفسي، ولا يكفي ذلك في العبادية، فإشكال لزوم الدور وإن كان يرتفع بما ذكر إلا أن ما هي العمدة في المقام من الإيراد - وهو أنه كيف يكون الأمر الغيري مصححا لعبادية متعلقه؟! - يبقي علي حاله.
1 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 379.
(٧٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الصّلاة (2)، دولة العراق (1)

التنبيه الثالث: في منشأ عبادية الطهارات

ومنه يظهر بطلان ما ذكره المحقق النائيني - علي ما في التقريرات في مقام تصحيح عبادية الطهارات الثلاث - من أن المصحح لها ليس هو الأمر الغيري المتعلق بها، ولا الأمر النفسي المتعلق بذواتها، بل الأمر النفسي المتعلق بذي المقدمة حيث إنه ينبسط علي الأجزاء والشرائط، فالمصحح لعبادية الوضوء، المشروطة به الصلاة هو المحقق لعبادية الفاتحة التي هي جزء لها (1).
وجه البطلان: ما ظهر مما تقدم، وهو أن الأمر الضمني المتعلق بالجزء أو الشرط لا يكفي في عباديتهما أصلا لو سلمنا ذلك بعدما كان المقصود منه حصول المجموع أو المشروط، كما لا يخفي.
التنبيه الثالث: في منشأ عبادية الطهارات والحق في المقام أن يقال: إن عبادية الطهارات الثلاث ليست لأجل الأمر الغيري المتعلق بها، بل إنما هو من جهة قابليتها وصلوحها للعبادة، كما هو المسلم من الشرع مع الإتيان بها لله وبداعي التقرب إليه.
توضيحه: أنه لا يشترط في عبادية الأشياء تعلق الأمر النفسي بها، ولا الأمر الغيري، بل يكفي في صيرورة شئ عبادة كونه صالحا لها مع الإتيان بها بداعي التقرب، ومن هنا يقال بعدم الفرق بين التيمم الذي لا يكون مورد الفتوي الأصحاب باستحبابه النفسي وبين الوضوء والغسل المستحبين، كما أفتوا به، فإن مجرد كونه منطبقا عليه بعض العناوين الحسنة في حال الإتيان به مقدمة للصلاة يكفي في صلاحيتها للعبادة في ذلك الحال، ولا يشترط تعلق الأمر به أصلا، وأما في غير ذلك الحال فعدم عباديته إما لأجل عدم انطباق تلك العناوين
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 228.
(٧٣)
صفحهمفاتيح البحث: الباطل، الإبطال (2)، الغسل (1)، الصّلاة (1)، التيمّم (1)، الوضوء (2)
الحسنة عليه في غير ذلك الحال أو لمزاحمتها من بعض العناوين الغير الحسنة المخرجة له عن العبادية، كما لا يخفي.
والدليل عليه ما هو المرتكز في أذهان المتشرعة عند الإتيان بالطهارات الثلاث، فإنهم لا يلتفتون إلي استحبابها النفسي أصلا.
وما ذكره في الإشكال: من كفاية الإتيان بها بداعي الأمر الغيري المتعلق بها إن أريد الإتيان بها كالستر والاستقبال للصلاة بمعني أنه كما يكفي تحصيل الستر لأجل الصلاة كذلك يكفي مجرد الإتيان بالوضوء لأجل الصلاة.
ففيه: أنه لا يكون بينهما فرق حينئذ، فيكون الوضوء باطلا، مضافا إلي ما نراه من المتشرعة من اختلاف نحوي الإتيان بالوضوء وبالستر عندهم، فإن في حال الإتيان بالأول لهم حالة أخري لا توجد عند الإتيان بالثاني.
فظهر أن عبادية الطهارات الثلاث إنما هو لكونها صالحة للعبادة مع الإتيان بها بداعي القربة من دون توقف علي الأمر النفسي ولا الغيري أصلا، ولذا نقول كما قالوا: بعبادية التيمم في حال الإتيان به مقدمة للصلاة، مع أنه لا يكون متعلقا لأمر نفسي، كما ذهبوا إليه، ولا لأمر غيري، كما سنحققه من عدم وجوب المقدمة، فانتظر.
ثم إن بما ذكرناه في تحقيق عبادية الطهارات الثلاث يرتفع جميع المحذورات المتقدمة والإيرادات السابقة، فإنه لايبقي حينئذ مجال للإشكال في ترتب الثواب عليها، فإن ترتبه عليها ليس لأجل تعلق الأمر الغيري بها، بل لكونها مطلوبة نفسا وعبادة ذاتا، والكلام إنما هو بعد الفراغ عن ترتب الثواب علي الواجبات النفسية، فلا وجه حينئذ للإشكال أصلا، كما هو واضح لا يخفي.
وكذا يرتفع به محذور الدور، فإن الأمر الغيري وإن تعلق بما تكون عبادة، إلا أن عباديتها لا تتوقف علي الأمر الغيري أصلا، كما ظهر بما حققناه لك.
(٧٤)
صفحهمفاتيح البحث: الصّلاة (4)، التيمّم (1)، الوضوء (1)
وما ذكره العراقي (قدس سره) في دفع محذور الدور: من كلامه المتقدم (1) وإن كان يكفي في دفع ذلك المحذور إلا أنه لا يرتفع به ما هي العمدة في المقام من الإشكال، وهو أنه كيف يمكن أن يكون الأمر الغيري مصححا لعبادية متعلقه؟!
كما لا يخفي، كما أنه بما ذكرنا يرتفع سائر المحذورات، فإنك قد عرفت أن عبادية التيمم ليس لأجل تعلق الأمر النفسي الاستحبابي به حتي يقال بأنهم لا يقولون به، وكذلك لايبقي مجال للإشكال باستحالة اجتماع الأمر الغيري مع الأمر النفسي علي شئ واحد، فإنه قد ظهر بما ذكرنا أن المأمور به بالأمر الأول هو ما يكون متعلقا للأمر الثاني بوصف كونه كذلك، وبعبارة أخري: العبادة المستحبة جعلت مقدمة ومتعلقة للأمر الغيري، نظير ما إذا نذر الإتيان بصلاة الليل مثلا، فإن الوفاء بالنذر وإن كان واجبا إلا أنه لا ينافي استحباب صلاة الليل ولا يخرجها عنه إلي الوجوب، بل يجب عليه الإتيان بها بما أنها مستحبة، كما لا يخفي.
وأما كفاية الإتيان بالطهارات بداعي الأمر الغيري المتعلق بها فقد عرفت ما فيه من أنه لو كان المراد كفاية الإتيان بها للصلاة، فلا نسلم صحتها وكون الإجماع منعقدا عليها، لما عرفت من الفرق عند المتشرعة في مقام الإتيان بها أو بسائر المقدمات غير العبادية.
ثم إن ما يظهر من بعض: من تصحيح عبادية الطهارات الثلاث مع قطع النظر عن تعلق الأمر الغيري بها بأن الأمر المتعلق بالصلاة، كما أنه يدعو إلي متعلقها كذلك له نحو داعوية إلي مقدماتها، فعبادية الطهارات إنما هو لاعتبار الإتيان بها بتلك الداعوية، لا كما ذكره النائيني (قدس سره) من انبساط الأمر النفسي علي
1 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 379.
(٧٥)
صفحهمفاتيح البحث: صلاة الليل (1)، يوم عرفة (3)، الإستحباب (1)، دولة العراق (2)، الصّلاة (1)، التيمّم (1)
المقدمات أيضا حتي تكون عباديتها لأجل تعلق الأمر النفسي الضمني بذواتها (1)، بل نقول: إن متعلق الأمر النفسي هي نفس الصلاة، ولكن لا يخلو من الداعوية إلي المقدمات أيضا.
والفرق بين الطهارات وغيرها من المقدمات أن المعتبر في صحتها الإتيان بها بتلك الداعوية، بخلاف سائر المقدمات، فإنه لا يعتبر في صحتها هذا المعني.
نعم لو أتي بها أيضا بذلك الداعي تصير عبادة، ويترتب عليه الثواب، كما هو الشأن في جميع الواجبات التوصلية.
فجوابه أظهر من أن يخفي، فإنه كيف يمكن أن يكون الأمر المتعلق بالصلاة داعيا إلي مقدماتها مع ما ثبت من أن الأمر لا يدعو إلا إلي متعلقه، والمفروض عدم كون المقدمات متعلقة للأمر المتعلق بذيلها، كما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) ودخول التقيدات في متعلق الأمر النفسي لا يستلزم كون القيود أيضا كذلك، وحينئذ فلا وجه لكون الأمر بذي المقدمة داعيا إليها أصلا، كما هو أظهر من أن يخفي.
فالتحقيق في عبادية الطهارات الثلاث ما ذكرناه لك، وعليه فكلما توضأ مثلا بداعي الأمر الاستحبابي المتعلق به سواء كان متعلقا للأمر الغيري أيضا - كما إذا توضأ بعد دخول الوقت - أو لم يكن - كما إذا توضأ قبل دخوله يكون وضوؤه صحيحا يجوز الإتيان بجميع الغايات المشروطة بها، كما أنه لو توضأ بداعي الأمر الغيري فقط من دون التوجه إلي عباديته يكون فاسدا مطلقا قبل الوقت وبعده.
ثم إنه قد أجيب عن إشكال الطهارات الثلاث وأنها كيف تكون عبادة مع
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 228.
(٧٦)
صفحهمفاتيح البحث: الصّلاة (1)، الجواز (1)

الأمر السابع: ما هو الواجب في باب المقدمة؟

كونها متعلقة للأمر الغيري بوجوه شتي بعضها يرجع إلي ما ذكرناه بنحو من التصرف والتأويل، وبعضها الآخر يظهر بطلانها مما ذكرنا في هذا المقام، وعليك بالتأمل التام في كلمات الأعلام ليظهر لك الصحيح عن سقيم المرام، فإن المقام من مزال الأقدام، فتأمل جيدا.
الأمر السابع ما هو الواجب في باب المقدمة؟
هل الواجب في باب المقدمة بناء علي ثبوت الملازمة هو ذات المقدمة بلا مدخلية شئ آخر، أو المقدمة بشرط إرادة المكلف لذيها عند إتيانها، كما ربما ينسب إلي صاحب المعالم (قدس سره) (1)، أو بشرط قصد التوصل بها إليه لا مطلقا، سواء ترتب عليه ذو المقدمة في الخارج أم لم يترتب، كما ربما نسب ذلك إلي الشيخ الأنصاري (قدس سره) (2)، أو بشرط إيصالها إلي ذي المقدمة وترتبه عليها في الخارج بحيث إذا ترتب عليها يكشف عن وقوعها علي صفة الوجوب، كما ذهب إليه صاحب الفصول (3)؟ وجوه وأقوال، ولابد من النظر في كل واحد منها ليظهر صحته أو سقمه.
حول ما نسب إلي صاحب المعالم فنقول: ربما يورد علي صاحب المعالم:
أولا: بأن وجوب المقدمة تبع لوجوب ذيها من حيث الإطلاق أو
١ - مطارح الأنظار: ٧٢ / السطر ١، كفاية الأصول: ١٤٢.
٢ - كفاية الأصول: ١٤٣، مطارح الأنظار: 72 / السطر 9.
3 - الفصول الغروية: 81 / السطر 4.
(٧٧)
صفحهمفاتيح البحث: الوجوب (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (2)

حول ما نسب إلي صاحب المعالم

كونها متعلقة للأمر الغيري بوجوه شتي بعضها يرجع إلي ما ذكرناه بنحو من التصرف والتأويل، وبعضها الآخر يظهر بطلانها مما ذكرنا في هذا المقام، وعليك بالتأمل التام في كلمات الأعلام ليظهر لك الصحيح عن سقيم المرام، فإن المقام من مزال الأقدام، فتأمل جيدا.
الأمر السابع ما هو الواجب في باب المقدمة؟
هل الواجب في باب المقدمة بناء علي ثبوت الملازمة هو ذات المقدمة بلا مدخلية شئ آخر، أو المقدمة بشرط إرادة المكلف لذيها عند إتيانها، كما ربما ينسب إلي صاحب المعالم (قدس سره) (1)، أو بشرط قصد التوصل بها إليه لا مطلقا، سواء ترتب عليه ذو المقدمة في الخارج أم لم يترتب، كما ربما نسب ذلك إلي الشيخ الأنصاري (قدس سره) (2)، أو بشرط إيصالها إلي ذي المقدمة وترتبه عليها في الخارج بحيث إذا ترتب عليها يكشف عن وقوعها علي صفة الوجوب، كما ذهب إليه صاحب الفصول (3)؟ وجوه وأقوال، ولابد من النظر في كل واحد منها ليظهر صحته أو سقمه.
حول ما نسب إلي صاحب المعالم فنقول: ربما يورد علي صاحب المعالم:
أولا: بأن وجوب المقدمة تبع لوجوب ذيها من حيث الإطلاق أو
١ - مطارح الأنظار: ٧٢ / السطر ١، كفاية الأصول: ١٤٢.
٢ - كفاية الأصول: ١٤٣، مطارح الأنظار: 72 / السطر 9.
3 - الفصول الغروية: 81 / السطر 4.
(٧٧)
صفحهمفاتيح البحث: الوجوب (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (2)
الاشتراط، فكيف يمكن أن يكون وجوب ذي المقدمة مطلقا غير مشروط بإرادته ووجوب المقدمة مشروطا بإرادته.
وثانيا: باستحالة أن يكون البعث المتعلق بشئ مشروطا بإرادة ذلك الشئ، إذ مع تحقق الإرادة يكون الإتيان بالفعل مسببا عنها لا عن البعث، ومع عدم تحققها يكون المفروض عدم ثبوته بعد كونه مشروطا بالإرادة.
ودعوي: أن البعث هنا مشروط بإرادة ذي المقدمة لا بإرادة متعلقه الذي عبارة عنها.
مدفوعة: باستحالة انفكاك إرادة ذي المقدمة عن الإرادة المتعلقة بها فمع كونه مشروطا بها يلزم اللغوية أيضا بعد عدم انفكاكها عنها، كما لا يخفي (1).
هذا، ولكن لا يخفي أن عبارة المعالم (2) لا تفيد شرطية الإرادة أصلا، بل مفادها هو ثبوت الوجوب في حال كون المكلف مريد للفعل المتوقف عليها، فلا يكون الوجوب مشروطا بإرادته، بل إنما هو ثابت في حالها علي نحو القضية الحينية لا المشروطة، فلا يرد عليه الإشكالان المذكوران.
هذا، مضافا إلي أن الإيراد الثاني فاسد ولو قلنا بذلك، لأن كون البعث مشروطا بإرادة ما يترشح منه الإرادة المتعلقة بالمقدمة بحيث تكون في مرتبة متأخرة عنها استحالته غير واضح، لأن البعث إنما يقع في المرتبة المتقدمة علي إرادة متعلقه، وهذا غير معلوم الاستحالة.
مضافا إلي أن هذا الإيراد لا يختص بخصوص هذا القول، بل يرد علي جميع القائلين بثبوت الملازمة، كما لا يخفي.
1 - مطارح الأنظار: 72 / السطر 5.
2 - معالم الدين: 74 / السطر 3.
(٧٨)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (4)، الوجوب (1)

تحقيق فيما نسب إلي الشيخ الأنصاري (قدس سره)

تحقيق فيما نسب إلي الشيخ الأنصاري (قدس سره) ثم إن ما نسب إلي الشيخ الأنصاري (قدس سره) من أن الملازمة إنما هي بين ذي المقدمة وبين المقدمة التي قصد بها التوصل إليه بحيث يكون هذا القول في عرض سائر الأقوال في باب المقدمة ليست النسبة إليه في محله، فإن منشأ النسبة إنما هو ملاحظة التقريرات المنسوبة إليه، ونحن بعد ملاحظة هذا المقام منها صدرا وذيلا لم نعرف وجها لهذه النسبة أصلا، فإن المقرر بعد حكاية عبارة المعالم والإشكال فيها بالوجهين المتقدمين شرع في أنه هل يعتبر في امتثال الأمر الغيري قصد التوصل بها إلي ذيها أم لا، واختار الأول.
ثم ذكر في تحقيقه أن الأمر الغيري لا يستلزم امتثالا أصلا، بل المقصود منه مجرد التوصل به إلي الغير، وقضية ذلك هو قيام الواجب مقامه وإن لم يكن المقصود منه التوصل به إلي الواجب، كما إذا أمر المولي عبده بشراء اللحم من السوق، الموقوف علي تحصيل الثمن، ولكن العبد حصل الثمن لا لأجل شراء اللحم، بل لغرض آخر، ثم بدا له الامتثال بأمر المولي، فيكفي له في مقام المقدمية الثمن المذكور من غير إشكال، إنما الإشكال في المقدمات العبادية التي يجب وقوعها علي قصد القربة، فهل يصح في وقوعها علي جهة الوجوب أن لا يكون الآتي بها قاصد للإتيان بذيلها أم يعتبر؟
ثم فرع عليه بعض الفروعات، وذكر أنه قد نسب إلي المشهور عدم الاعتبار.
ثم استند إلي ما يقرب مرادهم، ثم استشكل عليه بأن الإنصاف فساد ذلك الوجه، لأن النزاع إنما هو فيما إذا أريد الامتثال بالمقدمة، وذكر أنه لا إشكال
صفحه(٧٩)
في لزوم قصد عنوان الواجب إذا أريد الامتثال به وإن لم يجب الامتثال (1)، إلي آخر ما ذكره، فإن الناظر إلي هذه العبارات يقطع بأن النزاع في اعتبار قصد التوصل إلي ذي المقدمة وعدمه إنما هو فيما إذا أريد الامتثال بالمقدمة، ومعني الامتثال - كما صرح به - أن يكون الداعي إلي إيجاد الفعل هو الأمر (2)، فلا ربط لهذا النزاع بالمقام أصلا، فإن الكلام هنا إنما هو في الملازمة وفي أن الأمر الغيري هل يتعلق بذات المقدمة أو مع قيد آخر.
ولا يخفي أن التأمل في عبارة التقريرات يعطي أن الواجب هو ذات المقدمة، كيف وقد صرح في جواب المعالم بأن وجوب المقدمة إنما يتبع في الإطلاق والاشتراط وجوب ذيها، وقد صرح أيضا بأن الحاكم بالوجوب الغيري ليس إلا العقل، وليس الملحوظ عنده في عنوان حكمه بالوجوب إلا عنوان المقدمية والموقوف عليه، وهنا بعض القرائن الأخر يظهر للناظر المتأمل.
وكيف كان فمع قطع النظر عن انتساب هذا القول إلي الشيخ (قدس سره) فلابد من النظر فيه، وأنه هل يمكن الذهاب إليه أم لا؟
فنقول: اعتبار قصد التوصل في المقدمة يمكن علي وجوه:
الأول: أن يكون الوجوب الناشئ من حكم العقل بالملازمة مشروطا بما إذا قصد التوصل بها إليه بمعني أنه في غير هذه الصورة لا تكون المقدمة واجبة.
الثاني: أن يكون الوجوب ثابتا لها في هذا الحين، والفرق بين الصورتين الفرق بين القضية المشروطة والحينية.
1 - مطارح الأنظار: 72 / السطر 9.
2 - نفس المصدر: السطر 24.
(٨٠)
صفحهمفاتيح البحث: الوجوب (2)
الثالث: أن يكون قصد التوصل مأخوذا في متعلق الأمر الغيري بمعني أن يكون قيد للواجب لا للوجوب، كما في الصورتين المتقدمتين.
إذا عرفت ذلك، فنقول: كل هذه الاحتمالات فاسدة، بل لا يمكن اعتبار قصد التوصل علي غير وجه الأخير من الصور المتقدمة.
أما الوجه الأول: فيرد عليه - مضافا إلي ما عرفت من أن وجوب المقدمة يتبع في الإطلاق والاشتراط وجوب ذيها - أنه لا يعقل اشتراط الوجوب بخصوص قصد التوصل الغير المنفك عن إرادة متعلق الوجوب، فيرجع الأمر بالأخرة إلي اشتراط الوجوب بإرادة متعلقه، فيصير الوجوب مباحا، كما عرفت فيما أجاب به التقريرات عن عبارة المعالم، بل نقول بأن الاستحالة هنا أوضح مما يوهمه عبارة المعالم، لأن الوجوب بناء علي قوله لا يكون مشروطا بإرادة متعلقه، بل بإرادة ذي المقدمة المتقدمة علي إرادة المقدمة المتعلقة للوجوب الغيري، وأما بناء علي هذا القول يكون الوجوب مشروطا بإرادة متعلقه.
ثم إن هذا الجواب يجري علي الوجه الثاني أيضا.
وأما الوجه الثالث: الراجع إلي اعتبار قصد التوصل قيد للواجب بحيث يجب تحصيله كسائر القيود المعتبرة في الواجب فهو وإن كان ممكنا في مقام الثبوت إلا بناء علي ما اعتقده صاحب الكفاية من أن الإرادة لا تكون من الأمور الاختيارية (1)، فلا يعقل أن تكون متعلقة للطلب أصلا.
ولكن لا يخفي فساد هذا الاعتقاد فإنه يمكن للإنسان أن يوجد القصد المتعلق ببعض الأشياء، نظير أنه إذا سافر الإنسان إلي بلد لا يريد إقامة عشرة أيام فيه، لعدم كون الإقامة فيها ذا مصلحة له إلا أنه يعرض له بعض الأمور
١ - كفاية الأصول: ٨٩.
(٨١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (3)، الوجوب (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

القول في المقدمة الموصلة

المتفرعة علي قصدها، فيقصد، فإقامة العشرة وإن لم تكن محبوبة له بالذات إلا أنها تصير محبوبة بالعرض لمحبوبية تلك الأمور المتوقفة علي قصدها، مثل ما إذا كانت الصلاة غير المقصورة محبوبة له دائما، فيريد الإقامة لذلك.
وبالجملة، فكون الإرادة من الأمور غير الاختيارية مما لم يعلم له وجه أصلا، كيف والمعتبر في صحة العبادات أن يكون الداعي إلي اتيانها قصد التقرب، فلو لم يكن القصد أمرا اختياريا، لم يكن وجه لاعتباره فيها، كما لا يخفي فهذا الوجه الراجع إلي أخذ قصد التوصل قيد للواجب وإن كان ممكنا في مقام الثبوت إلا أنه لا دليل علي إثباته، كما سيأتي وجهه عند التكلم في مقام الإثبات إن شاء الله تعالي، فانتظر.
هذا كله فيما يتعلق باعتبار قصد التوصل في وجوب المقدمة.
القول في المقدمة الموصلة حول ما نسب إلي صاحب الفصول وأما اعتبار الإيصال إليه - كما يظهر من صاحب الفصول (1) - فإن كان هذا القيد شرطا للوجوب بمعني أنه لا يجب المقدمة إلا مع الإيصال المتوقف علي تحقق ذيها الراجع إلي أن وجوب المقدمة إنما هو بعد الإتيان بذيلها، المتوقف عليها، فاستحالته أظهر من أن يخفي، فإنه من قبيل تحصيل الحاصل.
والظاهر أنه لا يقول به صاحب الفصول (قدس سره) بل مراده (قدس سره) إنما هو اعتبار هذا القيد في متعلق الوجوب، لا أن يكون شرطا للوجوب، بل قيد للواجب بحيث
1 - الفصول الغروية: 81 / السطر 4.
(٨٢)
صفحهمفاتيح البحث: الصّلاة (1)، الوجوب (2)

حول ما نسب إلي صاحب الفصول

المتفرعة علي قصدها، فيقصد، فإقامة العشرة وإن لم تكن محبوبة له بالذات إلا أنها تصير محبوبة بالعرض لمحبوبية تلك الأمور المتوقفة علي قصدها، مثل ما إذا كانت الصلاة غير المقصورة محبوبة له دائما، فيريد الإقامة لذلك.
وبالجملة، فكون الإرادة من الأمور غير الاختيارية مما لم يعلم له وجه أصلا، كيف والمعتبر في صحة العبادات أن يكون الداعي إلي اتيانها قصد التقرب، فلو لم يكن القصد أمرا اختياريا، لم يكن وجه لاعتباره فيها، كما لا يخفي فهذا الوجه الراجع إلي أخذ قصد التوصل قيد للواجب وإن كان ممكنا في مقام الثبوت إلا أنه لا دليل علي إثباته، كما سيأتي وجهه عند التكلم في مقام الإثبات إن شاء الله تعالي، فانتظر.
هذا كله فيما يتعلق باعتبار قصد التوصل في وجوب المقدمة.
القول في المقدمة الموصلة حول ما نسب إلي صاحب الفصول وأما اعتبار الإيصال إليه - كما يظهر من صاحب الفصول (1) - فإن كان هذا القيد شرطا للوجوب بمعني أنه لا يجب المقدمة إلا مع الإيصال المتوقف علي تحقق ذيها الراجع إلي أن وجوب المقدمة إنما هو بعد الإتيان بذيلها، المتوقف عليها، فاستحالته أظهر من أن يخفي، فإنه من قبيل تحصيل الحاصل.
والظاهر أنه لا يقول به صاحب الفصول (قدس سره) بل مراده (قدس سره) إنما هو اعتبار هذا القيد في متعلق الوجوب، لا أن يكون شرطا للوجوب، بل قيد للواجب بحيث
1 - الفصول الغروية: 81 / السطر 4.
(٨٢)
صفحهمفاتيح البحث: الصّلاة (1)، الوجوب (2)
يجب تحصيله.
وقد اورد عليه بوجوه من الإيراد:
منها: أنه يلزم الدور بناء عليه، وتقريبه: أنه لا إشكال في توقف ذي المقدمة عليها، لأن المفروض كونها مقدمة له، فلو كان الإيصال مأخوذا فيها، يلزم توقف المقدمة عليها أيضا، لأن حصول القيد متوقف عليها بلا إشكال، وهذا هو الدور محضا (1).
والجواب أن ما يتوقف ذو المقدمة عليه هو ذات المقدمة، لأنه لا مدخلية للإيصال في مقدميتها، بل إنما هو مأخوذ في متعلق الواجب، وما يتوقف علي ذي المقدمة هو الإيصال لا ذات المقدمة، فالموقوف علي ذي المقدمة لا يتوقف هو عليها، بل يتوقف علي ذاتها، كما هو أوضح من أن يخفي.
منها: لزوم التسلسل، وتقريبه أن يقال: إن المقدمة حينئذ تكون مركبة من أمرين: أحدهما: الذات، والآخر: قيد التوصل، فتكون الذات مقدمة لحصول المقدمة المركبة، كما هو الشأن في جميع أجزاء المركب.
مثلا: لو كان الوضوء الموصل إلي الصلاة مقدمة، والسير الموصل إلي الحج مقدمة، فذات الوضوء والسير يكون مقدمة للوضوء الموصل والسير الموصل، وحينئذ فيعتبر قيد الإيصال فيه أيضا، فيلزم التسلسل (2).
والجواب: أن مدخلية قيد الإيصال إنما هو في تعلق الوجوب إلي المقدمة بمعني أنه لا يتعلق الوجوب بها إلا مع ذلك القيد لا بدونه، لا أن يكون القيد دخيلا في مقدمية المقدمة وتوقف ذيها عليها، وحينئذ فليس هنا إلا ذات
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 290.
2 - نفس المصدر.
(٨٣)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (3)، الصّلاة (1)، الوضوء (2)
المقدمة وقيد الإيصال، والأولي لا يتعلق بها الوجوب إلا مع انضمام الثاني إليه، فمن أين يلزم التسلسل؟ كما هو واضح.
منها: أنه يلزم أن يكون ذو المقدمة متعلقا للوجوب النفسي وللوجوب الغيري، بل للوجوبات الغيرية المتعددة حسب تعدد المقدمات.
أما تعلق الوجوب النفسي إليه: فلأنه المفروض.
وأما تعلق الوجوب الغيري: فلأنه لا إشكال في أن تحقق قيد الإيصال موقوف علي ذي المقدمة، فيتعلق بها الوجوب الغيري أيضا (1).
والجواب: أن توقف عنوان الإيصال علي ذي المقدمة وإن كان مسلما إلا أن تعلق الأمر الغيري إليها ممنوع بعد أنه يعتبر عند القائل بهذا القول الإيصال إلي ذي المقدمة، ومن المعلوم امتناع أن يكون الشئ موصلا إلي نفسه، والإيصال إلي المقدمة الموصولة لم يكن معتبرا عند القائل أصلا.
وبالجملة، فلو كان المراد تعلق الأمر الغيري بذي المقدمة من دون قيد، فهو ممنوع عند القائل بعد اعتباره في متعلق الأمر الغيري قيد الإيصال، كما هو واضح.
وإن كان المراد تعلقه به مع هذا القيد، فالإيصال إلي المقدمة الموصلة غير مقصود له، والإيصال إلي نفسها لا يعقل، فكيف يلزم تعلق الأمر الغيري بل الأوامر الغيرية بذي المقدمة؟!
منها: ما اورد عليه في الكفاية من أن القول بالمقدمة الموصلة يستلزم إنكار وجوب المقدمة في غالب الواجبات، والقول بوجوب خصوص العلة التامة في خصوص الواجبات التوليدية.
1 - نهاية الأصول: 195.
(٨٤)
صفحهمفاتيح البحث: الوجوب (1)
أما الاختصاص بالأولي: فلأنه لا يعقل ترتب الممكن علي غير علته التامة ووجوده بدونها.
وأما الاختصاص بالثانية - مع أن وجود كل ممكن بدون علته التامة مستحيل - أن مبادئ اختيار الفعل الاختياري من أجزاء العلة التامة، وهي لا تكاد تتصف بالوجوب، لعدم كونها من الأمور الاختيارية، وإلا لتسلسل.
وبالجملة، فالإيصال إنما هو في خصوص الواجبات التوليدية، وأما في غيرها فمع اجتماع جميع الأجزاء يمكن أن لا يقع لتوسط الإرادة والاختيار، كما هو واضح (1).
والجواب: أن مراده (قدس سره) بالإيصال ليس ما يترتب عليه ذو المقدمة قهرا حتي يورد عليه بما ذكر، بل مراده منه هو ترتب الفعل عليه ولو بواسطة أو وسائط بمعني أن مطلق المقدمة لا يتعلق به الوجوب، بل بالمقدمة التي يتعقبها الإتيان بذي المقدمة، سواء كانت علة تامة لحصوله قهرا أم لم تكن.
هذا مضافا إلي ما عرفت من أن الإرادة من الأمور الاختيارية التي يمكن أن يتعلق بها الطلب والبعث، كيف ولو قلنا باستحالة تعلق الطلب بها، فلا تكون متعلقة للأمر الغيري حتي بناء علي وجوب مطلق المقدمة، فمن أين يلزم الإرادة التي هي من أجزاء العلة التامة، كما هو واضح.
منها: ما اورد عليه في الكفاية أيضا، وحاصله أنه لو كان معتبرا فيه الترتب، لما كان الطلب يسقط بمجرد الإتيان بها من دون انتظار لترتب الواجب عليها مع أن الطلب لا يكاد يسقط إلا بالموافقة أو بالمخالفة أو بارتفاع موضوع
١ - كفاية الأصول: ١٤٥ - 146.
(٨٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الإختيار، الخيار (1)، الوجوب (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

ما أفاده المحقق الحائري والعراقي في المقام

التكليف، ولا يكون الإتيان بالمقدمة بالضرورة من هذه الأمور غير الموافقة (1).
والجواب: أنا نمنع السقوط بمجرد الإتيان بذات المقدمة، لأن القائل يقول بأن سقوطه متوقف علي ضميمة قيده إليه، فلا يسقط إلا بعد الإتيان بذي المقدمة، كما أن الأمر بالصلاة لا يسقط إلا مع الإتيان بجزئه الأخير أيضا، وهذا واضح لا إشكال فيه.
فانقدح من جميع ما ذكر أنه لا يلزم محال من الأخذ بأحد الأقوال الثلاثة الواقعة في مقابل القول بوجوب مطلق المقدمة في مقام الثبوت بناء علي أن يكون القيد الزائد دخيلا في متعلق الوجوب، لا أن يكون شرطا له، كما عرفت.
ما أفاده المحقق الحائري والعراقي في المقام ثم إنه لو سلمنا استلزام كلام الفصول للمحاذير المتقدمة، فلا يدفعها ما ذكره بعض من الأعاظم في تقريب كلامه وتوجيه مرامه بحيث لا يورد عليه بشئ حيث قال (قدس سره) في كتابه المسمي بالدرر ما ملخصه: أن الطلب متعلق بالمقدمات في لحاظ الإيصال لا مقيدا به بمعني أن الآمر بعد تصور المقدمات بأجمعها يريدها بذواتها، لأنها بتلك الملاحظة لا تنفك عن المطلوب الأصلي، ولو لاحظ مقدمة منفكة عما عداها، لا يريدها جزما، لأن مطلوبيتها إنما هو في ظرف ملاحظة باقي المقدمات معها، فالإرادة لا تتعلق بها بنحو الإطلاق حتي تشمل حال انفكاكها عن باقي المقدمات.
ثم قال: وهذا الذي ذكرنا مساوق للوجدان، ولا يرد عليه ما ورد علي
١ - كفاية الأصول: ١٤٦.
(٨٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
القول باعتبار الإيصال قيدا وإن اتحد معه في الأثر (1).
ونظير هذا ما يظهر من التقريرات المنسوبة إلي العراقي (قدس سره) حيث قال المقرر ما ملخصه: إن الواجب ليس مطلق المقدمة ولا خصوص المقدمة المقيدة بالإيصال، بل الواجب هو المقدمة في ظرف الإيصال علي نحو القضية الحينية، وبعبارة أخري: الواجب هي الحصة التوأمة مع سائر المقدمات الملازم لوجود ذيها.
وتوضيحه أن يقال: حيث إن الغرض من وجوب المقدمة ليس إلا التوصل إلي ذي المقدمة، ومن الواضح أن هذا إنما يترتب علي مجموع المقدمات، لا كل واحد علي سبيل الاستقلال وإن كان كل واحد منها يتوقف عليه المطلوب الأصلي إلا أن المحبوبية إنما يتعلق به مع انضمامه إلي سائر المقدمات، ونتيجة ذلك هو تعلق أمر غيري واحد بمجموع المقدمات بحيث ينبسط علي كل واحد منها كانبساط الوجوب في الواجب النفسي علي أجزائه، وكما أن متعلق الأمر النفسي الضمني في الواجبات النفسية إنما هو كل واحد من الأجزاء لا مطلقا ولا مقيدا بانضمام سائر الأجزاء إليه، بل الحصة المقارنة لباقي الأجزاء، فكذلك الأمر هنا بلا تفاوت (2). انتهي ملخص موضع الحاجة من كلامه.
ولكن لا يخفي أن المحذورات المتقدمة لو سلم لا تدفع بما ذكره المحققان المتقدمان، لأن لحاظ الإيصال إما أن يكون دخيلا في المطلوب ويوجب تضييقا بالنسبة إليه، فهذا بعينه ما ذكره صاحب الفصول، وإما أن لا يكون كذلك، فهذا
١ - درر الفوائد، المحقق الحائري: 119.
2 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 389 / السطر 10.
(٨٧)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (1)، دولة العراق (2)، الوجوب (1)، الحاجة، الإحتياج (1)
بعينه القول بوجوب مطلق المقدمة، وأخذه علي نحو القضية الحينية لا يزيد علي أخذه مطلقا، لأن معناها هو أن ترتب الحكم علي الموضوع لا يقيد بوقت دون وقت، وذكر الحين إنما هو لتعريف الموضوع والإشارة إليه من دون مدخلية له في ترتب الحكم أصلا، مثل أن يقال: كل من كان في الدار فهو عالم مثلا، فإن الكون في الدار إنما اخذ عنوانا مشيرا إلي الموضوع ومعرفا له لا لكونه دخيلا في ثبوت المحمول.
ومن هنا يظهر بطلان ما تقدم من التقريرات، مضافا إلي أنه كيف يمكن الجمع بين أخذ الإيصال بنحو القضية الحينية التي عرفت عدم الفرق بينها وبين القضية المطلقة من حيث إطلاق الموضوع أصلا وبين كون متعلق الأمر الغيري هي الحصة المقارنة لباقي المقدمات الملازم لوجود ذيها مع أن الطبيعة المطلقة لا تصير حصة إلا بانضمام بعض القيودات إليها، كما هو أظهر من أن يخفي.
وغاية ما يمكن أن يقال في تقريب كلام الفصول أن يقال: حيث إن الغرض من وجوب المقدمة وغايته ليس إلا التوصل إلي المطلوب الأصلي ففي متعلقه نحو من التضيق من ناحية علته الغائية لا أن يكون مقيدا به ولا أن يكون مطلقا بالنسبة إليه، كما هو الشأن في سائر الأشياء بالنسبة إلي العلل الغائية لها ولكن لا يخفي أن هذا يرجع إلي التقييد لما سنذكره من أن جميع الحيثيات التعليلية ترجع إلي الجهات التقييدية، فانتظر.
وانقدح من جميع ما ذكرنا أنه لو قلنا باستلزام كلام الفصول للمحذورات المتقدمة من الدور والتسلسل وغيرهما لما يجديه التوجيه بما ذكر أصلا.
هذا، ولكن قد عرفت أن شيئا من الإيرادات غير وارد عليه أصلا.
هذا كله في مقام الثبوت.
(٨٨)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الباطل، الإبطال (1)، الوجوب (1)

في الدليل العقلي علي المقدمة الموصلة

في الدليل العقلي علي المقدمة الموصلة وأما مقام الإثبات: فقد استدل صاحب الفصول بوجوه أسدها وأمتنها هو الوجه الأخير.
قال في بيانه: حيث إن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلي الواجب وحصوله، فلا جرم يكون التوصل بها إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيتها، فلا تكون مطلوبة إذا انفكت عنه، وصريح الوجدان قاض بأن من يريد شيئا لمجرد حصول شئ آخر لا يريده إذا وقع مجردا عنه، ويلزم منه أن يكون وقوعه علي وجه المطلوب منوطا بحصوله (1).
وأجاب عنه في الكفاية أولا: بمنع كون المطلوب بالمقدمة التوصل بها إلي الواجب، بل مطلوبيتها لأجل عدم التمكن من التوصل بدونها، كيف ولا يكون التوصل من آثارها إلا في بعض المقدمات.
وثانيا: بأنه لو سلم كون المطلوب بالمقدمة ذلك ولكن لا نسلم مدخلية الغاية في مطلوبية ذيها، لأن صريح الوجدان يقضي بأن ما أريد لأجل غاية وتجرد عنها بسبب عدم حصول بعض ما له دخل في تحققها يقع علي ما هو عليه من المطلوبية الغيرية، كيف وإلا يلزم أن يكون وجودها من قيوده ومقدمة لوقوعه علي نحو تكون الملازمة بين وجوبه بذاك النحو ووجوبها.
وهو كما تري، ضرورة أن الغاية لا تكون قيد الذي الغاية بحيث كان تخلفها موجبا لعدم وقوع ذي الغاية علي ما هو عليه من المطلوبية الغيرية، وإلا يلزم أن تكون مطلوبة بطلبه، كسائر قيوده، فلا يكون وقوعه علي هذه الصفة
1 - الفصول الغروية: 86 / السطر 22.
صفحه(٨٩)
منوطا بحصولها، كما أفاده.
ولعل منشأ توهمه الخلط بين الجهة التقييدية والتعليلية (1). انتهي ملخص موضع الحاجة من كلامه.
وفي كل من الجوابين نظر بل منع.
أما الأول: فلأن من الواضح البديهي أن مطلوبية المقدمة إنما هو للتوصل بها إلي ذيها، لأن المفروض أنها مطلوبة بتبع الغير ولأجله فتعلق الطلب بها لا ينشأ إلا لكونها يتوصل بها إلي المطلوب الأصلي.
والدليل عليه أنه لا ينقطع السؤال عن تعلق الوجوب بها ب " لم " إلا بعد الجواب بأنها مطلوبة للتوصل إليه، وإلا فمجرد التوقف مع قطع النظر عن ترتب ذي المقدمة عليها لا يكفي في انقطاع السؤال، كما يظهر بمراجعة الوجدان السليم.
وما ذكره من أن التوصل ليس من آثارها، فيدفعه أنك عرفت فيما سبق أن المراد بكلمة الموصل ليس خصوص العلة التامة، كما ربما يوهمه الجمود علي ظاهرها، بل المراد به ترتب ذي المقدمة عليها والإتيان به بعدها.
وأما الثاني: فلا يخفي أن إرادة شئ لأجل غاية ترجع إلي إرادته مقيدا بها، كما هو واضح، ضرورة أن العقل لا يحكم بحكم إلا مع تشخيص موضوعه بجميع جهاته وحيثياته التي لها مدخلية في الحكم، وإذا حكم بحكم لموضوع من جهة خاصة وحيثية مخصوصة فيستحيل أن يصرف حكمه عن تلك الجهة والحيثية، ويسري إلي ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحيثية التي تكون دخيلا في ترتب الحكم أو إلي بعض الجهات الأخر المغايرة لهذه الجهة،
١ - كفاية الأصول: ١٤٩ - 150.
(٩٠)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، المنع (1)، الحاجة، الإحتياج (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

في ثمرة القول با لمقدمة الموصلة

فإذا سلم أن مطلوبية المقدمة إنما هو للتوصل بها إلي ذيها، كما هو المفروض في الجواب الثاني، فلا محالة تكون المطلوبية واقعة علي المقدمة بتلك الحيثية، وإلا فذاتها مطلقا ولو مع بعض الحيثيات الاخر لا يتعلق بها طلب أصلا.
وما اشتهر في الألسن من الفرق بين الجهات التعليلية والتقييدية بكون الثانية دخيلا في الموضوع وقيدا له دون الأولي، ليس بصحيح، فإن جميع الجهات التعليلية راجعة إلي الجهات التقييدية، لما عرفت من استحالة أن يصرف العقل حكمه الثابت لموضوع عنه إلي غيره، وهذا بمكان من الوضوح.
وانقدح من جميع ما ذكرنا أنه لو قلنا بالملازمة، فالواجب متابعة صاحب الفصول (قدس سره) والأخذ بقوله الراجع إلي ثبوت الملازمة بين وجوب ذي المقدمة وبين الوجوب المتعلق بخصوص المقدمات الموصلة، وقد عرفت أنه لا يرد عليه شئ مما أوردها القوم عليه.
وعلي تقدير تسليم الورود، فلا يدفعه التوجيه بلحاظ الإيصال، كما عرفت من الدرر، أو بالحصة التوأمة كما عرفت من التقريرات، إلا أن الكلام في أصل ثبوت الملازمة، وسيجئ ما هو الحق في بابها، فانتظر.
في ثمرة القول بالمقدمة الموصلة قد يقال - كما قيل - بأن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة هو تصحيح العبادة التي يتوقف علي تركها فعل واجب أهم، كالصلاة التي يتوقف علي تركها فعل الإزالة التي هي واجبة، وتكون أهم من فعل الصلاة بناء علي أن يكون ترك أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر، كما سيأتي تحقيقه في مبحث الأمر بالشئ هل يقتضي النهي عن ضده أم لا؟ فإنه بناء علي هذا القول لا يكون الترك مطلقا واجبا ليكون فعلها محرما، فتكون فاسدة، بل الواجب هو الترك الموصل إلي فعل الضد
(٩١)
صفحهمفاتيح البحث: أفعال الصلاة (1)، يوم عرفة (4)، الوقوف (2)، النهي (1)، الوجوب (1)

مناقشة الشيخ الأنصاري في الثمرة

الواجب، والمحرم إنما هو نقيض هذا الترك الخاص الذي يقارن مع الفعل تارة، ومع الترك المجرد أخري، ومن المعلوم أنه لا يسري الحكم من أحد المتلازمين إلي الآخر فضلا عن المتقارنين، وحينئذ فلا يكون الفعل محرما حتي يكون فاسدا (1).
مناقشة الشيخ الأنصاري في الثمرة وربما اورد علي تفريع هذه الثمرة - كما في التقريرات المنسوبة إلي الشيخ الأنصاري (قدس سره) - بما حاصله أن فعل الضد وإن لم يكن نقيضا للترك الواجب مقدمة بناء علي المقدمة الموصلة إلا أنه لازم لما هو من أفراد النقيض حيث إن نقيض ذاك الترك الخاص، وهو أعم من الفعل والترك المجرد، وهذا يكفي في إثبات الحرمة، وإلا لم يكن الفعل محرما ولو بناء علي القول بوجوب مطلق المقدمة، لأن الفعل أيضا ليس نقيضا للترك، لأنه أمر وجودي، ونقيض الترك إنما هو رفعه، ورفع الترك الذي هو أمر عدمي لا يمكن أن يتحد مع الفعل الذي هو أمر وجودي، فكما أن مجرد الملازمة بين نقيض الترك والفعل يكفي في اتصافه بالحرمة فكذلك تكفي في المقام، غاية الأمر أن مصداق النقيض للترك إنما ينحصر في الفعل فقط، وأما نقيض الترك الخاص فله مصداقان، وذلك لا يوجب تفاوتا بينهما فيما نحن بصدده، كما لا يخفي (2).
وأجاب عن الإيراد المحقق الخراساني (قدس سره) في الكفاية حيث قال: وأنت خبير بما بينهما من الفرق، فإن الفعل في الأول لا يكون إلا مقارنا لما هو النقيض
١ - الفصول الغروية: ٩٨ / السطر ٦، كفاية الأصول: ١٥٠ - 151.
2 - مطارح الأنظار: 78 / السطر 26.
(٩٢)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
من رفع الترك المجامع معه تارة ومع الترك المجرد أخري، ولا يكاد تسري حرمة الشئ إلي ما يلازمه فضلا عما يقارنه أحيانا.
نعم لابد أن لا يكون الملازم محكوما فعلا بحكم آخر علي خلاف حكمه، لا أن يكون محكوما بحكمه، وهذا بخلاف الفعل في الثاني، فإنه بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه لا ملازم لمعانده ومنافيه، فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوما لكنه متحد معه عينا وخارجا، فإذا كان الترك واجبا فلا محالة يكون الفعل منهيا عنه قطعا، فتدبر جيدا (1). انتهي.
والتحقيق أن يقال: إنه لو قلنا بأن نقيض كل شئ رفعه الذي هو أمر عدمي وقلنا بأن وجوب الشئ إنما يقتضي حرمة النقيض فقط، فلا إشكال في أن الفعل لا يصير محرما حتي بناء علي القول بوجوب مطلق المقدمة، لأن نقيض الترك المطلق رفعه الذي هو عبارة عن ترك الترك، فالحرمة إنما يتعلق بهذا، ومن المعلوم عدم اتحاده مع الفعل أصلا، لأنه يستحيل أن يتحد الحيثية العدمية مع الحيثية الثبوتية الراجعة إلي حيثية طرد العدم، فيمتنع أن يكون النور عين عدم الظلمة، وغير ذلك من الأمثلة.
ومجرد الملازمة بينهما لا يوجب سراية الحكم من النقيض إلي ما يلازم معه، وهو الفعل، بل غايته أن لا يكون الفعل محكوما بحكم يخالف حكم النقيض، لا أن يكون محكوما بحكمه.
ولو قلنا بأن نقيض كل شئ رفعه، أو كون الشئ مرفوعا به، فنقيض الأمر الوجودي رفعه الذي عبارة عن الأمر العدمي، ونقيض الأمر العدمي الأمر الوجودي لارتفاعه به، وقلنا بأن الحرمة تتعلق بنفس النقيض، فلا إشكال في
١ - كفاية الأصول: ١٥١ - 152.
(٩٣)
صفحهمفاتيح البحث: الوجوب (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

مناقشة العلمين: الأصفهاني والعراقي

حرمة الفعل بناء علي أن يكون الواجب هو الترك المطلق، لأن الفعل حينئذ يكون نقيضا له، لا أن يكون ملازما لما هو النقيض لارتفاع الترك بمجرد الفعل، وأما بناء علي القول بالمقدمة الموصلة وأن الواجب هو الترك الموصل، فلا يكون الفعل بنفسه نقيضا للترك الخاص، فلا يتصف بالحرمة، لا لأن الفعل لا يكون إلا مقارنا لما هو النقيض من رفع الترك الخاص المجامع معه تارة ومع الترك المجرد أخري، كما يظهر من الكفاية في العبارة المتقدمة، وذلك لأن المقارنة ممنوعة، فإن معناها كما في سائر الموارد يرجع إلي إمكان الانفكاك، ومن المعلوم استحالته في المقام، فإنه مع وجود الفعل لا يمكن أن لا يكون معه رفع الترك الخاص، ومع عدمه لا يكون هنا شئ حتي يقال بانفكاك النقيض عنه، كما أن انطباق الإنسان علي زيد وصدقه عليه يتوقف علي وجوده، وإلا فمع عدمه لا يصدق عليه أصلا، فمجرد ذلك لا يوجب أن يقال بأن الإنسان مقارن لزيد، كما هو واضح، بل لأجل أن المفروض عدم سراية الحكم من النقيض إلي شئ آخر.
ولو قلنا بأن مجرد المعاندة والمنافرة يكفي في حرمة الشئ لأن النقيض عبارة عما يعاند الشئ بحيث لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما، أو قلنا بأن مجرد انطباق النقيض علي شئ يكفي في اتصافه بالحرمة وإن لم يتحد معه، فلا إشكال في حرمة الفعل علي القولين، كما هو واضح لا يخفي.
مناقشة العلمين: الأصفهاني والعراقي ثم إنه اعترض بعض المحققين في شرحه علي الكفاية علي تفريع الثمرة بما حاصله: أن المراد بالمقدمة الموصلة إما العلة التامة أو المقدمة التي لا تنفك عن ذيها.
(٩٤)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (1)
فالمقدمة الموصلة علي الأول: ترك الصلاة ووجود الإرادة، ومن الواضح أن نقيض المجموع من الأمرين مجموع النقيضين، وإلا فليس لهما بهذا الاعتبار نقيض، فنقيض الترك هو الفعل، ونقيض الإرادة عدمها، فإذا وجب مجموع الترك والإرادة بوجوب واحد، حرم مجموع الفعل وعدم الإرادة بحرمة واحدة، ومن الواضح تحققهما عند إيجاد الصلاة، بداهة عدم إمكان إرادة الإزالة مع فعل الصلاة.
وأما علي الثاني: فالمقدمة هو الترك الخاص، وحيث إن الخصوصية ثبوتية، فالترك الخاص لا رفع لشئ ولا مرفوع بشئ، فلا نقيض له بما هو، بل نقيض الترك المرفوع به هو الفعل، ونقيض الخصوصية عدمها الرافع لها، فيكون الفعل محرما لوجوب نقيضه، ومن الواضح اقتران الفعل بنقيض تلك الخصوصية المأخوذة في ظرف الترك، كما هو واضح، فافهم واغتنم (1). انتهي.
ونظير هذا يظهر من تقريرات بعض الأعاظم حيث قال ما ملخصه: الحق اندفاع ما اورد علي الشيخ (قدس سره) في المقام، لأن المقدمة المتقيدة بالإيصال تنحل إلي ذات وخصوصية، ووحدتها في عالم الموضوعية ليست إلا أمرا اعتباريا ناشئا من وحدة الحكم، لامتناع أن يكون مورد الحكم في مثل المقام واحدا حقيقيا مع اختلاف الذات والتقيد في المقولة، ونتيجة الانحلال هو عروض الحكم علي الأمور المتكثرة، ومن شأنها تكثر نقيضها بلا حاجة إلي تصور جامع بينها كي يستشكل في المقام بعدم معقولية كون العدم جامعا بين الوجود والعدم المحض، إلا أن لازم تعدد نقيض الواجب هو مبغوضية أول نقيض يتحقق في الخارج، لأنه بوجوده يتحقق عصيان الأمر، فيسقط، فلا يبقي موضوع
١ - نهاية الدراية 2: 150 - 151.
(٩٥)
صفحهمفاتيح البحث: أفعال الصلاة (1)، الصّلاة (2)
لمبغوضية غيره.
ففي المثال المعروف إذا كان الشخص الآتي بالصلاة مريدا للإزالة في فرض عدم إتيانه بالصلاة، فأول نقيض لمتعلق الوجوب الغيري هو فعل الصلاة، فتصير مبغوضة، فتبطل.
وأما إذا كان الشخص الآتي بالصلاة غير مريد للإزالة علي تقدير عدم الإتيان بالصلاة، فأول نقيض للواجب هو عدم إرادة الإزالة، فيكون هو المبغوض، ولا تصل النوبة إلي مبغوضية الصلاة، لسقوط الأمر الغيري بعصيانه بترك إرادة الإزالة، فتبقي الصلاة مع محبوبيتها، فلا وجه لبطلانها (1). انتهي ملخص ما في التقريرات.
هذا، ولكن لا يخفي أن الانحلال والتعدد إنما هو في الواقع ومع قطع النظر عن كونهما موضوعا لحكم واحد وإرادة واحدة، فإنه يصح أن يقال بأن نقيضهما مجموع النقيضين، بمعني أنه لا يكون للمجموع نقيض واحد، لأنه ليس إلا أمرا اعتباريا، بل هما شيئان، ولهما نقيضان. وأما مع ملاحظة تعلق حكم واحد بهما - كما هو المفروض في المقام - فمن الواضح كونهما شيئا واحدا بهذا الاعتبار، إذ لا يعقل أن يتعلق الحكم الواحد والإرادة الواحدة بالشيئين بوصف كونهما كذلك من دون اعتبار الوحدة بينهما.
وما ذكره في التقريرات: من أن الوحدة ناشئة عن وحدة الحكم.
ففيه: أن الأمر بالعكس، إذا الوحدة إنما هو قبل تعلق الحكم وبلحاظه، لما عرفت من أن تشخص الإرادة بالمراد، ومع تعدده لا يعقل وحدتها، فالحق في المقام ما ذكرنا من دوران الأمر مدار مفهوم النقيض ومعناه، أن نقيض الحكم هل
1 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 395 - 396.
(٩٦)
صفحهمفاتيح البحث: أفعال الصلاة (1)، يوم عرفة (1)، الصّلاة (2)، دولة العراق (1)

الأمر الثامن: في الواجب الأصلي والتبعي

يتعلق بالنقيض أو بالأعم مما ينطبق عليه؟ كما حققناه، فراجع.
الأمر الثامن في الواجب الأصلي والتبعي قال في الفصول: الأصلي ما فهم وجوبه بخطاب مستقل، أي غير لازم لخطاب آخر وإن كان وجوبه تابعا لوجوب غيره، والتبعي بخلافه، وهو ما فهم وجوبه تبعا لخطاب آخر وإن كان وجوبه مستقلا، كما في المفاهيم، والمراد بالخطاب هنا ما دل علي الحكم الشرعي فيعم اللفظي وغيره (1). انتهي.
وظاهره كما تري أن هذا التقسيم إنما هو بحسب مقام الدلالة والإثبات، لا بحسب مقام الثبوت، ولكن استظهر المحقق الخراساني (قدس سره) في الكفاية كون التقسيم بلحاظ الأصالة والتبعية في الواقع ومقام الثبوت.
قال: حيث إنه يكون الشئ تارة متعلقا للإرادة والطلب مستقلا للالتفات إليه بما هو عليه مما يوجب طلبه فيطلبه، كان طلبه نفسيا أو غيريا، واخري متعلقا للإرادة تبعا لإرادة غيره لأجل كون إرادته لازمة لإرادته من دون التفات إليه بما يوجب إرادته (2).
هذا، ولكن يرد عليه أن مقتضي التقسيم وجعل الأصلي بالمعني المذكور أن يكون التبعي عبارة عما لم تتعلق به إرادة مستقلة لأجل عدم الالتفات إليه تفصيلا، سواء كانت إرادته تبعا لإرادة غيره المراد نفسا والمطلوب كذلك أم لم يكن كذلك، فالتخصيص بالأولي يوجب خروج الثاني عن التقسيم، وعدم دخوله
١ - الفصول الغروية: ٨٢ / السطر ٧.
٢ - كفاية الأصول: ١٥٢.
(٩٧)
صفحهمفاتيح البحث: الأحكام الشرعية (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
لا في الأصلي ولا في التبعي، كما لا يخفي.
ويظهر من بعض المحققين في حاشيته علي الكفاية معني آخر، وهو: أن للواجب وجودا ووجوبا بالنسبة إلي مقدمته جهتان من العلية إحداهما العلية الغائية حيث إن المقدمة إنما تراد لمراد آخر لا لنفسها، بخلاف ذيها، فإنه مراد لا لمراد آخر، والثانية العلية الفاعلية، وهي أن إرادة ذي المقدمة علة لإرادة مقدمته، ومنها تنشأ وتترشح عليها الإرادة.
والجهة الأولي مناط الغيرية، والجهة الثانية مناط التبعية، ووجه الانفكاك بين الجهتين أن ذات الواجب النفسي حيث إنه مترتب علي الواجب الغيري، فهي الغاية الحقيقية، لكنه ما لم يجب لا تجب المقدمة، فوجوب المقدمة معلول خارجا، لوجوب ذيها، ومتأخر عنه رتبة، إلا أن الغرض منه ترتب ذيها عليها (1). انتهي موضع الحاجة.
ولكن لا يخفي أن إرادة المقدمة لا يعقل أن تكون معلولة لإرادة ذيها، بمعني صدورها عنها وترشحها عنها كترشح المعلول من العلة، لأن الإرادة المتعلقة بذي المقدمة قد توجد مع عدم تعلقها بالمقدمة لأجل عدم التوجه إلي المقدمة أو إلي مقدميتها، ومن المعلوم أن الإرادة إنما هو بعد التوجه، لما حقق في محله من أن تصور المراد والتوجه إليه من مبادئ الإرادة (2)، بل مقدم علي جميعها، فكيف يمكن أن تتعلق بما لا يكون متوجها إليه، وتعلق الإرادة علي فرض التوجه لا محالة لا يفيد في تصحيح المعلولية مطلقا.
والحق كما عرفت مرارا أن إرادة المقدمة كإرادة ذيها تحصل بفعالية
١ - نهاية الدراية 2: 157 - 158.
2 - الحكمة المتعالية 4: 114، و 6: 342.
(٩٨)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الحاجة، الإحتياج (1)

حول الأصل عند الشك في الأصلية والتبعية

النفس وموجدة بفاعليتها، غاية الأمر أن الفائدة المترتبة عليها ليست إلا حصول ما هو مطلوب بالذات، بخلاف المراد الأولي والمطلوب الأقصي، كما لا يخفي.
والإنصاف أن هذا التقسيم إنما هو بلحاظ الأصالية والتبعية في مقام الإثبات، كما عرفت من صاحب الفصول (قدس سره)، لا بحسب مقام الواقع والثبوت، كما لا يخفي.
حول الأصل عند الشك في الأصلية والتبعية ثم إنه ذكر في الكفاية أنه إذا كان الواجب التبعي ما لم تتعلق به إرادة مستقلة، فإذا شك في واجب أنه أصلي أو تبعي، فبأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به يثبت أنه تبعي، ويترتب عليه آثاره إذا فرض له أثر شرعي، كسائر الموضوعات المتقومة بأمور عدمية.
نعم لو كان التبعي أمرا وجوديا خاصا غير متقوم بعدمي وإن كان يلزمه، لما كان يثبت بها إلا علي القول بالأصل المثبت، كما هو واضح، فافهم (1).
وذكر المحقق المحشي: أنه إن كان مناط التبعية عدم تفصيلية القصد والإرادة، فالتبعية موافقة للأصل، للشك في أن الإرادة ملتفت إليها أم لا، والأصل عدمه، وإن كان مناطها نشوء الإرادة عن إرادة أخري وترشحها منها، فالأصلية موافقة للأصل، إذ المترشح من إرادة أخري، ونشوها منها أمر وجودي مسبوق بالعدم، وليس الاستقلال في الإرادة علي هذا أمرا وجوديا، بل هو عدم نشوها عن إرادة أخري، بخلاف الاستقلال من حيث توجه الالتفات إليها، فإنه
١ - كفاية الأصول: ١٥٣.
(٩٩)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
أمر وجودي، كما عرفت (1). انتهي.
ولكن لا يخفي: أنه لو قلنا بأن مناط التبعية عدم تعلق إرادة مستقلة به، كما ذهب إليه صاحب الكفاية، فلا تكون التبعية موافقة للأصل، إذ ليست هي عبارة عن نفس عدم تعلق إرادة مستقلة به علي نحو السلب التحصيلي حتي تكون مسبوقة بالعدم، فإن السلب التحصيلي يصدق مع انتفاء الموضوع أيضا، وهو لا ينطبق علي المقام أصلا، لأن الواجب التبعي هو ما كان متعلقا للإرادة، غاية الأمر أنه لا تكون إرادته تفصيلية، فهو - أي السلب - إما مأخوذ فيه علي نحو السلب العدولي، أو الموجبة سالبة المحمول، وعلي التقديرين لا تكون موافقة للأصل، واستصحاب بقاء العدم المأخوذ صفة لا ينتج في إثبات ثبوتها لهذه الإرادة المتعلقة بالواجب، كما في استصحاب عدم القرشية الغير الجاري علي التحقيق، كما أنه لو قلنا بأن مناط التبعية هو نشوء الإرادة من إرادة أخري وترشحها منها، كما اختاره المحقق المحشي في عبارته المتقدمة، لا تكون الأصلية موافقة للأصل، لأن عدم ترشح الإرادة من إرادة أخري لا يكون مأخوذا فيها علي نحو السلب التحصيلي الصادق مع انتفاء الموضوع بل العدولي، ولا تكون مع هذا موافقة للأصل، بعين التقريب المتقدم.
فالتحقيق: أنه بناء عليهما لا تكون شئ من التبعية والأصلية موافقة للأصل، فالواجب الرجوع إلي الأصول العملية، كما لا يخفي.
١ - نهاية الدراية 2: 158.
(١٠٠)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الصدق (1)

الأمر التاسع: ثمرة مسألة مقدمة الواجب

الأمر التاسع ثمرة مسألة مقدمة الواجب قد عرفت أن ثمرة المسألة الأصولية هو أن تكون نتيجتها صالحة للوقوع في طريق استنباط الحكم الفرعي، وهنا أيضا كذلك، فإن ثمرة القول بالملازمة إنما هو استكشاف وجوب المقدمة فيما قام الدليل علي وجوب ذيها.
ولكنه قد اورد علي ذلك بأن هذا الحكم الفرعي ليس له أثر عملي، لأن العقل حاكم بلا بدية الإتيان به بعد فرض كونه مقدمة وإن لم نقل بالملازمة.
وأجاب عنه في تقريرات بعض الأعاظم (قدس سره): بأن وجوب المقدمة وإن لم يكن بنفسه ذا أثر عملي بعد حكم العقل بلا بدية الإتيان بالمقدمة، إلا أن تطبيق كبريات اخر مستفادة من محالها عليها تتحقق الثمرة، فإنه بعد فرض وجوب المقدمة يمكن تحقق التقرب بقصد أمرها، فتتحقق بذلك التوسعة في باب التقرب، وكذلك إذا أمر شخص شخصا آخر أمرا معامليا بفعل له مقدمات، فأتي المأمور بتلك المقدمات ولم يأت بذيلها، يكون ضامنا للشخص المأمور اجرة المقدمات بعد فرض كون الأمر بالفعل أمرا بمقدماته.
قال: وقد ظهر بذلك أن الثمرة العملية لمسألة وجوب مقدمة الواجب إنما تتحقق بضم نتيجتها إلي كبريات اخر منقحة في مواردها (1). انتهي ملخص ما في التقريرات.
ولكن لا يخفي أن الأمر المقدمي والواجب الغيري لا يصلح للداعوية حتي يمكن التقرب به، بل كما عرفت سابقا أن الواجبات الغيرية كلها توصلية، كما
1 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 397.
(١٠١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الوجوب (4)، دولة العراق (1)

الأمر العاشر: في الأصل عند الشك في الملازمة

لا يخفي.
وأما استحقاق اجرة المقدمات علي تقدير كون الأمر بذيلها أمرا بها فيرد عليه - مضافا إلي أنه مناف لما اختاره من ثبوت الملازمة بالنسبة إلي خصوص المقدمة الموصلة بالمعني الذي نقلناه عنه سابقا لا مطلق المقدمة - أن استحقاق الأجرة إنما هو فيما إذا كان الباعث له علي الإتيان بالمأمور به هو الأمر المتعلق بها، لأغراضه النفسانية الاخر، وفي المقام ليس كذلك، فإن الإتيان بالمقدمة ليس مسببا عن إتيان وجوبها، كيف ولو لم نقل بالوجوب يأتي بها أيضا، بل الداعي له هو الأمر المتعلق بذيلها، لا لأن أمره يدعو إلي غير ما تعلق به أيضا، بل لأن المقصود من إتيانها إنما هو للتوصل إلي ذيها، ومجرد هذا لا يصحح استحقاق الأجرة، كما لا يخفي، فالإنصاف أنه لا ثمرة مهمة مترتبة علي وجوب المقدمة، كما يظهر علي من تأمل فيما جعلوه ثمرة للمقام.
الأمر العاشر في الأصل عند الشك في الملازمة لا يخفي أنه ليس في نفس محل البحث - وهي الملازمة وعدمها - أصل يوافق أحد الطرفين، فإن الملازمة وعدمها ليست لها حالة سابقة، لأن الملازمة وعدمها أزلية.
نعم نفس وجوب المقدمة يكون مسبوقا بالعدم حيث إنه حادث بحدوث وجوب ذيها، فالأصل عدم وجوبها إلا أنك عرفت أنه لا يترتب علي وجوب المقدمة ثمرة عملية أصلا حتي ترتفع بالأصل إلا أنه قد أورد عليه بوجه آخر، وهو لزوم التفكيك بين الوجوبين.
وأجاب عنه في الكفاية بأنه لا ينافي الملازمة بين الواقعين، وإنما ينافي
(١٠٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الوجوب (2)

القول في أدلة القائلين بالملازمة

الملازمة بين الفعلين. نعم لو كانت الدعوي هي الملازمة المطلقة حتي في المرتبة الفعلية، لما صح التمسك بالأصل (1).
أقول: لا يخفي أنه لو قلنا بالثاني - كما هو ظاهر القائلين بالملازمة - لصح التمسك بالأصل أيضا، فإن جريان الأصل إنما هو في مقام الشك في الملازمة، ومجرد احتمالها لا ينافي جريان الأصل، بل المانع من جريانه إحرازها، كما هو واضح.
القول في أدلة القائلين بالملازمة ذكر في الكفاية - بعد الاعتراض علي الأفاضل المتصدين لإقامة البرهان علي الملازمة بأنه ما أتي منهم بواحد خال عن الخلل - أن الأولي إحالة ذلك إلي الوجدان حيث إنه أقوي شاهد علي أن الإنسان إذا أراد شيئا له مقدمات أراد تلك المقدمات لو التفت إليها بحيث ربما يجعلها في قالب الطلب مثله، ويقول مولويا: ادخل السوق واشتر اللحم، مثلا، بداهة أن الطلب المنشأ بخطاب " ادخل " مثل المنشأ بخطاب " اشتر " في كونه بعثا مولويا، وأنه حيث تعلقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء ترشحت منها إرادة أخري بدخول السوق بعد الالتفات إليه، وأنه يكون مقدمة له، كما لا يخفي (2). انتهي موضع الحاجة.
واستدل في التقريرات علي الملازمة بأن الإرادة التشريعية تابعة للإرادة التكوينية إمكانا وامتناعا ووجودا وعدما، فكل ما أمكن تعلق الإرادة التكوينية
١ - كفاية الأصول: ١٥٦.
2 - نفس المصدر: 156 - 157.
(١٠٣)
صفحهمفاتيح البحث: الشهادة (1)، الأكل (1)، الحاجة، الإحتياج (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
به أمكن تعلق التشريعية به، وكل ما استحال تعلق الأولي استحال أن يكون متعلقا للتشريعية، وهكذا كل ما يكون مورد للإرادة التكوينية عند تحققه من نفس المريد يكون مورد للتشريعية عند صدوره من غير المريد، ومن الواضح أن المريد لفعل بإرادة تكوينية تتعلق إرادته أيضا بالتبع بإيجاد مقدماته وإن كان غافلا عن مقدميتها لذلك الفعل، ولازم ذلك بمقتضي التبعية المتقدمة أن يكون تعلق الإرادة التشريعية من الآمر بفعل مستلزما لتعلق الإرادة التشريعية التبعية بمقدمات ذلك الفعل (1). انتهي موضع الحاجة.
أقول: لا يخفي أن قياس الإرادة التشريعية بالإرادة التكوينية في غير محله، فإنه إذا أراد الشخص الإتيان بفعل بنفسه، فلا محالة تتعلق إرادة أخري بإتيان المقدمات، لأن المفروض استحالة الإتيان به بدونها، وهو إنما يريد أن يأتي به بنفسه ولا محالة يريد المقدمات، لا نقول بأن إرادته للمقدمات معلولة لإرادة ذلك الفعل مترشحة عنها صادرة عنها قهرا، فإن ذلك باطل، كما مر مرارا، بل نقول: كما تتوقف إرادة الفعل علي مبادئها، كذلك تتوقف إرادة مقدماته علي سنخ مبادئ إرادة الفعل، غاية الأمر أن محبوبية الفعل وتعلق الاشتياق إليه إنما هو لنفسه، ومحبوبية المقدمات إنما هو للوصول إليه.
هذا في الإرادة التكوينية.
وأما الإرادة التشريعية: فحيث إن المطلوب فيها صدور المراد من الغير، فلا استحالة في عدم تعلق الإرادة بالمقدمات، وامتناع تحققه بدونها إنما يوجب أن تتعلق إرادة الأمر بها أيضا، فلا يلزم بل لا وجه له أصلا، لأنك عرفت عدم الفرق بين إرادة الفعل وإرادة المقدمات في توقف كل منهما علي مبادئها، ومن
1 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 399 / السطر 13.
(١٠٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الحاجة، الإحتياج (1)، دولة العراق (1)

تذنيب: حول التفصيل بين السبب والشرط الشرعي وغيرهما

المعلوم عدم تحقق المبادئ بالنسبة إلي المقدمات في الإرادة التشريعية، فإن من جملتها التصديق بفائدتها، والحال أنه لا فائدة لها بالنسبة إلي الأمر حتي يريد صدورها من الغير، فإن المأمور إذا أراد الامتثال فلا محالة يأتي بالمقدمات وإن لم تكن مورد الإرادة الآمر، وإذا لم يكن قاصد الامتثال الأمر بالفعل فتعلق الإرادة بالمقدمات لغو غير مؤثر.
نعم لو قلنا بترشح إرادتها من إرادته بحيث لا تتوقف إرادة المقدمات علي مباد أصلا، لكان لما ذكر وجه، لأن العلة يترتب عليها المعلول قهرا إلا أنك عرفت أن هذا الكلام بمكان من البطلان، كما لا يخفي.
ثم إنه استدل أبو الحسن البصري (1) لثبوت الملازمة بما يرد عليه - مضافا إلي النقض بالمتلازمين في الوجود إذا وجب أحدهما دون الآخر - ما أورد عليه في الكفاية (2)، فراجعها.
تذنيب: حول التفصيل بين السبب والشرط الشرعي وغيرهما ثم إنه قد يفصل بين السبب وغيره وتقدم الكلام فيه سابقا، فراجع.
كما أنه قد يفصل بين الشرط الشرعي وغيره، ويقال بالوجوب في الأول دون غيره، نظرا إلي أنه لولا وجوبه شرعا لما كان شرطا حيث إنه ليس مما لابد منه عقلا أو عادة (3).
١ - المعتمد: ٩٥، راجع مناهج الوصول ١: ٤١٣، الهامش ٤.
٢ - كفاية الأصول: ١٥٧ - ١٥٨.
٣ - بدائع الأفكار، المحقق الرشتي: ٣٥٥ / السطر ١، كفاية الأصول: ١٥٩، شرح العضدي علي مختصر ابن الحاجب: 90 / السطر 21.
(١٠٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، أبو الحسن البصري (1)، الباطل، الإبطال (1)، السب (2)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (2)

تتميم: في مقدمة مستحب والمكروه والحرام

ومدعاه في غير الشرط الشرعي حق، وأما الشرط الشرعي فيرد علي الاستدلال لوجوبه بما ذكر: أنه إن كان المراد توقف الشرطية علي تعلق الوجوب، ففيه: أن من الواضح أن الوجوب لا يتعلق إلا بما هو شرط واقعا، فالحكم متأخر عن الواقع، لا أن الواقع متوقف عليه.
وإن أراد أنه بدون الوجوب لا نستكشف الشرطية، لأن الشرط الشرعي ليس كالشرائط العقلية والعادية المعلومة، بل هو محتاج إلي دلالة الدليل عليه، فالوجوب كاشف عن شرطيته، ففيه: أن الوجوب الغيري لا يمكن أن يكون كاشفا، فإن الملازمة إن كانت بين إرادة الفعل وإرادة مقدماته، فالإرادة التبعية بالمقدمات متوقفة علي إحراز مقدميتها حتي يحكم العقل بتعلق الإرادة بها تبعا لإرادة ذيها، وكذلك لو كانت الملازمة العقلية بين البعث المتعلق بالفعل والبعث المتعلق بالمقدمات، فإن حكم العقل بتعلق البعث بها تبعا لبعث ذيها متوقف علي إحراز مقدميتها، وبدونه كيف يحكم بتعلق البعث بها.
فظهر أن طريق إحراز الشرط منحصر بالأمر النفسي المتعلق بالفعل المقيد ببعض القيود كمثل قوله: " صل مع الطهارة " وأما الأمر الغيري الذي يكون الحاكم به العقل، ومن المعلوم توقف حكمه علي إحراز موضوعه، كما هو واضح، فلا يمكن أن يكون كاشفا، كما عرفت، فتأمل جيدا.
تتميم: في مقدمة المستحب والمكروه والحرام لا يخفي أن جميع ما ذكر في مقدمة الواجب يجري في مقدمة المستحب طابق النعل بالنعل، وحيث إنك عرفت أن الأقوي في الأولي عدم ثبوت الملازمة كما حققناه، فالحكم في الثانية أيضا كذلك بلا تفاوت، كما هو واضح.
ثم إنه هل تكون مقدمة الحرام كمقدمة الواجب، فتكون محرمة مطلقا،
(١٠٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، البعث، الإنبعاث (3)، الصّلاة (1)، الإستحباب (1)، الطهارة (1)
أو لا تكون حراما كذلك، أو يفصل بين المقدمات التي تكون من قبيل الأسباب التوليدية فتحرم، وبين غيره فلا تحرم، أو بين المقدمة الموصلة وغيرها، أو بين ما قصد التوصل به إلي الحرام وغيره؟ وجوه يظهر ثالثها من المحقق الخراساني في الكفاية.
وحاصل ما ذكر في وجهه وجود الفرق بين مقدمات الواجب وبين مقدمات الحرام، فإنه حيث يكون المطلوب في الأول وجود المراد، وهو متوقف عليها، فلا محالة تتعلق بها الإرادة، وأما المطلوب في الثاني ترك الشئ، وهو لا يتوقف علي ترك جميع المقدمات بحيث لو أتي بواحد منها لما كان متمكنا من الترك، فإنه يتمكن منه ولو أتي بجميع المقدمات، لتوسط الإرادة بينها وبينه، وهي لا يمكن أن يتعلق بها الطلب بعثا أو زجرا، لعدم كونها من الأمور الاختيارية.
نعم لو كان الفعل بحيث لم يتمكن من تركه بعد الإتيان ببعض المقدمات، لعدم توسط الإرادة بينها وبينه، تكون تلك المقدمة المترتبة عليها الفعل قهرا محرمة دون سائر المقدمات (1). انتهي ملخص ما أفاده في الكفاية.
ولكن لا يخفي أن هذا الكلام إنما يتم لو وجد في الأفعال الخارجية شئ منها تكون الإرادة متوسطة بينها وبين المقدمات بحيث يكون الموجد للفعل والمؤثر فيه نفس الإرادة من دون توقف علي حصول شئ آخر بعدها مع أنا لم نظفر بمثل هذا الفعل، فإن جميع الأفعال الاختيارية يكون الجزء الأخير لحصولها غير الإرادة بمعني أنه لا يترتب عليها الفعل بمجردها من دون توسيط بعض الأفعال الاخر أيضا، فإن تحقق الشرب في الخارج يتوقف - بعد تعلق الإرادة به - علي مثل تحريك العضلات، ونحو الإناء الموجود فيه الماء مثلا
١ - كفاية الأصول: ١٥٩ - 160.
(١٠٧)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
وأخذه باليد وجعله محاذيا للفم وإلقائه فيه، وبعد تحقق جميع هذه المقدمات يتوقف علي إعمال الآلات المعدة لبلعه الذي عبارة عن الشرب.
وبالجملة: فجميع الأفعال الاختيارية إنما يتوقف بعد تعلق الإرادة بها علي بعض الأمور الجزئية التي يؤثر في حصولها، فلا فرق بينها وبين الأفعال التوليدية أصلا، فإن الإرادة لا مدخلية لها في التأثير في حصول الفعل، كيف وهي من الأمور التجردية التي يمتنع أن تؤثر في الماديات بحيث كانت مفيضة لها، كما لا يخفي.
ثم إنه ذكر في الدرر أن العناوين المحرمة علي ضربين:
أحدهما: أن يكون العنوان بما هو مبغوضا من دون تقييده بالاختيار.
ثانيهما: أن يكون الفعل الصادر عن إرادة واختيار مبغوضا بحيث لو صدر من غير اختياره لم يكن منافيا لغرض المولي، فعلي الأول علة الحرام هي المقدمات الخارجية من دون مدخلية الإرادة، بل هي علة لوجود علة الحرام، وعلي الثاني تكون الإرادة من أجزاء العلة التامة.
ثم ذكر أن المراجعة إلي الوجدان تقضي بتحقق الملازمة بين كراهة الشئ وكراهة العلة التامة له، وفي القسم الثاني لما كانت العلة التامة مركبة من الأجزاء الخارجية ومن الإرادة، ولا يصح استناد الترك إلا إلي عدم الإرادة، لأنه أسبق رتبة من سائر المقدمات، فلا يتصف الأجزاء الخارجية بالحرمة أصلا (1). انتهي موضع الحاجة من ملخص كلامه.
وأنت خبير: بأنه لو كان المبغوض عبارة عن الفعل الصادر عن إرادة واختيار، فالإرادة لها مدخلية في نفس الحرام، لا أن تكون من أجزاء العلة
١ - درر الفوائد، المحقق الحائري: 130 - 132.
(١٠٨)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (1)، الإختيار، الخيار (1)، الحاجة، الإحتياج (1)
التامة، فإن المحرم هو الفعل الإرادي بما أنه إرادي، فلابد من ملاحظة مقدمات هذا العنوان المقيد، وليست الإرادة من جملتها، فلا فرق بين هذا القسم والقسم الأول أصلا، فلابد أن تكون إحدي المقدمات علي سبيل التخيير محرمة إلا مع وجود باقي الأجزاء، وانحصار الاختيار في واحدة منها، فتحرم شخصا كالقسم الأول.
والتحقيق أنه لو قلنا بالملازمة في مقدمة الواجب، فالتحريم - الذي عبارة عن الزجر عن المحرم - إنما يختص بالمقدمة الأخيرة التي يترتب عليها ذووها من دون فصل في جميع الأفعال، إذ قد عرفت أنه لا يوجد في الأفعال الخارجية فعل توسطت الإرادة بينه وبين مقدماته بأن تكون هي المؤثر في تحققه.
هذا، مضافا إلي ما عرفت فيما تقدم من أن الإرادة أيضا قابلة لتعلق التكليف بها، لكونها من الأمور الاختيارية، ولكن هذا كله إنما هو علي تقدير القول بالملازمة في مقدمات الواجب، ولكن قد عرفت سابقا أن مقتضي التحقيق خلافه.
هذا تمام الكلام في مبحث المقدمة.
(١٠٩)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (3)

الفصل الخامس: في اقتضاء الأمر با لشئ للنهي عن ضده

اقتضاء الأمر بالشئ للنهي عن ضده الفصل الخامس في اقتضاء الأمر بالشئ للنهي عن ضده وتنقيح البحث فيه يستدعي تقديم أمور:
الأمر الأول: هل هذه المسألة أصولية أم لا؟
ذكر في التقريرات (المحقق النائيني) أنه لا إشكال في كون المسألة من المسائل الأصولية، لأن نتيجتها تقع في طريق الاستنباط، وكذا في عدم كونها من المباحث اللفظية، لوضوح أن المراد من الأمر في العنوان الأعم من اللفظي واللبي المستكشف من الإجماع ونحوه، وذكر أيضا أن المراد من الاقتضاء في العنوان الأعم من كونه علي نحو العينية أو التضمن أو الالتزام بالمعني الأخص أو الأعم، لأن لكل وجها بل قائلا (1).
أقول: أما كون المسألة من المسائل الأصولية: فقد ذكرنا في مسألة دلالة الأمر علي الوجوب أو الاستحباب أن نظائر هذه المسألة من المسائل
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 301.
صفحه(١١٠)

فيه أمور: الأمر الأول: هل هذه المسألة أصولية أم لا؟

اقتضاء الأمر بالشئ للنهي عن ضده الفصل الخامس في اقتضاء الأمر بالشئ للنهي عن ضده وتنقيح البحث فيه يستدعي تقديم أمور:
الأمر الأول: هل هذه المسألة أصولية أم لا؟
ذكر في التقريرات (المحقق النائيني) أنه لا إشكال في كون المسألة من المسائل الأصولية، لأن نتيجتها تقع في طريق الاستنباط، وكذا في عدم كونها من المباحث اللفظية، لوضوح أن المراد من الأمر في العنوان الأعم من اللفظي واللبي المستكشف من الإجماع ونحوه، وذكر أيضا أن المراد من الاقتضاء في العنوان الأعم من كونه علي نحو العينية أو التضمن أو الالتزام بالمعني الأخص أو الأعم، لأن لكل وجها بل قائلا (1).
أقول: أما كون المسألة من المسائل الأصولية: فقد ذكرنا في مسألة دلالة الأمر علي الوجوب أو الاستحباب أن نظائر هذه المسألة من المسائل
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 301.
صفحه(١١٠)

الأمر الثاني: معني الاقتضاء في عنوان المسألة

اللغوية، لأنه لا فرق بين النزاع في مدلول لفظ " الصعيد " الوارد في آية التيمم (1) أنه هل هو التراب الخالص أو مطلق وجه الأرض مثلا، وبين النزاع في مدلول الأمر مثلا من حيث دلالته علي الوجوب، وكذا من حيث دلالته علي النهي عن الضد، كما لا يخفي.
بل نقول: إن كثيرا من المسائل اللغوية تكون من المسائل الأصولية، وذكر بعضها في الأصول إنما هو لشدة الاحتياج به، كما لا يخفي.
وأما كونها من المباحث العقلية: فلا يخفي أن الجمع بينها وبين تفسير الاقتضاء بما يعم العينية والجزئية اللتين هما من الدلالات اللفظية عندهم وإن كان يمكن المناقشة في الثاني كالجمع بين المتضادين.
الأمر الثاني: معني الاقتضاء في عنوان المسألة ثم تفسير الاقتضاء - الذي هو عبارة عن التأثير والسببية - بما يعمهما تفسير بارد، ولا مناسبة بين معناه الحقيقي وبين هذا المعني أصلا.
فالأولي في التعبير عن عنوان النزاع - بعد إسقاط القول بالعينية وبالجزئية لكونهما مما لا إشكال في بطلانهما - أن يقال: هل الأمر بالشئ يلازم النهي عن ضده أم لا؟ غاية الأمر أن عمدة النزاع في الملازمة ينشأ من توقف الشئ علي ترك ضده بأن يكون ترك الضد مقدمة لفعل الضد الآخر، فتصير المسألة من صغريات مبحث المقدمة، كما لا يخفي.
ثم إن المراد بالضد أعم من الضد الخاص، فيشمل الضد العام الذي بمعني النقيض أيضا.
1 - النساء (4): 43، المائدة (5): 6.
صفحه(١١١)

الأمر الثالث: المهم من الأقوال في المسألة

إذا عرفت ذلك، فنقول: هل الأمر بالشئ يستلزم النهي عن الضد مطلقا، أو لا يستلزم كذلك، أو يستلزم بالنسبة إلي الضد العام دون الخاص؟ وجوه بل أقوال.
الأمر الثالث: المهم من الأقوال في المسألة وحيث إن العمدة في استدلال القائلين بالاقتضاء في الضد الخاص إنما هو إثبات المقدمية بين ترك الضد ووجود الضد الآخر، فلا بأس بالإشارة إلي ما هو الحق في هذا الباب.
وليعلم أولا أن إثبات الاقتضاء في الضد الخاص لا يتوقف علي مجرد إثبات المقدمية، بل بعد ثبوت ذلك يتوقف علي القول بالملازمة في مقدمة الواجب وإثبات كونها واجبة بعد وجوب ذيها، ثم بعد ذلك علي إثبات أن وجوب الترك ملازم لحرمة الفعل، وهذا يرجع إلي إثبات الاقتضاء بالنسبة إلي الضد العام أيضا.
الاستدلال علي الاقتضاء في الضد الخاص من طريق المقدمية فتحصل أن القول بالاقتضاء في الضد الخاص يتوقف علي أمور:
الأول: كون ترك أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر.
الثاني: القول بالملازمة.
الثالث: القول بالاقتضاء في الضد العام أيضا.
ولا يخفي أن هذه المقدمات الثلاث كلها محل منع، أما الثانية: فقد عرفت ما هو الحق فيها في مسألة مقدمة الواجب، فراجع، وأما الأخير: فسيجئ، والعمدة هي الأولي.
(١١٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الوقوف (3)، المنع (1)، النهي (1)، الوجوب (2)

الاستدلال علي الاقتضاء في الضد الخاص من طريق المقدمية

إذا عرفت ذلك، فنقول: هل الأمر بالشئ يستلزم النهي عن الضد مطلقا، أو لا يستلزم كذلك، أو يستلزم بالنسبة إلي الضد العام دون الخاص؟ وجوه بل أقوال.
الأمر الثالث: المهم من الأقوال في المسألة وحيث إن العمدة في استدلال القائلين بالاقتضاء في الضد الخاص إنما هو إثبات المقدمية بين ترك الضد ووجود الضد الآخر، فلا بأس بالإشارة إلي ما هو الحق في هذا الباب.
وليعلم أولا أن إثبات الاقتضاء في الضد الخاص لا يتوقف علي مجرد إثبات المقدمية، بل بعد ثبوت ذلك يتوقف علي القول بالملازمة في مقدمة الواجب وإثبات كونها واجبة بعد وجوب ذيها، ثم بعد ذلك علي إثبات أن وجوب الترك ملازم لحرمة الفعل، وهذا يرجع إلي إثبات الاقتضاء بالنسبة إلي الضد العام أيضا.
الاستدلال علي الاقتضاء في الضد الخاص من طريق المقدمية فتحصل أن القول بالاقتضاء في الضد الخاص يتوقف علي أمور:
الأول: كون ترك أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر.
الثاني: القول بالملازمة.
الثالث: القول بالاقتضاء في الضد العام أيضا.
ولا يخفي أن هذه المقدمات الثلاث كلها محل منع، أما الثانية: فقد عرفت ما هو الحق فيها في مسألة مقدمة الواجب، فراجع، وأما الأخير: فسيجئ، والعمدة هي الأولي.
(١١٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الوقوف (3)، المنع (1)، النهي (1)، الوجوب (2)

إنكار المحقق الخراساني المقدمية مطلقا

فنقول: حكي عن بعض: ثبوت المقدمية من الجانبين، وعن بعض آخر:
ثبوت المقدمية بالنسبة إلي ترك الضد، وعن ثالث: عكس ذلك، وعن رابع:
التفصيل بين الضد الموجود، فيتوقف علي رفعه وجود الضد الآخر، وبين الضد المعدوم، فلا يتوقف عليه وجود الضد الآخر، وعن خامس: إنكار المقدمية مطلقا (1)!
إنكار المحقق الخراساني المقدمية مطلقا ثم إن من القائلين بالقول الخامس المنكرين للمقدمية: المحقق الخراساني في الكفاية، بل يظهر من بعض عباراته كون الشئ وترك ضده في رتبة واحدة حيث قال في مقام الجواب عن توهم المقدمية: إن المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلا عدم اجتماعهما في التحقق، وحيث لا منافاة أصلا بين أحد العينين وما هو نقيض الآخر وبديله بل بينهما كمال الملائمة، كان أحد العينين مع ما هو نقيض الآخر وبديله في مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدم أحدهما علي الآخر، كما لا يخفي (2).
هذا، وأنت خبير بأن مجرد أن يكون بينهما كمال الملائمة لا يقتضي ثبوت التقارن، كيف ومن الواضح أن يكون بين المعلول وعدم العلة كمال الملائمة، مع أن فرض التقارن بينهما يقتضي كون المعلول مع العلة أيضا كذلك، لأن النقيضين في رتبة واحدة بلا إشكال، كما صرح به في الكفاية بعد هذه العبارة.
ويمكن توجيه هذا الكلام بأنه كما يصدق علي الضد ما يكون ذلك من
١ - انظر بدائع الأفكار، المحقق الرشتي: ٣٧٢ / السطر ١٧.
٢ - كفاية الأصول: ١٦١.
(١١٣)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
أفراده حقيقة بالحمل الشائع الذاتي الذي مرجعه إلي كون المصداق داخلا في حقيقة المحمول، كذلك يصدق عليه عدم الضد الآخر بالحمل الشائع العرضي الذي يرجع إلي ثبوت المحمول له بالعرض، فالشئ الواحد يكون مصداقا لشئ بالذات ولشئ آخر بالعرض، فيستلزم ذلك كون المتصادقين في رتبة واحدة، لأن المفروض كون المصداق لهما شيئا واحدا، كما هو واضح.
ولكن لا يخفي أن حمل العدم علي الوجود ليس حملا حقيقيا راجعا إلي كون ذلك الوجود واجدا لذلك العدم، ككونه واجد للصفات الوجودية، كيف ومعني الواجدية كون شئ مرتبطا مع شئ آخر، مع أن العدم مطلقا ليس بشئ حتي يكون شئ آخر واجدا له.
وتقسيم القضايا إلي قضية موجبة وسالبة محصلة وموجبة سالبة المحمول وسالبة معدولة لا يدل علي إمكان حمل السلب والعدم علي شئ، لأن ذلك إنما هو علي سبيل المسامحة، بل ما عدا الأول يرجع إلي نفي الربط بين الموضوع، وذلك الحكم المسلوب، لا إلي ثبوت الربط بينهما، كيف والعدم ليس بشئ حتي تحققت الرابطة بينه وبين موجود آخر، وصدق القضايا السلبية ليس بمعني مطابقتها للواقع حتي يكون لها واقع يطابقه، بل صدقه بمعني خلو الواقع عن الارتباط، وثبوت المحمول للموضوع، كما لا يخفي، كما أن ما اشتهر من أن عدم العلة علة للعدم إنما هو علي نحو المسامحة قياسا إلي الوجود وتشبيها به، والتعبير عما من شأنه أن يكون له وجود بعدم الملكة ليس المراد منه أن العدم فيه الشأنية لكذا، كيف وهي من الحيثيات الثبوتية الممتنعة الاجتماع مع الحيثيات السلبية.
وبالجملة، فكون العدم مقابلا للوجود خارجا عن حيطة الشيئية مما لا ينبغي الارتياب فيه، فكل ما يوهم بظاهره الخلاف من ثبوته لشئ أو ثبوت
(١١٤)
صفحهمفاتيح البحث: الأكل (1)، الصدق (1)

ما أفاده المحقق القوچاني في المقام

شئ له فيجب تأويله، كما هو واضح.
فانقدح من جميع ما ذكرنا: أن عدم الضد ليس بشئ حتي يصدق علي شئ آخر، كيف ولو قلنا بذلك لا يرتفع الإشكال المتقدم، فإن المعلول كما يصدق عليه ماهيته صدقا حقيقيا كذلك يصدق عليه عدم العلة صدقا عرضيا، فيلزم أن يكون المعلول في رتبة العلة لكونه في رتبة عدمها الذي هو في رتبة وجودها، كما هو المفروض في النقيضين.
فتحصل أن ما ذكره في الكفاية لم ينهض حجة علي اتحاد رتبة الشئ وترك ضده، كما عرفت.
ثم إنه (قدس سره) - بعد العبارة المتقدمة التي كان غرضه منها إثبات التقارن بينهما - صار بصدد تشبيه الضدين بالنقيضين، فقال: فكما أن قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر كذلك في المتضادين (1).
ما أفاده المحقق القوچاني في المقام والمستفاد مما ذكره بعض الأعاظم من تلامذته (هو الشيخ علي القوچاني (قدس سره)) في حاشيته علي الكفاية في شرح مراد العبارة: أن مقصوده من هذه العبارة أيضا إثبات كون الشئ وترك ضده في مرتبة واحدة حيث قال ما ملخصه: إنه لا إشكال في أن بين كل متقابلين من أقسام التقابل اتحاد وتكافؤ في المرتبة، أما المتناقضين: فلأن النقيض للوجود هو العدم البدلي الكائن في رتبته لولاه الغير المجتمع معه لا السابقي ولا اللاحقي المجتمع معه في دار التحقق،
١ - كفاية الأصول: ١٦١.
(١١٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، النهوض (1)، الحج (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
فالنقيض لوجود زيد هو عدمه في مدة وجوده الكائن مقامه لولاه، وإلا فالعدم قبل وجوده أو بعد وجوده ليس نقيضا له مع اجتماعه مع وجوده في دار التحقق.
وهكذا في السابق واللاحق بحسب الرتبة، فإن النقيض للمعلول هو عدمه في رتبة وجوده، لا العدم في رتبة العلة المجامع معه في التحقق، وإلا لزم ارتفاع النقيضين في مرتبة سلب أحدهما مقدمة للآخر، ولما كان الوجود عين الرفع لعدمه النقيض، كما لا يخفي، ولما كان متنافيا معه في التحقق ذاتا.
وهكذا الكلام في المتضادين، فإن المضادة إنما هو بين الوجودين في رتبة واحدة، فالضد للوجود هو الوجود البدلي الثابت في رتبته لولاه، فإذا ثبت ذلك في المتناقضين والمتضادين يثبت اتحاد الرتبة في المقام، فإنه إذا كان نقيض أحد الضدين في رتبة وجوده الذي هو في رتبة وجود الضد الآخر، فاللازم كونه في رتبة وجود الضد الآخر، وهو المطلوب (1). انتهي ملخص كلامه (قدس سره).
ولكن لا يخفي بطلان جميع المقدمات الثلاثة.
أما ما ذكره في المتناقضين: فلأن النقيض للوجود في زمان مخصوص ليس عدمه في ذلك الزمان بأن يكون الظرف قيدا للعدم والرفع حتي يوجب ذلك كون العدم مقيدا بذلك الوقت، فيكون في مرتبة الوجود فيه، بل نقيض الوجود في زمان مخصوص هو عدم هذا المقيد علي أن يكون القيد قيد للمرفوع لا للرفع، كيف ومعني تقييد العدم يرجع إلي الموجبة المعدولة، فتصير القضية كاذبة، فإن قولنا: ليس الوجود المقيد بهذا الزمان متحققا، قضية صادقة، بخلاف قولنا:
الوجود في هذا الزمان ليس في هذا الزمان، علي أن يكون الظرف قيدا للسلب الراجع إلي حمل السلب المقيد علي الوجود كذلك، كما هو واضح، فلابد من أن
١ - حاشية كفاية الأصول، القوچاني: 112.
(١١٦)
صفحهمفاتيح البحث: الباطل، الإبطال (1)، الصدق (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
يكون علي نحو السالبة المحصلة، ومعه لا يثبت اتحاد الرتبة أصلا، كما لا يخفي.
وأما ما ذكره في المتضادين: فكون التضاد بين الوجودين في زمان واحد في محل واحد مسلم، ولكن لا يثبت بذلك اتحاد رتبتهما، كيف والحكم باتحاد الرتبة وعدمه من الأحكام العقلية المتوقفة علي إحراز ملاك التقدم وصاحبيه، ومجرد التقارن في الخارج لا يقتضي اتحاد رتبتهما بحسب العقل، كيف والمعلول مقارن لوجود العلة في الخارج مع اختلافهما بحسب الرتبة، كما هو واضح.
وبالجملة، فالتقدم والتأخر والتقارن بحسب الخارج لا ربط لشئ منها بالرتب العقلية أصلا.
ثم إنه لو سلم اتحاد رتبة المتناقضين والمتضادين فذلك لا يستلزم اتحاد رتبة نقيض الشئ مع الضد بقياس المساواة، فإنه فيما إذا كان الملاك في الثالث موجودا، وقد عرفت أن حكم العقل باتحاد الرتبة متوقف علي إحراز ملاكه، ككونهما معلولين لعلة واحدة مثلا، أما مجرد كون نقيض الشئ متحدا معه في الرتبة وهو مع ضده أيضا كذلك، فلا يستلزم كون النقيض مع الضد الآخر متحدا في الرتبة مع عدم ملاك له، كما لا يخفي.
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنه لم يقم دليل تام علي اتحاد رتبة الضد مع نقيض ضده الآخر، ولنا أن نقول: بقيام الدليل علي العدم، لأن العدم ليس بشئ حتي يحكم عليه بحكم إيجابي، وهو اتحاد رتبته مع الوجود، كما أنه ليس في رتبة متقدمة ولا متأخرة، لأن كل ذلك من الأحكام الايجابية المبتنية علي ثبوت الموضوع لقاعدة الفرعية المسلمة عند العقل والعقلاء، فعدم الضد لا يكون متأخرا عن الضد ولا متقدما عليه ولا مقارنا معه.
(١١٧)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)

مقالة المحقق الأصفهاني في المقام

ولا يخفي أن حكمنا بنفي التأخر وقسيميه إنما هو علي نحو السالبة المحصلة الصادقة مع انتفاء الموضوع، كقولنا: شريك الباري ممتنع، ونظائره، وإلي هذه - أي القضية السالبة المحصلة - يرجع كل ما ورد في الكتب العقلية مما يوهم بظاهره أن العدم له تقرر، ويكون من الأمور النفس الأمرية، مثل قولهم: عدم العلة علة للعدم، وكذا عدم المانع مصحح لفاعلية الفاعل، أو قابلية القابل، وأشباههما، فإنه لا ينبغي الاغترار بظاهر هذه الجملات بعد كون الأمر في محله واضحا ضروريا، فإن التعبير بأمثال هذه العبارات إنما وقع علي سبيل المسامحة قياسا إلي الوجود وتشبيها به، والغرض منه تسهيل الأمر علي المتعلمين اتكالا علي ما أوضحوه في محله، كما لا يخفي.
وبالجملة، فالعدم ليس له تقرر وواقعية حتي يؤثر في شئ أو يتأثر من شئ، ومعه فلا يبقي مجال للنزاع في مقدمية عدم الضد لوجود الضد الآخر وعدمها أصلا، كما لا يخفي.
مقالة المحقق الأصفهاني في المقام ومما ذكرنا يظهر النظر فيما ذكره بعض المحققين من محشي الكفاية، فإنه (قدس سره) بعد ذكر التقدم بالعلية والتقدم الطبعي وبيان الفرق بينهما وأن ما فيه التقدم في الثاني هو الوجود، وفي الأول وجوب الوجود، وذكر أن منشأ التقدم الطبعي تارة كون المتقدم من علل قوام المتأخر، كالجزء والكل، واخري كون المتقدم مؤثرا، فيتقوم بوجوده الأثر، كالمقتضي بالإضافة إلي المقتضي، وثالثة كون المتقدم مصححا لفاعلية الفاعل، كالوضع والمحاذاة بالنسبة إلي إحراق النار، أو متمما لقابلية القابل، كخلو المحل عن الرطوبة وخلو الموضوع عن السواد عند عروض البياض، وبعد الاستشكال في الدور الذي ذكره في
(١١٨)
صفحهمفاتيح البحث: الشراكة، المشاركة (1)، الوجوب (1)
الكفاية (1) بأن عدم اتصاف الجسم بالسواد لا يحتاج إلي فاعل وقابل كي يحتاج إلي مصحح فاعلية الفاعل ومتمم قابلية القابل كي يتوهم توقف عدم الضد علي وجود الضد أيضا وبعد بيان أن الصلاة والإزالة لهما التأخر والتقدم بالطبع، فإنه لا وجود للإزالة إلا والصلاة غير موجودة، فكذا العكس.
قال: وأما ما يقال من أن العدم لا ذات له فكيف يعقل أن يكون شرطا، لأن ثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له، فمدفوع بأن القابليات والاستعدادات والإضافات وأعدام الملكات كلها لا مطابق لها في الخارج، بل شؤون وحيثيات انتزاعية لأمور موجودة، فعدم البياض في الموضوع الذي هو من أعدام الملكات كقابلية الموضوع من الحيثيات الانتزاعية منه، فكون الموضوع بحيث لا بياض له هو بحيث يكون قابلا لعروض السواد، فمتمم القابلية كنفس القابلية حيثية انتزاعية وثبوت شئ لشئ لا يقتضي أزيد من ثبوت المثبت له بنحو يناسب ثبوت الثابت (2). انتهي موضع الحاجة من كلامه، زيد في علو مقامه.
والعجب منه (قدس سره) مع كونه من مهرة الفن أنه كيف يمكن تشبيه أعدام الملكات بالقابليات والاستعدادات والإضافات، مع أنها من مراتب الوجود وإن لم تكن بحيث يمكن الإشارة إليها والأعدام مطلقا مقابل للوجود لاحظ لها منه أصلا، كما هو واضح.
وقضية كون الموضوع بحيث لا بياض له قضية سالبة محصلة لا موجبة معدولة حتي تشابهت قضية كون الموضوع قابلا، كما هو واضح.
وبالجملة، فالأعدام مطلقا خارجة عن حمي الوجود وحيطة الشيئية،
١ - كفاية الأصول: ١٦١.
٢ - نهاية الدراية 2: 180 - 183.
(١١٩)
صفحهمفاتيح البحث: الصّلاة (2)، الحاجة، الإحتياج (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
فلا يترتب عليها شئ من الآثار الوجودية من قبيل الشرطية واتحاد الرتبة ونظائرهما.
فتلخص من جميع ذلك، بطلان المقدمة الأولي من المقدمات الثلاثة المبتنية عليها القول بالاقتضاء في الضد الخاص.
وأما المقدمة الثانية - التي هي عبارة عن الملازمة في مقدمة الواجب - فقد عرفت سابقا بطلانها بما لا مزيد عليه.
وأما المقدمة الثالثة الراجعة إلي اقتضاء الأمر بالشئ للنهي عن الضد العام الذي بمعني النقيض، فربما قيل فيها بالاقتضاء بنحو العينية، وإن الأمر بالصلاة مثلا عين النهي عن تركها، فلا فرق بين أن يقول: صل، وبين أن يقول: لا تترك الصلاة، فإنهما يكونان بمنزلة الإنسان والبشر لفظين مترادفين (1).
هذا، ولكن لا يخفي فساده، فإن هيئة الأمر موضوعة للبعث، وهيئة النهي موضوعة للزجر، ولا معني لاتحادهما مفهوما وإن كان الثاني متعلقا إلي ترك المبعوث إليه.
وبالجملة، فمعني الاتحاد المفهومي يرجع إلي اتحاد المعني الموضوع له، مع أن هيئة الأمر موضوعة للبعث، والنهي للزجر، ومتعلقه في الأول هو الفعل، وفي الثاني هو الترك، ولا وضع لمجموع الهيئة المتعلقة بالمادة.
ودعوي أن المراد اتحاد البعث عن الشئ والزجر عن تركه معني ومفهوما، يدفعه وضوح فساده.
ومما ذكرنا يظهر: بطلان القول بالجزئية، فإن معني الأمر هو البعث، وهو أمر بسيط لا تركب فيه أصلا، وأما دعوي اللزوم بالمعني الأخص فيظهر من
1 - مطارح الأنظار: 17 / السطر الأخير.
(١٢٠)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، النهي (2)، البعث، الإنبعاث (2)، الباطل، الإبطال (2)، الصّلاة (2)
التقريرات (المحقق النائيني (قدس سره)) أنه لا بأس به نظرا إلي أن نفس تصور الوجوب والحتم يوجب تصور المنع من الترك والانتقال إليه (1)، وأنت خبير بأن مجرد عدم انفكاك التصورين لا يوجب ثبوت المنع الشرعي الذي هو المقصود في المقام، فإن النزاع إنما هو في أن الآمر إذا أمر بشئ هل يكون أمره به موجبا لنهيه عن ضده بمعني أن يكون هنا شيئان: أحدهما: الأمر بالشئ، والآخر: النهي عن نقيضه، وذلك لا يثبت بمجرد الانتقال من تصور الوجوب إلي تصور المنع من الترك، كما هو واضح.
وإن أراد الدلالة علي المنع بالدلالة الالتزامية من دون افتقار إلي النهي الصادر من المولي بعد الأمر، فيرد عليه: اقتضاء الدلالة المذكورة لتعدد الحكمين الموجب لتعدد استحقاق المثوبة والعقوبة، وهو كما تري منه.
نعم ربما يجعل الكلام في الإرادة لا في الأمر والنهي، ويقال بعدم انفكاك الإرادة المتعلقة بالشئ عن الإرادة المتعلقة بعدم تركه، ولكن هذا يصح في الإرادات التكوينية، وأما في الإرادات التشريعية فلا يتم بناء علي ما حققناه في بحث مقدمة الواجب من أن كل إرادة تحتاج إلي مبادئها من دون فرق بين الإرادة المتعلقة بالمقدمة وبين الإرادة المتعلقة بذيلها.
نعم لو قلنا بترتب الإرادة الثانية علي الإرادة الأولي قهرا من دون توقفها علي شئ من مبادئ الإرادة، فله وجه كما لا يخفي.
ثم لا يذهب عليك أن ما ذكرنا: من ابتناء القول بالاقتضاء من طريق التوقف والمقدمية علي ثلاث مقدمات إنما هو علي القول بالملازمة مطلقا، وأما لو قيل بوجوب خصوص المقدمة الموصلة: فالظاهر ابتناء ذلك القول علي مقدمة
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 303.
(١٢١)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (2)

الاستدلال علي الاقتضاء في الضد الخاص من طريق التلازم

رابعة أيضا، فإن الوجوب المقدمي إنما يتعلق بترك الضد لا مطلقا، بل بتركه الموصل إلي الضد المتوقف عليه، واقتضاء هذا الوجوب للنهي عن الضد العام بمعني النقيض لا يفيد إلا حرمة نقيض الترك الموصل، وهو ترك الترك الموصل، وهذا بمجرده لا يقتضي حرمة الفعل إلا بناء علي توافق حكم المتلازمين، وإلا فقد عرفت سابقا أن الفعل لا يكون نقيضا للترك الموصل، فسراية حكم النقيض إلي الفعل مبني علي لزوم توافق حكم المتلازمين، فإن الفعل لا ينفك عن النقيض أصلا وإن كان النقيض ربما ينفك عن الفعل، كما إذا لم يأت في المثال المشهور لا بالإزالة ولا بالصلاة، وحينئذ فعلي القول بالمقدمة الموصلة يتوقف إثبات الاقتضاء علي المقدمة الرابعة التي جعلوها دليلا مستقلا في مقابل المقدمية، كما سيجئ، فلا تكون حينئذ دليلا ثانيا، بل تصير من مقدمات الدليل الأول، كما هو واضح.
هذا كله فيما يتعلق بالقول بالاقتضاء من جهة التوقف والمقدمية التي عرفت أنها هي العمدة في المقام.
الاستدلال علي الاقتضاء في الضد الخاص من طريق التلازم ويظهر من بعضهم الاستدلال له بلزوم توافق حكمي المتلازمين، وهذا أيضا يبتني علي ثلاث مقدمات: الأولي: ثبوت التلازم بين الشئ وترك ضده، الثانية: لزوم اتحاد المتلازمين من حيث الحكم، الثالثة: اقتضاء الأمر بالشئ للنهي عن ضده العام بمعني النقيض.
أما المقدمة الأولي: فلأن الشئ لا يمكن أن يصدق عليه ضده، وإلا يلزم اجتماع المتضادين الممتنع بالبديهة، فالواجب أن يصدق عليه نقيض الضد، وإلا يلزم ارتفاع النقيضين، فالبياض مثلا لا يمكن أن يصدق عليه السواد، للزوم
(١٢٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الوقوف (1)
اجتماع الضدين، فيجب أن يصدق عليه اللا سواد، وإلا يلزم ارتفاع النقيضين.
وأما المقدمة الثانية: فلأنه لو كان أحد المتلازمين واجبا، فالآخر لابد إما أن يكون واجبا فهو المطلوب، وإما أن يكون جائزا تركه بالجواز بالمعني الأعم من الأحكام الأربعة الاخر، فاللازم جواز تركه المستلزم لجواز ترك الواجب لفرض التلازم، فيخرج الواجب عن كونه واجبا، ومن المعلوم أيضا أنه يستحيل خلو الواقعة عن حكم من الأحكام الخمسة.
وأما المقدمة الثالثة: فقد عرفت إثباتها سابقا، فراجع.
هذا، ولكن لا يخفي بطلان جميع المقدمات الثلاثة.
أما بطلان الأولي: فلأن نقيض صدق السواد علي البياض الممتنع بديهة ليس هو صدق اللا سواد عليه بل نقيضه عدم صدق السواد عليه علي نحو السالبة المحصلة، وذلك لأنه لو كان نقيضه هو صدق اللا سواد عليه علي نحو الموجبة المعدولة، يلزم ارتفاع النقيضين، لكذب القضيتين معا.
أما كذب قضية: " البياض سواد " فواضح.
وأما كذب قضية: " البياض لا سواد " فلما عرفت من أن العدم ليس بشئ حتي يمكن أن يحمل علي شئ أو يحمل عليه شئ، وقد عرفت أن جميع القضايا التي يكون العدم فيها موضوعا أو محمولا لابد أن ترجع إلي السالبة المحصلة، كما هو واضح.
وأما بطلان الثانية: فلأن كون الترك والعدم واقعة حتي يستحيل خلوه عن حكم من الأحكام الخمسة، ممنوع، فإنه ليس بشئ حتي يكون فعلا للمكلف ويتعلق الحكم به.
هذا، مضافا إلي أن استحالة خلو الوقائع عن الحكم ممنوعة، فإن هذا لو
(١٢٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (3)، الكذب، التكذيب (2)، الباطل، الإبطال (3)، التصديق (4)، الجواز (1)

الأمر الرابع: في ثمرة المسألة

سلم فإنما هو بحسب الحكم الواقعي لا الفعلي، مع إمكان أن يقال بعدم استحالة خلوها عن الحكم بحسب الواقع أيضا، فإن الإباحة التي منشأها عدم تعلق حكم شرعي به بمعني أن جواز فعله لعدم تعلق النهي التحريمي ولا التنزيهي به وجواز تركه، لعدم تعلق الأمر الوجوبي ولا الاستحبابي به أيضا في الحقيقة ليست بحكم.
نعم الإباحة التي منشأها خلو الفعل عن المصلحة والمفسدة أو تساويهما الراجعة إلي جعل الشارع إياها لذلك، حكم من الأحكام الخمسة، بخلاف الإباحة بالمعني الأول، كما لا يخفي.
وأما بطلان الثالثة: فقد عرفت تفصيله، وأن الأمر بالشئ لا يقتضي النهي عن نقيضه، لا بنحو العينية، ولا علي طريق الجزئية، ولا علي سبيل اللزوم، فتأمل جيدا.
الأمر الرابع: في ثمرة المسألة اعلم أن المشهور ذكروا في ثمرة القول بالاقتضاء وعدمه أن القول بالاقتضاء بضميمة أن النهي في العبادات يوجب البطلان ينتج بطلان الضد لو كان عبادة، بخلاف القول بالعدم.
هذا، ولكن لا يخفي انتفاء الثمرة وصحة العبادة حتي علي القول بالاقتضاء، فإنك عرفت أن منشأ القول بالاقتضاء إما توهم مقدمية ترك الضد لفعل الضد الآخر، وإما توهم الملازمة بينهما، وعلي التقديرين لا يثبت بطلان العبادة.
أما علي تقدير المقدمية: فلأن النهي الناشئ من جهتها نهي مقدمي غيري، والنهي الذي يؤثر في بطلان متعلقه إذا كان عبادة هو النهي الذي كان عن ملاك
(١٢٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الباطل، الإبطال (5)، النهي (5)، الجواز (1)
من المفسدة في المنهي عنه.
وأما مجرد تعلق النهي بشئ لا لأجل اشتماله علي مفسدة ملزمة، بل لغرض التوصل إلي شئ آخر، فلا يكون مؤثرا في البطلان، فإن الوجه فيه هو امتناع أن يكون ما هو المبغوض الذي يوجب البعد عن المولي مقربا للعبد منه، كما لا يخفي ومن المعلوم أن هذا لا يتحقق في النهي الغيري، فإن المنهي عنه بهذا النهي لا يكون مبغوضا للمولي أصلا، وأداء فعله إلي ترك مطلوبه لا يوجب مبغوضية ذلك الفعل، بل المبغوض هو ترك المطلوب لا ما يؤدي إليه، كما هو واضح.
ومن هذا يظهر أنه لو قلنا بالاقتضاء من جهة الملازمة فلا يستلزم النهي الناشئ من جهة الملازمة بطلان المنهي عنه أصلا، فإن تعلق النهي بسبب الملازمة لا يوجب مبغوضية متعلقه في حد ذاته حتي يمتنع أن يكون مقربا، كما هو واضح، فالثمرة منتفية، والعبادة صحيحة مطلقا قلنا بالاقتضاء أم لا، وعلي الأول لا فرق بين أن يكون الاقتضاء مستندا إلي المقدمية أو إلي الملازمة.
هذا، وحكي عن البهائي وجماعة أنهم أنكروا الثمرة وحكموا ببطلان العبادة مطلقا (1)، نظرا إلي أن صحتها متوقفة علي تعلق الأمر الفعلي بها، وحينئذ فلو لم نقل بالاقتضاء وأن الضد يصير منهيا عنه فلا أقل من عدم تعلق الأمر الفعلي به، لامتناع تعلق الأمر بالمتضادين، فبطلانه لو كان عبادة يستند علي هذا إلي عدم تعلق الأمر به، كما أن بطلانه بناء علي الاقتضاء مسبب عن تعلق النهي به، فالضد العبادي باطل علي أي تقدير.
١ - زبدة الأصول: ٩٨ - 99، هداية المسترشدين: 244 / السطر 39 - 41.
(١٢٥)
صفحهمفاتيح البحث: الباطل، الإبطال (2)، النهي (4)، الجماعة (1)، كتاب زبدة الأصول للسيد محمد صادق الروحاني (1)

جواب آخر علي مسلك الترتب

وأجيب عنه بوجهين:
أحدهما: ما ذكره في الكفاية من منع كون صحة العبادة متوقفة علي تعلق الأمر الفعلي بها، بل يكفي مجرد المحبوبية للمولي، والضد بناء علي عدم حرمته يكون كذلك، فإن المزاحمة علي هذا لا يوجب إلا ارتفاع الأمر المتعلق به فعلا مع بقائه علي ما هو عليه من ملاكه، لعدم حدوث ما يوجب مبغوضيته وخروجه عن قابلية التقرب به كما حدث بناء علي الاقتضاء (1).
ثانيهما: عن المحقق الكركي وجماعة ممن تأخر عنه (2) من منع إطلاق مقالة البهائي، فإنها تجري في خصوص المتزاحمين المضيقين، وأما لو فرض وقوع التزاحم بين مضيق وموسع، كما لو فرض مزاحمة الصلاة في بعض أوقات وجوبها لواجب آخر مضيق، ففي مثل هذا يمكن القول بصحة الفرد المزاحم من الصلاة لذلك الواجب ولو قلنا بتوقف صحة العبادة علي الأمر.
جواب آخر علي مسلك الترتب ثم إنه تصدي جماعة من الأفاضل لتصحيح الأمر بالضدين بنحو الترتب بأن يكون الأمر بالأهم مطلقا غير مشروط والأمر بالمهم مشروطا بعصيان الأمر الأول بنحو الشرط المتأخر، أو بالبناء علي معصيته (3)، ولا يخفي أن اشتراط الأمر بالمهم بالعصيان أو بالبناء عليه لا يكون اشتراطا شرعيا.
وتوضيحه يتوقف علي بيان مقدمات:
١ - كفاية الأصول: ١٦٥ - ١٦٦.
٢ - جامع المقاصد ٥: ١٣، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي ١: ٣١٢.
٣ - جامع المقاصد ٥: ١٢ - ١٣، كشف الغطاء: ٢٧، درر الفوائد، المحقق الحائري: 140.
(١٢٦)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (1)، المنع (2)، الصّلاة (1)، الجماعة (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
الأولي: أنه لا إشكال في أن متعلق الأوامر والنواهي هي الطبائع لا الأفراد، كما سيأتي تحقيقه.
الثانية: المراد بالإطلاق هو أخذ الطبيعة في مقام جعل الحكم عليه مطلقة غير مقيدة بشئ من القيود بمعني أن المتكلم المختار إذا صار بصدد بيان بعض الأحكام ولم يأخذ في موضوعه إلا الطبيعة المعراة عن القيود، يستكشف من ذلك أن تمام الموضوع لذلك الحكم هي نفس الطبيعة بلا مدخلية لشئ في ترتبه أصلا، فمعني الإطلاق ليس هو لحاظ سراية الحكم إلي جميع أفراد الطبيعة حتي يتحد مع العموم في النتيجة، وهي ثبوت الحكم لجميع أفراد الطبيعة، لأنه ليس في الإطلاق لحاظ الأفراد، بل لا يعقل أن تكون الطبيعة مرآة وكاشفة لوجوداتها التي ستحقق بعد انضمام سائر العوارض إليها فإن لفظ الإنسان مثلا لم يوضع إلا لنفس ماهية الحيوان الناطق ولا يعقل أن يحكي عن أفراد تلك الطبيعة بعد عدم كونه موضوعا بإزائها، كما هو واضح.
وبالجملة، فليس معني الإطلاق إلا مجرد عدم مدخلية شئ من القيود بلا ملاحظة الأفراد، كما هو واضح.
الثالثة: أن المزاحمة الحاصلة بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم كالأمر بإزالة النجاسة عن المسجد والأمر بالصلاة ليست متحققة في مرحلة تعلق الأمر بهما، إذ ليس الأمر لطبيعة الصلاة مزاحما للأمر لطبيعة الإزالة أصلا، كما لا يخفي، وليسا كالأمر بالنقيضين، بل المزاحمة بينهما إنما تتحقق بعد تعلق الأمر وحصول الابتلاء بمعني أنه إذا ابتلي المكلف بنجاسة المسجد في زمان كونه مأمورا بالأمر الصلاتي تحصل المزاحمة بينهما، ومن المعلوم أن الترتب والاشتراط الذي يقول به القائل بالترتب إنما هو بعد تحقق المزاحمة المتأخرة عن مرحلة الأمر، كما عرفت.
وحينئذ فنقول: إنه كيف يمكن أن يكون أحد الأمرين مشروطا بسبب
(١٢٧)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، السجود (2)، النجاسة (1)، الصّلاة (1)

تحقيق في الجواب علي مسلك الخطابات القانونية

المزاحمة التي تتحقق بينهما بعدا؟! بعدما عرفت من أن معني الإطلاق هو أخذ الطبيعة المرسلة موضوعا للحكم ومتعلقا للأمر بلا ملاحظة الأفراد ولا الحالات التي من جملتها في المقام حال الابتلاء بالضد الواجب.
وبالجملة، فالآمر في مقام الأمر لم يلاحظ الحالات بخصوصها حتي صار بصدد علاج المزاحمة الحاصلة في بعض الحالات المتأخرة عن الأمر، كما هو واضح، وعلي تقدير تسليم عدم الامتناع عقلا نقول: إن ذلك غير واقع، إذ ليس في الأدلة الشرعية ما يظهر منه تقييد الأمر بالمهم واشتراطه كما يظهر بالمراجعة.
فانقدح من جميع ذلك: أنه لو كان المراد بالاشتراط اشتراطا شرعيا، يرد عليه امتناعه، وعلي تقدير التسليم عدم وقوعه فلا يفيد أصلا، كما لا يخفي، فيجب أن يكون المراد بالاشتراط اشتراطا عقليا.
تحقيق في الجواب علي مسلك الخطابات القانونية وتنقيح الكلام في هذا المقام بحيث يظهر منه صحة الاشتراط ولزومه أو عدمهما يتوقف علي رسم مقدمات:
الأولي: أنه ليس للحكم إلا مرتبتان: مرتبة الإنشاء ومرتبة الفعلية، بل نقول: إنهما ليستا مرتبتين للحكم بأن يكون كل حكم ثابتا له هاتان المرتبتان، بل هما مقسمان لطبيعة الحكم بمعني أن الأحكام علي قسمين: أحدهما: الأحكام الإنشائية، وثانيهما: الأحكام الفعلية، والمراد بالأولي هي الأحكام التي لم يكن فيها ما يقتضي إجراءها بعد جعلها بل أوحي إليها إلي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وأودعها (صلي الله عليه وآله وسلم) إلي الأئمة (عليهم السلام) حتي يظهر قائمهم (عليه السلام)، فيجريها، كما أن المراد بالثانية هي القوانين والأحكام التي قد أجريت بعد الوحي، وهي الأحكام
(١٢٨)
صفحهمفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، يوم عرفة (1)، الوقوف (1)
المتداولة بين الناس التي أظهرها النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أو الأئمة من بعده.
والدليل علي ما ذكرنا من أنه ليس الفعلية والإنشائية مرتبتين للحكم بأن يكون العالم مثلا حكمه فعليا والجاهل إنشائيا: أن المراد بالحكم الذي يجعلون له المرتبتين بل المراتب الأربع - كما في الكفاية (1) - إن كان هو العبارة المكتوبة في القرآن أو في كتب الحديث فمن الواضح البديهي أنه لا يعرض له التغيير بتغير حالات المكلف من حيث العلم والجهل والقدرة والعجز ونظائرها، وإن كان المراد به هو حقيقة الحكم الراجعة إلي إرادة المبدأ الأعلي جل شأنه، فمن الواضح أيضا أنه لا يعرض لها التغيير باختلاف الحالات المذكورة، لامتناع عروض التغير له تعالي، كما لا يخفي.
الثانية: لا يذهب عليك ثبوت الفرق بين الخطاب بنحو العموم وبين الخطاب بنحو الخصوص في بعض الموارد، منها: مسألة الابتلاء، فإنه يشترط في صحة توجيه الخطاب الخاص وعدم استهجانه أن يكون المخاطب مبتلي بالواقعة المنهي عنها، كما أنه يشترط في صحة توجيه الخطاب الخاص المتضمن للأمر أن لا يكون للمخاطب داع إلي إتيان المأمور به مع قطع النظر عن تعلق الأمر.
والسر في ذلك أن الأمر والنهي إنما هو للبعث والزجر، ويقبح زجر المكلف عما يكون متروكا، لعدم الابتلاء به، كما هو واضح، وهذا بخلاف الخطاب بنحو العموم، كما هو الشأن في جميع الخطابات الواردة في الشريعة، فإنه لا يشترط في صحته أن يكون كل واحد من المخاطبين مبتلي بالواقعة المنهي عنها، لعدم انحلال ذلك الخطاب إلي خطابات عديدة حسب تعدد المخاطبين حتي يشترط
١ - كفاية الأصول: ٣٢١.
(١٢٩)
صفحهمفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، القرآن الكريم (1)، النهي (1)، الجهل (2)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
فيه ذلك، بل يشترط فيه أن لا يكون جميعهم أو أكثرهم تاركين للمنهي عنه، لعدم الابتلاء، وأما لو كان بعضهم تاركا له ولم يكن في البين ما يميز كل واحد من الطائفتين عن الأخري، فلا يضر بصحة الخطاب بنحو العموم أصلا، فما اشتهر بينهم من أنه إذا خرج بعض أطراف العلم الإجمالي عن مورد الابتلاء، لم يجب الاجتناب من الآخر أيضا ليس في محله، كما حققناه في موضعه (1).
والوجه في عدم الانحلال: أنه لا إشكال في كون الكفار والعصاة مكلفين بالأحكام الشرعية مع أنه لو قيل بالانحلال إلي خطابات متكثرة، يلزم عدم كونهم مكلفين، لعدم صحة توجيه الخطاب الخاص إليهم بعد عدم انبعاثهم إلي فعل المأمور به، وعدم انزجارهم عن فعل المنهي عنه أصلا، كما لا يخفي، فمن كونهم مكلفين يستكشف أنه لا يشترط في الخطاب بنحو العموم كون كل واحد من المخاطبين واجد الشرائط صحة توجيه الخطاب الخاص إليه.
والدليل علي عدم كون الخطابات الواردة في الشريعة مقيدة بالعلم والقدرة، مضافا إلي ما نراه بالوجدان من عدم كونها مقيدة بنظائرهما: أنها لو كانت مقيدة بالقدرة بحيث لم يكن العاجز مشمولا لها ومكلفا بالتكاليف التي تتضمنه تلك الخطابات يلزم فيما لو شك في القدرة وعدمها إجراء البراءة، لأن مرجع الشك فيها إلي الشك في التكليف، لأن المفروض الشك في تحقق قيده، وإجراء البراءة في موارد الشك في التكليف مما لا خلاف فيه بينهم مع أنه يظهر منهم القول بالاحتياط في مورد الشك في القدرة كما يظهر بمراجعة فتاويهم.
وأيضا لو كانت الخطابات مقيدة بالقدرة، يلزم جواز إخراج المكلف نفسه عن عنوان القادر، فلا يشمله التكليف، كما يجوز للحاضر أن يسافر، فلا يشمله
١ - أنوار الهداية ٢: ٢١٣ وما بعدها.
(١٣٠)
صفحهمفاتيح البحث: الأحكام الشرعية (1)، البعث، الإنبعاث (1)، الجواز (2)، كتاب أنوار الهداية للسيد الخميني (1)
تكليف الحاضر، وكما يجوز للمكلف أن يعمل عملا يمنعه عن صدق عنوان المستطيع عليه، وغيرهما من الموارد، مع أن ظاهرهم عدم الجواز في المقام، وليس ذلك كله إلا لعدم اختصاص الخطاب بالقادرين، بل يعم الجميع غاية الأمر كون العاجز معذورا في مخالفة التكليف المتعلق به بحكم العقل.
وتوهم: أنه كيف يمكن أن تتعلق إرادة المولي بإتيان جميع الناس مطلوباته مع أن العقل يحكم بامتناع تعلق الإرادة من الحكيم بإتيان العاجز.
مدفوع: بأنه ليس في المقام إلا الإرادة التشريعية، ومعناها ليس إرادة المولي إتيان العبد، كيف ولازمه استحالة الانفكاك بالنسبة إلي الله جل شأنه، لما قرر في محله من عدم إمكان تخلف مراده تعالي عن إرادته، بل معني الإرادة التشريعية ليست إلا الإرادة المتعلقة بجعل القوانين المتضمنة للبعث والزجر، فمتعلق الإرادة إنما هو بعث الناس إلي محبوبه وزجرهم عن مبغوضه، لا انبعاثهم وانزجارهم حتي يستحيل الانفكاك.
وبالجملة، فلا يشترط في جعل القوانين العامة إلا كونها صالحة لانبعاث النوع وانزجار لسببه كما يظهر بمراجعة العقلاء المقنين للقوانين العرفية، فتأمل في المقام، فإنه من مزال الأقدام.
الثالثة: قد عرفت أن كل واحد من الأمر بالأهم والأمر بالمهم إنما تعلق بالطبيعة معراة عن جميع القيود، وليس فيها لحاظ الأفراد ولا لحاظ الحالات التي يطرأ بعد تعلق الأمر بها حتي صار المولي بصدد بيان العلاج ودفع التزاحم بين الأمرين في حالة الاجتماع.
الرابعة: أنه ليس للعقل التصرف في أوامر المولي بتقييدها ببعض القيود، بل له أحكام توجب معذورية المكلف بالنسبة إلي مخالفة تكاليف المولي، فحكمه بقبح العقاب في صورة الجهل أو العجز لا يرجع إلي تقييد الأحكام بصورة
(١٣١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، التصديق (1)، الجهل (1)، البعث، الإنبعاث (1)، الجواز (1)
العلم والقدرة حتي لا يكون الجاهل أو العاجز مكلفا، بل الظاهر ثبوت التكليف بالنسبة إلي جميع الناس أعم من العالم والجاهل والقادر والعاجز، غاية الأمر كون الجاهل والعاجز معذورا في المخالفة بحكم العقل. نعم قد يكون حكم العقل كاشفا عن بعض الأحكام الشرعية، فحكمه حينئذ طريق إليه، كما لا يخفي.
الخامسة: قد عرفت أن الخطابات الواردة في الشريعة إنما تكون علي نحو العموم، ولا يشترط فيها أن يكون كل واحد من المخاطبين قادرا علي إتيان متعلقها، بل يعم القادر والعاجز، ومعذورية العاجز إنما هو لحكم العقل بقبح عقابه علي تقدير المخالفة، لا لعدم ثبوت التكليف في حقه، وحينئذ فالعجز إما أن يكون متعلقا بالإتيان بمتعلق التكليف الواحد، وحينئذ فلا إشكال في معذورية المكلف في مخالفته، وإما أن يكون متعلقا بالجمع بين الإتيان بمتعلق التكليفين أو أزيد بأن لا يكون عاجزا عن الإتيان بمتعلق هذا التكليف بخصوصه ولا يكون عاجزا عن موافقة ذلك التكليف بخصوصه أيضا، بل يكون عاجزا عن الجمع بين موافقة التكليفين ومتابعة الأمرين.
إذا عرفت هذه المقدمات، فنقول: إذا كان الأمران متعلقين بالضدين المساويين من حيث الأهمية، فالمكلف حينئذ إما أن يشتغل بفعل واحد منهما أو بأمر آخر، وعلي الثاني إما أن يكون ذلك الأمر محرما وإما أن لا يكون كذلك، فالصور ثلاثة:
أما الصورة الأولي: فلا إشكال فيها في ثبوت الأمرين معا، لما عرفت في المقدمات السابقة، غاية الأمر كونه معذورا في مخالفة واحد منهما لحكم العقل بمعذورية العاجز.
(١٣٢)
صفحهمفاتيح البحث: الأحكام الشرعية (1)، يوم عرفة (3)، الجهل (3)
وأما الصورة الثانية: فالمكلف يستحق فيها ثلاث عقوبات، أما العقوبة علي ما اشتغل به من فعل المحرم فواضح. وأما العقوبة علي مخالفة كل من الأمرين: فلكونه قد خالفهما من غير عذر، لفرض كونه قادرا علي إتيان متعلق كل واحد منهما، وعجزه إنما هو عن الجمع بينهما، والجمع لا يكون متعلقا للأمر حتي يعذر في مخالفته، لتحقق العجز.
وأما الصورة الثالثة: فيظهر الحكم فيها مما ذكرنا في الصورة الثانية.
هذا، إذا كان الأمران متعلقين بمساويين من حيث الأهمية، وأما إذا كان أحد الضدين أهم من الآخر، فالعقل يحكم بوجوب ترجيحه علي المهم في مقام الإطاعة والامتثال، وحينئذ فإذا امتثل الأمر بالأهم، فالعقل يحكم بمعذوريته في مخالفة الأمر بالمهم بعد كونه غير مقدور عن إطاعته، وأما إذا امتثل الأمر بالمهم وصرف قدرته إلي طاعته دون الأمر بالأهم، فلا إشكال في استحقاق المثوبة علي امتثاله، وعدم كونه معذورا في مخالفة الأمر بالأهم بعدما عرفت من كونه مشمولا لكلا الخطابين، والعقل لا يحكم بمعذوريته.
ومنه يظهر أنه لو خالف الأمرين معا، يستحق العقوبة عليهما.
والمتحصل من جميع ما ذكرنا أمران:
أحدهما: بطلان ما حكي عن البهائي من أنه لو قيل بعدم الاقتضاء فلا أقل من عدم تعلق الأمر بالضد، فإنك قد عرفت أنه لا منافاة بين الأمرين أصلا، بل الظاهر ثبوتهما من دون أن يكون أحدهما مترتبا علي الآخر، بل يكونان في عرض واحد بلا ترتب وطولية.
ثانيهما: استحقاق العقابين علي تقدير مخالفة كلا الأمرين، ولا إشكال فيه، كما عرفت.
(١٣٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (3)، الباطل، الإبطال (1)

تحقيق في الترتب

تحقيق في الترتب ثم إنه يظهر من المحقق النائيني (قدس سره) القول بالترتب، وقد أطال الكلام في ذلك بإقامة مقدمات كثيرة (1)، ونحن نقتصر علي ما يرد عليها، فنقول:
أما المقدمة الأولي: الراجعة إلي إثبات أن ما أوقع المكلف في مضيقة، الجمع بين الضدين وأوجبه عليه هل هو نفس الخطابين الفعليين أو إطلاقهما وشمولهما لحالتي فعل الآخر وعدمه، فهي وإن كانت بنفسها صحيحة إلا أنه لا يترتب عليه النتيجة، كما سيأتي، ويبقي فيها ما أورده علي الشيخ من المناقضة بين ما اختاره في هذا المقام من إنكار الترتب غاية الإنكار (2) وبين ما ذكره الشيخ في مبحث التعادل والترجيح من الفرائد حيث قال في الجواب عما قيل من أن الأصل في المتعارضين عدم حجية أحدهما ما لفظه: لكن لما كان امتثال التكليف بالعمل بكل منهما - كسائر التكاليف الشرعية والعرفية - مشروطا بالقدرة، والمفروض أن كلا منهما مقدور في حال ترك الآخر، وغير مقدور مع إيجاد الآخر، فكل منهما مع ترك الآخر مقدور يحرم تركه ويتعين فعله، ومع إيجاد الآخر يجوز تركه، ولا يعاقب عليه، فوجوب الأخذ بأحدهما نتيجة أدلة وجوب الامتثال، والعمل بكل منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة، وهذا مما يحكم به بديهة العقل، كما في كل واجبين اجتمعا علي المكلف، ولا مانع من تعيين كل منهما علي المكلف بمقتضي دليله إلا تعيين
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 336 - 352.
2 - مطارح الأنظار: 57 - 59.
(١٣٤)
صفحهمفاتيح البحث: الأكل (1)، الجواز (1)، الوجوب (2)
الآخر عليه كذلك (1). انتهي موضع الحاجة.
ومحصل الإيراد: أن هذا الكلام صريح في أن التخيير في الواجبين المتزاحمين إنما هو من نتيجة اشتراط كل منهما بالقدرة عليه، وتحققها في حال ترك الآخر، فيجب كل منهما عند ترك الآخر، فيلزم الترتب من الجانبين مع أنه قد أنكره من جانب واحد، وليت شعري أن ضم ترتب إلي ترتب آخر كيف يوجب تصحيحه؟!
أقول: من الواضح الذي لا يعتريه ريب أن كلامه هناك لا يدل علي الترتب من الطرفين أصلا، كيف ومعني الترتب كون الأمر الثاني في طول الأمر الأول لاشتراطه بما يتأخر عنه رتبة، وحينئذ فكيف يمكن أن يكون كل من الأمرين في طول الآخر ومتأخرا عنه رتبة؟! لأن مقتضاه إمكان تقدم الشئ علي نفسه المستحيل بداهة، بل المراد من العبارة ما ذكرناه وحققناه في هذا المقام من أن الأمرين باقيان علي إطلاقهما من دون أن يكون أحدهما مقيدا بما يتأخر عن الآخر أو بشئ آخر، غاية الأمر أن وجوب الامتثال الذي هو حكم عقلي مشروط بالقدرة عليه، وحيث إنه لا ترجيح بين الامتثالين هناك، فالعقل يحكم بتخيير المكلف ومعذوريته في مخالفة ترك الآخر لو لم يخالف المجموع، فالمقيد بالقدرة ونظائرها إنما هو حكم العقل بوجوب الامتثال، لا أصل الخطابين، وهذا هو ظاهر كلام الشيخ حيث ذكر أن المقيد بالقدرة إنما هو حكم العقل.
نعم يرد علي الشيخ: سؤال الفرق بين المقامين حيث حكم باستحالة ثبوت الأمرين في المقام مع أنه اختار ثبوتهما هناك، فإن الظاهر جريان هذا الوجه بعينه في المقام بلا فرق بينهما أصلا، كما هو واضح لا يخفي.
١ - فرائد الأصول ٢: ٧٦١.
(١٣٥)
صفحهمفاتيح البحث: الوجوب (1)، الحاجة، الإحتياج (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)
وأما المقدمة الثانية: الراجعة إلي أن الواجب المشروط بعد تحقق شرطه حاله حاله قبل تحقق شرطه من حيث إنه بعد علي صفة الاشتراط، ولا يتصف بصفة الإطلاق، وذلك لأن الشرط فيه يرجع إلي قيود الموضوع، إلي آخر ما ذكرنا.
فيرد عليها ما تقدم منا في الواجب المطلق والمشروط من أن أخذ القيد بحسب الواقع ونفس الأمر علي وجهين، فإنه قد يكون الشئ محبوبا للإنسان عند حصول شرط بحيث لا يكون بدونه مطلوبا وإن كان ربما يمنع عن تحقق القيد، وقد يكون الشئ المقيد محبوبا له بحيث ربما يتحمل لأجل تحقق مطلوبه مشاقا كثيرة، فالصلاة في المسجد قد تكون محبوبة للإنسان لأجل ما يترتب عليها، فلو لم يكن مسجد يصير بصدد بنائه لأجل تحقق مطلوبه، وقد تكون الصلاة محبوبة له علي تقدير تحقق المسجد بحيث يشتاق إلي عدم تحقق المسجد لأجل انزجاره من الصلاة، ولكن علي تقدير تحققه يتعلق حبه بها، وحينئذ فمع كون الأمر في الواقع علي قسمين، فلا وجه لإرجاع جميع القيود إلي قيود الموضوع مع ترتب الثمرة بين الوجهين في مواضع كثيرة، منها:
الاستصحاب، بل لا يجوز ذلك أصلا، كما لا يخفي.
ثم علي تقدير التسليم فإرجاع القيود إلي الموضوع إنما هو في القيود التي أخذها المولي في مقام الحكم، وجعله مقيدا بها دون ما يأتي من ناحية العقل، كما في المقام، حيث إنه يحكم بناء علي الترتب بكون الأمر بالمهم مقيدا بما يتأخر عن الأمر بالأهم، فان لتقييد تقييد عقلي لا ربط له بالخطابين، فإنهما مطلقان، كما لا يخفي.
ثم إنه يظهر منه أنه لو لم يكن الشرط من قيود الموضوع فاللازم أن يكون من علل التشريع مع أن هنا أمرا ثالثا يرجع إليه الواجب المشروط، وهو أن
(١٣٦)
صفحهمفاتيح البحث: المنع (1)، السجود (3)، الصّلاة (2)، الجواز (1)
يكون المجعول - وهو الحكم - مقيدا بذلك الشرط، فإنه لا مجال لأن يقال بأن الشرط فيه من علل التشريع، بل المشروع والمجعول مقيدا به وثابت علي تقدير تحققه، كما لا يخفي.
ثم لا يخفي أن عدم انقلاب الواجب المشروط عن كونه كذلك بعد تحقق شرطه لا يتوقف علي كون الشرط من قيود الموضوع، بل الظاهر عدم الانقلاب بناء علي ما اخترناه وحققناه في الواجب المشروط أيضا، فإن المراد بالحكم الذي يتوهم انقلابه عند تحقق شرطه هل هو الجزاء المترتب علي الشرط.
وبعبارة أخري: الجملة المتضمنة للبعث، فمن الواضح عدم معقولية عروض الانقلاب له.
وإن كان المراد به هي الإرادة التشريعية، فقد عرفت أن معناها ليس إرادة إتيان العبد به، كيف ومن المستحيل انفكاك الإتيان عنها، بل معناها يرجع إلي إرادة الجعل والتشريع التي يعبر عنها بالفارسية ب (قانونگذاري) ومن المعلوم استحالة عروض التغير والانقلاب لها، بل لا معني لانقلابها، كما لا يخفي.
وأما المقدمة الثالثة: فمقارنة زمان الشرط والتكليف والامتثال وإن كانت مسلمة إلا أن ما أجاب به عن الإشكال الثاني الذي يرجع إلي أن الترتب مستلزم لإيجاب الجمع لا يتم، كما سيجئ في الجواب عن المقدمة الخامسة.
وأما المقدمة الرابعة: التي يبتني عليها الترتب والطولية، فيرد علي التقسيم إلي الأقسام الثلاثة أن الإطلاق ليس معناه إلا مجرد أخذ الشئ موضوعا للحكم مع عدم تقييده ببعض القيود، فمن أجل أنه فاعل مختار يمكن له بيان ماله دخل في موضوع حكمه، ومع ذلك فلم يأخذ شيئا آخر، يستفاد أن ذلك الشئ تمام الموضوع، فالإطلاق اللحاظي بالمعني الذي ذكره لا وجه له أصلا، بل لا معني له، وحينئذ فنقول: إن الإطلاق بالمعني الذي ذكرنا علي
(١٣٧)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الوقوف (1)
قسمين: قسم يمكن للعبد أن يحتج به علي المولي، كما في القيود والتقادير المتصورة علي القسمين الأولين، وقسم لا يمكن للعبد ذلك، كما بالنسبة إلي القيود التي يقتضيه نفس الخطاب، وهو القسم الثالث الذي ذكره.
وكيف كان فغاية هذه المقدمة إثبات الترتب والطولية، وهو لا يستلزم الخروج عن إيجاب الجمع، كما سنبين فيما يتعلق علي المقدمة الخامسة.
وأما المقدمة الخامسة: التي سيقت لبيان أن الترتب لا يقتضي إيجاب الجمع، فينبغي أولا الإشارة إلي وجه تأخر العصيان المشروط به خطاب المهم عن الأمر بالأهم، ثم النظر إلي أنه علي فرض الترتب هل يجدي ذلك في إخراج المسألة عن إيجاب الجمع بين الضدين أو لا؟
فنقول: قد يقال - كما قيل -: إن الوجه في تأخر عصيان الأمر بالأهم عنه:
أن العصيان نقيض للإطاعة والامتثال، إذ هو ترك المأمور به لا عن عذر، والإطاعة متأخر عن الأمر، لأن الانبعاث متأخر عن البعث، إذ هو معلول له، والإتيان بمتعلق الأمر وإن لم يكن متأخرا عنه إلا أن صدق الامتثال والإطاعة عليه يتوقف علي تحققه والالتفات إليه، وحينئذ فإذا ثبت تأخر الإطاعة عن الأمر فيظهر تأخر العصيان عنه أيضا، لأنه نقيض لها، والنقيضان متساويان في الرتبة وما مع المتقدم في الرتبة يكون متقدما في الرتبة أيضا.
هذا، ولكن قد عرفت سابقا منع اتحاد النقيضين من حيث الرتبة، ولو سلم فما مع المتقدم في الرتبة لا يكون متقدما في الرتبة، لما عرفت سابقا من أن التقدم والتأخر بحسب العقل مستند إلي ملاكهما، ومع عدم الملاك لا يحكم بالتقدم أو التأخر.
هذا، والعمدة في منع تأخر العصيان عن الأمر ما عرفت من أن معني العصيان هو ترك المأمور به لا عن عذر، وهو من الأعدام والأعدام لا تكون
(١٣٨)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (3)، البعث، الإنبعاث (1)، الوقوف (1)، التصديق (1)، المنع (2)
متأخرة عن شئ ولا متقدمة عليه، لأنه ليس بشئ حتي يحكم عليه بحكم وجودي.
ومن هنا يظهر: أنه لا يعقل أن يكون خطاب المهم مشروطا به بعد كونه من الأعدام، ولا يعقل ثبوت التأثير لها أصلا، كما هو واضح لا يخفي.
وكيف كان فعلي تقدير تسليم الترتب والطولية بين الأمرين فنقول: إن ذلك لا يجدي في رفع غائلة استحالة طلب الضدين، فإن شرط خطاب المهم إما أن يكون نفس العصيان بحسب وجوده الخارجي المتوقف علي مضي زمان لا يمكن معه الامتثال في الزمان الباقي، وهو الذي يترتب عليه سقوط الأمر بالأهم، لأن بقاءه مستلزم لتعلق الطلب بغير المقدور، كما هو المفروض، وإما أن يكون العنوان الذي ينتزع منه بعد كونه متحققا في ظرفه بحسب الواقع ونفس الأمر، وهو كون المكلف ممن يعصي أو تعقب العصيان وتأخره ونظائرهما، وإما أن يكون الشرط التلبس بالعصيان والشروع فيه، وإما أن يكون أحد العناوين الأخر المنطبقة علي أحد الوجوه المتقدمة.
إذا عرفت ذلك، نقول: أما لو كان الشرط هو العصيان الخارجي الذي عرفت أنه لا يتحقق إلا بعد مضي مقدار من الزمان لا يمكن معه الامتثال في الباقي، فمن الواضح أنه بمجرد تحققه يسقط الأمر بالأهم، كما أن قبل تحققه لا يكون الأمر بالمهم موجودا، لعدم تحقق شرطه بعد فقبل تحقق العصيان لا يتحقق الأمر بالمهم، وبعد تحققه لايبقي الأمر بالأهم، فأين يلزم اجتماع الأمرين الذي عليه يبتني القول بالترتب، وأما لو كان الشرط هو العنوان الذي ينتزع من العصيان المتأخر، فمن الواضح لزوم طلب الجمع، لأن بمجرد تحقق الزوال مثلا الذي يتحقق معه شرط خطاب المهم يكون مأمورا بإتيان الأهم ويحركه الأمر المتعلق به نحوه، وبإتيان المهم أيضا لتحقق شرطه، وهكذا لو كان الشرط هو التلبس
(١٣٩)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)

حول أمثلة الترتب

بالعصيان لو كان له معني معقول.
والحاصل: إما أن يكون الشرط أي شئ كان مؤثرا في سقوط خطاب الأهم، فلا يبقي مجال للترتب، وإما أن لا يكون كذلك، فيلزم طلب الجمع، كما هو واضح.
حول أمثلة الترتب ثم لا يخفي أن الفروع التي أوردها في التقريرات للإلزام بصحة الخطاب الترتبي (1)، مضافا إلي أن غاية ما يدل عليها هو إمكان أن يكون بعض الخطابات مترتبا علي البعض الآخر وفي طوله، وهو مما لا ينكره أحد حتي القائلين بامتناع الترتب، لوروده في الشرع كثيرا، نظير الأمر بالتوبة، المترتب علي تحقق العصيان والذنب، وغير ذلك من الموارد الكثيرة، بل الذي يقول به القائل بالامتناع هو عدم تأثير الترتب في دفع غائلة طلب الجمع بين الضدين المستحيل بالبداهة، ولا يظهر من الفروع ذلك نقول: إن معني النقض بشئ هو أن يكون المنقوض به مسلما بين المتخاصمين بحيث لا مجال لهما لإنكاره، وحينئذ فنقول: إن مسألة الإقامة التي أوردها فيها لا تكون مورد للنقض، لأن الذي ورد في الشرع هو وجوب الصوم والإتمام علي تقدير قصد الإقامة عشرة أيام، لا معلقا علي نفس الإقامة، وحينئذ فلو كان ذلك القصد محرما، لتعلق النذر أو العهد أو اليمين بعدمه، فما دام لم يتحقق لا يكون وجوب الصوم والإتمام متحققا، وبمجرد تحققه الذي يسقط بسببه النهي المتعلق به لحصول العصيان بتحقق الأمر بالإتمام ولكن بعد سقوط النهي كما عرفت.
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 357 - 359.
(١٤٠)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، التوبة (1)، النهي (2)، الصيام، الصوم (2)، الوجوب (2)
هذا، ولو سلم كون الشرط لوجوب القصر والإتمام هو نفس الإقامة مثلا، فمن المعلوم أن تحققه موقوف علي تحقق الإقامة عشرة أيام، وحينئذ فإذا تحققت يجئ الأمر بالإتمام وبالصوم، فقبل تحققها لا يكون هنا إلا النهي، وبعد تحققها المستلزم لسقوط النهي بالعصيان لا يكون هنا إلا الأمر بالصوم وبالإتمام، فأين يلزم الترتب.
ثم لو سلم الجميع، فالكلام إنما هو فيما لو كان الأمر الثاني مشروطا بما يتأخر عن الأمر الأول من عصيان ونحوه، مع أن مورد النقض يكون الأمر بالصوم أو الإتمام مترتبا علي نفس الإقامة بناء عليه، ومن المعلوم أن الإقامة لا يكون متأخرا عن النهي المتعلق بها حتي يلزم الترتب، فالمقام يكون طلبا للجمع حينئذ مع عدم الترتب والطولية، كما لا يخفي.
ولنختم بذلك الكلام في الترتب، وقد عرفت في صدر المبحث ما هو مقتضي التحقيق، فتأمل جيدا.
(١٤١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، النهي (3)

الفصل السادس: في جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه

أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط الفصل السادس في جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه ربما يحتمل في عنوان النزاع احتمالات:
أحدها: أن يكون المراد بالجواز الإمكان الوقوعي، والضمير في شرطه راجعا إلي نفس الأمر، فمرجع النزاع حينئذ إلي إمكان تحقق المعلول من دون تمامية علته.
الثاني: أن يكون الضمير أيضا راجعا إلي نفس الأمر ولكن كان المراد بالجواز الإمكان الذاتي، فمرجع النزاع حينئذ إلي أن تحقق الأمر مع عدم تحقق علته هل هو من الممكنات الذاتية التي لا ينافي عروض الامتناع لها والوجوب من ناحية وجود العلة وعدمها.
الثالث: أن يكون الضمير راجعا إلي المأمور به أو المأمور، فيرجع النزاع إلي جواز الأمر مع العلم بكون المكلف غير قادر علي إتيان المأمور به إما لفقد شرطه أو لعلة فيه.
هذا، ولكن النزاع علي الوجهين الأولين - مضافا إلي كونه بعيدا عن محل الخلاف بين الأعلام - ينافي ظاهر العنوان من حيث أخذ العلم فيه، فإنه لو كان
(١٤٢)
صفحهمفاتيح البحث: الجواز (2)
النزاع في إمكان تحقق المعلول بدون علة بالإمكان الوقوعي أو الذاتي، فلا مجال لكون العلم دخيلا فيه أصلا، كما هو واضح، فينحصر أن يكون المراد هو الاحتمال الثالث، ومرجعه إلي النزاع بين العدلية والأشاعرة، فإنهم اختلفوا في جواز التكليف بالمحال، فذهب الطائفة الأولي إلي عدم الجواز خلافا للطائفة الثانية القائلين بالجواز، ولعل قولهم بالجواز مبني علي ما ذكروه في مبحث الطلب والإرادة وكونهما مختلفين، وإلا فلا يعقل أن تتحقق الإرادة بالنسبة إلي من يعلم عدم صدور الفعل منه، كما هو واضح.
وكيف كان فالذي يقتضيه التحقيق في مورد النزاع هو أن يقال: إن الأوامر علي قسمين:
أحدهما: الأوامر الشخصية الجزئية المتوجهة إلي أشخاص المأمورين.
ثانيهما: الأوامر الكلية المتوجهة إلي المكلفين بنحو العموم.
أما ما يكون من قبيل الأول: فعدم إمكان تحققه في صورة العلم بانتفاء شرط تحقق المأمور به واضح ضروري، وذلك لأن غاية البعث إنما هو الانبعاث وحركة المكلف نحو المطلوب، فإذا فرض العلم بعدم إمكان تحقق الانبعاث - كما في المقام - فيستحيل تحقق البعث والتحريك من الآمر، إذ مع العلم بعدم ترتب الغاية عليه كيف يمكن أن ينقدح في نفسه إرادة البعث مع أن من مبادئ الإرادة التصديق بفائدة المراد، ولعمري أن هذا واضح جدا.
وأما ما يكون من قبيل القسم الثاني الذي إليه ترجع الخطابات الشرعية الواردة بنحو العموم المتوجهة إلي الناس كذلك أيضا، فلا يخفي أنه لا يضر بذلك كون بعض المكلفين غير قادرين علي الإتيان بالمأمور به، فإن توجيه الأمر بهذا النحو لا يشترط فيه إلا كون الأمر صالحا لانبعاث المكلفين بحسب النوع، وأما مجرد العلم بعدم تحقق الانبعاث بالنسبة إلي بعض المكلفين فلا يضر بتوجيه
(١٤٣)
صفحهمفاتيح البحث: مدرسة الأشاعرة (1)، البعث، الإنبعاث (3)
الأمر بهذا النحو.
نعم لو كان المكلفون بحسب النوع غير منبعثين، لاستحال تعلق الأمر بهذا النحو أيضا، وقد عرفت تفصيل الكلام في الفرق بين قسمي الأمر والخطاب في صدر مبحث الترتب، فراجع.
(١٤٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)

الفصل السابع: في أن متعلق الطلب هل هي الطبيعة أو الأفراد؟

متعلق الأوامر والنواهي الفصل السابع في أن متعلق الطلب هل هي الطبيعة أو الأفراد؟
وقبل الخوض في تحقيق المقام لابد من تحرير محل النزاع، فنقول: ظاهر العنوان محتمل لاحتمالات:
أحدها: أن يكون المراد بالطبيعة هي الماهية وبالأفراد هو الوجود بحيث كان مرجع النزاع في هذا المقام إلي النزاع المعروف المشهور في الفلسفة، وهو أن الأصيل هل هي الماهية أو الوجود؟ فالقائلون بأصالة الماهية يقولون بتعلق الطلب بها لكونها أصيلا، والقائلون بأصالة الوجود يقولون بتعلق الطلب به لكونه أصيلا.
هذا، ولكن لا يخفي أن النزاع علي هذا الوجه بعيد عن محل الكلام بين الأصوليين.
ثانيها: أن يكون النزاع راجعا ومبنيا علي القول بأن الطبيعي هل يكون موجودا في الخارج أو أن وجوده بمعني وجود أفراده؟ وكون النزاع علي هذا
صفحه(١٤٥)
الوجه وإن كان ربما يظهر من بعض الاستدلالات كما نقله في الفصول (1) إلا أن الظاهر أنه أيضا بعيد عن محل الخلاف بين الأصوليين، كما هو واضح.
ثالثها: أن يكون النزاع راجعا إلي النزاع في مواد المشتقات، فالقائلون بكونها موضوعة لنفس الطبائع بالوضع العام والموضوع له العام يقولون بتعلق الطلب بالطبيعة، لأنها مدلولة للمادة، كما أن القائلين بكونها موضوعة بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص يقولون بتعلق الطلب بالأفراد، لأنها موضوع لها للمادة، والمفروض أن الهيئة لا تدل إلا علي البعث بما تتضمنه المادة.
رابعها: أن يكون مرجع النزاع - بعد الاتفاق علي أن مواد المشتقات موضوعة للماهية لا بشرط كما نقله السكاكي (2) - إلي أن المادة بعد تعلق الطلب بها هل تشرب معني الوجود لأن الطلب إنما يتعلق بها من هذه الحيثية، أو أن الطلب إنما يتعلق بنفس مدلولها الذي هي الماهية لا بشرط؟
والنزاع علي الوجهين الأخيرين يرجع إلي النزاع في الأمر اللغوي، كما أنه علي الوجهين الأولين يكون عقليا، وقد عرفت أنه علي الوجهين الأولين بعيد عن محل الخلاف بين الأصوليين، كما أنه علي الأخيرين يلزم اختصاص النزاع بما إذا كان الطلب بصيغة الأمر بالنسبة إلي مادتها فقط، وأما لو كان الطلب بغير صيغة الأمر أو كان الطلب بها ولكن كانت المادة مقيدة بأمر آخر، كقوله: صل مع الطهارة، فلا يجري، بناء عليهما، مع أن الظاهر دخول جميع الأقسام والصور في محل النزاع.
والتحقيق أن يقال: إن مورد النزاع إنما هو أن متعلق الطلب هل هي
١ - الفصول الغروية: ١٢٥ / السطر ٣٦ - ٤٠.
٢ - انظر قوانين الأصول 1: 121 / السطر 23.
(١٤٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، البعث، الإنبعاث (1)، الصّلاة (1)، الطهارة (1)، كتاب قوانين الأصول للميرزا القمي (1)
الماهية من حيث هي هي، أو أنه هي الماهية بلحاظ وجودها في الخارج؟ إذ لا يعقل أن يتعلق الطلب بالفرد، للزوم تحصيل الحاصل.
وحينئذ فنقول: إن الظاهر هو الأول، وذلك لأنه بعد كون المصلحة الباعثة علي الطلب قائمة بنفس الماهية من دون مدخلية لشئ آخر أصلا، كما هو المفروض، ومن المعلوم أن اللفظ لا يحكي إلا عن مدلوله الذي هي نفس الماهية في المقام، فسراية الطلب منها إلي غيرها مستلزم لكون بعض المطلوب مما ليس له دخل في حصول الغرض أصلا، ولكون اللفظ حاكيا عما ليس بموضوع له، واتحاد الماهية مع وجوداتها في الخارج لا يستلزم أن يكون اللفظ الموضوع بإزائها دالا عليها أيضا، كيف وباب الألفاظ لا ربط له بباب الحقائق، كما هو واضح.
وتوهم: أن الماهية من حيث هي هي ليست إلا هي لا موجودة ولا معدومة ولا مطلوبة ولا غير مطلوبة، فكيف يمكن أن يتعلق الطلب بها من هذه الحيثية.
مدفوع: بأن معني هذا الكلام عدم كون الموجودية والمعدومية ونظائرهما مأخوذة في الماهية بحيث كانت تمام ذاتها أو جزء ذاتها، وهذا لا يستلزم استحالة تعلق الطلب بها من حيث نفسها، كيف ولا ارتباط بين المقامين أصلا، كما هو واضح.
وقد يتوهم أيضا: أن الماهية من دون لحاظ وجودها في الخارج ليست منشأ لأثر، إذ الآثار إنما يترتب علي الوجود علي ما هو مقتضي التحقيق، فكيف يجوز أن تجعل في حيز الطلب.
ولكنه مدفوع أيضا: بأن الماهية من هذه الحيثية - أي مع لحاظ وجودها في الخارج - ظرف لسقوط الطلب، فالمصحح لتعلقه بها إنما هو هذه الحيثية
صفحه(١٤٧)
التي لا تكون الماهية بها منشأ للأثر، إذ لحاظ التحقق في الخارج إنما هو لحاظ السقوط وحصول المطلوب، كما هو واضح.
فالحق: أن الطلب إنما تعلق بنفس الماهية، غاية الأمر أن صدق عنوانها يتوقف علي التحقق الخارجي، فالأمر بإكرام زيد مثلا إنما تعلق بنفس طبيعة الإكرام، غاية الأمر أن صدق عنوان الإكرام وتحققه يتوقف علي وجوده، إذ ماهية الإكرام لا تكون إكراما، كما هو واضح.
ثم لا يخفي أن في التقريرات المنسوبة إلي المحقق العراقي (قدس سره) قد عقد بعد هذا الفصل فصلا آخر لسراية الطلب المتعلق بصرف وجود الطبيعة إلي حصصها أو الخصوصيات الفردية (1)، وكلامه فيه مبني علي ما يقوله الرجل الهمداني، وقد فصل مع جوابه في محله، فراجع.
1 - نهاية الأفكار 1: 384 - 389.
(١٤٨)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (1)، التصديق (2)، دولة العراق (1)

الفصل الثامن: في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب

بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب الفصل الثامن في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب والكلام هنا تارة يقع في الإرادة الحتمية التي ينشأ منها البعث، واخري في البعث والوجوب، وعلي التقديرين تارة يقع الكلام في إمكان بقاء الجواز بعد النسخ، واخري في بيان مقتضي الجمع بين الدليلين، وأنه هل يقتضي الدليل ثبوته بعد الفراغ عن إمكان البقاء ثبوتا، فالبحث يتم في ضمن أمور:
الأمر الأول: في إمكان بقاء الجواز فنقول: أما الكلام في الإرادة الحتمية فقد يقال بإمكان بقاء أصلها بعد نسخها بتلك المرتبة القوية، نظرا إلي أن الإرادة وإن كانت من البسائط إلا أن صدقها علي أفرادها إنما هو علي سبيل التشكيك، كما يظهر بمراجعة الوجدان، فإن الإنسان قد يريد شيئا بحيث لا يمكن ردعه عنها، وقد يريد شيئا ولكنه يمكن أن ينصرف عنها لتحقق بعض الموانع، وحينئذ فإذا نسخت بتلك المرتبة القوية،
(١٤٩)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (1)

فيه أمور: الأمر الأول: في إمكان بقاء الجواز

بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب الفصل الثامن في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب والكلام هنا تارة يقع في الإرادة الحتمية التي ينشأ منها البعث، واخري في البعث والوجوب، وعلي التقديرين تارة يقع الكلام في إمكان بقاء الجواز بعد النسخ، واخري في بيان مقتضي الجمع بين الدليلين، وأنه هل يقتضي الدليل ثبوته بعد الفراغ عن إمكان البقاء ثبوتا، فالبحث يتم في ضمن أمور:
الأمر الأول: في إمكان بقاء الجواز فنقول: أما الكلام في الإرادة الحتمية فقد يقال بإمكان بقاء أصلها بعد نسخها بتلك المرتبة القوية، نظرا إلي أن الإرادة وإن كانت من البسائط إلا أن صدقها علي أفرادها إنما هو علي سبيل التشكيك، كما يظهر بمراجعة الوجدان، فإن الإنسان قد يريد شيئا بحيث لا يمكن ردعه عنها، وقد يريد شيئا ولكنه يمكن أن ينصرف عنها لتحقق بعض الموانع، وحينئذ فإذا نسخت بتلك المرتبة القوية،
(١٤٩)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (1)

الأمر الثاني: في مقتضي الأدلة إثباتا بعد فرض إمكانه

فلا مانع من بقائها ولو في ضمن المرتبة الضعيفة (1).
هذا، ولكن لا يخفي أن معني البساطة هو عدم كون تلك الحقيقة البسيطة مركبة من شئ مشترك بين أفرادها بحيث كانت التفاوت الموجود بينها خارجا عن الحقيقة، بل كانت تفاوت أفراد الطبيعة من حيث القوة والضعف ونظائرهما بحيث يكون ما به الاختلاف عين ما به الاشتراك، وحينئذ فكيف يعقل ارتفاع بعض الأفراد وبقاء شئ منه؟! وهل يتوهم أحد أنه لو ارتفع الوجوب من الواجب الوجود يبقي أصل الوجود حتي يمكن أن يصير ماديا؟
وبالجملة، فمن الواضح عدم إمكان البقاء في مثل البسائط.
هذا في الإرادة، وأما الوجوب فكذلك أيضا، فإنه مع بساطته - كما اعترف به القائل - كيف يمكن بقاء شئ منه، كما هو واضح.
فالتحقيق أنه لا يمكن البقاء ثبوتا حتي يبحث في مقام الإثبات.
الأمر الثاني: في مقتضي الأدلة إثباتا بعد فرض إمكانه ثم إنه لو سلمنا إمكان البقاء بحسب مقام الثبوت فهل يقتضي الدليل بقاء الجواز قد يقال: نعم، لأن ذلك مقتضي الجمع بين دليلي الناسخ والمنسوخ، نظير ما إذا ورد دليل علي وجوب شئ ودليل آخر علي عدم وجوبه، فإنه لا إشكال في أن مقتضي الجمع بينهما هو حمل الأول علي الاستحباب، فليكن المقام كذلك أيضا، لأنه لا فرق بينهما أصلا.
هذا، ولكن لا يخفي أن قياس المقام بذلك المثال قياس مع الفارق، لأن
١ - لاحظ نهاية الدراية 2: 262 - 266، نهاية الأفكار 1: 389 - 390.
(١٥٠)
صفحهمفاتيح البحث: الوجوب (1)

الأمر الثالث: في استصحاب الجواز عند الشك في بقائه

الحمل علي الاستحباب هناك لقيام الدليل علي عدم كون البعث ناشئا من الإرادة الحتمية حتي ينتزع منه الوجوب بناء علي ما ذكرنا في معني هيئة " افعل " وأما بناء علي ما ذكروه فقيام الدليل الآخر علي عدم الوجوب قرينة علي إرادة معني مجازي من الصيغة الظاهرة في الوجوب عند التجرد عن القرينة.
وأما هنا فمن المعلوم أن دليل المنسوخ ظاهر في الوجوب، وليس له ظهورات متعددة حسب تعدد مراتب الوجوب، بل ليس له إلا ظهور واحد في خصوص الوجوب، غاية الأمر أنه يكشف عن ثبوت الجواز والرجحان أيضا، وحينئذ فمع قيام الدليل علي ارتفاعه الراجع إلي ارتفاع الكاشف لايبقي وجه لثبوتهما بعد انعدام ما يكشف عنهما، إذ قد عرفت أنه ليس هنا ظهورات ثلاثة حتي يكون مقتضي دليل الناسخ ارتفاع أحدها بحيث لا ينافي ثبوت الباقي، فالحق أنه لو قلنا بإمكان بقاء الجواز ثبوتا، فلا يكون هنا دليل علي بقائه.
الأمر الثالث: في استصحاب الجواز عند الشك في بقائه قد يتمسك في ذلك بالاستصحاب.
ولكن يرد عليه - مضافا إلي أن جريانه موقوف علي جريان الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي مع أنه محل إشكال - أنه لو قلنا بالجريان في هذا القسم فهو إنما فيما إذا لم يختل بعض مما يعتبر في جريان الاستصحاب، وأما إذا اختل كما في المقام لأن الجواز المستصحب لا يكون موضوعا لمجعول شرعي حتي يترتب عليه بالاستصحاب الحكم الذي جعل موضوعا له، ولا يكون بنفسه مجعولا حتي يثبت بالاستصحاب في الزمان اللاحق فلا.
(١٥١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، البعث، الإنبعاث (1)
أما عدم كونه موضوعا لمجعول شرعي: فواضح.
وأما عدم كونه مجعولا: فلأن الجعل إنما تعلق بالوجوب لا به.
وتوهم تعلق الجعل به تبعا، مدفوع: بأنه لا يكون الجواز جزء للوجوب حتي يتعلق الجعل به بالتبع، لما عرفت من كونه بسيطا.
(١٥٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)

الفصل التاسع: في الواجب التعييني والتخييري

الواجب التعييني والتخييري الفصل التاسع في الواجب التعييني والتخييري ربما يقسم الواجب إلي تعييني وتخييري باعتبار أنه لو كان متعلق الوجوب شيئا واحدا، فهو واجب تعييني، ولو كان شيئين أو أزيد، فهو واجب تخييري.
وقد يقال بامتناع الثاني، نظرا إلي أنه لا يعقل تعلق الإرادة بأحد الشيئين أو الأشياء علي نحو الترديد بأن يكون التعلق بحسب الواقع ونفس الأمر مرددا، وذلك لأن تشخص الإرادة إنما هو بالمراد، ومن المعلوم أن التشخص الذي هو مساوق للوجود مناف للإبهام والتردد، إذ لا يعقل عروض الوجود للشئ المردد بين الأمرين أو أمور بأن يكون المردد من حيث هو مردد موجودا في الواقع، نعم لا بأس بأن يكون الواقع المعين مرددا عندنا ومجهولا لنا، ولكنه لا يعقل التردد مع قطع النظر عن علمنا وجهلنا.
وبالجملة فالإرادة من الصفات الحقيقية للنفس كالعلم ونظائره، ولها أيضا إضافة إلي المراد كإضافة العلم إلي المعلوم، فكما أن تشخص العلم إنما هو
صفحه(١٥٣)
بالمعلوم، ولا يعقل تعلق العلم بالمردد الواقعي كذلك تشخص الإرادة وتعينها إنما هو بالمراد، فلا يعقل تعلقها بالمردد بحسب نفس الأمر أو بأزيد من شئ واحد، وهذا في إرادة الفاعل واضح، ومعلوم أنه لا فرق بينها وبين إرادة الأمر، فلا يمكن تعلقها أيضا بالمردد الواقعي والمبهم النفسي الأمري، فظهر أنه لا يعقل الواجب التخييري، وحينئذ فيجب صرف ما ظاهره ذلك مما ورد في الشرعيات والعرفيات عن ظاهرها، ويقال بأحد الأقوال التي كلها مبنية علي امتناع الواجب التخييري.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في امتناع الواجب التخييري، ولكنه لا يخفي ما فيه، فإن قياس الإرادة التشريعية بالإرادة الفاعلية قياس مع الفارق، فإن معني الإرادة التشريعية ليس راجعا إلي إرادة الآمر إتيان المأمور بالمأمور به، كيف ويستحيل تخلفه بالنسبة إلي الواجب تعالي، بل معناها ليس إلا إرادة التشريع والبعث والتحريك، وحينئذ فنقول: إن تعلق الإرادة بأحد الشيئين أو الأشياء مرددا ومبهما وإن كان مستحيلا، بداهة إلا أنه لا يلزم في الواجب التخييري هذا المحذور أصلا، فإن الآمر بعدما يتصور الشيئين مثلا ويري أن كل واحد منهما مؤثر في حصول غرضه الواحد أو كان هناك غرضان يترتب أحدهما علي أحد الشيئين والآخر علي الآخر ولكن مع حصول أحد الغرضين لا يمكن تحصيل الآخر أو لا يكون تحصيله لازما، فبعدما رأي ذلك يريد أن يبعث العبد نحوهما فيبعث، ولكن يفهم العبد ذلك، أي كون أحدهما غير واجب مع حصول الآخر بأن يخلل بين البعثين كلمة أو نحوها.
وبالجملة: فليس هناك شئ متعلق بالمردد الواقعي لا تصور المولي ولا إرادته البعث ولا نفس البعث.
أما الأول: فمن الواضح أن البعث إلي الشيئين لا يعقل بدون تصورهما،
(١٥٤)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (4)
وحيث إن المتصور متعدد فلا محالة يكون التصور كذلك، لما عرفت من أن تشخصه إنما هو بتشخصه، فهناك تصوران.
وأما إرادته البعث: فواضح تعددها بعدما يريد البعث إلي هذا والبعث إلي ذاك.
ومن هنا يظهر وجه تعدد البعثين.
فتوهم: أن القول بالواجب التخييري مستلزم لكون متعلق البعث الواحد مرددا بين الشيئين أو الأشياء مع وضوح استحالته، لأنه وإن كان من الأمور الاعتبارية إلا أن تعلقها بالمردد مستحيل كتعلق الأمور الحقيقية به، وهل يعقل اعتبار ملكية المردد بين الثوب والدار ونظائره؟
مدفوع: بأن ذلك كله مبني علي أن يكون البعث واحدا والمبعوث إليه متعددا، مع أنك عرفت تعدد البعث حسب تعدد المبعوث إليه في الواجب التخييري.
فالتحقيق: أن الواجب التخييري ليس نحوا آخر من الوجوب وسنخا آخر من البعث، بل لا فرق بينه وبين التعييني من حيث الوجوب والبعث أصلا، غاية الأمر أنه يعتبر التعيينية والتخييرية بعد ملاحظة وحدة الواجب وتعدده، فالحق إمكان الواجب التخييري، ومعه لا مجال لرفع اليد عما ظاهره ذلك من الأدلة الشرعية والأوامر العرفية كما أنه لاتصل النوبة إلي الأقوال الكثيرة التي عرفت أن كلها مبنية علي امتناع الواجب التخييري.
ثم إن ما ذكره في الكفاية: من أنه لو كان هناك غرض واحد مترتب علي الشيئين أو الأشياء، فلا محالة يكون الواجب هو الجامع والقدر المشترك بينهما أو بينها، لأنه لا يمكن صدور الغرض الواحد من المتعدد بما هو متعدد، فحيث إن
(١٥٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (3)، البعث، الإنبعاث (6)

تذنيب: التخيير بين الأقل والأكثر

الغرض يترتب علي الجامع، فلا محالة يكون الجامع واجبا (1)، ففيه - مضافا إلي منع ما ذكره من عدم إمكان صدور الشئ الواحد من المتعدد فإن ذلك إنما هو في موارد مخصوصة، كما حقق في محله (2) - أنه لو سلم ترتب الغرض علي الجامع، فلا ارتباط لذلك بالمقام، إذ ليس الكلام في أن المترتب عليه الغرض هل هو شئ واحد أو متعدد، وليس التقسيم أيضا ناظرا إلي الغرض، بل التقسيم إنما هو للوجوب باعتبار الواجب، فالحكم بكون الواجب في الغرض واجبا تعيينيا لكون الغرض واحدا، والمؤثر في حصوله أيضا كذلك ممنوع جدا بعدما كان الواجب بحسب الظاهر شيئين أو أشياء، وكون التقسيم بملاحظته، ولا منافاة بين كون الغرض مترتبا علي الجامع والأمر متعلقا بما هو في ضمنه كما لا يخفي.
ثم لا يذهب عليك أن البعث إلي أحد الأشياء ونظائره من العناوين الكلية الانتزاعية إنما هو من قبيل الواجب التعييني، لأن متعلق الوجوب شئ واحد وإن كان كليا انتزاعيا، فتأمل جيدا.
تذنيب: التخيير بين الأقل والأكثر هل يمكن التخيير عقلا بين الأقل والأكثر أم لا؟
وليعلم أن مورد النزاع ما إذا اخذ الأقل لا بشرط من حيث الزيادة، وأما إذا اخذ بشرط لا، فهو مباين للأكثر، والتخيير بينه وبين الأكثر حينئذ يكون من التخيير بين المتبائنين، ولا إشكال في جوازه.
١ - كفاية الأصول: ١٧٤.
2 - الحكمة المتعالية 2: 210 - 212.
(١٥٦)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
إذا عرفت ذلك، فنقول: للمسألة صور، فإن الأقل والأكثر قد يكونان من الأمور التي تحصل تدريجا، وقد يكونان من الأمور التي تحصل دفعة، وعلي التقديرين قد يكون هنا غرض واحد يترتب علي كل واحد منهما، وقد يكون هنا غرضان يترتب أحدهما علي الأقل والآخر علي الأكثر ولكن لا يمكن تحصيل أحدهما مع حصول الآخر، أو لا يجب تحصيله وإن أمكن.
(١٥٧)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)

الفصل العاشر: في الواجب العيني والكفائي

الواجب العيني والكفائي الفصل العاشر في الواجب العيني والكفائي ربما يقسم الواجب إلي عيني وكفائي، والمراد بالأول هو ما يعتبر في سقوط الوجوب وحصول الامتثال بالإتيان به مباشرة، ولا يسقط بفعل الغير، والمراد بالثاني هو ما لا يعتبر فيه ذلك، بل يسقط التكليف عن الجميع بفعل بعض المكلفين، ويعاقب الجميع لو لم يمتثل، وهذا كوقوعه في الشرع مما لا إشكال فيه ولا كلام، وإنما الكلام في الواجب الكفائي في كيفية تعلق الوجوب بالمكلفين.
فنقول: هل الوجوب متعلق بمجموع المكلفين من حيث المجموع أو بالواحد لا بعينه أو بالواحد المردد أو بكل واحد من المكلفين؟ وجوه واحتمالات.
وتفصيل الكلام: أنه لا يعقل كون الوجوب متعلقا بالمجموع من حيث المجموع، لأنه لا وجود للمجموع من حيث هو سوي الوجودات والأفراد، كما أنه لا يعقل تعلقه بالواحد لا بعينه، لأنه لا وجود له، لأن الوجود مساوق للعينية، كما برهن في محله.
صفحه(١٥٨)
وأما الواحد المردد: فقد عرفت في مبحث الوجوب التخييري أنه لا يعقل تعلق البعث بالشئ المردد، ومن المعلوم أنه لا فرق بين المبعوث والمبعوث إليه من هذه الجهة، إذ كما أن البعث له إضافة إلي المبعوث إليه كذلك له إضافة إلي المبعوث الذي هو المكلف.
وما عن بعض الأعاظم من ثبوت الفرق بينهما (1) لا نعرف له وجها أصلا، كما لا يخفي.
وأما تعلقه بكل واحد من المكلفين: فقد يقال - كما عن بعض أعاظم المعاصرين - بأنه هي كيفية تعلق الوجوب في الواجب الكفائي، والفرق بينه وبين الواجب العيني حينئذ مع اشتراكه معه في ذلك إنما هو في الإطلاق والتقييد، بمعني أن متعلق الطلب في العيني إنما هي الطبيعة المتقيدة بقيد المباشرة، بخلاف متعلقه في الواجب الكفائي فإنه هي الطبيعة المطلقة المعراة عن قيد المباشرة.
قال: والدليل علي ذلك أنه لو شك في الواجب أنه عيني أو كفائي، يبني علي الثاني، وليس ذلك إلا لكون المطلوب فيه مطلقا بخلاف الأول (2).
وفي تقريرات المحقق النائيني أن التحقيق في تصوير الواجب الكفائي أنه عبارة عما كان الغرض منه مترتبا علي صدور الفعل من صرف وجود المكلف، بخلاف العيني الذي لا يحصل الغرض إلا بصدوره من مطلق وجود المكلف الساري في الجميع (3). انتهي.
١ - نهاية الأصول: ٢٢٨.
٢ - نفس المصدر: ٢٢٩ - ٢٣٠.
٣ - أجود التقريرات ١: ١٨٧.
(١٥٩)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، البعث، الإنبعاث (2)

أقسام الواجب الكفائي

أقسام الواجب الكفائي والتحقيق في المقام أن يقال: إن الواجب الكفائي علي أقسام:
منها: ما لا يكون للطبيعة المأمور بها إلا فرد واحد بمعني أنه لا يعقل تحققها بعد وجود فرد واحد منها، كقتل ساب النبي ودفن الميت وأمثالهما.
ومنها: ما يكون لها أفراد متعددة ووجودات متكثرة بمعني أنه يمكن أن تتحقق الطبيعة بعد تحقق فرد واحد منها كالصلاة علي الميت ونحوها.
وعلي التقدير الثاني قد يكون المأمور به هو الفرد الواحد منها، وقد يكون هو صرف وجودها الصادق علي الأفراد المتعددة، وعلي التقديرين قد يكون الفرد الآخر أو صرف وجودها الآخر مبغوضا للمولي، وقد يكون لا محبوبا ولا مبغوضا، وعلي التقادير قد يكون المكلف هو صرف وجوده وقد يكون هو الجميع.
إذا عرفت ذلك، فنقول: أما إذا لم يكن للطبيعة المأمور بها إلا فرد واحد ووجود فارد، فلا معني لأن يكون التكليف فيه متعلقا بكل واحد من المكلفين أو بصرف وجوده، إذ من الواضح أن البعث إنما هو لغرض الانبعاث، ولا يعقل أن ينبعث المكلفين إلي عمل لا يمكن تحققه إلا من واحد منهم، وهل يعقل أن يأمر المولي عبيده بشرب الماء الموجود في الإناء الذي لا يمكن تحققه إلا من واحد من عبيده؟ هكذا لو كان التكليف متعلقا بصرف وجود المكلف، لأنه يصدق علي الجميع أيضا، فلابد إما أن يقال بكون الخطاب في أمثال المثال مشروطا بعدم إتيان الآخر به، وإما أن يقال بالنحو الذي ذكرنا في الواجب التخييري، غاية الأمر أن التخيير هاهنا بالنسبة إلي المكلف وهناك بالنسبة إلي المكلف به، وإما أن يقال بأن المكلف إنما هو واحد من الأناسي المنطبق علي جميعهم.
(١٦٠)
صفحهمفاتيح البحث: الصلاة علي الميّت (1)، يوم عرفة (1)، البعث، الإنبعاث (1)، الصدق (1)، الموت (1)
ومن هنا يظهر: حال ما إذا كانت للطبيعة أفراد متعددة، ولكن كان فرد واحد منها متعلقا للأمر، سواء كان الزائد عليه مبغوضا أو غير مبغوض، فإنه لا يعقل أن يكون التكليف به متوجها إلي جميع المكلفين أو إلي صرف وجود المكلف بالتقريب المتقدم.
وأما إذا كان المأمور به هو صرف وجود الطبيعة، فيمكن أن يكون التكليف متعلقا بصرف وجود المكلف.
فتحصل مما ذكرنا: أن ما في تقريرات المحقق النائيني من كون التكليف متوجها إلي صرف وجود المكلف من دون التفريق بين الأقسام المذكورة لا يتم أصلا، كما لا يخفي.
صفحه(١٦١)
المقصد الثاني في النواهي وفيه فصول:
صفحه(١٦٣)

المقصد الثاني: في النواهي وفيه فصول: الفصل الأول: في صيغة النهي

حول صيغة النهي الفصل الأول في صيغة النهي اعلم أن هيئة " لا تفعل " إنما وضعت في اللغة للزجر عن وجود الطبيعة التي تعرض لها تلك الهيئة، كما أن هيئة " افعل " موضوعة للبعث إلي وجودها، فالفرق بين الأمر والنهي بعد الاشتراك في تعلقهما بالوجود إنما هو في كون الأول موضوعا ومفيد للبعث، والثاني دالا علي الزجر، وحينئذ فلا يبقي للنزاع المعروف - وهو: أن المطلوب في باب النواهي هل هو الكف أو نفس أن لا تفعل - مجال أصلا، إذ ذلك النزاع متفرع علي اشتراكهما في الدلالة علي الطلب، غاية الأمر ثبوت الاختلاف في باب النواهي في أن متعلق الطلب هل هو الأمر الوجودي أي الكف أو الأمر العدمي، أي نفس أن لا تفعل، وقد عرفت أن النهي لا يدل علي الطلب حتي ينازع في تعيين المطلوب وأنه أمر وجودي أو عدمي، بل إنما هو موضوع للزجر، ومتعلقه إنما هو وجود الطبيعة لا غير، كما هو واضح.
ثم علي تقدير دلالة النهي علي الطلب فلا مجال لاحتمال كون المطلوب هو العدم، وذلك لأن العدم ليس بشئ حتي يمكن تعلق الطلب به، وهذا واضح جدا.
(١٦٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، النهي (3)

في منشأ الفرق بين مرادي الأمر والنهي

ومنه انقدح فساد ما في الكفاية من كون المطلوب في باب النواهي هو العدم لا الكف (1)، إذ ليس وجه استحالة تعلق الطلب به كونه خارجا عن تحت القدرة والاختيار حتي يرد بما ذكر فيها، بل الوجه فيها أنه ليس بشئ ولا حقيقة له حتي صار لسببها مطلوبا ومرادا.
في منشأ الفرق بين مرادي الأمر والنهي ثم إنه لا إشكال عند العقلاء في ثبوت الفرق بين الأوامر والنواهي بكفاية الإتيان بفرد من الطبيعة المأمور بها في تحقق امتثال الأمر المتعلق به وسقوطه، لحصول الغرض، وهو تحققها بإيجاد فرد منها في الخارج، وأنه لا يحصل الغرض بتمامه إلا بترك جميع أفراد الطبيعة المنهي عنها في باب النواهي، إنما الإشكال في وجه الفرق، فقد يقال بأن الحاكم به إنما هو العقل، نظرا إلي أن وجود الطبيعة إنما هو بوجود فرد واحد، وعدمها لا يكاد يتحقق إلا بعد انعدام جميع الأفراد (2).
هذا، ولكن لا يخفي: أن هذا الكلام بمعزل عن التحقيق، فإن معني تحقق الطبيعة بوجود فرد ما كون كل واحد من الأفراد هو تمام تلك الطبيعة، ولا ينقص عنها أصلا، إذ لو كانت الطبيعة متحصصة بحصص عديدة حسب تعدد الأفراد، لكان وجودها في الخارج متوقفا علي وجود جميع الأفراد، لكي يتحصل جميع الحصص، فوجودها بوجود فرد واحد مساوق لكون كل فرد تمام طبيعته، فزيد تمام الإنسان، وكذا عمرو، وبكر، فإذا كان وجود زيد كافيا في وجود حقيقة
١ - كفاية الأصول: ١٨٢.
2 - نفس المصدر: 182 - 183.
(١٦٦)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
الإنسان فكيف يعقل أن لا يكون عدمه كافيا في عدمها، وهل هذا إلا المناقضة في القول من غير التفات؟
وتوهم أن لازم ما ذكر كون طبيعة واحدة موجودة ومعدومة معا فيما إذا وجد زيد وعدم عمرو، مع أن ذلك غير معقول، يدفعه أن الطبيعة إنما تتكثر حسب تكثر الأفراد، فزيد وعمرو إنسانان لا إنسان واحد، وحينئذ فلا بأس باتصافها بالوجود من ناحية وجود بعض الأفراد وبالعدم من قبل انعدام بعضها الآخر، كما أنه يتصف بالبياض والسواد، وبالطول والقصر، وبالحركة والسكون، وبالقيام والقعود في آن واحد، وليس ذلك إلا لكونه متكثرا ومتعددا حسب تكثر الوجودات وتعدد الأفراد.
فالإنصاف: أنه لا فرق بين وجود الطبيعة وعدمها من هذه الحيثية في نظر العقل أصلا، وكما أن وجود بعض الأفراد يكفي في تحصل الطبيعة فكذلك عدمه كاف في انعدامها، فاستناد الفرق بين الأوامر والنواهي إلي حكم العقل مما لا مجال له أصلا، كما لا يخفي، كما أن دعوي كون ذلك مستندا إلي فهم العرف من الألفاظ بحسب معانيها اللغوية وحقائقها التي وضعت تلك الألفاظ بإزائها مما لم يعرف له وجه، كما هو واضح، فانحصر أن يكون منشأ ذلك حكم العقلاء بذلك من غير ارتباط له بباب الألفاظ.
ثم إن دلالة النهي علي الزجر بعد المخالفة أيضا إنما هو لكون مدلوله هو الزجر عن الطبيعة المتعلقة له، لا العدم حتي يقال بأنه متي تحققت المخالفة فقد انتقض إلي الوجود، ولا مجال لبقائه بعد تحقق عصيانه، بل النهي لأجل كونه دالا علي الزجر عن جميع وجودات الطبيعة، لا مجال لسقوطه بمجرد تحقق بعض وجوداته، ولا دليل علي كون المخالفة والعصيان مسقطا.
نعم لو كان متعلق النهي هو أول الطبيعة، فبمجرد تحققه يسقط، لا لكون
(١٦٧)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (2)
المخالفة من حيث هي مسقطا، بل لأجل أنه لا يمكن امتثاله فيما بعد أصلا، لأن المفروض أن المبغوض إنما هو أول وجود الطبيعة، وقد حصل، وحينئذ فلو فرض عدم تقييده بذلك - كما في أكثر النواهي - إذ المتعلق فيها الطبيعة بجميع وجوداتها، فلاوجه لسقوطه بعد تحققها ببعض وجوداتها، فالنهي مع أنه تكليف واحد وحكم فارد له عصيانات متعددة وإطاعات متكثرة، كما لا يخفي.
ثم إنه قد تصدي بعض من المحققين لإثبات بقاء النهي بكون مدلوله علي نحو العموم الاستغراقي، كما في تقريرات المحقق النائيني (1)، أو بكون المجعول هي الملازمة بين طبيعي الطلب وطبيعي المتعلق، كما في حاشية بعض المحققين في محشي الكفاية (2).
ولكن كل ذلك مما لا دليل عليه، لو لم نقل بثبوت الدليل علي خلافه.
١ - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي ١: ٣٩٥.
٢ - نهاية الدراية 2: 290 - 291.
(١٦٨)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (1)

الفصل الثاني: في اجتماع الأمر والنهي

اجتماع الأمر والنهي الفصل الثاني في اجتماع الأمر والنهي وقبل الخوض في ذكر أدلة الطرفين وبيان أدلة المختار لابد من تقديم أمور:
الأمر الأول: في عنوان المسألة وتحرير مصب النزاع قد يقال - كما قيل - بأن مورد النزاع في هذا الباب هو اجتماع الأمر والنهي في واحد، وأن المراد بالواحد ليس خصوص الواحد الشخصي بل كل ما يكون له جهتان ومندرجا تحت عنوانين ولو كان واحدا جنسيا أو نوعيا، كالحركة الصلاتية الكلية المتحدة مع الحركة الكلية الغصبية.
هذا، ولكن لا يخفي أن الواحد الشخصي لا يعقل أن يتعلق تكليف واحد به فضلا عن تكليفين، لأن الخارج ظرف لسقوط التكليف لا ثبوته، كما هو واضح.
وأما الواحد الجنسي أو النوعي: فما كان منه مثل السجود لله والسجود للصنم، فلاينبغي الارتياب في جواز تعلق الأمر والنهي به، وما كان منه مثل الحركة والسكون الكليتين المعنونين بعنوان الصلاتية والغصبية، فمع قطع
(١٦٩)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (1)، السجود (1)، الجواز (1)

فيه أمور: الأمر الأول: في عنوان المسألة وتحرير مصب النزاع

اجتماع الأمر والنهي الفصل الثاني في اجتماع الأمر والنهي وقبل الخوض في ذكر أدلة الطرفين وبيان أدلة المختار لابد من تقديم أمور:
الأمر الأول: في عنوان المسألة وتحرير مصب النزاع قد يقال - كما قيل - بأن مورد النزاع في هذا الباب هو اجتماع الأمر والنهي في واحد، وأن المراد بالواحد ليس خصوص الواحد الشخصي بل كل ما يكون له جهتان ومندرجا تحت عنوانين ولو كان واحدا جنسيا أو نوعيا، كالحركة الصلاتية الكلية المتحدة مع الحركة الكلية الغصبية.
هذا، ولكن لا يخفي أن الواحد الشخصي لا يعقل أن يتعلق تكليف واحد به فضلا عن تكليفين، لأن الخارج ظرف لسقوط التكليف لا ثبوته، كما هو واضح.
وأما الواحد الجنسي أو النوعي: فما كان منه مثل السجود لله والسجود للصنم، فلاينبغي الارتياب في جواز تعلق الأمر والنهي به، وما كان منه مثل الحركة والسكون الكليتين المعنونين بعنوان الصلاتية والغصبية، فمع قطع
(١٦٩)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (1)، السجود (1)، الجواز (1)

الأمر الثاني: في الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي عن العبادة

النظر عن اتحادهما في الخارج وتصادقهما علي شئ فلاينبغي أيضا الإشكال في جوازه لأن الحركة ليست جنسا للصلاة أو الغصب، وأما مع ملاحظة التصادق علي وجود واحد والانطباق علي الخارج فيرجع الكلام إلي الواحد الشخصي، كما لا يخفي.
ومما ذكرنا ظهر فساد ما في الكفاية (1)، فراجع.
والأولي أن يعبر عن محل النزاع بأنه هل يجوز تعلق الأمر والنهي بالعنوانين المتصادقين علي واحد شخصي أو لا، إذ - مضافا إلي أنه لا يرد عليه شئ مما تقدم - يندفع به الإشكال المعروف، وهو أنه يكون البحث في المقام صغرويا، ولازم التعبير بما عبروه كونه كبرويا، مع أنه لا إشكال فيه ولا نزاع، إذ تضاد الأحكام الخمسة بأسرها مما لم يناقش فيه أحد.
وجه الاندفاع: أنه بناء علي هذا التعبير الذي ذكرنا لا إشكال في كون البحث كبرويا أصلا، كما هو واضح.
الأمر الثاني: في الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي عن العبادة الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي عن العبادة - التي سيجئ إن شاء الله تعالي - ذاتي لا خفاء فيه أصلا، لعدم اتحاد المسألتين لا في الموضوع ولا في المحمول، كما لا يخفي.
وكذا لا ينبغي الإشكال في كون المسألة أصولية، إذ هي مندرجة تحت ضابطة مسائل علم الأصول.
وما ذكره في الكفاية من إمكان كونهما من مسائل علم الكلام أو من
١ - كفاية الأصول: ١٨٣ - 184.
(١٧٠)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (2)، الصّلاة (1)، الجواز (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

الأمر الثالث: عدم اعتبار قيد المندوحة

غيره (1) فيتم لو تصرف في عنوان النزاع، وإلا فظاهره يأبي عن ذلك.
نعم لا بأس بجعلها من المبادئ الأحكامية، وكذا لا إشكال في كون المسألة عقلية محضة، ولا ارتباط لها بباب الألفاظ أصلا، وكذا في ثبوت المناط في أقسام الوجوب والتحريم النفسي والتعييني والعيني والغيري والتخييري والكفائي.
الأمر الثالث: عدم اعتبار قيد المندوحة إنه ربما يؤخذ في عنوان النزاع قيد المندوحة، نظرا إلي أن بدونها لا إشكال ولا خلاف في امتناع الاجتماع، ولكن الحق ما في الكفاية من أن وجود المندوحة وعدمها لا يرتبط بما هو المهم في محل البحث والمقصود في مورد النزاع، فإن العمدة في المقام هو إمكان الاجتماع واستحالته من هذه الحيثية (2).
وبعبارة أخري: مورد النزاع إنما هو استكشاف حال نفس التكليف من حيث الإمكان والاستحالة لاحال المكلف به من حيث المقدورية وعدمها، وهذا واضح جدا.
الأمر الرابع: جريان النزاع حتي مع تعلق الأوامر والنواهي بالأفراد ربما يتوهم ابتناء النزاع في هذه المسألة علي مسألة كون متعلق التكاليف هل هي الطبائع أو الأفراد تارة بمعني أن النزاع إنما يجري علي خصوص القول الأول في تلك المسألة، وأما بناء علي القول الثاني فلابد من القول
١ - كفاية الأصول ر: 185.
2 - نفس المصدر: 187
(١٧١)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

الأمر الرابع: جريان النزاع حتي مع تعلق الأوامر والنواهي بالأفراد

غيره (1) فيتم لو تصرف في عنوان النزاع، وإلا فظاهره يأبي عن ذلك.
نعم لا بأس بجعلها من المبادئ الأحكامية، وكذا لا إشكال في كون المسألة عقلية محضة، ولا ارتباط لها بباب الألفاظ أصلا، وكذا في ثبوت المناط في أقسام الوجوب والتحريم النفسي والتعييني والعيني والغيري والتخييري والكفائي.
الأمر الثالث: عدم اعتبار قيد المندوحة إنه ربما يؤخذ في عنوان النزاع قيد المندوحة، نظرا إلي أن بدونها لا إشكال ولا خلاف في امتناع الاجتماع، ولكن الحق ما في الكفاية من أن وجود المندوحة وعدمها لا يرتبط بما هو المهم في محل البحث والمقصود في مورد النزاع، فإن العمدة في المقام هو إمكان الاجتماع واستحالته من هذه الحيثية (2).
وبعبارة أخري: مورد النزاع إنما هو استكشاف حال نفس التكليف من حيث الإمكان والاستحالة لاحال المكلف به من حيث المقدورية وعدمها، وهذا واضح جدا.
الأمر الرابع: جريان النزاع حتي مع تعلق الأوامر والنواهي بالأفراد ربما يتوهم ابتناء النزاع في هذه المسألة علي مسألة كون متعلق التكاليف هل هي الطبائع أو الأفراد تارة بمعني أن النزاع إنما يجري علي خصوص القول الأول في تلك المسألة، وأما بناء علي القول الثاني فلابد من القول
١ - كفاية الأصول ر: 185.
2 - نفس المصدر: 187
(١٧١)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

الأمر الخامس: حول اعتبار وجود المناطين في المجتمع

بالامتناع في مسألتنا هذه، واخري بمعني أن القول بالجواز مبني علي القول بالطبائع، والامتناع علي القول بالأفراد.
هذا، ولكن تحقيق الكلام مبني علي استكشاف مرادهم في تلك المسألة من الفرد، فنقول: إن كان مرادهم من الفرد هو الموجود الشخصي الواحد، فهذا مما يستحيل تعلق التكليف له، للزوم تحصيل الحاصل، كما هو واضح.
وإن كان هو عنوان الفرد المعروض للكلية بمعني أن متعلق الطلب هو عنوان فرد الطبيعة، فلا إشكال في جريان النزاع في المقام علي كلا القولين في تلك المسألة، لأن القائل بالاجتماع يقول بتعلق الأمر والنهي بعنوان الفرد، كقوله بتعلقهما بالطبية بناء علي القول الآخر في تلك المسألة، وكذا لو كان مرادهم من الفرد هو الوجود الخاص بنحو العموم والكلية في مقابل الطبيعة التي هي بمعني الوجود السعي.
نعم لو كان مرادهم من الفرد هي الخصوصيات والمقارنات المتحدة في الخارج مع وجود الطبيعة بحيث كان مرجع قولهم إلي سراية الأمر من الطبيعة إلي الخصوصيات المقارنة له في الوجود، وكذا النهي، فيصير المقام مبنيا علي تلك المسألة، لأن خصوصية الغصبية حينئذ مثلا تصير مورد التعلق الأمر، وخصوصية الصلاتية مورد التعلق النهي، فكأنه قال: صل في المكان المغصوب، ولا تغصب في الصلاة، ولكن يبعد أن يكون مرادهم من الفرد ذلك، فظهر عدم ابتناء النزاع علي تلك المسألة أصلا، كما لا يخفي.
الأمر الخامس: حول اعتبار وجود المناطين في المجتمع ذكر في الكفاية ما حاصله: أنه لا يكاد يكون من باب الاجتماع إلا إذا كان في كل واحد من متعلقي الحكمين مناط حكمه مطلقا حتي في مورد
(١٧٢)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (3)، الصّلاة (2)
التصادق والاجتماع، وأما إذا لم يكن لهما مناط حكمه كذلك، فلا يكون من هذا الباب (1). انتهي موضع الحاجة.
أقول: إن كان مراده من ذلك أن مورد النزاع في المقام هو ما كان متعلقا الحكمين ذا مناط مطلقا حتي في مورد الاجتماع بحيث كان مرجعه إلي تقييد في عنوان النزاع، فلا يخفي أنه لا ارتباط لذلك بما هو المهم في مقصود البحث ومورد النزاع، لما عرفت في وجه عدم تقييد النزاع بقيد المندوحة من أن المهم في هذا المقام جواز الاجتماع واستحالته من هذه الحيثية أي حيثية الاجتماع.
ويؤيد كون مراده ذلك اختلاف التعبير في هذا المقام وفي مسألة المندوحة حيث إنه عبر هنا بأنه لا يكاد يكون من باب الاجتماع، فإن ظاهره تطبيق عنوان النزاع علي الموارد الخارجية، كما لا يخفي.
وإن كان مراده من ذلك بيان الفارق بين المقام الذي هو من قبيل التزاحم وبين باب التعارض، ودفع توهم التناقض بين الكلمات حيث إنهم ذكروا في باب التعارض أن من أقسامه التعارض بالعموم والخصوص من وجه ولم يذكروا في وجه العلاج في ذلك المقام أن من جملة وجوهه الجمع بنحو يقوله القائل بالاجتماع في ذلك المقام، بل ذكروا أن علاجه الأخذ بالأظهر إن كان، وإلا التوقف، أو الرجوع إلي المرجحات السندية علي الخلاف، وبيان الدفع علي ما يظهر منه أن مسألتنا هذه مبني علي إحراز المناط في مورد الاجتماع بالنسبة إلي الحكمين، بخلاف باب التعارض، فإنه مبني علي وحدة الملاك والمناط في الواقع، ولكن لا يعلم أن الملاك الموجود هل هو ملاك الأمر أو النهي، فإن كان مراده - أي صاحب الكفاية - دفع هذا التوهم، فيرد عليه: منع كون باب
١ - كفاية الأصول: ١٨٩.
(١٧٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، المنع (1)، النهي (1)، الجواز (1)، الحاجة، الإحتياج (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

الأمر السادس: في ثمرة بحث الاجتماع

التعارض مبنيا علي إحراز وحدة الملاك والمناط، فإن التعارض والاختلاف موضوع عرفي وقع في الروايات الواردة في علاج المتعارضين المستدل بها في ذلك الباب، فكل ما صدق عليه هذا العنوان بنظر العرف يترتب عليه أحكامه المذكورة في تلك الروايات، سواء كان المناطان موجودين في مورد الاجتماع أم لا، فإنه لا ارتباط له بباب المناط أصلا.
وبالجملة، فباب التعارض من الأبواب العرفية التي لا مجال للعقل ولا طريق له إليه أصلا، فكل مورد حكم العرف بصدق هذا الموضوع يترتب عليه أحكامه، بخلاف مسألتنا هذه، فإنها مسألة عقلية محضة لا طريق للعرف إليها أصلا.
نعم في تطبيق هذه المسألة علي الموارد الخارجية نحتاج إلي إحراز المناطين في مورد الاجتماع، بخلاف باب التعارض، فإنه غير مرتبط بباب المناط أصلا، بل لابد من الرجوع إلي العرف في تشخيص الموضوع.
وبالجملة، فالفرق بين المقام وبين باب التعارض بهذا الوجه الذي ذكره في الكفاية (1) مما لم يعرف له وجه أصلا.
الأمر السادس: في ثمرة بحث الاجتماع وفيه جهات من البحث:
الجهة الأولي: ثمرة النزاع علي القول بجواز الاجتماع إنهم ذكروا في ثمرة النزاع أنه بناء علي القول بجواز الاجتماع لا إشكال
١ - كفاية الأصول: ١٩٢.
(١٧٤)
صفحهمفاتيح البحث: التصديق (1)، الأكل (2)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

فيه جهات من البحث: الجهة الأولي: ثمرة النزاع علي القول بجواز الاجتماع

التعارض مبنيا علي إحراز وحدة الملاك والمناط، فإن التعارض والاختلاف موضوع عرفي وقع في الروايات الواردة في علاج المتعارضين المستدل بها في ذلك الباب، فكل ما صدق عليه هذا العنوان بنظر العرف يترتب عليه أحكامه المذكورة في تلك الروايات، سواء كان المناطان موجودين في مورد الاجتماع أم لا، فإنه لا ارتباط له بباب المناط أصلا.
وبالجملة، فباب التعارض من الأبواب العرفية التي لا مجال للعقل ولا طريق له إليه أصلا، فكل مورد حكم العرف بصدق هذا الموضوع يترتب عليه أحكامه، بخلاف مسألتنا هذه، فإنها مسألة عقلية محضة لا طريق للعرف إليها أصلا.
نعم في تطبيق هذه المسألة علي الموارد الخارجية نحتاج إلي إحراز المناطين في مورد الاجتماع، بخلاف باب التعارض، فإنه غير مرتبط بباب المناط أصلا، بل لابد من الرجوع إلي العرف في تشخيص الموضوع.
وبالجملة، فالفرق بين المقام وبين باب التعارض بهذا الوجه الذي ذكره في الكفاية (1) مما لم يعرف له وجه أصلا.
الأمر السادس: في ثمرة بحث الاجتماع وفيه جهات من البحث:
الجهة الأولي: ثمرة النزاع علي القول بجواز الاجتماع إنهم ذكروا في ثمرة النزاع أنه بناء علي القول بجواز الاجتماع لا إشكال
١ - كفاية الأصول: ١٩٢.
(١٧٤)
صفحهمفاتيح البحث: التصديق (1)، الأكل (2)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
في صحة الصلاة في الدار المغصوبة وحصول الامتثال بها وإن كان معصية، للنهي أيضا.
لكن التحقيق يقتضي خلافه، وأن القائل بالجواز لا يمكن له القول بالصحة أصلا.
وينبغي أولا حكاية ما ذكره المحقق النائيني - علي ما في تقريراته - في وجه القول بجواز الاجتماع من المقدمات التي لو تمت يترتب عليها صحة الصلاة في الدار المغصوبة، ثم بيان ما يمكن أن يورد عليه من الإيرادات، وهذه المقدمات وإن كانت طويلة، لما عرفت من كونها مصنوعة لإثبات القول بالجواز، إلا أنا نذكرها بطريق الاختصار، ونحيل التفصيل إلي مقامه، فنقول:
منها: بساطة المقولات، وأن ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز.
ومنها: تغاير المقولات بحسب الحقيقة والهوية واعتبارها بشرط لا بالنسبة إلي أنفسها، فاجتماعها لا يعقل أن يكون علي نحو الاتحاد بحيث يكون ما بحذاء أحدهما في الخارج عين ما بحذاء الآخر.
ومنها: كون الحركة في كل مقولة عين تلك المقولة، ولا تكون الحركة جنسا للمقولات حتي يلزم التركيب فيها، ولا هي أيضا من الأعراض المستقلة حتي يلزم قيام عرض بعرض.
وبعد هذه المقدمات يظهر: تعدد متعلق الأمر والنهي، إذ الصلاة إنما تكون من مقولة الوضع سواء قلنا: إن المأمور به في مثل الركوع والسجود هو الهيئة كما هو مختار الجواهر (1) أو الفعل كما هو المختار، فيكون الانحناء إلي الركوع أوضاعا متلاصقة متصلة، والغصب إنما يكون من مقولة الأين، إذ ليس الغصب
١ - جواهر الكلام ١٠: ٦٩ و 123 - 124.
(١٧٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الركوع، الركعة (1)، النهي (1)، الموت (1)، السجود (1)، الصّلاة (2)، كتاب جواهر الكلام للشيخ الجواهري (1)
إلا عبارة عن شاغلية الشخص للمكان، فتوهم اجتماع الصلاة والغصب في الحركة مع وحدتها مندفع بأنه إن كان المراد من وحدة الحركة وحدتها بالعدد بحيث تعد حركة واحدة، فهذا مما لا ينفع، وإن كان المراد منها وحدة الحركة الصلاتية والحركة الغصبية بالهوية والحقيقة، فهذا مما لا يعقل، لاستدعاء ذلك اتحاد المقولتين، لما عرفت من أن الحركة في كل مقولة عين تلك المقولة.
وبالجملة، الحركة لا يعقل أن تكون بمنزلة الجنس للصلاة والغصب، وبحيث يشتركان فيها ويمتازان بأمر آخر، للزوم التركيب في الأعراض، وليست عرضا آخر غير المقولات، للزوم قيام العرض بالعرض، وهو محال، فلابد من أن تكون الحركة في كل مقولة عين تلك المقولة، وحينئذ يظهر أنه كما أن الصلاة مغايرة بالحقيقة للغصب، فكذا الحركة الصلاتية مغايرة للحركة الغصبية، ويكون في المجمع حركتان: حركة صلاتية، وحركة غصبية، وليس المراد من الحركة رفع اليد ووضعه وحركة الرأس والرجل ووضعهما، فإن ذلك لا دخل له في المقام حتي يبحث عن أنها واحدة أو متعددة، بل المراد من الحركة:
الحركة الصلاتية والحركة الغصبية، وهما متعددتان، فلا محالة، فأين يلزم تعلق الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر.
هذا كله، مضافا إلي أن الإضافة الحاصلة بين المكان والمكين ونسبته إليه لا يعقل أن تختلف بين أن يكون المكين من مقولة الجوهر أو من مقولة الأعراض، وكما لا يعقل التركيب الاتحادي بين الجوهر والإضافة في قولك: زيد في الدار، كذلك لا يعقل التركيب الاتحادي بين الضرب والإضافة في قولك:
ضرب زيد في الدار، أو الصلاة والإضافة في قولك: صلاة زيد في الدار، وكما
(١٧٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، النهي (1)، الصّلاة (4)
لا يكون زيد غصبا كذلك لا تكون الصلاة غصبا (1). انتهي كلامه في غاية التلخيص.
وقد عرفت: أن هذا الكلام لو تم لترتب عليه صحة الصلاة في الدار المغصوبة، لأنه بعد كون الحركة الصلاتية مغايرة للحركة الغصبية لا يكون المبغوض والمبعد عن ساحة المولي بعينه محبوبا ومقربا للعبد نحو المولي حتي يقال باستحالة كون المبعد مقربا، فإن المبغوض هي الحركة الغصبية، والمحبوب هي الحركة الصلاتية.
وبالجملة، بعد فرض تعدد الحركة لايبقي مجال للإشكال في صحة الصلاة، لعدم الارتباط بين الحركتين، فالحركة الصلاتية تؤثر في القرب، والغصبية تؤثر في البعد.
هذا، ولكن يرد علي ما ذكره أولا: أن الصلاة ليست بنفسها من المقولات، لأنها مركب اعتباري، واجزاؤها عبارة عن الحقائق المختلفة والهويات المتشتتة، فلا يعقل أن تكون بنفسها مندرجة تحت مقولة واحدة، وكذا الغصب ليس مندرجا تحت مقولة أصلا، فإنه عبارة عن الاستيلاء والتسلط علي مال الغير عدوانا، ومن المعلوم أن ذلك أمر اعتباري يعتبره العرف والعقلاء، وليس من الأمور الواقعية والحقائق، نظير سلطة الشخص علي مال نفسه.
هذا، مضافا إلي أن ما يتحد مع الصلاة في الدار المغصوبة ليس هو الغصب، لما عرفت من أنه عبارة عن التسلط علي مال الغير عدوانا، وهذا المعني مما لا يرتبط بالصلاة أصلا، بل الذي يتحد معها هو التصرف في مال الغير بغير إذنه، الذي محرم آخر غير الغصب، وبينهما عموم من وجه، كما لا يخفي.
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 427 - 428.
(١٧٧)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الصّلاة (3)
ومن المعلوم أن التصرف جامع انتزاعي للأفعال المرتبطة إلي مال الغير من الكون فيه وسائر التصرفات، وليس التصرف بنفسه من المقولات أصلا، بل المندرج تحتها إنما هو مصاديق التصرف.
فظهر أن ما يكون مندرجا تحت مقولة من المقولات من مصاديق التصرف المتحدة مع الصلاة إنما هو الكون في المكان المغصوب، الذي هو من مقولة الأين، وإلا فالغصب وكذا التصرف بعنوانه ليسا من المقولة أصلا كما لا يخفي.
وثانيا: أن الركوع - وهو الفعل الخاص الصادر من المكلف كما هو الأقوي وفاقا له - يمكن أن يكون من مقولة الأين، لما ذكره المستدل من أن الحركة في كل مقولة عين تلك المقولة، فالرأس المتحيز في حيز مخصوص إذا تحرك منه إلي مكان آخر، يكون ذلك حركة في الأين، وإن كان بالإضافة إلي حدوث حالة أخري وكيفية حادثة بالنسبة إلي أجزاء الإنسان بعضها مع بعض يكون حركة في الوضع، وحينئذ فالركوع الذي يكون حركة واحدة أينية صار متعلقا للحب والبغض، لعدم كون المقولتين حينئذ متعددا حتي يستحيل تركيب الاتحادي بينهما، بل صار كل من الركوع والكون في مكان مغصوب، الذي هو مصداق للتصرف في مال الغير مندرجا تحت مقولة الأين، فصارت الحركة حركة واحدة أينية.
ثم إن ما ذكرناه من أن مصاديق التصرف في مال الغير تكون مندرجة تحت المقولات فإنما هو مبني علي المسامحة، ضرورة أن المندرج تحتها إنما هو مصداق ذات التصرف، لا مقيدا بكونه في مال الغير، فالكون في المكان إنما يكون مندرجا تحت مقولة الأين، لا الكون في المكان المغصوب، فإن غصبية المكان خارج عن ذلك أصلا.
وهذا أيضا مما يورد به علي المستدل، فإنه بعد العدول عن الغصب إلي
(١٧٨)
صفحهمفاتيح البحث: الركوع، الركعة (2)، الصّلاة (1)

الجهة الثانية: ثمرة النزاع علي القول بالامتناع وتقديم جانب الأمر

التصرف في مال الغير، وعنه إلي مصاديقه يبقي الإشكال في عدم كون مصاديق التصرف في مال الغير بما هي مصاديق له مندرجا تحت مقولة، لما عرفت من عدم مدخلية مال الغير في ذلك أصلا.
فظهر من جميع ذلك: أن المقرب والمبعد إنما هو شئ واحد وأمر فارد، وهي الحركة الأينية، ومع فرض كونه مبعدا لا يمكن أن يكون مقربا، فلا يصلح أن يكون جزء للعمل العبادي أصلا، فالصلاة في الدار المغصوبة باطلة ولو علي القول بالجواز.
هذا كله فيما يتعلق بالقول بالجواز.
الجهة الثانية: ثمرة النزاع علي القول بالامتناع وتقديم جانب الأمر وأما بناء علي القول بالامتناع وتقديم جانب الأمر فقد يقال بصحة الصلاة مطلقا، مثل ما إذا قيل بالجواز، غاية الأمر أنه لا معصية بناء عليه دونه.
ولكن لا يخفي أنه لا يتم ذلك بإطلاقه، بل إنما يتم فيما لو لم تكن له مندوحة ولم يتمكن من الامتثال في غير المكان الغصبي، وأما مع وجود المندوحة والتمكن من الامتثال في غير الدار المغصوبة فظاهر أنه لو صلي فيها لا تكون صلاته صحيحة، ضرورة أن مزاحمة ملاك الصلاة لملاك الغصب وتقديم الأولي للأهمية لا يقتضي أزيد من سقوط ملاك الثاني عن التأثير فيما لو دار الأمر بين إتيان الأولي أو ارتكاب الثاني.
وبعبارة أخري: دار الأمر بين إتيان الأولي أو ارتكاب الثاني. وبعبارة أخري: دار الأمر بين امتثال الأمر ومخالفة النهي وبين موافقة النهي ومخالفة الأمر. وأما لو تمكن من امتثال الأمر وموافقة النهي معا، فمن الواضح أنه لا تسقط ملاك النهي عن التأثير أصلا.
(١٧٩)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، النهي (4)، الصّلاة (1)

الجهة الثالثة: ثمرة النزاع علي القول بالامتناع وتقديم جانب النهي

ونظير ذلك يتصور في الأمرين، فإن أهمية إنقاذ الولد المأمور به بالنسبة إلي إنقاذ الأخ المأمور به أيضا لا يقتضي إلا سقوط الأمر الثاني في خصوص ما إذا دار الأمر بين إنقاذ الولد والأخ بمعني أنه لم يمكن اجتماعهما، وأما فيما أمكن امتثال كلا الأمرين بانقاذ كلا الغريقين، فلا يجدي الأهمية شيئا أصلا، كما هو واضح لا يخفي.
هذا كله بناء علي تقديم جانب الأمر.
الجهة الثالثة: ثمرة النزاع علي القول بالامتناع وتقديم جانب النهي وأما بناء علي تقديم جانب النهي فلا إشكال في بطلان العبادة مع الالتفات إلي موضوع المحرم وإلي تحريمه أو مع الجهل تقصيرا، ضرورة أن الفعل لا يصلح مع ذلك لأن يتقرب به مع أنه لا يكاد يتمشي قصد التقرب من الملتفت أصلا، إنما الإشكال في بطلانها مع الجهل قصورا.
حكم العبادة مع الجهل عن قصور ظاهر الكفاية بل صريحها صحة العبادة معه (1).
ولا يخفي أن إثبات الصحة موقوفة علي إثبات جهتين:
الجهة الأولي: كون المجمع مشتملا علي كلا مناطي الحكمين: مناط الوجوب ومناط التحريم.
الجهة الثانية: كفاية مناط الوجوب في الصحة بعد سقوط مناط التحريم عن التأثير في الحكم الفعلي.
١ - كفاية الأصول: ٢١٢.
(١٨٠)
صفحهمفاتيح البحث: الباطل، الإبطال (1)، الجهل (3)، النهي (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

حكم العبادة مع الجهل عن قصور

ونظير ذلك يتصور في الأمرين، فإن أهمية إنقاذ الولد المأمور به بالنسبة إلي إنقاذ الأخ المأمور به أيضا لا يقتضي إلا سقوط الأمر الثاني في خصوص ما إذا دار الأمر بين إنقاذ الولد والأخ بمعني أنه لم يمكن اجتماعهما، وأما فيما أمكن امتثال كلا الأمرين بانقاذ كلا الغريقين، فلا يجدي الأهمية شيئا أصلا، كما هو واضح لا يخفي.
هذا كله بناء علي تقديم جانب الأمر.
الجهة الثالثة: ثمرة النزاع علي القول بالامتناع وتقديم جانب النهي وأما بناء علي تقديم جانب النهي فلا إشكال في بطلان العبادة مع الالتفات إلي موضوع المحرم وإلي تحريمه أو مع الجهل تقصيرا، ضرورة أن الفعل لا يصلح مع ذلك لأن يتقرب به مع أنه لا يكاد يتمشي قصد التقرب من الملتفت أصلا، إنما الإشكال في بطلانها مع الجهل قصورا.
حكم العبادة مع الجهل عن قصور ظاهر الكفاية بل صريحها صحة العبادة معه (1).
ولا يخفي أن إثبات الصحة موقوفة علي إثبات جهتين:
الجهة الأولي: كون المجمع مشتملا علي كلا مناطي الحكمين: مناط الوجوب ومناط التحريم.
الجهة الثانية: كفاية مناط الوجوب في الصحة بعد سقوط مناط التحريم عن التأثير في الحكم الفعلي.
١ - كفاية الأصول: ٢١٢.
(١٨٠)
صفحهمفاتيح البحث: الباطل، الإبطال (1)، الجهل (3)، النهي (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
أما الكلام في الجهة الأولي فنقول: لا إشكال في ثبوت المضادة والمنافرة بين مناطي الوجوب والتحريم كثبوت المضادة بين أنفسهما، بل الأول أولي، لإمكان المناقشة في التضاد بين الأحكام، كما سيجئ إن شاء الله تعالي.
ومن الواضح أن مناط الحكم وملاكه إنما يقوم بالموجود الخارجي، ضرورة أن شرب الخمر المتحقق في الواقع يكون ذا مفسدة لا عنوان شرب الخمر، وحينئذ فيسأل عن القائل بالامتناع - المستند في ذلك إلي ثبوت التضاد بين الأحكام وأن متعلق التكاليف هو فعل المكلف وما هو في الخارج يصدر عنه وأن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون وأن الموجود بوجود واحد له ماهية واحدة - عن أنه هل حامل المصلحة والمفسدة في الوجود الخارجي هي الحيثية الواقعية الواحدة أو الحيثيتين؟ فإن قال بالأول، فيرده وضوح التضاد بين المناطين، وإن قال بالثاني - كما أنه لابد من ذلك - فيرد عليه سؤال الفرق بين المناط وبين نفس الحكم، فإذا جاز قيام المصلحة بحيثية وقيام المفسدة بحيثية أخري، فلم لا يجوز كون الأمر متعلقا بالحيثية الأولي والنهي بالحيثية الثانية.
وبالجملة، فلا يجتمع القول بالامتناع نظرا إلي أنه تكليف محال مع القول بكون المجمع مشتملا علي كلا المناطين، فبعدما كان المفروض هو القول بالامتناع وتقديم جانب النهي لايبقي مجال للقول بالصحة أصلا ولو قلنا بكفاية الملاك في صحة العبادة وعدم احتياجها إلي تعلق الأمر بها، ضرورة أنه بناء علي ما ذكرنا لا يكون المجمع إلا مشتملا علي مناط التحريم فقط.
وأما الكلام في الجهة الثانية، فنقول: لو سلم كون المجمع واجدا للمناطين بناء علي القول بالامتناع، فهل يكفي مناط الوجوب في صحة العبادة بعد فرض سقوط مناط التحريم عن التأثير؟ وبعد فرض كفاية المناط في صحة العبادة وعدم الافتقار إلي تعلق الأمر بها أم لا؟ قد يقال - كما في تقريرات المحقق
(١٨١)
صفحهمفاتيح البحث: شرب الخمر (1)، النهي (2)، الجواز (1)
النائيني - بالعدم، نظرا إلي أن تصحيح العبادة بالملاك إنما يكون بعد الفراغ عن ثبوت حكمها وتشريعه مطلقا، غاية الأمر أنه وقع التزاحم بين ذلك الحكم وبين حكم آخر في مقام الامتثال.
وخلاصة كلامه في هذا الباب: أن التزاحم قد يكون بين الحكمين، وقد يكون بين المقتضيين، مثل مورد الاجتماع، بناء علي القول بالامتناع، وبينهما بون بعيد، فإن تزاحم الحكمين إنما يكون في مقام الفعلية وتحقق الموضوع بعد الفراغ عن تشريعهما علي طبق موضوعاتهما المقدر وجودها، وفي هذا القسم من التزاحم يكون لعلم المكلف وجهله دخل حيث إن الحكم المجهول لا يصلح أن يكون مزاحما لغيره، فإنه لا يكون شاغلا لنفسه، فبأن لا يكون شاغلا عن غيره أولي.
وأما تزاحم المقتضيين فإنما يكون في مقام الجعل والتشريع حيث يتزاحم المقتضيان في نفس الآمر وإرادته، ويقع الكسر والانكسار بينهما في ذلك المقام، ويكون لعلم الآمر وجهله دخل في تزاحم المقتضيين حيث لو يعلم الآمر بثبوتهما لا يعقل أن يقع التزاحم بينهما، وعلم المكلف وجهله أجنبي عن ذلك، فإن عالم الجعل والتشريع إنما يكون بيد الآمر، والمأمور أجنبي عنه، كما أن عالم الامتثال إنما يكون بيد المكلف، والآمر أجنبي عنه.
والحاصل أنه بناء علي الامتناع تندرج المسألة في صغري التعارض، للزوم تعلق الأمر حينئذ بعين ما تعلق به النهي، واستلزامه اجتماع الضدين في واحد شخصي عددا وهوية، وعليه لابد من إعمال قواعد التعارض، ومع ترجيح جانب النهي لم يبق مجال للقول بالصحة أصلا، لما عرفت من أن في هذا الباب لا دخل لعلم المكلف وجهله أصلا.
وتوهم أن الصحة عند الجهل إنما هي لوجود الملاك والمقتضي، مدفوع:
(١٨٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الجهل (1)، النهي (2)
بأن الملاك المغلوب بما هو أقوي منه والمكسور بغيره في عالم الجعل والتشريع لا يصلح أن يكون موجبا للصحة، فإن الموجب لها هو الملاك التام الذي لا يكون مكسورا بما هو أقوي منه في عالم التشريع (1) انتهي ملخص كلامه.
ولكن لا يخفي: أن المراد بوقوع الكسر والانكسار بين الملاكين ليس صيرورة الملاك المسكور والمغلوب معدوما في مقابل الملاك الغالب بحيث يكون الفعل مع تلك الغلبة مشتملا علي ملاك الغالب فقط، بل المراد كونه جامعا لكلا الملاكين، غاية الأمر أن أقوائية ملاك الغالب صار مانعا من تشريع الحكم علي طبق الملاك المغلوب، وحينئذ فيرد عليه سؤال الفرق بين صورتي التزاحم، أي:
التزاحم بين الحكمين والتزاحم بين المقتضيين، فإن قال في الجواب: بأن في الثاني يرجع التقييد إلي مقام الثبوت والواقع بمعني أنه يكون المأمور به مثلا حينئذ في المقام بناء علي الامتناع وترجيح جانب النهي هي الصلاة المقيدة بما عدا الفرد المجامع للغصب، بخلاف الأول، فإن سقوط الأمر بالمهم مثلا إنما هو لعدم إمكان امتثالهما بعد الفراغ عن تشريعهما مطلقا، فيرد عليه: أن السقوط لابد أن يرجع إلي التقييد، فإن قال: إن التقييد في تزاحم المقتضيين إنما هو في مقام جعل الحكم الإنشائي، بخلاف تزاحم الحكمين، فإن التقييد إنما هو في مقام فعلية الحكم، فيقال عليه: إنه لا نسلم رجوع التقييد في تزاحم المقتضيين إلي مقام جعل الحكم الإنشائي.
ودعوي: أن إطلاق الحكم فيه يستلزم اللغوية، مدفوعة: بمنع لزومها بعد ظهور ثمرته في صورة الجهل.
وكيف كان فبعد كون ملاك الأمر تاما بمعني كونه صالحا لتعلق الأمر به لو
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 431 - 433.
(١٨٣)
صفحهمفاتيح البحث: الجهل (1)، النهي (1)، الصّلاة (1)

الأمر السابع: شمول النزاع للعنوانين بينهما عموم وخصوص مطلقا

لم يمنع عنه مانع لايبقي مجال للإشكال في صحة الصلاة بناء علي هذا القول الفاسد لو قيل باشتمالها علي الملاك وبكفاية الملاك في صحة العبادة.
ولكنك عرفت أن المقدمة الأولي ممنوعة.
ومن هنا انقدح: أنه لا يمكن أن يستكشف من مجرد حكم المشهور بالصحة في موارد العذر أنهم قائلون بالجواز، نظرا إلي أنه بناء علي الامتناع تكون الصلاة فاسدة مطلقا، فإنك عرفت أن الحكم بالصحة لا ينافي القول بالامتناع، فتأمل جيدا.
الأمر السابع: شمول النزاع للعنوانين بينهما عموم وخصوص مطلقا لا إشكال في دخول العامين من وجه في الجملة في مورد النزاع ومحل البحث، كما أنه لا إشكال في خروج المتبائنين عنه، لعدم شمول ظاهر عنوان النزاع له، مضافا إلي وضوح إمكان تعلق الأمر بشئ والنهي بمبائنه، وكذلك لا إشكال أيضا في خروج المتساويين عن محل النزاع وإن كان ظاهر العنوان التعميم، ضرورة استحالة تعلق الأمر والنهي بهما، إنما الإشكال والكلام في دخول العامين مطلقا، فقد يقال بالخروج، كما عن المحققين: القمي والنائيني (1) وجماعة أخري، وقد يقال بالدخول، كما عن صاحب الفصول (قدس سره) (2).
والتحقيق أن يقال: إن العامين مطلقا علي قسمين: قسم لا يكون عنوان العام مأخوذا في عنوان الخاص ومفهومه، بل مفهومهما متغايران، غاية الأمر أن
١ - قوانين الأصول 1: 153 - 154، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 410.
2 - الفصول الغروية: 125 / السطر 8 - 10.
(١٨٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، النهي (2)، المنع (1)، الصّلاة (2)، كتاب قوانين الأصول للميرزا القمي (1)
المفهومين متصادقان في الخارج تصادقا كليا من جانب الخصوص وجزئيا من جانب العموم، وقسم يكون مفهوم العام مأخوذا في عنوان الخاص، وهو الذي يعبر عنه بالمطلق والمقيد، كالصلاة المأخوذة في عنوان الصلاة في الدار الغصبية، وظاهر العبارة المحكية عن صاحب الفصول بل صريحها دخول القسم الأول فقط في مورد النزاع، والحق دخول القسمين معا.
أما القسم الأول: فلأنه بعد فرض كون العنوانين متغايرين لايبقي فرق بينه وبين العامين من وجه، ضرورة أنه لو كان مجرد التصادق الموجود الخارجي مانعا عن تعلق الأمر والنهي بالمفهومين المتصادقين، فهذه العلة مشتركة بينه وبين العامين من وجه ولو لم يكن ذلك مانعا باعتبار أن متعلق الحكم إنما هو نفس العناوين والمفاهيم، فبعد فرض ثبوت التغاير بين العنوانين في المقام لايبقي مجال لتوهم الفرق أصلا، كما هو واضح.
وأما القسم الثاني: فقد يقال بخروجه عن محل البحث، نظرا إلي سراية حكم المطلق إلي المقيد، فإن المطلق المأخوذ متعلقا للحكم ليس ما يكون قيد الإطلاق جزءا له ومأخوذا فيه، بل المراد هي الطبيعة المجردة اللابشرط، وحينئذ فيسري حكمها إلي المقيد.
والحاصل: أن الحكم المتعلق بالمقيد وإن لم يكن ساريا من متعلقه إلي المطلق إلا أن حكم المطلق يسري إلي المقيد، إذ ليس المطلق منافيا له، والسراية من طرف واحد تكفي في ثبوت استحالة الاجتماع، كما لا يخفي.
ولكن لا يذهب عليك أن اتحاد المطلق والمقيد إنما يكون بحسب الخارج، وأما بحسب المفهوم فهما متغايران، ضرورة تغاير مفهوم طبيعة الصلاة مع مفهوم الصلاة في الدار الغصبية، وحينئذ فلا يبقي مجال للإشكال في دخوله في محل النزاع، لأن الضابط فيه هو كل عنوانين متغايرين المتصادقين علي وجود
(١٨٥)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (1)، الصّلاة (2)
خارجي، وهذا المعني متحقق في المطلق والمقيد، فالحق دخول كلا القسمين في مورد البحث.
وأما العامان من وجه فقد يقال: بأن دخوله في محل النزاع ليس علي الإطلاق، بل الظاهر اشتراطه ببعض القيود، وهو أن تكون هذه النسبة متحققة بين نفس الفعلين الصادرين عن المكلف بإرادة واختيار من دون واسطة مع كون التركيب بينهما انضماميا لا اتحاديا، وأما إذا كانت النسبة ثابتة بين الموضوعين، كما في العالم والفاسق في مثل قوله: أكرم العالم، ولا تكرم الفاسق، فهو خارج عن محل البحث، لأن التركيب في مثل ذلك يكون علي جهة الاتحاد، ويكون متعلق الأمر بعينه هو متعلق النهي، بل هو مندرج في باب التعارض، كما أنه ليس من مسألة الاجتماع ما إذا كانت النسبة بين العناوين المتولدة من الفعل الصادر عن المكلف كما لو قام في المثال المتقدم بقصد تعظيم العالم والفاسق معا، فإن القيام فعل واحد تولد من إكرام العالم المأمور به وإكرام الفاسق المنهي عنه.
ووجه خروجه عن محل النزاع: أنه لما كانت تلك العناوين من المسببات التوليدية التي لم تتعلق إرادة المكلف بها أولا وبالذات، لكونها غير مقدورة له بلا واسطة، فلا جرم يكون متعلق التكليف هو السبب الذي يتولد منه ذلك، ومن المعلوم أنه فعل واحد بالحقيقة والهوية، فلا يمكن أن يتعلق بها الحكمان، بل نفس كون النسبة بين الفعلين الصادرين من المكلف العموم من وجه لا يكفي ما لم يكن التركيب انضماميا، فمثل قوله: اشرب الماء ولا تغصب، فيما إذا شرب الماء المغصوب خارج عن مورد النزاع، فإن شرب الماء بنفسه يكون مصداقا لكل من متعلقي الأمر والنهي، ولابد في مثل ذلك من إعمال قواعد التعارض، وهذا بخلاف شرب الماء المباح في المكان المغصوب، فإنه من مسألة الاجتماع، كما لا يخفي.
(١٨٦)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (2)، الكرم، الكرامة (1)، الإختيار، الخيار (1)، السب (1)

التحقيق في جواز الاجتماع

والسر في ذلك هو: أن كلا من الأمر والنهي تعلق بموضوع خارجي ففيما إذا كان التركيب اتحاديا يلزم أن يتعلق كل منهما بعين ما تعلق به الآخر، وهذا مما لاشك في استحالته (1). انتهي ملخص ما في تقريرات المحقق النائيني.
وأنت خبير بعدم تمامية كلامه.
أما اعتبار كون التركيب اتحاديا: فلأن الوجه فيه - كما اعترف به (قدس سره) - هو: أن الأمر والنهي إنما يتعلق كل واحد منهما بموضوع خارجي، ونحن سنبين فساد ذلك مفصلا، فانتظر.
وأما كون متعلق التكاليف في العناوين التوليدية هي السبب الذي يتولد منه: فقد عرفت سابقا أنه لا وجه لصرف الأمر عن المسبب بعد كونه مقدورا ولو مع الواسطة، إذ هذا المقدار من المقدورية كاف في تصحيح تعلق التكليف به.
فانقدح من جميع ما ذكرنا: أن العامين من وجه مطلقا وكذا العامين مطلقا بقسميه داخل في محل النزاع.
التحقيق في جواز الاجتماع إذا عرفت هذه الأمور، فاعلم أن الأقوي في المسألة هو القول بالجواز، وتحقيق ذلك يتم برسم مقدمات:
المقدمة الأولي: أن الحكم الوجوبي أو التحريمي المتعلق إلي طبيعة لا يسري منها إلي مقارناته الوجودية وملازماته العينية، ضرورة أن تعلق
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 410 - 412.
(١٨٧)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، النهي (2)، السب (1)، الجواز (1)
الحكم بها إنما هو لأجل الملاك المتحقق فيها، إذ لا يعقل أن يصدر من الحاكم حكم متعلق بشئ من دون أن يكون ملاك ذلك الحكم متحققا فيه.
وهذا نظير الإرادة التكوينية المتعلقة بالأفعال الخارجية، فإنه كما لا يعقل تعلق الإرادة بشئ من دون حصول مبادئها من تصور ذلك الشئ والتصديق بفائدته وغيرهما فكذلك لا يعقل البعث إليه مثلا من دون أن يكون فيه خصوصية مقتضية له وحيثية موجبة لتحققه، وحينئذ فبعدما كان المفروض أن المقارنات الوجودية والملازمات العينية مما لا مدخلية لها أصلا في ثبوت الملاك المقتضي للبعث أو الزجر، ضرورة أنه لو كان كذلك لكانت الطبيعة متقيدة بها متعلقة للأمر أو النهي، والمفروض خلافه، فلا يبقي مجال لتوهم سراية الحكم من الطبيعة إليها أصلا، كما هو أوضح من أن يخفي.
المقدمة الثانية: أن معني الإطلاق ليس عبارة عن لحاظ سريان الحكم إلي جميع الخصوصيات والأفراد بحيث كان معني قوله: أعتق رقبة، مثلا راجعا إلي قوله: أعتق رقبة سواء كانت مؤمنة أو فاسقة، لأنه - مضافا إلي أنه لو كان معني الإطلاق ذلك يلزم عدم الفرق بينه وبين العموم كما لا يخفي - يرد عليه: أنه لا يعقل أن تكون الطبيعة مرآة للخصوصيات وحاكية لها، ضرورة ثبوت المبائنة بينها وبين تلك الخصوصيات في عالم المفهوم، فكيف يمكن أن يكون لفظ الإنسان مثلا حاكيا عن الطول والقصر مثلا مع أنهما مفهومان متغايران.
فالتحقيق أن لفظ الإنسان لا يحكي إلا عما جعل ذلك اللفظ موضوعا بإزائه، وهو طبيعة الإنسانية، بل الإطلاق عبارة عن عدم مدخلية شئ من القيود في متعلق الحكم، فإن المتكلم المختار بعدما فرض كونه بصدد بيان تمام متعلق حكمه ومع ذلك لم يأخذ شيئا من الخصوصيات ليستكشف العقل أن هذا تمام موضوع حكمه، ولا مدخلية لشئ آخر فيه أصلا، ففي الحقيقة لا يكون
(١٨٨)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (1)، النهي (1)، العتق (2)
الإطلاق من الدلالات اللفظية، بل من الدلالات العقلية، نظير حكم العقل بكون معني اللفظ الصادر من المتكلم المختار مراد اله.
وبالجملة، فالإطلاق عبارة عن تمامية ما جعل متعلقا للحكم من حيث كونه متعلقا له بمعني عدم مدخلية شئ آخر فيه، وأين هذا مما ذكر من أنه عبارة عن ملاحظة الشمول والسريان، وقد عرفت ما فيه.
وما اشتهر بينهم من أن الطبيعة اللا بشرط يجتمع مع ألف شرط ليس معناه اتحادها مع الشروط في عالم المفهومية بحيث تكون حاكية لها وكاشفة عنها، بل معناه عدم إبائها عن اتحاد بعض المفاهيم الاخر معها في عالم الوجود الذي هو جامع العناوين المختلفة والمفاهيم المتشتتة، وإلا فكيف يمكن أن يكشف بعض المفاهيم عن البعض الآخر في عالم المفهومية مع ثبوت الاختلاف بينهما، كما هو واضح.
المقدمة الثالثة - التي هي العمدة في هذا الباب -: أن متعلق التكاليف والأحكام إنما هي نفس الطبائع والعناوين، لا الطبيعة الموجودة في العين ولا الماهية المتحققة في الذهن، فاتصافها بكونها موجودة في الذهن أو الخارج خارج عن مرحلة تعلق الأحكام بها، نظير سائر الأحكام الطارئة علي الطبائع من الكلية والاشتراك ونحوهما، ضرورة أن الطبيعة الموجودة في الخارج لا يعقل أن تتصف بالكلية، لإبائها عن الصدق علي الكثيرين، وكذا الطبيعة بوصف وجودها في الذهن، بداهة أنها أيضا تكون جزئيا غير قابل للصدق واتصافها بوصف الكلية والاشتراك ونحوهما وإن كان في الذهن إلا أنه لا ينافي ذلك كون المعروض لهما إنما هي نفس الطبيعة بلا ملاحظة وجودها الذهني، ضرورة أنه بمجرد تصورها يحمل عليه تلك الأحكام، ولو كان اتصافها بالوجود الذهني دخيلا في هذا الحمل، لاحتاج إلي تصور آخر متعلقا بالطبيعة متقيدة
(١٨٩)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الصدق (1)
بكونها متصورة بالتصور الأولي، إذ التصور الأول إنما تعلق بنفس الطبيعة فقط، ولا يعقل أن يتعلق بها مع وصف كونها متصورة بهذا التصور، كما هو واضح.
وكيف كان فلا إشكال في كون المعروض لوصف الكلية والاشتراك ونحوهما إنما هي الطبيعة المجردة عن الوجود العيني والذهني، وإنما الإشكال في متعلق الأحكام وأنه هل متعلقاتها هي نفس الطبائع مع قطع النظر عن الوجودين وإن كان ظرف التعلق الذهن، نظير الكلية المعروضة لها في الذهن ولكن لم يكن ذلك مأخوذا علي نحو القضية الشرطية، بل علي نحو القضية الحينية، وإلا لما كان يعرض لها بمجرد تصورها ووجودها في الذهن، إذ لا يمكن في هذا اللحاظ تصور تعلق اللحاظ بها أيضا، كما هو واضح، أو أن متعلقات الأحكام هي الطبائع المتصفة بالوجود الذهني، أو أن متعلقاتها هي الطبائع المنصبغة بصبغة الوجود الخارجي؟ وجوه.
والتحقيق يقضي بأن معروض الأحكام هو بعينه معروض الكلية والاشتراك ونحوهما من لوازم نفس الماهيات مع قطع النظر عن الوجودين، وذلك لأنه لو كانت الأحكام متعلقة بالطبائع مع اتصافها بوجودها في الذهن، لكان امتثالها ممتنعا، إذ لا يعقل انطباق الموجود في الذهن بوصف كونه موجودا فيه علي الخارج، لأنه أيضا نظير الموجودات الخارجية يكون جزئيا ومتشخصا، ولازمه الإباء عن الصدق، كما هو واضح.
ولو كانت الأحكام موضوعاتها هي الطبائع الموجودة في الخارج يلزم أن يكون تحققها متوقفا علي وجودها في الخارج، إذ لا يعقل تقدم الحكم علي متعلقه، ومن الواضح أن الغرض من البعث مثلا إنما هو انبعاث المكلف بعد العلم به وبما يترتب علي مخالفته من استحقاق العقوبة وعلي موافقته من استحقاق المثوبة ويتحرك عضلاته نحو المبعوث إليه، فالبعث متقدم علي الانبعاث
(١٩٠)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (1)، الصدق (1)
المتقدم علي تحقق المبعوث إليه، فكيف يمكن أن يكون متأخرا عنه مع استلزام ذلك للغوية، لأنه بعد تحقق المبعوث إليه المشتمل علي المصلحة التي هي الباعثة علي تعلق البعث به يكون طلبه تحصيلا للحاصل في الأوامر، وبعد تحقق المزجور عنه في النواهي يكون الزجر عنه مستلزما لطلب أعدام ما هو حاصل بنحو لم يحصل، وكلاهما مستحيل بداهة، ولعمري أن سخافة هذا الاحتمال الذي هو ظاهر بعض الأعلام (1) مما لا تكاد تخفي علي عاقل فضلا عن فاضل، فلم يبق في البين إلا الالتزام بكون موضوعات الأحكام هي نفس الطبائع مع قطع النظر عن الوجودين، والأغراض وإن كانت مترتبة علي الوجودات الخارجية إلا أنه يتوصل المولي إلي تحصيلها بسبب البعث إلي نفس الطبيعة، إذ لا يتحقق الانبعاث منه ولا يحصل موافقته إلا بإيجاد المبعوث إليه في الخارج، والتأمل في الأوامر العرفية الصادرة من الموالي بالنسبة إلي عبيدهم يقضي بأن المولي في مقام إصدار الأمر لا ينظر إلا إلي نفس الطبيعة من دون توجه إلي الخصوصيات المقارنة لها في الوجود الغير المنفكة عنها، ويبعث العبد نحوها، غاية الأمر أن تحصيل الموافقة يتوقف علي إيجاد مطلوب المولي في الخارج وإخراجه من كتم العدم إلي صفحة الوجود.
وما اشتهر بينهم من التمسك بقول أهل المعقول: الماهية من حيث هي ليست إلا هي لا موجودة ولا معدومة ولا مطلوبة ولا غير مطلوبة لإثبات أن نفس الماهية مع قطع النظر عن الوجودين لا يمكن أن يتعلق بها الحكم، لأنها ليست إلا هي، كما أنها لا تكون كلية، لأنها من حيث هي لا تكون كلية ولا جزئية، ولذا التجأ بعض المجوزين في المقام إلي أن متعلق الأحكام إنما هي
1 - الفصول الغروية: 126 / السطر 7 - 10.
(١٩١)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (2)، الوقوف (1)
الماهية المتصفة بوصف الوجود الكلي (1)، غفلة وذهول عن فهم مرادهم من هذا القول، فإن مرادهم منه - كما هو صريح كلامهم - أن الماهية في مرتبة ذاتها لا يكون الوجود محمولا عليها بالحمل الأولي، وكذا العدم بمعني أنهما لا يكونان عين ذات الماهية ولا جزءها، وهكذا المطلوبية واللا مطلوبية، والكلية والجزئية، والوحدة والكثرة، وجميع الصفات المتضادة أو المتناقضة، فإنها بأجمعها منتفية عن مرتبة ذات الماهية، ولا يكون شئ منها عين الماهية ولا جزءها، وإلا فكيف يمكن أن يرتفع عنها المتناقضان وكذا الضدان لا ثالث لهما في مقام الحمل الشائع الصناعي، وحينئذ فلا منافاة بين أن لا يكون وصف الكلية مأخوذا في ذاتيات الماهية بحيث يكون عينها أو جزءها وبين أن يكون المعروض له هي نفس الماهية مع قطع النظر عن الوجودين، كما هو مقتضي التحقيق، ضرورة أنه بمجرد تصورها مجردة عن كافة الوجودات ينتقل الذهن إلي أنها كلية غير آبية عن الصدق.
وهكذا مسألة تعلق الأحكام بنفس الطبائع لا تنافي كونها خارجة عن مرتبة ذاتها، فالاستدلال لنفي تعلقها بنفس الطبائع بهذه القاعدة الغير المرتبطة بهذه المسألة أصلا في غير محله.
وكيف كان فلا مناص إلا عن الالتزام بما ذكرنا من أن متعلقات الأحكام هي نفس الطبائع، ضرورة أن البعث إنما هو لغرض إيجاد مالم يكن موجودا بعد، ومن المعلوم أنه ليس هنا شئ كان متصفا بالعدم قبل إيجاد المكلف، فصار متصفا بالوجود بعد إيجاده، إلا الماهية المحفوظة في كلتا الحالتين، لأن الوجودين:
العيني والذهني لا ينقلبان عما هما عليه، كما هو واضح.
1 - الفصول الغروية: 125 / السطر 16.
(١٩٢)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (1)، الصدق (1)
فانقدح من جميع ما ذكرنا: بطلان المقدمة الثانية من المقدمات التي مهدها في الكفاية لإثبات الامتناع، الراجعة إلي أن متعلق الأحكام هو فعل المكلف، وما هو في الخارج يصدر عنه وهو فاعله وجاعله (1)، إذ قد عرفت بما لا مزيد عليه أنه لا يعقل أن تتعلق الأحكام بالوجودات الخارجية، وأن متعلقها إنما هي نفس الطبائع مع قطع النظر عن الوجودين.
ومما ذكرنا يظهر أيضا: أن الاستدلال - كما في تقريرات المحقق النائيني (قدس سره) - علي إثبات الجواز بثبوت التعدد بين المتعلقين في الخارج، وكون التركيب بينهما انضماميا لا اتحاديا، نظرا إلي أنه لو سلم اتحاد المتعلقين في الخارج، وكون التركيب بينهما اتحاديا لايبقي مجال لدعوي تغاير متعلق الأمر والنهي أصلا (2)، ليس بصحيح، لما عرفت من أن متعلق الأمر والنهي إنما هي نفس الطبائع، وهي مختلفة في عالم المفهومية، ولا اتحاد بينهما، سواء كان التركيب بينهما في الخارج اتحاديا أو انضماميا، بل نقول: إن مورد النزاع بينهم هو ما إذا كان الموجود الخارجي بتمام هويته مصداقا للطبيعة المأمور بها وللطبيعة المنهي عنها، لأنه مع فرض كون التركيب انضماميا لايبقي مجال للنزاع في الجواز والامتناع أصلا، إذ يصير حينئذ القول بالجواز من البديهيات التي لا يعتريها ريب، نظير تعلق الأمر بالصلاة، والنهي بالزنا مثلا، كما لا يخفي.
وإذا تمهد لك هذه المقدمات: تعرف أن مقتضي التحقيق هو القول بالجواز، لعدم اجتماع الأمر والنهي في شئ أصلا، لأن في مرحلة تعلق الأحكام لا إشكال في اختلاف متعلق الأمر والنهي، لوضوح المغايرة بين المفاهيم في عالم
١ - كفاية الأصول: ١٩٣.
2 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 424 - 425.
(١٩٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، النهي (4)، الباطل، الإبطال (1)، الزنا (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

حول استدلال القائلين بالامتناع

المفهومية، وفي مرحلة التحقق في الخارج التي يجتمع فيها المتعلقان لا إشكال في عدم كونهما مأمورا به ومنهيا عنه، لأن الخارج ظرف الامتثال لا ظرف ثبوت التكليف، كما عرفت بما لا مزيد عليه، فأين يلزم الاجتماع؟
حول استدلال القائلين بالامتناع استدل القائلون بالامتناع علي أمور:
الأمر الأول: لزوم اجتماع الأمر والنهي ومنه ظهر بطلان استدلال القائلين بالامتناع بأن لازم القول بالجواز اجتماع الأمر والنهي - مع كونهما متضادين - علي شئ واحد، إذ لو سلمنا ثبوت التضاد بين الأحكام ولكن ذلك فرع اجتماعها في شئ واحد، وقد عرفت أنه لا يلزم الاجتماع أصلا.
الأمر الثاني: لزوم اجتماع الحب والبغض وغيرهما وأما استدلالهم علي الامتناع بلزوم تعلق الحب والبغض وكذا الإرادة والكراهة بشئ واحد ولزوم كونه ذا مصلحة ملزمة ومفسدة كذلك معا مع وضوح التضاد بين هذه الأوصاف، فيرد عليه: أن المحبوبية والمبغوضية ليستا من الأوصاف الحقيقية للأشياء الخارجية، نظير السواد والبياض وغيرهما من الأعراض الخارجية، كيف ولازم ذلك استحالة كون شئ واحد في آن واحد مبغوضا لشخص ومحبوبا لشخص آخر، كما أنه يستحيل أن يتصف الجسم الخارجي بالسواد والبياض معا في آن واحد ولو من ناحية شخصين بداهة، بل
(١٩٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، النهي (1)، الباطل، الإبطال (1)

فيه أمور: الأمر الأول: لزوم اجتماع الأمر والنهي

المفهومية، وفي مرحلة التحقق في الخارج التي يجتمع فيها المتعلقان لا إشكال في عدم كونهما مأمورا به ومنهيا عنه، لأن الخارج ظرف الامتثال لا ظرف ثبوت التكليف، كما عرفت بما لا مزيد عليه، فأين يلزم الاجتماع؟
حول استدلال القائلين بالامتناع استدل القائلون بالامتناع علي أمور:
الأمر الأول: لزوم اجتماع الأمر والنهي ومنه ظهر بطلان استدلال القائلين بالامتناع بأن لازم القول بالجواز اجتماع الأمر والنهي - مع كونهما متضادين - علي شئ واحد، إذ لو سلمنا ثبوت التضاد بين الأحكام ولكن ذلك فرع اجتماعها في شئ واحد، وقد عرفت أنه لا يلزم الاجتماع أصلا.
الأمر الثاني: لزوم اجتماع الحب والبغض وغيرهما وأما استدلالهم علي الامتناع بلزوم تعلق الحب والبغض وكذا الإرادة والكراهة بشئ واحد ولزوم كونه ذا مصلحة ملزمة ومفسدة كذلك معا مع وضوح التضاد بين هذه الأوصاف، فيرد عليه: أن المحبوبية والمبغوضية ليستا من الأوصاف الحقيقية للأشياء الخارجية، نظير السواد والبياض وغيرهما من الأعراض الخارجية، كيف ولازم ذلك استحالة كون شئ واحد في آن واحد مبغوضا لشخص ومحبوبا لشخص آخر، كما أنه يستحيل أن يتصف الجسم الخارجي بالسواد والبياض معا في آن واحد ولو من ناحية شخصين بداهة، بل
(١٩٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، النهي (1)، الباطل، الإبطال (1)

الأمر الثاني: لزوم اجتماع الحب والبغض وغيرهما

المفهومية، وفي مرحلة التحقق في الخارج التي يجتمع فيها المتعلقان لا إشكال في عدم كونهما مأمورا به ومنهيا عنه، لأن الخارج ظرف الامتثال لا ظرف ثبوت التكليف، كما عرفت بما لا مزيد عليه، فأين يلزم الاجتماع؟
حول استدلال القائلين بالامتناع استدل القائلون بالامتناع علي أمور:
الأمر الأول: لزوم اجتماع الأمر والنهي ومنه ظهر بطلان استدلال القائلين بالامتناع بأن لازم القول بالجواز اجتماع الأمر والنهي - مع كونهما متضادين - علي شئ واحد، إذ لو سلمنا ثبوت التضاد بين الأحكام ولكن ذلك فرع اجتماعها في شئ واحد، وقد عرفت أنه لا يلزم الاجتماع أصلا.
الأمر الثاني: لزوم اجتماع الحب والبغض وغيرهما وأما استدلالهم علي الامتناع بلزوم تعلق الحب والبغض وكذا الإرادة والكراهة بشئ واحد ولزوم كونه ذا مصلحة ملزمة ومفسدة كذلك معا مع وضوح التضاد بين هذه الأوصاف، فيرد عليه: أن المحبوبية والمبغوضية ليستا من الأوصاف الحقيقية للأشياء الخارجية، نظير السواد والبياض وغيرهما من الأعراض الخارجية، كيف ولازم ذلك استحالة كون شئ واحد في آن واحد مبغوضا لشخص ومحبوبا لشخص آخر، كما أنه يستحيل أن يتصف الجسم الخارجي بالسواد والبياض معا في آن واحد ولو من ناحية شخصين بداهة، بل
(١٩٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، النهي (1)، الباطل، الإبطال (1)
ولازمه عدم اتصاف الفعل قبل وجوده الخارجي بشئ منهما، نظير أنه لا يعقل أن يتصف الجسم بالسواد مثلا قبل تحققه في الخارج، بداهة أنه يستحيل أن يوجد الوصف الحقيقي قبل تحقق موصوفه، ومن المعلوم في المقام أن الاتصاف بالمحبوبية قبل وجود المحبوب وتحققه في الخارج، بل كثيرا ما يكون الداعي والمحرك إلي إيجاده في الخارج إنما هو تعلق الحب به، وكونه متصفا بالمحبوبية.
وكيف كان فهذا المعني مما لا يتكل إليه أصلا، بل المحبوبية والمبغوضية وصفان اعتباريان ينتزعان من تعلق الحب والبغض بالصورة الحاكية عن المحبوب والمبغوض.
توضيح ذلك: أنه لا إشكال في أن الحب وكذا البغض إنما يكون من الأوصاف النفسانية القائمة بالنفس، وحيث إن تحققه في النفس بنحو الإطلاق غير مضاف إلي شئ مما لا يعقل، فلا محالة يحتاج في تحققه إلي متعلق مضاف إليه ومشخص يتشخص به، ولا يعقل أن يكون ذلك المشخص هو الموجود الخارجي، لأنه يستحيل أن يكون الأمر الخارج عن النفس مشخصا للصفة القائمة بها، كما هو واضح.
مضافا إلي ما عرفت من أن المحبوب - أي الفعل الخارجي - إنما يكون محبوبا قبل تحققه ووجوده في الخارج، فكيف يمكن أن يكون الأمر الذي لا يتحقق في الخارج أصلا أو لم يتحقق بعد ولكن يوجد في الاستقبال مشخصا فعلا؟! كما هو واضح، فلا محالة يكون المشخص هو الأمر الذهني الموجود في النفس، والمحبوب إنما هو ذلك الأمر، غاية الأمر أنه حيث يكون ذلك الأمر صورة ذهنية للفعل الخارجي ووجها وعنوانا له ينسب إليه المحبوبية بالعرض، لفناء تلك الصورة في ذيها، وذلك الوجه في ذي الوجه، ولا يخفي أن
(١٩٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)

الأمر الثالث: لزوم اجتماع الصلاح والفساد

معني الفناء والوجه والمرآتية ليس راجعا إلا سببية ذلك لتعلق الحب به وطريقته إليه، بل معني تعلق الحب به تعلقه بوجهه وعنوانه فقط، نظير العلم وأشباهه، فإنه أيضا من الصفات النفسانية القائمة بالنفس المتحققة فيها المتشخصة بصورة المعلوم الحاكية له الموجودة في النفس، وتوصيف الخارج بالمعلومية إنما هو بالعرض، وإلا فكيف يمكن أن يتصف بذلك قبل تحققه؟! مع أنا نعلم بالبداهة كثيرا من الأمور المستقبلة، مضافا إلي أنه كيف يمكن حينئذ أن يكون شئ واحد معلوما لأحد ومجهولا لآخر؟! كما لا يخفي.
وكيف كان، فظهر أن المحبوبية والمبغوضية إنما تنتزعان من تعلق الحب والبغض بالصور الذهنية للأشياء الخارجية، ولا ريب في أن تعدد الأمر الانتزاعي وكذا وحدته إنما هو بلحاظ تعدد منشأ انتزاعه ووحدته، ومن المعلوم تعدده في المقام، إذ لاشك في أن الصورة الحاكية عن وجود الصلاة تغاير الصورة الحاكية عن وجود الغصب، إذ لا يعقل أن يكون عنوان الصلاة ووجهها عنوانا للغصب ووجها له، كما هو واضح، فكيف يلزم أن يكون شئ واحد مبغوضا ومحبوبا معا؟!
ومنه يظهر أنه لا يلزم اجتماع الإرادة والكراهة أيضا.
الأمر الثالث: لزوم اجتماع الصلاح والفساد وأما لزوم اجتماع الصلاح والفساد في شئ واحد، فيدفعه أن الصلاح والفساد ليسا من الأمور الحقيقية القائمة بالفعل بحيث يتحققان بتحققه، بل إنما هما نظير الحسن والقبح المتصف بهما الأشياء، ومن المعلوم أنه لا ريب في إمكان اتصاف شئ بالحسن لأجل انطباق عنوان حسن عليه، وبالقبح أيضا لأجل انطباق عنوان قبيح عليه، فكذا في المقام نقول بأنه لا بأس أن يتصف شئ
(١٩٦)
صفحهمفاتيح البحث: مسألة الحسن والقبح (1)، الصّلاة (2)
واحد بكونه ذا صلاح وفساد معا لأجل انطباق عنوانين عليه: أحدهما ذا مصلحة، والآخر ذا مفسدة.
وبالجملة، فاتصاف الشئ بكونه ذا مصلحة إنما هو لكونه مصداقا للعنوان الذي يكون كذلك، وكذا اتصافه بكونه ذا مفسدة، فإذا جاز أن يكون شئ واحد مصداقا لعنوانين متغايرين - كما هو المفروض - فلم لا يجوز أن يتصف بالصلاح والفساد معا لأجل كونه مصداقا لهما؟ فهل يشك العقل في صلاح حفظ ولد المولي مثلا من الهلكة في دار الغير؟ من حيث إنه حفظ له وفي فساده من حيث التصرف في مال الغير، ولا يجوز المدح من الحيثية الأولي، والذم من الحيثية الثانية.
ومن هنا تظهر المناقشة فيما ذكرناه سابقا: من عدم ترتب صحة الصلاة في الدار المغصوبة علي القول بجواز الاجتماع، لاستحالة أن يكون المبعد مقربا.
بيانها: أن معني البعد والقرب ليس هو البعد والقرب المكاني حتي يستحيل أن يكون المقرب مبعدا أو بالعكس، بل معناهما هو القرب والبعد بحسب المكانة والمنزلة، ومن المعلوم أن تحصيل المنزلة والقرب بساحة المولي بسبب الإطاعة إنما هو لكون الفعل الخارجي مصداقا للعنوان الذي يكون متعلقا لأمر المولي، كما أن حصول البعد عن ساحته إنما هو للإتيان بالفعل الذي يكون مصداقا للعنوان المزجور عنه، وحينئذ فأي مانع يلزم من أن يكون فعل واحد مقربا للعبد من حيث مصداقيته للمأمور به، ومبعدا له أيضا من حيث تحقق العنوان المزجور عنه به، وحينئذ فلا يتم ما اشتهر في ألسن المتأخرين من أن المبعد لا يمكن أن يكون مقربا.
(١٩٧)
صفحهمفاتيح البحث: الهلاك (1)، الصّلاة (1)، الجواز (2)

حول التضاد بين الأحكام الخمسة

حول التضاد بين الأحكام الخمسة وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أن مقتضي التحقيق هو القول بالجواز ولو سلم ثبوت التضاد بين الأحكام، كما هو الشائع، مضافا إلي أنه لا نسلم ذلك أصلا.
توضيحه: أن الضدين عبارة عن الماهيتين النوعيتين المشتركتين في جنس قريب مع ثبوت الاختلاف والبعد بينهما، كما في تعريف المتقدمين من الحكماء، أو غاية البعد والاختلاف، كما في تعريف المتأخرين منهم، وحينئذ فنقول: إن كان الحكم عبارة عن الإرادة المظهرة، فلا ينطبق عليه تعريف الضدين أصلا، لأنه حينئذ ماهية واحدة، وهي حقيقة الإرادة المتحققة في جميع الأحكام، ضرورة أنها بأجمعها أفعال للمولي مسبوقة بالإرادة بلا فرق بين الحكم التحريمي والوجوبي من هذه الجهة وإن كان متعلق الإرادة في الأول هو الزجر، وفي الثاني هو البعث، إلا أن ذلك لا يوجب الاختلاف بينهما، لأن قضية تشخص الإرادة بالمراد هو كون اختلاف المرادات موجبا لتحقق أشخاص من الإرادة، ولا يوجب ذلك تعدد حقيقة الإرادة وماهيتها، كما هو واضح.
فاعتبار كون الضدين مهيتين يخرج الإرادة وأمثالها من الحقائق بالنسبة إلي أفرادها عن التعريف كما لا يخفي.
وإن كان الحكم عبارة عن نفس البعث والزجر المتحققين بقول: إفعل ولا تفعل، مثلا، فهو أيضا خارج عن التعريف، لأنه - مضافا إلي أن البعث في الوجوب والاستحباب علي نهج واحد، غاية الأمر ثبوت الاختلاف بينهما في إرادته حيث إن الوجوب عبارة عن البعث الناشئ من الإرادة القوية، والاستحباب عبارة عن البعث الناشئ عن الإرادة الضعيفة، وكذا الزجر في الحرمة والكراهة، فإنه فيهما علي نحو واحد والاختلاف إنما هو في إرادته،
(١٩٨)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (5)
وحينئذ فكيف يمكن القول بالتضاد بين الوجوب والاستحباب، وكذابين الحرمة والكراهة؟! مع أن القائل يدعي تضاد الأحكام بأسرها - نقول: إنه لو سلم الاختلاف في جميع الأحكام وقطعنا النظر عن عدم اختلاف حقيقة الوجوب والاستحباب وكذا الحرمة والكراهة، فلا نسلم التضاد بينها، لأن ثبوته مبني علي أن يكون متعلق البعث والزجر هو الوجود الخارجي، إذ لو كان متعلقهما هي الطبائع والماهيات الكلية، كما عرفت بما لا مزيد عليه أنه هو مقتضي التحقيق، فهما لا يكونان بمتضادين أيضا، لأن الماهية قابلة لاجتماع العناوين المتضادة فيها، ولإتصافها بكل واحد منها في زمان واحد.
ألا تري أن ماهية الإنسان موجودة ومعدومة في زمان واحد، كما عرفت، وكذا ماهية الجسم متصفة بالسواد والبياض معا في زمان واحد.
فظهر أنه لو كان متعلق البعث والزجر هي طبيعة واحدة، فاستحالته ليس من جهة لزوم اجتماع المتضادين علي شئ واحد، بل من جهة أمر آخر، وهو لزوم التكليف بالمحال من جهة عدم القدرة علي الامتثال، وإلا يلزم عدم إمكان تعلق البعث والزجر بطبيعة واحدة ولو من ناحية شخصين، كما أنه لا يعقل تحقق البياض والسواد واجتماعهما علي موجود خارجي مطلقا ولو كان له علتان، ومن الواضح في المقام خلافه.
وبالجملة، فعلة ثبوت التضاد بين شيئين إنما هو عدم اجتماعهما علي الموجود الخارجي الواحد، وإلا يلزم عدم تحقق التضاد أصلا، لما عرفت من أن الماهية قابلة للاتصاف بجميع العناوين المتضادة في زمان واحد، وقد عرفت أن متعلق البعث والزجر ليس هو الوجود الخارجي بمعني أنه لا يعقل أن يصير الموجود في الخارج مبعوثا إليه ومزجورا عنه أصلا.
وإن كان الحكم عبارة عن الأمر الاعتباري المنتزع عن البعث والزجر،
(١٩٩)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (4)، البعث، الإنبعاث (5)

تنبيهات: التنبيه الأول: بعض أدلة المجوزين

فعدم ثبوت التضاد بينها أظهر من أن يخفي.
ومن جميع ما ذكرنا ظهر بطلان المقدمة الأولي التي مهدها في الكفاية (1) لإثبات التضاد بين الأحكام الخمسة بأسرها، وظهر أيضا أن إثبات القول الامتناع من طريق التضاد بين الأحكام لا يتم أصلا، مضافا إلي ما عرفت من أنه لو سلم التضاد بين الأحكام، فاختلاف المتعلقين وتعددهما يخرج المقام عن مسألة التضاد فتأمل جيدا.
تنبيهات التنبيه الأول: بعض أدلة المجوزين قد استدل المجوزون بأنه لو لم يجز، لما وقع نظيره، وقد وقع، كما في الصلاة في الحمام، التي اجتمع فيها الوجوب والكراهة، وصوم يوم عاشوراء الذي اجتمع فيه الاستحباب والكراهة، والصلاة في المسجد، التي اجتمع فيها الوجوب والاستحباب، ونظائرها مما لا يحصي.
بيان الملازمة: أن المانع ليس إلا التضاد بين الوجوب والحرمة، وعدم كفاية تعدد الجهة في رفع غائلته، ومن المعلوم أن هذا المانع موجود في اجتماع الوجوب مع الكراهة أو الاستحباب، واجتماع الاستحباب مع الكراهة أو الاستحباب، لأن الأحكام الخمسة متضادة بأجمعها، ومن الواضح بطلان التالي، للوقوع في تلك الموارد وأشباهها، فيكشف عن بطلان المقدم، وهو امتناع اجتماع الوجوب والحرمة.
١ - كفاية الأصول: ١٩٣.
(٢٠٠)
صفحهمفاتيح البحث: صوم يوم عاشوراء (1)، يوم عرفة (1)، الباطل، الإبطال (2)، الصّلاة (1)، السجود (1)، الإستحمام، الحمام (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
والتحقيق في الجواب أن يقال: إن العبادات المكروهة علي ثلاثة أقسام:
أحدهما: ما تعلق النهي بعنوان العبادة، ولا يكون لها بدل، كصوم يوم العاشور، والنوافل المبتدأة في بعض الأوقات.
ثانيها: ما تعلق النهي بعنوانها أيضا، ولكن يكون لها بدل، كالصلاة في الحمام.
ثالثها: ما تعلق النهي بعنوان آخر يكون بينه وبينها نسبة العموم من وجه، كالصلاة في مواضع التهمة، بناء علي أن تكون كراهتها من جهة كراهة الكون فيها المتحد مع الصلاة.
إذا عرفت هذا، فنقول:
أما القسم الثالث: فلا إشكال فيه بناء علي القول بالجواز، كما عرفت أنه مقتضي التحقيق.
وأما القسم الثاني: فكذلك أيضا لو قلنا بدخول العامين مطلقا في محل النزاع أيضا، كما نفينا البعد عنه سابقا في مقدمات المبحث، وأما لو قلنا بخروجه عنه، فسيأتي الجواب عنه.
إنما المهم هو القسم الأول: الذي لابد أن يجيب عنه كل من المجوز والممتنع، لعدم تعدد الجهة المجدي بناء علي القول بالجواز، لأن النهي إنما تعلق بعنوان العبادة التي تكون متعلقة للأمر الاستحبابي.
وقد أجاب عنه في الكفاية بما حاصله: أن الكراهة إنما هو لانطباق عنوان راجح علي الترك الذي يكون أرجح من الفعل، فيكون الفعل والترك من قبيل المستحبين المتزاحمين، أو لملازمة الترك علي عنوان كذلك (1)، ولكن
١ - كفاية الأصول: ١٩٨ - 199.
(٢٠١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، النهي (4)، الصّلاة (1)، الكراهية، المكروه (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
لا يخفي أن هذا المعني مما لا يمكن الالتزام به، لأن الترك أمر عدمي، والعدم ليس بشئ حتي ينطبق عليه عنوان ويتحد معه أو يلازمه شئ، فإن ذلك من الأمور المعروضة للموجودات، والعدم ليس منها.
والذي يمكن أن يقال في حل الإشكال: إن المستفاد من الأخبار أن كراهة صوم يوم العاشور إنما هي لكونه تشبها ببني أمية وبني مروان لعنهم الله جميعا، حيث إنهم يتبركون بهذا اليوم ويعاملون معه معاملة الأعياد ويصومون فيه تبركا به، بل لعله كان من أعظم الأعياد، كما يشعر بذلك بعض الأخبار، فالنهي إنما يكون متعلقا بالتشبه بهم في الأعمال التي كانوا يعملونها في ذلك اليوم لأجل التبرك به ومنها: الصوم، فتعلق النهي التنزيهي به إنما هو لكونه مصداقا للتشبه بهم، ومن المعلوم أن نسبة عنوان التشبه إلي طبيعة الصوم - التي تكون مطلوبة في كل زمان ومتعلقة للأمر الوجوبي أو الاستحبابي في جميع الأيام عدا العيدين - نسبة العموم والخصوص من وجه، وقد عرفت أن مقتضي التحقيق جواز الاجتماع فيه، فكون طبيعة الصوم مأمورا بها لا ينافي تعلق النهي بعنوان التشبه بهم، الذي ربما يجتمع معها في الوجود الخارجي، ونظير هذا المعني يمكن أن يقال في النوافل المبتدأة في بعض الأوقات، فتدبر.
وأما القسم الثاني فجوابه ما أفاد في الكفاية مما ملخصه: كون النهي إرشادا إلي ترك إيجاد الصلاة مع خصوصية كونها في الحمام لحصول منقصة فيها معها، كما أن الأمر بالصلاة في المسجد إرشاد إلي إيجادها فيه، لحصول مزية فيها معه، ومن أراد التفصيل فليرجع إلي الكفاية (1).
1 - نفس المصدر: 199 - 200.
(٢٠٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، بنو أمية (1)، النهي (2)، السجود (1)، الصّلاة (1)، الصيام، الصوم (3)، الإستحمام، الحمام (1)

التنبيه الثاني: حكم توسط الأرض المغصوبة

التنبيه الثاني: حكم توسط الأرض المغصوبة لو توسط في أرض الغير التي يحرم التصرف فيها لكونه تصرفا في مال الغير بغير إذنه بالاختيار، فهل الخروج عنها الذي ينحصر به التخلص عن محذور الحرام يكون مأمورا به مع جريان حكم المعصية عليه أو بدونه أو منهيا عنه أو مأمورا به ومنهيا عنه معا أو منهيا عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار؟ وجوه وأقوال.
والحق أنه يكون منهيا عنه فعلا ومتوجها إليه خطاب النهي، ولا يكون مأمورا به فها هنا دعويان:
الأولي: أنه لا يكون مأمورا به، لأن الأمر الذي يتوهم تعلقه به إما أن يكون المراد به الأمر النفسي الاستقلالي، وإما أن يكون المراد به الأمر الغيري التبعي.
أما الأول: فيدفعه وضوح أنه ليس في البين إلا مجرد حرمة التصرف في مال الغير، إذ لم يكن هنا دليل يستفاد منه حكم وجوبي متعلق بالخروج أو بالتخلص أو بأشباههما من العناوين، كما لا يخفي.
وأما الثاني: فيبتني علي القول باقتضاء النهي عن الشئ الأمر بضده العام حتي يثبت بذلك وجوب ترك التصرف، وعلي القول بالملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها حتي يثبت بذلك وجوب الخروج لكونه مقدمة لترك التصرف، وقد عرفت سابقا منع الاقتضاء، وعدم ثبوت الملازمة، بل استحالة كل منهما، فراجع، فلا يكون الخروج متعلقا للأمر المقدمي أيضا.
الثانية: كونه منهيا عنه بالخطاب الفعلي، وسنده يظهر مما عرفت منا مرارا من أن ما اشتهر بينهم من انحلال الخطابات الواردة في الشريعة وتكثرها
(٢٠٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، المنع (1)، النهي (2)، الوجوب (2)

عدم انحلال الخطابات الشرعية

حسب تكثر المخاطبين بمعني أن لكل مكلف خطابا يخصه وحكما مستقلا، مما لا دليل عليه لو لم نقل بثبوت الدليل علي خلافه، كما مر، بل التحقيق أن الخطابات الشرعية إنما هي خطابات عامة بمعني أن الخطاب في كل واحد منها واحد، والمخاطب متعدد، ولا يلحظ في هذا النحو من الخطاب إلا حال النوع من حيث القدرة والعجز والعلم والجهل، كما هو واضح.
عدم انحلال الخطابات الشرعية والدليل علي عدم انحلال الخطابات الشرعية إلي الخطابات المتعددة حسب تعدد المكلفين أمور كثيرة:
منها: أن لازمه عدم كون العصاة مكلفا ومخاطبا أصلا، ضرورة أن البعث والزجر إنما هو لغرض انبعاث المكلف وانزجاره، وحينئذ فمع العلم بعدم تحقق الانبعاث والانزجار من المكلف أصلا كيف يجوز أن يبعثه المولي ويزجره؟!
وليس مجرد إمكان تحقق الانبعاث والانزجار شرطا لصحة البعث، بل الشرط إنما هو احتمالهما، ومن المعلوم انتفاؤه بالنسبة إلي العصاة في التكاليف الشرعية، لكونه تعالي عالما بعدم تحقق الانبعاث والانزجار من العصاة أصلا، فلا يجوز حينئذ تكليفهم، وضرورة الشرع علي خلافه، فالواجب القول بعدم كونهم مكلفين بخصوصهم، بل يشملهم الخطاب العام الواحد المتوجه إلي جميع الناس.
ومنها: أن لازمه عدم وجوب القضاء علي النائم في جميع الوقت، لاستحالة بعثه لغرض الانبعاث، فلا يكون مكلفا بالأداء حتي يجب عليه القضاء مع أن ضرورة الشرع أيضا تقضي بخلافه.
ومنها: أن لازمه اختلاف النجاسة والطهارة بالنسبة إلي المكلفين، لأنه
(٢٠٤)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (2)، الجهل (1)، النجاسة (1)، الجواز (2)، الوجوب (1)
لا يعقل جعل نجاسة الخمر الموجودة في الممالك التي لا يسافر الإنسان إليها عادة، لأن الواضح أن جعل الأحكام الوضعية أيضا إنما هو لغرض ترتيب الأثر، فمع عدم الابتلاء به عادة لا يعقل جعل النجاسة له، مع أن الخمر حرام في أي محل كان، كما يشهد به ضرورة الفقه.
ومنها: غير ذلك من الأمور التي تقدمت الإشارة إلي بعضها سابقا.
وحينئذ فالتكليف ثابت بالنسبة إلي جميع الناس من القادر والعاجز والعالم والجاهل والمضطر والمختار، غاية الأمر كون العاجز ونظائره معذورا بحكم العقل في مخالفة التكليف، لا أنه خارج عن المخاطبين بحيث لم يكن الخطاب متوجها إليه، وحينئذ نقول: إن الاضطرار الحادث في المقام بسوء الاختيار لا يصير عذرا بنظر العقل أصلا.
أتري ثبوت العذر لمن ألجأ نفسه في ارتكاب المحرمات الشرعية بسوء الاختيار، كمن اضطر إلي شرب الخمر وأكل لحم الميتة بسوء اختيار نفسه؟
ثم إنه لو قلنا بعدم توجه الخطاب الفعلي إليه لكونه مضطرا ولو بسوء الاختيار، فلا مجال للقول بعدم استحقاقه للعقوبة، بل لا يرتاب فيه عاقل أصلا، كيف ولازمه عدم استحقاق من اضطر بسوء اختياره إلي سائر المحرمات الشرعية للعقوبة أصلا، فيجوز أن يدخل الإنسان دارا يعلم بأنه لو دخل فيها يصير مضطرا إلي شرب الخمر أو مكرها عليه، ولا يترتب عليه عقوبة أيضا ومن المعلوم أن ضرورة الشرع والعقل علي خلافه.
ثم إنه لو سلمنا اقتضاء النهي عن الشئ الأمر بضده العام وقلنا بثبوت الملازمة العقلية بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها وقطعنا النظر عما ذكرنا من عدم انحلال الخطابات الشرعية إلي الخطابات المتكثرة حسب تكثر المكلفين، فلا يكون في البين مانع من الالتزام بقول أبي هاشم وأتباعه القائلين بكونه
(٢٠٥)
صفحهمفاتيح البحث: شرب الخمر (2)، الجهل (1)، النهي (1)، الإختيار، الخيار (1)، النجاسة (2)، الشهادة (1)، الوجوب (1)
مأمورا به ومنهيا عنه إلا لزوم التكليف بالمحال، لعدم قدرة المكلف علي الامتثال.
وأما الإشكال عليه بلزوم كون التكليف بنفسه محالا كما في الكفاية، نظرا إلي اجتماع التكليفين هنا بعنوان واحد، لأن الخروج بعنوانه سبب للتخلص وواقع بغير إذن المالك (1)، فمندفع بأن متعلق النهي إنما هو التصرف في مال الغير بدون إذنه، لا عنوان الخروج، ومتعلق الأمر المقدمي ليس ما يحمل عليه عنوان المقدمة بالحمل الشائع، وإلا يلزم أن يكون تعلقه به متوقفا علي تحققه في الخارج، فيلزم أن تكون المقدمة الموجودة متعلقة للأمر، وهو مستحيل بداهة، بل المتعلق له إنما هو عنوان ما يتوقف عليه ذو المقدمة بناء علي القول بثبوت الملازمة مطلقا، وعنوان الموصل إلي ذي المقدمة بناء علي القول بالمقدمة الموصلة، كما عرفت أنه مقتضي التحقيق بناء علي تسليم الملازمة، ضرورة أن الحيثيات التعليلية كلها ترجع إلي الحيثيات التقييدية، فمتعلق الأمر المقدمي في المقام هو عنوان ما يتوقف عليه ترك التصرف في مال الغير أو عنوان الموصل إليه، ومتعلق النهي هو عنوان التصرف في مال الغير، فأين يلزم اجتماع التكليفين علي عنوان واحد؟ ولولا استلزام هذا القول للتكليف بالمحال كما عرفت، لم يكن بد من الالتزام به.
ومن هنا تعرف صحة ما ذهب إليه صاحب الفصول (قدس سره) من كونه مأمورا به مع إجراء حكم المعصية عليه، نظرا إلي النهي السابق، وذلك لخلوه عن استلزام التكليف بالمحال أيضا (2)، فتدبر.
ثم إن المحقق النائيني - علي ما في التقريرات - قد بني المسألة علي
١ - كفاية الأصول: ٢٠٩.
2 - الفصول الغروية: 138 / السطر 25.
(٢٠٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الوقوف (2)، النهي (3)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

التنبيه الثالث: حكم الصلاة في الدار المغصوبة

كونها مندرجة تحت قاعدة " الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار " فالحق ما عليه صاحب الكفاية من عدم كونه مأمورا به ولا منهيا عنه، وعلي عدم كونها صغري لها (1)، فالحق ما عليه الشيخ من كونه مأمورا به فقط (2) ثم اختار عدم الاندراج، وتمسك في ذلك بأربعة أوجه (3).
ولكن لا يخفي أن هذه القاعدة بعيدة عن المقام بمراحل، بل لا يكون بينهما ربط أصلا، لما ذكره في الكفاية في بيان موردها، فراجعها (4).
التنبيه الثالث: حكم الصلاة في الدار المغصوبة قد عرفت أن الصلاة في الدار المغصوبة لا مانع فيها من حيث اجتماع التكليفين، وأما حكمها الوصفي فنحن وإن اخترنا البطلان بناء علي الاجتماع في المقدمة السادسة المعدة لبيان ثمرة القولين، نظرا إلي أن المبعد لا يمكن أن يكون مقربا، إلا أنك عرفت في مسألة إمكان اجتماع المحبوبية والمبغوضية والصلاح والفساد أنه لا مانع من ذلك أصلا، لأن المقرب إنما هو حيثية الصلاتية، والمبعد إنما هو حيثية الغصبية، فالحق صحة الصلاة بناء علي القول بالاجتماع، وأما بناء علي الامتناع: فقد عرفت تفصيل القول فيه في تلك المقدمة، فراجع.
١ - كفاية الأصول: ٢٠٤.
٢ - مطارح الأنظار: ١٥٣ / السطر ٣٣.
٣ - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي ١: ٤٤٧ - ٤٥١.
٤ - كفاية الأصول: ٢٠٩ - 210.
(٢٠٧)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (3)، الباطل، الإبطال (1)، الصّلاة (3)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (2)

الفصل الثالث: في اقتضاء النهي عن الشئ فساده وعدمه

حول كشف النهي عن فساد المنهي عنه الفصل الثالث في اقتضاء النهي عن الشئ فساده وعدمه ولابد من تقديم أمور:
الأمر الأول: حول عنوان المسألة ربما يعبر عن محل النزاع تارة بأن النهي عن الشئ هل يقتضي فساده أم لا؟ واخري بأن النهي عن الشئ هل يدل علي فساده أم لا؟ ولا يخفي إمكان المناقشة في كل منهما، لأن التعبير بالاقتضاء الذي معناه بحسب العرف واللغة هو التأثير والسببية لا يناسب المقام، كما لا يخفي.
وأما التعبير بالدلالة: فلا يناسب القول بالفساد من جهة ملازمة الحرمة معه لا من جهة كون النهي إرشادا إليه فالأولي التعبير بأن النهي هل يكشف عن فساد المنهي عنه عبادة كان أو معاملة أم لا.
الأمر الثاني: في أصولية هذه المسألة قد عرفت الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة اجتماع الأمر والنهي في
(٢٠٨)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، النهي (7)

لا بد من تقديم أمور: الأمر الأول: حول عنوان المسألة

حول كشف النهي عن فساد المنهي عنه الفصل الثالث في اقتضاء النهي عن الشئ فساده وعدمه ولابد من تقديم أمور:
الأمر الأول: حول عنوان المسألة ربما يعبر عن محل النزاع تارة بأن النهي عن الشئ هل يقتضي فساده أم لا؟ واخري بأن النهي عن الشئ هل يدل علي فساده أم لا؟ ولا يخفي إمكان المناقشة في كل منهما، لأن التعبير بالاقتضاء الذي معناه بحسب العرف واللغة هو التأثير والسببية لا يناسب المقام، كما لا يخفي.
وأما التعبير بالدلالة: فلا يناسب القول بالفساد من جهة ملازمة الحرمة معه لا من جهة كون النهي إرشادا إليه فالأولي التعبير بأن النهي هل يكشف عن فساد المنهي عنه عبادة كان أو معاملة أم لا.
الأمر الثاني: في أصولية هذه المسألة قد عرفت الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة اجتماع الأمر والنهي في
(٢٠٨)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، النهي (7)

الأمر الثاني: في أصولية هذه المسألة

حول كشف النهي عن فساد المنهي عنه الفصل الثالث في اقتضاء النهي عن الشئ فساده وعدمه ولابد من تقديم أمور:
الأمر الأول: حول عنوان المسألة ربما يعبر عن محل النزاع تارة بأن النهي عن الشئ هل يقتضي فساده أم لا؟ واخري بأن النهي عن الشئ هل يدل علي فساده أم لا؟ ولا يخفي إمكان المناقشة في كل منهما، لأن التعبير بالاقتضاء الذي معناه بحسب العرف واللغة هو التأثير والسببية لا يناسب المقام، كما لا يخفي.
وأما التعبير بالدلالة: فلا يناسب القول بالفساد من جهة ملازمة الحرمة معه لا من جهة كون النهي إرشادا إليه فالأولي التعبير بأن النهي هل يكشف عن فساد المنهي عنه عبادة كان أو معاملة أم لا.
الأمر الثاني: في أصولية هذه المسألة قد عرفت الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة اجتماع الأمر والنهي في
(٢٠٨)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، النهي (7)

هل المسألة عقلية أو لفظية؟

بعض مقدمات تلك المسألة، والظاهر كون المسألة أصولية، لأن نتيجتها تقع في طريق الاستنباط كما هو واضح.
هل المسألة عقلية أو لفظية؟
قد يقال: بأن المسألة عقلية صرفة، وقد يقال: لفظية محضة، والظاهر عدم كونها ممحضا في أحدهما، لأن المدعي في المسألة صحة العبادة وبطلانها، سواء كان طريق الإثبات في ذلك اللفظ بأن يكون النهي إرشادا إلي الفساد وعدمه، أو العقل، للملازمة بين المبغوضية والفساد وعدمها.
مضافا إلي اختلاف الاستدلالات من هذه الجهة، فبعضها ظاهر في الدلالة بحسب العرف، وبعضها في الدلالة بحسب العقل.
ودعوي أن المسألة عقلية محضة - كما في الدرر - لأن القائل بالبطلان يتمسك بعدم إمكان صيرورة المبغوض عبادة (1)، مدفوعة: بعدم اختصاص استدلالهم بذلك، بل ربما يتمسكون بالدلالة العرفية، كما في الفصول (2)، فراجع.
الأمر الثالث: تفسير وصفي الصحة والفساد ذكر في الكفاية في معني الصحة والفساد ما حاصله: أنهما وصفان إضافيان، ومعني الأول هي التمامية، والثاني هو النقص، والصحة في العبادة والمعاملة بمعني واحد، وهو التمامية، والاختلاف في الآثار المرغوبة منهما
١ - درر الفوائد، المحقق الحائري: 185.
2 - الفصول الغروية: 140 / السطر 30.
(٢٠٩)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (1)

الأمر الثالث: تفسير وصفي الصحة والفساد

بعض مقدمات تلك المسألة، والظاهر كون المسألة أصولية، لأن نتيجتها تقع في طريق الاستنباط كما هو واضح.
هل المسألة عقلية أو لفظية؟
قد يقال: بأن المسألة عقلية صرفة، وقد يقال: لفظية محضة، والظاهر عدم كونها ممحضا في أحدهما، لأن المدعي في المسألة صحة العبادة وبطلانها، سواء كان طريق الإثبات في ذلك اللفظ بأن يكون النهي إرشادا إلي الفساد وعدمه، أو العقل، للملازمة بين المبغوضية والفساد وعدمها.
مضافا إلي اختلاف الاستدلالات من هذه الجهة، فبعضها ظاهر في الدلالة بحسب العرف، وبعضها في الدلالة بحسب العقل.
ودعوي أن المسألة عقلية محضة - كما في الدرر - لأن القائل بالبطلان يتمسك بعدم إمكان صيرورة المبغوض عبادة (1)، مدفوعة: بعدم اختصاص استدلالهم بذلك، بل ربما يتمسكون بالدلالة العرفية، كما في الفصول (2)، فراجع.
الأمر الثالث: تفسير وصفي الصحة والفساد ذكر في الكفاية في معني الصحة والفساد ما حاصله: أنهما وصفان إضافيان، ومعني الأول هي التمامية، والثاني هو النقص، والصحة في العبادة والمعاملة بمعني واحد، وهو التمامية، والاختلاف في الآثار المرغوبة منهما
١ - درر الفوائد، المحقق الحائري: 185.
2 - الفصول الغروية: 140 / السطر 30.
(٢٠٩)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (1)
التي بالقياس عليها تتصف بالتمامية، وهكذا الاختلاف بين الفقيه والمتكلم في تفسير صحة العبادة إنما يكون لأجل الاختلاف فيما هو المهم لكل منهما من الأثر بعد الاتفاق علي أنها بمعني التمامية، كما هي معناها لغة وعرفا (1).
أقول: من الواضح أن الصحة والفساد لا يساوقان التمامية والنقص بحسب اللغة والعرف، لما نري بالوجدان من اختلاف موارد استعمالهما، فلا يقال علي الإنسان الفاقد للبصر مثلا: إنه فاسد، ولا علي الفاكهة التي طرأ عليها بعض العوارض فأخرجها عما يقتضيه بحسب نوعها: إنها ناقصة، ولا علي البيت الخالية من السقف أو الجدار مثلا: إنه فاسد، بل يقال: ناقص، ولا علي المعجون المشتمل علي جميع أجزائه الغير المترتب عليه الأثر المقصود منه، لطرو بعض العوارض عليه: إنه ناقص، بل يقال له: إنه فاسد.
وبالجملة، فاختلاف موارد استعمالهما مما لا ينبغي الارتياب فيه.
والحق الذي يطابقه الوجدان: أن معني التمامية يرجع إلي اشتمال الشئ المركب علي جميع ما اعتبر فيه من الأجزاء والشرائط، والنقص عبارة عن فقدانه لبعض تلك الأجزاء أو الشرائط، والتقابل بينهما تقابل العدم والملكة.
وأما الصحة فهي عبارة عن كون الشئ في وجوده الخارجي مطابقا لما يقتضيه طبعه الأولي بحسب نوعه والفساد عبارة عن خروجه عن مقتضي طبعه الأولي لطرو بعض الأسباب الموجبة لذلك، وهو كالصحة أمر وجودي، والتقابل بينهما تقابل الضدين.
نعم، لا ننكر أن الصحة قد استعملت في العبادات والمعاملات بمعني التمامية، إذ العبادة الصحيحة مثلا هو ما كان جامعا لجميع الأجزاء والشرائط
١ - كفاية الأصول: ٢٢٠.
(٢١٠)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
المعتبرة فيه، وكذا المعاملة، والفساد قد استعملت فيهما بمعني النقص، كما هو واضح، ولكن هذا الاستعمال إما أن يكون اصطلاحا خاصا من الفقهاء، وإما أن يكون مجازيا، وقرينته المشابهة، لأن الصلاة الفاقدة لبعض أجزائها مثلا كأنها قد خرجت عن مقتضي طبعها الأولي.
نعم علي التقدير الثاني قد بلغ الآن إلي حد الحقيقة، لعدم احتياجه إلي القرينة أصلا، كما هو واضح.
ثم لا يخفي أن التمامية والنقص وصفان إضافيان، فيمكن أن يكون المركب تاما من حيث أجزائه مثلا، وناقصا من حيث شرائطه، والصحة والفساد في العبادات والمعاملات وإن عرفت أنهما يساوقان التمامية والنقص إلا أن أثرهما - وهو الإضافة - لا يسري إلي الصحة والفساد، لأنه لا يقال علي الصلاة الجامعة لجميع أجزائها الفاقدة لبعض شرائطها مثلا: إنها صحيحة من حيث الأجزاء، وفاسدة من حيث الشرائط، بل أمرها يدور بين الصحة بقول مطلق، والفساد كذلك، كما لا يخفي.
وهكذا المعاملات، فإن أمرها أيضا دائر بين الصحة فقط، والفساد كذلك.
ثم إن الصحة والفساد وصفان واقعيان لا يختلفان بحسب الأنظار واقعا، بل مرجع الاختلاف إلي تخطئة كل من الناظرين نظر صاحبه بمعني أن المصيب إنما هو نظر واحد فقط، غاية الأمر أن كلا يدعي إصابة نظره، وذلك لا يقتضي اختلافهما بحسب الأنظار واقعا.
فما في الكفاية: من اختلافهما بحسب الأنظار، لكون الأمر في الشريعة علي أقسام، وقد وقع الخلاف في إجزاء غير الأمر الواقعي عنه (1).
١ - كفاية الأصول: ٢٢٠ - 221.
(٢١١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الصّلاة (2)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

تنبيه: في جعل الصحة والفساد

ممنوع جدا، لأن هذا الخلاف مرجعه إلي ما ذكرنا من عدم اقتضاء ذلك الاختلاف بحسب الواقع، بل نقول: إن مسألة الإجزاء لا ربط لها بمسألة الصحة أصلا، فإن معني الصحة عبارة عن موافقة المأتي به للأمر المتعلق بنفسه، وأما الاكتفاء به عن الإتيان بالمأمور به بأمر آخر فهو أمر خارج عن معني الصحة، فالصلاة مع الطهارة المستصحبة صحيحة بمعني كونها موافقة للأمر الظاهري المتعلق بها ولو لم نقل بكونها مجزئة بمعني الاكتفاء به عن الصلاة مع الطهارة الواقعية المأمور بها بالأمر الواقعي، فالصحة أمر، والإجزاء أمر آخر.
نعم الإجزاء مترتب علي الصحة بمعني أن الإجزاء لو قيل به إنما يتصف به الصلاة الصحيحة المطابقة للأمر المتعلق بها، إذ الصلاة الفاسدة بحسب أمرها لا يعقل أن تكون مجزئة بالنسبة إلي أمر آخر كما هو واضح.
تنبيه: في جعل الصحة والفساد لا ينبغي الإشكال في أن الصحة والفساد أمران واقعيان يستقل بهما العقل بلا فرق بين العبادات والمعاملات، ولابين الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأولي أو بالأمر الاضطراري والظاهري أصلا، لأنهما وصفان للموجود الخارجي باعتبار موافقته مع المجعول الشرعي، عبادة كان أو معاملة وعدمها، إذ لا يعقل الصحة والفساد في وادي الجعل والإنشاء، بل إنما يتصوران في وادي الامتثال والإيجاد، وهذا واضح، ومن المعلوم أنه لا فرق من هذه الجهة بين المعاملة والعبادة أصلا.
فما في الكفاية، من التفصيل بينهما لا وجه له، وكذا التفصيل بين
(٢١٢)
صفحهمفاتيح البحث: الصّلاة (2)، الطهارة (2)
الصحة والفساد في الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي، وبينهما في الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري أو الاضطراري بالقياس إلي الأمر الواقعي بعدم معقولية الجعل في الأول دون الثاني (1) مما لا سبيل إليه، فإنه يرد عليه - مضافا إلي ما عرفت من أن مسألة الصحة والفساد لا ربط لها بمسألة الإجزاء وعدمه، فإنهما إنما يعتبران بالقياس إلي نفس الأمر الظاهري والاضطراري، وتلك المسألة إنما تكون متعرضة لحاله من حيث الإجزاء وعدمه بالنسبة إلي أمر آخر - أن معني الأمر الظاهري مثلا لو كان راجعا إلي التصرف في المأمور به بالأمر الواقعي سعة وضيقا بحيث كان مرجع تجويز الصلاة مع الطهارة المستصحبة مثلا إلي التصرف في دليل اعتبار الطهارة في الصلاة بعدم كون المعتبر فيها هو خصوص الطهارة الواقعية بل الأعم منها ومن الطهارة الظاهرية، فلا يعقل جعل الصحة للمأتي به في الخارج مع الطهارة المستصحبة مثلا، لأن موافقته مع المجعول الشرعي أمر واقعي نفس الأمري، ولا يعقل فيه الجعل ولو لم يكن معني الأمر الظاهري راجعا إلي ما ذكرنا، بل المراد منه مجرد تجويز الصلاة معها مثلا تسهيلا للعباد بعدم لزوم التفحص، أو تحصيل الطهارة اليقينية ما دام لم ينكشف الخلاف، فلا يعقل جعل الصحة إذا انكشف بعد عدم عمومية الطهارة المعتبرة في الصلاة وكون الشرط هو خصوص الطهارة الواقعية لفساد العبادة واقعا، لعدم كونها موافقة للمجعول الشرعي، كما هو واضح.
فالحق أن الصحة والفساد مطلقا من الأمور الواقعية الغير القابلة للجعل، ولا فرق بين الموارد أصلا، فتأمل جيدا.
١ - كفاية الأصول: ٢٢٠ - 221.
(٢١٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الوسعة (1)، الصّلاة (3)، الطهارة (6)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

الأمر الرابع: شمول ملاك البحث للنهي التنزيهي والغيري والتبعي

الأمر الرابع: شمول ملاك البحث للنهي التنزيهي والغيري والتبعي لا ريب في عدم اختصاص النزاع بالنهي التحريمي وشموله للنهي التنزيهي أيضا، ومجرد كون النواهي التنزيهية في الشريعة متعلقة لا بنفس العبادة بل ببعض الخصوصيات الخارجة عن حقيقتها - كما أدعاه بعض (1) - لا يوجب خروجه عن محل النزاع، لعدم تعلق غرض الأصولي بالصغريات، بل غرضه بيان قاعدة كلية تنطبق علي مواردها، كما لا يخفي.
هذا ما ينافي ما تقدم في ثمرة اقتضاء الأمر بالشئ للنهي عن الضد، وكذا لا شبهة في دخول النهي الغيري في مورد النزاع، وكذا النهي التبعي.
الأمر الخامس: في تحقيق الأصل في المسألة لا أصل في نفس المسألة الأصولية حتي يحرز به الاقتضاء أو عدمه، لأنه لو كان النزاع في دلالة النهي وعدمها، فلا شبهة في أنه لا يكون لأحد الطرفين حالة سابقة متيقنة حتي تستصحب، ضرورة أنها مشكوكة من حين الوضع.
ودعوي: أن كلمة " لا " مثلا قبل التركيب وانضمام اللام مع الألف - يعني حين وضع المفردات - لم يكن يدل علي الفساد، لعدم عروض الوضع التركيبي عليه، فتستصحب تلك الحالة.
مدفوعة: بأن النزاع في لفظة " لا " لا " اللا " مع الألف، وهي من أول وضعها كانت مشكوكة الدلالة علي الفساد، ولو كان النزاع في الملازمة بين
١ - درر الفوائد، المحقق الحائري: 185 - 186.
(٢١٤)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (3)

الأمر الخامس: في تحقيق الأصل في المسألة

الأمر الرابع: شمول ملاك البحث للنهي التنزيهي والغيري والتبعي لا ريب في عدم اختصاص النزاع بالنهي التحريمي وشموله للنهي التنزيهي أيضا، ومجرد كون النواهي التنزيهية في الشريعة متعلقة لا بنفس العبادة بل ببعض الخصوصيات الخارجة عن حقيقتها - كما أدعاه بعض (1) - لا يوجب خروجه عن محل النزاع، لعدم تعلق غرض الأصولي بالصغريات، بل غرضه بيان قاعدة كلية تنطبق علي مواردها، كما لا يخفي.
هذا ما ينافي ما تقدم في ثمرة اقتضاء الأمر بالشئ للنهي عن الضد، وكذا لا شبهة في دخول النهي الغيري في مورد النزاع، وكذا النهي التبعي.
الأمر الخامس: في تحقيق الأصل في المسألة لا أصل في نفس المسألة الأصولية حتي يحرز به الاقتضاء أو عدمه، لأنه لو كان النزاع في دلالة النهي وعدمها، فلا شبهة في أنه لا يكون لأحد الطرفين حالة سابقة متيقنة حتي تستصحب، ضرورة أنها مشكوكة من حين الوضع.
ودعوي: أن كلمة " لا " مثلا قبل التركيب وانضمام اللام مع الألف - يعني حين وضع المفردات - لم يكن يدل علي الفساد، لعدم عروض الوضع التركيبي عليه، فتستصحب تلك الحالة.
مدفوعة: بأن النزاع في لفظة " لا " لا " اللا " مع الألف، وهي من أول وضعها كانت مشكوكة الدلالة علي الفساد، ولو كان النزاع في الملازمة بين
١ - درر الفوائد، المحقق الحائري: 185 - 186.
(٢١٤)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (3)
الحرمة والفساد وعدمها، فلا شبهة أيضا في أنه لا يكون لها حالة سابقة متيقنة، لا لأن الملازمة وعدمها من الأمور الأزلية، فإن هذا فاسد، لأن الملازمة من الأوصاف الوجودية، ولا يعقل تحققها من دون تحقق طرفيها، وعروضها للمعدوم غير معقول، بل لكونها مشكوكة من حين تحقق النهي.
ودعوي: كونها معدومة ومنتفية قبله ولو بانتفاء الموضوع.
مدفوعة: بأن هذا لا يصحح جريان الاستصحاب، لأنه من قبيل استصحاب عدم القرشية، وقد حقق في محله عدم جريانه.
ثم إنه لو سلمنا وجود الحالة السابقة، فالظاهر أيضا عدم جريان الاستصحاب، لأنه يعتبر في جريانه في الموضوعات أن تكون موضوعة للآثار والأحكام الشرعية. وبعبارة أخري: مندرجة تحت بعض الكبريات الشرعية، ومن المعلوم أنه ليس في المقام كذلك، لأن استصحاب عدم الدلالة أو عدم الملازمة لا يثبت الصحة أصلا، لأن ترتب الصحة إنما هو بحكم العقل بعد ملاحظة ثبوت المقتضي وعدم المانع، كما هو الحال في جميع الموارد، فإن الحاكم بترتب المقتضي علي المقتضي بعد عدم ثبوت المانع إنما هو العقل لا غير.
هذا كله فيما يتعلق بجريان الأصل في نفس المسألة الأصولية.
وأما المسألة الفرعية: فالأصل في المعاملات الفساد لو لم يكن عموم أو إطلاق يقتضي الصحة، وأما العبادة فلو أحرز من طريق ثبوت الملاك فيها، فالظاهر الصحة بناء علي كفاية الملاك في صحة العبادة، كما هو الحق، وقد سبق، ولو لم يحرز ذلك، فالعبادة فاسدة، والوجه فيه واضح.
ثم لا يخفي: أنه لا فرق فيما ذكرنا بين تعلق النهي بنفس العبادة مثلا أو جزئها أو شرطها، لأن محل الكلام إنما هو كون تعلق النهي بشئ عبادة كان أو معاملة يوجب فساد متعلقه من حيث هو أم لا، وأما سراية الفساد منه إلي
(٢١٥)
صفحهمفاتيح البحث: الأحكام الشرعية (1)، النهي (3)

إذا عرفت هذه الأمور يقع الكلام في مقامين: المقام الأول: في دلالة النهي علي الفساد في العبادات

مجموع العبادة فيما كان متعلق النهي جزء العبادة وعدم السراية، فهو أمر خارج عن موضوع البحث، كما لا يخفي.
ومنه يظهر أن الأمر الثامن الذي عقده في الكفاية لإثبات موارد السراية وعدمها (1) خارج عن محل الكلام، ولا ربط له أصلا.
إذا عرفت هذه الأمور، فاعلم أن الكلام يقع في مقامين:
المقام الأول في دلالة النهي علي الفساد في العبادات والكلام فيه يقع من جهتين:
الجهة الأولي: في دلالة النهي علي الفساد فيها بالدلالة اللفظية العرفية بمعني أنه لو ورد نهي متعلق بعبادة ولم يحرز كونه مولويا تحريميا أو تنزيهيا أو إرشاديا، فهل يدل بنظر العرف علي فسادها أم لا؟ بمعني أنه هل يكون للإرشاد إلي الفساد أم لا؟
قد يقال - كما عن بعض الأعاظم من المعاصرين - بكونه في العبادات إرشادا إلي فسادها، لأنه حيث تكون العبادة من المجعولات الشرعية، والغرض من إتيانها إنما هو سقوط الأمر، وحصول التقرب بسببها إلي المولي، فكما أن الأمر بإتيانها علي كيفية مخصوصة وبوجوب الإتيان بشئ فيها يكون للإرشاد إلي أن الأثر المترقب من العبادة لا يترتب عليها من دون تلك الكيفية أو ذلك الشئ، وكذلك النهي عن إيجاد شئ في المأمور به أو إتيانها بكيفية خاصة يكون للإرشاد إلي مانعية ذلك الشئ أو تلك الكيفية، وأن الأثر المقصود
١ - كفاية الأصول: ٢٢٢ - 223.
(٢١٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، النهي (5)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
لا يترتب عليه مع وجوده أو وجودها، فكذلك النهي المتعلق ببعض أنواع العبادة أو أصنافها لا يكون إلا للإرشاد إلي فساده، وعدم ترتب الأثر المقصود عليه (1).
الجهة الثانية: في ثبوت الملازمة بين الحرمة والفساد بمعني أنه لو أحرز كون مدلول النهي هي الحرمة، فهل يثبت بذلك فساد المنهي عنه للملازمة، أو لا يثبت لعدمها؟
والتحقيق هو الأول، لأن النهي يكشف عن مبغوضية متعلقه واشتماله علي المفسدة علي ما يقول به العدلية، ومع ذلك لايبقي مجال لصحته بعد أنه يعتبر في صحة العبادة أحد أمرين، وهما تعلق الأمر بها واشتمالها علي الملاك وهو رجحانها الذاتي، والمفروض انتفاؤهما في المقام.
وتوهم: أنه لا يعقل تعلق النهي التحريمي الذاتي بالعبادة، لعدم حرمتها مع عدم قصد التقرب وعدم القدرة عليها معه إلا تشريعا.
مدفوع: بأن المراد بالعبادة هو الذي يكون من سنخ الوظائف التي يتعبد بها، لا ما يكون فعلا عبادة، فصلاة الحائض عبادة بمعني أنها لو تعلق الأمر بها، كان أمرها أمرا عباديا.
هذا في غير العبادات الذاتية، وأما فيها: فتكون محرمة مع كونها فعلا عبادة، كما هو واضح.
هذا في النهي التحريمي، وأما النهي التنزيهي المتعلق بذات العبادة فهو أيضا يوجب فسادها، لأنه لا يعقل اجتماع الصحة مع المرجوحية الذاتية أصلا، إلا أنه لا يخفي ثبوت المنافاة بين الفساد وبين الترخيص فيها الذي هو لازم النهي التنزيهي، لأن الترخيص بلازم الصحة، إذ لا يعقل تجويز التشريع، فثبوته يلازم
1 - نهاية الأصول: 283 - 284.
(٢١٧)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (6)، الحيض، الإستحاضة (1)

المقام الثاني: في اقتضاء النهي للفساد في المعاملات وعدمه

صحتها، كما لا يخفي.
فلابد من التأويل بجعل الترخيص ترخيصا في أصل العبادة، أو يقال بكون النهي إرشادا إلي أقلية الثواب، إلا أن ذلك خروج عن محل البحث، لأن المفروض كون النهي تنزيهيا متعلقا بذات العبادة.
هذا في النواهي النفسية، وأما النواهي الغيرية كالنهي عن الصلاة الناشئ من قبل الأمر بالإزالة بناء علي اقتضاء الأمر بالشئ للنهي عن ضده، فلا يخفي أنها لا تستلزم الفساد، لعدم كون متعلقها مبغوضا أصلا، فلا مانع من صحتها مع وجود الملاك فيها، والاكتفاء به في صحة العبادة، كما عرفت.
وتوهم أن الآتي بالصلاة دون الإزالة يكون متجريا والتجري يوجب بطلان عبادته، لأنه لا يقبل عبادة المتجري، مدفوع: بأن التجري إنما هو بسبب عدم فعل الإزالة، لا فعل الصلاة، ولا يعقل سراية التجري منه إليه، كما هو واضح.
المقام الثاني في اقتضاء النهي للفساد في المعاملات وعدمه وفيه أيضا جهتان من الكلام:
الجهة الأولي: في دلالة النهي علي الفساد، بمعني أنه لو ورد نهي متعلق بمعاملة، ولم يحرز كونه مولويا تحريميا أو تنزيهيا أو إرشاديا فهل، ظاهرها الأخير بمعني كونه للإرشاد إلي الفساد أم لا؟
والتحقيق هو الأول، لأن المعاملة كالبيع مثلا يتضمن جهات ثلاثة:
الأولي: هي نفس الألفاظ الصادرة من المتعاقدين، كبعت واشتريت مثلا.
الثانية: ما هو مدلول تلك الألفاظ، وهو فعل تسبيبي للإنسان، كالنقل والانتقال.
(٢١٨)
صفحهمفاتيح البحث: أفعال الصلاة (1)، يوم عرفة (1)، النهي (4)، الصّلاة (1)
الثالثة: الآثار المترتبة عليها المرغوبة منها، كجواز التصرف بالأكل والشرب واللبس مثلا، ومن المعلوم أن غرض العقلاء هو الأمر الأخير، أي ترتيب الآثار المطلوبة، فالشارع من حيث إنه مقنن للقوانين التي بها ينتظم أمور الناس من حيث المعاش والمعاد، فإذا نهي عن معاملة، فالظاهر أنه لا يترتب عليها الآثار المترقبة منها، بمعني أن النهي إرشاد إلي فساد تلك المعاملة، كما هو الظاهر بنظر العرف.
الجهة الثانية: في الملازمة بين الحرمة والفساد في المعاملات، بمعني أنه لو أحرز كون النهي للتحريم، فهل يلازم ذلك فساد المعاملة أو لا؟
فنقول: إن النواهي الواردة في المعاملات علي أنحاء:
أحدها: أن يكون النهي متعلقا بنفس ألفاظها من حيث إنها فعل اختياري مباشري، فيصير التلفظ بها من المحرمات، كشرب الخمر، ولا ريب في عدم الملازمة بين حرمة التلفظ وفساد المعاملة أصلا، فإن المعصية لا تنافي ترتيب الأثر.
ألا تري أن إتلاف مال الغير حرام بلا إشكال، ومع ذلك يؤثر في الضمان.
ثانيها: أن يكون مدلول النهي هو إيجاد السبب من حيث إنه يوجب وجود المسبب. وبعبارة أخري: يكون المبغوض هو ما يتحصل من المعاملة، وتؤثر تلك الألفاظ في وجودها، كما في النهي عن بيع المسلم للكافر، فإن المبغوض فيه هو سلطنة الكافر علي المسلم، وفي هذا النحو يمكن أن يقال بعدم ثبوت الملازمة بين الحرمة والفساد، إذ لا مانع من صحة البيع، إلا أنه ذكر في تقريرات الشيخ (قدس سره) أن ذلك إنما يستقيم فيما إذا قلنا بأن الأسباب الناقلة إنما هي مؤثرات عقلية قد اطلع عليها الشارع، وبينها لنا من دون تصرف زائد، وأما علي القول بأن هذه أسباب شرعية إنما وضعها الشارع وجعلها مؤثرة في الآثار المطلوبة عنها،
(٢١٩)
صفحهمفاتيح البحث: شرب الخمر (1)، النهي (5)، البيع (2)، السب (1)
فلابد من القول بدلالة النهي علي الفساد، فإن من البعيد في الغاية جعل السبب فيما إذا كان وجود المسبب مبغوضا (1). انتهي.
ولكن لا يخفي أن هنا احتمالا آخر، وهو: أن تكون الأسباب الناقلة مؤثرات عقلائية، والشارع قد أمضاها، وهو أقوي من الاحتمالين اللذين ذكرهما في كلامه، ومعه يمكن صحة المعاملة مع كونها محرمة.
وتوهم أنه كما يكون من البعيد جعل السبب ابتداء مع مبغوضية المسبب كذلك من البعيد إمضاء السبب العقلائي مع مبغوضية مسببه، مدفوع: بأن ذلك إنما يستقيم لو تعلق الإمضاء بها بخصوصها، وأما لو كان الدليل العام كقوله:
* (أوفوا بالعقود) * متضمنا لإمضاء جميع العقود العقلائية، فيرتفع البعد، كما لا يخفي.
ثالثها: أن يكون مدلول النهي هو التسبب بألفاظ معاملة خاصة إلي المسبب، بمعني أنه لا يكون السبب ولا المسبب من حيث أنفسهما حراما، ولكن المحرم هو التوصل إلي وجود المسبب من ناحية خصوص هذا السبب، ولا يخفي عدم الملازمة في هذا القسم أيضا لو لم نقل بدلالة النهي علي الصحة من حيث إن متعلق النهي لابد وأن يكون مقدورا للمكلف بعد تعلق النهي، فلو كانت المعاملة فاسدة، لم يكن التوصل بالمسبب من طريق هذا السبب مقدورا للمكلف بعد النهي حتي يتعلق به، وقد يعد باب الظهار من هذا القسم، نظرا إلي أن السبب - وهو التلفظ بألفاظه - من حيث هو لا يكون محرما، وكذا المسبب - وهي المفارقة بين الزوجين والبينونة بينهما - لا يكون مبغوضا أيضا، لتحققها في الطلاق، بل المحرم هو التوصل إلي ذلك من طريق ألفاظ الظهار.
1 - مطارح الأنظار: 163 / السطر 33.
(٢٢٠)
صفحهمفاتيح البحث: الزوج، الزواج (1)، النهي (6)، السب (6)

حول الروايات التي استدل بها لدلالة النهي علي الفساد

ثم إن الوجه الذي ذكرنا في دلالة النهي علي الصحة في هذا القسم يجري في القسم الثاني أيضا، فلا تغفل.
رابعها: أن يكون النهي متعلقا بالآثار المترتبة علي المعاملة، كالنهي عن أكل الثمن فيما إذا كان عن الكلب والخنزير، والنهي في هذا القسم يدل علي الفساد، لكشف تحريم الثمن عن فسادها، إذ لا يكاد يحرم مع صحتها، كما لا يخفي.
ثم إن هذا كله فيما لو علم تعلق النهي بواحد معين من الأقسام الأربعة المتقدمة، وأما لو أحرز كون النهي للتحريم ولكن لم يعلم متعلقه وأنه هل هو من قبيل القسم الأول أو من قبيل سائر الأقسام؟ فالظاهر كونه من قبيل القسم الأخير، لأنه هو المقصود من المعاملة، فالنهي يتوجه إليه، وقد عرفت كشفه عن فسادها.
فتحصل مما ذكرنا: أن النهي المتعلق بالمعاملة من دون قرينة يدل علي فسادها إما لكونه إرشادا إلي فسادها، كما عرفت أنه الظاهر منه، وإما لكونه يدل علي حرمة الآثار، وهي ملازمة للفساد، فتأمل جيدا.
حول الروايات التي استدل بها لدلالة النهي علي الفساد بقي الكلام فيما يستدل به من الأخبار علي دلالة النهي علي الفساد في المعاملات شرعا:
منها: ما رواه في الكافي والفقيه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده، فقال: " ذاك إلي سيده إن شاء أجازه، وإن شاء فرق بينهما ".
قلت: أصلحك الله إن الحكم بن عيينة وإبراهيم النخعي وأصحابهما
(٢٢١)
صفحهمفاتيح البحث: الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام (1)، يوم عرفة (2)، إبراهيم النخعي (1)، الحكم بن عيينة (1)، النهي (8)، الزوج، الزواج (1)
يقولون: إن أصل النكاح فاسد ولا تحل إجازة السيد له.
فقال أبو جعفر (عليه السلام): " انه لم يعص الله، إنما عصي سيده، فإذا أجازه فهو له جائز " (1) حيث إن ظاهره أن النكاح لو كان مما حرمه عليه لكان فاسدا.
وذكر في تقريرات الشيخ في توجيه الاستدلال بالرواية ما حاصله: أنه إنما فرع في الرواية الصحة والفساد علي معصية الله وعدمها، وهو يحتمل وجهين:
الأول: أن تكون المعاملة معصية لله من حيث إنه فعل من أفعال المكلف مع قطع النظر عن كونه معاملة مؤثرة.
الثاني: أن تكون معصية من حيث إنها منهي عنها بما أنها موجبة لترتب الآثار المطلوبة.
لا سبيل إلي الأول، فإن عصيان السيد أيضا عصيان الله، فلابد من المصير إلي الثاني، وهو يفيد المطلوب، فإنه يستفاد من التفريع المذكور أن المعاملة التي فيها معصية الله فاسدة.
وبالجملة، المطلوب في المقام هو أن النهي المتعلق بالسبب بما أنه فعل من الأفعال لا يقتضي الفساد، والنهي عنه بما أنه سبب مؤثر يقتضي الفساد، والرواية متضمنة بل صريحة في حكم كلا الجزءين:
أما الجزء الأول: فيستفاد من قوله: " وإنما عصي سيده " المستلزم لعصيان الله، لا من حيث إنها موجبة للآثار المطلوبة، فإن عصيان الله من جهة عصيان السيد لا يعقل كونه من جهة الترتب.
١ - الكافي ٥: ٤٧٨ / ٣، الفقيه ٣: ٣٥٠ / ١٦٧٥، وسائل الشيعة ٢١: ١١٤، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 24، الحديث 1.
(٢٢٢)
صفحهمفاتيح البحث: الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام (1)، النهي (2)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)
أما الجزء الثاني: فيستفاد من تفريع الصحة والبطلان علي المعصية التي يجب أن تكون مخالفة للمعصية اللازمة من مخالفة السيد، وهو المطلوب (1). انتهي ملخصا.
ولكن لا يخفي أن هذا مخالف لظاهر الرواية من حيث إن ظاهرها أن ما يكون معصية للسيد لا يكون معصية لله، فتفسير معصية السيد بإيجاد نفس السبب من حيث إنه فعل من الأفعال مضافا إلي إمكان الخدشة فيه من حيث إنه لا يعد مثل ذلك معصية مع إرجاع معصية الله إلي المعصية في إيجاد المعاملة المؤثرة خلاف ما هو ظاهرها.
ومن هنا يظهر الخلل فيما أجاب به في الكفاية عن الاستدلال بالرواية من أن الظاهر أن يكون المراد بالمعصية المنفية هاهنا أن النكاح ليس مما لم يمضه الله ولم يشرعه كي يقع فاسدا، ومن المعلوم استتباع المعصية بهذا المعني للفساد، كما لا يخفي.
ولا بأس بإطلاق المعصية علي عمل لم يمضه الله ولم يأذن به، كما اطلق عليه بمجرد عدم إذن السيد أنه معصية (2). انتهي.
والتحقيق في معني الرواية أن يقال: إن المراد بالنكاح ليس هو إيجاد ألفاظه من حيث إنه فعل من الأفعال، بل هو التزويج والتزوج، ومن المعلوم أنه بعنوانه لا يكون معصية لله تعالي، لأنه لم يجعله إلا حلالا ومباحا، وأما من حيث إنه مصداق لعنوان مخالفة السيد، المحرمة، فهو حرام لا بعنوان النكاح، بل بعنوانها.
١ - مطارح الأنظار: ١٦٤ - ١٦٥.
٢ - كفاية الأصول: ٢٢٧.
(٢٢٣)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
وبالجملة فهاهنا عنوانان:
أحدهما: عنوان النكاح.
ثانيهما: عنوان مخالفة السيد.
ومن المعلوم أن ما حرمه الله تعالي علي العبد إنما هو العنوان الثاني لا الأول، فالنكاح ليس معصية لله تعالي أصلا وإن كان من حيث إنه يوجب تحقق عنوان المخالفة معصية للسيد، المستلزمة لمعصية الله، ولا يعقل سراية النهي عن عنوان متعلقه إلي عنوان النكاح أصلا، كما حققناه في مبحث اجتماع الأمر والنهي بما لا مزيد عليه.
ونظير ذلك ما إذا تعلق النذر بإيجاد بعض النوافل مثلا، فإن تعلق النذر به لا يوجب سراية الوجوب إليه حتي يخرج عن النفلية، بل متعلق الوجوب إنما هو عنوان الوفاء بالنذر، ومتعلق الأمر الاستحبابي إنما هو الصلاة النافلة.
ويؤيد بل يدل علي ما ذكرنا في معني الرواية: بعض الروايات الأخر:
مثل ما رواه زرارة أيضا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن رجل تزوج عبده امرأة بغير إذنه فدخل بها ثم اطلع علي ذلك مولاه.
فقال: " ذاك لمولاه إن شاء فرق بينهما، وإن شاء أجاز نكاحهما " إلي أن قال:
فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): فإن أصل النكاح كان عاصيا.
فقال أبو جعفر (عليه السلام): " إنما أتي شيئا حلالا وليس بعاص لله، إنما عصي سيده ولم يعص الله، إن ذلك ليس كإتيان ما حرم الله عليه من نكاح في عدة وأشباهه " (1).
١ - الكافي ٥: ٤٧٨ / ٢، وسائل الشيعة ٢١: ١١٥، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 24، الحديث 2.
(٢٢٤)
صفحهمفاتيح البحث: الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام (2)، النهي (1)، الصّلاة (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)

تذنيب: في دعوي دلالة النهي علي الصحة

فإنه لو كان عاصيا للسيد في أصل النكاح كيف يمكن أن لا يكون عاصيا لله تعالي، كما لا يخفي، فلابد من المصير إلي ما ذكرنا.
ومثل ما رواه منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في مملوك تزوج بغير إذن مولاه، أعاص لله؟
قال: " عاص لمولاه ".
قلت: حرام هو؟
قال: " ما أزعم أ أنه حرام، وقل له أن لا يفعل إلا بإذن مولاه " (1).
فإنه كيف يجمع بين نفي الحرمة ووجوب أن لا يفعل العبد ذلك؟! وليس إلا من جهة أن التزوج بعنوانه ليس بحرام، ولكن يجب تركه من حيث إنه يتحقق به مخالفة السيد.
ثم لا يخفي أن مما ذكرنا يظهر صحة الاستدلال بالرواية، لأن مفادها أن النكاح لو كان بعنوانه مما حرمه الله وكان فعله معصية له تعالي، لكان أصله فاسدا، كما هو المطلوب، فتأمل جيدا.
تذنيب: في دعوي دلالة النهي علي الصحة حكي عن أبي حنيفة والشيباني: دلالة النهي علي الصحة في العبادات والمعاملات، وعن الفخر: الموافقة لهما (2).
وفي الكفاية: أن التحقيق يقتضي المصير إليه في المعاملات فيما إذا كان
١ - الكافي ٥: ٤٧٨ / ٥، وسائل الشيعة ٢١: ١١٣، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 23، الحديث 2.
2 - مطارح الأنظار: 166 / السطر 15.
(٢٢٥)
صفحهمفاتيح البحث: منصور بن حازم (1)، النهي (2)، الزوج، الزواج (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)
النهي عن المسبب أو التسبب، لأنه يشترط في التكليف كون متعلقه مقدورا للمكلف، ولا يكاد يقدر عليهما إلا فيما كانت المعاملة مؤثرة صحيحة، بخلاف ما إذا كان النهي عن السبب، فإنه مقدور وإن لم يكن صحيحا (1).
هذا، ولكن لا يخفي أن هذا في الحقيقة تصديق لقول أبي حنيفة في المعاملات مطلقا، لأن السبب بما هو فعل من أفعال السبب مع قطع النظر عن سببيته لا يكون معاملة، وكلامه إنما هو في النهي عنها، كما لا يخفي.
ثم إنه ذكر بعض المحققين من محشي الكفاية في مقام الجواب عن أبي حنيفة ورد كلامه ما حاصله: أنه إذا كان صحة الشئ لازم وجوده بحيث لا تنفك عنه، فالنهي عنه يكشف عن صحته، إذ المفروض أنه لا وجود له إلا صحيحا، فلابد من كونه مقدورا في ظرف الامتثال، والمفروض أن وجوده يلزم نفوذه، ولكن حيث إن ذات العقد الإنشائي لا يكون ملازما للصحة، فمقدوريته بذاته لا ربط له بمقدوريته من حيث هو مؤثر فعلي، ومن المعلوم أن تعلق النهي به لا يوجب إلا مقدوريته بذاته.
نعم، التحقيق أن إيجاد الملكية حيث إنه متحد مع وجود الملكية بالذات ومختلف معه بحسب الاعتبار، وأمرها دائر بين الوجود والعدم، فلا يتصف بالصحة، لأن وجود الملكية ليس أثرا له حتي يتصف بلحاظه بالصحة، لأن الشئ لا يكون أثرا لنفسه، وأما الأحكام المترتبة علي الملكية فنسبتها إليها نسبة الحكم إلي الموضوع، لا نسبة المسبب إلي السبب ليتصف بلحاظه بالصحة.
فظهر أن النهي عن إيجاد الملكية وإن كان دالا علي مقدوريته، لكنه
١ - كفاية الأصول: ٢٢٨.
(٢٢٦)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (4)، السب (4)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
لا يدل علي صحته، لأن وجودها ليس أثرا له، بل هو نفسه، والنهي عن السبب وإن دل علي مقدوريته، إلا أنه لا يلازم الصحة، فقول أبي حنيفة ساقط علي جميع التقادير (1). انتهي.
وأنت خبير: بأن السبب من حيث هو لا يكون معاملة أصلا، وإنما هو عبارة عن إيجاد الملكية ووجودها وإن لم يكن أثرا له حتي يتصف بلحاظه بالصحة، إلا أن المقصود ليس اتصافه بها حتي يورد عليه بما ذكر، بل الغرض أن النهي حيث يدل علي مقدورية متعلقه، فلا محالة يكون إيجاد الملكية مقدورا له، وهو يوجب صحة المعاملة.
وبالجملة غرضه ليس اتصاف الإيجاد بها، بل اتصاف ما يتصف بها في جميع المعاملات، وذلك يستكشف من مقدورية الإيجاد، فالحق مع أبي حنيفة في دلالة النهي علي الصحة في المعاملات.
وأما العبادات: فإن قلنا بكونها موضوعة للأعم، فلا يخفي أن النهي لا يدل علي الصحة أصلا، لكونها مقدورة مع عدمها، وإن قلنا بكونها موضوعة للصحيح، فكذلك أيضا، نظرا إلي أن المراد بالصحيح في ذلك الباب هو الواجد لجميع الأجزاء والشرائط غير ما يأتي منها من قبل الأمر، كقصد القربة، لما تقدم في مبحث الصحيح والأعم من اتفاق القائلين بكونها موضوعة للصحيح. علي أن المراد به هي الصحة مع قطع النظر عما يأتي من قبل الأمر، ومن المعلوم أنها مقدورة مع فسادها، كما لا يخفي.
وأما الصحيح مع ملاحظة جميع الشرائط حتي الآتي منها من قبل الأمر فلا يمكن تعلق النهي به أصلا، لأنه لا يعقل أن تكون مبغوضة، فلا يبقي مجال في
١ - نهاية الدراية 2: 407 - 408.
(٢٢٧)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (4)، السب (1)

تنبيه: حول استتباع النهي عن الجزء أو الشرط أو الوصف للفساد

دلالة النهي علي الصحة وعدمها، كما لا يخفي.
تنبيه: حول استتباع النهي عن الجزء أو الشرط أو الوصف للفساد قد عرفت في مقدمات المبحث أنه لا فرق في مورد النزاع بين كون متعلق النهي نفس العبادة أو جزءها أو شرطها، لأن الكلام في اقتضاء النهي فساد العبادة مطلقا وعدمه، وأما أن فساد الجزء المنهي عنه يوجب فساد العمل أو لا فهو أمر خارج عن محل البحث، ولكن لا بأس بالتكلم فيه وإن كان غير مرتبط بالمقام.
فنقول: ينبغي أن يجعل البحث في الملازمة بين فساد الجزء مثلا وفساد الكل مع قطع النظر عن الأدلة الواردة في خصوص الصلاة أو مطلقا، الدالة علي سراية فساده إليه، كما أن محل البحث ما إذا أحرز كون النهي المتعلق بالجزء مثلا نهيا تحريميا لا إرشادا إلي مانعيته، فإنه حينئذ لا إشكال في فساد العبادة، كما هو واضح، وحينئذ فنقول:
أما الجزء: فالنهي التحريمي المتعلق به لا يقتضي إلا مبغوضيته بنفسه المانعة من صيرورته جزءا فعليا للعبادة، لعدم صلاحيته لأن يصير جزء المقرب، وأما سراية المبغوضية منه إلي الكل المشتمل عليه، فلا دليل عليها أصلا.
نعم لو اكتفي بذلك الجزء الفاسد يفسد العمل من حيث كونه فاقد البعض أجزائه، وأما مع عدم الاكتفاء به - كما هو المفروض في المقام - فلا وجه لكون تمام العمل مبغوضا وفاسدا، كما هو واضح.
وأما الوصف اللازم: كالجهر والإخفات بالنسبة إلي القراءة علي ما مثل
(٢٢٨)
صفحهمفاتيح البحث: الجهر والإخفات (1)، يوم عرفة (1)، النهي (4)، الصّلاة (1)
بهما في الكفاية (1) وإن كان في المثال نظر، نظرا إلي أن شيئا منهما لا يكون لازما للقراءة ولكن اللازم بمعني عدم إمكان الانفكاك أصلا لا ينبغي أن يكون موردا للبحث، إذ لا يعقل تعلق الأمر بالموصوف، والنهي بوصفه الذي لا يمكن أن ينفك عنه أصلا، فكونهما وصفين لازمين يرجع إلي عدم التميز بينهما وبين موصوفهما في الخارج أصلا، ولكن هذا المقدار لا يصحح التعبير بكونه لازما، كما لا يخفي.
اللهم إلا أن يقال: إن اللزوم باعتبار كونه مأخوذا في الموصوف بمعني أن الجهر لازم للقراءة التي يجهر بها، لا لمطلق القراءة، ولكن هذا المعني يجري في كل وصف بالنسبة إلي موصوفه، ولا اختصاص له بهما.
وكيف كان فالنهي إذا تعلق بالجهر في القراءة لا بالقراءة التي يجهر بها، فإنه خارج عن موضوع المقام، ودخوله في مبحث اجتماع الأمر والنهي مبني علي شمول النزاع فيه للمطلق والمقيد، ونحن وإن نفينا البعد عنه في مقدمات ذلك المبحث إلا أنه ينبغي الحكم بخروجه عنه، للزوم اجتماع الحكمين علي متعلق واحد، لأن الطبيعة اللا بشرط لا يأبي من الاجتماع معها بشرط شئ، فيلزم الاجتماع في المقيد، فلا يوجب فساد العمل أصلا، لأن متعلق الأمر هو القراءة، ومتعلق النهي هو الإجهار بها، وهما عنوانان مختلفان وإن كانا في الخارج شيئا واحدا، إلا أن مورد تعلق الأحكام هي العناوين والطبائع، كما حققناه سابقا بما لا مزيد عليه.
وقد عرفت أيضا أنه لا بأس بأن يكون شئ واحد مقربا من جهة ومبعدا من جهة أخري، فلا مانع من أن تكون القراءة مقربة والإجهار بها مبعدا.
مضافا إلي أن المقرب إنما هي الصلاة، لا خصوص أجزائها، كما لا يخفي.
١ - كفاية الأصول: ٢٢٢.
(٢٢٩)
صفحهمفاتيح البحث: الجهر والإخفات (2)، يوم عرفة (1)، النهي (3)، الصّلاة (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
وتعلق النهي بالإجهار في القراءة تغاير تعلقه بالقراءة التي يجهر بها، والثاني خارج عن مورد النزاع، لأنه في تعلق النهي بالوصف لا بالموصوف.
ومما ذكرنا يظهر الكلام في النهي عن الوصف المفارق.
وأما الشرط: فإن كان أمرا عباديا، فالنهي عنه يوجب فساده، وإن كان أمرا غير عبادي، فليس الإتيان به إلا ارتكاب المحرم، وعلي التقديرين لا يضر بصحة العمل أصلا، لأن المفروض أن متعلق النهي هو القسم الخاص من الشرط، كالنهي عن التستر بالحرير مثلا بناء علي أن يكون النهي للتحريم، فإن التستر به وإن كان يوجب مخالفة النهي إلا أن شرط الصلاة - وهو الستر - متحقق، وعدم اختلافهما في الخارج لا يضر أصلا، لأن متعلق الأحكام هي الطبائع، والشئ الواحد يمكن أن يكون مقربا ومبعدا من جهتين، كما عرفت.
نعم، لو كان الشرط من الأمور العبادية واقتصر عليه المكلف في مقام الامتثال، تكون العبادة فاسدة من جهة بطلان الشرط، وهذا غير سراية الفساد إليه، كما هو واضح.
فتحصل أن النهي عن الجزء أو الشرط أو الوصف اللازم أو المفارق لا يوجب فساد العبادة من حيث هو، كما عرفت.
هذا تمام الكلام في مبحث النواهي.
(٢٣٠)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الباطل، الإبطال (1)، النهي (7)، الصّلاة (1)
المقصد الثالث في المفاهيم
صفحه(٢٣١)

المقصد الثالث: في المفاهيم مقدمة

مقدمة مقدمة في تعريف المفهوم اعلم أن المفهوم عندهم عبارة عن القضية الخبرية أو الإنشائية المستفادة من قضية أخري، والاختلاف بينهم إنما هو في منشأ الاستفادة، فالمنسوب إلي القدماء أن وجه استفادته أن القيود الواقعة في الكلام، الصادرة من المتكلم المختار إنما هو لكونها دخيلا في ثبوت الحكم، وإلا يلزم أن يكون لغوا (1)، وسيأتي التعرض له علي التفصيل.
والمعروف بين محققي المتأخرين أن وجه استفادة المفهوم هو كون أدوات الشرط دالة علي العلية المنحصرة إما بالوضع أو بقرينة عامة (2)، وعليه يكون المفهوم من المدلولات الالتزامية للقضايا التي لها مفهوم، فكما أن المفردات لها مدلولات التزامية، وهي المعاني التي ينتقل إليها النفس بمجرد تصور معاني تلك
١ - الحاشية علي كفاية الأصول، البروجردي ١: ٤٣٨، نهاية الأصول: ٢٩١.
٢ - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي ١: ٤٧٦ - ٤٧٨، الحاشية علي كفاية الأصول، البروجردي 1: 436.
(٢٣٣)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (2)

في تعريف المفهوم

مقدمة مقدمة في تعريف المفهوم اعلم أن المفهوم عندهم عبارة عن القضية الخبرية أو الإنشائية المستفادة من قضية أخري، والاختلاف بينهم إنما هو في منشأ الاستفادة، فالمنسوب إلي القدماء أن وجه استفادته أن القيود الواقعة في الكلام، الصادرة من المتكلم المختار إنما هو لكونها دخيلا في ثبوت الحكم، وإلا يلزم أن يكون لغوا (1)، وسيأتي التعرض له علي التفصيل.
والمعروف بين محققي المتأخرين أن وجه استفادة المفهوم هو كون أدوات الشرط دالة علي العلية المنحصرة إما بالوضع أو بقرينة عامة (2)، وعليه يكون المفهوم من المدلولات الالتزامية للقضايا التي لها مفهوم، فكما أن المفردات لها مدلولات التزامية، وهي المعاني التي ينتقل إليها النفس بمجرد تصور معاني تلك
١ - الحاشية علي كفاية الأصول، البروجردي ١: ٤٣٨، نهاية الأصول: ٢٩١.
٢ - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي ١: ٤٧٦ - ٤٧٨، الحاشية علي كفاية الأصول، البروجردي 1: 436.
(٢٣٣)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (2)
المفردات، فكذلك للقضايا مدلولات التزامية ينتقل إليها الذهن بمجرد تصور معانيها المطابقية.
وعلي الأول لا يكون وصف المفهومية وصفا للمدلول أو الدلالة، لعدم استفادته من اللفظ أصلا، بل إنما هو حكم العقل بأن المتكلم العاقل المختار إذا تكلم بكلام وأخذ فيه قيودا لا يكون أخذه لها لغوا، بل لكونها دخيلا في ترتب الحكم.
وأما علي الثاني فيصير نظير وصف الالتزامية والتضمنية والمطابقية في مداليل المفردات بمعني أنه يمكن أن يتصف بها المدلول، ويمكن أن يتصف بها الدلالة، كما يمكن أن يتصف بها الدال، لأنه كما تكون الدلالة بالمطابقة كذلك يكون المعني مطابقا - بالفتح - واللفظ مطابقا - بالكسر - وهكذا في الالتزام والتضمن.
وفي المقام نقول: إن وصف المفهومية يمكن أن يكون وصفا لتلك القضية المستتبعة، ويمكن أن يكون وصفا للدلالة باعتبار أن الدلالة علي تلك القضية دلالة مستفادة من الدلالة علي القضية المنطوقية، وبهذا الاعتبار يمكن أن يتصف بها الدال، كما لا يخفي.
ثم إن النزاع علي قول المتأخرين إنما يكون في الصغري، إذ الكلام إنما هو في دلالة أدوات الشرط مثلا علي العلية المنحصرة المستتبعة للقضية الأخري قهرا، وأما علي فرض تسليم الدلالة فلا إشكال في حجية تلك القضية، كما هو واضح.
وأما علي قول القدماء فقد يقال بأن النزاع بناء عليه إنما يكون في الكبري، نظرا إلي أن لزوم حمل القيود علي معني حذرا من اللغوية يقتضي ثبوت المفهوم،
صفحه(٢٣٤)
ولكن الكلام في حجيته، ولا يخفي أن ذلك المعني الذي يجب الحمل عليه حذرا منها لا ينحصر بالمفهوم، فالنزاع في وجوب الحمل علي خصوصه وعدمه، وأما علي فرض الحمل عليه فلا إشكال في حجيته أصلا، كما هو واضح، فالنزاع بناء علي كلا القولين صغروي لا كبروي، فتأمل جيدا.
إذا عرفت ذلك، فالكلام يقع في مقامين:
(٢٣٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الوجوب (1)

يقع الكلام في مقامين: المقام الأول: في دلالة القضية الشرطية علي المفهوم وعدمها

مفهوم الشرط المقام الأول في دلالة القضية الشرطية علي المفهوم وعدمها وطريق إثباتها وجهان:
الوجه الأول: ما هو المنسوب إلي القدماء وهو لا يختص بالشرط، بل يجري في جميع القيود المأخوذة في الكلام شرطا كانت أو وصفا أو غيرهما.
وغاية تقريبه: أن يقال: إن الكلام الصادر من المتكلم العاقل المختار من حيث إنه فعل من الأفعال الاختيارية له يحكم العقل بأنه لم يصدر منه لغوا، نظير سائر أفعاله، وكذلك يحكم بأن صدوره إنما هو لغرض التفهيم لا للأغراض الاخر التي قد يترتب علي التكلم، وذلك لأنها أغراض نادرة لا تقاوم غرض التفهيم الذي وضع الألفاظ إنما هو لأجل سهولته، كما لا يخفي.
وحينئذ فكما أن العقل يحكم بأن أصل الكلام الصادر من المتكلم لم يصدر منه لغوا بل صدر لغرض الإفهام كذلك يحكم بأن القيود التي يأخذها في موضوع كلامه لم يأخذها جزافا ومن غير أثر مترتب عليه، بل لأنها لها دخل في موضوع
صفحه(٢٣٦)

الوجه الأول: ما هو المنسوب إلي القدماء

مفهوم الشرط المقام الأول في دلالة القضية الشرطية علي المفهوم وعدمها وطريق إثباتها وجهان:
الوجه الأول: ما هو المنسوب إلي القدماء وهو لا يختص بالشرط، بل يجري في جميع القيود المأخوذة في الكلام شرطا كانت أو وصفا أو غيرهما.
وغاية تقريبه: أن يقال: إن الكلام الصادر من المتكلم العاقل المختار من حيث إنه فعل من الأفعال الاختيارية له يحكم العقل بأنه لم يصدر منه لغوا، نظير سائر أفعاله، وكذلك يحكم بأن صدوره إنما هو لغرض التفهيم لا للأغراض الاخر التي قد يترتب علي التكلم، وذلك لأنها أغراض نادرة لا تقاوم غرض التفهيم الذي وضع الألفاظ إنما هو لأجل سهولته، كما لا يخفي.
وحينئذ فكما أن العقل يحكم بأن أصل الكلام الصادر من المتكلم لم يصدر منه لغوا بل صدر لغرض الإفهام كذلك يحكم بأن القيود التي يأخذها في موضوع كلامه لم يأخذها جزافا ومن غير أثر مترتب عليه، بل لأنها لها دخل في موضوع
صفحه(٢٣٦)
الحكم، فمن ذكر تلك القيود يستكشف أن الموضوع لحكمه المجعول أو المخبر به إنما هو ذات الموضوع مقيدا بها لا معري عنها، ومن عدم ذكر قيد آخر يستكشف عدم مدخلية شئ آخر أصلا، بل المذكور هو تمام الموضوع، ومن المعلوم أن الحكم يدور مدار موضوعه، فبوجوده يوجد، وبعدمه ينعدم.
هذا، ولكن لا يخفي أن مجرد إثبات كون المذكور تمام الموضوع لحكمه المجعول إنما يفيد دوران ذلك الحكم مداره وجود أو عدما، وهو لا يثبت المفهوم، لأنه عبارة عن انتفاء سنخ ذلك الحكم عند انتفاء موضوعه بمعني أن المولي لم يجعل مثل هذا الحكم علي موضوع آخر مغاير لهذا الموضوع من حيث القيود، فمعني كون بلوغ الماء قدر الكر تمام الموضوع لعدم التنجس هو أن تحقق ذلك الحكم لا يتوقف علي شئ آخر ما عدا ذلك، وأما أن كونه موضوعا منحصر العدم التنجس بمعني أنه لم يجعل مثل ذلك الحكم علي موضوع آخر - كالجاري وماء المطر - فلا يستفاد أصلا حتي يقع التعارض بين دليل الكر وأدلة عاصمية الجاري وماء المطر.
وبالجملة، فهنا شكان: أحدهما: الشك في كون الموضوع المذكور هو تمام الموضوع لحكمه المجعول، والآخر الشك في كونه موضوعا منحصر المثل ذلك الحكم بحيث لا يقوم مقامه شئ آخر، ولا ينوب منابه أمر، وغاية الدليل المذكور إنما هو رفع الشك الأول، وإثبات تمامية الموضوع المذكور للموضوعية للحكم المجعول، وما يجدي في إثبات المفهوم هو رفع الشك الثاني، ولا يرفع بذلك الدليل، كما هو واضح.
ولعله إلي هذا المعني ينظر كلام السيد في باب المفهوم (1) فراجع.
1 - انظر مناهج الوصول 2: 179، الذريعة إلي أصول الشريعة 1: 406.
(٢٣٧)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (1)

الوجه الثاني: ما هو المعروف بين المتأخرين

الوجه الثاني: ما هو المعروف بين المتأخرين وقد استدل لإثباتها بوجوه:
الأول: دعوي تبادر العلية المنحصرة من كلمة " إن " وأخواتها، ولا يخفي أن إثبات ذلك موقوف علي إثبات دلالة القضية الشرطية علي الارتباط بين الشرط والجزاء، ثم كون ذلك الارتباط بنحو اللزوم، ثم كون اللزوم بنحو الترتب، أي ترتب الجزاء علي الشرط لا العكس، ولا مجرد الملازمة من دون ترتب، كما في المعلولين لعلة واحدة، ثم كون الترتب بنحو ترتب المعلوم علي علته، ثم كون تلك العلة علة مستقلة، ثم كونها مع الاستقلال منحصرة، ومن الواضح أن إثبات جميع هذه الأمور في غاية الإشكال، بل نقول: إن المقدار الذي يصحح استعمال كلمة الشرطية هو مجرد الارتباط بين الشرط والجزاء ولو لم يكن ذلك بنحو اللزوم.
ألا تري أنه يصح أن يقال: إذا جاء زيد فمعه عمرو، فيما لو كان مصاحبا له نوعا من دون رعاية علاقة أصلا، كما أنه يستعمل كثيرا في موارد اللزوم وفي المراتب التي بعده.
وكيف كان فالإنصاف أن دعوي ذلك خلاف الوجدان.
الثاني: الانصراف، ومما ذكرنا في التبادر يظهر أن دعواه أيضا مما لا دليل علي إثباته.
الثالث: التمسك بإطلاق كلمة " إن " وأخواتها الموضوعة للزوم بتقريب أن مقدمات الحكمة تقتضي الحمل علي الفرد الذي لا يحتاج إلي مؤونة التقييد، وهو هنا اللزوم بنحو العلية المنحصرة، كما أن قضية إطلاق صيغة الأمر هو الوجوب النفسي.
صفحه(٢٣٨)
ولكن لا يخفي أنه لا يكون الحكم في المقيس عليه مسلما، وقد ذكرنا ذلك في مبحث الأوامر.
وحاصله: أن انقسام الطبيعة بالأقسام إنما يتحقق مع إضافة القيود إليه، سواء كانت وجودية أو عدمية، فبإضافة كل قيد يتحقق قسم من الطبيعة، ولا يعقل أن يكون بعض الأقسام عين المقسم، إذ كونه قسما يساوق عدم اجتماعه مع القسم الآخر أو الأقسام الأخر، وكونه عين المقسم يساوق اتحاده معها، لأن الطبيعة اللابشرط يجتمع مع ألف شرط، ولا يعقل اجتماع الوصفين المتناقضين عليه، كما هو واضح.
وحينئذ نقول: إن معني الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة هو كون المقصود هي الطبيعة اللابشرط، ولو فرض عدم إمكان كونها مقصودة بل كان الغرض متعلقا ببعض أقسامها، فالحمل علي بعض الأقسام دون البعض الآخر مع كونها في عرض واحد ترجيح من دون مرجح.
نعم، لو كان بعض الأقسام أقل مؤونة من الآخر، لوجب الحمل عليه، ولكنه لا يكون في أمثال المقام كذلك، ضرورة أن أقسام اللزوم في عرض واحد ولا يعقل أن يكون بعضها عين المقسم، فتأمل جيدا.
الرابع: التمسك بإطلاق الشرط بتقريب أنه لو لم يكن بمنحصر، يلزم تقييده، ضرورة أنه لو قارنه أو سبقه الآخر، لما أثر وحده، ومقتضي إطلاقها أنه يؤثر كذلك مطلقا.
وذكر في الكفاية أنه لا يكاد ينكر الدلالة علي المفهوم مع إطلاقه كذلك إلا أنه من المعلوم ندرة تحققه لو لم نقل بعدم اتفاقه (1). انتهي.
١ - كفاية الأصول: ٢٣٣.
(٢٣٩)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

ينبغي التنبيه علي أمور: الأمر الأول: في حقيقة المفهوم

ولكن يظهر جوابه مما تقدم في جواب إثبات المفهوم من الطريق المنسوب إلي القدماء.
وحاصله: أن مقتضي الإطلاق هو كون الموضوع المذكور تاما من حيث الموضوعية لحكمه المجعول بمعني أنه لا مدخلية لشئ آخر أصلا، وهذا لا يدل علي المفهوم، لأنه لابد في إثباته من كون الموضوع المذكور منحصرا في الموضوعية، ومجرد تماميته لا يثبت الانحصار، كما هو واضح.
الخامس: التمسك بإطلاق الشرط بتقريب آخر، وهو أن مقتضي إطلاق الشرط: تعينه، كما أن مقتضي إطلاق الأمر: تعين الوجوب.
ويظهر جوابه مما تقدم في الجواب عن الوجه الثالث.
وحاصله: أنا لا نسلم ثبوت الحكم في المقيس عليه، لأنه لا يعقل أن يكون الوجوب التعييني عين طبيعة الوجوب، التي هي مقسم لها وللوجوب التخييري، بل كل واحد منهما لا محالة يشتمل علي قيد وجودي أو عدمي زائد علي أصل الطبيعة، والإطلاق لا يثبت شيئا منهما.
نعم، قد ذكرنا في مبحث الأوامر أن للمولي الاحتجاج علي العبد لو اعتذر باحتمال كونه تخييريا، لأن البعث الصادر منه لابد له من الجواب بإتيان متعلقه، ولكن هذا لا يثبت التعينية، كما تقدم.
السادس: التمسك بإطلاق الجزاء.
وينبغي التنبيه علي أمور:
الأمر الأول: في حقيقة المفهوم إن المراد من المفهوم إنما هو انتفاء سنخ الحكم ونوعه عند انتفاء الشرط، لا انتفاء شخصه المجعول مترتبا علي وجود الشرط، فإنه ينتفي بانتفاء الشرط عقلا.
(٢٤٠)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (1)
وربما توهم: أنه كيف يكون المناط في المفهوم هو السنخ مع أن الشرط في القضية الشرطية إنما وقع شرطا للحكم المجعول بإنشائه دون غيره، وهو حكم شخصي ينتفي بانتفاء الشرط عقلا (1)؟!
وأجاب عنه في الكفاية بما حاصله: أن وضع الهيئات والموضوع له فيها عام كالحروف، فان لمعلق علي الشرط إنما هو الوجوب الكلي، والخصوصية ناشئة من قبل الاستعمال (2).
ولكن قد حقق فيما تقدم أن الموضوع له في باب الحروف خاص لا عام.
والحق في الجواب أن يقال: إن المستفاد من القضايا الشرطية هو الارتباط والمناسبة بين الشرط والجزاء الذي هو عبارة عن متعلق الحكم لا نفسه.
وبعبارة أخري: ظاهر القضية الشرطية هو اقتضاء المجئ في قولك إن جاءك زيد فأكرمه، لنفس الإكرام، لا وجوبه، إذ تعلق الوجوب به إنما يتأخر عن تلك الاقتضاء وشدة المناسبة المتحققة بينهما، كما يظهر بمراجعة الاستعمالات العرفية، فإن أمر المولي عبده بإكرام ضيفه عند مجيئه إنما هو لاقتضاء مجئ الضيف إكرامه، فالارتباط إنما هو بين الشرط ومتعلق الجزاء، وظاهر القضية الشرطية وإن كان ترتب نفس الحكم علي الشرط إلا أن تعلق الحكم به إنما هو للتوصل إلي المتعلق بعد حصول الشرط، لشدة الارتباط بينهما، وحينئذ فالقائل بالمفهوم يدعي انحصار مناسبة الإكرام مع المجئ بحيث لا ينوب منابه شئ، ولا ارتباط بينه وبين شئ آخر، فإذا انتفي المجئ، فلا يبقي وجه لوجوب الإكرام بعد عدم اقتضاء غير المجئ إياه، فالمعلق علي
١ - مطارح الأنظار: ١٧٣ / السطر ١٥ - ١٦.
٢ - كفاية الأصول: ٢٣٧.
(٢٤١)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

الأمر الثاني: في تعدد الشرط واتحاد الجزاء

الشرط في ظاهر القضية الشرطية وإن كان مفاد الهيئة التي هي جزئية ووجوب شخصي يرتفع بارتفاع الشرط عقلا إلا أن مفادها بنظر العرف هو تعليق الإكرام الذي هو أمر كلي علي المجئ، فلا يبقي مع انتفائه وجه لوجوبه.
الأمر الثاني: في تعدد الشرط واتحاد الجزاء إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء كما في قوله: إذا خفي الأذان فقصر وإذا خفي الجدران فقصر فبناء علي عدم ثبوت المفهوم - كما هو الحق، وقد تقدم - لا تعارض ولا تنافي بين القضيتين، وأما بناء علي المفهوم، فيقع التعارض بينهما، لأن مفهوم الأول عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان، سواء خفي الجدران أو لم يخف، ومفهوم الثاني عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الجدران، سواء خفي الأذان أو لم يخف، فهل اللازم تخصيص مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر، أو أنه لا مفهوم لواحد منهما في هذه الصورة، أو كون الشرط لوجوب القصر هو مجموع الشرطين، أو كونه الجامع بينهما؟ وجوه.
ولابد أولا من بيان أن التعارض هل هو بين المنطوقين ويسري منهما إلي المفهومين أو بين المفهومين فقط؟
فنقول: الظاهر هو الأول، وذلك لأنه إن كان الوجه في ثبوت المفهوم هو كون كلمة " إن " وأخواتها موضوعة للعلية المنحصرة، فكل واحد من القضيتين تدل علي العلية المنحصرة، فهما بمنزلة قوله: العلة المنحصرة لوجوب القصر هو خفاء الأذان، والعلة المنحصرة له هو خفاء الجدران، ومن المعلوم ثبوت التعارض بين نفس هاتين القضيتين، لاستحالة كون شيئين علتين منحصرتين لشئ واحد، وكذا لو كان الوجه في ثبوت المفهوم هو الانصراف، وأما لو كان الوجه فيه هو الإطلاق بأحد الوجوه المتقدمة، فالظاهر أيضا التعارض بين
(٢٤٢)
صفحهمفاتيح البحث: الأكل (1)، الأذان (4)، الوجوب (2)
المنطوقين، لعدم إمكان الأخذ بكلا الإطلاقين.
إذا عرفت ذلك: فاعلم أنه لو قيل بالمفهوم من جهة وضع " إن " وأخواتها للعلية المنحصرة، فالتعارض يقع بين أصالتي الحقيقة الجاريتين في كلتا القضيتين، ومع عدم المرجح - كما هو المفروض - تسقطان معا، فاللازم هو القول بعدم ثبوت المفهوم في أمثال المقام.
وكذا لو كان الوجه هو الانصراف فإن الأخذ بمقتضي الانصرافين ممتنع، ولا ترجيح لأحدهما علي الآخر، فلا يجوز الأخذ بشئ منهما.
وأما لو كان الوجه هو الإطلاق بأحد الوجوه السابقة، فيقع التعارض بين أصالتي الإطلاق الجاريتين في كلتا القضيتين، ومع عدم الترجيح لأحدهما علي الآخر تسقطان معا، ويزول الانحصار من كلا الشرطين، ويبقي كون كل واحد منهما علة تامة مستقلة لتحقق الجزاء.
هذا لو قيل باستفادة خصوص الانحصار من الإطلاق، فإنه مع عدم حجيته لوجود المعارض لا يضر ببقاء الشرط علي عليته التامة، وأما لو قلنا بأن مفاد الإطلاق هو مجموع العلية التامة المنحصرة بمعني أنه كما يستفاد الانحصار من الإطلاق كذلك يستفاد منه التمامية أيضا، وحينئذ فمع التعارض نعلم إجمالا إما بزوال الانحصار من كل واحد من الشرطين وإما بزوال التمامية المستتبع لزوال الانحصار.
وبعبارة أخري: نعلم إجمالا بورود القيد في كل من القضيتين: إما علي الإطلاق المثبت للانحصار، وإما علي الإطلاق المنتج للتمامية، ومع هذا العلم الإجمالي يسقط الإطلاقان الجاريان في كل من القضيتين عن الحجية والعلم تفصيلا بعدم الانحصار علي أي تقدير، لأنه إن ورد القيد علي الإطلاق المثبت له فواضح، وإن ورد علي الإطلاق المفيد للتمامية، فلم يبق موضوعه أصلا، كما
(٢٤٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الجواز (1)

الأمر الثالث: في تداخل الأسباب والمسببات

هو واضح لا يجدي في انحلال العلم الإجمالي إلي العلم التفصيلي والشك البدوي حتي يسلم الإطلاقان المثبتان للتمامية عن التعارض والتساقط.
وذلك لأن الانحلال يتوقف علي العلم التفصيلي بورود القيد علي خصوص الإطلاق المفيد للانحصار لا علي العلم التفصيلي بعدم الانحصار، وعدم كونه مرادا قطعا، والموجود في المقام هو الثاني لا الأول، كما هو واضح.
ثم إنه هل تسقط كلتا القضيتين عن الدلالة علي المفهوم رأسا بحيث لا ينافيهما مدخلية شئ آخر في تحقق الجزاء، أو أن سقوطهما عن ذلك إنما هو بالنسبة إلي الشرط المذكور فيهما؟ وجهان.
والحق: التفصيل بين ما لو كان الوجه في ثبوت المفهوم هو وضع كلمة " إن " وأخواتها للدلالة علي العلية المنحصرة أو الانصراف وبين ما لو كان استفادتها من الإطلاق، فعلي الأول تسقطان عن الدلالة علي المفهوم رأسا، لأن التعارض بين أصالتي الحقيقة أو الانصرافين في كل منهما يوجب تساقطهما، فمن أين يدل علي نفي مدخلية شئ آخر أو نفي بديل آخر، وعلي الثاني فلا، لأن رفع اليد عن أصالة الإطلاق بالنسبة إلي خصوص قيد لا يوجب رفع اليد عنها بالنسبة إلي قيد آخر شك في قيديته.
ألا تري أن رفع اليد عن إطلاق الرقبة في قوله: أعتق رقبة، بسبب الدليل علي التقييد بالمؤمنة - مثل قوله: لا تعتق رقبة كافرة - لا يوجب رفع اليد عن إطلاقها بالنسبة إلي القيود الأخري المشكوكة، مثل العدالة وغيرها من القيود.
الأمر الثالث: في تداخل الأسباب والمسببات لو تعدد الشرط واتحد الجزاء، فهل القاعدة تقتضي التداخل مطلقا، أو عدمه كذلك، أو يفصل بين ما إذا اتحد الجنس فالأول وما إذا تعدد فالثاني؟
(٢٤٤)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (1)، العتق (1)
وليقدم أمور:
الأول: أن النزاع في هذا الباب مبني علي إحراز كون الشرطين مثلا علتين مستقلتين بمعني أن كل واحد منهما يؤثر في حصول المشروط مستقلا من غير مدخلية شئ آخر، وأما بناء علي كون الشرط هو مجموع الشرطين فلا مجال للنزاع في التداخل وعدمه، إذ لا يؤثر الشرطان إلا في شئ واحد، كما هو واضح.
فالبحث في المقام إنما يجري بناء علي غير الوجه الثالث من الوجوه الأربعة المتقدمة في الأمر السابق.
الثاني: أن مورد البحث ما إذا كان متعلق الجزاء طبيعة قابلة للتكثر والتعدد، مثل الوضوء والغسل وأشباههما، وأما إذا لم تكن قابلة للتعدد، كقتل زيد مثلا، فهو خارج عن محل النزاع، لاستحالة عدم التداخل، فمثل قوله: إن ارتد زيد فاقتله، وإن قتل مؤمنا فاقتله، خارج عن المقام.
الثالث: أن التداخل قد يكون في الأسباب، وقد يكون في المسببات، والمراد بتداخل الأسباب - الذي هو مورد النزاع في المقام - هو تأثيرها مع كون كل واحد منها مستقلا لو انفرد عن صاحبه في مسبب واحد في حال الاجتماع، والمراد بتداخل المسببات هو الاكتفاء في مقام الامتثال بإتيان الطبيعة المتعلقة للحكم مرة بعد الفراغ عن عدم تداخل الأسباب وتأثيرها في المسببات الكثيرة حسب كثرتها، وربما مثلوا له بمثل: قوله: أكرم هاشميا، وأضف عالما (1)، حيث إنه لا إشكال في تحقق الامتثال إذا أكرم العالم الهاشمي بالضيافة.
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 497.
(٢٤٥)
صفحهمفاتيح البحث: الكرم، الكرامة (2)، القتل (1)، الغسل (1)، الوضوء (1)
ولكن لا يخفي ما فيه من النظر، فإن الظاهر أن المراد به - كما يظهر من تذييل مبحث تداخل الأسباب به - هو ما إذا كان التكليفان متعلقين بعنوان واحد لا بعنوانين، كما لا يخفي.
الرابع: أن مورد النزاع هو ما تقتضيه القواعد اللفظية بعد الفراغ عن إمكان التداخل وعدمه.
وحكي عن بعض الأعاظم المعاصرين: استحالة عدم التداخل، نظرا إلي أنه يمكن تعقل تعلق أمر واحد بإيجاد الطبيعة مرتين من غير تعليق علي شئ، كما إذا قال: توضأ وضوئين وكذا فيما إذا جمع السببين وأمر بإيجادهما مرتين كما إذا قال: إن بلت ونمت فتوضأ وضوئين، وكذا يجوز تعلق أمرين بطبيعة واحدة فيما إذا كان السبب الثاني مترتبا علي الأول دائما، وأما مع عدم الترتب بينهما - كما هو المفروض في المقام - فلا نتعقل تعلق أمرين بطبيعة واحدة، إذ لا يمكن تقييد الثاني بمثل كلمة الآخر ونحوه، لإمكان حصول السبب الثاني قبل الأول.
ومنه يظهر أنه لا يمكن تقييد كل منهما بمثلها، كما هو واضح (1).
هذا، ولكن لا يخفي: أن منشأ الاستحالة لو كان مجرد عدم صحة التقييد بمثل كلمة الآخر، فالجواب عنه واضح، لعدم انحصار التقييد بمثله، وذلك لإمكان أن يقيد كل واحد منهما بالسبب الموجب لتعلق التكليف بالطبيعة، وذلك بأن يقال: إن بلت فتوضأ وضوءا من قبل البول، وإن نمت فتوضأ وضوء امن قبل النوم.
١ - الحاشية علي كفاية الأصول، البروجردي 1: 449 - 453، نهاية الأصول: 305 - 309.
(٢٤٦)
صفحهمفاتيح البحث: البول (1)، السب (2)، الجواز (1)، الوضوء (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

حول مقتضي القواعد اللفظية

حول مقتضي القواعد اللفظية إذا عرفت ما ذكرنا، فاعلم أنه قد نسب إلي المشهور القول بعدم التداخل (1).
وقد استدل لهم بوجوه أقواها ما حكي عن العلامة في المختلف من أنه إذا تعاقب السببان أو اقترنا فإما أن يقتضيا مسببين مستقلين أو مسببا واحدا أو لا يقتضيا شيئا أو يقتضي أحدهما شيئا دون الآخر، والثلاثة الأخيرة فباطلة، فتعين الأولي، وهو المطلوب.
أما الملازمة: فواضح.
وأما بطلان الثاني: فلأن النزاع إنما هو مبني علي خلافه.
وأما الثالث: فلأنه خلاف ما فرض من سببية كل واحد منهما.
وأما الرابع: فلأن استناده إلي الواحد المعين يوجب الترجيح من غير مرجح، وإلي غير المعين يوجب الخلف، لأن المفروض سببية كل واحد (2).
فيما أفاده الشيخ الأعظم في هذا المقام وفي تقريرات الشيخ أن محصل هذا الوجه ينحل إلي مقدمات ثلاث:
أحدها: دعوي تأثير السبب الثاني.
ثانيها: أن أثره غير الأثر الأول.
ثالثها: أن تعدد الأثر يوجب تعدد الفعل، والقائل بالتداخل لابد له من منع
١ - كفاية الأصول: ٢٣٩.
٢ - مختلف الشيعة ٢: ٤٢٣ - 424، نهاية الأصول: 305.
(٢٤٧)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الباطل، الإبطال (1)، المنع (1)، السب (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

فيما أفاده الشيخ الأعظم في هذا المقام

حول مقتضي القواعد اللفظية إذا عرفت ما ذكرنا، فاعلم أنه قد نسب إلي المشهور القول بعدم التداخل (1).
وقد استدل لهم بوجوه أقواها ما حكي عن العلامة في المختلف من أنه إذا تعاقب السببان أو اقترنا فإما أن يقتضيا مسببين مستقلين أو مسببا واحدا أو لا يقتضيا شيئا أو يقتضي أحدهما شيئا دون الآخر، والثلاثة الأخيرة فباطلة، فتعين الأولي، وهو المطلوب.
أما الملازمة: فواضح.
وأما بطلان الثاني: فلأن النزاع إنما هو مبني علي خلافه.
وأما الثالث: فلأنه خلاف ما فرض من سببية كل واحد منهما.
وأما الرابع: فلأن استناده إلي الواحد المعين يوجب الترجيح من غير مرجح، وإلي غير المعين يوجب الخلف، لأن المفروض سببية كل واحد (2).
فيما أفاده الشيخ الأعظم في هذا المقام وفي تقريرات الشيخ أن محصل هذا الوجه ينحل إلي مقدمات ثلاث:
أحدها: دعوي تأثير السبب الثاني.
ثانيها: أن أثره غير الأثر الأول.
ثالثها: أن تعدد الأثر يوجب تعدد الفعل، والقائل بالتداخل لابد له من منع
١ - كفاية الأصول: ٢٣٩.
٢ - مختلف الشيعة ٢: ٤٢٣ - 424، نهاية الأصول: 305.
(٢٤٧)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الباطل، الإبطال (1)، المنع (1)، السب (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
إحدي المقدمات علي سبيل منع الخلو، وقد فصل في إثبات تلك المقدمات ودفع ما اورد عليها (1).
أما المقدمة الأولي: فقد ذكر في إثباتها كلاما طويلا أخذ كل من المتأخرين عنه شيئا منه، وجعله دليلا مستقلا علي القول بعدم التداخل.
فمنهم: المحقق الهمداني في المصباح، حيث قال فيه ما ملخصه: إن مقتضي إطلاق الجزاء وإن كان كفاية ما يصدق عليه الطبيعة من غير تقييد بالفرد المأتي به أولا إلا أن ظهور القضية الشرطية في السببية المستقلة مقدم عليه، لأن الظهور في الأول إطلاقي يتوقف علي مقدماته التي منها عدم البيان، ومن المعلوم أن إطلاق السبب منضما إلي حكم العقل بأن تعدد المؤثر يستلزم تعدد الأثر يكون بيانا للجزاء، ومعه لا مجال للتمسك بإطلاقه، وليس المقام من قبيل تحكيم أحد الظاهرين علي الآخر حتي يطالب بالدليل، بل لأن وجوب الجزاء بالسبب الثاني يتوقف علي إطلاق سببيته، ومعه يمتنع إطلاق الجزاء بحكم العقل، فوجوبه ملزوم لعدم إطلاقه.
نعم التمسك بالإطلاق إنما يحسن في الأوامر الابتدائية المتعلقة بطبيعة واحدة لا في ذوات الأسباب، فإن مقتضي إطلاق الجميع كون ما عدا الأول تأكيدا له، واحتمال التأسيس ينفيه أصالة الإطلاق (2). انتهي.
وإليه يرجع ما ذكره في الكفاية وجها للقول بعدم التداخل (3).
ومنهم: المحقق النائيني، فإنه ذكر في تقريراته ما حاصله: أن الأصل اللفظي يقتضي عدم تداخل الأسباب، لأن تعلق الطلب بصرف الوجود من
١ - مطارح الأنظار: ١٧٧ / السطر ٢٢ وما بعده.
٢ - مصباح الفقيه، الطهارة: ١٢٦ / السطر ٩.
٣ - كفاية الأصول: ٢٣٩ - 240.
(٢٤٨)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (2)، المنع (1)، السب (1)، الوجوب (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)، الطهارة (1)
الطبيعة وإن كان مدلولا لفظيا إلا أن عدم قابلية صرف الوجود للتكرر ليس مدلولا لفظيا، بل من باب حكم العقل بأن المطلوب الواحد إذا امتثل لا يمكن امتثاله ثانيا، وأما أن المطلوب واحد أو متعدد فلا يحكم به العقل، فإذا دل ظاهر الشرطيتين علي تعدد المطلوب، لا يعارضه شئ أصلا.
ومما ذكرنا انقدح ما في تقديم ظهور القضيتين من جهة كونه بيانا لإطلاق الجزاء، لأنه علي ما ذكرنا ظهور الجزاء في الاكتفاء بالمرة ليس من باب الإطلاق أصلا حتي يقع التعارض، بل يكون ظهور الشرطية في تأثير الشرط مستقلا رافعا حقيقة لموضوع حكم العقل وواردا عليه، بل علي فرض ظهور الجزاء في المرة يكون ظهور الشرطية حاكما عليه، كما لا يخفي (1). انتهي.
والجواب عنه وعن سابقه: أن استفادة استقلال الشرط في السببية إنما هو من إطلاق الشرط، كما عرفت في صدر مبحث المفهوم، فهنا إطلاقان: إطلاق الشرط الدال علي السببية المستقلة، وإطلاق الجزاء الدال علي تعلق الطلب بنفس الطبيعة، ولا تعارض بين الإطلاقين في كل قضية مع قطع النظر عن القضية الأخري، ضرورة عدم المنافاة بين استقلال النوم مثلا بالسببية وكون المسبب هو وجوب طبيعة الوضوء.
نعم بعد ملاحظة اجتماع القضيتين معا يقع التعارض بينهما، لاستحالة أن يؤثر سببان مستقلان في إيجاد حكمين علي طبيعة واحدة، فاللازم في مقام التخلص عن المحذور العقلي أحد أمرين: إما رفع اليد عن إطلاق الشرط في كل منهما، وإما رفع اليد عن إطلاق الجزاء كذلك، ولا ترجيح للثاني علي الأول أصلا.
نعم الظاهر أن المتفاهم عند العرف من أمثال هذا النحو من القضايا
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 493 - 494.
(٢٤٩)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الوضوء (1)، الوجوب (1)، النوم (1)
الشرطية عدم التداخل، وتأثير كل سبب في مسبب واحد من غير التفات إلي إطلاق متعلق الجزاء، ولزوم تقييده.
ولعل كون المتفاهم بنظر العرف كذلك مما لا مجال لإنكاره إلا أن الكلام في منشأ استفادتهم، فيمكن أن يكون الوجه فيه قياس العلل التشريعية بالعلل التكوينية التي يوجب كل علة معلولا مستقلا أو استفادة الارتباط بين الشرط ومتعلق الجزاء بمعني اقتضاء البول مثلا للوضوء واستحقاقه له، فعند الاجتماع يقتضي كل واحد من الشرطين وضوءا مستقلا، أو غير ذلك مما لم نعرفه، فإن العمدة هي ثبوت أصل الظهور بنظر العرف، وقد عرفت أنه لا إشكال فيه، كما أشار إليه المحقق الخراساني في حاشية الكفاية في هذا المقام (1).
وأما المقدمة الثانية: فيمكن منعها بتقريب أن الشرط إنما يكون سببا لوجوب الوضوء لا لوجوده، كما هو ظاهر القضية الشرطية.
مضافا إلي أنه لو كان علة له لا للوجوب، يلزم عدم الانفكاك بينهما، مع أن من المعلوم خلافه، فتعدد الشرط يوجب تعدد الوجوب، وهو لا يستلزم وجوب إيجاد الفعل متعددا، لإمكان أن يكون الوجوب الثاني تأكيد للوجوب الأول، إذ البعث التأكيدي ليس مغايرا للبعث التأسيسي، والفارق مجرد تعدد الإرادة ووحدتها، ومع إمكان ذلك لابد من إثبات كون البعث للتأسيس.
وبالجملة، يقع التعارض بين إطلاق متعلق الجزاء وإطلاق الشرط في السببية المستقلة لو كان الوجوبان تأسيسيين، وأما لو كان أحدهما تأكيدا للآخر، فلا تعارض أصلا، ولا ترجيح لرفع اليد عن إطلاق متعلق الجزاء وإبقاء الوجوب علي ظاهره لو لم نقل بترجيح العكس، نظرا إلي أن ظهوره في التأسيسية لا يكون
١ - كفاية الأصول: ٢٤٢، الهامش 3.
(٢٥٠)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، البعث، الإنبعاث (2)، البول (1)، الوضوء (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
بالغا إلي حد يعارض الإطلاق، وعلي فرض التعارض فلابد علي المستدل من إثبات العكس، ورفع احتمال الحمل علي التأكيد.
وأجاب عنه في التقريرات بما حاصله: أنا نسلم كون الأسباب الشرعية أسبابا لنفس الأحكام لا لمتعلقاتها، ومع ذلك يجب تعدد إيجاد الفعل في الخارج، فإن المسبب هو اشتغال الذمة بإيجاد الفعل، ولا شك أن السبب الأول يقتضي ذلك، فإذا فرضنا وجود مثله فيوجب اشتغالا آخر، إذ لو لم يقتضي ذلك فإما أن يكون بواسطة نقص في السبب أو في المسبب، وليس شئ منهما.
أما الأول: فلما هو المفروض.
وأما الثاني: فلأن تعدد الاشتغال ووحدته يتبع قبول الفعل المتعلق له وعدمه، والمفروض في المقام القبول.
نعم ما ذكره يتم في الأوامر الابتدائية مع قبول المحل أيضا، لأن مجرد القابلية غير قاضية بالتعدد، والاشتغال الحاصل بالأمر الثاني لا نسلم مغايرته للأمر الأول.
هذا إن أريد من التأكيد تأكيد مرتبة الطلب والوجوب وإن كان حصوله بواسطة لحوق جهة مغايرة للجهة الأولي، كما في مثل تحريم الإفطار بالمحرم في شهر رمضان، وإن أريد التأكيد نحو الحاصل في الأوامر الابتدائية، ففساده أظهر من أن يخفي، فإن الأمر الثاني مرتب علي الأول ووارد في مورده، بخلاف المقام، ضرورة حصول الاشتغال والوجوب علي وجه التعدد قبل وجود السبب بنفس الكلام الدال علي السببية، فتكون تلك الوجوبات كل واحد منها في عرض الآخر، فهناك إيجابات متعددة، ويتفرع عليها وجوبات متعددة علي وجه التعليق، وبعد حصول المعلق عليه يتحقق الاشتغال بأفراد متعددة.
ويمكن أن يجاب بالتزام أنها أسباب لنفس الأفعال لا لأحكامها، ولكنه
(٢٥١)
صفحهمفاتيح البحث: شهر رمضان المبارك (1)، السب (2)
سبب جعلي لا عقلي ولا عادي، ومعني السبب الجعلي هو أن لها نحو اقتضاء في نظر الجاعل بحيث لو انقدح في نفوسنا لكنا جازمين بالسببية، إلا أن الإنصاف أنه لا يسمن، فإن معني جعل السببية ليس إلا مطلوبية المسبب عند وجود السبب، فالتعويل علي الوجه الأول (1). انتهي ملخصا.
أقول: المراد بتعدد الاشتغال الحاصل من كل سبب لابد وأن يكون هو الوجوب الجائي عقيبه، وقد عرفت أن تعدد الوجوب لا يستلزم تعدد الواجب، لاحتمال أن يكون الوجوب الثاني تأكيدا للأول، فتعدد الاشتغال بهذا المعني لا يوجب تعدد المشتغل به.
ثم إن قوله: هذا إن أريد من التأكيد إلي آخره، يرد عليه: أن هذا الفرض خارج عن باب التأكيد، لما قد حقق سابقا في مبحث اجتماع الأمر والنهي من أن متعلق الأحكام هي الطبائع لا الوجودات، فالطبيعة المتعلقة لأحد التحريمين في المثال تغاير الطبيعة المتعلقة للآخر، ضرورة أن أحدهما يتعلق بالإفطار، والآخر بشرب الخمر مثلا، فأين التأكيد؟
ثم إن اعتبار الترتب في تحقق معني التأكيد - كما عرفت في كلامه - مندفع بأن الوجوب التأكيدي ليس بمعني استعمال الهيئة - مثلا - في التأكيد حتي يستلزم وجود وجوب قبله بل المستعملة فيه هو نفس الوجوب والتأكيد ينتزع من تعلق أزيد من واحد بشئ واحد.
ألا تري أنه يتحقق التأكيد بقول: اضرب، والإشارة باليد إليه في آن واحد من دون تقدم وتأخر.
ثم إن الجواب الأخير - الذي ذكر أن الإنصاف أنه لا يسمن - قد جعله
1 - مطارح الأنظار: 180 / السطر 1 - 16.
(٢٥٢)
صفحهمفاتيح البحث: شرب الخمر (1)، يوم عرفة (2)، النهي (1)، السب (1)، الوجوب (1)
المحقق العراقي جوابا مستقلا عن الإشكال، واعتمد عليه، وقد عرفت منا سابقا استظهاره، ولكنه لا يندفع به الإشكال، لأن الشرطين إنما يقتضيان نفس طبيعة متعلق الجزاء، وبعد حصولها مرة بعدهما قد عمل بمقتضاهما معا، كما لا يخفي.
هذا كله في الأنواع المتعددة، وأما التداخل وعدمه بالنسبة إلي فردين من نوع واحد، فقد يقال بابتناء ذلك علي أن الشرط هل هو الطبيعة أو الأفراد.
فعلي الأول فلابد من القول بالتداخل، لأن الفردين أو الأفراد من طبيعة واحدة لا يعد بنظر العرف إلا فردان أو أفراد منها، فزيد وعمرو بنظر العرف فردان من الإنسان، لا إنسانان، كما هو كذلك بنظر العقل.
وعلي الثاني فلابد من القول بعدم التداخل، لظهور الشرطية في كون كل فرد سببا مستقلا للجزاء.
هذا، ولكن لا يخفي أن مورد النزاع هو ما إذا كان كل واحد من الأفراد سببا مستقلا، وإلا فلا يشمله النزاع في المقام، فدخوله فيه يبتني علي كون الشرط هي الأفراد، لا أن القول بعدم التداخل مبني عليه، كما هو صريح ذلك القول المحكي، وحينئذ فيجري فيه جميع ما تقدم في النوعين والأنواع المختلفة، والظاهر أن المتفاهم منها بنظر العرف أيضا عدم التداخل بالنسبة إلي الأفراد من جنس واحد، فتأمل.
وأما المقدمة الثالثة الراجعة إلي أن تعدد الأثر يوجب تعدد الفعل التي يعبر عنها بعدم تداخل المسببات: فقد ذكر الشيخ في التقريرات: أن لا مجال لإنكارها بعد تسليم المقدمتين السابقتين، لأنا قد قررنا في المقدمة الثانية أن متعلق التكاليف حينئذ هو الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأول، ولا يعقل تداخل فردين من ماهية واحدة، بل ولا يعقل ورود دليل علي التداخل أيضا علي ذلك التقدير، إلا أن يكون ناسخا لحكم السببية، وأما تداخل الأغسال فبواسطة
(٢٥٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الغسل (1)، دولة العراق (1)
تداخل ماهياتها، كما كشف عنه رواية الحقوق، مثل تداخل الإكرام والضيافة فيما إذا قيل: إذا جاء زيد فأكرم عالما، وإن سلم عليك فأضف هاشميا، فعند وجود السببين يمكن الاكتفاء بإكرام العالم الهاشمي علي وجه الضيافة، وأين ذلك من تداخل الفردين (1). انتهي ملخصا.
ولا يخفي أن المراد بكون متعلق التكاليف هو الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأول إن كان هو الفرد الخارجي، فعدم اجتماع الفردين مسلم لا ريب فيه، إلا أنه لا ينبغي الإشكال في بطلانه، لأن الموجود الخارجي يستحيل أن يتعلق التكليف به بعثا كان أو زجرا، كما قد حققناه سابقا في مبحث اجتماع الأمر والنهي بما لا مزيد عليه، وإن كان المراد هو العنوان الذي يوجب تقييد الطبيعة، فنقول: إن القيود المقسمة للطبيعة علي نوعين: نوع تكون النسبة بين القيود التخالف بحيث لا مانع من اجتماعها علي شئ واحد، كتقييد الإنسان مثلا بالأبيض والرومي، ونوع تكون النسبة بينها التباين، كتقييده بالأبيض والأسود، ومرجع القول بعدم التداخل إلي استحالة تعلق تكليفين بطبيعة واحدة، ولزوم تقييدها في كل تكليف بقيد يغاير القيد الآخر، وأما لزوم كون التغاير علي نحو التباين، فممنوع جدا، بل يستفاد من ورود الدليل علي التداخل كون التغاير بنحو التخالف الغير المانع من الاجتماع، فلا يلزم أن يكون ناسخا لحكم السببية، كما أفاده في كلامه.
نعم مع عدم ورود الدليل عليه لا مجال للاعتناء باحتمال كون التغاير بنحو التخالف في مقام الامتثال، لأن التكليف اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، ومع الإتيان بوجود واحد لا يحصل اليقين بالبراءة عن التكليفين المعلومين، كما هو واضح.
1 - مطارح الأنظار: 180 - 181.
صفحه(٢٥٤)

الأمر الرابع: في اعتبار وحدة المنطوق والمفهوم إلا في الحكم

الأمر الرابع: في اعتبار وحدة المنطوق والمفهوم إلا في الحكم لابد - بناء علي ثبوت المفهوم - من أخذ جميع القيود المأخوذة في الشرط أو الجزاء في ناحية المفهوم أيضا، فقوله: إن جاءك زيد وأكرمك فأكرمه يوم الجمعة، يكون مفهومه هكذا: إن لم يجئك زيد أو لم يكرمك فلا تكرمه يوم الجمعة.
وكذا لا إشكال في أن المنفي في المفهوم فيما لو كان الحكم في المنطوق حكما مجموعيا هو نفي المجموع بحيث لا ينافي ثبوت البعض.
وإنما الإشكال فيما إذا كان الحكم في المنطوق حكما عاما، فهل المنفي في المفهوم نفي ذلك الحكم بنحو العموم، أو نفي العموم الغير المنافي لثبوت البعض؟
مثلا: قوله (عليه السلام): " الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شئ " (1) هل يكون مفهومه أنه إذا لم يبلغ ذلك المقدار ينجسه جميع الأشياء النجسة، أو أن مفهومه: تنجسه بالشئ الغير المنافي لعدم تنجسه ببعض النجاسات؟ وهذا هو النزاع المعروف بين صاحب الحاشية والشيخ (قدس سرهما)، وقد بني الشيخ المسألة علي أن كلمة " الشئ " المأخوذة في المنطوق هل أخذت مرآتا للعناوين النجسة، مثل البول والمني والدم وغيرها بحيث كأنها مذكورة بدله، أو أنها مأخوذة بعنوانه بحيث لابد من أخذه في المفهوم بعنوانه؟ فعلي الأول يصير مفهومه يتنجس الماء القليل بجميع أنواع النجاسات، وعلي الثاني لا ينافي عدم تنجسه
١ - الكافي ٣: ٢ / ١، وسائل الشيعة ١: ١٥٩، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 6.
(٢٥٥)
صفحهمفاتيح البحث: البول (1)، النجاسة (2)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)، الطهارة (1)
ببعضها، كما لا يخفي (1).
هذا، وأنت خبير بأن المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم في المنطوق عند انتفاء الشرط مثلا، لا ثبوت حكم نقيض الحكم في المنطوق، وحينئذ فمفهوم المثال عبارة عن أن الماء إذا لم يبلغ قدر كر ليس بلا ينجسه شئ لا أنه ينجسه شئ حتي يقال بأن النكرة في الإثبات لا يفيد العموم، بل مدلول القضية المفهومية هو انتفاء الحكم المنشأ في المنطوق، وانتفاؤه في المقام لا ينافي ثبوت التنجس بجميع النجاسات، كما أنه لا ينافي ثبوته ببعضها، ولا دلالة لها علي أحد الأمرين أصلا.
ويظهر الكلام في مفهوم الوصف مما تقدم في مفهوم الشرط.
1 - مطارح الأنظار: 174 / السطر 29.
(٢٥٦)
صفحهمفاتيح البحث: النجاسة (1)

المقام الثاني: في مفهوم الغاية

مفهوم الغاية المقام الثاني في مفهوم الغاية يقع الكلام في مفهوم الغاية بمعني دلالتها علي انتفاء الحكم فيما بعدها بناء علي دخولها في المغيي، أو انتفاؤه فيها وفيما بعدها بناء علي خروجها عنه.
والمعروف بين المتأخرين: التفصيل بين ما إذا كانت الغاية قيدا للحكم وبين ما إذا كانت قيدا للموضوع بالدلالة علي المفهوم في الأول دون الثاني.
والوجه في الثاني واضح، لأنه يصير حينئذ من قبيل الوصف، وقد عرفت أنه لا مفهوم له.
وأما وجه الدلالة علي المفهوم في الأول: فهو علي ما ذكره بعض المحققين من المعاصرين في كتاب الدرر عبارة عن أن الغاية بحسب مدلول القضية جعلت غاية للحكم المستفاد من قوله: اجلس، مثلا، وقد حقق في محله أن مفاد الهيئة إنشاء حقيقة الطلب، لا الطلب الجزئي الخارجي، فتكون الغاية في القضية غاية لحقيقة الطلب المتعلق بالجلوس، ولازم ذلك هو ارتفاع حقيقة الطلب عن الجلوس عند وجودها.
نعم لو قيل بدلالة الهيئة علي الطلب الجزئي، فالغاية لا تدل إلا علي
(٢٥٧)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)
ارتفاعه عندها، وهو لا ينافي وجود جزئي آخر من سنخ ذلك الطلب بعدها.
ولكنه اختار في الأواخر أنه لا تدل الغاية علي المفهوم ولو كانت قيدا للحكم، فقال في حاشية الدرر ما هذه عبارته: يمكن أن يقال بمنع المفهوم حتي فيما اخذ فيه الغاية قيدا للحكم، كما في: اجلس من الصبح إلي الزوال، لمساعدة الوجدان علي أنا لو قلنا بعد الكلام المذكور: وإن جاء زيد فاجلس من الزوال إلي الغروب، فليس فيه مخالفة لظاهر الكلام الأول، فهذا يكشف عن أن المغيي ليس سنخ الحكم من أي علة تحقق بل السنخ المعلول لعلة خاصة سواء كانت مذكورة كما في إن جاء زيد فاجلس من الصبح إلي الزوال، أم كانت غير مذكورة، فإنه مع عدم الذكر أيضا يكون لا محالة هنا علة يكون الحكم المذكور مسببا عنها (1). انتهي.
وأنت خبير بأن الغاية إذا كانت غاية لطبيعة الطلب المتعلقة بالجلوس مثلا، فلا محالة ترتفع الطبيعة عند وجودها، وإلا فلا معني لكونها غاية لنفس الطبيعة، ويكشف من ذلك ارتفاع علته وعدم قيام علة أخري مقامه.
وبعبارة أخري: بعد كون القضية بنظر العرف ظاهرة في ارتفاع الطلب عند وجود الغاية لا مجال للإشكال في الدلالة علي المفهوم من جهة ما ذكر، لأن ذلك مستلزم لكون العلة واحدة بحيث لا يقوم مقامها علة أخري.
هذا مضافا إلي أن العرف لا يتوجه ولا ينظر إلي مسألة العلة أصلا، كما لا يخفي، إلا أن كون الهيئة مفادها هو إنشاء حقيقة الطلب وكليه قد عرفت ما فيه سابقا، فإن الوضع والموضوع له في الحروف ليسا عامين، بل الموضوع له خاص، إلا أن المتفاهم في المقام من القضية الغائية كون المغيي هو حقيقة
١ - درر الفوائد، المحقق الحائري: 204 - 205.
(٢٥٨)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)
الطلب بحيث ترتفع عند وجود الغاية، كما يظهر بمراجعة العرف، فالحق ثبوت مفهوم الغاية.
ثم إن هنا خلافا آخر، وهو: أن الغاية هل تكون داخلة في المغيي أو خارجة عنها؟
ولا يخفي أن المراد بالغاية هنا هو مدخول مثل " إلي " و " حتي " مما له أجزاء، لا نهاية الشئ، فإن البحث فيها بالمعني الثاني ليس شأن الأصولي، بخلاف الأول.
والحق خروجها عن المغيي، سواء كانت غاية للموضوع أو الحكم.
والدليل علي ذلك مراجعة الاستعمالات العرفية، فإن قول القائل: سرت من البصرة إلي الكوفة لا يدل علي استمرار السير في جزء من الكوفة أيضا بحيث لو وصل إلي جدار الكوفة من دون أن يدخل فيها، لكان هذا القول منه كذبا، بل نقول: إن دعوي دخول تالي كلمة " من " في الموضوع أو الحكم ممنوعة أيضا، كما يظهر بالتأمل في المثال، فالإنصاف خروج الغاية عن المغيي حكما كان أو موضوعا، فالتفصيل بينهما بدخولها فيه في الثاني دون الأول - كما في الدرر - في غير محله، كما أن دعوي خروج غاية الحكم عن النزاع في هذا المقام - كما في الكفاية - ممنوعة جدا، كما أشار إليه في الحاشية فراجع (1).
١ - كفاية الأصول: ٢٤٦ - 247.
(٢٥٩)
صفحهمفاتيح البحث: مدينة الكوفة (3)، مدينة البصرة (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
المقصد الرابع في العام والخاص وفيه مقدمة وفصول:
صفحه(٢٦١)

المقصد الرابع: في العام والخاص وفيه مقدمة وفصول: مقدمة

مقدمة مقدمة وقبل الخوض في بحوث العام والخاص لا بأس بذكر أمور:
الأمر الأول: فيما تحكي عنه أسماء الطبائع اعلم أن الألفاظ الموضوعة بإزاء الطبائع الكلية لا تكون حاكية إلا عن نفس تلك الماهيات التي وضعت بإزائها، فلفظ الإنسان الموضوع لطبيعة الإنسان - التي هي عبارة عن الحيوان الناطق - لا يحكي إلا عن نفس تلك الحقيقة، ولا يعقل أن يكون حاكيا عن الخصوصيات التي تجتمع مع الطبيعة في الوجود الخارجي وتتحد معها في الواقع، وذلك لأنه لا يعقل أن تكون الطبيعة مرآة للعناوين المتحدة معها في عالم الوجود الذي هو مجمع المتفرقات بعد ثبوت المغايرة بينها في عالم المفهومية، فكيف يمكن أن يكون الإنسان مرآة لأصل الوجود بعد وضوح المغايرة بينها وبينه فضلا عن الخصوصيات الوجودية، والاتحاد في الوجود الخارجي لا ينافي عدم الحكاية في عالم المفهوم، كما هو واضح.
نعم قد وضع في كل لغة ألفاظ تدل علي الكثرات والوجودات، كلفظة " كل " وأمثالها في لغة العرب، فعند إضافته إلي كل شئ يفيد أفراد ذلك الشئ
صفحه(٢٦٣)

وفيها أمور: الأمر الأول: فيما تحكي عنه أسماء الطبائع

مقدمة مقدمة وقبل الخوض في بحوث العام والخاص لا بأس بذكر أمور:
الأمر الأول: فيما تحكي عنه أسماء الطبائع اعلم أن الألفاظ الموضوعة بإزاء الطبائع الكلية لا تكون حاكية إلا عن نفس تلك الماهيات التي وضعت بإزائها، فلفظ الإنسان الموضوع لطبيعة الإنسان - التي هي عبارة عن الحيوان الناطق - لا يحكي إلا عن نفس تلك الحقيقة، ولا يعقل أن يكون حاكيا عن الخصوصيات التي تجتمع مع الطبيعة في الوجود الخارجي وتتحد معها في الواقع، وذلك لأنه لا يعقل أن تكون الطبيعة مرآة للعناوين المتحدة معها في عالم الوجود الذي هو مجمع المتفرقات بعد ثبوت المغايرة بينها في عالم المفهومية، فكيف يمكن أن يكون الإنسان مرآة لأصل الوجود بعد وضوح المغايرة بينها وبينه فضلا عن الخصوصيات الوجودية، والاتحاد في الوجود الخارجي لا ينافي عدم الحكاية في عالم المفهوم، كما هو واضح.
نعم قد وضع في كل لغة ألفاظ تدل علي الكثرات والوجودات، كلفظة " كل " وأمثالها في لغة العرب، فعند إضافته إلي كل شئ يفيد أفراد ذلك الشئ
صفحه(٢٦٣)

الأمر الثاني: في الفرق بين العام والمطلق

وإن كان مدخوله لا يدل إلا علي نفس الطبيعة، كما ذكرنا، ويعبر عنها بألفاظ العموم، فقوله: أكرم كل إنسان، يفيد وجوب إكرام جميع ما يصدق عليه الإنسان، ويتحد معه في الخارج، وهذا المعني يستفاد من كلمة " كل " وأما الإنسان فقد عرفت أنه لا يحكي إلا عن نفس الطبيعة.
الأمر الثاني: في الفرق بين العام والمطلق ثم لا يخفي أن معني العموم - كما عرفت - يرجع إلي دلالة الألفاظ الموضوعة له عليه بالدلالة اللفظية، نظير جميع الدلالات اللفظية، وأما الإطلاق - كما عرفت سابقا - فهو يرجع إلي أن المتكلم العاقل المختار إذا صار بصدد بيان جميع ماله دخل في موضوع حكمه ولم يأخذ إلا ما نطق به وسمعه المخاطب يستفاد من ذلك كون المذكور هو تمام الموضوع لحكمه، ولا مدخلية لشئ آخر أصلا، وهذه الدلالة ليست من باب دلالة الألفاظ علي معانيها، ضرورة أن قوله: أعتق رقبة، لا يدل إلا علي وجوب عتق الرقبة واستفادة الإطلاق بالنسبة إلي الرقبة إنما هي من باب حكم العقل بأن المتكلم الكذائي الذي بصدد البيان محكوم بظاهر كلامه، لأنه لو كان شئ آخر دخيلا في موضوع حكمه، لكان اللازم عليه أن يذكر، فهي نظير دلالة الفعل الصادر من العاقل المختار علي كون صدوره عن اختيار وإرادة، ودلالة التكلم علي كون مضمون الكلام مقصودا للمتكلم، وحينئذ فباب الإطلاق لا ربط له بباب العموم أصلا، فما وقع من كثير منهم من أن العموم قد يستفاد من جهة الوضع، وقد يستفاد من القضية عقلا، وقد يستفاد من جهة الإطلاق مع وجود مقدماته ليس علي ما ينبغي، لأن المستفاد من مقدمات الحكمة إنما هو الإطلاق لا العموم، فهو قسيم له لا أنه قسم منه، كما عرفت.
(٢٦٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (4)، الكرم، الكرامة (1)، الإختيار، الخيار (1)، الوجوب (2)، العتق (2)

الأمر الثالث: في استغناء العام عن مقدمات الحكمة

الأمر الثالث: في استغناء العام عن مقدمات الحكمة ثم إن هنا إشكالا، وهو أنه ليس لنا لفظ عام يدل علي العموم مع قطع النظر عن جريان مقدمات الحكمة، ضرورة أن كلمة " كل " لا تدل إلا علي استيعاب أفراد مدخوله، وأما أن مدخوله مطلق أو مقيد فلا يستفاد منها أصلا، فإنها تابعة لمدخولها، فإن اخذ مطلقا، فهي تدل علي تمام أفراد المطلق، وإن اخذ مقيدا، فهي تدل علي جميع أفراد المقيد، فاستفادة العموم بالنسبة إلي جميع أفراد المطلق موقوفة علي إحراز كون المدخول مطلقا، وذلك يتوقف علي إجراء مقدمات الحكمة، كما هو واضح.
وقد أجاب عنه في الدرر (1) بما لا يرجع إلي محصل.
والتحقيق في الجواب أن يقال: إن مقدمات الحكمة حيث تجري تكون نتيجتها إثبات الإطلاق في موضوع الحكم بمعني أن تمام الموضوع لحكمه المجعول إنما هي الطبيعة معراة عن جميع القيود، وذلك حيث يكون الأمر دائرا بين كون الموضوع هي نفس الطبيعة أو هي مقيدة، وأما في أمثال المقام مما لا يكون الموضوع هو الطبيعة بل أفرادها - كما فيما نحن فيه - فلا مجال لإجراء المقدمات في مدخول ألفاظ العموم بعد وضوح أن الموضوع ليس هو المدخول، بل هو مع مضمون تلك الألفاظ الدالة علي استيعاب الأفراد.
نعم بعبارة أخري نقول: التعبير بلفظ العموم الذي يدل علي الاستيعاب ظاهر في كون المتكلم متعرضا لبيان موضوع حكمه، والتعرض ينافي الإهمال،
١ - درر الفوائد، المحقق الحائري: 210 - 211.
(٢٦٥)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (1)

الأمر الرابع: في أقسام العموم

وحينئذ فالشك في كون الموضوع هو جميع أفراد الرجل مثلا أو أفراد الرجل العالم ينشأ من احتمال الخطأ في عدم ذكر القيد، وهو مدفوع بالأصل.
وبالجملة، فمجري المقدمات هو ما إذا دار الأمر بين الإهمال وغيره، وفي المقام لا مجال لاحتمال الإهمال بعد كون المتكلم متعرضا لبيان الموضوع، وأنه هو جميع الأفراد، إذ بعد دلالة الكلام علي هذه الجهة يكون لا محالة الشك في سعة الموضوع وضيقه، مستندا إلي احتمال الخطأ في عدم ذكر القيد، وقد عرفت أنه مدفوع بالأصل العقلائي الذي يقتضي العدم، فظهر أن دلالة مثل لفظة " كل " علي العموم لا تحتاج إلي مقدمات الحكمة أصلا، فتأمل فإنه دقيق.
الأمر الرابع: في أقسام العموم ثم إن للعموم أقساما من الاستغراقي والمجموعي والبدلي، والمراد بالأول هو الشمول لجميع الأفراد بلا لحاظ الوحدة بينهما، وبالثاني هو جميعها مع ملاحظة كونها شيئا واحدا، وبالثالث هو الشمول بحيث يكتفي بواحد منها في مقام الامتثال.
والظاهر أن كلمة " كل " ونظائرها تدل علي العموم الاستغراقي، ولعل كلمة المجموع دالة علي المجموعي.
والظاهر أيضا أن كلمة " أي " ونظائرها تدل علي البدلي.
ولا يخفي أن هذه الأقسام الثلاثة ثابتة للموضوع مع قطع النظر عن تعلق الحكم به، كما يشهد بمراجعة العرف، فإنه لو سمع أحد منهم " كل رجل " مثلا لا يفهم منه إلا العموم الاستغراقي ولو لم يعلم حكم ذلك الموضوع فضلا عن كيفية تعلقه به.
(٢٦٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الوسعة (1)، الشهادة (1)
فما ذكره صاحب الكفاية - وتبعه بعض من أجلاء تلامذته (1) - من أن هذه الأقسام إنما هي بلحاظ كيفية تعلق الأحكام، وإلا فالعموم في الجميع بمعني واحد وهو الشمول، مما لا يصح أصلا، فإن الجمع بين ذلك وبين كون كل واحد منها مدلولا عليه بلفظ غير ما يدل علي الآخر - كما اعترف في حاشية الكفاية (2) - مستبعد جدا، فإن دلالة الألفاظ علي ما وضعت بإزائها لا يرتبط بباب تعلق الأحكام أصلا، كما هو واضح لا يخفي.
ثم إن هذا التقسيم لا يجري في باب الإطلاق أصلا، ضرورة أن معني الإطلاق هو مجرد كون المذكور تمام الموضوع لحكمه المجعول بلا مدخلية لشئ آخر، فقوله: جئني برجل، لا يفيد إلا مجرد كون الغرض مترتبا علي مجئ الرجل، وأما شموله لجميع ما يصدق عليه والتخيير بينه فهو حكم عقلي مترتب علي تعلق الحكم بنفس الطبيعة، لا أنه يستفاد من الكلام هذا النحو من الإطلاق.
والدليل علي ذلك أنه لو كان المستفاد من الكلام الإطلاق الذي يسمونه بالإطلاق البدلي، لكان قوله بعد هذا الكلام: " أي رجل " تأكيد الاستفادة مضمونه من قوله: جئني برجل، مع أنه ليس كذلك بداهة، بل إنما هو تصريح بما يحكم به العقل بعد تعلق الحكم بنفس الطبيعة من التخيير بين أفرادها.
ولا يتوهم أنه تصريح بالإطلاق، فإن معني التصريح به هو أن نقول: إن تمام الموضوع الحكمي هو الرجل مثلا من دون قيد لا أن نقول بما يحكم به العقل بعد استفادة الإطلاق، فتدبر.
١ - مقالات الأصول ١: ٤٣٠.
٢ - كفاية الأصول: ٢٥٣.
(٢٦٧)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

الأمر الخامس: فيما عد من الألفاظ الدالة علي العموم

الأمر الخامس: فيما عد من الألفاظ الدالة علي العموم قد عد من الألفاظ الدالة علي العموم: النكرة في سياق النفي، أو النهي، وكذا اسم الجنس الواقع في سياق أحدهما، بتقريب أنه لا تكاد تكون الطبيعة معدومة إلا إذا كانت معدومة بجميع أفرادها، وإلا فهي موجودة، وظاهره تسليم أنه لا يدل علي العموم لفظا، وهو كذلك، ضرورة أن قوله: ليس رجل في الدار، لا يكون شئ من ألفاظه دالا علي العموم، فإن كلمة النفي موضوعة لنفي مدخوله، ورجل يدل علي نفس الطبيعة، وتنوينه المسمي بتنوين التنكير يدل علي تقيد الطبيعة بالوحدة اللا بعينها، وتوهم ثبوت الوضع لمجموع الجملة مما لا ينبغي أن يصغي إليه، فاللفظ لا يدل علي العموم أصلا.
وأما دلالته عليه عقلا فقد عرفت سابقا من أن ما اشتهر بينهم من وجود الطبيعة بوجود فرد ما وانعدامها بانعدام جميع الأفراد خلاف حكم العقل، فإن الطبيعة كما توجد بوجود فرد كذلك تنعدم بانعدام فرد ما، ولا ينافي انعدامها وجودها بوجود فرد آخر، ولا يلزم التناقض، لأنها متكثرة حسب تكثر الأفراد.
نعم هو مقتضي حكم العرف لا العقل.
هذا، ولكن لا يخفي أن دلالته عليه مبنية علي كونها مأخوذة بنحو الإرسال، وأما إذا أخذت مبهمة قابلة للتقييد، فلا يستفاد منه العموم.
ومن هنا تعرف أن عد النكرة الكذائية من جملة ألفاظ العموم مما لا يصح، بل غايته الدلالة علي الإطلاق بعد جريان مقدمات الحكمة في مدخول النفي وضم حكم العرف، كما لا يخفي.
وهكذا الحال في المفرد المعرف باللام، فإن توهم دلالته علي العموم وضعا مندفع بوضوح الفرق بين قوله: * (أحل الله البيع) * وقوله: أحل الله كل
(٢٦٨)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، النهي (1)، البيع (1)
بيع، بل لا يدل إلا علي الإطلاق بعد جريان المقدمات، فهو أيضا لا يكون من الألفاظ الدالة علي العموم.
وأما الجمع المحلي باللام: فالظاهر أن دلالته علي العموم بحسب الوضع مما لا إشكال فيه، إلا أن الكلام في كون مدلوله هل هو العموم الاستغراقي أو المجموعي؟ قد يقال بالثاني، نظرا إلي أن مدخول اللام هو الجمع، وهو لا ينطبق علي كل فرد فرد بل علي جماعة جماعة من الثلاثة فما فوق وغاية ما يستفاد من اللام هو أقصي مراتب الجمع مع حفظ معني الجمعية.
هذا، ولكن لا يخفي أن الجمع كعلماء مثلا لا يدل علي كون أفراد العالم ملحوظا بنحو الاجتماع، فالألف واللام التي يرد عليه لا يقتضي إلا استغراق أفراد العالم بلا ملاحظة الوحدة بينهما أصلا، ومن هنا تعرف أن ما أجاب به المحقق النائيني علي ما في التقريرات لا يتم أصلا، فراجع.
(٢٦٩)
صفحهمفاتيح البحث: البيع (1)

الفصل الأول: في حجية العام المخصص في الباقي

حجية العام المخصص في الباقي الفصل الأول في حجية العام المخصص في الباقي هل العام المخصص حجة فيما بقي مطلقا، أوليس بحجة كذلك، أو يفصل بين المخصص المتصل والمنفصل بالحجية في الأول دون الثاني؟
حول مجازية العام المخصص وعدمها والعمدة في مبني المسألة هو: أن التخصيص يوجب المجازية في العام أو لا؟
والتحقيق أن يقال: إن المجاز ليس عبارة عن استعمال اللفظ في غير ما وضع له، كما اشتهر بينهم، بل إنما هو عبارة عن استعمال اللفظ في نفس الموضوع له كالحقيقة بدعوي أن ذلك المعني المقصود هو من مصاديق المعني الموضوع له، وهذه هي الفارق بين الحقيقة والمجاز، فإن استعمال اللفظ في معناه في الأول لا يحتاج إلي ادعاء أصلا، بخلاف المجاز.
وبعبارة أخري: المقصود في المقامين هو نفس المعني الموضوع له، غاية
(٢٧٠)
صفحهمفاتيح البحث: الحج (2)

حول مجازية العام المخصص وعدمها

حجية العام المخصص في الباقي الفصل الأول في حجية العام المخصص في الباقي هل العام المخصص حجة فيما بقي مطلقا، أوليس بحجة كذلك، أو يفصل بين المخصص المتصل والمنفصل بالحجية في الأول دون الثاني؟
حول مجازية العام المخصص وعدمها والعمدة في مبني المسألة هو: أن التخصيص يوجب المجازية في العام أو لا؟
والتحقيق أن يقال: إن المجاز ليس عبارة عن استعمال اللفظ في غير ما وضع له، كما اشتهر بينهم، بل إنما هو عبارة عن استعمال اللفظ في نفس الموضوع له كالحقيقة بدعوي أن ذلك المعني المقصود هو من مصاديق المعني الموضوع له، وهذه هي الفارق بين الحقيقة والمجاز، فإن استعمال اللفظ في معناه في الأول لا يحتاج إلي ادعاء أصلا، بخلاف المجاز.
وبعبارة أخري: المقصود في المقامين هو نفس المعني الموضوع له، غاية
(٢٧٠)
صفحهمفاتيح البحث: الحج (2)
الأمر أنه ادعي المتكلم تطبيقه علي ما ليس مصداقا له في الواقع في المجاز.
والسر في ذلك: أنه لو لم يكن هذا الادعاء في البين بل كان المجاز عبارة عن مجرد استعمال اللفظ الموضوع للأسد مثلا في زيد من دون ادعاء أنه من أفراد الأسد حقيقة، لم يكن للاستعمال المجازي حسن أصلا، فأي حسن في مجرد تغيير اللفظ وتبديله بلفظ آخر؟ كما هو واضح لا يخفي.
وهذا لا فرق فيه بين المجاز المرسل والاستعارة، فإن استعمال كلمة " القرية " في أهلها في قوله تعالي: * (واسئل القرية) * (1) لا يكون محسنا إلا إذا كان المقصود كون القرية كأهلها شاهدة علي المطلب وعالمة بها بحيث صار من شدة الوضوح معلوما عند نفس القرية أيضا، والتأمل في جميع الاستعمالات المجازية يرشدنا إلي هذا المعني.
إذا عرفت معني المجاز، يظهر لك أن تخصيص العام في أكثر العمومات المتداولة الشائعة لا يستلزم المجازية في العام أصلا، إذ ليس المقصود فيها ادعاء كون ما عدا مورد المخصص هو نفس العام بحيث كأنه لم يكن المخصص من أفراد العام أصلا، فإن قوله تعالي: * (أوفوا بالعقود) * (2) لا يتضمن ادعاء أن العقود الفاسدة - كالربا ونظائره - لا تكون عقدا حقيقة، بل العقد إنما ينحصر في العقود النافذة الماضية في الشريعة، فباب العموم والخصوص ليس له كثير ربط بالمجاز بالمعني المتقدم.
نعم يبقي الكلام في الجمع بين العموم الظاهر في شمول الحكم لجميع
1 - يوسف (12): 82.
2 - المائدة (5): 1.
(٢٧١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الشهادة (1)
الأفراد وبين الخصوص الظاهر في عدم كون مورده مقصودا من أول الأمر، إذ ليس التخصيص كالنسخ، كما هو واضح.
والتحقيق فيه أن يقال: إن هذا النحو الذي يرجع إلي إلقاء القاعدة الكلية أولا ثم بيان المستثنيات شائع بين العقلاء المقننين للقوانين العرفية والجاعلين للقواعد التي يتوقف النظام عليها، فإن التأمل فيها يرشد إلي أن دأبهم في ذلك هو جعل الحكم الكلي أولا ثم إخراج بعض المصاديق عنه.
ولابد في مقام الجمع بينهما من أن يقال بأن البعث الكلي المنشأ أولا أو الزجر كذلك وإن كان بعثا كليا حقيقة وزجرا كذلك إلا أنه لا يكون المقصود منه الانبعاث أو الانزجار في الجميع، بل الانبعاث والانزجار في بعض الأفراد دون البعض الآخر، والكاشف عن عدم كون البعث الكلي لغرض الانبعاث في الكل هو ورود التخصيص الدال علي عدم كون مورده مقصودا من أول الأمر أصلا، فقوله: أكرم العلماء، بعث إلي إكرام جميع العلماء حقيقة إلا أن إخراج الفساق منهم يكشف عن أن البعث المتوجه إليهم أيضا في ضمن الجميع لا يكون لغرض الانبعاث بل لغرض آخر، والفائدة في هذا النحو من جعل الحكم يظهر في موارد الشك في التخصيص، كما سيأتي.
وما ذكرنا هو الذي يرجع إليه قولهم: بأن التخصيص تخصيص في الإرادة الجدية لا الاستعمالية، فإن المراد بالإرادة الاستعمالية هو أن ظاهر الاستعمال هو تعلق البعث مثلا بجميع أفراد العلماء وإن كان في الواقع لا يكون المقصود - أي تحقق الانبعاث - إلا بالنسبة إلي غير الفاسق منهم، لا أن كلمة " العلماء " قد أريد منها الجميع استعمالا لا جدا حتي يقال - كما في تقرير المحقق النائيني - بأنا لا نتصور للاستعمال إرادة مغايرة للإرادة الجدية، فهي - أي كلمة " العلماء " - إن
(٢٧٢)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (4)، الوقوف (1)، الكرم، الكرامة (1)
أريد معناها، فقد أريد جدا، وإلا يكون هازلا (1)، وذلك ينشأ من عدم الوصول إلي مرادهم فإنك عرفت أن مرادهم من الإرادة الاستعمالية هو أن تعلق الحكم بجميع الأفراد مدلول عليه بظاهر الاستعمال، ولكن تعلقه في الواقع إنما هو ببعض الأفراد، فراجع كتاب الدرر (2) تجده مصرحا بما ذكرنا في بيان مرادهم.
وكيف كان فقد عرفت: أن التخصيص يكشف عن عدم تعلق البعث لغرض الانبعاث، والزجر لغرض الانزجار بمورد المخصص، فلا دليل علي رفع اليد عن حجيته بالنسبة إلي الباقي بعد ظهور الكلام وعدم معارض أقوي.
ثم إنه في التقريرات - بعد الإشكال بعدم تصور الإرادة الاستعمالية المغايرة للإرادة الجدية - أجاب بأن التخصيص لا يوجب المجازية لا في الأداة ولا في المدخول.
أما في الأداة: فلأنها لم توضع إلا للدلالة علي استيعاب ما ينطبق عليه المدخول، وهذا لا يتفاوت الحال فيها بين سعة دائرة المدخول أو ضيقها أصلا.
وأما في المدخول: فلأنه لم يوضع إلا للطبيعة المهملة المعراة عن جميع القيود، فالعالم مثلا ليس معناه إلا من انكشف لديه الشئ من دون دخل العدالة وغيرها فيه أصلا، فلو قيد العالم بالعادل مثلا لم يستلزم ذلك مجازا في لفظ العالم أصلا، لأنه لم يستعمل إلا في معناه، وخصوصية العدالة إنما استفيدت من دال آخر، وهذا لا فرق فيه بين اتصال القيد وانفصاله وعدم ذكر القيد أصلا (3).
أقول: أما عدم لزوم المجاز في الأداة فهو مسلم، وكذا في المدخول فيما إذا
١ - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي ١: ٥١٧.
٢ - درر الفوائد، المحقق الحائري: 212 - 213.
3 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 518.
(٢٧٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، البعث، الإنبعاث (1)، الوسعة (1)
كان المخصص متصلا، وأما في المخصص المنفصل فنقول: ما الذي أريد بالعالم قبل ورود التخصيص عليه؟ فإن أريد الجميع من غير اختصاص بالعادل - كما هو ظاهر اللفظ - فهو ينافي إخراج الفساق بعده، وإن أريد خصوص العادل، فإن استعمل لفظ العالم في خصوص العادل منه، فهو لو لم نقل بكونه غلطا فلا محالة يكون مجازا، وإن لم يستعمل فيه فهو هازل، كما صرح به في الإشكال.
فالإنصاف أنه لا مفر من الإرادة الاستعمالية بالمعني الذي ذكرنا، وعدم لزوم المجاز، لما عرفت من عدم ارتباط المقام بباب المجازات أصلا.
ثم إن ما ذكره بعض المحققين: - من محشي الكفاية - من أن الإنشاء الواحد لو كان بعثا حقيقيا بالإضافة إلي البعض دون البعض الآخر مع كونه متعلقا به في مرحلة الإنشاء يلزم صدور الواحد عن داعيين بلا جهة جامعة تكون هو الداعي (1)، ففيه: أن الداعي في أمثال المقام ليس راجعا إلي ما يصدر منه الفعل حتي يقال بأن الواحد لا يصدر إلا من واحد، والدليل علي ذلك ما نراه بالوجدان من اجتماع الدواعي المختلفة علي بعض الأفعال الصادرة منا، ولا استحالة فيه أصلا، كما هو واضح لا يخفي.
والمحكي عن المقالات: أنه ذكر في وجه حجية العام في الباقي أن الكثرة والشمول الذي هو معني العام يسري إلي لفظه، فكأنه أيضا كثير، فسقوط بعض الألفاظ عن الحجية لا يستلزم سقوط الباقي (2).
ويقرب هذا مما ذكره الشيخ في التقريرات في وجه الحجية بعد تسليم
١ - نهاية الدراية ٢: ٤٥٠.
٢ - مقالات الأصول ١: ٤٣٧ - 438.
(٢٧٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)
المجازية (1).
ولا يخفي أن هذا الكلام - الذي بالشعر أشبه - مردود: بأن سراية الكثرة إلي اللفظ مما لا معني لها أصلا، نظير القول بسراية الحسن والقبح إلي الألفاظ، فإن من الواضح أن اللفظ من حيث هو لا يكون حسنا ولا قبيحا، ولذا لو القي علي الجاهل بمعناه لم يتوجه إلي شئ منهما، كما لا يخفي.
1 - مطارح الأنظار: 192 / السطر 17.
(٢٧٥)
صفحهمفاتيح البحث: مسألة الحسن والقبح (1)

الفصل الثاني: في تخصيص العام با لمجمل

تخصيص العام بالمجمل الفصل الثاني في تخصيص العام بالمجمل نبحث في هذا المقام في جهتين:
الجهة الأولي: المخصص اللفظي المجمل مفهوما إذا كان الخاص مجملا بحسب المفهوم، فتارة يكون مرددا بين الأقل والأكثر، واخري بين المتبائنين، وعلي التقديرين إما أن يكون متصلا بالعام، وإما أن يكون منفصلا عنه، فالصور أربع:
منها: ما إذا كان الخاص مرددا بين الأقل والأكثر وكان متصلا بالعام، كقوله: أكرم العلماء إلا الفساق منهم، أو أكرم العلماء العدول، وتردد الفاسق بين الاختصاص بمرتكب الكبيرة أو الشمول لمرتكب الصغيرة أيضا.
ولا شبهة في هذه الصورة في عدم جواز الرجوع إلي العام بالنسبة إلي المورد المشكوك، وهو خصوص مرتكب الصغيرة فقط، وذلك لأن الخاص المتصل بالكلام يصير مانعا من انعقاد ظهور للعام في العموم حتي يقال بأن القدر المتيقن من الدليل المجمل المزاحم الأقوي هو خصوص مرتكب الكبيرة،
(٢٧٦)
صفحهمفاتيح البحث: الكرم، الكرامة (2)، الجواز (1)

في المقام جهتان: الجهة الأولي: المخصص اللفظي المجمل مفهوما

تخصيص العام بالمجمل الفصل الثاني في تخصيص العام بالمجمل نبحث في هذا المقام في جهتين:
الجهة الأولي: المخصص اللفظي المجمل مفهوما إذا كان الخاص مجملا بحسب المفهوم، فتارة يكون مرددا بين الأقل والأكثر، واخري بين المتبائنين، وعلي التقديرين إما أن يكون متصلا بالعام، وإما أن يكون منفصلا عنه، فالصور أربع:
منها: ما إذا كان الخاص مرددا بين الأقل والأكثر وكان متصلا بالعام، كقوله: أكرم العلماء إلا الفساق منهم، أو أكرم العلماء العدول، وتردد الفاسق بين الاختصاص بمرتكب الكبيرة أو الشمول لمرتكب الصغيرة أيضا.
ولا شبهة في هذه الصورة في عدم جواز الرجوع إلي العام بالنسبة إلي المورد المشكوك، وهو خصوص مرتكب الصغيرة فقط، وذلك لأن الخاص المتصل بالكلام يصير مانعا من انعقاد ظهور للعام في العموم حتي يقال بأن القدر المتيقن من الدليل المجمل المزاحم الأقوي هو خصوص مرتكب الكبيرة،
(٢٧٦)
صفحهمفاتيح البحث: الكرم، الكرامة (2)، الجواز (1)
فأصالة العموم بالنسبة إلي غيره محكمة، بل الكلام ما دام لم يتم لا يتبع ظهوره أصلا، بل الظهور الذي يجب اتباعه عند العقلاء هو الظهور الحاصل للكلام بملاحظة جميع قيوده وخصوصياته، فإذا فرض أن موضوع الحكم المجعول هو العالم غير الفاسق فلابد من إحراز هذا العنوان الذي هو بمنزلة الصغري في تطبيق الكبري عليه، وهذا واضح.
منها: هذه الصورة مع كون الخاص منفصلا عن العام، ربما يقال - كما في أكثر الكتب الأصولية - بجواز الرجوع إلي العام في هذه الصورة بالنسبة إلي المورد المشكوك دخوله في الخاص، لإجماله مفهوما، نظرا إلي أن العام قبل ورود التخصيص عليه انعقد له ظهور في العموم، ومن الواضح أنه لا يرفع اليد عن هذا الظهور إلا بسبب حجة أقوي منه، وحجية الخاص إنما هي بالنسبة إلي ما يعلم شموله له يقينا، لما عرفت من أن إحراز الصغري شرط في تطبيق الكبري عليه، فقوله: لا تكرم الفساق من العلماء، لا يكون حجة إلا بالنسبة إلي خصوص مرتكب الكبيرة، فبالنسبة إلي المورد المشكوك لم يقم حجة أقوي علي خلاف العام الذي انعقد له ظهور في العموم، فالواجب الرجوع إليه، كما لا يخفي.
وفي الدرر تنظر في ذلك وقال بإمكان أن يقال: إنه بعدما صارت عادة المتكلم جارية علي ذكر التخصيص منفصلا عن كلامه، فحال المنفصل في كلامه حال المتصل في كلام غيره، فكما أنه يحتاج في التمسك بعموم كلام سائر المتكلمين إلي إحراز عدم المخصص المتصل إما بالقطع أو بالأصل، كذلك يحتاج في التمسك بعموم كلام المتكلم المفروض إلي إحراز عدم المخصص المنفصل أيضا كذلك، فإذا احتاج العمل بالعام إلي إحراز عدم التخصيص بالمنفصل، فاللازم الإجمال فيما نحن فيه، لعدم إحراز عدمه لا بالقطع ولا بالأصل، أما
(٢٧٧)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الحج (3)
الأول: فواضح، وأما الثاني: فلما مضي من أن جريانه مخصوص بمورد لم يوجد ما يصلح لأن يكون مخصصا، والمسألة محتاجة إلي التأمل (1). انتهي.
هذا، ولا يخفي أن جريان العادة علي ذكر التخصيص منفصلا إنما يجدي بالنسبة إلي عدم جواز التمسك بالعام بمجرد صدوره من المتكلم، بل لابد من الفحص والبحث عن المخصص، وأما بالنسبة إلي عدم جواز الرجوع إليه بعد العلم بالتخصيص في المورد المشكوك انطباق المخصص عليه فلا بعد انعقاد ظهور له في العموم وعدم المزاحمة بالحجة الأقوي في المورد المشكوك كما بينا.
نعم، قد يشكل التمسك به في بعض المخصصات الواردة بلسان التفسير والشرح بحيث يكون ظاهرا في عدم جعل الحكم بنحو العموم الشامل لمورد التخصيص من الأول، مثل: قوله بعد الأمر بإكرام العلماء: ما أردت إكرام فساقهم، ونحو ذلك من التخصيصات التي تكون بلسان الحكومة والتفسير العام الواقع قبلها.
منها: ما إذا كان الخاص مرددا بين المتبائنين وكان منفصلا، والظاهر أنه لا يجوز الرجوع إلي العام في شئ من المحتملات، لأن العلم الإجمالي بخروج واحد منها مانع من جريان أصالة العموم، لأن جريانها بالنسبة إلي جميع الأطراف مخالف للعلم الإجمالي وفي بعضها دون بعض ترجيح من غير مرجح، وحينئذ فلو كان مفاد الخاص حكما تحريميا والعام حكما وجوبيا، يدور الأمر بين المحذورين، وإن كان مفاده الجواز ونفي الوجوب، فاللازم إكرام الجميع، لتوقف الامتثال اليقيني عليه.
١ - درر الفوائد، المحقق الحائري: 215.
(٢٧٨)
صفحهمفاتيح البحث: الجواز (3)

الجهة الثانية: المخصص اللفظي المجمل مصداقا

منها: هذه الصورة مع كون الخاص متصلا ويجري فيها حكم الصورة السابقة، كما هو واضح.
هذا كله فيما إذا كان الخاص مجملا مفهوما.
الجهة الثانية: المخصص اللفظي المجمل مصداقا وأما إذا كان مجملا بحسب المصداق بأن اشتبه فرد وتردد بين أن يكون مصداقا للخاص أو باقيا تحت العام للشبهة الخارجية، فلا يجوز التمسك بالعام، سواء كان الخاص متصلا أو منفصلا.
أما إذا كان المخصص متصلا، فلوضوح أنه لا ينعقد ظهوره حينئذ إلا في غير عنوان الخاص. وبعبارة أخري: يصير الموضوع لوجوب الإكرام أمر واحد، وهو العالم غير الفاسق، فالتمسك بالعام حينئذ يصير من قبيل التمسك به في الشبهة المصداقية لنفس العام، إذ لا فرق حينئذ بين أن يتردد أمر زيد مثلا بين أن يكون عالما أو لا، وبين أن يتردد أمره بعد العلم بكونه عالما بين أن يكون فاسقا أو لا، فكما لا يجوز التمسك به في الفرض الأول كذلك لا يجوز في الفرض الثاني، لأن عنوان غير الفاسق أيضا يكون جزءا للموضوع، وهذا واضح.
وأما إذا كان المخصص منفصلا، فالظاهر عدم جواز التمسك بالعام أيضا.
وقبل الخوض فيه لابد من بيان أن الكلام ممحض في خصوص العام والخاص، ولا ارتباط له بباب المطلق والمقيد أصلا. فما وقع من بعضهم من الخلط بينهما في هذا المقام ونظائره حيث قال - كما في التقريرات المنسوبة إلي المحقق النائيني - بأن ورود التخصيص بقوله: لا تكرم الفساق من العلماء، بعد ورود قوله: أكرم العلماء، يدل علي أن الموضوع للحكم يكون مركبا من العالم وعنوان الغير الفاسق، فكما لا يجوز التمسك به فيما إذا شك في الجزء الأول
(٢٧٩)
صفحهمفاتيح البحث: الكرم، الكرامة (1)، الجواز (5)

حول جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية

كذلك لا يجوز فيما إذا شك في الجزء الآخر (1)، مما لا يصح أصلا، لأن التخصيص ليس كالتقييد في تضييق دائرة الموضوع، فإن الموضوع في المثال هو جميع أفراد العالم بلا قيد إلا أن التخصيص يكشف عن عدم تعلق الإرادة الجدية بجميع ما هو مراد استعمالا، وقد عرفت أن المراد بالعام قبل ورود التخصيص وبعده هو جميع الأفراد، وإلا يلزم المجازية.
وبالجملة، فالموضوع في باب العلم هو الأفراد لا الطبيعة، كما في باب المطلق، والتخصيص لا يوجب التضييق، بخلاف التقييد.
حول جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه قد يقال بجواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص.
وقد استدل له بوجوه أجودها ما ذكره في الكفاية من أن الخاص إنما يزاحم العام فيما كان فعلا حجة، ومن المعلوم أنه حجة بالنسبة إلي من علم أنه من مصاديقه، وأما بالنسبة إلي الفرد المشتبه فلا يكون حجة، فلا يعارض العام فيه، ولا يزاحمه، فإنه يكون من قبيل مزاحمة الحجة بغير الحجة (2).
ولا يخفي فساده.
بيان ذلك: أن مناط حجية الدليل إنما هو باجتماع هذه المراتب الثلاثة فيه:
الأولي: كونه ظاهرا بحسب معناه اللغوي أو العرفي في المعني المقصود للمتكلم.
١ - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي ١: ٥٢٥.
٢ - كفاية الأصول: ٢٥٨ - 259.
(٢٨٠)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الحج (3)، الجواز (2)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
الثانية: أصالة الحقيقة التي تقتضي كون الظاهر مرادا له.
الثالثة: أصالة تطابق الإرادة الجدية مع الإرادة الاستعمالية بمعني كون المتكلم مريدا لمعناه الحقيقي جدا بحيث لا يكون هازلا، ومع كون الدليل فاقد الشئ من هذه المراتب لا يصح الاحتجاج به علي العبد، كما هو واضح.
وحينئذ فنقول: إن هنا دليلين: أحدهما: قوله: أكرم العلماء، ثانيهما: قوله:
لا تكرم الفساق منهم، فلو كان الدليل منحصرا في الأول، لكانت المراتب الثلاثة مجتمعة فيه، وحاكمة بوجوب إكرام جميع العلماء جدا، إلا أن جريانها في الدليل الثاني يقتضي كون الإرادة الجدية متعلقة بالزجر عن إكرام الفساق من العلماء، فيرفع اليد بسببه عن الأصل العقلائي الجاري في الأول مع قطع النظر عن الثاني، فيقتصر في جريانه علي المورد الخارج عن الدليل المخصص واقعا، فيظهر أن هنا إرادتين جديتين: إحداهما تعلقت بوجوب إكرام العالم الغير الفاسق الواقعي، والاخري بالزجر عن إكرام الفاسق الواقعي، فإذا شك في فرد أنه هل يكون عالما فاسقا أو غير فاسق؟ فمرجع الشك إلي أنه هل يكون داخلا في المراد بالإرادة الجدية الأولية أو داخلا في المراد بالإرادة الجدية الثانوية؟ فكما أنه لا يجوز التمسك بالخاص والرجوع إليه - كما هو المفروض - للشك في تعلق الإرادة به كذلك لا يجوز التمسك بالعام أيضا، للشك في تعلق الإرادة الجدية به، إذ لا فرق بينهما من هذه الجهة، ومجرد كونه داخلا في العموم بحسب الظاهر لا يقتضي حجيته بالنسبة إليه بعدما عرفت من توقفها علي تعلق الإرادة الجدية به أيضا، وهي مقصورة علي العالم الغير الفاسق.
ومن هنا يعرف فساد ما ذكره: من أن الخاص لا يعارض العام، لأنه من قبيل مزاحمة الحجة بغير الحجة، فإنك عرفت أن العام أيضا لا يكون حجة حتي يكون من ذاك القبيل، لقصوره عن شموله بما هو حجة، لأن حجيته مقصورة
(٢٨١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الكرم، الكرامة (1)، الحج (2)، الجواز (2)

وجه آخر لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية

علي غير مورد الخاص، فعدم شمول العام له، لقصور فيه، لا لمزاحمته بالخاص حتي يستشكل عليه بما ذكر.
وبالجملة، فبناء العقلاء لا يكون علي العمل بالدليل فيما إذا شك في كونه متعلقا للإرادة الجدية، ولذا لا يعملون بالخاص في الفرد المشتبه، ولا بالعام في الفرد الذي شك كونه عالما.
هذا هو غاية ما يمكن أن يقال في تقريب مراد الكفاية.
هذا، ولا يرد نظير هذا الكلام في العام المخصص بالمنفصل المردد بين الأقل والأكثر بحسب المفهوم الذي قلنا بجواز الرجوع في المورد المشكوك إلي العام، وذلك لأن دليل الخاص فاقد للمرتبة الأولي التي هي عبارة عن الظهور، لأن معناه اللغوي مردد بينهما، فحجيته مقصورة علي القدر المتيقن، وهو مرتكب الكبيرة في المثال، فيرفع اليد عن العام بالنسبة إلي خصوص المتصف بهذه الصفة، ويبقي حجة في غير مورده، فلا إشكال في جواز الرجوع إليه.
ثم إنه لا يخفي عدم الفرق فيما ذكرنا بين كون المخصص لفظيا أو لبيا، إذ لا فرق بين أن يقول المولي: لا تكرم الفساق من العلماء، وبين أن يحكم العقل بذلك، إذ حكم العقل عبارة عن الكبريات الكلية، فالإرادة الجدية أيضا علي طبقها، فيجري الكلام المتقدم بعينه.
وجه آخر لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ثم إنه حكي عن مقالات المحقق العراقي وجه آخر لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص، وهو: أن حجية الظهور منحصرة في الدلالة التصديقية للكلام الملقي من المتكلم، ولا تتحقق تلك الدلالة إلا بعد كون المتكلم بصدد إبراز مرامه بكلامه وإفهام غرضه به، ويتوقف ذلك علي
(٢٨٢)
صفحهمفاتيح البحث: الحج (1)، دولة العراق (1)، الجواز (3)
تصوره وثبوته عنده، ومع الشك - كما هو المفروض في المقام - لا يتعلق به غرضه حتي يفيده بكلامه، فإذا كان شاكا في كون زيد عالما كيف يتعلق غرضه بإكرامه؟! ومع عدمه لا يكون المقصود باللفظ إفهامه، ومعه لا يكون الظهور حجة أصلا بالنسبة إلي المورد الذي لم يتعلق الغرض بإفهامه، ونسب هذا الوجه إلي الشيخ الأنصاري (قدس سره) (1).
وأنت خبير بأنه - مضافا إلي أن كلام الشيخ لا يستفاد منه هذا الوجه، بل مفاده يرجع إلي ما ذكرنا مما عرفت - نقول: هذا الوجه لا يتم أصلا، وذلك لأن مقصود المتكلم إنما هو بيان الكبريات الكلية، والجهل بصغرياتها خارجا لا يضر بتعلق الغرض بها ثم إفادتها باللفظ، لأن من الواضح أن إلقاء الحكم الكلي لو كان متوقفا علي ثبوت صغراه عنده والعلم بحالها يلزم أن لا يتحقق في الخارج أصلا، لقلة العلم بالصغريات تفصيلا مع أن كثرته مما لا يكاد ينكر.
وسره ما عرفت من أن تعلق الغرض بالكبريات لا يستلزم العلم بالصغريات أصلا.
ألا تري أنه لو كان بعض الصغريات مشكوكا عند المتكلم دون المخاطب، هل يرضي أحد بخروج ذلك البعض وعدم شمول الحكم الكلي له؟ مثلا لو أمر المولي عبده بإنقاذ أولاده من الغرق وشك في بعضهم أنه من أولاده أو لا، لظلمة أو لغيرها مع كون حاله معلوما عند العبد وأنه منهم، فهل يقول أحد من العقلاء بعدم وجوب إنقاذه علي العبد وإن كان يعلم بأنه ولد المولي؟ معتذرا بجهل المولي حاله، بل يحكم بالوجوب العقلاء كافة ولو فيما علم المولي بأنه ليس ولده، وهذا واضح.
١ - مقالات الأصول ١: ٤٤٣.
(٢٨٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الجهل (1)، الوجوب (1)

تفصيل المحقق النائيني في المخصص اللبي

تفصيل المحقق النائيني في المخصص اللبي ثم إنه فصل المحقق النائيني (قدس سره) - علي ما في التقريرات - في المخصص اللبي بين ما إذا كان الذي لم يتعلق به إرادة المولي من العناوين الغير الصالحة لأن تكون قيدا للموضوع وكان إحرازها من وظيفة الآمر بأن كان من قبيل الملاكات وبين ما إذا كان ذلك من العناوين التي لا تصلح إلا أن تكون قيدا للموضوع ولم يكن إحراز انطباقها علي مصاديقها من وظيفة الآمر والمتكلم، بل من وظيفة المأمور والمخاطب، فقال بالجواز في الأول دون الثاني.
مثال الثاني: قوله (عليه السلام): " انظروا إلي رجل قد روي حديثنا … " (1)، فإنه عام يشمل العادل وغيره، إلا أنه قام الإجماع علي اعتبار العدالة، فتكون قيدا للموضوع، ولا يجوز الرجوع إلي العموم عند الشك في عدالة مجتهد، كما إذا كان اعتبار العدالة بدليل لفظي.
ومثال الأول: قوله (عليه السلام): " اللهم العن بني أمية قاطبة " (2) حيث يعلم أن الحكم لا يشمل المؤمن منهم، لأن اللعن لا يصيب المؤمن، فالمؤمن خرج عن العام، لانتفاء ملاكه، ولا يكون قيدا للموضوع، فإن مثل حكم اللعن لا يصلح أن يعم المؤمن حتي يكون خروجه من باب التخصيص، ويكون إحراز أن في بني أمية مؤمنا إنما هو من وظيفة المتكلم حيث لا يصح له إلقاء العموم إلا بعد إحراز ذلك، فلو فرض أنه علمنا بكون خالد بن سعيد مثلا مؤمنا، كان ذلك موجبا لعدم
١ - الكافي ١: ٦٧ / ١٠، وسائل الشيعة ٢٧: ١٣٦، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب ١١، الحديث ١.
٢ - كامل الزيارات: ٣٣٢، الباب ٧١، مصباح المتهجد: ٧١٦.
(٢٨٤)
صفحهمفاتيح البحث: بنو أمية (1)، خالد بن سعيد (1)، الجواز (1)، كتاب كامل الزيارات لجعفر بن محمد بن قولويه (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)
اندراجه تحت العموم، ولكن المتكلم لم يبينه لمصلحة هناك اقتضت ذلك، فلا يجوز لنا لعنه، لعلمنا بعدم ثبوت الملاك فيه، وأما إذا شككنا في إيمان أحد منهم، فاللازم الأخذ بالعموم وجواز لعنه، لأنه من نفس العموم يستكشف أنه ليس بمؤمن، وأن المتكلم أحرز ذلك حيث إنه من وظيفته، فلو لم يحرز أن المشكوك غير مؤمن، لما ألقي العموم كذلك، فأصالة العموم حينئذ جارية، ويكون المعلوم الخروج من التخصيص الأفرادي حيث إنه لم يؤخذ عنوان قيدا للموضوع (1). انتهي.
وأنت خبير بأن محل النزاع في هذا المقام: هو ما إذا كان الخاص عنوانا كليا ذا مصاديق وأفراد، غاية الأمر كون بعض المصاديق مرددا، وأما إذا كان التخصيص أفراديا، فلا إشكال في جواز التمسك بالعام، لأن مرجع الشك إلي الشك في التخصيص الزائد، وحينئذ نقول: إن كان الخارج عن عموم قوله:
" اللهم العن بني أمية قاطبة " هو عنوان المؤمن، فمن الواضح عدم الفرق بينه وبين سائر الموارد، كما هو واضح، وإن كان التخصيص أفراديا، فالقول بالجواز فيه ليس تفصيلا في محل النزاع، كما عرفت.
ثم إنه قد استدل أيضا علي الجواز في مورد النزاع: بأن قول القائل: أكرم العلماء، يدل بعمومه الأفرادي علي وجوب إكرام كل واحد من العلماء، وبإطلاقه علي سراية الحكم إلي كل حالة من الحالات التي تفرض للموضوع، ومن جملة حالاته كونه مشكوك الفسق والعدالة، كما أن من جملة حالاته كونه معلوم العدالة أو معلوم الفسق، وخرج بقوله: لا تكرم الفساق من العلماء، معلوم الفسق منهم، لا لمدخلية العلم في الموضوع، بل لأن المعلوم خروج معلوم
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 536 - 539.
(٢٨٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، بنو أمية (1)، الجواز (2)، الوجوب (1)
الفسق، ولا يعلم خروج الباقي، فمقتضي أصالة العموم والإطلاق بقاء المشكوك تحت الحكم هذا.
وهذا الدليل أوضح فسادا من الدليل المتقدم، وذلك لأن موضوع حرمة الإكرام إنما هو الفاسق الواقعي، لا الفاسق المعلوم، وحينئذ فلو قيل بشمول حكم العام ل " زيد " الذي هو مشكوك الفسق، يلزم اجتماع حكمين واقعيين -: أحدهما إيجابي، والآخر تحريمي مثلا - علي إكرامه لو كان في الواقع فاسقا، فهو من حيث إنه مشكوك الفسق يكون إكرامه واجبا بمقتضي العام، ومن جهة أنه فاسق واقعا يكون إكرامه محرما بمقتضي دليل الخاص هذا، ولو صح ما ذكره يلزم تعلق حكمين بإكرامه من جهة واحدة، وذلك لأن الإطلاق الأحوالي كما يجري في دليل العام يجري في الخاص أيضا، لأن موضوعه هو الفاسق الواقعي، سواء كان معلوم الفسق أو مشكوكه، فزيد من حيث إنه مشكوك الفسق كما يجب إكرامه بمقتضي إطلاق العام كذلك يكون مقتضي دليل الخاص حرمة إكرامه، ومن الواضح استحالة اجتماع الحكمين.
وتوهم: اندفاع الإشكال الأول بأن اجتماعهما في المقام نظير اجتماع الحكم الواقعي مع الظاهري، وذلك، لأن حكم الخاص غير مقيد بخلاف العام، فإن شموله له إنما هو من حيث كونه مشكوك الفسق، فموضوعه مقيد بالشك دون حكم الخاص.
مندفع: بأن الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري من جهة أن الشك في الأول مأخوذ في موضوع الثاني، وهنا ليس كذلك، لأن شمول العام له ليس لكونه مشكوك الحكم، بل لكونه مشكوك الفسق، فلا ربط لهذا المقام بذلك الباب.
والذي يسهل الخطب أن معني الإطلاق ليس كما توهمه المستدل، بل هو
صفحه(٢٨٦)

ينبغي التنبيه علي أمور: الأمر الأول: التمسك بالعام مع كون الخاص معللا

- كما ذكرناه مرارا - عبارة عن أن تمام الموضوع للحكم المجعول هو المذكور بلا مدخلية شئ آخر، لا أنه قد لاحظ السريان والشمول، فإنه حينئذ لايبقي فرق بينه وبين العموم أصلا، وهذا المورد أيضا من الموارد التي وقع الخلط فيها بينهما، فتأمل، لكي لا تخلط بينهما.
وينبغي التنبيه علي أمور:
الأمر الأول: التمسك بالعام مع كون الخاص معللا إذا خصص العام ببعض أفراده علي نحو التخصيص الأفرادي معللا إخراج الفرد المخرج بعلة عامة له ولغيره، مثل: ما إذا خصص قوله: أكرم كل رجل عالم، بقوله: لا تكرم زيدا، معللا بأنه فاسق، فهل يوجب ذلك أن يكون المخصص في الحقيقة هو عنوان الفاسق، فيجري فيه ما تقدم فيما تردد أمر بعض أفراد العام بين انطباق عنوان الخاص عليه وعدمه من عدم جواز التمسك بالعام بالنسبة إليه، أو أن التخصيص هنا أفرادي ولا يكون المخرج عنوانا كليا، فيجوز التمسك به، لأن مرجعه إلي الشك في التخصيص الزائد، وهو منفي بأصالة العموم؟ وجهان، والظاهر: الأول، لمساعدة العرف وشهادته بكون المخرج هو عنوان الفاسق في المثال، كما لا يخفي.
الأمر الثاني: العامين من وجه المتنافيي الحكم إذا كان هناك عامان من وجه، مثل: قوله: أكرم العلماء ولا تكرم الفساق، فبناء علي كونه من صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي يكون غير مرتبط بالمقام، وأما بناء علي ثبوت التعارض بينهما وتقديم أحد الدليلين بالنسبة إلي مورد الاجتماع، فلا إشكال في عدم جواز التمسك بالعام في الفرد المشكوك
(٢٨٧)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (1)، الكرم، الكرامة (2)، الشهادة (1)، الجواز (2)

الأمر الثاني: في العامين من وجه المتنافيي الحكم

- كما ذكرناه مرارا - عبارة عن أن تمام الموضوع للحكم المجعول هو المذكور بلا مدخلية شئ آخر، لا أنه قد لاحظ السريان والشمول، فإنه حينئذ لايبقي فرق بينه وبين العموم أصلا، وهذا المورد أيضا من الموارد التي وقع الخلط فيها بينهما، فتأمل، لكي لا تخلط بينهما.
وينبغي التنبيه علي أمور:
الأمر الأول: التمسك بالعام مع كون الخاص معللا إذا خصص العام ببعض أفراده علي نحو التخصيص الأفرادي معللا إخراج الفرد المخرج بعلة عامة له ولغيره، مثل: ما إذا خصص قوله: أكرم كل رجل عالم، بقوله: لا تكرم زيدا، معللا بأنه فاسق، فهل يوجب ذلك أن يكون المخصص في الحقيقة هو عنوان الفاسق، فيجري فيه ما تقدم فيما تردد أمر بعض أفراد العام بين انطباق عنوان الخاص عليه وعدمه من عدم جواز التمسك بالعام بالنسبة إليه، أو أن التخصيص هنا أفرادي ولا يكون المخرج عنوانا كليا، فيجوز التمسك به، لأن مرجعه إلي الشك في التخصيص الزائد، وهو منفي بأصالة العموم؟ وجهان، والظاهر: الأول، لمساعدة العرف وشهادته بكون المخرج هو عنوان الفاسق في المثال، كما لا يخفي.
الأمر الثاني: العامين من وجه المتنافيي الحكم إذا كان هناك عامان من وجه، مثل: قوله: أكرم العلماء ولا تكرم الفساق، فبناء علي كونه من صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي يكون غير مرتبط بالمقام، وأما بناء علي ثبوت التعارض بينهما وتقديم أحد الدليلين بالنسبة إلي مورد الاجتماع، فلا إشكال في عدم جواز التمسك بالعام في الفرد المشكوك
(٢٨٧)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (1)، الكرم، الكرامة (2)، الشهادة (1)، الجواز (2)
انطباق عنوان الخاص عليه، لعدم الفرق بينه وبين سائر الموارد، كما هو واضح ولو فرض كونهما من قبيل الدليلين المتزاحمين بمعني ثبوت المقتضيين في مورد الاجتماع، غاية الأمر ترجيح أحدهما، لأقوائية ملاكه من ملاك الآخر، ففي جواز التمسك في الفرد المشكوك انطباق عنوان المزاحم الأقوي عليه بالدليل الآخر الذي ينطبق عنوان عليه قطعا وعدمه وجهان مبنيان علي أن الحكم في المتزاحمين بالنسبة إلي ما هو ملاكه أضعف هل هو حكم إنشائي أو أنه باق علي فعليته؟ غاية الأمر أن المكلف معذور في مخالفته لصرف قدرته في المزاحم الأقوي.
فعلي الأول لا يجوز التمسك بالدليل الآخر أيضا، لأن الإرادة الجدية فيه مقصورة بما عدا مورد المزاحم، ولا يعلم تعلقها بالفرد المشكوك، كما أنه لا يعلم شمول الدليل الآخر له أيضا.
وعلي الثاني يجوز التمسك به، بل لا مجال لمخالفته بعد كونه حكما فعليا، وإحراز كونه معذورا متوقف علي شمول الدليل الآخر له، وهو مشكوك، ومن المعلوم أن الشك في العذر لا يبيح مخالفة التكليف الفعلي المتوجه إليه، كما إذا شك في كونه قادرا علي امتثال سائر التكاليف الفعلية المتوجهة إليه، فإن العقل لا يحكم بكونه معذورا في مخالفتها أصلا، كما لا يخفي.
هذا وقد عرفت في مبحث الترتب أن الأقوي كون الحكمين المتزاحمين فعليين، غاية الأمر كونه معذورا في مخالفة أحدهما لو صرف قدرته في امتثال الآخر، وأما مع مخالفة كليهما فيستحق العقوبتين، وحينئذ فاللازم في المقام بناء عليه جواز التمسك بالدليل الذي ملاكه أضعف في المورد المشكوك، كما عرفت.
(٢٨٨)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الجواز (3)

الأمر الثالث: إحراز المصداق بالأصل في الشبهة المصداقية..

الأمر الثالث: إحراز المصداق بالأصل في الشبهة المصداقية هل يجوز إحراز كون الفرد المشكوك انطباق عنوان الخاص عليه من أفراد العام بما هو حجة بالأصل الموضوعي مطلقا، أو لا يجوز كذلك، أو يفصل بين الأصول العدمية الأزلية وغيرها؟ وجوه بل أقوال:
صريح محكي المقالات هو الوجه الثاني.
قال في محكي كلامه ما ملخصه: إن التخصيص لا يوجب تضييقا في العام حتي بالنسبة إلي الإرادة الجدية، لأنه بمنزلة موت بعض الأفراد، فكما أن موت بعض أفراده لا يوجب تغييرا في العام بل هو باق علي عمومه كذلك التخصيص، لأن موضوع الحكم بعده أيضا هو كل عالم مثلا، وحينئذ فهو لا يوجب أن يكون العام معنونا بعنوان غير الخاص حتي يثبت ذلك العنوان بالأصول العدمية، فاستصحاب عدم فسق زيد - سواء كان من الأصول الأزلية أو كان استصحابا لحالته السابقة التي علم فيها بعدالته وعدم كونه فاسقا - إنما يجري عليه نفي الحكم المترتب علي الفساق، ولا يثبت به حكم العام، لكونه لازما عقليا، كما هو واضح.
وقد عرفت: أن العام لا يكون معنونا بغير عنوان الخاص حتي يثبت بالاستصحاب ذلك العنوان، فيترتب عليه حكم العام.
نعم لو كان رفع الشك في المورد المشكوك بيد الشارع، كما في الصلح والشرط المشكوك كونهما مخالفين للكتاب والسنة فيبطلان أو موافقين لهما فيصحان، لا بأس بالرجوع إلي عمومات أدلة الصلح والشرط (1). انتهي.
١ - مقالات الأصول ١: ٤٤٤ - 445.
(٢٨٩)
صفحهمفاتيح البحث: صلح (يوم) الحديبية (2)، يوم عرفة (1)، الحج (1)، الجواز (2)
أقول: مما ذكرنا في مسألة أن التخصيص لا يوجب مجازية العام، ظهر لك أن التخصيص وإن لم يوجب تضييقا في موضوع حكم العام بحيث ينقلب الموضوع بعده كما في المطلق والمقيد، إلا أنه يكشف عن كون الإرادة الجدية مقصورة علي ما عدا مورد الخاص، وليس التخصيص بمنزلة موت بعض الأفراد الذي لا يوجب تغييرا في العام.
وسره: أن قوله: أكرم كل عالم، إنما يشمل علي حكم واحد متعلق بجميع أفراد العالم، فهو قضية حقيقية يكون المحمول فيها ثابتا علي جميع أفراد الموضوع المحققة والمقدرة، وموت بعض أفراد الموضوع لا يضر بها، إذ ليس لكل مصداق حكم علي حدة حتي ينتفي بانتفائه، بل هو حكم واحد ثابت علي الجميع، غاية الأمر اختلافه سعة وضيقا بالموت وعدمه، ولكن ذلك لا يوجب انقلاب الموضوع، بخلاف التخصيص، فإنه يوجب قصر الموضوع في الإرادة الجدية علي ما عدا مورد الخاص وإن لم يوجب تقييد موضوع الحكم المنشأ متعلقا بالعموم.
وبالجملة، فقياس التخصيص علي موت بعض المصاديق فاسد جدا.
وأما ما ذكره من جواز التمسك في المثالين فقد عرفت أن النزاع في المقام في الشبهة المصداقية للمخصص التي كان منشأها اشتباه الأمور الخارجية فإثبات الجواز في غير المقام من الشبهات الحكمية ليس تفصيلا في مورد النزاع، كما هو واضح.
هذا، وصريح الكفاية هو القول الأول (1).
وحكي الأستاذ عن شيخه المحقق المعاصر أنه قال في مجلس درسه
١ - كفاية الأصول: ٢٦١.
(٢٩٠)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الوسعة (1)، الكرم، الكرامة (1)، الموت (1)، الجواز (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

تحقيق في المقام

في تقريب هذا القول ما ملخصه: أن العوارض علي قسمين: قسم يعرض الماهية مع قطع النظر عن الوجودين: الذهني والخارجي بحيث لو كان للماهية تقرر وثبوت في غير عالم الوجود، لكان يعرضها، كالزوجية العارضة لماهية الأربعة في عالم التقرر، وقسم يعرض الوجود كالأبيضية الحاصلة للجسم الموجود، والفاسقية والقرشية وغيرها من العوارض القائمة بالوجود، وحينئذ نقول: لا بأس في القسم الثاني بجريان استصحاب عدم تلك الأوصاف بالنسبة إلي موصوفها وإن كان الموصوف حينما يتحقق لا يخلو من اتصافه بذلك الوصف، بمعني أنه لو كان متصفا به، لكان ذلك من أول وجوده وتحققه، كوصف القرشية، لإمكان أن يقال: هذه المرأة - مشيرا إلي ماهيتها - لم تكن قبل الوجود قرشية، فيستصحب ذلك إلي زمان الوجود.
تحقيق في المقام هذا، وتحقيق الحال في هذا المقام - بحيث يظهر حال ما قيل أو يمكن أن يقال - يتوقف علي بيان حال القضايا ومناط الحمل.
فالكلام يتم في ضمن مقدمات:
الأولي: أقسام القضايا بلحاظ النسبة فنقول: قد اشتهر بينهم بل اتفقوا علي أن القضية متقومة بثلاثة أجزاء:
الموضوع والمحمول والنسبة، ولكن لا يخفي أن هذا المعني لا يصح علي نحو الكلية، فإن القضايا مختلفة، فبعضها مشتملة علي النسبة المتقومة بالمنتسبين، وبعضها بل أكثرها خالية عن النسبة بين الشيئين.
توضيح ذلك: أن القضايا الحملية علي قسمين: الحمليات المستقيمة الغير
(٢٩١)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (1)

وهو يتوقف علي مقدمات: الأولي: أقسام القضايا بلحاظ النسبة

في تقريب هذا القول ما ملخصه: أن العوارض علي قسمين: قسم يعرض الماهية مع قطع النظر عن الوجودين: الذهني والخارجي بحيث لو كان للماهية تقرر وثبوت في غير عالم الوجود، لكان يعرضها، كالزوجية العارضة لماهية الأربعة في عالم التقرر، وقسم يعرض الوجود كالأبيضية الحاصلة للجسم الموجود، والفاسقية والقرشية وغيرها من العوارض القائمة بالوجود، وحينئذ نقول: لا بأس في القسم الثاني بجريان استصحاب عدم تلك الأوصاف بالنسبة إلي موصوفها وإن كان الموصوف حينما يتحقق لا يخلو من اتصافه بذلك الوصف، بمعني أنه لو كان متصفا به، لكان ذلك من أول وجوده وتحققه، كوصف القرشية، لإمكان أن يقال: هذه المرأة - مشيرا إلي ماهيتها - لم تكن قبل الوجود قرشية، فيستصحب ذلك إلي زمان الوجود.
تحقيق في المقام هذا، وتحقيق الحال في هذا المقام - بحيث يظهر حال ما قيل أو يمكن أن يقال - يتوقف علي بيان حال القضايا ومناط الحمل.
فالكلام يتم في ضمن مقدمات:
الأولي: أقسام القضايا بلحاظ النسبة فنقول: قد اشتهر بينهم بل اتفقوا علي أن القضية متقومة بثلاثة أجزاء:
الموضوع والمحمول والنسبة، ولكن لا يخفي أن هذا المعني لا يصح علي نحو الكلية، فإن القضايا مختلفة، فبعضها مشتملة علي النسبة المتقومة بالمنتسبين، وبعضها بل أكثرها خالية عن النسبة بين الشيئين.
توضيح ذلك: أن القضايا الحملية علي قسمين: الحمليات المستقيمة الغير
(٢٩١)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (1)
المأولة، مثل: زيد موجود، والإنسان حيوان ناطق، والحمليات المأولة، مثل:
زيد له البياض، وعمرو علي السطح، ومناط الحمل في الأول هو الهوهوية، ولا يكون بين الموضوع والمحمول فيها نسبة، لأن النسبة إنما تتحقق بين الشيئين المتغايرين، إذ لا يعقل تحققها بين الشئ ونفسه.
وحينئذ نقول: إن القضية إنما تحكي عن الواقع، فلابد من ملاحظته ليظهر حالها، وملاحظته تقضي بعدم كون " زيد " و " موجود " في الواقع شيئين، وعدم كون الإنسان شيئا والحيوان الناطق شيئا، وكذا لا يكون في الواقع مغايرة بين الجسم وبين الأبيض، ومع اتحادهما بحسب الواقع لا يعقل النسبة بينهما، لما عرفت من أن قوامها إنما هو بالمنتسبين، وإذا كان الواقع كذلك فالقضية المعقولة وكذا الملفوظة إنما هما كذلك، لأنهما حاكيتان عنه، ومرآتان له، فلا يعقل النسبة فيهما، بل ملاك الحمل فيها إنما هو الهوهوية والاتحاد المنافي للمغايرة المحققة للنسبة، بل نقول: إن الأصل في الحمليات إنما هو هذا القسم الذي لا يكون فيه نسبة، ولذا نسميها بالحمليات الغير المأولة.
وأما غيرها من الحمليات فمشتملة علي النسبة، لأن البياض لا يعقل أن يتحد مع زيد ويتحقق بينهما الهوهوية، نعم له ارتباط وإضافة إليه باعتبار كونه محلا له، وهو حال فيه عارض عليه، وهذا القسم هو الحمليات المأولة، نحو: زيد في الدار، ووجه التسمية بذلك أنها مأولة، لأن تقديره: زيد كائن في الدار، إذ لا يحمل المحمول فيها علي موضوعها بدون تقدير الكون والحصول ونحوهما.
هذا في الموجبات، وأما السوالب: فالتحقيق أنها خالية عن النسبة مطلقا، لما ذكرنا من أنها أيضا حاكية عن الواقع، ومن الواضح أنه خال عن النسبة، فقوله: زيد ليس بقائم، يرجع إلي أن الواقع خال عن النسبة بين زيد
(٢٩٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)

الثانية: مناط الصدق والكذب في القضايا

وبين القيام، لا أنه له نسبة إلي عدم القيام، فهذه القضايا متضمنة لسلب الحمل، لا أنها يكون السلب فيها محمولا.
ثم إن ما ذكرنا إنما هو في الحمليات الغير الموجبة المأولة، وأما السوالب الغير المأولة: فالسلب فيها إنما يتعلق بالهوهوية، بمعني أن السوالب علي قسمين أيضا: قسم يتعلق السلب بالهوهوية، كزيد ليس بموجود، وقسم يكون السلب واردا علي النسبة، كقوله: زيد ليس له القيام، فقولنا بخلوها عن النسبة إنما يكون النظر فيه إلي السوالب التي لو كانت موجبات تكون فيها النسبة، ضرورة أن غيرها لا يتوهم فيها النسبة بعد منعها في الموجبات منها، كما لا يخفي.
الثانية: مناط الصدق والكذب في القضايا ثم إن مما ذكرنا ظهر أن المناط في كون القضية محتملة للصدق والكذب ليس كون نسبتها تامة في مقابل النسبة الناقصة، كما هو المعروف، لما عرفت من خلو أكثر القضايا عن النسبة حتي تكون تامة أو غيرها، بل المناط فيه هي الحكاية التصديقية المقابلة للحكاية التصورية، فإن الحاكي عن الواقع قد يحكي عنه تصورا بمعني أنه يوقع في ذهن المخاطب تصور الواقع، مثل: قوله:
زيد الذي هو قائم، وقد يحكي عنه تصديقا، بمعني أنه يؤثر بالنسبة إلي المخاطب التصديق بها نفيا أو إثباتا، مثل قوله: زيد قائم، أو: زيد له القيام، فالملاك في احتمال القضية للصدق والكذب هو هذه الحكاية التصديقية لا النسبة التامة، لما عرفت، والدال علي تلك الحكاية إنما هو تركيب الجمل الخبرية وهيئتها الموضوعة بإزاء ذلك.
كما أن مما ذكرنا ظهر أيضا أن الملاك في كون القضية صادقة ليس هو أن
(٢٩٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الصدق (2)

الثالثة: في القضايا المفتقرة إلي وجود الموضوع

يكون لنسبتها واقع تطابقه، كما هو المعروف، لما عرفت من خلو أكثر القضايا عن النسبة بحسب الواقع، فلا يكون لها بحسبه نسبة حتي طابقتها، بل المناط هو تطابقها مع نفس الواقع ونفس الأمر، بمعني أن الواقع لو كان زيد مثلا موجودا، لكانت الحكاية عنه بقوله: زيد موجود، حكاية صادقة، لأن الواقع مشتمل علي الهوهوية والاتحاد بينهما، وإن لم يكن كذلك، لكانت كاذبة، لعدم تحققها في الواقع.
ثم لا يخفي جريان هذا المعني في السوالب أيضا، فإنها وإن لم يكن لها واقع بل قد يصدق مع عدم الموضوع أيضا، إلا أن واقعها هو خلو صفحة الواقع عن الهوهوية أو النسبة بين موضوعها ومحمولها، فصدق قوله: زيد ليس بقائم، إنما هو بخلو الواقع عن الاتحاد بينهما، كما أن صدق قوله: زيد ليس له البياض، إنما هو بخلوه عن النسبة والربط بينهما.
الثالثة: في القضايا المفتقرة إلي وجود الموضوع إذا عرفت ذلك، فاعلم أن القضية الموجبة قد تكون محصلة، وقد تكون معدولة، والمراد بالثاني هو أن يحمل المحمول السلبي علي الموضوع، مثل قوله: زيد لا قائم.
وهذان القسمان يجريان في السوالب أيضا، فإنها أيضا قد تكون محصلة، وقد تكون معدولة، والمعدولة مطلقا قد تكون معدولة الموضوع، وقد تكون معدولة المحمول، وقد تكون معدولة الطرفين، وللقضية الموجبة قسم ثالث يسمي بالموجبة السالبة المحمول، وهو: أن يحمل القضية السلبية علي الموضوع، مثل قوله: زيد هو الذي ليس بقائم.
ولا يخفي أن القضايا الموجبة علي أقسامها الثلاثة تحتاج إلي وجود
(٢٩٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، التصديق (1)، الصدق (1)

الرابعة: اعتبارات موضوع العام المخصص

الموضوع، فإن ثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له، بخلاف القضايا السالبة، فإنها تصدق مع عدم الموضوع أيضا، كما هو واضح.
الرابعة: اعتبارات موضوع العام المخصص إذا عرفت ذلك كله، فاعلم أن التخصيص وإن لم يوجب تقييد حكم العام بحيث يوجب أن يكون الحكم المنشأ متعلقا بغير مورد الخاص، إلا أنه يوجب تضييق الموضوع في الإرادة الجدية، وتخصيصه بغير مورده، فقوله: أكرم العلماء، بعد تخصيصه بلا تكرم الفساق منهم، يكون المراد به هو إكرام العلماء الغير الفساق، وحينئذ نقول: إن أخذ هذا الأمر العدمي في الموضوع يمكن أن يكون نظير القضية الموجبة المعدولة المحمول بحيث يكون الأمر السلبي محمولا عليه ووصفا له، فيصير الموضوع حينئذ هو إكرام العلماء الموصوفين بغير الفسق، ويمكن أن يكون نظير القضية الموجبة السالبة المحمول، فيكون القيد كالمحمول فيها قضية سالبة، فيصير الموضوع حينئذ هو إكرام العلماء الذين لا يكونون فاسقين.
وأما احتمال أن يكون أخذ القيد العدمي في المقام نظير القضية السالبة المحصلة الصادقة مع عدم الموضوع بحيث يكون الموضوع في المقام هو:
العالم ليس بفاسق، بحيث لا ينافي عدم الموضوع، فمندفع بأن هذا النحو من الموضوع لا يعقل أن يكون موضوعا للأحكام الشرعية، فإنه لا يعقل إيجاب إكرام العالم ليس بفاسق الصادق مع عدم العلم أيضا كما هو واضح.
نعم يمكن أن يؤخذ موضوعه مفروض الوجود بأن يقال: العالم الموجود ليس بفاسق، مثل أن يقال: زيد الموجود ليس بقائم، فإن مع فرض وجود الموضوع ينحصر فرض صدق القضية في عدم ثبوت المحمول له في الواقع،
(٢٩٥)
صفحهمفاتيح البحث: الأحكام الشرعية (1)، يوم عرفة (1)، الصدق (1)، التصديق (1)
وحينئذ نقول: لا مجال لجريان الاستصحاب في المرأة التي شك في كونها قرشية لإثبات عدم كونها كذلك، فيترتب عليها حكم المرأة الغير القرشية، وهو رؤيتها الدم إلي خمسين.
أما علي الاحتمال الأول - الذي يكون مرجعه إلي أن الموضوع هي المرأة المتصفة بوصف الغير القرشية - فواضح، لأن ثبوت الوصف إنما يتوقف علي تحقق الموصوف وثبوته، وهذه المرأة المتولدة في الحال لم تكن متحققة في الأزل فضلا عن أن تكون متصفة بوصف، فليس للاستصحاب حالة سابقة أصلا.
وكذا علي الاحتمال الثاني الذي مرجعه إلي جعل نظير القضية السالبة وصفا للموضوع، فإن اتصافه به مشروط بوجوده، والمعلوم خلافه في الأزل، فضلا عن اتصافه به، فلا مجال للاستصحاب أصلا.
وأما علي الاحتمال الأخير الذي كان مرجعه إلي أن أخذ القيد العدمي لا علي سبيل الوصف، ولكن كان موضوعه مفروض الوجود، فالظاهر أيضا عدم جريان الاستصحاب، لأن المفيد في المسألة إنما هو استصحاب عدم قرشية مرأة خاصة، والمعلوم أن الموضوع كان منتفيا في الأزل، لأن المصحح للإشارة إليها بأن هذه المرأة لم تكن قرشية إنما هو الوجود، إذ لا يعقل الإشارة إلي الأعدام حسية كانت أو عقلية.
وما تقدم في تقريب القول بالجريان من إمكان أن يقال: هذه المرأة، مشيرا إلي ماهيتها، إلي آخره، فهو غير صحيح، لأن الماهية قبل وجودها لا تكون شيئا حتي يمكن أن تقع مشارا إليها.
إن قلت: نجعل الحالة السابقة: المرأة الغير القرشية علي نحو القضايا السالبة التي تكون أعم من وجود الموضوع [و] نستصحبها إلي زمان وجودها، فيصير الموضوع موجودا، فيترتب عليه الحكم.
(٢٩٦)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب الإرشاد للشيخ المفيد (1)، الوقوف (1)
قلت: استصحاب تلك الحالة وجرها إلي زمان وجود المرأة وإن كان صحيحا من حيث وجود الحالة السابقة إلا أن تطبيق تلك الحالة التي تكون أعم من وجود الموضوع علي الحالة اللاحقة المشروطة بوجود الموضوع يكون بحكم العقل، فهو يكون حينئذ مثبتا، لأن الأثر الشرعي مترتب علي الخاص، وإثباته إنما هو بحكم العقل، فالحق عدم جريان هذا الاستصحاب ونظائره، كاستصحاب عدم قابلية التذكية، وأما استصحاب غير العدم الأزلي:
فالأقوي جريانه فيما إذا كانت له حالة سابقة متيقنة في بعض الموارد لا مطلقا.
وتفصيله: أنه لو قال: أكرم العلماء إلا الفساق منهم، أو كان المخصص منفصلا، ثم شك في أن زيدا العالم هل يكون فاسقا أو لا، فتارة يكون زيد في السابق عالما غير فاسق يقينا، فلا شبهة في جريان الاستصحاب بالنسبة إلي العالم المقيد بذلك القيد، فيترتب عليه حكم العام لتنقيح موضوعه بالاستصحاب، فيدخل في الكبري الكلية، واخري يكون في السابق غير فاسق يقينا ولكن لم يكن عالما، فالآن شك في بقاء عدالته مع العلم باتصافه بالعالمية في الحال، والظاهر عدم جريان الاستصحاب حينئذ، لأن القاعدة الكلية في صحة جريان الاستصحاب الموضوعي أن يكون المستصحب بنفسه صغري لإحدي الكبريات الشرعية بلا واسطة، وفي المقام ليس كذلك، لأن استصحاب كون زيد غير فاسق إنما يجدي في إثبات كونه غير فاسق، ولكنه لا يكون موضوعا للحكم الشرعي، ضرورة أنه تعلق بالعالم الغير الفاسق، وإثباته بضميمة الوجدان، ضرورة أن زيدا لو كان في الحالة اللاحقة غير فاسق يكون عالما غير فاسق إنما هو بحكم العقل، فيصير الأصل مثبتا، فلا يجري، كما أنه لا يجري فيما إذا كان عالما فاسقا في الزمان السابق ثم صار عادلا في اللاحق
(٢٩٧)
صفحهمفاتيح البحث: الأحكام الشرعية (1)، الكرم، الكرامة (1)

الأمر الرابع: التمسك با لعام إذا شك في فرد من غير جهة التخصيص

ولكن شك في بقاء علمه، فإن استصحاب علمه لا يجدي بعد كون الموضوع هو العالم الغير الفاسق إلا علي القول بالأصل المثبت.
ولكن لا يخفي: أن هذا الفرض خارج عن المقام، لأن مفروضه استصحاب عدم عنوان الخاص ومثله في الخروج عن مورد النزاع ما لو كان زيد عالما غير فاسق في السابق يقينا ثم شك في بقاء علمه مع العلم بعدالته عكس الصورة الأولي، ولا إشكال أيضا في جريان الاستصحاب فيها، لأنه كان في السابق عالما غير فاسق، فيستصحب هذا العنوان المقيد، ويجري عليه حكم العام في الزمان اللاحق، كما هو واضح.
الأمر الرابع: التمسك بالعام إذا شك في فرد من غير جهة التخصيص حكي عن بعض: التمسك بالعام فيما إذا شك في فرد لا من جهة التخصيص، بل من جهة أخري، مثل: ما إذا شك في صحة الوضوء بالمائع المضاف، فيتمسك في صحته بعموم قوله: أوفوا بالنذور، فيما إذا وقع متعلقا للنذر، فيقال هذا الوضوء يجب الوفاء به للعموم، وكل ما يجب الوفاء به فلا محالة يكون صحيحا، للقطع بعدم وجوب الوفاء بالفاسد (1)، ويستنتج صحة الوضوء بالمضاف ولو لم يتعلق به النذر، وكذا القول في إطاعة الوالدين.
وربما أيد ذلك بصحة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات إذا تعلق النذر بهما كذلك، وبصحة النافلة في وقت الفريضة إذا صارت متعلقة للنذر.
هذا، ولا يخفي عدم تمامية هذا الكلام، فإن هنا دليلين أحدهما: وجوب الوفاء بالنذور مثلا، ثانيهما: عدم انعقاد النذر إلا في طاعة الله، فمع الشك في
1 - انظر مطارح الأنظار: 195 / السطر 36.
(٢٩٨)
صفحهمفاتيح البحث: الصيام، الصوم (1)، الوضوء (2)، الوجوب (1)

الأمر الخامس: التمسك با لعام عند الشك بين التخصيص والتخصص

صحة الوضوء بالمضاف لا مجال للتمسك بعموم الدليل الأول، لأن مرجع الشك فيها إلي الشك في كونه طاعة لله، فيرجع إلي التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص، ولو فرض وجود دليل واحد نظرا إلي حكومة الدليل الثاني علي الأول لا مخصصا له، فعدم الجواز مستند إلي أن إثبات حكم العام متوقف علي إحراز موضوعه، إذ لا يمكن إثبات الصغري بسبب الكبري، كما هو واضح.
ثم إن قضية الأمثلة المذكورة هو الاختصاص بصورة النذر، فلا ترتبط بالمقام، مضافا إلي أنها ليست موردا للشك، للعلم بالحرمة والبطلان قبل تعلق النذر وبارتفاعها بعده، وتوجيه الأولين بأحد الوجوه المذكورة في الكفاية (1)، كما أن توجيه الأخير المذكور في الدرر (2)، فراجع.
الأمر الخامس: التمسك بالعام عند الشك بين التخصيص والتخصص إذا علم بحرمة إكرام زيد مثلا ولكن شك في أنه عالم، فيكون الدليل الدال علي حرمة إكرامه مخصصا لإكرام العلماء، فيترتب عليه الأحكام المترتبة علي العالم، أو جاهل فلم يرد تخصيص علي العموم فيترتب عليه الأحكام المترتبة علي الجاهل، فهل يجوز التمسك بأصالة العموم في إثبات أنه غير عالم أو لا؟ ظاهر المحكي عن الأصحاب في موارد كثيرة هو الجواز حيث إنهم ذكروا في مسألة عدم نجاسة الغسالة أن الدليل علي ذلك أنها لا ينجس المحل، إذ لو كانت نجسة مع عدم تنجس المحل بها، يلزم التخصيص في عموم كل نجس
١ - كفاية الأصول: ٢٦١ - ٢٦٢.
٢ - درر الفوائد، المحقق الحائري: 220 - 221.
(٢٩٩)
صفحهمفاتيح البحث: الجهل (2)، الوضوء (1)، الجواز (1)، النجاسة (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
منجس، فأصالة العموم يقتضي منجسية جميع النجاسات مما لا يكون بمنجس لا يكون نجسا علي ما هو مقتضي عكس نقيضه.
هذا، وحكي عن المقالات أن أصالة العموم وإن كانت جارية إلا أن عكس نقيض القضية الذي هو لازم لها لا يثبت بها، لأن الدليل عليها هو بناء العقلاء، ولم يثبت بناؤهم علي ترتيب اللوازم عليها، وللمقام نظائر كثيرة من حيث التفكيك بين اللازم والملزوم في عدم إثبات الثاني بالأول، وكذا العكس (1).
والتحقيق أن يقال: بأن جريان أصالة العموم في أمثال المقام مورد تأمل وإشكال، لأن مدركها هو بناء العقلاء، فيحتاج في جريانها فيه إلي إحراز بنائهم، مع أن المتيقن ما إذا كان المراد غير معلوم، مثل: ما إذا شك في وجوب إكرام زيد العالم بعد قوله: أكرم العلماء، وأما إذا علم مراده وشك في علمه لأن يترتب عليه الأحكام الأخر، فلم يعلم استقرار بنائهم علي التمسك به، نظير أصالة الحقيقة التي ينحصر مورد جريانها بما إذا شك في كون المراد هل هو المعني الحقيقي أو المجازي، وأما إذا علم بالمراد ولكن لم يعلم أنه معني حقيقي للفظ ومجازي له، فلا تجري أصالة الحقيقة لإثبات أن المعني المراد معني حقيقي له، فالإنصاف أنه لا يجري الأصل في المقام حتي يتكلم في إثبات اللوازم به أولا.
ومما ذكرنا يظهر: أنه لا مانع من التمسك بأصالة العموم فيما لو علم بحرمة إكرام زيد ولكن شك في أن المراد به هو زيد العالم، فيكون مخصصا، أو زيد الجاهل، فيكون تخصصا.
١ - مقالات الأصول ١: ٤٥٠.
(٣٠٠)
صفحهمفاتيح البحث: الكرم، الكرامة (1)، النجاسة (1)، الجهل (1)، الوجوب (1)
وجه الجريان: أن المراد بالنسبة إلي زيد العالم مشكوك، لأنه لا يعلم أنه هل يجب إكرامه أم لا، فلا بأس بالتمسك بأصالة العموم لإثبات وجوب إكرامه، فيترتب عليه حرمة زيد الجاهل، ويصير مدلول قوله: لا تكرم زيدا، مبينا حينئذ، لخروجه عن الإجمال بسبب وجوب إكرام زيد العالم الثابت بأصالة العموم، فتأمل في الفرق بين المسألتين حتي لا يختلط عليك الأمر.
(٣٠١)
صفحهمفاتيح البحث: الجهل (1)، الوجوب (1)

الفصل الثالث: في وجوب الفحص عن المخصص

في وجوب الفحص عن المخصص الفصل الثالث في وجوب الفحص عن المخصص هل يجوز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص أم لا؟ فيه خلاف.
تقرير محط البحث ومحل النزاع وليكن محل البحث ممحضا في أن أصالة العموم هل يكون متبعة مطلقا، أو بعد الفحص واليأس؟ بعد الفراغ عن حجيتها من باب الظن النوعي وعدم اختصاص حجيتها بالمشافهين، ولم يكن العام معلوم التخصيص تفصيلا أو إجمالا، كما أن الظاهر اختصاصه بالمخصص المنفصل، وأما المتصل فلا يكون احتماله مانعا من التمسك بها مطلقا، لأنه نظير قرينة المجاز، وقد قام الإجماع علي عدم الاعتناء باحتمالها.
إذا ظهر لك ذلك، فاعلم أن التحقيق يقتضي التفصيل في الموارد، كما في الكفاية (1) والقول بلزوم الفحص فيما إذا كان العام في معرض التخصيص، نظير
١ - كفاية الأصول: ٢٦٥.
(٣٠٢)
صفحهمفاتيح البحث: الظنّ (1)، الجواز (1)، الوجوب (2)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

تقرير محط البحث ومحل النزاع

في وجوب الفحص عن المخصص الفصل الثالث في وجوب الفحص عن المخصص هل يجوز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص أم لا؟ فيه خلاف.
تقرير محط البحث ومحل النزاع وليكن محل البحث ممحضا في أن أصالة العموم هل يكون متبعة مطلقا، أو بعد الفحص واليأس؟ بعد الفراغ عن حجيتها من باب الظن النوعي وعدم اختصاص حجيتها بالمشافهين، ولم يكن العام معلوم التخصيص تفصيلا أو إجمالا، كما أن الظاهر اختصاصه بالمخصص المنفصل، وأما المتصل فلا يكون احتماله مانعا من التمسك بها مطلقا، لأنه نظير قرينة المجاز، وقد قام الإجماع علي عدم الاعتناء باحتمالها.
إذا ظهر لك ذلك، فاعلم أن التحقيق يقتضي التفصيل في الموارد، كما في الكفاية (1) والقول بلزوم الفحص فيما إذا كان العام في معرض التخصيص، نظير
١ - كفاية الأصول: ٢٦٥.
(٣٠٢)
صفحهمفاتيح البحث: الظنّ (1)، الجواز (1)، الوجوب (2)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
العمومات الواقعة في القوانين التي يجعلها العقلاء لنظام أمورهم علي ما هو المتداول بينهم، فإن جعل القانون يقتضي أن يجعل في الأول أمرا كليا ثم بيان المخصصات والمستثنيات في الفصول المتأخرة والقوانين الموضوعة في الشريعة إنما هي علي هذا المنوال، ولم تكن مجعولة علي غير النهج المتعارف بين العقلاء المقننين للقوانين الدنيوية التي يكون المقصود بها انتظام أمورهم، وهذا بخلاف العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورات التي لو كان المقصود بها غير ما هو ظاهرها لاتصل به ما يدل علي ذلك نوعا، ولم يكن دأبهم بيان العموم ثم ذكر المخصص لو كان مخصصا في البين، فأصالة العموم في هذا النحو من العمومات متبعة مطلقا، بخلاف ما كان من قبيل الأول، فإن جريانها فيه مشروط بالفحص واليأس عن الظفر بالخاص.
ومن هنا يظهر: أن الفحص هنا أيضا يكون عما لا حجية للعام بدون الفحص عنه نظيره في الأصول العملية التي لم تكن حجة قبل الفحص أصلا، لما عرفت من أن جريانها مشروط بالفحص فقبله لا يكون هنا حجة أصلا، لتوقف الحجية علي إحراز كون مدلول الكلام مرادا جديا للمولي، وهذا المعني إنما يثبت بعد جريان أصالة العموم التي تكون مشروطة بالفحص، فعدم جريانها قبله يوجب عدم حجية العام.
فظهر أن العام قبل الفحص عن المخصص لا يكون حجة أصلا، كما أن الأصول العملية أيضا كذلك.
فانقدح بذلك: فساد ما في الكفاية (1) من الفرق بين الفحص في المقامين بأن الفحص هنا عما يزاحم الحجية، بخلافه هناك، فإنه بدونه لا حجة.
١ - كفاية الأصول: ٢٦٥ - 266.
(٣٠٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الحج (4)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

الاستدلال علي لزوم الفحص بالعلم الإجمالي

وجه الفساد ما عرفت من أن العام قبل الفحص أيضا لا يكون حجة، لما مر.
ثم لا يخفي أنه وإن لم يكن حجة قبله إلا أن ظهوره في العموم قد انعقد واستقر ولو بعد التخصيص، سواء كانت العمومات من قبيل الأول أو الثاني، إذ مجرد جري العادة علي ذكر المخصصات منفصلا لا يوجب إلا عدم حجية العام قبل الفحص عنها، لا عدم انعقاد ظهور له في العموم، وعليه فلو كان الخاص دائرا بين الأقل والأكثر، لا يسري إجماله إلي العام أصلا بل يرفع اليد عن ذلك الظهور بالمقدار الذي يكون الخاص فيه حجة، ويحكم في الباقي بتطابق الإرادة الجدية مع الاستعمالية.
فما في الدرر - من أن حال المخصص المنفصل في كلام المتكلم الذي جرت عادته علي بيان الخاص منفصلا حال المخصص المتصل في كلام غيره، فيسري إجماله في الفرض المذكور إلي العام (1) - محل نظر بل منع، فتدبر.
الاستدلال علي لزوم الفحص بالعلم الإجمالي ثم إنك عرفت أن محل النزاع في هذا المقام هو ما إذا لم يكن العام من أطراف ما علم إجمالا بتخصيصه، ولكن بعضهم عمموا النزاع، واستدلوا علي لزوم الفحص بالعلم الإجمالي بورود المخصصات علي العمومات.
وتقريبه: أنا نعلم إجمالا بوجود مقيدات ومخصصات للعمومات والإطلاقات فيما بأيدينا من الكتب بل مطلق الجوامع ولو ما لم يصل منها إلينا، كما هو معلوم لكل من راجعها، ومن المعلوم عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي كما قد قرر في محله.
١ - درر الفوائد، المحقق الحائري: 223.
(٣٠٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، المنع (1)، الحج (3)

الإشكال في الاستدلال بانحلال العلم الإجمالي

الإشكال في الاستدلال بانحلال العلم الإجمالي وقد استشكل في جعل مدرك لزوم الفحص هو العلم الإجمالي بما حاصله: أن العلم الإجمالي بذلك وإن اقتضي عدم جريان الأصل قبل الفحص إلا أنه بعد الفحص والعثور علي المقدار المتيقن من المخصصات يصير العلم الإجمالي منحلا، كما هو الحال في كل علم إجمالي ترددت أطرافه بين الأقل والأكثر، فإنه بعد العثور علي الأقل ينحل العلم الإجمالي ويكون الأكثر شبهة بدوية يجري فيه الأصل، ولابد أن يكون في المقام مقدار متيقن للعلم الإجمالي بوجود المخصصات في الكتب، إذ لا يمكن أن لا يكون له مقدار متيقن، فمع العثور علي ذلك المقدار ينحل العلم، وحينئذ فلا يجب الفحص في سائر الشبهات، لجريان الأصول اللفظية فيها مع أنه لا يقول به أحد (1).
هذا، مضافا إلي أن الفحص في الكتب التي بأيدينا لا يوجب جواز إجراء الأصول، لأن دائرة العلم الإجمالي أوسع من هذه الكتب، فلازم ذلك عدم جواز التمسك بالعمومات ولو بعد الفحص أيضا.
جواب المحقق النائيني عن انحلال العلم الإجمالي وأجاب المحقق النائيني عن الانحلال - علي ما في التقريرات - بما حاصله: أن المعلوم بالإجمال تارة يكون مرسلا غير معلم بعلامة يشار إليه بها، واخري يكون معلما بعلامة يشار إليه بها، وانحلال العلم الإجمالي بالعثور علي المقدار المتيقن إنما يكون في الصورة الأولي، وأما الصورة الثانية فلا ينحل
1 - انظر فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 543.
(٣٠٥)
صفحهمفاتيح البحث: الجواز (1)

جواب المحقق النائيني عن انحلال العلم الإجمالي

الإشكال في الاستدلال بانحلال العلم الإجمالي وقد استشكل في جعل مدرك لزوم الفحص هو العلم الإجمالي بما حاصله: أن العلم الإجمالي بذلك وإن اقتضي عدم جريان الأصل قبل الفحص إلا أنه بعد الفحص والعثور علي المقدار المتيقن من المخصصات يصير العلم الإجمالي منحلا، كما هو الحال في كل علم إجمالي ترددت أطرافه بين الأقل والأكثر، فإنه بعد العثور علي الأقل ينحل العلم الإجمالي ويكون الأكثر شبهة بدوية يجري فيه الأصل، ولابد أن يكون في المقام مقدار متيقن للعلم الإجمالي بوجود المخصصات في الكتب، إذ لا يمكن أن لا يكون له مقدار متيقن، فمع العثور علي ذلك المقدار ينحل العلم، وحينئذ فلا يجب الفحص في سائر الشبهات، لجريان الأصول اللفظية فيها مع أنه لا يقول به أحد (1).
هذا، مضافا إلي أن الفحص في الكتب التي بأيدينا لا يوجب جواز إجراء الأصول، لأن دائرة العلم الإجمالي أوسع من هذه الكتب، فلازم ذلك عدم جواز التمسك بالعمومات ولو بعد الفحص أيضا.
جواب المحقق النائيني عن انحلال العلم الإجمالي وأجاب المحقق النائيني عن الانحلال - علي ما في التقريرات - بما حاصله: أن المعلوم بالإجمال تارة يكون مرسلا غير معلم بعلامة يشار إليه بها، واخري يكون معلما بعلامة يشار إليه بها، وانحلال العلم الإجمالي بالعثور علي المقدار المتيقن إنما يكون في الصورة الأولي، وأما الصورة الثانية فلا ينحل
1 - انظر فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 543.
(٣٠٥)
صفحهمفاتيح البحث: الجواز (1)
بذلك، بل حاله حال دوران الأمر بين المتبائنين.
وضابط القسمين: أن العلم الإجمالي كليا إنما يكون علي سبيل المنفصلة المانعة الخلو المنحلة إلي قضيتين حمليتين، وهاتان القضيتان:
تارة: تكون إحداهما من أول الأمر متيقنة والاخري مشكوكة بحيث يكون العلم الإجمالي ناشئا منهما، ويكون العلم الإجمالي عبارة عن ضم القضية المتيقنة إلي المشكوكة، كما إذا علم إجمالا بأنه مديون لزيد: وتردد بين أن يكون خمسة دراهم أو عشرة، فإن هذا العلم الإجمالي ليس إلا عبارة عن قضية متيقنة وهي كونه مديونا لزيد: بخمسة دراهم، وقضية مشكوكة، وهي كونه مديونا له بخمسة زائدة علي الخمسة المتيقنة، ففي مثل هذا العلم الإجمالي ينحل قهرا بالعثور علي المقدار المتيقن، إذ لا علم حقيقة إلا بذلك المقدار، والزائد كان مشكوكا من أول الأمر، ولم يكن من أطراف العلم.
واخري: لا تكون القضيتان علي هذا النحو، بل تعلق العلم بالأطراف علي وجه تكون جميع الأطراف مما تعلق العلم بها بوجه بحيث لو كان الأكثر هو الواجب، لكان مما تعلق به العلم وتنجز بسببه، وليس الأكثر مشكوكا من أول الأمر، وذلك في كل ما يكون المعلوم بالإجمال معلما لعلامة كان قد تعلق العلم به بتلك العلامة، فيكون كل ما اندرج تحتها مما تعلق به العلم بلا فرق بين الأقل والأكثر.
مثاله: ما إذا علمت بأنك مديون لزيد بما في الدفتر، فإن جميع ما فيه من دين له قد تعلق العلم به، سواء كان دينه خمسة أو عشرة، بخلاف الصورة الأولي، فإن قضية كونه مديونا لزيد بعشرة كانت مشكوكة من أول الأمر، وفي مثل هذا ليس له الاقتصار علي المتيقن، إذ لا مؤمن له علي تقدير ثبوت الأكثر في الواقع بعدما ناله العلم وأصابه، فحال العلم الإجمالي في مثل هذا الأقل
صفحه(٣٠٦)
والأكثر حاله في المتبائنين في وجوب الاحتياط.
وإن شئت قلت: إن هنا علمين: علم إجمالي بكونه مديونا لزيد بجميع ما في الدفتر وعلم إجمالي آخر بأن دينه عشرة أو خمسة، وانحلال الثاني الغير المقتضي لوجوب الاحتياط بالنسبة إلي العشرة لا ينافي العلم الإجمالي الأول المقتضي للاحتياط بالنسبة إليها، لعدم التزاحم بين اللا مقتضي والمقتضي.
إذا عرفت ذلك، فنقول: ما نحن فيه من قبيل الثاني، لأن العلم قد تعلق بأن في الكتب التي بأيدينا مقيدات ومخصصات، فيكون نظير تعلقه بأنه مديون لزيد بما في الدفتر، وقد عرفت عدم الانحلال في هذا النحو بالعثور علي المقدار المتيقن، بل لابد فيه من الفحص التام في جميع ما بأيدينا من الكتب (1). انتهي.
أقول: الظاهر عدم تمامية هذا الكلام، فإنه يرد عليه:
أولا: النقض بجميع الموارد التي تردد الأمر فيها بين الأقل والأكثر، لأنه فيها وإن كان المعلوم بالإجمال مرددا بينهما إلا أنه تعلق علم آخر بشئ من المقارنات، فمقتضي ما ذكره إصابة العلم بالنسبة إلي الأكثر أيضا، فيجب الاحتياط.
مثلا: إذا دار دين زيد بين خمسة أو عشرة، ولكنه يعلم بأن دينه كان في الكيس، أو كان في اليوم الفلاني، أو في المجلس الفلاني، فإن دينه وإن كان مرددا بينهما، ولكنه يعلم بأن دينه هو ما في الكيس، أو ما أداه إليه في اليوم الفلاني، أو المجلس الفلاني، ومن المعلوم بناء عليه إصابة العلم بالنسبة إلي الأكثر، فيجب الاحتياط مع أنه لم يقل به أحد، ولا يلتزم القائل به أيضا.
وثانيا: الحل، وتوضيحه: أن العناوين التي يتعلق بها العلم علي قسمين:
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 543 - 546.
(٣٠٧)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الوجوب (1)
قسم يكون ذلك العنوان بنفسه موضوعا للأثر الشرعي، وقسم لا يكون كذلك، بل يكون من المقارنات.
وعلي الأول فتارة يكون ذلك العنوان أمرا بسيطا ومصاديقه المتحققة في الخارج محصلات له، كالطهور بناء علي أن يكون عبارة عما يحصل من الوضوء أو الغسل مثلا، واخري يكون أمرا مركبا، كإكرام العالم.
ولا إشكال في وجوب الاحتياط في الأول لو دار أمر المحصل لذلك العنوان بين الأقل والأكثر، لأن الصلاة مثلا مشروطة بتحقق الطهور، وقد تعلق العلم باشتراطها بهذا العنوان، ومع الإتيان بالأقل لا يعلم بحصوله، مع أنه شرط فيها.
وعلي الثاني ففي وجوب الاحتياط فيه خلاف، ويأتي تحقيقه في محله.
هذا في العناوين التي تكون بنفسها موضوعة للآثار الشرعية، وأما العناوين التي لا تكون كذلك، مثل عنوان ما في الدفتر وما في الكيس وغيرهما من العناوين التي لا تكون بنفسها مترتبة عليها الأحكام بل تكون من الأمور المقارنة للموضوع للحكم الشرعي والملازمة له في الخارج، فلا وجه لوجوب الاحتياط فيها، بل اللازم ملاحظة ما هو الموضوع للأثر الشرعي، والمفروض أن أمره دائر بين الأقل والأكثر، والأصل يجري بالنسبة إلي الأكثر، كما اعترف به.
وبالجملة، فالعلم المتعلق بهذا العنوان لا يعقل أن يصير سببا لتنجز الحكم بعد عدم كون ذلك العنوان موضوعا له.
فدعوي أن ذلك العلم يقتضي التنجز ولو كان متعلقا بالأكثر، ممنوعة جدا، ومسألتنا من هذا القبيل، ضرورة أن العلم الموجب للتنجز هو العلم بوجود المخصصات والمقيدات لا بما أنها موجودة في الكتب والجوامع، لأن هذا العنوان
(٣٠٨)
صفحهمفاتيح البحث: الأحكام الشرعية (1)، الصّلاة (1)، الغسل (1)، الوجوب (2)

جواب آخر عن انحلال العلم الإجمالي

من المقارنات التي لا يضر عدمها، ولا ينفع وجودها، كما هو واضح، فينحصر العلم المنجز بما يكون معلومه من أول الأمر مرددا بين الأقل والأكثر، وهو مجري البراءة.
نعم، في المثال الذي ذكره يجب الاحتياط، لا لتعلق العلم بذلك العنوان، لوجوبه في شبهاته البدوية أيضا علي ما ذكروه في مبحث البراءة من أن جريان الأصل في الشبهات الموضوعية مشروط بأن لا يكون قادرا علي إحراز الواقع بمجرد أدني تفحص، فإذا شك في أنه مديون لزيد، فلا يجوز له إجراء البراءة بعد العلم بأنه بمراجعة الدفتر يظهر له الحال.
نعم عمموا جريانها في بعض الشبهات الموضوعية، كالشبهة من حيث النجاسة، لورود النص فيها.
وكيف كان فما ذكره من وجوب الاحتياط في القسم الثاني من جهة العلم الإجمالي مما لا يتم أصلا، كما عرفت، فبقي الإشكال علي حاله.
نعم، ما ذكره جوابا علي ذيل الإشكال الراجع إلي منع كون دائرة العلم أوسع مما بأيدينا من الكتب والجوامع، مما لا يبعد الالتزام به، كما أن صاحب المقالات أجاب عنه بمثل ما ذكره حيث ذكر أن بعد الفحص وعدم الظفر بالمعارض يستكشف خروج هذا المورد عن دائرة العلم، لأن أطرافه هي المعارضات التي لو تفحص عنها لظفر به، فعدم الظفر يكشف عن خروجه عن أطراف العلم.
جواب آخر عن انحلال العلم الإجمالي وأما ما أجاب به عن الانحلال مما هذه عبارته: إن مقدار المعلوم كما وإن كان بالأخرة معلوما بحيث ينتهي الزائد منه إلي الشك البدوي، ولكن هذا المقدار
(٣٠٩)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، المنع (1)، الجواز (1)، الوجوب (1)
إذا كان مرددا بين محتملات متبائنات منتشرات في أبواب الفقه من أوله إلي آخره، يصير جميع الشكوك في تمام الأبواب طرف هذا العلم، فيمنع عن الأخذ به قبل فحصه، وفي هذه الصورة لا يفيد الظفر بالمعارض بمقدار المعلوم، إذ مثل هذا العلم الحاصل جديدا بكون المعلوم بالإجمال في غير هذه الشكوك الباقية التي كانت ظرفا من الأول للاحتمال في المتبائنات نظير العلوم الحاصلة بعد العلم الإجمالي غير قابلة للانحلال، فقهرا الاحتمال القائم في المورد الموجب لكونه من الأول طرفا للعلم منجز للواقع بمقدار استعداده، فلا محيص أن يفحص كي يعدم ظفره بالمخصص بكشف خروجه عن دائرة العلم المزبور من الأول، وهذه الجهة هي النكتة في أخذ هذا القيد في دائرة العلم، وإلا فيلزم عدم الاكتفاء بالفحص ولو ظفرنا بمقدار المعلوم فضلا عما لو لم نظفر كما هو ظاهر (1).
انتهي.
فيرد عليه: أنه إذا ظفرنا بعد التفحص بالمخصصات المنتشرة في أبواب الفقه بمقدار المعلوم يقينا، فلا وجه لعدم انحلال العلم الإجمالي بسبب ذلك، لأنه يصير كالعلم تفصيلا بنجاسة أحد من الإناءين اللذين علم بنجاسة أحدهما إجمالا، إذ بعده يصير الإناء الآخر مشكوك النجاسة التي هي مجري قاعدة الطهارة، لكون الشك في نجاسته شكا بدويا.
نعم لو علم تفصيلا بنجاسة حادثة غير النجاسة المعلومة بالإجمال، لا يرتفع أثر العلم الإجمالي بالنسبة إلي الطرف الآخر بذلك، ولكن المقام من قبيل الصورة الأولي كما هو واضح.
هذا، وأما إذا ظفرنا بعد التفحص بمقدار المعلوم إجمالا في بعض الأبواب
١ - مقالات الأصول ١: ٤٥٥ - 456.
(٣١٠)
صفحهمفاتيح البحث: المنع (1)، النجاسة (2)، الإناء، الأواني (1)
فقط، فلا محالة يكشف ذلك إما عن بطلان العلم بالانتشار في جميع الأبواب الذي أوجب الفحص في الجميع، وإما عن كون مقدار المعلوم بالإجمال أزيد مما ظفرنا به من المخصصات، إذ مع اجتماع العلم بالانتشار والعلم بذلك المقدار يمتنع الظفر به في خصوص بعض الأبواب، فإذا بطل الأول، فلا يبقي مجال للفحص في الزائد عنه، وإذا بطل الثاني بحدوث علم آخر، فيقع الإشكال في الزائد عن ذلك المقدار الذي لابد أن يكون مقدارا معينا، إذ حينئذ يصير الشك في الزائد شكا بدويا، فتدبر جيدا.
فالإنصاف أن هذا الجواب نظير سابقه في الضعف.
ثم إن مقدار الفحص اللازم - بناء علي الاستدلال عليه بما ذكره في الكفاية (1) واخترناه تبعا لها - هو الفحص بمقدار يخرج معه العام عن معرضية التخصيص باليأس عن الظفر به، وأما بناء علي الاستدلال بالعلم الإجمالي، فالمقدار اللازم منه هو الذي خرج معه المورد عن أطرافه، كما لا يخفي.
١ - كفاية الأصول: ٢٦٥.
(٣١١)
صفحهمفاتيح البحث: الباطل، الإبطال (3)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

الفصل الرابع: في عموم الخطابات الشفاهية لغير الحاضرين

عدم اختصاص الخطابات بالحاضرين الفصل الرابع في عموم الخطابات الشفاهية لغير الحاضرين هل الخطابات الشفاهية تختص بالموجودين في زمن الخطاب بل الحاضرين مجلس التخاطب، أو يعم المعدومين فضلا عن الغائبين عنه؟
ولا يخفي عدم اختصاص النزاع بما يتضمن خطابا، بل يجري في جميع الأحكام الموضوعة علي العناوين الكلية ولو لم يكن بلسان الخطاب، مثل قوله تعالي: * (ولله علي الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (1) لجريان الملاك فيه أيضا، كما سيأتي.
تقرير محل النزاع ثم إنه لابد قبل الخوض في تحقيق المقام من بيان ما يمكن أن يكون محلا للبحث بين الأعلام، فنقول: ذكر في الكفاية أنه يمكن أن يكون النزاع في صحة تعلق التكليف بالمعدومين أو في صحة المخاطبة معهم أو في صيرورة
1 - آل عمران (3): 97.
(٣١٢)
صفحهمفاتيح البحث: الحج (1)

تقرير محل النزاع

عدم اختصاص الخطابات بالحاضرين الفصل الرابع في عموم الخطابات الشفاهية لغير الحاضرين هل الخطابات الشفاهية تختص بالموجودين في زمن الخطاب بل الحاضرين مجلس التخاطب، أو يعم المعدومين فضلا عن الغائبين عنه؟
ولا يخفي عدم اختصاص النزاع بما يتضمن خطابا، بل يجري في جميع الأحكام الموضوعة علي العناوين الكلية ولو لم يكن بلسان الخطاب، مثل قوله تعالي: * (ولله علي الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (1) لجريان الملاك فيه أيضا، كما سيأتي.
تقرير محل النزاع ثم إنه لابد قبل الخوض في تحقيق المقام من بيان ما يمكن أن يكون محلا للبحث بين الأعلام، فنقول: ذكر في الكفاية أنه يمكن أن يكون النزاع في صحة تعلق التكليف بالمعدومين أو في صحة المخاطبة معهم أو في صيرورة
1 - آل عمران (3): 97.
(٣١٢)
صفحهمفاتيح البحث: الحج (1)
عموم المتعلق قرينة علي التصرف في أدوات الخطاب والعكس، فالنزاع علي الأولين عقلي، وعلي الأخير لغوي (1).
أقول: أما النزاع علي الوجهين الأولين: فلا يعقل وقوعه بين الأعلام بعد وضوح استحالة بعث المعدوم أو زجره، وكذا توجيه الخطاب إليه.
وأما النزاع علي الوجه الأخير الذي يرجع إلي أمر لغوي، فهو مستبعد جدا، لأن الظاهر كون النزاع بينهم إنما هو في أمر عقلي.
والحق أن يقال: إن النزاع إنما هو (2) في أن شمول الخطابات القرآنية والأحكام المتعلقة بالعناوين الكلية الواردة فيها للمعدومين هل يستلزم تعلق التكليف بهم والمخاطبة معهم الممتنع عقلا بداهة، أو لا يستلزم ذلك الأمر المستحيل؟ فالنزاع إنما هو في الملازمة بين الأمرين التي هي أمر عقلي.
والتحقيق عدم الاستلزام، لأن تلك الأحكام موضوعة علي المكلفين بنحو
١ - كفاية الأصول: ٢٦٦.
2 لا يخفي أن المراد من هذه العبارة هو عدم اختصاص تلك الخطابات والأحكام بالموجودين حال التخاطب، لا شمولها للمعدومين في حال العدم أيضا، كما أن جعل النزاع في هذا المعني إنما هو بملاحظة أن ما يمكن أن يكون نزاعا معقولا في هذا المقام وينبغي البحث فيه هو ما ذكرنا وإلا فظاهر بعض الاستدلالات هو كون النزاع في صحة تكليف المعدوم ومخاطبته في حال العدم، كما حكاه في الفصول (أ) عن بعض الحنابلة من القول بذلك، استدلالا بقوله تعالي: * (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * (ب) فإن ظاهره الخطاب إلي المعدوم، وأمره بالكون، فيستفاد منه الجواز مطلقا.
- أ - الفصول الغروية: 179 / السطر 38.
ب - يس (36): 82.
(٣١٣)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)، المذهب الحنبلي (1)

تحقيق: في القضايا الحقيقية

القضايا الحقيقية لا الخارجية، وتوضيح ذلك يتوقف علي بيان المراد منهما.
تحقيق: في القضايا الحقيقية فنقول: القضايا الحقيقية هي القضايا التي يكون الحكم فيها مترتبا علي جميع أفراد الطبيعة من غير اختصاص بالأفراد الموجودة خارجا، بل كل فرد وجد مصداقا لها يترتب عليه الحكم، فإذا قال: كل نار حارة، فقد جعل الموضوع هو جميع أفراد النار أعم من الموجودة والمعدومة، وذلك لما عرفت سابقا من أن لفظة " النار " وكذا سائر الأسماء الموضوعة للطبيعة المطلقة إنما تدل بالوضع علي نفس الطبيعة الموضوعة بإزائها. وكما لا يمكن أن تكون الطبيعة مرآة للأفراد والخصوصيات، كذلك لا يحكي اللفظ الموضوع بإزائها إلا عن نفس الطبيعة المجردة عن القيود التي منها نفس الوجود، فكلمة " النار " حاكية عن نفس ماهيتها التي هي مقسم للموجودية والمعدومية.
وأما كلمة " كل " المضافة إليها: فقد عرفت سابقا أنها موضوعة لإفادة استيعاب أفراد مدخولها، ولا دلالة لها علي خصوص الأفراد الموجودة، بل مدلولها هو استيعاب الأفراد التي تقبل الاتصاف بالوجود تارة وبالعدم أخري، وبهما ثالثة، فيقال: أفراد الطبيعة بعضها موجود وبعضها معدوم، فظهر عدم اختصاص مدلولها أيضا بالأفراد الموجودة، ومن المعلوم أن إضافة كلمة " كل " إلي اللفظ الموضوع لنفس الطبيعة المطلقة لا تدل علي أمر وراء استيعاب أفراد تلك الطبيعة الواقعة مدخولة لها، فالموضوع في أمثال تلك القضايا إنما هو جميع أفراد الطبيعة بما أنها مصداق لها، فقوله: أكرم كل عالم، يكون الموضوع فيه هو إكرام كل عالم بما أنه مصداق لطبيعة لا بما أنه زيد أو عمرو أو بكر مثلا.
(٣١٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الوقوف (1)، الكرم، الكرامة (1)
ولذا قد اشتهر بين أهل الفن أن القضية الحقيقية برزخ بين الطبيعة الصرفة والكثرة المحضة، إذ لا يكون الموضوع فيها هي نفس الطبيعة، لوضوح الفرق بينها وبين القضية الطبيعية، ولا الكثرة المحضة، لعدم ملاحظة الكثرات، بل لا يعقل ذلك في جميع أفراد الطبيعة، كما هو واضح، بل الموضوع فيها هو عنوان كل عالم مثلا، الذي هو عنوان إجمالي لأفراد طبيعة العالم.
هذا، ولا يتوهم مما ذكرنا: من أن الحكم علي جميع الأفراد أعم من الموجودة والمعدومة أن ذلك مستلزم لإثبات شئ علي المعدوم في حال عدمه، لأن المعدوم لا يكون شيئا حتي يكون فردا للماهية، فما دام لم تنصبغ الماهية بصبغة الموجود لا تكون ماهية أصلا، فالنار المعدوم بالفعل لا تكون نارا حتي يترتب عليها الحكم المترتب علي جميع أفراد النار، فاعتبار الوجود في ترتب الحكم عليه إنما هو لعدم كونه مصداقا لها بدون ذلك، لا لكون الاتصاف به مأخوذا في الموضوع، كيف وقد عرفت أنه ليس في الموضوع ما يدل علي الاختصاص بالأفراد الموجودة.
ومما ذكرنا ظهر: أن ما وقع في التقريرات المنسوبة إلي المحقق النائيني من تفسير القضية الحقيقية بما إذا لوحظ الأفراد المعدومة بمنزلة الأفراد الموجودة تنزيلا للمعدوم منزلة الموجود ثم جعلها موضوعا للحكم (1)، مما لا يرتبط بمعني القضية الحقيقية المذكورة في فنها، بل الوجدان أيضا يأبي عن ذلك، لأنا لا نري في أنفسنا حين إلقاء هذا النحو من القضايا فرض المعدومين بمنزلة الموجودين، وتنزيلهم منزلتهم، كما لا يخفي.
إذا عرفت ذلك: فاعلم أن القوانين المجعولة في العالم التي يوضعها العقلاء
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 550.
(٣١٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)

تنبيه: في كيفية القوانين الواردة في الشريعة

المقننين لها إنما هو علي هذا النحو الذي عرفت، لأن بناءهم علي جعلها ليعمل بها الأفراد، وأكثرها خالية عن المخاطبة، والقانون الإسلامي المجعول في شريعتنا إنما هو علي هذا النحو مع خصوصية زائدة، وهو عدم إمكان المخاطبة فيه بالنسبة إلي الناس، ضرورة عدم قابلية البشر العادي لأن يصير مخاطبا لله تعالي، إذ طريق ذلك الوحي، وهو منحصر بالأنبياء العظام (عليهم السلام) وباقي الناس أبعد من هذه المرحلة بمراحل، وإظهار الوحي الجاري بلسان الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) إنما هو علي طريق التبليغ لا بنحو المخاطبة، فالخطاب بنحو * (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) * (1) مثلا لا يكون المخاطب فيها أحد من المؤمنين أصلا، بل إنما هو خطاب كتبي حفظ بالكتب ليعمل به كل من نظر إليه، نظير الخطابات الواقعة في قوانين العقلاء المكتوبة المنتشرة بين الناس ليطلعوا عليها فيعملوا بها.
ومن هنا يظهر: أن هذه الخطابات الواقعة في الشريعة لا تشمل الحاضرين أيضا بنحو يكونوا هم المخاطبين فضلا عن أن تكون منحصرة بهم أو عامة لجميع المكلفين، والتعبير بالخطابات الشفاهية أيضا مسامحة، لما عرفت من عدم كون واحد من المكلفين مخاطبا بها أصلا، بل إنما هي قوانين كلية بصورة المخاطبة أوحي الله تعالي بها نبيه (صلي الله عليه وآله وسلم) وهو بلغها إلي الناس كما أنزلت علي قلبه (صلي الله عليه وآله وسلم).
تنبيه: في كيفية القوانين الواردة في الشريعة وتلخص مما ذكرنا أن القوانين الواردة في الشريعة علي قسمين: قسم لا يكون مشتملا علي الخطاب، بل إنما جعل الحكم علي العناوين الكلية، مثل:
وجوب الحج الموضوع علي عنوان المستطيع، وقسم يشتمل علي الخطاب، مثل
1 - المائدة (5): 1.
(٣١٦)
صفحهمفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، يوم عرفة (2)، الحج (1)
المثال المتقدم.
أما القسم الأول: فالإشكال المتقدم الذي يرجع إلي استلزام عدم الاختصاص بالحاضرين في زمان صدوره لتكليف المعدوم المستحيل بداهة يندفع بما ذكرناه من كون العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام إنما أخذت علي سبيل القضية الحقيقية بالمعني الذي تقدم، وهذا المعني لا يستلزم أن يكون المعدوم في حال العدم مكلفا، لأن عنوان المستطيع إنما يصدق علي خصوص المكلف الموجود الحاصل له الاستطاعة، فكما أنه لا يصدق علي المكلف الغير المستطيع كذلك لا يصدق علي المعدوم بطريق أولي، لأنه ليس بشئ، نعم بعد الوجود وصيرورته متصفا بذلك الوصف يتحقق مصداق لذلك العنوان، فيشمله الحكم، كما عرفت تفصيله.
وأما القسم الثاني: فالإشكال الراجع إلي استحالة المخاطبة مع المعدوم لا يندفع بما ذكر من كون الموضوع علي نحو القضية الحقيقية، لأن الخطاب بالعنوان الذي جعل موضوعا فيها غير معقول، إذ لا معني للخطاب بأفراد الطبيعة أعم من الموجودة والمعدومة، فلابد إما من الالتزام بتنزيل المعدومين منزلة الموجودين، وإما من الالتزام بما ذكر من كون هذه الخطابات خطابات كتبية، والأول لا دليل عليه، كما اعترف به الشيخ (1)، ومعه لا يمكن القول بالتعميم، فلابد من الجواب بنحو ما ذكر، لما عرفت من استحالة أن يكون الناس مخاطبا لله تعالي، بل المخاطب فيها هو الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وحكايته (صلي الله عليه وآله وسلم) علي الناس إنما وقعت علي سبيل التبليغ وحكاية الوحي، ولا تكون خطابا منه (صلي الله عليه وآله وسلم) إلي الناس، كما هو واضح.
1 - انظر مطارح الأنظار: 204 / السطر 32.
(٣١٧)
صفحهمفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، يوم عرفة (2)

خاتمة: في الثمرة بين القولين

خاتمة: في الثمرة بين القولين بقي الكلام في الثمرة بين القولين، فنقول: ربما قيل بأنه يظهر لعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين ثمرتان:
الأولي: حجية ظهور خطابات الكتاب لهم كالمشافهين (1).
وأورد عليه في الكفاية بأنه مبني علي اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالإفهام، وقد حقق عدم الاختصاص بهم، ولو سلم فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ممنوع، بل الظاهر أن الناس كلهم إلي يوم القيامة يكونون كذلك وإن لم يعمهم الخطاب كما يومئ إليه غير واحد من الأخبار (2).
وذكر المحقق النائيني - علي ما في التقريرات - أن ترتب الثمرة لايبتني علي مقالة المحقق القمي، فإن الخطابات الشفاهية لو كانت مقصورة علي المشافهين ولا تعم غيرهم، فلا معني للرجوع إليها وحجيتها في حق الغير، سواء قلنا بمقالة المحقق القمي أو لم نقل، فلا ابتناء للثمرة علي ذلك أصلا (3).
وفيه: أن معني الرجوع إليه وحجيته في حق الغير ليس هو التمسك به لإثبات حكم المعدومين حتي يورد عليه بما ذكر، بل المراد هو التمسك به لكشف حكم المشافهين بناء علي الاختصاص، ثم إجراء أدلة الاشتراك، وحينئذ فيبتني علي مقالة المحقق القمي لو سلم كونهم مقصودين بالإفهام، كما ذكره في
١ - قوانين الأصول ١: ٢٣٣ / السطر ١٦.
٢ - كفاية الأصول: ٢٦٩.
3 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 549.
(٣١٨)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)، كتاب قوانين الأصول للميرزا القمي (1)
الكفاية (1).
الثانية: صحة التمسك بإطلاقات الخطابات القرآنية بناء علي التعميم لثبوت الأحكام لمن وجد وبلغ من المعدومين وإن لم يكن متحدا مع المشافهين في الصنف، وعدم صحته علي عدمه، لعدم كونها حينئذ متكفلة لأحكام غير المشافهين، فلابد من إثبات اتحاده معهم في الصنف حتي يحكم بالاشتراك معهم في الأحكام، ومع عدم الدليل علي ذلك - لأنه منحصر بالإجماع، ولا إجماع إلا فيما إذا اتحد الصنف - لا مجال للتمسك بها.
هذا، ولا ريب في ترتب هذه الثمرة فيما إذا كان المكلف البالغ الآن لما كان المشافهون واجدين له مما يحتمل مدخليته في ترتب الحكم وثبوته ولم يكن مما يزول تارة ويثبت أخري، فإنه حينئذ يمكن أن يكون إطلاق الخطاب إليهم اتكالا علي ثبوت القيد بالنسبة إليهم، إذ لا احتياج إلي التقييد بعد ثبوته في المخاطبين، فالتمسك بتلك الخطابات متفرع علي إثبات اتحاد الصنف، إذ بدونه لا معني لجريان أدلة الاشتراك، بخلاف القول بالتعميم، فإنه يصح بناء عليه التمسك بها لإثبات الأحكام وإن كان الموجودون في الحال فاقدين لما يحتمل دخله في الحكم، إذ مدخليته ترتفع بالإطلاق، لأنه لا مجال له اتكالا علي وجدان الحاضرين له، لعدم اختصاص الخطاب بهم، كما لا يخفي.
١ - كفاية الأصول: ٢٦٩.
(٣١٩)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

الفصل الخامس: في تعقب العام بضمير يرجع إلي بعض أفراده

تعقب العام بالضمير الفصل الخامس في تعقب العام بضمير يرجع إلي بعض أفراده إذا تعقب العام بضمير يرجع إلي بعض أفراده، يوجب تخصيصه به أو لا؟
فيه خلاف.
ومحل النزاع ما إذا كان العام موضوعا لحكم آخر غير الحكم المترتب علي البعض المدلول عليه بالضمير الذي يرجع إليه، مثل قوله تعالي: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * إلي قوله: * (وبعولتهن أحق بردهن) * (1) وأما إذا كانت هنا قضية واحدة ذكر فيها العام والضمير معا، مثل قوله: " والمطلقات أزواجهن أحق بردهن "، فلا شبهة في تخصيصه به، كما هو واضح.
وهل محل الخلاف يختص بما إذا علم من الخارج بكون المراد من الضمير الواقع في القضية الثانية هو بعض أفراد العام، المذكورة في القضية الأولي، كما في المثال المذكور، أو يختص بما إذا علم لا من الخارج، بل بمجرد إلقاء القضية الثانية يعلم أن المراد هو البعض لحكم العقل بذلك مثلا، كما في قوله: أهن
1 - البقرة (2): 228.
صفحه(٣٢٠)
الفساق واقتلهم، فإن العقل يحكم بأن المراد بالضمير ليس جميع الفساق، لعدم اقتضاء الفسق بنفسه لإيجاب القتل، بل المراد به هو الكفار منهم، أو يشمل الصورتين معا؟ وجوه، وكلامهم خالية عن التعرض لهذه الجهة.
نعم ظاهر تمثيل أكثرهم بالآية الشريفة التي هي من قبيل الصورة الأولي، لأن العلم باختصاص الأحقية بالرد ببعولة المطلقات الرجعيات إنما كان مستندا إلي دليل آخر هو عدم الاختصاص بالصورة الثانية، نعم لا يستفاد منه التعميم أو الاختصاص بالصورة الأولي، كما لا يخفي.
وكيف كان، فإن كان محل البحث هي الصورة الأولي، فلا إشكال في أن أصالة العموم الجارية في القضية الأولي يقتضي الحمل علي العموم، لأن الأمر هنا دائر بين تخصيص واحد أو أزيد، وقد استقر رأي المحققين من الأصوليين علي التمسك في نفي الزائد بأصالة العموم فيما إذا شك في تخصيص زائد بالنسبة إلي عام واحد، فضلا عن مثل المقام الذي يكون فيه عامان خصص أحدهما يقينا والشك في تخصيص الآخر.
توضيحه: أن القضية المشتملة علي الضمير إنما تقتضي بظاهرها ثبوت الحكم بالنسبة إلي جميع أفراد العام، لأن الضمير موضوع للإشارة إلي مرجعه الذي هو العام في المقام، فقوله: وبعولتهن بمنزلة قوله: وبعولة المطلقات، والعلم باختصاصها بالرجعيات لا يوجب استعمال الضمير فيها حتي تلزم المجازية، لما عرفت من أن التخصيص إنما يقتضي قصر الإرادة الجدية علي غير مورد الخاص، ولا يوجب أن يكون العام مستعملا فيما عدا مورده، وحينئذ فالدليل علي تخصيص القضية الثانية لا يوجب تصرفا في القضية الأولي أصلا، لما عرفت من أن مورد الشك في التخصيص يكون المرجع فيه أصالة العموم.
ومن هنا انقدح: أنه لا مجال حينئذ لهذا النزاع بعدما تقدم منهم من عدم
(٣٢١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، القتل (1)
اقتضاء التخصيص للمجازية، وأن المرجع في مورد الشك فيه أو في الزائد هي أصالة العموم، كما أنه ظهر فساد ما في الكفاية من أن المتيقن من بناء العقلاء هو اتباع الظهور فيما إذا شك في تعيين المراد، وأما إذا شك في كيفية الاستعمال مع العلم بالمراد، كما في ناحية الضمير، فلا (1)، وذلك لما عرفت من عدم استلزام التخصيص للمجازية في ناحية الضمير، فكما أن المراد معلوم كذلك كيفية الاستعمال معلومة.
نعم هذا إنما يتم علي مذهب القدماء القائلين بأن العام المخصص يصير مجازا، وهو مع أنه خلاف التحقيق مخالف لما اختاره (2) أيضا كما عرفت.
كما أن التعبير في محل النزاع بضمير يرجع إلي بعض أفراد العام ليس في محله، لما عرفت من أن الضمير لم يستعمل إلا فيما وضع له، وهو إيجاد الإشارة به إلي مرجعه الذي هو العام في المقام، والتخصيص لا يوجب تصرفا في مقام الاستعمال أصلا، كما هو واضح لا يخفي.
وأما إذا كان محل البحث هي الصورة الثانية: فالتمسك بأصالة العموم محل إشكال، لأن ظهوره في العموم غير منعقد مع اشتماله علي الضمير الصالح للقرينية، كما أشار إليه في الكفاية، فيصير مجملا، فيجب الرجوع إلي مقتضي الأصول.
ومما ذكرنا يظهر: أنه لو كان محل النزاع عاما شاملا لكلتا الصورتين، فالواجب التفصيل، والحكم بالرجوع إلي أصالة العموم في الصورة الأولي، وبالأصول العملية في الصورة الثانية، فتدبر جيدا.
١ - كفاية الأصول: ٢٧٢.
2 - نفس المصدر: 255.
(٣٢٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (3)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

الفصل السادس: في جواز تخصيص العام با لمفهوم

تخصيص العام بالمفهوم الفصل السادس في جواز تخصيص العام بالمفهوم وفيه مقامان:
المقام الأول: في تخصيص العام بالمفهوم الموافق هل يجوز تخصيص العام بمفهوم الموافقة أم لا؟ وقد ادعي الإجماع علي الجواز (1)، ولكنه لا يفيد في المسألة الغير الشرعية، سواء كانت عقلية أو عرفية.
ولابد قبل الورود في محل البحث من بيان المراد بمفهوم الموافقة بعد ظهور أنه عبارة عن القضية الموافقة للمنطوق في الإيجاب والسلب.
فنقول: يحتمل أن يكون المراد به هو ما يعبرون عنه بإلغاء الخصوصية، ومرجعه إلي أن الخصوصية المذكورة في الكلام مما لا يري لها العرف مدخلية في ترتب الحكم بحيث يكون الكلام بنفسه دالا علي ثبوت الحكم مع انتفاء
١ - قوانين الأصول ١: ٣٠٤ / السطر ٥، كفاية الأصول: ٢٧٢.
(٣٢٣)
صفحهمفاتيح البحث: الجواز (2)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)، كتاب قوانين الأصول للميرزا القمي (1)

فيه مقامان من البحث: المقام الأول: في تخصيص العام بالمفهوم الموافق

تخصيص العام بالمفهوم الفصل السادس في جواز تخصيص العام بالمفهوم وفيه مقامان:
المقام الأول: في تخصيص العام بالمفهوم الموافق هل يجوز تخصيص العام بمفهوم الموافقة أم لا؟ وقد ادعي الإجماع علي الجواز (1)، ولكنه لا يفيد في المسألة الغير الشرعية، سواء كانت عقلية أو عرفية.
ولابد قبل الورود في محل البحث من بيان المراد بمفهوم الموافقة بعد ظهور أنه عبارة عن القضية الموافقة للمنطوق في الإيجاب والسلب.
فنقول: يحتمل أن يكون المراد به هو ما يعبرون عنه بإلغاء الخصوصية، ومرجعه إلي أن الخصوصية المذكورة في الكلام مما لا يري لها العرف مدخلية في ترتب الحكم بحيث يكون الكلام بنفسه دالا علي ثبوت الحكم مع انتفاء
١ - قوانين الأصول ١: ٣٠٤ / السطر ٥، كفاية الأصول: ٢٧٢.
(٣٢٣)
صفحهمفاتيح البحث: الجواز (2)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)، كتاب قوانين الأصول للميرزا القمي (1)
الخصوصية أيضا، مثل قوله: رجل شك بين الثلاث والأربع فعليه كذا، فإن العرف لا يفهم منه اختصاص الحكم بالرجل، بل يري أن ذكره إنما هو من باب المثال، وإلا فالمقصود هو المصلي الذي شك بين الثلاث والأربع، سواء كان رجلا أو امرأة.
ويحتمل أن يكون المراد به هو الذي يكون الغرض من إلقاء الكلام إفادته إلي المخاطب، غاية الأمر أنه كني عنه بشئ آخر، ويمكن أن يكون قوله تعالي: * (فلا تقل لهما أف) * (1) من هذا القبيل، بناء علي أن لا يكون المقصود به هو حرمة قول " أف " بل الإتيان به إنما هو من باب الكناية وإفهام حرمة الأمور الأخر من الضرب والشتم وغيرهما، وهذا لا ينافي عدم حرمة ذلك القول، كما في نظائره من أمثلة الكناية.
ويحتمل أن يكون المراد به هو ما يكون الكلام مسوقا لإفادته أيضا، كالمنطوق، غاية الأمر أنه أتي بالفرد الخفي تنبيها علي الفرد الجلي، فهما معا مقصودان بالإفادة إلا أنه اقتصر علي الأول مع دخول الثاني في المراد أيضا.
ويمكن أن تكون الآية الشريفة من هذا القبيل، كما لا يخفي.
ويحتمل أن يكون المراد به هو ما يستفاد من المنطوق بالأولوية القطعية من غير أن يكون الكلام مسوقا لإفادته، والآية الشريفة تحتمل هذا المعني أيضا.
ويحتمل أن يكون المراد به هو ما يستفاد من العلة المنصوصة في المنطوق، كقوله: لا تشرب الخمر، لأنه مسكر، فإنه يستفاد منه حرمة شرب النبيذ المسكر أيضا، لأن الظاهر من القضية كون تمام العلة هو المسكرية، لا
1 - الإسراء (17): 23.
(٣٢٤)
صفحهمفاتيح البحث: الإخفاء (1)
أنه جزء الموضوع، والخمرية جزء آخر، ويعبر عنه بمنصوص العلة، وإطلاق المفهوم عليه بعيد.
ثم إن هذه الاحتمالات التي ذكرنا ليس من قبيل مانعة الجمع، بل علي سبيل منع الخلو، فيمكن أن يكون المراد بمفهوم الموافقة هو الأمر الجامع بينهما، وهو القضية الخارجة عن محل النطق المشتركة في الإيجاب والسلب.
إذا عرفت ذلك: فاعلم أنه لو كان المراد بمفهوم الموافقة هو الاحتمال الراجع إلي إلغاء الخصوصية، فلا إشكال في تقديمه علي العام إذا كان أخص منه، لأنه بنظر العرف مفاد نفس الكلام الملقي إليهم، ولا يحتاج في استفادته إلي إعمال حكم العقل أيضا، وكذا لو كان المراد به هو الاحتمال الثاني أو الثالث أو الأخير، لأنه في جميع الصور مستفاد من نفس الكلام كما لا يخفي في الأولين.
وأما الأخير فلأن التعليل لا يتم بدون انضمام كبري كلية مطوية، فإنه لو لم يكن " كل مسكر حرام " لما يصح تعليل الحرمة في الخمر بأنه مسكر فالكبري التي يكون مورد المفهوم من صغرياتها، مستفادة من نفس الكلام ولا يحتاج إلي شئ آخر أصلا.
وأما لو كان المراد به هو الاحتمال الرابع الذي مرجعه إلي استفادته من القضية المنطوقية بضميمة حكم العقل بالأولوية القطعية، فقد يقال - كما في تقريرات المحقق النائيني (قدس سره) - بأنه لا يعقل أن يكون المفهوم معارضا للعام من دون معارضة منطوقه، لأنا فرضنا أن المفهوم موافق للمنطوق، وأنه يستفاد حكمه منه، فكيف يعقل أن يكون المنطوق أجنبيا عن العام وغير معارض له مع كون المفهوم معارضا؟! فالتعارض يقع ابتداء بين المنطوق والعام، ويتبعه وقوعه بين المفهوم والعام، وحينئذ فلابد أولا من علاج التعارض بين المنطوق والعام،
(٣٢٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، المنع (1)، الشراكة، المشاركة (1)
ويلزمه العلاج بين المفهوم والعام (1).
أقول: هذه الدعوي بنحو الكلية ممنوعة، لعدم التلازم بين كون المفهوم معارضا للعام وكون المنطوق أيضا كذلك، بل يمكن الانفكاك بينهما في بعض الموارد.
مثاله: ما لو قال: لا تكرم العلماء، ثم قال: أكرم جهال خدام النحويين، فإن المنطوق في المثال لا يعارض العام، لأن الجهال غير داخل في العلماء مع أن المفهوم - وهو وجوب إكرام علماء خدام النحويين، وكذا إكرام النحويين - معارض للعام، كما هو واضح.
وحينئذ فالموارد مختلفة، فلو كانت المعارضة بين المنطوق والعام أيضا، فلابد أولا من علاج التعارض بينه وبين العام، ويلزمه العلاج بين المفهوم والعام.
وأما لو كانت المعارضة منحصرة بالمفهوم، فقد يقال في وجه ترجيحه علي العام ولو كان التعارض بالعموم والخصوص من وجه: بأن الأمر هنا يدور بين رفع اليد عن العموم وتخصيصه بالمفهوم، وبين رفع اليد عن المنطوق المستلزم للمفهوم عقلا، وبين رفع اليد عن المفهوم مع ثبوت الحكم في المنطوق، والثاني لا سبيل إليه بعد كون المنطوق أجنبيا عن العام، وغير معارض له، كما هو المفروض، والثالث كذلك، لأن رفع اليد عن خصوص المفهوم يوجب نفي الملازمة ورفع اليد عنها مع كونها عقلية قطعية، فينحصر في الأول الذي مرجعه إلي رفع اليد عن ظهور لفظي.
ولكن لا يخفي: أن الملازمة تقتضي عدم الانفكاك بين المنطوق والمفهوم،
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 556.
(٣٢٦)
صفحهمفاتيح البحث: الكرم، الكرامة (1)، الوجوب (1)

المقام الثاني: في تخصيص العام با لمفهوم المخالف

فإذا كانت المعارضة بين المفهوم والعام، فالملازمة بين المنطوق والمفهوم توجب سرايتها إليه، وكونه معارضا للعام بالتبع، وحينئذ فلا بأس بتقديم العام علي المفهوم، والحكم برفع اليد عن المنطوق أيضا بسبب الملازمة، فلم يستلزم تقديم العام علي المفهوم الإخلال بالملازمة، وكذا رفع اليد عن المنطوق بلا وجه أما الأول: فواضح، وأما الثاني: فلأن رفع اليد عنه إنما هو لرفع اليد عن المفهوم الملازم له، كما لا يخفي.
هذا كله في المفهوم الموافق.
المقام الثاني: في تخصيص العام بالمفهوم المخالف وأما المفهوم المخالف فقد اختلف في جواز تخصيص العام به.
وينبغي أن يعلم أن محل النزاع إنما هو فيما إذا كان هنا عام وكان المفهوم معارضا له بالعموم والخصوص.
وأما فرضه فيما إذا كان هنا مطلق ومقيد ثم إجراء أحكام تلك المسألة عليه، مثل قوله (صلي الله عليه وآله وسلم): " خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شئ " (1) الحديث، وقوله (عليه السلام): " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ " (2) حيث إن ظاهر الدليل الأول كون تمام الموضوع للطهورية والاعتصام هو نفس الماء، وظاهر الدليل الثاني مدخلية الكرية أيضا، فيجب حمل المطلق علي المقيد، ففيه: أنه خارج
١ - المعتبر: ٨ / السطر ٣٢، وسائل الشيعة ١: ١٣٥، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب ١، الحديث ٩.
٢ - تهذيب الأحكام ١: ٣٩ / ١٠٧، الاستبصار ١: ٦ / ١، وسائل الشيعة ١: ١٥٨، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1 و 2.
(٣٢٧)
صفحهمفاتيح البحث: الجواز (1)، كتاب تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (2)، الطهارة (1)
عن محل البحث، فإن مورده هو ما إذا كان المفهوم معارضا للعام بالعموم والخصوص.
مثاله: ما إذا قال: أكرم العلماء، ثم قال: إذا جاءك زيد العالم فأكرمه، فإن مفهومه أنه إذا لم يجئك فلا يجب إكرامه، وهو يخالف العموم.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه إذا ورد العام وماله المفهوم في كلام واحد ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم، فإن كان كل واحد منهما مستفادا من الإطلاق بقرينة مقدمات الحكمة، أو كان كل منهما بالوضع، فالظاهر إجمال الدليل، ووجوب الرجوع إلي الأصول العملية، وإلا فلو كان واحد منهما مستفادا من الإطلاق، والآخر بالوضع، فلا شبهة في كون الترجيح مع الظهور الوضعي، لعدم تمامية مقدمات الحكمة معه.
وأما لو كانا في كلامين لا يصلح أن يكون واحد منهما قرينة متصلة للآخر، فإن كان أحدهما مستفادا من الإطلاق والآخر مدلولا عليه بالوضع، فلا شبهة في تقديمه علي الأول لو كان عدم البيان المأخوذ في مقدمات الحكمة أعم من البيان المتصل، وعلي تقدير الاختصاص به يتم الإطلاق، ويعارض الآخر، مثل ما إذا كان كل واحد منهما مستفادا من الإطلاق أو مدلولا عليه بالوضع، والترجيح فيه يدور مدار الأظهرية، كما لا يخفي.
(٣٢٨)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الكرم، الكرامة (1)

الفصل السابع: تخصيص الكتاب با لخبر الواحد

تخصيص الكتاب بالخبر الفصل السابع تخصيص الكتاب بالخبر الواحد لا شبهة في جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد المعتبر بالخصوص، كما يجوز بالكتاب وبالخبر المتواتر أو الواحد المحفوف بالقرينة القطعية اتفاقا، لوضوح استقرار سيرة الأصحاب علي العمل بالخبر الواحد في قبال عمومات الكتاب.
وعمدة ما يتوهم سندا للمنع هي الأخبار الدالة علي وجوب طرح الأخبار المخالفة للقرآن (1)، وضربها علي الجدار (2)، وأنها زخرف (3)، وأنها مما لم يقل به الإمام (عليه السلام) (4) علي اختلاف ألسنتها.
١ - وسائل الشيعة ٢٧: ١٠٦، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب ٩، الحديث ١٠ و ١٩ و ٢٩ و ٣٥.
٢ - الكافي ١: ٦٩ / ٣.
٣ - وسائل الشيعة ٢٧: ١٠٦، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 12 و 14.
4 - نفس المصدر، الحديث 15.
(٣٢٩)
صفحهمفاتيح البحث: الجواز (2)، الوجوب (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (2)
ولا يخفي عدم دلالتها علي المنع في المقام، لوضوح أن المخالفة بالعموم لا تعد بنظر العرف مخالفة، ضرورة ثبوت هذا النحو من المخالفة في نفس الكتاب العزيز، مع أن قوله تعالي: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (1) ينادي بعدم الاختلاف فيه.
مضافا إلي أن صدور الأخبار المخالفة للكتاب بهذا المعني من الأئمة (عليهم السلام) كثيرة جدا.
والسر فيه ما عرفت من عدم كون هذه المخالفة مخالفة بنظر العرف والعقلاء، وثبوت المناقضة، والتنافي بين الموجبة الكلية والسالبة الجزئية، وكذا بين السالبة الكلية والموجبة الجزئية وإن كان أمرا بديهيا إلا أن ذلك في غير محيط جعل القوانين وتقنينها، كما لا يخفي.
1 - النساء (4): 82.
(٣٣٠)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، العزّة (1)

الفصل الثامن: في استثناء المتعقب لجمل متعددة

استثناء المتعقب لجمل متعددة الفصل الثامن في استثناء المتعقب لجمل متعددة هل الاستثناء المتعقب للجمل المتعددة ظاهر في رجوعه إلي الكل أو خصوص الأخيرة، أو لا ظهور له في واحد منهما؟ وجوه وأقوال.
ولابد من البحث هنا في مقامين:
المقام الأول: إمكان الرجوع إلي الجميع وليعلم أن ذلك إنما هو بعد الفراغ عن إمكان رجوعه إلي الكل مع أنه قد يقال باستحالته، نظرا إلي أن آلة الاستثناء قد تكون حرفا، وقد تكون اسما، وعلي التقديرين تارة يكون المستثني عنوانا كليا منطبقا علي كثيرين، واخري يكون فردا واحدا متصادقا عليه جميع العناوين المستثني منها، وثالثة يكون أفرادا متعددة كل واحد منهما فرد لعنوان من تلك العناوين، مثل ما إذا قال: أكرم العلماء وأهن الفساق وأضف الهاشمي إلا زيدا، وكان زيد المستثني مرددا بين زيد العالم وزيد الفاسق وزيد الهاشمي وبين خصوص الأخير.
أما إذا كانت أداة الاستثناء اسما وكان المستثني عاما، فالإخراج من الجميع
(٣٣١)
صفحهمفاتيح البحث: زيد الهاشمي (1)

فيه مقامان: المقام الأول: إمكان الرجوع إلي الجميع

استثناء المتعقب لجمل متعددة الفصل الثامن في استثناء المتعقب لجمل متعددة هل الاستثناء المتعقب للجمل المتعددة ظاهر في رجوعه إلي الكل أو خصوص الأخيرة، أو لا ظهور له في واحد منهما؟ وجوه وأقوال.
ولابد من البحث هنا في مقامين:
المقام الأول: إمكان الرجوع إلي الجميع وليعلم أن ذلك إنما هو بعد الفراغ عن إمكان رجوعه إلي الكل مع أنه قد يقال باستحالته، نظرا إلي أن آلة الاستثناء قد تكون حرفا، وقد تكون اسما، وعلي التقديرين تارة يكون المستثني عنوانا كليا منطبقا علي كثيرين، واخري يكون فردا واحدا متصادقا عليه جميع العناوين المستثني منها، وثالثة يكون أفرادا متعددة كل واحد منهما فرد لعنوان من تلك العناوين، مثل ما إذا قال: أكرم العلماء وأهن الفساق وأضف الهاشمي إلا زيدا، وكان زيد المستثني مرددا بين زيد العالم وزيد الفاسق وزيد الهاشمي وبين خصوص الأخير.
أما إذا كانت أداة الاستثناء اسما وكان المستثني عاما، فالإخراج من الجميع
(٣٣١)
صفحهمفاتيح البحث: زيد الهاشمي (1)
من دون ملاحظة الوحدة بينهما يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معني واحد، وهو مستحيل، وكذا فيما لو كان المستثني فردا واحدا.
وأما لو كان المستثني أفرادا متعددة، فمضافا إلي ذلك يلزم استعمال المستثني أيضا في أكثر من معني واحد.
وأما لو كانت أداة الاستثناء حرفا، فبناء علي كونه موضوعا للجزئيات، فاستعمالها في أكثر من فرد واحد مستلزم لذلك المحذور الذي جريانه في الحروف أوضح، لأن اندكاكها في متعلقاتها أشد من فناء الألفاظ في معانيها الاسمية (1).
أقول: قد عرفت أن استعمال اللفظ في الأكثر من معني واحد بمكان من الإمكان، وأن الوجوه التي استندوا إليها لإثبات الاستحالة لم تكن ناهضة لإثباتها، والموضوع له في الحروف وإن لم يكن عاما إلا أنه لا إشكال في استعمالها في أكثر من واحد، والجامع بين معانيها وإن كان منتفيا، ضرورة عدم وجود الجامع الحقيقي بين الابتداءات الخارجية مثلا، ومفهوم الابتداء الذي هو معني اسمي لم يكن ابتداء حقيقة إلا أنه مع ذلك يمكن استعمالها في أكثر من واحد تبعا للأسماء ومتعلقاتها، نظير قوله: سر من كل نقطة من البصرة فإن الكثرة - التي هي مفاد الكل - تسري إلي " من " أيضا فيفيد وجوب السير مبتدئا من كل نقطة.
ومنه يظهر أن جواز استعمال الحرف في أكثر من واحد أوضح من جواز استعمال الاسم كذلك، لما عرفت من تبعية المقتضية لسراية مدلوله إليه، كما هو واضح.
١ - لاحظ معالم الدين: ١٢٥ - ١٣٠، مقالات الأصول ١: ٤٧٥.
(٣٣٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، مدينة البصرة (1)، الجواز (1)، الوجوب (1)

المقام الثاني: في مقام الإثبات

بل يمكن أن يقال بعدم استلزام الرجوع إلي الجميع، لتعدد الإخراج حتي يبتني علي القول بجواز استعمال الحروف في أكثر من معني.
أما فيما كان المستثني مشتملا علي الضمير: فلأن الموضوع له في باب الضمائر هو الإشارة إلي مرجعه، ومن الممكن أن يكون في المقام إشارة في جميع الجمل المتقدمة، ويكون الإخراج واحدا، ولا يلزم تجوز في ناحية الضمير في أكثر من معني واحد، لأن الإشارة واحدة وإن كان المشار إليه كثيرا.
وأما فيما إذا لم يكن مشتملا علي الضمير: فلأن استعمال المستثني أكثر من واحد لا يوجب أن يكون الإخراج متعددا حيث يلزم استعمال أداة الاستثناء في أكثر من واحد كما هو.
المقام الثاني: في مقام الإثبات إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه قد يقال - كما في تقريرات المحقق النائيني - بأن التحقيق يقتضي التفصيل بين ما إذا كانت الجمل المتعددة المتقدمة مشتملة علي عقد الوضع بأن يكون ذلك مكررا في جميعها وبين ما إذا لم يكن كذلك، بل كان ذكر عقد الوضع منحصرا بصدر الكلام، كما إذا قيل: أكرم العلماء وأضفهم وأطعمهم إلا فساقهم، بأن يقال برجوعه إلي الجميع دون خصوص الأخيرة في الثاني، وبرجوعه إلي خصوصها في الأول.
والسر في ذلك: أنه لابد من رجوع الاستثناء إلي عقد الوضع لا محالة، فإذا لم يكن مذكورا إلا في صدر الكلام، فلابد من رجوعه إليه، بخلاف ما إذا كان تكراره في الجملة الأخيرة يوجب أخذ الاستثناء محله من الكلام، فيحتاج
(٣٣٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الكرم، الكرامة (1)، الجواز (1)
تخصيص الباقي إلي دليل آخر مفقود علي الفرض (1).
أقول: لا يخفي أن ما ذكره من أنه لابد من رجوع الاستثناء إلي عقد الوضع مخالف لما ذكروه في قبال أبي حنيفة من أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي، فإن مرجع ذلك إلي رجوع الاستثناء إلي عقد الحمل، والحكم المذكور في الكلام، وإلا لم يكن الاستثناء من النفي إثباتا أصلا، وكذا العكس، فلابد من القول برجوعه إلي الحكم، وحينئذ فيتجه التفصيل بين ما إذا كان عقد الحمل متكررا أو واحدا.
وتفصيله بملاحظة ما عرفت أن المستثني قد يكون مشتملا علي الضمير، وقد لا يكون، وعلي التقدير الأول:
فتارة: يكون عقد الوضع أيضا واحدا وعقد الحمل متكررا، غاية الأمر أن عقد الوضع في غير الجملة الأولي إنما أفيد بالضمير سواء كان المستثني أيضا مشتملا علي الضمير، كما في المثال المذكور في كلامه، أو لم يكن، كما لو حذف الضمير في المثال من المستثني.
والظاهر في هذا القسم الرجوع إلي الجميع، لا لما ذكره، بل لأن ظاهر اتحاد السياق يقتضي أن يكون مثل الجمل المشتملة علي الضمير في عوده إلي الأولي، كما لا يخفي.
واخري: يكون بالعكس، مثل قوله: أضف العلماء والتجار والهاشميين إلا فساقهم.
والظاهر في هذا القسم أيضا الرجوع إلي الجميع، لكون عقد الحمل غير متعدد.
١ - أجود التقريرات ١: ٤٩٦ - 497.
(٣٣٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)
وثالثة: يكون كل منهما متكررا، وفي هذا القسم قد تكون الأحكام مختلفة بالصنف، وقد لا تكون كذلك.
وفي هذا القسم يتردد الأمر بين الرجوع إلي الجميع أو خصوص الأخيرة، ولا دليل علي التعيين، وعلي التقدير الثاني فالظاهر هو الرجوع إلي الجميع في مثل الصورة الثانية في التقدير الأول دون البواقي، فتدبر.
ثم إن الرجوع إلي الأخيرة في موارد الإجمال متيقن علي كل تقدير، وفي غيرها من الجمل لا يجوز التمسك بأصالة العموم، لاكتنافه بما يصلح للقرينية، ولم يحرز استقرار بناء العقلاء علي التمسك بها في أمثال المقام، فلابد في مورد الاستثناء فيه من الرجوع إلي الأصول العملية.
وذكر في التقريرات: أن توهم كون المقام من قبيل اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية غير صحيح، لأن المولي لو أراد تخصيص الجميع ومع ذلك قد اكتفي في مقام البيان بذكر استثناء واحد مع تكرار عقد الوضع في الجملة الأخيرة، لكان مخلا ببيانه، إذ بعد أخذ الاستثناء محله من الكلام لا يكون موجب لرجوعه إلي الجميع (1).
ولا يخفي أن ذلك يوجب سد باب الإجمال، فإنه كيف لا يجوز أن يكون غرضه تخصيص الجميع ومع ذلك أجمل كلامه لمصلحة مقتضية له كما في سائر المجملات.
وأما قوله بعد أخذ الاستثناء محله من الكلام: فلم نعرف له معني.
وحكي عن المقالات أ أنه قال في المقام ما ملخصه: أن إطلاق الاستثناء والمستثني يوجب الرجوع إلي الجميع، وحينئذ فلو كان العموم في الجمل
١ - أجود التقريرات ١: ٤٩٧.
(٣٣٥)
صفحهمفاتيح البحث: الجواز (2)
المستثني منها مستفادا لا من الإطلاق، يوجب ذلك عدم انعقاد الإطلاق في الاستثناء والمستثني، لصيرورة العموم في غير الجملة الأخيرة قرينة علي اختصاصهما بها، وأما لو كان العموم مستفادا من مقدمات الحكمة، فهنا إطلاقان يكون انعقاد كل منهما معلقا علي عدم الآخر، فلا ينعقدان، فيصير الكلام بالنسبة إلي غير الجملة الأخيرة مجملا (1).
أقول: ما ذكره في الشق الأول من صيرورة العموم قرينة علي اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة، محل نظر بل منع.
أما فيما كان المستثني مشتملا علي الضمير: فلأن رجوعه إلي الجميع أو خصوص الأخيرة متوقف علي تعيين مرجع الضمير، وأنه أشير به إلي الجميع أو إليها.
وأما فيما لم يكن كذلك: فقد عرفت أن أصالة العموم في غير هذه الأخيرة في أمثال المقام غير جارية، فتدبر.
١ - مقالات الأصول ١: ٤٧٥ - 476.
(٣٣٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، المنع (1)
المقصد الخامس في المطلق والمقيد وفيه فصول:
صفحه(٣٣٧)

المقصد الخامس: في المطلق والمقيد وفيه فصول: الفصل الأول: في تعريف المطلق

تعريف المطلق الفصل الأول في تعريف المطلق قد عرف المطلق بأنه ما دل علي شايع في جنسه (1).
ولكنه مخدوش من وجوه كثيرة:
منها: أن ظاهره كون الإطلاق وصفا لنفس اللفظ مع أنه من صفات المعني، ضرورة أنه يتصف به المعني ولو لم يكن في العالم لفظ فإن ماهية الإنسان مطلقة ولو لم يوضع بإزائها لفظ أصلا فإنها أمر شائع في أفراده الذاتية، ومعراة عن القيود والخصوصيات الوجودية المجامعة مع كل واحد منها، كما لا يخفي.
منها: أن اعتبار الشيوع في الجنس إن كان قيدا للمدلول بما أنه مدلول بحيث كان مرجعه إلي دلالة اللفظ علي الشيوع والسريان أيضا، فليس في العالم مطلق أصلا، ضرورة أن اللفظ لا يحكي إلا عن نفس الماهية المطلقة، وكونها بذاتها شائعة في أفرادها، سارية في وجوداتها لا ارتباط له بدلالة اللفظ
١ - قوانين الأصول 1: 321 / السطر 16.
(٣٣٩)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب قوانين الأصول للميرزا القمي (1)
أصلا، كما هو واضح، فلابد من أن يكون هذا القيد وصفا لنفس المعني مع قطع النظر عن كونه مدلولا للفظ.
منها: أن مقتضي التعريف اختصاص الإطلاق بالمعاني الكلية، ضرورة أنها تكون شائعة في جنسها، أي الأفراد المجانسة لها، لا الجنس الاصطلاحي المنطقي، وأما الأمور الجزئية الغير القابلة للسريان فظاهره أنها لا تكون متصفة بالإطلاق مع أنها أيضا كذلك، ضرورة أن قوله: أكرم زيدا، مطلق غير مشروط بشئ أصلا.
ودعوي أن المعاني الجزئية غير قابلة للتقييد فلا يتصف بالإطلاق، مدفوعة بمنع ذلك، فإن الأمور الجزئية أيضا قابلة للتقييد، فإن جعل زيد مثلا موضوعا للحكم تارة يكون بنحو الإطلاق، واخري مقيدا بمجيئه أو بغيره من الحالات والعوارض، كما هو واضح.
منها: أن هذا التعريف يشمل بعض المقيدات أيضا، ضرورة أن الرقبة المقيدة بالمؤمنة أيضا شائعة في جميع أفراد الرقبة المؤمنة، كما لا يخفي فالأولي أن يقال: إن المطلق عبارة عن المعني المعري عن القيد المعبر عنه بالفارسية ب (رها بودن) والمقيد بخلافه، ولا شبهة في أنهما وصفان إضافيان، ضرورة أن المعني الملحوظ مع أمر آخر تارة يكون مقيدا به واخري معري عنه، وهذا المعني يجري في جميع القيود، وربما يكون مقيدا ببعضها وغير مقيد بالبعض الآخر، وهو - أي المطلق - قد يكون وصفا للحكم، وقد يكون وصفا لمتعلقه، وقد يكون وصفا لموضوعه، وقد يكون وصفا لنفس المعني مع قطع النظر عن تعلق الحكم، فإن ماهية الإنسان مطلقة والإنسان الأبيض مقيدة ولو لم يكن في البين حكم أصلا، كما هو واضح، والإطلاق في الجميع بمعني واحد، وهو خلوه عن التقيد بشئ آخر.
(٣٤٠)
صفحهمفاتيح البحث: الكرم، الكرامة (1)
ثم إن التقابل بين الإطلاق والتقييد أشبه بتقابل العدم والملكة من حيث إن اتصاف معني بالإطلاق إنما هو فيما لو كان قابلا وصالحا للتقييد وإن كان بينهما فرق من حيث إن أعدام الملكات إذا انقلبت من مرحلة القابلية إلي الفعلية يوجب ذلك تبدل صورتها، بخلاف المطلق، فإن تقييد الإنسان بالعالم مثلا لا يوجب ذلك تصرفا في معناه، فإن معني الإنسان واحد، سواء قيد ببعض القيود أم لم يقيد، وقد مرت الإشارة إليه.
صفحه(٣٤١)

الفصل الثاني: حول الألفاظ التي يطلق عليها المطلق

الألفاظ التي يطلق عليها المطلق الفصل الثاني حول الألفاظ التي يطلق عليها المطلق ثم إنه جرت العادة هنا بذكر تعيين ما وضع له بعض الألفاظ التي يطلق عليها المطلق، ونحن نقتفي أثرهم وإن كان غير مرتبط بالمقام، لما عرفت من أن معني الإطلاق هو خلو المعني عن التعلق بشئ آخر، سواء كان كليا أو جزئيا، وأن الإطلاق والتقييد وصفان إضافيان، وأن الإطلاق في جميع الموارد بمعني واحد، فالتكلم فيما وضع له اسم الجنس مثلا ليس له ارتباط بتلك الأمور المذكورة، كما هو واضح.
منها: اسم الجنس وكيف كان فقد عدوا منها اسم الجنس، كإنسان ورجل وسواد وبياض والزوجية وغيرها من أسماء الكليات من الجواهر والأعراض والعرضيات، ولا شبهة في أنها موضوعة لنفس الماهية والمفهوم بما هي هي، ومن المعلوم أنها عين أفرادها في الخارج، فصحة إطلاقها علي أفرادها لا يستلزم ملاحظة الماهية في مرحلة الوضع بنحو اللا بشرط القسمي تسرية للوضع إلي المعني
(٣٤٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)

منها: اسم الجنس

الألفاظ التي يطلق عليها المطلق الفصل الثاني حول الألفاظ التي يطلق عليها المطلق ثم إنه جرت العادة هنا بذكر تعيين ما وضع له بعض الألفاظ التي يطلق عليها المطلق، ونحن نقتفي أثرهم وإن كان غير مرتبط بالمقام، لما عرفت من أن معني الإطلاق هو خلو المعني عن التعلق بشئ آخر، سواء كان كليا أو جزئيا، وأن الإطلاق والتقييد وصفان إضافيان، وأن الإطلاق في جميع الموارد بمعني واحد، فالتكلم فيما وضع له اسم الجنس مثلا ليس له ارتباط بتلك الأمور المذكورة، كما هو واضح.
منها: اسم الجنس وكيف كان فقد عدوا منها اسم الجنس، كإنسان ورجل وسواد وبياض والزوجية وغيرها من أسماء الكليات من الجواهر والأعراض والعرضيات، ولا شبهة في أنها موضوعة لنفس الماهية والمفهوم بما هي هي، ومن المعلوم أنها عين أفرادها في الخارج، فصحة إطلاقها علي أفرادها لا يستلزم ملاحظة الماهية في مرحلة الوضع بنحو اللا بشرط القسمي تسرية للوضع إلي المعني
(٣٤٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)

أقسام الماهية

بجميع أطواره، وجعل الوضع بإزاء نفسها، كما أفاده بعض المحققين من محشي الكفاية (1).
وذلك لأن المراد من تسرية الوضع إن كان بحيث يوجب صحة إطلاق اللفظ علي جميع أفراده والحمل عليه بالحمل الذاتي، فلا شبهة في بطلانه، لأن استعمال لفظ الإنسان في بعض أفراده مجاز بالاتفاق وإن كان بحيث يوجب صحة الحمل عليه بالحمل الشائع، فذلك لا يستلزم ملاحظة الماهية بنحو اللابشرط القسمي، كما هو واضح.
وكيف كان فلا شبهة في أن ما وضع له أسماء الأجناس هي نفس المفاهيم الكلية والماهيات بما هي هي.
أقسام الماهية ثم إنهم قسموا الماهية إلي الأقسام الثلاثة: الماهية اللابشرط والماهية البشرط شئ والماهية البشرط لا، نظرا إلي أنه إذا لوحظت الماهية مع أمر خارج عنها فإما أن تلاحظ مع وجودها أو مع عدمها أو لا مع وجودها ولا مع عدمها (2).
وقد أشكل عليه بأن القسم الأول - وهي الماهية اللابشرط - عين المقسم، فالتقسيم تقسيم إلي نفسه وإلي غيره (3).
وأجيب عن ذلك بالفرق، فإن المقسم هو اللابشرط المقسمي، والقسم هو
١ - نهاية الدراية 2: 493.
2 - الحكمة المتعالية 2: 16، شرح المنظومة، قسم الحكمة: 95 وما بعدها.
3 - الحكمة المتعالية 2: 19.
صفحه(٣٤٣)
اللابشرط القسمي (1).
وقيل في بيانه: إن التقسيم إلي الأقسام الثلاثة المذكورة ليس تقسيما لنفس الماهية، بل المقسم إنما هو لحاظها، وحينئذ فالمراد بالماهية اللابشرط هو لحاظها كذلك، فالتفاوت بين المقسم والقسم إنما هو باعتبار أن الأول هو مجرد لحاظ الماهية من دون ملاحظة شئ معها، والثاني هو لحاظها مجردا عن قيد آخر وجوديا كان أم عدميا، كما أن المراد بالماهية البشرط شئ هو لحاظها مشروطا به، وبالماهية البشرط لا هو لحاظها مشروطا بعدمه (2).
هذا ولا يخفي: أن لازم كون التقسيم للحاظ الماهية لا لنفسها أن كل أمر خارج عنها إذا لوحظت الماهية بالقياس إليها، يمكن اعتبار الأقسام الثلاثة فيه، فإن باب اللحاظ واسع، فيمكن ملاحظة الماهية بالنسبة إلي كل قيد مشروطا بوجوده أو بعدمه أو غير مشروط بشئ منهما، مع أن ذلك مستبعد جدا، فإنه كيف يمكن أن يكون مراد أساطين الحكمة المتعرضين لهذا التقسيم ذلك المعني الذي هو مجرد الاعتبار وصرف اللحاظ وإن كان ظاهر عبائرهم في بيان التقسيم ذلك، لكنه ليس بمرادهم، فان لتحقيق أن هذا تقسيم لنفس الماهية.
وتوضيحه: أن كل ماهية إذا لوحظت مع أمر من الأمور الخارجة عنها فإما أن تكون مشروطة بوجوده واقعا بحيث لا يعقل الانفكاك بينهما في نفس الأمر ولو مع عدم لحاظها كذلك، وإما أن تكون مشروطة بعدمه واقعا بحيث يستحيل اجتماعهما كذلك، وإما أن لا تكون مشروطة بوجوده ولا بعدمه، بل يكون ذلك الأمر من العوارض التي قد يجتمع معها وقد يفترق عنها ولو مع لحاظها مشروطة بوجوده
١ - نفس المصدر.
٢ - نهاية الدراية 2: 490 - 494.
(٣٤٤)
صفحهمفاتيح البحث: الوسعة (1)
أو بعدمه.
فالأول: هي الماهية البشرط شئ، ومثاله: ماهية الجسم بالنسبة إلي التحيز، فإنها تكون دائما مشروطة به، ويستحيل تحقق الانفكاك بينهما ولو لم تلاحظ كذلك.
والثاني: هي الماهية البشرط لا، ومثاله: ماهية الجسم بالنسبة إلي التجرد مثلا، فإنها تكون دائما متفرقة عنه، ولا يعقل اجتماعهما.
والثالث: هي الماهية اللابشرط، ومثاله: ماهية الإنسان بالنسبة إلي الكتابة، فإنها لا تكون مشروطة بوجودها دائما بحيث كان الانفكاك مستحيلا، ولا بعدمها بحيث كان الاجتماع محالا، بل ربما توجد معها وربما توجد منفكة عنها.
ومما ذكرنا يظهر: أن الماهية بالنسبة إلي كل قيد لوحظ معها لها أحد الأقسام الثلاثة علي سبيل المنفصلة الحقيقية، ولا يعقل اجتماعها بالنسبة إلي قيد واحد، كما لا يخفي، كما أنه ظهر ثبوت المغايرة بين المقسم والقسم، فإن المقسم هي نفس الماهية المحفوظة في جميع الأقسام الثلاثة، وبإضافة شئ من الخصوصيات المأخوذة في الأقسام يتحقق قسم منها، كما لا يخفي.
ثم إنه أفاد المحقق النائيني - علي ما في التقريرات - هنا كلاما في معني الأقسام وبيان الفرق بين اللابشرط القسمي والمقسمي (1).
وفيه - مضافا إلي المناقضة بين الصدر والذيل - وجوه من الخلل، كما يظهر لمن راجعه وتأمل.
والإنصاف أن ما ذكرنا هو التقسيم المعقول الذي يمكن أن يكون مقصودا لأساطين الحكمة، كما عرفت.
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 569.
(٣٤٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)

منها: علم الجنس

منها: علم الجنس وهي كأسامة، والمشهور بين أهل العربية أنه موضوع للطبيعة بما هي متعينة، ولذا يعامل معه معاملة المعرفة.
ولكن ذهب في الكفاية إلي أنه موضوع لصرف المعني ونفس الطبيعة، كاسم الجنس، والتعريف لفظي، كما في التأنيث اللفظي، نظرا إلي أنه لو لم يكن كذلك لما صح حمله علي الأفراد بلا تصرف وتأويل، لأنه علي المشهور أمر ذهني، وهو لا يصدق علي الخارج إلا مع التجريد، مع صحة حمله عليها بدونه.
مضافا إلي أن وضعه لما يحتاج إلي التجريد في مقام الاستعمال لا يصدر عن الواضع الحكيم (1).
ولكنه تنظر فيه في كتاب الدرر حيث قال: وفيما أفاده نظر، لإمكان دخل الوجود الذهني علي نحو المرآتية في نظر اللاحظ، كما أنه ينتزع الكلية عن المفاهيم الموجودة في الذهن لكن لا علي نحو يكون الوجود الذهني ملحوظا للمتصور بالمعني الاسمي، إذ هي بهذه الملاحظة مباينة مع الخارج، ولا تنطبق علي شئ، ولا معني لكلية شئ لا ينطبق علي الخارج أصلا.
إذا عرفت هذا، فنقول: إن لفظ " أسامة " موضوع للأسد بشرط تعينه في الذهن علي نحو الحكاية عن الخارج، ويكون استعمال ذلك اللفظ في معناه بملاحظة القيد المذكور، كاستعمال الألفاظ الدالة علي المعاني الحرفية، فافهم وتدبر (2). انتهي.
١ - كفاية الأصول: ٢٨٣.
٢ - درر الفوائد، المحقق الحائري: 232.
(٣٤٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
أقول: أخذ اللحاظ ولو كان بالمعني الحرفي في المعني الموضوع له معناه كونه متقوما به، وإلا فيصير الموضوع له مجرد المعني من دون مدخلية شئ، ولم يبق فرق بين علم الجنس واسمه، ومع تقوم معني الأول به يرد عليه ما أفاده في الكفاية (1)، كما لا يخفي.
والتحقيق أن يقال: إن الفرق بين المعرفة والنكرة واتصاف شئ بالأول وشئ آخر بالثاني أمر واقعي، فإن المعرفة هو ما كان في الواقع متعينا غير قابل للتردد والإبهام، مثل الأعلام الشخصية، فإن لفظ " زيد " موضوعة لشخص متعين في الواقع، بخلاف النكرة، فإن معني الرجل المنكر هو الفرد المردد من طبيعة الرجل والمبهم في نفس الأمر، فالامتياز والتفاوت إنما هو بحسب الواقع، وحينئذ فنقول: الموضوع له في باب اسم الجنس هي نفس الطبيعة بما هي هي، والطبيعة في هذه المرتبة التي هي مرتبة ذات الطبيعة لا تكون معرفة ولا نكرة، ولذا يكون عروض التعريف والتنكير بسبب أمر آخر، مثل الألف واللام المفيدة لتعريف الجنس، وتنوين التنكير المفيدة لنكارته، فلو كان معني " رجل " الذي هو اسم الجنس معرفا، لم يحتج في تعريفه إلي إلحاق الألف واللام به ويستحيل تنكيره من غير تجريد كما لا يخفي، كما أنه لو كان منكرا، لم يحتج إلي التنوين، ولم يصح تعريفه من غير تجريد، وليس ذلك إلا لكون نفس الطبيعة الموضوع لها اسم الجنس لا يكون معرفة ولا نكرة، ولذا لا يستعمل كذلك.
وأما علم الجنس فهو موضوع لنفس الطبيعة الممتازة عن سائر الطبائع، فإن كل طبيعة إذا لوحظت بالإضافة إلي سائر الطبائع تكون ممتازة عنها ومتعينة بذاتها في عالم الواقع ونفس الأمر، وليس ذلك التعين دائرا مدار الاعتبار، بل هو
١ - كفاية الأصول: ٢٨٣.
(٣٤٧)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

منها: المفرد المعرف باللام

أمر واقعي، كالتعريف في غيره من الموارد، وحينئذ فاللحاظ ليس مأخوذا في المعني حتي يستحيل انطباقه علي الخارج، بل المعني هي الطبيعة الممتازة بذاتها واقعا، وهو قابل للاتحاد مع الخارج.
وبالجملة، فمفاد علم الجنس والمعرف بلام الجنس واحد غاية الأمر تعدد الدال في الثاني دون الأول، كما لا يخفي.
منها: المفرد المعرف باللام ومما ذكرنا ظهر الحال في المفرد المعرف باللام، فإن المعرف بلام الجنس معناه ما عرفت.
وأما المعرف بلام الاستغراق أو العهد بأقسامه فإنه أيضا موضوع للمعني المتعين، وهو جميع الأفراد في الأول، والمعني المعهود في الثاني.
منها: النكرة مثل " رجل " في جاء رجل، أو جئني برجل.
وذكر في الكفاية أن مدلولها في مثل الأول هو الفرد المعين المجهول عند المخاطب، وفي الثاني هي الطبيعة المأخوذة مع قيد الوحدة التي يدل عليها تنوين التنكير، فيكون مدلولها في الأول جزئيا، كما هو واضح، وفي الثاني كليا (1)، وهي حصة من الرجل ولا يخفي أن الجزئية في الأول إنما يستفاد من دال آخر، وهو نسبة المجئ إليه، وإلا فمن الواضح عدم تعدد الوضع في باب النكرة، فالتحقيق أن مدلولها هو المعني الكلي في الموضعين.
١ - كفاية الأصول: ٢٨٥.
(٣٤٨)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

منها: النكرة

أمر واقعي، كالتعريف في غيره من الموارد، وحينئذ فاللحاظ ليس مأخوذا في المعني حتي يستحيل انطباقه علي الخارج، بل المعني هي الطبيعة الممتازة بذاتها واقعا، وهو قابل للاتحاد مع الخارج.
وبالجملة، فمفاد علم الجنس والمعرف بلام الجنس واحد غاية الأمر تعدد الدال في الثاني دون الأول، كما لا يخفي.
منها: المفرد المعرف باللام ومما ذكرنا ظهر الحال في المفرد المعرف باللام، فإن المعرف بلام الجنس معناه ما عرفت.
وأما المعرف بلام الاستغراق أو العهد بأقسامه فإنه أيضا موضوع للمعني المتعين، وهو جميع الأفراد في الأول، والمعني المعهود في الثاني.
منها: النكرة مثل " رجل " في جاء رجل، أو جئني برجل.
وذكر في الكفاية أن مدلولها في مثل الأول هو الفرد المعين المجهول عند المخاطب، وفي الثاني هي الطبيعة المأخوذة مع قيد الوحدة التي يدل عليها تنوين التنكير، فيكون مدلولها في الأول جزئيا، كما هو واضح، وفي الثاني كليا (1)، وهي حصة من الرجل ولا يخفي أن الجزئية في الأول إنما يستفاد من دال آخر، وهو نسبة المجئ إليه، وإلا فمن الواضح عدم تعدد الوضع في باب النكرة، فالتحقيق أن مدلولها هو المعني الكلي في الموضعين.
١ - كفاية الأصول: ٢٨٥.
(٣٤٨)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
ثم إنك عرفت أن معني المطلق هو خلو المعني عن القيد، سواء كان كليا أو جزئيا، وحينئذ فتخصيص المطلق باسم الجنس والنكرة بالمعني الثاني - كما أفاده في الكفاية - في غير محله، لأن النكرة بالمعني الأول - الذي هو أمر جزئي - مطلقة، كما في سائر الجزئيات، فإن قوله: أكرم زيدا، مطلق من حيث عدم تقييد زيد بالجائي أو بغيره من القيود، كما أنك عرفت أن لفظ المطلق لا يحكي إلا عن نفس الطبيعة، وهي لا يعقل أن تكون مرآة للأفراد والخصوصيات، ومعني إطلاقها من حيث تعلق الحكم بها هو كون تمام المتعلق للحكم المجعول هي نفسها من غير مدخلية شئ آخر فيها، وهذا المعني يستفاد من فعل المتكلم حيث إنه إذا كان بصدد بيان متعلق حكمه وكان مختارا في التكلم فهذا دليل بنظر العقل علي أن المذكور تمام المتعلق، وليس ذلك من قبيل الدلالات اللفظية، بل هو من الدلالات العقلية، كدلالة التكلم علي كون مدلول الكلام مقصودا للمتكلم، وحينئذ فيظهر لك أن إثبات الإطلاق بضميمة مقدمات الحكمة أو بغيرها ليس يرجع إلي إثبات الشياع والسريان، كما ذكره في الكفاية حيث قال: إن الشياع والسريان - كسائر طوارئ الطبيعة - يكون خارجا عما وضع له لفظ المطلق، فلابد في الدلالة عليه من قرينة حال أو مقال أو حكمة (1)، فإن ظاهره أن جريان مقدمات الحكمة يفيد الشياع والسريان، مع أن مفادها ليس إلا كون المذكور تمام الموضوع، ولا مدخلية لشئ آخر فيه.
١ - كفاية الأصول: ٢٨٧.
(٣٤٩)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الكرم، الكرامة (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

الفصل الثالث: في مقدمات الحكمة

مقدمات الحكمة الفصل الثالث في مقدمات الحكمة وكيف كان فقد ذكر في الكفاية أن مقدمات الحكمة ثلاثة:
إحداها: كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد لا الإهمال أو الإجمال.
ثانيتها: انتفاء ما يوجب التعيين.
ثالثتها: انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب (1).
أقول: الظاهر أن قرينة الحكمة لا تتوقف إلا علي مقدمة واحدة، وهي المقدمة الأولي، فهنا دعويان: الأولي توقفها علي المقدمة الأولي، ثانيتهما عدم توقفها علي سائر المقدمات.
أما الدعوي الأولي: فواضحة، لأنه إذا لم يكن المتكلم في مقام بيان تمام المراد، بل كان في مقام بيان حكم آخر أو في مقام بيان أصل التشريع، لا يمكن أن يحتج بكلامه عليه عند العقلاء، لصحة اعتذاره بأنه كان بصدد بيان جهة أخري أو بيان الحكم بنحو الإجمال مثلا.
١ - كفاية الأصول: ٢٨٧.
(٣٥٠)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
وذهب في الدرر إلي عدم الاحتياج إلي هذه المقدمة، وقال في بيانه ما ملخصه: أن المهملة مرددة بين المطلق والمقيد ولا ثالث، ولا إشكال في أنه لو كان المراد هو المقيد تكون الإرادة متعلقة به بالأصالة، وإنما ينسب إلي الطبيعة بالتبع لمكان الاتحاد وحينئذ فنقول ظاهر الكلام هو تعلق الإرادة أولا وبالذات بنفس الطبيعة لا أن المراد هو المقيد، ثم أضيفت الإرادة إلي الطبيعة لمكان الاتحاد، وبعد ثبوت هذا الظهور تسري الإرادة إلي تمام الأفراد، وهو معني الإطلاق (1). انتهي.
أقول: ظهور الكلام في تعلق الإرادة أولا وبالذات بنفس الطبيعة إنما هو فيما إذا أحرز كون المتكلم في مقام البيان، وإلا فلو كان بصدد بيان حكم آخر فيمنع هذا الظهور بحيث يمكن الأخذ به والاحتجاج به عليه، لأنه ليس من الظهورات اللفظية، بل إنما هو من الدلالات العقلية، فتسليم الظهور مبني علي ثبوت هذه المقدمة، كما لا يخفي.
وأما الدعوي الثانية: فعدم الاحتياج إلي المقدمة الثانية واضح، ضرورة أن مفروض الكلام إنما هو فيما إذا دار الأمر بين كون المراد هو المطلق أو المقيد، وأما مع ثبوت القيد في الكلام فهو خارج عن مفروض المقام، لعدم كون المراد مرددا حينئذ، كما هو واضح.
وأما المقدمة الثالثة فهي أيضا غير محتاج إليها، لعدم كون ثبوت القدر المتيقن في مقام التخاطب مضرا بالإطلاق أصلا.
وتوضيحه: أنك عرفت أن معني الإطلاق ليس كون الطبيعة المأخوذة متعلقا للحكم سارية في جميع الأفراد وشائعة بين جميع الوجودات حتي يكون
١ - درر الفوائد، المحقق الحائري: 234.
(٣٥١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)
جريان مقدمات الحكمة منتجا لما يفيده العموم، بل المراد به هو كون نفس الطبيعة المذكورة في الكلام مما يتقوم به تمام المصلحة، ولم يكن لبعض القيودات مدخلية في ذلك، وحينئذ فلو كان المتكلم في مقام بيان تمام ماله دخل في موضوع حكمه - كما هو المفروض في المقدمة الأولي - ومع ذلك لم يذكر إلا نفس الطبيعة - كما هو المفروض في المقام - فإثبات الإطلاق وصحة الاحتجاج به عليه لا يحتاج إلي أمر آخر، لأنه لو كان مراده هو المقدار المتيقن، لكان عليه تقييد الطبيعة لإخراج ما عداه، وليس الأمر دائرا بين الأقل والأكثر بمعني أن يكون تعلق الحكم بالمقدار المتيقن معلوما وبما عداه مشكوكا، ضرورة أن الحكم في باب الإطلاق والتقييد لا يكون متعلقا بالأفراد والوجودات، بل إنما كان هنا حكم واحد مردد بين تعلقه بنفس الطبيعة أو بها مقيدة، وتعلق الحكم بالمقيد ليس معلوما، وثبوت القدر المتيقن لا يوجب ذلك.
وكيف كان فالقدر المتيقن في مقام التخاطب الراجع إلي كون بعض الأفراد أو الحالات مما كان عند المخاطب معلوم الحكم بمجرد إلقاء الخطاب، لابعد التأمل مما لا يضر بالإطلاق بعد كون الأفراد والحالات أجنبية عن تعلق الحكم بها في باب الإطلاق، كما لا يخفي.
هذا كله بناء علي ما اخترناه في معني الإطلاق.
وأما بناء علي مذاق القوم من جعله بمعني الشياع والسريان، فقد ذكر في الكفاية أن مع ثبوته لا إخلال بالغرض لو كان المتيقن تمام مراده، فإن الفرض أنه بصدد بيان تمامه وقد بينه، لا بصدد بيان أنه تمامه كي أخل ببيانه فافهم (1).
١ - كفاية الأصول: ٢٨٧.
(٣٥٢)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

المراد من كون المتكلم في مقام البيان

وذكر في الحاشية في بيان المشار إليه بقوله: فافهم، ما لفظه: إشارة إلي أنه لو كان بصدد بيان أنه تمامه ما أخل ببيانه بعد عدم نصب قرينة علي إرادة تمام الأفراد، فإنه بملاحظته يفهم أن المتيقن تمام المراد، وإلا كان عليه نصب القرينة علي إرادة تمامها، وإلا قد أخل بفرضه.
نعم لا يفهم ذلك إذا لم يكن إلا بصدد بيان أن المتيقن مراد ولم يكن بصدد بيان أن غيره مراد، أوليس بمراد قبالا للإجمال أو الإهمال المطلقين، فافهم فإنه لا يخلو من دقة (1). انتهي.
أقول: الظاهر أنه بناء علي هذا القول أيضا لا يكون وجود القدر المتيقن مضرا، ضرورة أن جل الطبيعة مرآة لبعض الأفراد دون البعض الآخر مما لا يعقل، فمن ذكرها بنفسها يستكشف أنه لاحظ السريان في جميع الأفراد.
مضافا إلي أن من أوضح مصاديق القدر المتيقن ورود العام أو المطلق في مورد خاص مع أنه لا يلتزم أحد بكون المورد مخصصا أو مقيدا، وإلي أن متيقنية بعض الأفراد أمر وكون الحكم مطلقا بحسب نظر العقل والعقلاء بحيث صح الاحتجاج به علي الحاكم أمر آخر لا ربط لأحدهما بالآخر، كما هو واضح.
فتلخص: أن قرينة الحكمة لا تتوقف إلا علي مقدمة واحدة، وهي كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده.
المراد من كون المتكلم في مقام البيان ثم إن المراد بكون المتكلم في مقام البيان ليس كونه في مقام بيان مراده الجدي والنفس الأمري، بل المراد به هو كونه في مقام بيان ما يريده ولو قاعدة
١ - كفاية الأصول: ٢٨٧، الهامش 1.
(٣٥٣)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

تتمة: الأصل عند الشك في مقام البيان

وقانونا، وحينئذ فالظفر بالمقيد ولو كان مخالفا لا يكشف عن عدم كونه في مقام البيان حتي ينثلم به الإطلاق بالنسبة إلي القيود المشكوكة، وذلك لما عرفت في مبحث العموم والخصوص من أن تخصيص العام لا يوجب تصرفا في مدلوله الاستعمالي، بل العام بعد التخصيص باق علي ما كان عليه قبله.
نعم يوجب ذلك تصرفا في المراد الجدي من حيث إنه يكشف عن كونه مقصورا بما عدا مورد الخاص، وهذا المعني يجري في هذا المقام أيضا، وحينئذ فالظفر بالمقيد يكشف عن مجرد عدم تعلق الإرادة الجدية بالمطلق حتي بالنسبة إلي ذلك القيد، وذلك لا يستلزم عدم ثبوت الإطلاق بملاحظة القيود الأخر، وهذا واضح.
ثم إن كون المتكلم من دأبه ذكر المقيدات والمخصصات بعد المطلقات والعمومات لا يوجب عدم جواز التمسك بإطلاق كلامه بعد إحراز كونه في مقام بيان مراده، لأن غاية ذلك وجوب الفحص عنها، ومفروض الكلام إنما هو بعده، كما لا يخفي.
تتمة: الأصل عند الشك في مقام البيان ثم إنه لابد في قرينة الحكمة المتوقفة علي تلك المقدمة من إحرازها، وكون المتكلم في مقام بيان تمام مراده، وهو قد يحرز بالوجدان، وقد يحرز بالأصل العقلائي حيث إن العقلاء يتمسكون بإطلاق كلام المتكلم بمجرد صدوره منه فيما لم يحرز الخلاف، وأنه كان بصدد الإهمال أو الإجمال، كما يظهر بمراجعة سيرة أهل المحاورات، ولا يخفي أن بناء العقلاء إنما هو فيما إذا كان المقام مقاما للبيان نوعا، ولكن مع ذلك شك في كونه بصدد البيان أو بصدد غيره مثلا: مقام الجواب عن السائل عن مسألة كانت موردا لابتلائه مقام البيان
(٣٥٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الجواز (1)، الوجوب (1)
بحسب سيرة المتكلمين، فلو فرض الشك فيه، لاحتمال ثبوت جهة مانعة عن المشي علي الطريق المتداول، يكون ذلك الشك غير معتني به عند العقلاء، وأما إذا لم يكن المقام مقاما للبيان كذلك، كما إذا صدر من المتكلم كلام ابتداء ودار أمره بين كونه في مقام بيان هذا الحكم أو حكم آخر، فلا يكون هنا أصل عقلائي حاكم بالأول، كما هو واضح.
صفحه(٣٥٥)

الفصل الرابع: في أقسام المطلق والمقيد وكيفية الجمع بينهما

كيفية الجمع بين المطلق والمقيد الفصل الرابع في أقسام المطلق والمقيد وكيفية الجمع بينهما إذا ورد مطلق ومقيد متنافيان بأن علم وحدة التكليف إما من ناحية وحدة السبب أو من جهة القرائن الأخر، فإما أن يكونا مختلفين في الإثبات والنفي، وإما أن يكونا متوافقين مثبتين أو منفيين، وعلي أي تقدير فإما أن يقعا في كلام واحد أو في كلامين.
فيقع الكلام في مقامين:
المقام الأول: إذا ورد مطلق ومقيد بدون ذكر السبب وهو مشتمل علي صور:
الصورة الأولي: ما إذا كانا مختلفين فلا إشكال في لزوم حمل المطلق علي المقيد فيما إذا كان المطلق متعلقا للنهي، والمقيد متعلقا للأمر، مثل قوله: لا تعتق رقبة، وأعتق رقبة مؤمنة، بناء علي أن لا تكون النكرة في سياق النهي مفيدة للعموم، كما عرفت أنه الحق، وهذا لا فرق فيه بين أن يكون النهي المتعلق بالمطلق تحريميا أو تنزيهيا، فإن مرجوحية عتق مطلق الرقبة لا تجتمع مع
(٣٥٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، النهي (2)، العتق (1)

فيه مقامان من البحث: المقام الأول: إذا ورد مطلق ومقيد بدون ذكر السبب

كيفية الجمع بين المطلق والمقيد الفصل الرابع في أقسام المطلق والمقيد وكيفية الجمع بينهما إذا ورد مطلق ومقيد متنافيان بأن علم وحدة التكليف إما من ناحية وحدة السبب أو من جهة القرائن الأخر، فإما أن يكونا مختلفين في الإثبات والنفي، وإما أن يكونا متوافقين مثبتين أو منفيين، وعلي أي تقدير فإما أن يقعا في كلام واحد أو في كلامين.
فيقع الكلام في مقامين:
المقام الأول: إذا ورد مطلق ومقيد بدون ذكر السبب وهو مشتمل علي صور:
الصورة الأولي: ما إذا كانا مختلفين فلا إشكال في لزوم حمل المطلق علي المقيد فيما إذا كان المطلق متعلقا للنهي، والمقيد متعلقا للأمر، مثل قوله: لا تعتق رقبة، وأعتق رقبة مؤمنة، بناء علي أن لا تكون النكرة في سياق النهي مفيدة للعموم، كما عرفت أنه الحق، وهذا لا فرق فيه بين أن يكون النهي المتعلق بالمطلق تحريميا أو تنزيهيا، فإن مرجوحية عتق مطلق الرقبة لا تجتمع مع
(٣٥٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، النهي (2)، العتق (1)
وجوب عتق بعض أصنافها، فلابد من التصرف في المطلق بحمله علي المقيد.
وأما لو كان المطلق متعلقا للأمر والمقيد للنهي، مثل قوله: أعتق رقبة، ولا تعتق رقبة كافرة، فلو كان النهي تحريميا، فلا إشكال أيضا في وجوب حمل المطلق علي المقيد، كما أنه لو كان تنزيهيا لا إشكال في عدم لزوم حمله عليه، لعدم التنافي بينهما، كما لا يخفي.
وأما لو تردد الأمر بين أن يكون تحريميا أو تنزيهيا، فيدور الأمر بين التصرف في المطلق بحمله علي المقيد، وبين أن يكون الترخيص الناشئ من قبل الإطلاق قرينة علي كون المراد بالنهي هو التنزيهي منه، إذ قد حققنا سابقا أن الموضوع له في باب النواهي هو الزجر عن المنهي عنه الذي قد تفيده الإشارة باليد أو بغيرها، وهو أعم من أن يكون ناشئا عن الإرادة الحتمية أو غيرها، ولزوم تركه في الموارد الخالية عن القرينة إنما هو لحكم العقل بصحة الاحتجاج علي العبد، لا لكشفه عن الإرادة الحتمية، كما هو الشأن في باب الأوامر أيضا علي ما حققناه سابقا، وحينئذ فيمكن أن يكون الترخيص المستفاد من الإطلاق قرينة علي كون المراد هو النهي التنزيهي.
وكيف كان فالأمر دائر بين الوجهين.
ويحتمل وجه ثالث، وهو أن يقال بتعدد التكليف واختلاف متعلقه بالإطلاق والتقييد.
وهذا الاحتمال مبني علي القول بدخول المطلق والمقيد في محل النزاع في باب اجتماع الأمر والنهي، والقول بالجواز فيه، ونحن وإن اخترنا الجواز إلا أن دخول المقام في محل النزاع في ذلك الباب محل نظر بل منع، كما ستجئ الإشارة إليه.
مضافا إلي أن النزاع هنا في الجمع العرفي بين المطلق والمقيد، والنزاع في
(٣٥٧)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (3)، المنع (1)، الوجوب (2)، العتق (2)
تلك المسألة عقلي، فحكم العقل بجواز الاجتماع فيها نظرا إلي تغاير المتعلقين لا يجدي بالنسبة إلي المقام، كما لا يخفي، فالأمر لا يتجاوز عن الوجهين المتقدمين.
ولا يبعد أن يقال: بأن التصرف في المطلق بحمله علي المقيد أرجح بنظر العرف الذي هو الملاك في المقام، لأنه لا ينسبق إلي أذهانهم الجمع بالتصرف في الحكم في ناحية المقيد، وحمله علي التنزيهي، لا لكون ظهوره في النهي التحريمي أقوي من ظهور المطلق في الإطلاق، كيف وقد عرفت عدم ظهور النواهي في الزجر الناشئ عن الإرادة الحتمية، بل لأن أخذ الإطلاق حيث لا يكون مستندا إلي الظهور الوضعي، بل الوجه فيه مجرد بنائهم عليه فيما إذا لم يذكر القيد، فمع ذكره ولو منفصلا كأنهم يرفعون اليد عن بنائهم، ويقتصرون في ذلك علي ما إذا لم يذكر القيد أصلا، كما هو الوجه في حمل المطلق علي المقيد في المواضع المسلمة، فإن التصرف فيه ليس لأجل أظهرية المقيد في دخالة القيد أو كونه بيانا له، بل لما عرفت من أن بناءهم علي الأخذ بالإطلاق إنما هو فيما إذا لم يذكر القيد أصلا، فهو دليل حيث لا دليل، كما لا يخفي.
الصورة الثانية: ما إذا كانا متوافقين: فكذلك فيما لو وقعا في كلام واحد، بل ليس هذا من باب حمل المطلق علي المقيد، لأن مع ذكره متصلا لا يكون هنا ظهور في الإطلاق، إذ المقتضي له هو تجرد المعني المذكور عن القيد، ومع الإتيان به متصلا لا مجال لهذا الاقتضاء، كما هو واضح.
وأما لو وقعا في كلامين، فالمشهور أيضا علي الحمل والتقييد، لأنه جمع بين الدليلين، وهو أولي.
وقد اورد عليه بإمكان الجمع علي وجه آخر، مثل حمل الأمر في المقيد علي الاستحباب (1).
١ - قوانين الأصول 1: 325 / السطر 6.
(٣٥٨)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، كتاب قوانين الأصول للميرزا القمي (1)
وربما يفصل - كما في الدرر -: بين ما إذا كان إحراز وحدة التكليف من ناحية وحدة السبب وبين غيره، وهو ما إذا كان إحرازها من جهة القرائن الأخر بوجوب الحمل والتقييد في مثل الأول، وتحقق الإجمال في الثاني.
أما ثبوت الإجمال في الأخير: فلأن الأمر يدور بين حمل الأمر المتعلق بالمطلق علي ظاهره من الوجوب والإطلاق والتصرف في أمر المقيد إما هيئة بحمله علي الاستحباب، وإما مادة برفع اليد عن ظاهر القيد من دخله في الموضوع، وجعله إشارة إلي الفضيلة الكائنة في المقيد، وبين حمل المطلق علي المقيد، ولا ترجيح لأحد الوجهين علي الآخر.
وأما تعين التقييد في الأول، لأنه لاوجه للتصرف في المقيد بأحد النحوين المذكورين، فإن السبب لو كان علة لوجوب المطلق فلا يعقل أن يكون علة لوجوب المقيد أو استحبابه، لأن استناد المتبائنين إلي علة واحدة غير معقول (1).
أقول: لا يبعد أن يقال بترجيح التقييد في الفرض الثاني علي التصرف في المقيد بأحد الوجهين عند العقلاء في أكثر الموارد.
نعم قد يبلغ الإطلاق من القوة إلي حد لا يمكن رفع اليد عنه بمجرد ظهور الأمر المتعلق بالمقيد في الوجوب، كما لا يخفي.
ثم إنه اختار المحقق النائيني - علي ما في التقريرات - وجوب الجمع بينهما بحمل المطلق علي المقيد مطلقا من غير فرق بين كون ظهور الأمر في المطلق أقوي في الإطلاق من ظهور الأمر في المقيد في التقييد أو أضعف.
قال في بيانه ما ملخصه: أن الأمر في المقيد يكون بمنزلة القرينة علي
١ - درر الفوائد، المحقق الحائري: 236 - 237.
(٣٥٩)
صفحهمفاتيح البحث: السب (2)، الوجوب (1)
ما هو المراد من الأمر في المطلق، والأصل الجاري في ناحية القرينة يكون حاكما علي الأصل الجاري في ناحية ذيها.
أما كونه بمنزلة القرينة: فلأنه وإن لم يتحصل لنا بعد ضابط كلي في المائز بين القرينة وذيها إلا أن ملحقات الكلام من الصفة والحال والتميز بل المفاعيل تكون غالبا بل دائما قرينة علي أركان الكلام من المبتدأ والخبر والفعل والفاعل.
نعم في خصوص المفعول به مع الفعل قد يتردد الأمر بينهما في أن أيا منهما قرينة والآخر ذو القرينة، كما في قوله: لا تنقض اليقين بالشك، فإنه كما يمكن أن يكون عموم اليقين قرينة علي المراد من النقض الظاهر في تعلقه بماله اقتضاء البقاء كذلك يمكن العكس.
ومن هنا وقع الكلام في حجية الاستصحاب في الشك في المقتضي.
وأما كون الأصل الجاري في القرينة حاكما علي الأصل الجاري في ذيها من غير ملاحظة أقوي الظهورين: فلأن الشك في المراد من ذي القرينة يكون مسببا عن الشك فيها، فإن الشك في المراد من الأسد في قوله: رأيت أسدا يرمي، يكون مسببا عن الشك في المراد من " يرمي " وظهوره في رمي النبل للانصراف مقدم علي ظهور الأسد في الحيوان المفترس وإن كان بالوضع، لأنه رافع له، فلا يبقي للأسد ظهور في معناه الحقيقي حتي يدل بلازمه علي المراد من الرمي.
وإذ قد عرفت ذلك: ظهر لك أن المقيد يكون بمنزلة القرينة بالنسبة إلي المطلق، لأن القيد نوعا يكون من ملحقات الكلام، وقد تقدم أنها تكون قرينة.
هذا إذا كان القيد متصلا، وأما إذا كان منفصلا، فتمييز كونه قرينة أو معارضا هو أن يفرض متصلا في كلام واحد، فإن ناقض صدر الكلام ذيله، يكون معارضا، وإلا قرينة، فلا فرق بين المتصل والمنفصل سوي أن الأول يوجب عدم
(٣٦٠)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)
انعقاد الظهور للمطلق، بخلاف الثاني، فإنه ينعقد فيه الظهور إلا أنه يهدم حجيته (1). انتهي.
أقول: إن في كلامه وجوها من النظر:
منها: أن جعل الشك في المراد من الأسد مسببا عن الشك في المراد من الرمي مما لا يصح، فإنه لا يكون هنا سبب ومسبب أصلا، وكون زوال الشك في ناحية القرينة موجبا لزواله في ناحية ذي القرينة لا يوجب كونه مسببا عنه، فإن زواله في ناحيته أيضا يوجب زواله في ناحيتها، فإن مع العلم بكون المراد من الأسد هو الحيوان المفترس لايبقي مجال للشك في كون المراد من الرمي هل هو رمي النبل أو التراب، كما هو واضح.
ومنها: أن قياس المقيد المتصل بالقرينة المتصلة مما لا يتم، فإن القرائن المتصلة في سائر الموارد يصادم ظهور ذويها، فإن ظهور الرمي في رمي النبل يصادم ظهور الأسد بالوضع في معناه الحقيقي، غاية الأمر تقديمه عليه للترجيح، وهذا بخلاف المقام، فإن مع تقييد الرقبة بالمؤمنة لا يكون هنا إلا ظهور واحد، ولم ينعقد للإطلاق ظهور، لأنه ليس ظهورا لفظيا وضعيا، بل إنما هو ظهور عقلي يقتضيه التجرد عن القيد، فمع ذكره لايبقي له مجال، كما هو واضح، وقد اعترف بذلك في ذيل كلامه في الفرق بين المقيد المتصل والمنفصل.
ومنها: أن قياس المقيد المنفصل بالمتصل قياس مع الفارق، لما عرفت من أنه لا ينعقد الكلام في الأول إلا ظهور في المقيد، بخلاف الثاني، فإنه قد انعقد للإطلاق ظهور، وهو يعارض الظهور في ناحية المقيد، والجمع لا ينحصر بحمل المطلق عليه، بل يمكن حمل الأمر في ناحية المقيد علي الاستحباب،
1 - فوائدا لأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 579.
(٣٦١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)
كما عرفت.
وكيف كان فهل يجب حمل المطلق علي المقيد في مفروض البحث، أو يلزم أن يحمل الأمر في المقيد علي الاستحباب، أو يقال بتعدد الحكم والتكليف واختلاف متعلقه بالإطلاق والتقييد أو بالتباين بجعل المقيد قرينة علي كون المراد بالمطلق هو المقيد بغير هذا القيد، مثل أن يجعل قوله: أعتق رقبة مؤمنة قرينة علي كون المراد من قوله: أعتق رقبة، هو الرقبة الكافرة، أو يقال بتعدد المطلوب وكون المقيد واجبا في واجب؟ وجوه واحتمالات قد يقال كما في التقريرات بأن مجرد تعلق التكليف الإلزامي بصرف الوجود قرينة علي وحدة التكليف، لأن قوله: أعتق رقبة مؤمنة يقتضي إيجاد صرف وجود عتق الرقبة المؤمنة، ومقتضي كون الحكم إلزاميا هو أنه لابد من إيجاد عتق الرقبة المؤمنة، وعدم الرضي بعتق الرقبة الكافرة، والمفروض أن المطلوب في المطلق أيضا صرف الوجود، ومقتضي كون المطلوب صرف وجود العتق وإيجاب عتق الرقبة المؤمنة هو وحدة التكليف وكون المطلوب هو المقيد ليس إلا (1).
أقول: تعلق التكليف الإلزامي بصرف الوجود في ناحية المطلق والمقيد معا لا يصير دليلا علي وحدة التكليف إلا إذا أحرز ذلك، فإنه مع إمكان التعدد - كما هو ظاهر الدليلين - لا بأس بتعلق التكليف الإلزامي في ناحية المطلق بصرف وجود وتعلق تكليف إلزامي آخر بصرف وجود المقيد، فإثبات اتحاد التكليف بتعلق الحكم الإلزامي بصرف الوجود دور صريح، لما عرفت من أن مجرد كون التكليف إلزاميا متعلقا بصرف الوجود لا يثبت الاتحاد إلا مع إحرازه، فلو توقف ثبوته عليه - كما هو المفروض - يلزم الدور، كما هو واضح.
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 581 - 585.
(٣٦٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، العتق (7)
والتحقيق أن يقال: إن الوجه في إثبات الاتحاد هو استحالة تعلق تكليفين بالمطلق والمقيد، سواء كان التكليفان مثلين أو غيرهما، لأن المطلق لا يغاير المقيد أصلا، بل المقيد إنما هو نفس المطلق، ومن المعلوم استحالة تعلق إرادتين بشئ واحد، كما يستحيل أن يكون الأمر الواحد متعلقا لحبين أو بغضين، ومن هنا اخترنا خروج المطلق والمقيد عن النزاع في مسألة الاجتماع، وبذلك يبطل احتمال التعدد والاختلاف بالإطلاق والتقييد أو احتمال كون المقيد واجبا في واجب.
وأما حمل الأمر في المقيد علي الاستحباب والإرشاد إلي أفضلية بعض الأفراد فهو وإن كان من وجوه الجمع ويرتفع به التنافي، إلا أنه خلاف الجمع المرتكز في أذهان العرف، فإنهم بمجرد ورود المطلق والمقيد كذلك يحملون الأول علي الثاني من دون توجه إلي إمكان الجمع بنحو آخر.
ومن هنا يظهر أن جعل المقيد قرينة علي كون المراد من المطلق هو ما عدا المقيد خلاف الجمع العرفي وإن كان حمل الأمر علي التأسيس أولي من حمله علي التأكيد، إلا أن ذلك فيما لم يكن بناء العرف علي خلافه.
هذا إذا كان المتوافقان مثبتين.
الصورة الثالثة: إذا كانا منفيين، كقوله: لا تعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة، فلا وجه لحمل المطلق علي المقيد، لعدم التنافي، لا نقول بتعدد التكليف، فإن استحالة تعلقه بالمطلق والمقيد لا فرق فيها بين أن يكون التكليفان مثبتين أو منفيين، كما هو واضح، بل المقصود أنه لا وجه لحمل الأول علي الثاني، وجعل متعلق النهي هو خصوص المقيد، بل المحرم أو المكروه هو نفس المطلق، فتدبر.
هذا كله فيما إذا لم يذكر السبب لا في المطلق ولا في المقيد.
(٣٦٣)
صفحهمفاتيح البحث: الكراهية، المكروه (1)، النهي (1)، السب (1)

المقام الثاني: إذا ورد مطلق مقيد مع ذكر السبب

المقام الثاني: إذا ورد مطلق ومقيد مع ذكر السبب وأما مع ذكره فتارة يذكر في كل منهما، واخري يكون مذكورا في خصوص أحدهما، وعلي التقدير الأول فإما أن يتحد السبب وأما أن يختلف فالصور ثلاثة:
الصورة الأولي: ما إذا كان السبب مذكورا في كليهما مع اتحاده، كقوله: إن ظاهرت فأعتق رقبة، وإن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة، ولا إشكال في حمل المطلق علي المقيد، لوحدة التكليف، وعدم كون الجمع بحمل الأمر في المقيد علي الإرشاد إلي أفضلية بعض الأفراد جمعا مقبولا عند العقلاء، كما عرفت.
الصورة الثانية: هذه الصورة مع اختلاف السبب، كقوله: إن ظاهرت فأعتق رقبة، وإن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة.
وقد يقال بأنه لا إشكال في أنه لا يحمل المطلق علي المقيد، لعدم التنافي بينهما.
ولكن لا يخفي أنه بعدما كان المطلق والمقيد غير متغايرين - كما عرفت - فيستحيل تعلق تكليفين بهما ولو كان سببهما متغايرين، إذ قد يجتمعان، كما في المثال، فإن مع اجتماع الإفطار والظهار يجتمع الوجوبان علي الأمر الواحد، وهو مستحيل كما عرفت في مسألة تداخل الأسباب، إلا أن ذلك لا يوجب حمل المطلق علي المقيد، بل يتحقق التنافي بين المتعلقين بتقييد كل منهما بقيد، وهذا التصرف أولي عند العقلاء من الحمل والتقييد، كما لا يخفي.
الصورة الثالثة: ما إذا كان السبب مذكورا في خصوص أحدهما، كما لو قال: أعتق رقبة، بلا ذكر السبب، وقال: إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة، أو بالعكس بأن ذكر السبب في المطلق دون المقيد.
وقد يقال - كما في التقريرات - بأنه يشكل حمل المطلق علي المقيد في
(٣٦٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (3)، السب (6)، العتق (1)
هذه الصورة، للزوم الدور.
قال في بيانه ما ملخصه: أن هنا إطلاقين ومقيدين: أحدهما في ناحية الواجب، وهو عتق الرقبة وعتق الرقبة المؤمنة، ثانيهما في ناحية الوجوب والتكليف، وهو وجوب العتق غير مقيد بسبب، ووجوبه مقيدا بسبب، كالظهار في المثال، وتقييد كل من الإطلاقين يتوقف علي تقييد الإطلاق الآخر، وذلك لأن حمل المطلق علي المقيد يتوقف علي وحدة التكليف، وفي المثال تقييد أحد الوجوبين بصورة تحقق سبب الآخر يتوقف علي وحدة المتعلق، إذ مع اختلافه لا موجب لحمل أحد التكليفين علي الآخر، كما هو واضح، ووحدة المتعلق في المقام يتوقف علي حمل أحد التكليفين علي الآخر، إذ لو لم يحمل أحدهما علي الآخر ولم يقيد وجوب العتق المطلق بخصوص صورة الظهار لم يتحقق وحدة المتعلق (1). انتهي.
أقول: توقف تقييد أحد الوجوبين بصورة تحقق سبب الآخر علي وحدة متعلق التكليفين مما لا ريب فيه، إذ مع اختلاف المتعلقين لا ربط لإحدي القضيتين بالأخري، إذ لو قال: إن ظاهرت فأعتق رقبة، ثم قال: أطعم ستين مسكينا، مثلا، لا يتوهم أحد تقييد وجوب الإطعام بصورة تحقق الظهار، كما هو واضح.
وأما توقف وحدة المتعلق علي تقييد التكليف المطلق بصورة وجود القيد، فلا نعرف له وجها أصلا، فإن اتحاد المتعلقين وتغايرهما أمر وجداني واقعي لا يتوقف علي شئ أصلا، فإن تغاير الإطعام مع العتق واتحاد عتق الرقبة مع عتق الرقبة المؤمنة لا يتوقف إحرازه علي إحراز وحدة التكليف أصلا، وحينئذ فمن وحدة المتعلق المحرزة بالوجدان يستكشف وحدة الحكم، وهي توجب حمل
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 580 - 581.
(٣٦٥)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (6)، العتق (5)، الوجوب (3)

تنبيه: لا فرق بين الأحكام الوضعية والتكليفية في حمل المطلق

أحد التكليفين علي الآخر، كما هو واضح.
هذا، مضافا إلي أن لزوم الدور - علي تقدير تسليمه - لا يقدح بالجمع العرفي لو تحقق هنا.
والتحقيق أن يقال: إن العرف والعقلاء لا يرون التنافي بين المطلق والمقيد في مثل المقام، ولا يحملون الأول علي الثاني أصلا، بل يعملون بمقتضي ظاهر الدليلين من تعدد التكليف، كما فيما إذا ذكر السبب في كل منهما مع اختلافه.
تنبيه: لا فرق بين الأحكام الوضعية والتكليفية في حمل المطلق لا يخفي أن جميع ما ذكرنا في المقام يجري فيما إذا كان الدليلان واردين لإفادة الحكم الوضعي من الجزئية والشرطية والمانعية، فإن موارد حمل المطلق علي المقيد فيها هي بعينها موارد الحمل في الأحكام التكليفية، كما هو واضح، كما أن جميع ما ذكرنا في الأحكام التكليفية الوجوبية يجري في التكاليف المستحبة، ولكن بناءهم فيها علي حمل الأمر بالمقيد علي تأكد الاستحباب.
ولعل السر فيه هو: كون الغالب في هذا الباب هو تفاوت الأفراد بحسب المراتب، وأما احتمال كون ذلك بملاحظة التسامح في أدلة السنن - كما في الكفاية - فمدفوع: بأن التسامح فيها إنما هو بعد فرض تمامية دلالة دليلها، ولو قيل بالحمل علي المقيد لايبقي هنا دلالة في الإطلاق أصلا، كما لا يخفي.
ولنختم بذلك الكلام في مباحث الألفاظ ومن الله نستمد وبه الاعتصام وكان ختامه في اليوم الرابع عشر من شهر شعبان من شهور سنة 1373
(٣٦٦)
صفحهمفاتيح البحث: شهر شعبان المعظم (1)، الإستحباب (1)، السب (1)
المقصد السادس في أحكام القطع
صفحه(٣٦٧)
مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي خير خلقه محمد أشرف النبيين، وعلي آله الطيبين، ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين.
مقدمة وبعد، فلا يخفي أن مباحث القطع لا يكون خارجا عن مسائل علم الأصول كما قيل (1)، لعدم الفرق بينه وبين الأمارات المعتبرة شرعا، التي يكون البحث عنها داخلا في علم الأصول قطعا.
وما ذكره الشيخ (قدس سره) في " الرسالة ": من أن إطلاق الحجة علي القطع ليس كإطلاق الحجة علي الأمارات المعتبرة شرعا، لأن الحجة عبارة عن الوسط الذي به يحتج علي ثبوت الأكبر للأصغر، ويصير واسطة للقطع بثبوته له، كالتغير لإثبات حدوث العالم، وهذا المعني متحقق في الظن، فيقال: " هذا مظنون الخمرية، وكل مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه "، بخلاف القطع، لأنا إذا قطعنا بخمرية شئ يقال: " هذا خمر، وكل خمر حرام "، ولا يقال: " هذا معلوم
١ - كفاية الأصول: ٢٩٦.
(٣٦٩)
صفحهمفاتيح البحث: يوم القيامة (1)، الصّلاة (1)، الظنّ (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
الخمرية، وكل معلوم الخمرية يجب الاجتناب عنه "، لأن أحكام الخمر إنما تثبت للخمر، لا لما علم أنه خمر (1).
فيرد عليه: المنع في مورد الظن أيضا، فإن وجوب الاجتناب مثلا إنما هو حكم لنفس الخمر، لا للخمر المظنون، كما هو واضح. فإن كان المراد بالحجة ما ذكره فإطلاقها علي الأمارات أيضا ممنوع، وإن كان المراد بها هي ما يحتج به المولي علي العبد، ويصح له الاحتجاج به عليه فهو متحقق في كليهما، كما لا يخفي. ومجرد كون حجية القطع غير مجعولة - بخلاف الظن - لا يوجب خروجها عن مسائل علم الأصول.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنه ذكر الشيخ (قدس سره) في " الرسالة ": أن المكلف إذا التفت إلي حكم شرعي فيحصل له إما الشك فيه أو القطع أو الظن (2)، وظاهره - باعتبار أخذ الشك والظن في التقسيم - أن المراد بالحكم الشرعي هو الحكم الشرعي الواقعي.
ولذا عدل عن هذا التقسيم في " الكفاية "، نظرا إلي عدم اختصاص أحكام القطع بما إذا كان متعلقا بالأحكام الواقعية، وعمم متعلق القطع (3).
ولكنه يرد عليه: أن جعل حكم العقل باتباع الظن - لو حصل، وقد تمت مقدمات الانسداد علي تقدير الحكومة - في مقابل القطع مما لا وجه له، لأن المراد بالقطع الحاصل إن كان هو القطع التفصيلي فاللازم أن يكون البحث عن القطع الإجمالي في باب أحكام القطع استطراديا، وإن كان المراد الأعم منه ومن الإجمالي فلا وجه لجعل الظن المذكور مقابلا له، لأن حكم العقل باتباع الظن
١ - فرائد الأصول ١: ٤.
٢ - نفس المصدر ١: ٢.
٣ - كفاية الأصول: ٢٩٦.
(٣٧٠)
صفحهمفاتيح البحث: الأحكام الشرعية (2)، يوم عرفة (1)، الظنّ (6)، الوجوب (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)
ليس لاعتباره بنفسه، بل منشأه العلم الإجمالي بثبوت التكاليف، فوجوب العمل علي طبقه إنما هو لوجود الحجة القطعية الإجمالية، وعدم إمكان تحصيل الموافقة القطعية، أو عدم وجوبه، كما لا يخفي.
نعم، يرد علي ما ذكره الشيخ من التقسيم التثليثي إشكال التداخل، فإن الظن إن قام دليل علي اعتباره فهو ملحق بالعلم، وإلا فملحق بالشك.
ولكنه اعتذر عنه بعض المحققين - علي ما في تقريرات بحثه - بأن عقد البحث في الظن إنما هو لأجل تميز الظن المعتبر الملحق بالعلم عن الظن الغير المعتبر الملحق بالشك، فلابد أولا من تثليث الأقسام، ثم البحث عن حكم الظن، من حيث الاعتبار وعدمه (1).
ولكنه لا يخفي أن تثليث الأقسام لو كان توطئة لما كان وجه لتقييد مجري الاستصحاب بكون الحالة السابقة ملحوظة، فإن الظاهر أن هذا التقييد إنما هو لأجل بيان المختار في مجري الاستصحاب، وسوق العبارة تقتضي كون التثليث أيضا وقع من باب بيان الحق، لا مجرد التوطئة، فتدبر.
نعم، يمكن التثليث بوجه آخر: وهو أن المكلف إذا التفت إلي الحكم الشرعي الواقعي فإما أن يحصل له القطع به أو لا، وعلي الثاني إما أن يكون له طريق شرعي أو لا، وعلي الثاني يرجع إلي الأصول العملية. وحينئذ فالظن الانسدادي - بناء علي الحكومة - من مسائل القطع، لأنه أعم من القطع الإجمالي، كما أن بعض مباحث الاشتغال إنما يدخل فيه أيضا، كما لا يخفي.
ثم إن المراد بالمكلف الذي يحصل له أحد الأقسام هو خصوص المجتهد، إذ المراد من الالتفات هو الالتفات التفصيلي الحاصل للمجتهد، ولا اعتبار بظن
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 4.
(٣٧١)
صفحهمفاتيح البحث: الظنّ (4)
المقلد وشكه، فلا يشمله الخطابات الواردة في أدلة اعتبار الطرق والأمارات، مثل قوله (عليه السلام) " لا تنقض اليقين بالشك " (1)، ضرورة أنه لا يكاد يحصل للمقلد الشك واليقين في الشبهات الحكمية، وعلي فرض الحصول فلا عبرة بهما مالم يكن مجتهدا في مسألة حجية الاستصحاب.
وكيف كان فقد ذكروا في مقام بيان أحكام القطع وأقسامه أمورا:
١ - تهذيب الأحكام ١: ٨ / ١١، وسائل الشيعة ١: ٢٤٥، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
(٣٧٢)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)، الطهارة (1)

المقصد السادس: في أحكام القطع مقدمة وفيها أمور: الأمر الأول: وجوب متابعة القطع وحجيته

وجوب متابعة القطع وحجيته الأمر الأول وجوب متابعة القطع وحجيته لا شبهة في وجوب العمل علي وفق القطع، ولزوم الحركة علي طبقه عقلا. ولا يخفي أن المراد بالقطع الذي يجب العمل علي وفقه إن كان هو نفس صفة القطع التي هي من صفات النفس فلا معني للعمل علي طبقه، لأنه لا عمل له، كما هو واضح، وإن كان المراد به هو الشئ المقطوع به فوجوب العمل علي وفقه عقلا وإن كان مما لا ريب فيه إلا أن هذا الحكم ليس من أحكام القطع، مثلا لو قطع بوجوب صلاة الجمعة فالعقل وإن كان يحكم بلزوم الإتيان بها، نظرا إلي لزوم إطاعة المولي إلا أن لزوم الإتيان بها ليس من أحكام القطع.
وإن شئت قلت: إنه ليس في البين إلا حكم العقل بوجوب إطاعة المولي، وهو من المسائل الكلامية الغير المرتبطة بالمقام.
نعم، ما يصح أن يعد من أحكام القطع هو كونه منجزا للواقع علي تقدير الإصابة، بحيث لايبقي للمكلف القاطع عذر أصلا، كما هو واضح.
وأما ثبوت العذر علي تقدير عدم الإصابة فلا يكون أيضا من أحكام القطع، لأن المعذورية إنما هو بسبب الجهل بالواقع، وعدم الطريق إليه،
(٣٧٣)
صفحهمفاتيح البحث: صلاة الجمعة (1)، الجهل (1)، الوجوب (2)
لا بسبب القطع بالخلاف.
ثم إنهم ذكروا أن الحجية والكاشفية من لوازم القطع، ولا يحتاج إلي جعل جاعل، لعدم جعل تأليفي حقيقة بين الشئ ولوازمه، وظاهرهم: أن ذلك من لوازم ماهية القطع، كما يظهر من تنظير بعضهم ذلك بالزوجية بالنسبة إلي الأربعة (1).
ولا يخفي ما فيه: أما صفة الكاشفية والطريقية فلو كانت من لوازم القطع التي لا تنفك عنه، كما هو الشأن في لوازم الماهية فاللازم أن لا يتحقق القطع علي خلاف الواقع أصلا، مع أنا نري بالوجدان تحققه علي كثرة، فكيف يمكن أن تعد هذه الصفة من الأوصاف التي تلازم طبيعة القطع؟!
نعم، الكاشفية بحسب نظر القاطع ثابتة في جميع الموارد، ولكن هذا التقييد يخرجها عن كونها ذاتية للقطع، لأن الذاتيات لا فرق فيها، من حيث الأنظار أصلا، كما لا يخفي.
وإن شئت قلت: إن الكاشفية بحسب نظر القاطع من لوازم وجود القطع، لا ماهيته، ولوازم الوجود كلها مجعولة. نعم، لا معني لتعلق الجعل التشريعي به، مع كونه من لوازم الوجود، للزوم اللغوية.
وأما الحجية فهي حكم عقلي مترتب علي القطع، بمعني أن العقل والعقلاء لا يرون القاطع معذورا في المخالفة أصلا، ويصح عندهم أن يحتج به المولي علي العبد، ويعاقب العبد بسبب مخالفة القطع.
ومن هنا لا يصح للشارع جعل الحجية له، لكونه لغوا، لا لكونه من لوازم الماهية، فتدبر.
١ - كفاية الأصول: ٢٩٧، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 6.
(٣٧٤)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
ولا يصح له نفي الحجية عنه، لا لما ذكره في " الكفاية " من لزوم اجتماع الضدين، اعتقادا مطلقا وحقيقة في صورة الإصابة (1)، لما عرفت في مبحث اجتماع الأمر والنهي من عدم التضاد بين الأحكام ونظائره من الأمور الاعتبارية - كيف، ولو كانت الأحكام متضادة لكان من المستحيل تعلق أكثر من واحد بشئ واحد، ولو كان من شخصين، مع أنا نري أبا لوجدان كون شئ واحد مأمورا به لشخص، ومنهيا عنه لشخص آخر - بل لاستحالة تعلق البعث والزجر إلي شئ واحد من شخص واحد بنظر العقل إما لعدم قدرة العبد علي الامتثال، أو لعدم إمكان ثبوت مبادئهما في نفس المولي، كما لا يخفي.
١ - كفاية الأصول: ٢٩٧.
(٣٧٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، النهي (1)، البعث، الإنبعاث (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

الأمر الثاني: مبحث التجري

مبحث التجري الأمر الثاني مبحث التجري هل البحث عن التجري من المباحث الأصولية أم لا؟
إنما الكلام يقع في استحقاق العقوبة علي التجري والمثوبة علي الانقياد وعدمه، وهل البحث في المقام يكون بحثا في المسألة الأصولية، أو أنها من المسائل الفقهية أو الكلامية؟
لا إشكال في أنه إذا قرر محل النزاع ثبوت الحرمة للتجري، فيقال التجري هل هو حرام أو لا؟ تصير المسألة فقهية محضة، كما أنه إذا قرر بالوجه الذي ذكرنا، وهو استحقاق العقوبة علي التجري وعدمه تصير مسألة عقلية كلامية، لأن مرجعه إلي حسن عقوبة المولي للمتجري وقبحها، كما لا يخفي.
وقد يقال: بإمكان إدراجها في المسائل الأصولية التي يكون الضابط فيها هو وقوعها كبري لقياس استنباط الأحكام الكلية الفقهية، أو كونها حجة في الفقه، وذكر له وجوه:
منها: ما تسالموا عليه من أن البحث إذا وقع في أن ارتكاب الشئ
(٣٧٦)
صفحهمفاتيح البحث: الحج (1)

هل البحث عن التجري من المباحث الأصولية أم لا؟

مبحث التجري الأمر الثاني مبحث التجري هل البحث عن التجري من المباحث الأصولية أم لا؟
إنما الكلام يقع في استحقاق العقوبة علي التجري والمثوبة علي الانقياد وعدمه، وهل البحث في المقام يكون بحثا في المسألة الأصولية، أو أنها من المسائل الفقهية أو الكلامية؟
لا إشكال في أنه إذا قرر محل النزاع ثبوت الحرمة للتجري، فيقال التجري هل هو حرام أو لا؟ تصير المسألة فقهية محضة، كما أنه إذا قرر بالوجه الذي ذكرنا، وهو استحقاق العقوبة علي التجري وعدمه تصير مسألة عقلية كلامية، لأن مرجعه إلي حسن عقوبة المولي للمتجري وقبحها، كما لا يخفي.
وقد يقال: بإمكان إدراجها في المسائل الأصولية التي يكون الضابط فيها هو وقوعها كبري لقياس استنباط الأحكام الكلية الفقهية، أو كونها حجة في الفقه، وذكر له وجوه:
منها: ما تسالموا عليه من أن البحث إذا وقع في أن ارتكاب الشئ
(٣٧٦)
صفحهمفاتيح البحث: الحج (1)
المقطوع حرمته هل هو قبيح أو لا يندرج المسألة في المسائل الأصولية التي يستدل بها علي الحكم الشرعي، وذلك لأنه بعد ثبوت القبح يستكشف الحرمة، لقاعدة الملازمة. ومرجع هذا الوجه إلي أن النزاع إنما هو في قبح التجري وعدمه (1).
وفيه ما لا يخفي: ضرورة أن قاعدة الملازمة - علي تقدير تسليمها - إنما هو في غير المقام مما لا يكون حكم العقل معلولا لحكم الشرع، نظير قبح الظلم، وأما في مثل المقام مما يكون حكم العقل واقعا في سلسلة المعلولات للأحكام الشرعية فلا تجري قاعدة الملازمة أصلا. ألا تري أن العقل يحكم بقبح العصيان ولزوم الإطاعة، مع أنه لو كانت المعصية منهيا عنها، والإطاعة مأمورا بها من قبل الشارع يلزم النواهي والأوامر الغير المتناهية، ضرورة أن لذلك النهي أيضا عصيانا وإطاعة، وللنهي الثالث أيضا كذلك، إلي أن يتسلسل. وقبح التجري أيضا كقبح المعصية لا يكون مورد القاعدة الملازمة أصلا.
سلمنا ذلك، لكنه لا يوجب صحة إدراج المقام في المسائل الأصولية، ضرورة أن البحث في ثبوت حكم العقل بالقبح إنما هو بحث صغروي، إذ بعد ثبوت القبح نحتاج أيضا إلي ضم الكبري ليستنتج الحكم الشرعي. ووقوع المسألة في صغري قياس الاستنباط يخرجها عن كونها مسألة أصولية، وإلا يلزم دخول كثير من المسائل الخارجة عنها فيها، كالبحث عن كون شئ مقدمة للواجب ونظائره، وهو مما لا يلتزم به أحد، كما لا يخفي.
منها: ما في تقريرات المحقق النائيني (قدس سره) من أنه لو كان مستند القائل باستحقاق المتجري للعقاب هي دعوي أن الخطابات الشرعية تعم صورتي
١ - درر الفوائد، المحقق الخراساني: 36.
(٣٧٧)
صفحهمفاتيح البحث: الأحكام الشرعية (3)، الظلم (1)، النهي (1)

هل يمكن عد مسألة التجري من المسائل الفقهية؟

مصادفة القطع للواقع ومخالفته، ويندرج المتجري في عموم الخطابات الشرعية حقيقة تصير المسألة من المباحث الأصولية (1).
وفيه ما لا يخفي، فإن دعوي إطلاق الخطاب لا يوجب اندراج المسألة في المسائل الأصولية، فإنها بحث صغروي مندرج في الفقهيات، لأنك قد عرفت أن المسائل الأصولية هي الكبريات الواقعة في قياس استنباط الأحكام الفرعية، كالبحث عن حجية أصالة الإطلاق، لا البحث عن شموله لمورد، وإلا يلزم دخول جل المسائل الفقهية في الأصول، ضرورة أنه قلما يتفق في مسألة من المسائل الفقهية أن لا يقع البحث عن شمول العموم أو الإطلاق بالنسبة إلي بعض الموضوعات، كما لا يخفي.
هل يمكن عد مسألة التجري من المسائل الفقهية؟
ثم إنه قد استشكل في جعل النزاع في حرمة التجري، بحيث صار من المسائل الفقهية بوجهين:
أحدهما: ما ذكره في " الكفاية " من أن الفعل المتجري به أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريا، فإن القاطع لا يقصده إلا بما قطع أنه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي، لا بعنوانه الطارئ الآلي، بل لا يكون غالبا بهذا العنوان مما يلتفت إليه.
فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلا، ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعا، ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلا إذا كانت اختيارية. وزاد في ذيل كلامه: أن المتجري قد لا يصدر منه فعل بالاختيار، كما في التجري
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 37.
(٣٧٨)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)
بارتكاب ما قطع أنه من مصاديق الخمر (1).
ويرد عليه: وضوح إمكان الالتفات إلي العلم، لأنه ليس من العناوين التي لا يمكن الالتفات إليها، كعنوان التجري مثلا، حيث إن التوجه والالتفات إليه يخرج الملتفت عن كونه متجريا، كما هو واضح. وأما العلم ونظائره من العناوين - كعنوان القصد - فيمكن الالتفات إليه.
وحينئذ فلا إشكال في اختصاص الخطاب به، فإن العالم بالخمر - بعدما التفت إلي أن معلومه بما أنه معلوم يكون موضوعا للحرمة - يتوجه بالتوجه الثانوي إلي علمه، توجها استقلاليا. ويدل علي ذلك وقوع العلم في الشريعة متعلقا للأحكام كثيرا، كقوله (عليه السلام): " كل شئ طاهر، حتي تعلم أنه قذر " (2).
وأما ما أفاده في ذيل كلامه ففساده أظهر من أن يخفي، ضرورة أن شرب المايع في المثال كان اختياريا له بلا إشكال، ولذا يترتب عليه بطلان الصوم ونظائره، كما لا يخفي.
ثانيهما: ما في تقريرات المحقق المتقدم من أن توجيه الخطاب بمثل " لا تشرب معلوم الخمرية " مستلزم لاجتماع المثلين في نظر العالم دائما، وإن لم يلزم ذلك واقعا، لأن النسبة بين الخمر الواقعي والخمر المعلوم هي العموم من وجه، وفي مادة الاجتماع يتأكد الحكمان، كما في مثل " أكرم العالم، وأكرم الهاشمي " إلا أنه في نظر العالم دائما يلزم اجتماع المثلين، لأن العالم لا يحتمل المخالفة، ودائما يري مصادفة علمه للواقع، فدائما يجتمع في نظره حكمان.
ولا يصلح كل من هذين الحكمين لأن يكون داعيا ومحركا لإرادة العبد
١ - كفاية الأصول: ٢٩٩ - ٣٠٢.
٢ - تهذيب الأحكام ١: ٢٨٤ / ٨٣٢، وسائل الشيعة ٣: ٤٦٧، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 4.
(٣٧٩)
صفحهمفاتيح البحث: الباطل، الإبطال (1)، الكرم، الكرامة (1)، الطهارة (2)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)، كتاب تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)
بحيال ذاته، فإنه لو فرض أن للخمر حكما، ولمعلوم الخمرية أيضا حكما فبمجرد العلم بخمرية شئ يعلم بوجوب الاجتناب عنه، الذي فرض أنه رتب علي ذات الخمر، فيكون هو المحرك والباعث للاجتناب، والحكم الآخر المترتب علي معلوم الخمرية لا يصلح لأن يكون باعثا، ويلزم لغويته. وليس له مورد آخر يمكن استقلاله في الباعثية، فإن العلم بالخمرية دائما ملازم للعلم بوجوب الاجتناب عنه، المترتب علي الخمر الواقعي، وذلك واضح بعدما كان العالم لا يحتمل المخالفة. فتوجيه خطاب آخر علي معلوم الخمرية لا يصح (1). انتهي.
وفيه ما لا يخفي، لأن تعلق الحكمين بالخمر الواقعي وبمعلوم الخمرية لا يكاد يكون مستلزما لاجتماع المثلين، بعد وضوح كون النسبة بين المتعلقين هي العموم من وجه. ومجرد اجتماعهما في نظر القاطع لا يوجب اجتماع المثلين عنده، بعد ثبوت الاختلاف بين المفهومين في نظر القاطع أيضا، لأنه لا يري إلا مصادفة قطعه للواقع، وهذا لا يستلزم اتحاد المفهومين في عالم المفهومية، الذي هو عالم تعلق الأحكام، كما حققناه في المباحث السابقة بما لا مزيد عليه.
مضافا إلي أن الحكم لا ينحصر بهذا القاطع، ضرورة اشتراك الكل في الأحكام، فهذا القاطع - مع أنه يري مصادفة قطعه للواقع، المستلزمة لاجتماع المثلين عنده، بناء علي ما ذكره (قدس سره) - يحتمل الخطأ بالنسبة إلي القاطع الآخر، فلم يجتمع الحكمان بالنسبة إليه في نظر هذا القاطع، كما هو واضح.
وأما ما ذكره من عدم صلاحية كل من الحكمين لأن يكون داعيا ومحركا فيرد عليه وضوح أن المكلف قد لا ينبعث بأمر واحد، وينبعث بأمرين أو أكثر.
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 45 - 46.
(٣٨٠)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (1)

المناط في استحقاق العقوبة

ومجرد تحقق الإطاعة بترك فعل واحد والعصيان بإتيانه لا يوجب اللغوية بعد وجود مادة الافتراق بينهما، كما لا يخفي.
هذا، ولكن الظاهر عدم كون النزاع في حرمة التجري، لأن تعلق الحرمة بعنوانه قد عرفت بطلانه، وتعلقه بمعلوم الخمرية مقيدا بعدم مصادفة العلم للواقع - مضافا إلي استحالته - ممنوع، لعدم اختصاص ملاك التحريم به، فلابد من أن يكون متعلقا بمعلوم الخمرية مطلقا، ومن غير تقييد. وتعلقه به مستلزم للتسلسل، لأن تعلق الحرمة بمعلوم الخمرية معلوم أيضا، فيتحقق نهي آخر متعلق بمعلوم الحرمة، وتعلق النهي الثاني به أيضا معلوم، فيتحقق نهي آخر، إلي ما لا نهاية له، وهذا مما يقطع بخلافه.
فانقدح: أن المسألة عقلية كلامية، يكون محل النزاع فيها هو حكم العقل باستحقاق المتجري للعقاب وعدمه، فلا تغفل.
المناط في استحقاق العقوبة إذا عرفت ذلك فاعلم أن المتجري والعاصي كليهما يشتركان في جميع المراحل، من تصور الحرام، والتصديق بفائدته، والعزم علي ارتكابه، والجرأة علي المولي، وإنما يفترقان في أمرين:
أحدهما: ارتكاب مبغوض المولي، والإتيان بما فيه المفسدة.
ثانيهما: مخالفة المولي، وعدم إطاعة تكليفه عمدا.
فإن هذين الأمرين متحققان في العاصي دون المتجري، ولا شبهة في أن استحقاق العقوبة ليس لمجرد ارتكاب المبغوض وما فيه المفسدة، وإلا يلزم أن يكون الجاهل المرتكب للحرام مستحقا للعقوبة، كما أنه لا شبهة في أن مخالفة المولي عمدا قبيح عند العقل، ويستحق العبد بسببها العقوبة، بمعني أن
(٣٨١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، النهي (3)، الجهل (1)
العقل يحكم بحسن عقاب المولي للعبد الذي خالف أحكامه من أوامره ونواهيه.
إنما الإشكال في أن الجرأة علي المولي وهتك حرمته - الذي يكون قبيحا عقلا بلا ريب - هل يوجب استحقاق العقوبة أم لا. ولا يتوهم الملازمة بين القبح العقلي واستحقاق العقوبة، ضرورة أن أكثر ما يحكم العقل بقبحه لا يترتب عليه إلا مجرد اللوم والذم. ألا تري أن ترجيح المرجوح علي الراجح قبيح، مع أنه لا يستحق المرجح بسببه العقوبة أصلا، كما هو واضح لا يخفي.
فمجرد حكم العقل بقبح شئ لا يوجب استحقاق الفاعل للعقوبة، وحينئذ فإن قلنا بترتب العقوبة علي مجرد الجرأة علي المولي فاللازم هو الالتزام بثبوت العقوبتين في صورة العصيان، ولا وجه للتداخل، بعد كون كل من المخالفة العمدية والجرأة علي المولي سببا مستقلا لثبوت العقاب، ولم نعثر علي من يقول بذلك، فيستكشف منه أن الجرأة علي المولي التي يشترك فيها العاصي والمتجري لا يوجب العقاب أصلا. نعم، يختص العاصي بالمخالفة العمدية التي هي السبب في الاستحقاق.
فانقدح من ذلك: أنه لا يترتب علي مجرد التجري استحقاق للعقوبة أصلا.
نعم، لو قلنا بأن الجرأة علي المولي لها صورة برزخية، وأثر في النفس يظهر في عالم الغيب، ويكون ملازما للإنسان، كما أنه يتجسم الأعمال الصالحة والقبيحة بصورها الملكوتية، وتري كل نفس عين عمله، كما قال الله تعالي:
* (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء) * (1)، وقال
1 - آل عمران (3): 30.
صفحه(٣٨٢)

نقد كلام صاحب الكفاية

تعالي: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرايره) * (1)، فيشترك العاصي والمتجري في هذا المعني، بلا تداخل في العاصي أصلا، كما لا يخفي.
ثم لا يذهب عليك: أن الفعل المتجري به الذي يكون مصداقا لبعض العناوين الغير المحرمة حقيقة لا يتصف بالقبح أصلا، لعدم كونه مصداقا للتجري علي المولي - الذي قد عرفت أنه قبيح عند العقل - ضرورة أن الجرأة علي المولي إنما تكون من الصفات النفسانية والأحوال العارضة للنفس، ولا يكون لها مصداق في الخارج أصلا، بل هو نظير العلم والإرادة وغيرهما من الصفات التي محلها النفس. نعم، يكون الإتيان بالفعل المتجري به كاشفا عن تحققه فيها، ومظهرا لثبوته، ولا يكون مصداقا له، كما هو واضح. وحينئذ فلا وجه لسراية القبح إليه، بعد كونه مصداقا حقيقيا لبعض العناوين الغير المحرمة.
نقد كلام صاحب الكفاية ثم إن المحقق الخراساني (قدس سره) بعد أن اختار قبح التجري، مستدلا بشهادة الوجدان، وذهب إلي أنه لا يوجب تفاوتا في الفعل المتجري به، بل هو باق علي ما هو عليه من الحسن والقبح والوجوب أو الحرمة - لعدم كونه بما هو مقطوع الحرمة اختياريا - أورد علي نفسه بقوله: إن قلت: إذا لم يكن الفعل كذلك فلا وجه لاستحقاق العقوبة علي مخالفة القطع، وهل كان العقاب عليها إلا عقابا علي ما ليس بالاختيار.
ثم أجاب بأن العقاب إنما يكون علي قصد العصيان والعزم علي الطغيان، لا
1 - الزلزال (99): 7 - 8.
(٣٨٣)
صفحهمفاتيح البحث: مسألة الحسن والقبح (1)، يوم عرفة (1)
علي الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار.
وأورد علي ذلك أيضا بأن العزم والقصد إنما يكون من مبادئ الاختيار، وهي ليست باختيارية.
وأجاب بما حاصله: إنه - مضافا إلي أن الاختيار وإن لم يكن بالاختيار إلا أن بعض مبادئه غالبا يكون وجوده بالاختيار - يمكن أن يقال: إن صحة المؤاخذة والعقوبة إنما هي من آثار بعده عن سيده بتجريه عليه، فكما أن التجري يوجب البعد عنه فكذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة، فإنه وإن لم يكن باختياره إلا أنه بسوء سريرته بحسب نقصانه ذاتا، ومع انتهاء الأمر إليه يرتفع الإشكال، وينقطع السؤال بلم، فإن الذاتيات ضروري الثبوت للذات.
ومن هنا أيضا ينقطع السؤال عن أنه لم اختار الكافر الكفر والعاصي العصيان والمؤمن الإيمان؟ فإنه يساوق السؤال عن أن الحمار لم يكون ناهقا؟
والإنسان لم يكون ناطقا؟ وبالجملة فتفاوت أفراد الإنسان بالأخرة يكون ذاتيا، والذاتي لا يعلل.
ثم قال: إن قلت: علي هذا فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والإنذار.
وأجاب بما حاصله: أن ذلك لينتفع به من حسنت سريرته، ويكون حجة علي من ساءت سريرته، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيي من حي عن بينة (1)، انتهي.
وفيه وجوه من الخلل:
الأول: أنه من الواضح أن الجواب عن الإيراد الثاني بأن بعض مبادئ
١ - كفاية الأصول: ٢٩٨ - 301.
(٣٨٤)
صفحهمفاتيح البحث: الإختيار، الخيار (1)، الهلاك (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
الاختيار غالبا يكون وجوده بالاختيار مما لا يتم، لأنه ينقل الكلام إلي المبادئ الاختيارية، ويقال: إن اختياريتها هل هي بالاختيار، فيلزم التسلسل، وإلا فيعود المحذور.
والتحقيق في باب اختيارية الإرادة أن يقال: إنه لا إشكال في أن الأفعال الصادرة من الواجب تعالي إنما تكون صادرة بالإرادة والاختيار، ولا معني لاختياريتها إلا ذلك، لا كون إرادتها أيضا بإرادة أخري، وإلا يلزم أن لا تكون إرادته تعالي عين ذاته، وأن تكون إرادته حادثة، مع أنه مستحيل بداهة، ضرورة أن الإرادة من الصفات الكمالية، والواجب مستجمع لجميعها، وإلا يلزم النقص فيه.
مضافا إلي أنه لو كانت الإرادة حادثة فيه تعالي لكان حدوثها كاشفا عن قابليته واستعداده لأن يحدث فيه هذه الصفة، وقد قرر في محله أن القابلية والاستعداد إنما يكون محلها المادة والهيولي (1) فيلزم أن يكون مركبا من الجهة الفعلية والمادة، والتركيب مساوق للاحتياج الذي هو عين ذات الممكن، فالواجب تعالي يكون مريدا للأفعال الصادرة منه، قادرا عليها، بمعني أنه يصدر منه بالإرادة، لا أنه يصدر إرادتها أيضا بالإرادة، وإلا يلزم ما ذكر.
ونظير ذلك يمكن أن يقال في الإنسان، بمعني أن الأفعال الاختيارية الصادرة منه إنما تصدر منه مع سبق الإرادة، وهي قائمة بالنفس، مخلوقة لها، موجودة بإيجادها، فهي أمر اختياري صادرة عن إرادة واختيار، لا بإرادة أخري.
مضافا إلي أنه لا يعتبر في صحة العقوبة والمؤاخذة علي الفعل أزيد من كون الفعل صادرا عن علم وإرادة، كما يظهر بملاحظة سيرة العقلاء، فإنهم
1 - الحكمة المتعالية 3: 49 - 56، شرح المنظومة، قسم الحكمة: 77 - 79.
(٣٨٥)
صفحهمفاتيح البحث: الإختيار، الخيار (1)
يحكمون باستحقاق عبيدهم للعقوبة بمجرد ما إذا صدر منه فعل مخالف للمولي اختيارا، ولا يستندون في ذلك إلا إلي مجرد صدوره منه كذلك - أي عن علم وإرادة - ولا يلتفتون إلي كون مبادئ الإرادة هل هي تكون اختيارية أم لا؟
كيف ولو كان الفعل الاختياري عبارة عما يكون مبادئه اختيارية فلا وجه لاختصاص الاختيارية بالإرادة، بل لابد من القول بلزوم أن يكون جميع ما له دخل في وجود الفعل اختياريا - كوجود الفاعل وعلمه وشوقه - فيلزم أن لا يتحقق فعل اختياري، حتي من الواجب تعالي، وهو ضروري البطلان.
الثاني: أن القرب والبعد بالنسبة إلي الله تعالي قد يكون المراد منه هو كمال الوجود ونقصه، بمعني أن كل ما كان وجوده تاما كاملا يكون قريبا من مبدء الكمال، كالعقول المجردة، وكل ما كان ناقصا يكون بعيدا عنه، كالموجودات المادية، حيث إن كمالها عين النقص وفعليتها عين القوة، ومن الواضح أن القرب والبعد بهذا المعني لا يكونان مناط الثواب والعقاب.
وقد يكون المراد منهما هما الأمرين اللذين ينتزعان من استكمال العبد بسبب الطاعة وفعل القربات، وانحطاطه وبعده بسبب العصيان، فهما وإن كانا مناطين للثواب والعقاب - بمعني أن فعل القربات يوجب استحقاق الجنان، وارتكاب المبعدات يوجب استحقاق النيران - إلا أنه ليس استحقاق المثوبة والعقوبة من تبعات نفس القرب والبعد، بل هما ينتزعان من الطاعة والمعصية، والعقل إنما يحكم باستحقاق العاصي للعقاب والمطيع للثواب، من دون توجه إلي القرب والبعد.
وبالجملة: القرب والبعد، وكذا استحقاق المثوبة والعقوبة كلها منتزعات من الطاعة والمعصية في رتبة واحدة، بلا تقدم لأحدهما علي الآخر، كما لا يخفي.
(٣٨٦)
صفحهمفاتيح البحث: الباطل، الإبطال (1)
الثالث: أن ما ذكره من انتهاء الأمر بالأخرة إلي الذاتي، وهو لا يعلل مما لا يتم أصلا، وذلك يتوقف علي بيان المراد من قولهم: " الذاتي لا يعلل " ليظهر الحال ويرتفع الإشكال.
فنقول: المراد بالذاتي المذكور في هذه الجملة - قبالا للعرضي - هو الذاتي المتداول في باب البرهان، وهو ما لا يمكن انفكاكه عن الذات، سواء كان من أجزاء الماهية أو خارجا عنها ملازما لها.
والوجه في عدم كونها معللة وكونها مستغنية عن العلة هو أن مناط الافتقار والاحتياج إليها هو الإمكان المساوق لتساوي الطرفين، من دون ترجيح لأحدهما علي الآخر، ضرورة أن الواجب والممتنع مستغنيان عن العلة، لكون الوجود للأول والعدم للثاني ضروريا لا يمكن الانفكاك عنهما.
وبالجملة: فالمفهوم إذا قيس ولوحظ مع شئ آخر فإما أن يكون ذلك الشئ ضروري الثبوت له، أو ضروري العدم له، أو لا ضروري الثبوت ولا ضروري اللا ثبوت له، فإذا فرض كونه ضروري الثبوت له - كالوجود بالنسبة إلي الواجب تعالي، وكأجزاء الماهية ولوازمها بالنسبة إليها - فلا يعقل أن يكون في اتصافه بذلك الشئ مفتقرا إلي العلة، وكذلك لو فرض كونه ضروري اللا ثبوت له - كالوجود بالنسبة إلي شريك الباري - وأما لو فرض كون ثبوته له وعدمه متساويين بلا ترجيح لأحدهما علي الآخر فهو الذي يحتاج إلي علة مرجحة، لأن ترجح أحد الطرفين علي الآخر بذاته مستحيل بداهة، ولا يقول به أحد، حتي القائلين بجواز الترجيح من دون مرجح.
فانقدح: أن مناط الافتقار هو الإمكان، ومن الواضح أن جميع الموجودات عدا واجب الوجود - عز شأنه - لا مناص لهم من الاتصاف بالإمكان، فالوجود فيهم وجود إمكاني معلول، فلا يكون ذاتيا لهم، للاحتياج إلي العلة.
(٣٨٧)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (1)، الشراكة، المشاركة (1)
نعم، قد عرفت: أن ثبوت أجزاء الماهية ولوازمها لذاتها مما لا يحتاج إلي الجعل والعلة، إلا أنه قد قرر في محله (1) أن الماهيات أمور اعتبارية ينتزعها العقل بعد ملاحظة الوجودات، وهي محرومة عن الجعل ممنوعة عنه، ولا تكون منشأ للآثار، ولا علية ولا معلولية بينها أصلا.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن السعادة والشقاوة هل هما من سنخ الوجودات أو من قبيل لوازم الماهيات، فعلي الأول لا يعقل كونهما من الذاتيات، لما عرفت من أن الوجود في غير الواجب تعالي وجود إمكاني محتاج إلي الجعل. ودعوي كونهما ذاتيين تنافي ما قامت عليه البراهين القاطعة والأدلة الساطعة من وحدة الواجب تعالي. وعلي الثاني لا يكونان منشأ للآثار. فاختيار الكفر والعصيان، وكذا الإرادة التي هي أمر وجودي لا يعقل أن يكون مستندا إلي الذات والذاتيات التي هي أمور اعتباري ومخترعات عقلي.
فالحق أنهما من الأمور الاعتبارية المنتزعة عن فعل القربات، وارتكاب المبعدات، ولا يكونان من الذاتيات أصلا، كما هو واضح لا يخفي.
1 - الحكمة المتعالية 1: 38 - 75 و 396 - 423، شرح المنظومة، قسم الحكمة: 10 - 15.
(٣٨٨)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (3)

الأمر الثالث: أقسام القطع وأحكامه

أقسام القطع وأحكامه الأمر الثالث أقسام القطع وأحكامه القطع قد يكون طريقا محضا، بأن لا يكون مأخوذا في موضوع حكم أصلا، سواء تعلق بموضوع خارجي أو موضوع ذي حكم، أو حكم شرعي متعلق بما لا يكون القطع مأخوذا فيه. وقد يكون مأخوذا في الموضوع تارة بنحو يكون تمام الموضوع، واخري بنحو يكون جزئه، فهاهنا أقسام:
فإن القطع لما كان من الصفات الحقيقية القائمة بالنفس - قياما صدوريا أو حلوليا علي القولين - فيمكن أن يؤخذ في موضوع الحكم من هذه الحيثية، مع قطع النظر عن كونه كاشفا عن الواقع، كما أنه يمكن أن يؤخذ فيه مع ملاحظة جهة كشفه، لكن لما كان الكشف فيه تاما - بخلاف الكشف في سائر الأمارات - فيمكن أن يؤخذ تارة بما أنه كاشف تام ممتاز عن سائر الأمارات، واخري بما أنه كاشف، مع قطع النظر عن الاتصاف بالتمامية.
وليعلم: أنه لا ينافي كون العلم بسيطا غير مركب، ضرورة أن تغاير الجهتين إنما يتحقق بتحليل عقلي، وإلا فمن الواضح أن العلم لا يكون مركبا من الكشف والتمامية، وكذلك الظن، فإنه لا يكون مركبا منه ومن النقصان. فالنسبة بينهما
(٣٨٩)
صفحهمفاتيح البحث: الأحكام الشرعية (1)، الظنّ (1)

تقرير إشكال أخذ القطع تمام الموضوع علي وجه الطريقية

هي النسبة بين الوجود القوي والوجود الضعيف، فإن العقل وإن كان يعتبر أن امتياز الأول عن الثاني إنما هو لجهة التمامية والكمال والشدة، إلا أنه لا يوجب كونه مركبا، ضرورة أن الوجود بسيط، كما قد قرر في محله (1).
فالأقسام الحاصلة للقطع الموضوعي ستة، لأنه إما أن يعتبر بنحو الصفتية مع قطع النظر عن الكاشفية، وإما أن يعتبر بنحو الكاشفية التامة، وإما أن يؤخذ بنحو أصل الكشف المشترك بينه وبين سائر الأمارات.
وعلي التقديرات الثلاثة: فتارة يكون تمام الموضوع، واخري يكون بعض الموضوع.
تقرير إشكال أخذ القطع تمام الموضوع علي وجه الطريقية ثم إنه استشكل بعض المحققين من المعاصرين - علي ما في تقريرات بحثه - في إمكان أخذ القطع تمام الموضوع علي وجه الطريقية، فقال في إمكان أخذه تمام الموضوع علي وجه الطريقية إشكال، بل الظاهر أنه لا يمكن من جهة أن أخذه تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع وذي الصورة بوجه من الوجوه، وأخذه علي وجه الطريقية يستدعي لحاظ ذي الطريق وذي الصورة، ويكون النظر في الحقيقة إلي الواقع المنكشف بالعلم، كما هو الشأن في كل طريق، حيث إن لحاظه طريقا يكون في الحقيقة لحاظا لذي الطريق، ولحاظ العلم كذلك ينافي أخذه تمام الموضوع (2)، انتهي.
ولا يخفي: أن عدم إمكان الجمع بين الطريقية والموضوعية إنما هو فيما
1 - الحكمة المتعالية 1: 50، شرح المنظومة، قسم الحكمة: 22.
2 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 11.
صفحه(٣٩٠)

أخذ القطع بحكم موضوعا لمثل ذلك الحكم

إذا أراد القاطع الجمع بينهما، لأن نظره الاستقلالي إلي الواقع المقطوع به، ونظره إلي نفس القطع آلي، ولا يمكن له أن ينظر إليه في هذا اللحاظ باللحاظ الاستقلالي، بل يحتاج إلي لحاظ آخر.
وأما غير القاطع فيمكنه أن يلاحظ استقلالا القطع الذي يكون نظر القاطع إليه آليا محضا، فهو ينظر استقلالا إلي القطع الذي يكون طريقا لقاطعه، ولا يلزم محال أصلا. وعلي تقدير لزومه فلا اختصاص له بما إذا اخذ بنحو تمام الموضوع، لعدم الفرق بينه وبين ما إذا اخذ جزء له.
أخذ القطع بحكم موضوعا لمثل ذلك الحكم ثم إنه لا بأس في أن يؤخذ القطع بحكم موضوعا تاما لمثل ذلك الحكم، كما إذا قيل: " إذا قطعت بحرمة شئ فهو - أي مقطوع الحرمة - يكون لك حراما "، وكذا في أن يؤخذ القطع بموضوع ذي حكم موضوعا تاما لمثل ذلك الحكم، كما إذا قيل: " مقطوع الخمرية حرام "، مع كون الخمر أيضا بنفسه حراما.
وذلك لثبوت التغاير بين متعلقي الحكمين بنحو العموم من وجه، ضرورة أن مقطوع الخمرية قد لا يكون خمرا بحسب الواقع، وكذلك الخمر قد لا يتعلق به القطع، حتي يصير مقطوعا. وقد عرفت في مبحث اجتماع الأمر والنهي أن الجواز هو مقتضي التحقيق، ومجرد الاجتماع في الخارج دائما بنظر القاطع لا يوجب اتحاد المفهومين اللذين هما متعلقا الأحكام، لا مصاديقهما، لأن الخارج ظرف سقوط التكليف لا ثبوته. ومن هنا يظهر جواز أخذه موضوعا لنقيض الحكم المقطوع أو حكم المقطوع به.
نعم، لا يجوز ذلك إذا اخذ القطع بنحو الجزئية للموضوع، كما إذا قيل مثلا:
(٣٩١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، النهي (1)، الجواز (2)

أخذ القطع بحكم موضوعا لنفس ذلك الحكم

" الخمر المقطوع حرام " فإنه لا يجتمع مع ثبوت الحرمة لنفس الخمر، لكون التغاير بين المتعلقين بنحو العموم والخصوص مطلقا. وقد حققنا سابقا أنه لا يجوز تعلق حكمين: أحدهما بالمطلق، والآخر بالمقيد، فراجع.
أخذ القطع بحكم موضوعا لنفس ذلك الحكم ثم إنه لا يمكن أن يؤخذ القطع بالحكم موضوعا بالنسبة إلي نفس الحكم الذي تعلق العلم به، للزوم الدور، كما هو واضح.
وفي تقريرات بحث بعض محققي العصر إمكانه بنحو نتيجة التقييد، قال في توضيحه ما ملخصه: إن العلم بالحكم لما كان من الانقسامات اللاحقة للحكم فلا يمكن فيه الإطلاق والتقييد اللحاظي، لاستلزامه الدور، كما هو الشأن في الانقسامات اللاحقة للمتعلق باعتبار تعلق الحكم به، كقصد التعبد، أما استحالة تقييد اللحاظي فواضح، وأما استحالة الإطلاق فلأنه إذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق أيضا، لأن التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة.
ولكن الإهمال الثبوتي أيضا لا يعقل، بل لابد إما من نتيجة الإطلاق أو نتيجة التقييد، فإن الملاك الذي اقتضي تشريع الحكم إما أن يكون محفوظا في كلتي حالتي الوجود والعدم فلابد من نتيجة الإطلاق، وإما أن يكون محفوظا في حالة العلم فقط فلابد من نتيجة التقييد، وحيث لم يمكن أن يكون الجعل الأولي متكفلا لبيان ذلك فلابد من جعل آخر يستفاد منه أحدهما، وهو المصطلح عليه بمتمم الجعل. فاستكشاف كل منهما يكون من دليل آخر.
(٣٩٢)
صفحهمفاتيح البحث: الجواز (1)، العصر (بعد الظهر) (1)
وقد ادعي تواتر الأدلة علي اشتراك الأحكام في حق الجاهل والعالم (1)، ونحن وإن لم نعثر علي تلك الأدلة، سوي بعض أخبار الآحاد التي ذكرها صاحب " الحدائق " في مقدمات كتابه (2)، إلا أن الظاهر قيام الإجماع، بل الضرورة علي ذلك، ومن هنا كان الجاهل المقصر معاقبا إجماعا.
ولكن تلك الأدلة قابلة للتخصيص، كما قد خصصت في غير مورد، كما في مورد الجهر والإخفات والقصر والإتمام، حيث قام الدليل علي اختصاص الحكم بالعالم. وكما يصح أخذ العلم بالحكم شرطا في ثبوته كذلك يصح أخذ العلم بالحكم من وجه خاص وسبب خاص، مانعا عن ثبوت الحكم، كما في باب القياس، حيث إنه قام الدليل علي أنه لا عبرة بالعلم بالحكم الحاصل من طريق القياس، كما في رواية أبان في مسألة دية أصابع المرأة (3)، وليس هذا نهي عن العمل بالعلم، حتي يقال: إن ذلك لا يعقل، بل مرجعه إلي التصرف في المعلوم والواقع الذي أمره بيد الشارع.
وبذلك يمكن أن توجه مقالة الأخباريين من أنه لا عبرة بالعلم الحاصل من غير الكتاب والسنة (4)، بل شيخنا الأستاذ نفي البعد عن كون الأحكام مقيدة بما إذا لم يكن المؤدي إليها مثل الجفر والرمل والمنام وغير ذلك من الطرق الغير المتعارفة (5)، انتهي.
١ - فرائد الأصول ١: ٤٤.
٢ - الحدائق الناضرة ١: ٧٧.
٣ - الكافي ٧: ٢٩٩ / ٦، وسائل الشيعة ٢٩: ٣٥٢، كتاب الديات، أبواب ديات الأعضاء، الباب ٤٤، الحديث ١.
٤ - الفوائد المدنية: 128.
5 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 11 - 14.
(٣٩٣)
صفحهمفاتيح البحث: الجهر والإخفات (1)، الجهل (2)، الدية (2)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)
وفيه أولا: أن بعض الانقسامات اللاحقة مما لا يمكن تقييد الأدلة به، ولا يمكن فيه نتيجة التقييد مثل المقام، فإن أخذ القطع موضوعا بالنسبة إلي نفس الحكم الذي تعلق به مستحيل بأي وجه كان.
وكيف يمكن أن يكون الحكم مختصا بالعالم به، مع كونه من الدور الواضح؟ فإن العلم بالحكم يتوقف علي ثبوته بالضرورة، فلو فرض اختصاصه بالعالم - ولو بنتيجة التقييد - يصير الحكم متوقفا علي العلم به. وبالجملة فلا يرتفع إشكال الدور بذلك.
نعم، يمكن تقييد الأدلة ببعض الانقسامات اللاحقة بدليل آخر، كقصد التقرب في العبادات، بناء علي عدم إمكان التقييد اللحاظي، ولكنك عرفت في مبحث التعبدي والتوصلي إمكانه، فضلا عن التقييد بدليل آخر.
وأما باب الجهر والإخفات، والقصر والإتمام فلا يكون من باب الاختصاص، فإنه يمكن أن يكون عدم وجوب القضاء والإعادة من باب التخفيف والتقبل، لا من باب صحة العمل ومطابقة المأتي به مع المأمور به، كما نفينا البعد عنه في مثل حديث لا تعاد، بناء علي عدم اختصاصه بالسهو (1).
وثانيا: أن التقييد اللحاظي - الذي حكم بأنه إذا امتنع امتنع الإطلاق، لأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة - هل هو مقابل للإطلاق اللحاظي، أو أنه يقابل نفس الإطلاق، من دون اتصافه بذلك.
فعلي الأول يرد عليه - مضافا إلي أن معني الإطلاق، كما حققناه في موضعه هو عبارة عن مجرد عدم لحاظ التقييد، ولا يحتاج إلي اللحاظ أصلا (2) -
١ - الفقيه ١: ٢٢٥ / ٩٩١، وسائل الشيعة ٦: ٩١، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 29، الحديث 5.
2 - مناهج الوصول 2: 315.
(٣٩٤)
صفحهمفاتيح البحث: الجهر والإخفات (1)، يوم عرفة (1)، الوقوف (1)، الوجوب (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)، القرآن الكريم (1)، الصّلاة (1)
أن اللحاظين أمران وجوديان، والتقابل بينهما حينئذ يكون من قبيل تقابل الضدين، لا العدم والملكة.
وعلي الثاني يرد عليه منع الملازمة بين امتناع التقييد وامتناع الإطلاق، لأن التقابل بينهما حينئذ وإن كان من قبيل تقابل العدم والملكة إلا أن ذلك لا يقتضي ثبوت الملازمة.
وتوضيحه: أن المتعلق قد لا يمكن تقييده، لقصور فيه، بحيث لا يكون له شأنية التقييد أصلا، وقد لا يمكن ذلك، لا لقصوره وعدم الشأنية، بل لمنع خارجي، كلزوم الدور ونحوه. ففي الأول لا يمكن الإطلاق، لأن ذلك مقتضي تقابل العدم والملكة في جميع الموارد، فإنه لا يقال للجدار أعمي، ولا يقال زيد مطلق بالإطلاق الأفرادي، وهذا بخلاف الثاني، كما في المقام، فإن امتناع التقييد ليس لعدم القابلية له، بل لمنع خارجي، وهو استلزامه للدور، وفي مثله يمكن الإطلاق. وحينئذ فلا بأس بأن يقال: إن دليل اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل هو إطلاقات الكتاب والسنة، ولا احتياج إلي التماس دليل آخر، ولذا تراهم يتمسكون بها في كثير من الموارد، كما لا يخفي.
وثالثا: أن ما ذكره في القياس مما لا يتم، فإن من راجع الأدلة الناهية عن العمل بالقياس يعرف أن المنع عنه إنما هو لأجل قصور العقول البشرية، وبعدها عن الوصول إلي أحكام الله تعالي من قبل نفسه، وعدم حصول العلم منه غالبا، لا لأجل الفرق بين العلم الحاصل منه والقطع الحاصل من غيره، فراجع الأخبار الواردة في هذا الباب، المذكورة في كتاب القضاء من " الوسائل " (1).
ثم إنه حكي عن صاحب " المقالات " أنه ذهب إلي إمكان أخذ القطع
١ - وسائل الشيعة ٢٧: ٣٥، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6.
(٣٩٥)
صفحهمفاتيح البحث: المنع (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)

حول قيام الأمارات والأصول مقام القطع

بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم بنحو نتيجة التقييد بوجه آخر (1)، غير الذي عرفت، فراجع كلامه، وتأمل في جوابه.
والتحقيق في المقام أن يقال: إنه تارة يؤخذ القطع بالحكم تمام الموضوع لذلك الحكم، بمعني أن الموضوع له إنما هو القطع، سواء أخطأ أو أصاب، فلا مدخلية لوجود الحكم واقعا في تحقق موضوعه، واخري يؤخذ بعض الموضوع، بحيث كان الموضوع هو القطع الذي أصاب.
وإن شئت قلت: إن الموضوع هو الواقع المقطوع به، ففي الأول يمكن ذلك بلا استلزام للدور أصلا، ضرورة أن الحكم، وإن كان يتوقف حينئذ علي موضوعه الذي هو القطع بالحكم، إلا أن الموضوع لا يتوقف علي ثبوته أصلا، ضرورة أن الموضوع إنما هو نفس القطع، وهو قد يحصل مع عدم تحقق المقطوع في الواقع، إذ ليس كل قطع مصيبا، كما هو واضح.
وهذا بخلاف ما إذا اخذ بعض الموضوع، فإن تحقق القطع حينئذ وإن كان لا يتوقف علي ثبوت الحكم في الواقع، إلا أن المفروض هو عدم كونه تمام الموضوع، بل قيد الإصابة معتبر فيه، وهو لا يتحقق بدون ثبوت الحكم في الواقع، فصار تحقق الموضوع متوقفا علي ثبوت الحكم في الواقع، وهو دور صريح.
حول قيام الأمارات والأصول مقام القطع إذا عرفت ذلك فاعلم: أنه يقع البحث في قيام الطرق والأمارات والأصول بنفس أدلتها مقام القطع بأقسامه، وفيه مقامان:
1 - نهاية الأفكار 3: 15.
(٣٩٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الوقوف (3)

قيام الأمارات والأصول مقام القطع ثبوتا

الأول: في إمكان قيامها مقامه ثبوتا.
الثاني: في وقوعه إثباتا.
قيام الأمارات والأصول مقام القطع ثبوتا أما المقام الأول: فالظاهر الإمكان وعدم لزوم محذور، عدا ما أفاده المحقق الخراساني، وهو يرجع إلي إشكالين:
أحدهما: أن الدليل الواحد لا يكاد يكفي إلا بأحد التنزيلين، حيث لابد في كل تنزيل من لحاظ المنزل والمنزل عليه، ولحاظهما في أحدهما آلي وفي الآخر استقلالي، ضرورة أن النظر في حجيته وتنزيله منزلة القطع في الطريقية في الحقيقة إلي الواقع ومؤدي الطريق، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع إلي أنفسهما، ولا يكاد يمكن الجمع بينهما (1)، هذا.
والجواب عنه هو ما ذكرناه جوابا عن الإشكال في إمكان أخذ القطع تمام الموضوع علي وجه الطريقية، كما عرفت سابقا، فراجع (2).
ثانيهما: ما ذكره، ردا علي مقالته في " الحاشية "، حيث التزم فيها
١ - كفاية الأصول: ٣٠٤.
2 - ويؤيده، بل يدل عليه حكم العقل بحجية القطع الطريقي، فإن القطع المأخوذ موضوعا للحكم بالحجية وإن كان هو القطع الطريقي بنحو يكون تمام الموضوع لهذا الحكم، ضرورة أنه لا فرق في الحجية بين ما إذا أصاب القطع أو أخطأ، إلا أنه لا ينافي ذلك مع كون المراد هو القطع الطريقي الذي لا يكون ملحوظا عند القاطع إلا بنحو الآلية. ففي هذا الحكم اجتمع بين كونه تمام الموضوع، وكونه هو القطع الطريقي، ومن المعلوم أنه لا فرق بين هذا الحكم الذي يكون الحاكم به العقل وبين سائر الأحكام التي يكون الحاكم بها الشرع من هذه الحيثية أصلا، كما لا يخفي. [المقرر حفظه الله].
(٣٩٧)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

قيام الأمارات والأصول مقام القطع إثباتا

لتصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلة الواقع والقطع بأن دليل الاعتبار إنما يوجب تنزيل المؤدي منزلة الواقع، وإنما كان تنزيل القطع فيما له دخل في الموضوع بالملازمة بين تنزيلهما وتنزيل القطع بالواقع تعبدا منزلة القطع بالواقع حقيقة (1).
وملخص ما أفاده في وجه الرد: أنه لا يكاد يصح تنزيل جزء من الموضوع أو قيده بلحاظ أثره إلا فيما كان جزؤه الآخر أو ذاته محرزا بالوجدان، أو تنزيله في عرضه. فلا يكاد يكون دليل الأمارة دليلا علي تنزيل جزء الموضوع، ما لم يكن دليل علي تنزيل جزئه الآخر، ففي مثل المقام لا يكون دليل الأمارة دليلا عليه، للزوم الدور، فإن دلالته علي تنزيل المؤدي تتوقف علي دلالته علي تنزيل القطع بالملازمة، ولا دلالة له كذلك إلا بعد دلالته علي تنزيل المؤدي، كما لا يخفي (2).
وفيه: أنه يكفي في صحة التنزيل الأثر التعليقي، وهو هنا متحقق، فإن المؤدي لو انضمت إليه جزؤه الآخر يكون ذا أثر فعلي. فانقدح: أن الإمكان وعدم لزوم أمر مستحيل من ذلك مما لا مجال للمناقشة فيه أصلا.
قيام الأمارات والأصول مقام القطع إثباتا المقام الثاني: فيما يدل عليه أدلة الأمارات والأصول، فنقول:
أما الأمارات: فقد ذكر في التقريرات كلاما طويلا، وأسس بنيانا رفيعا
١ - درر الفوائد، المحقق الخراساني: ٣١.
٢ - كفاية الأصول: ٣٠٦ - 307.
(٣٩٨)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
لقيامها بأدلة اعتبارها مقام القطع (1)، ولكنه خال عن الدليل، لعدم دلالة أدلة حجية الأمارات علي ما ذكره أصلا.
والتحقيق أن يقال: إن العمدة في أدلة حجية الأمارات هي بناء العقلاء بما هم عقلاء علي العمل علي طبقها، وليس للشارع في اعتبارها تأسيس أصلا، كما يظهر بمراجعة الأخبار الواردة في حجية خبر الواحد الذي هو من عمدة الأمارات، فإنه لا يظهر من شئ منها ما يدل علي حجية خبر الواحد، أو وجوب تصديق العادل، أو نحوهما مما يشعر بكون الشارع جعل خبر الواحد طريقا إلي الأحكام، بل التأمل فيها يقضي بكون ذلك أمرا مسلما عند الناس، بحيث لا يحتاج إلي السؤال، لأن بنائهم في الأمور الدنيوية كلها أيضا علي العمل بذلك.
وبالجملة: كون الدليل علي ذلك هو مجرد بناء العقلاء، وعمل الشارع به إنما هو لكونه منهم مما لا مجال للإشكال فيه. وحينئذ فنقول: لا إشكال في أن الوجه في ذلك ليس لكون الظن عندهم بمنزلة القطع، ويقوم مقامه، فإن لهم طرقا معتبرة يعملون بها في أمورهم، من غير تنزيل شئ منها مقام الآخر.
ومنه يظهر: أن الأثر المترتب علي القطع الطريقي - وهو الحجية والمنجزية للواقع علي تقدير الثبوت - يترتب علي تلك الطرق العقلائية، لكن لا من باب كونها قائمة مقام القطع، ومنزلة بمنزلته. وتقدم القطع علي سائر الطرق العقلائية لا يؤيد دعوي التنزيل، فإن الوجه فيه إنما هو أن العمل علي طبقها إنما هو مع فقد العلم، وذلك لا يوجب انحصار الطريق في القطع، بحيث تكون سائر الطرق قائمة مقامه، ويكون العمل بها بعناية التنزيل.
وأما القطع الموضوعي: فما كان منه مأخوذا في الموضوع علي نعت
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 15.
(٣٩٩)
صفحهمفاتيح البحث: الظنّ (1)
الصفتية فلا إشكال في عدم قيام الظن مقامه، ولا في عدم ترتب آثاره عليه، كما أنه لا إشكال في ذلك فيما لو كان القطع مأخوذا علي وجه الطريقية التامة.
وأما لو كان مأخوذا في الموضوع بما أنه أحد الكواشف فلا ريب في ترتب حكمه علي الظن أيضا، لكن لا من باب كونه قائما مقامه، بل من باب كونه أيضا مأخوذا في الموضوع، فإن المفروض أن القطع قد اخذ فيه بما أنه من الكواشف، فمرجعه إلي كون الدخيل في الموضوع هو الكاشف بما هو كاشف، والظن أيضا كالقطع يكون من مصاديقه، كما هو واضح، هذا حال الأمارات.
وأما الأصول، فمنها: الاستصحاب، ولا يخفي أن مفاد الأخبار الواردة في بابه ليس إلا مجرد البناء العملي علي بقاء المتيقن سابقا في زمان الشك، وترتيب آثار البقاء في حاله، فهو أصل تعبدي مرجعه إلي مجرد بقاء المتيقن تعبدا، والحكم بثبوته شرعا، وهذا المعني لا ارتباط له بباب التنزيل وإقامته مقام القطع أصلا، كما هو واضح.
نعم، لو كان مفاد أخبار الاستصحاب هي إطالة عمر اليقين ووجوب عدم نقضه، بحيث يكون مرجعها إلي كون الشاك فعلا متيقنا شرعا وتعبدا لكان الظاهر هو قيام الاستصحاب مقام القطع بجميع أقسامه. لكن الأمر ليس كذلك، كما سنحققه إن شاء الله تعالي في موضعه (1).
١ - ومنها: أصالة البراءة الشرعية التي هي مقتضي مثل حديث الرفع، ومن الواضح أن مفادها رفع التكليف من جهة عدم تعلق العلم به، وكونه مجهولا، ولا دلالة لها علي التنزيل منزلة اليقين بوجه.
ومنها: الأصول العملية العقلية، كأصالة البراءة، وأصالة التخيير، ومن المعلوم أن مقتضاها مجرد الحكم بقبح العقاب مع فرض الجهل بالحكم، وعدم ثبوت البيان بالإضافة إليه، ولا معني لاقتضائها التنزيل، كما إن مقتضي أصالة التخيير ثبوته لأجل الجهل، وعدم ثبوت الترجيح بوجه، وهو لا يرتبط بالتنزيل أصلا، كما لا يخفي. [المقرر حفظه الله].
(٤٠٠)
صفحهمفاتيح البحث: الظنّ (2)، الجهل (1)
ومنها: قاعدتا التجاوز والفراغ، ولا يخفي أن التأمل في الأخبار الواردة فيهما يعطي أن مفادها ليس إلا مجرد البناء عملا علي تحقق المشكوك، والحكم بثبوته في محله.
فانظر إلي ما ورد في رواية حماد، بعد سؤاله عنه (عليه السلام) أشك، وأنا ساجد، فلا أدري ركعت أم لا من قوله (عليه السلام): " قد ركعت " (1). فهذا المضمون ونظائره ظاهر في مجرد فرض تحقق الشئ المشكوك، والبناء عليه عملا، ولا نظر في أدلتهما إلي جعل المكلف مقام القاطع، والحكم بكونه مثله، بحيث لو ورد دليل كان القطع مأخوذا في موضوعه، كقوله مثلا: إذا قطعت بالركوع فعليك كذا وكذا يكون مفاده شاملا للمكلف الشاك في الركوع المتجاوز عن محله، أو الفارغ عن العمل، نظرا إلي تلك الأدلة.
وبالجملة: فالظاهر عدم الإشكال في أنه ليس شئ من أدلة الأصول ناظرا إلي التنزيل، وبصدد جعل المكلف قاطعا تعبدا. نعم، لو فرض كون مفادها ذلك فالظاهر أنه لا فرق بين القطع الطريقي والموضوعي، ولا فرق في الثاني أيضا بين ما كان مأخوذا علي وجه الصفتية وما كان مأخوذا علي نعت الطريقية، كما هو واضح.
١ - تهذيب الأحكام ٢: ١٥١ / ٥٩٤، وسائل الشيعة ٦: ٣١٧، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 13، الحديث 2.
(٤٠١)
صفحهمفاتيح البحث: الركوع، الركعة (1)، كتاب تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)، الصّلاة (1)

الأمر الرابع: حكم الظن في المقام

حكم الظن في المقام الأمر الرابع حكم الظن في المقام قد عرفت حكم القطع المأخوذ في موضوع نفس الحكم المقطوع به أو مثله أو ضده، فاعلم: أن حكم الظن أيضا مثله، فيجوز أن يكون مأخوذا موضوعا تاما لنفس الحكم المظنون أو لضده أو مثله، لعدم لزوم الدور أصلا، وعدم لزوم اجتماع المثلين أو الضدين.
نعم، لو كان مأخوذا في الموضوع ناقصا، بحيث كان الموضوع مركبا منه ومن الشئ المظنون. وبعبارة أخري: كان قيد الإصابة معتبرا فيه فلا يجوز أصلا، للزوم الدور فيما إذا كان مأخوذا في موضوع نفس ذلك الحكم المظنون، ولزوم اجتماع المثلين أو الضدين فيما إذا كان مأخوذا في موضوع مثل ذلك الحكم أو ضده.
ثم لا يخفي أن التعبير بكلمة التضاد إنما هو لأجل متابعتهم، وإلا فقد عرفت في بعض المباحث المتقدمة أن ما اشتهر بينهم من كون النسبة بين الأحكام هي التضاد مما لا وجه له، ولعله يجئ فيما بعد، ولكن ذلك لا يضر بعدم الجواز في مورد اجتماع الحكمين، لأن اجتماعهما مستحيل، ولو لم نقل بثبوت التضاد، كما لا يخفي.
(٤٠٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الظنّ (3)، الجواز (1)

الأمر الخامس: الموافقة الالتزامية

الموافقة الالتزامية الأمر الخامس الموافقة الالتزامية هل القطع بالحكم يقتضي وجوب الموافقة الالتزامية، كما يقتضي وجوب الموافقة العملية أم لا؟
والتحقيق أن يقال: إن الموافقة الالتزامية الراجعة إلي عقد القلب والالتزام بشئ، والانقياد والتسليم له إنما هي من الأحوال القلبية والصفات النفسانية - كالخضوع والخشوع والرجاء والخوف ونظائرها - وتحقق تلك الأوصاف وتحصلها في النفس إنما يكون قهريا، تبعا لتحقق مبادئها، ويستحيل أن توجد بدون حصول المبادئ، لأنها ليست من الأفعال الاختيارية الحاصلة بالإرادة والاختيار، لأنها تابعة لمبادئها، فإذا حصلت تتبعها تلك الحالات قهرا، وإذا لم يحصل لا تتحقق أصلا.
مثلا العلم بوجود المبدء وعظمته وجلالته يوجب الخضوع والخشوع له تعالي، ولا يمكن أن يتخلف عنه، كما أن مع عدم تحققه يمتنع أن يتحققا، لوضوح استحالة عقد القلب علي ضد أمر محسوس، كالالتزام القلبي بعدم كون النار حارة، والشمس مشرقة، وكما لا يمكن ذلك لا يمكن الالتزام بضد أمر
(٤٠٣)
صفحهمفاتيح البحث: الخوف (1)، الوجوب (1)
تشريعي.
والمراد من الكفر الجحودي في قوله تعالي: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) * (1) ليس الالتزام علي خلاف اليقين الحاصل للنفس، بل هو مجرد الإنكار اللساني. ومن هنا يظهر أن ما اشتهر بينهم من حرمة التشريع مما لا محصل له إن كان المراد من التشريع هو البناء القلبي علي كون حكم من الشرع مع العلم بأنه ليس منه. وبالجملة: أن الموافقة الالتزامية ليست من الأمور الاختيارية، حتي يبحث في وجوبها وعدمه.
وحكي عن بعض الأعاظم: أنه قال بثبوت التجزم في القضايا الكاذبة، وأنه هو المناط في صيرورة القضايا مما يصح السكوت عليها، وأن العقد القلبي علي طبقها يكون اختياريا (2).
ووجهه بعض المحققين من المعاصرين بأن مراده: أنه كما أن العلم قد يتحقق في النفس بوجود أسبابه، كذلك قد يخلق النفس حالة وصفة علي نحو العلم، حاكية عن الخارج، فإذا تحقق هذا المعني في الكلام يصير جملة يصح السكوت عليها، لأن تلك الصفة الموجودة يحكي جزما عن تحقق النسبة في الخارج (3).
ويرد عليه: أن العلم والجزم ليسا من الأمور الاختيارية، فإنهما من الأمور التكوينية التي لا تتحصل إلا بعد تحقق أسبابها، لوضوح استحالة الجزم مثلا بأن الواحد ليس نصف الاثنين، كما لا يخفي. وأما القضايا الكاذبة فإنما هي بصورة الجزم. والمناط في صحة السكوت هو الإخبار الجزمي، لا الجزم
١ - النمل (٢٧): ١٤.
٢ - انظر درر الفوائد، المحقق الحائري: 70.
3 - نفس المصدر.
صفحه(٤٠٤)
القلبي، ولذا لو أظهر المتكلم ما هو المقطوع به بصورة الترديد لا تصير القضية مما يصح السكوت عليها. وبالجملة: فلا ريب في عدم كون الموافقة الالتزامية ونظائرها من الأمور القلبية تابعا في تحققه للإرادة والاختيار أصلا.
ثم إنه بناء علي ما ذكرنا من كون الموافقة الالتزامية ليست من الأمور الاختيارية، بل إنما تتحقق قهرا عند حصول مبادئها تكون الموافقة الالتزامية علي طبق العلم بالأحكام، فإن كان العلم متعلقا بحكم تفصيلا يكون الالتزام به أيضا كذلك، وإن كان العلم إجماليا يكون الالتزام أيضا كذلك، كما أن الالتزام قد يكون بالحكم الظاهري، إذا كان العلم أيضا متعلقا به، وقد يكون بالحكم الواقعي، إذا كان متعلقا للعلم. وكما أن جعل الحكم الواقعي والظاهري في مورد واحد، وتعلق العلم بهما مما لا مانع منه، كذلك الالتزام بهما في ذلك المورد مما لا مانع منه أصلا.
ومن هنا يظهر: أنه لا مانع من قبل لزوم الالتزام في جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي، كما أن جريانها لا يدفع الالتزام بالحكم الواقعي، لأنه تابع للعلم به، وجريانها لا ينافيه أصلا. وبالجملة: فمسألة جريان الأصول في أطراف الشبهة المحصورة لا ارتباط لها بمسألة الموافقة الالتزامية، كما لا يخفي.
صفحه(٤٠٥)

الأمر السادس: أحكام العلم الإجمالي

العلم الإجمالي الأمر السادس أحكام العلم الإجمالي قد عرفت: أن العلم التفصيلي يكون علة تامة لتنجز التكليف، فهل القطع الإجمالي أيضا كذلك، أم لا؟ ولا يخفي أن الكلام فيما يتعلق بالعلم الإجمالي يقع في مقامين: أحدهما فيما يرجع إلي ثبوت التكليف به، وثانيهما فيما يتعلق بمرحلة سقوط التكليف به.
المقام الأول: في تنجز التكليف بالعلم الإجمالي فقد يقال بأن العلم الإجمالي لا يؤثر في تنجز التكليف أصلا، ويكون حاله حال الشبهة البدوية، لأن موضوع حكم العقل في باب المعصية هو ما إذا علم المكلف حين إتيانه أنه معصية فارتكبه، ومن المعلوم أن المرتكب لأطراف العلم الإجمالي لا يكون كذلك، لأنه لا يعلم بالمعصية إلا بعد إتيان جميع الأطراف في الشبهة المحصورة التحريمية (1).
1 - انظر فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 75.
(٤٠٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)

فيه مقامان: المقام الأول: في تنجز التكليف با لعلم الإجمالي

العلم الإجمالي الأمر السادس أحكام العلم الإجمالي قد عرفت: أن العلم التفصيلي يكون علة تامة لتنجز التكليف، فهل القطع الإجمالي أيضا كذلك، أم لا؟ ولا يخفي أن الكلام فيما يتعلق بالعلم الإجمالي يقع في مقامين: أحدهما فيما يرجع إلي ثبوت التكليف به، وثانيهما فيما يتعلق بمرحلة سقوط التكليف به.
المقام الأول: في تنجز التكليف بالعلم الإجمالي فقد يقال بأن العلم الإجمالي لا يؤثر في تنجز التكليف أصلا، ويكون حاله حال الشبهة البدوية، لأن موضوع حكم العقل في باب المعصية هو ما إذا علم المكلف حين إتيانه أنه معصية فارتكبه، ومن المعلوم أن المرتكب لأطراف العلم الإجمالي لا يكون كذلك، لأنه لا يعلم بالمعصية إلا بعد إتيان جميع الأطراف في الشبهة المحصورة التحريمية (1).
1 - انظر فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 75.
(٤٠٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)
هذا، ولكن يرد هذا الكلام العقل السليم، فإنه لا فرق في نظره بين قتل ابن المولي مثلا مع كونه معلوما تفصيلا، وبين قتله في ضمن عدة في قبحه عند العقل. وبالجملة: لا إشكال في حرمة المخالفة القطعية وقبحها عند العقل مطلقا، ومن المعلوم أن ارتكاب جميع الأطراف مخالفة قطعية لتكليف المولي.
هذا، وذكر في " الكفاية " ما حاصله: أن التكليف، حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف، وكانت مرتبة الحكم الظاهري محفوظة معه فجاز الإذن من الشارع بمخالفته احتمالا، بل قطعا. ومحذور المناقضة بينه وبين المقطوع إجمالا إنما هو محذور مناقضة الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي في الشبهة الغير المحصورة، بل الشبهة البدوية، ضرورة عدم تفاوت بينهما أصلا. فما به التفصي عن المحذور فيهما كان به التفصي عنه في المقام، نعم، العلم الإجمالي كالتفصيلي في مجرد الاقتضاء، لا في العلية التامة، فيوجب تنجز التكليف مالم يمنع عنه مانع عقلا أو شرعا (1)، انتهي ملخصا.
وأنت خبير بأن مورد البحث في المقام إنما هو فيما إذا كان المعلوم الإجمالي تكليفا فعليا، ضرورة أن التكليف الإنشائي لا يصير متنجزا، ولو تعلق به العلم التفصيلي، فضلا عن العلم الإجمالي. فالكلام إنما هو في التكليف الذي لو كان متعلقا للعلم التفصيلي لما كان إشكال في تنجزه، ووجوب موافقته، وحرمة مخالفته. غاية الأمر: أنه صار معلوما بالإجمال.
وحينئذ فمن الواضح: أنه لا يعقل مع ثبوت التكليف الفعلي الإذن في ارتكاب بعض الأطراف، فضلا عن جميعها، بل لا يعقل ذلك مع احتماله، لاستحالة اجتماع القطع بالإذن في الارتكاب، واحتمال التحريم الفعلي، لأن
١ - كفاية الأصول: ٣١٣ - 314.
(٤٠٧)
صفحهمفاتيح البحث: القتل (2)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)

المقام الثاني: في سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي

مرجعه إلي إمكان احتمال الجمع بين المتناقضين.
وتوهم: أنه لا مانع من اجتماع التكليف الفعلي مع الإذن في الارتكاب - بعد كون متعلقهما مختلفين - لأن متعلق التحريم الفعلي المعلوم إنما هو الخمر الواقعي، ومتعلق الإذن هو الخمر المشكوك، أي مشكوك الخمرية، ومن المعلوم أن بين العنوانين عموما من وجه. وقد حقق في مبحث اجتماع الأمر والنهي القول بالجواز في تلك الصورة.
مدفوع: بأن محل النزاع في تلك المسألة هو ما إذا كان تكليف متوجها إلي طبيعة، وتكليف آخر متوجها إلي طبيعة أخري بينهما إمكان التصادق في الخارج، من دون أن يكون في أحدهما نظر إلي ثبوت الآخر، وهذا بخلاف المقام، فإن الترخيص في ارتكاب مشكوك الخمرية إنما هو بملاحظة ثبوت الحرمة للخمر الواقعي، ضرورة أنه لو لم يكن الخمر الواقعي متعلقا للتحريم لما كان وجه في ترخيص مشكوك الخمرية، وقد عرفت أن مع ثبوت فعلية الحرمة لايبقي مجال للترخيص أصلا، ولا يجدي في ذلك اختلاف العنوانين علي هذا النحو.
المقام الثاني: في سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي ولا يخفي أن محل الكلام في هذا المقام إنما هو في أن مجرد الترديد في ناحية الامتثال، وعدم العلم تفصيلا بكون المأمور به الواقعي هل هي صلاة الظهر أو الجمعة - مثلا - هل يوجب تحقق الامتثال عند العقل أم لا، وأما لو فرض أن الامتثال الإجمالي يستلزم عدم تحقق المأمور به بجميع أجزائه وشرائطه، لكونه مقيدا بما لا ينطبق إلا مع الامتثال التفصيلي فهو خارج عن مفروض البحث، لأن مورده - كما عرفت - هو صورة تحقق المأمور به تاما، من حيث القيود، غاية الأمر أنه لا يعلم به تفصيلا.
(٤٠٨)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)
ومن هنا يظهر: أن الإشكال في الاكتفاء به من جهة الإخلال بالوجه أو بالتمييز مما لا يرتبط بالمقام، لأن مرجعه إلي الامتثال الإجمالي يستلزم عدم تحقق المأمور به بتمام قيوده، لإخلاله بالوجه أو التمييز المعتبر فيه، فيتوقف تحققه بأجمعه علي الامتثال التفصيلي، وقد عرفت أن ذلك خارج عن موضوع البحث.
نعم، في الاكتفاء به في مقام الامتثال إشكالان واردان علي مورد البحث:
أحدهما: كون الامتثال الإجمالي لعبا وعبثا بأمر المولي (1). ولكنه مردود، مضافا إلي أنه ربما يكون ذلك لداع عقلائي، كما إذا كان تحصيل العلم التفصيلي أشق عليه من الاحتياط. إنما يضر ذلك إذا كان لعبا بأمر المولي، لا في كيفية إطاعته، بعد حصول الداعي إليها، ضرورة أن خصوصيات الإطاعة وكيفياتها إنما هي بيد المكلف، ولا يعتبر فيها الداعي الإلهي، كما هو واضح.
ثانيهما: أن رتبة الامتثال العلمي الإجمالي متأخرة عن رتبة الامتثال العلمي التفصيلي، لأن حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولي، بحيث يكون الداعي والمحرك له نحو العمل هو تعلق الأمر به، وانطباق المأمور به عليه، وهذا المعني غير متحقق في الامتثال الإجمالي، لأن الداعي له نحو العمل بكل واحد من فردي الترديد ليس إلا احتمال تعلق الأمر به. نعم، الانبعاث عن احتمال البعث وإن كان أيضا نحوا من الطاعة عند العقل إلا أن رتبته متأخرة عن الامتثال التفصيلي. هذا ملخص ما أفاده بعض الأعاظم علي ما في تقريرات بحثه (2).
١ - فرائد الأصول ٢: ٥٠٨.
2 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 72 - 73.
(٤٠٩)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، البعث، الإنبعاث (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)
ويرد عليه أولا: أن الانبعاث في موارد العلم التفصيلي أيضا لا يكون عن البعث، لا عن وجوده الواقعي، وهو واضح، ولا عن العلم به، بل الانبعاث إنما يتحقق بعد العلم بالبعث، وبما يترتب علي مخالفته من العقوبة، وعلي موافقته من المثوبة، مضافا إلي أن الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة هو العقل، ومن الواضح أن المكلف المنبعث عن مجرد احتمال البعث أقوي عنده في صدق عنوان المطيع ممن لا ينبعث إلا بعد العلم بثبوت البعث.
وثانيا نقول: إن الانبعاث في أطراف العلم الإجمالي إنما هو عن العلم بالبعث، ضرورة أنه لو لم يكن العلم به - ولو إجمالا - متحققا لم يتحقق الانبعاث من كثير من الناس، الذين لا ينبعثون في موارد احتمال البعث أصلا، كما لا يخفي.
فظهر من ذلك أن الامتثال الإجمالي والتفصيلي كليهما في رتبة واحدة.
ثم إنهم تعرضوا هنا لبعض المباحث الاخر مما يرتبط بباب الاشتغال، ونحن نحيلها إلي ذلك الباب، ونتكلم فيه فيما بعد إن شاء الله تعالي.
هذا تمام الكلام في مباحث القطع.
(٤١٠)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (4)، التصديق (1)
المقصد السابع في أحكام الظن والكلام فيه يقع في ضمن مقامات:
صفحه(٤١١)

المقصد السابع: في أحكام الظن والكلام فيه يقع في ضمن مقامات: المقام الأول: في إمكان التعبد با لظن

إمكان التعبد بالظن المقام الأول في إمكان التعبد بالظن ولا يخفي أن عقد هذا المقام في كلام القوم إنما هو للرد علي ابن قبة القائل بالاستحالة، مع أن دليله الأول الذي استدل به يدل علي أن مراده هو نفي الوقوع، لتمسكه بالإجماع (1)، فراجع.
المراد من " الإمكان " المزبور وهل المراد بالإمكان هو الإمكان الذاتي في مقابل الامتناع الذاتي، أو الإمكان الوقوعي الذي يقابل الامتناع الوقوعي، وهو الذي لا يلزم من وجوده محال؟ الظاهر هو إمكان تقرير الكلام في كليهما، كما أنه يمكن أن يدعي القائل بالاستحالة كلا منهما، لأنه يجوز أن يدعي أن معني التعبد علي طبق الأمارة هو جعل حكم مماثل لها، سواء كانت مطابقة أو مخالفة، وحينئذ يلزم اجتماع الضدين أو المثلين، وهما من الممتنعات الذاتية بلا إشكال، ويمكن أن يدعي
١ - انظر فرائد الأصول ١: ٤٠.
(٤١٣)
صفحهمفاتيح البحث: الجواز (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)

المراد من " الإمكان " المزبور

إمكان التعبد بالظن المقام الأول في إمكان التعبد بالظن ولا يخفي أن عقد هذا المقام في كلام القوم إنما هو للرد علي ابن قبة القائل بالاستحالة، مع أن دليله الأول الذي استدل به يدل علي أن مراده هو نفي الوقوع، لتمسكه بالإجماع (1)، فراجع.
المراد من " الإمكان " المزبور وهل المراد بالإمكان هو الإمكان الذاتي في مقابل الامتناع الذاتي، أو الإمكان الوقوعي الذي يقابل الامتناع الوقوعي، وهو الذي لا يلزم من وجوده محال؟ الظاهر هو إمكان تقرير الكلام في كليهما، كما أنه يمكن أن يدعي القائل بالاستحالة كلا منهما، لأنه يجوز أن يدعي أن معني التعبد علي طبق الأمارة هو جعل حكم مماثل لها، سواء كانت مطابقة أو مخالفة، وحينئذ يلزم اجتماع الضدين أو المثلين، وهما من الممتنعات الذاتية بلا إشكال، ويمكن أن يدعي
١ - انظر فرائد الأصول ١: ٤٠.
(٤١٣)
صفحهمفاتيح البحث: الجواز (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)
بنحو يوجب وقوعه تحقق المحال، كما سيجئ.
وكيف كان: فاللازم هو البحث في كل منهما، ولا يخفي أن إثبات الإمكان بأحد معنييه مما يحتاج إلي إقامة برهان، ومن المعلوم أنه لا برهان له. ولكن الذي يسهل الخطب: أنه لا احتياج إلي إثبات الإمكان، ضرورة أن ما هو المحتاج إليه إنما هو رد أدلة الامتناع، لأنه إذا لم يدل دليل علي الامتناع فمع فرض قيام دليل شرعي علي التعبد بالأمارات نعمل علي طبقه، ولا يجوز لنا رفع اليد عن ظاهره، وهذا بخلاف ما لو دل دليل عقلي علي الامتناع، فإنه يجب صرف دليل الحجية والتعبد عن ظاهره، كما هو الشأن في جميع الموارد التي قام الدليل العقلي علي خلاف ظواهر الأدلة الشرعية. فالمهم في المقام هو رد أدلة الامتناع، ليستكشف من دليل التعبد الإمكان الوقوعي، لا إثبات الإمكان.
ومن هنا يظهر: أن الإمكان الذي يحتاج إليه في المقام هو الإمكان الواقع في كلام شيخ الرئيس، وهو قوله: " كلما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان مالم يذدك عنه قائم البرهان " (1)، لما عرفت من أن رد أدلة الامتناع الموجب لثبوت احتمال الجواز يكفي في هذا الأمر، لأنه لا موجب معه من صرف دليل التعبد عن ظاهره، كما لا يخفي. فالأولي في عنوان البحث أن يقال:
" في عدم وجدان دليل علي امتناع التعبد بالأمارة الغير العلمية ".
وأما جعل البحث في الإمكان فمضافا إلي عدم الاحتياج إليه يرد عليه ما عرفت من عدم إقامتهم الدليل علي إثباته، مع أنه أيضا كالامتناع في الاحتياج إلي الدليل، فتدبر.
ثم إنه ذكر بعض الأعاظم - علي ما في تقريرات بحثه -: أن المراد
1 - الإشارات والتنبيهات 3: 418.
(٤١٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الجواز (1)

حول استدلال " ابن قبة " علي عدم إمكان التعبد

بالإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان التشريعي، يعني أن من التعبد بالأمارات هل يلزم محذور في عالم التشريع من تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة واستلزامه الحكم بلا ملاك واجتماع الحكمين المتنافيين وغير ذلك من التوالي الفاسدة المتوهمة في المقام، أو أنه لا يلزم شئ من ذلك؟ وليس المراد من الإمكان هو الإمكان التكويني، بحيث يلزم من التعبد بالظن أو الأصل محذور في عالم التكوين، فإن الإمكان التكويني لا يتوهم البحث عنه في المقام (1).
وفيه أولا: أن الإمكان التشريعي ليس قسما مقابلا للأقسام المتقدمة، بل هو من أقسام الإمكان الوقوعي الذي معناه عدم لزوم محال من وقوعه. غاية الأمر: أن المحذور الذي يلزم قد يكون تكوينيا وقد يكون تشريعيا، وهذا لا يوجب تكثير الأقسام، وإلا فيمكن التقسيم بملاحظة أن الممكن قد يكون ماديا وقد يكون غيره، وبملاحظة الجهات الأخر.
وثانيا: أن أكثر المحذورات المتوهمة في المقام محذور تكويني، لا يعقل تحققه في عالم التكوين، كاجتماع الحب والبغض، والإرادة والكراهة، والمصلحة والمفسدة في شئ واحد.
حول استدلال " ابن قبة " علي عدم إمكان التعبد ثم إنه استدل ابن قبة القائل باستحالة التعبد بخبر الواحد، بل بمطلق الأمارات، كما يظهر من بعض أدلته بوجهين:
أحدهما: أنه لو جاز التعبد بخبر الواحد في الإخبار عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) لجاز التعبد به في الإخبار عن الله تعالي، والتالي باطل إجماعا.
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 88.
(٤١٥)
صفحهمفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)
ثانيهما: أن العمل به موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال، إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحليته حراما، وبالعكس (1).
والجواب عن الوجه الأول: أن دعوي الملازمة تبتني علي كون الإخبار عن الرسول والإخبار عن الله مثلين، لعدم اختلاف الإخبار بواسطة اختلاف المخبر به، وكونه هو الله سبحانه أو النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، فمرجعه إلي أن الإجماع قام علي نفي حجية الإخبار مطلقا، سواء كان عن الله أو عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أو عن الأئمة (عليهم السلام). وسيأتي الجواب عن الإجماعات المنقولة علي عدم حجية الخبر الواحد، ولو كان اختلاف المخبر به دخيلا في ذلك، بمعني أن معقد الإجماع إنما هو خصوص الإخبار عن الله تعالي، لا عن غيره.
فيرد عليه منع الملازمة، لأنه قياس صرف، خصوصا مع وجود الفارق بينهما، وهو أن التعبد بالإخبار عن الله تعالي موجب للإلقاء في المفسدة الكثيرة، ضرورة أن ذلك يوجب تحقق الدواعي الكثيرة من المعتصمين بالأهوية العاليات والمتحركين بتحريك الشهوات، لعدم ثبوت الموازين التي عليها يعتمد، وبها يتميز الصحيح عن غيره. وهذا بخلاف الإخبار عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أو الأئمة (عليهم السلام).
هذا، مضافا إلي أن الإجماع إنما قام علي عدم الوقوع، لا علي الامتناع، كما لا يخفي.
والجواب عن الوجه الثاني أن يقال: إن هذا الوجه ينحل إلي محذورات، بعضها راجع إلي ملاكات الأحكام، كاجتماع المفسدة والمصلحة الملزمتين، وبعضها راجع إلي مبادئ الخطابات، كاجتماع الإرادة والكراهة، والحب
١ - انظر فرائد الأصول ١: ٤٠.
(٤١٦)
صفحهمفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (3)، الشهوة، الإشتهاء (1)، المنع (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)

الجواب عن محذور تفويت المصلحة

والبغض، وبعضها راجع إلي نفس الخطابات، كاجتماع الضدين أو النقيضين أو المثلين، وبعضها راجع إلي لازم الخطابات، كالإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة، والواجب دفع المحذورات بأجمعها فنقول:
الجواب عن محذور تفويت المصلحة أما محذور تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة، فيتوقف علي الالتزام بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات، وبأن المجعول في باب الأمارات نفس الطريقية المحضة، وإلا لم يلزم تفويت الملاك أصلا.
وقد يقال - كما في التقريرات - بتوقفه أيضا علي كون باب العلم منفتحا، وأما في صورة الانسداد فلا يلزم محذور التفويت، بل لابد من التعبد به، فإن المكلف لا يتمكن من استيفاء المصالح في حال الانسداد، إلا بالاحتياط التام.
وليس مبني الشريعة علي الاحتياط في جميع الأحكام (1).
ولكن يرد عليه: عدم اختصاص المحذور بصورة الانفتاح، بل يجري في صورة الانسداد أيضا، فإن التفويت والإلقاء يلزم من رفع وجوب الاحتياط الذي يحكم به العقل، وترخيص العمل علي طبق الأمارات، ضرورة أنه لو لم يكن التعبد علي طبق الأمارات، ولم يرد من الشارع الترخيص في رفع الاحتياط لكان حكم العقل وجوب الاحتياط في جميع الأطراف، فلم يلزم فوت المصلحة أو أخذ المفسدة، كما لا يخفي.
وكيف كان، فالتحقيق في الجواب أن يقال: إنه لا بأس بالتفويت والإلقاء إذا
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 90.
(٤١٧)
صفحهمفاتيح البحث: الوجوب (2)
كانت مصلحة التعبد بالعمل علي طبق الأمارات أقوي، كما أن الأمر كان كذلك في زمان الانفتاح، ضرورة أنه لو كان كل من الناس مكلفا بالمراجعة إلي الإمام، والسؤال من شخصه يلزم بطلان أساس الشريعة، لأن مع عدم مراجعة الشيعة إليهم إلا قليلا منهم كانوا (عليهم السلام) في أعلي مراتب المحدودية من طرف الخلفاء الأموية والعباسية، بحيث لا يمكن لهم بيان الأحكام إلا في الخفاء بالنسبة إلي أشخاص معدودة، فكيف إذا كان تكليف الشيعة تحصيل العلم بالأحكام من طريق السؤال عن الإمام (عليه السلام)؟
وحينئذ فيجوز للشارع أن يجعل الأمارات الغير العلمية حجة، نظرا إلي بقاء الشريعة، ومن المعلوم أن المصلحة الفائتة من عدم إيجابه تحصيل العلم بالسؤال عنهم (عليهم السلام) بالنسبة إلي جماعة من المتشرعين بها فانية في مقابل مصلحة بقاء الشريعة، كما هي واضح.
وأما في زمان الانسداد فلا إشكال في أن طريق تحصيل العلم ينحصر بالاحتياط التام، كما ذكرنا. والتفويت المتوهم إنما يلزم من عدم إيجاب الشارع ذلك الاحتياط، ضرورة أنه لو أوجبه - كما هو مقتضي حكم العقل - لم يلزم تفويت أصلا.
فلنا أن نقول: إن عدم إيجاب الشارع يمكن أن يكون لأجل علمه بأنه لو أوجب ذلك، مع تعسره - كما لا يخفي - لكان الناس يرغبون عن أصل الشريعة، ويخرج الدين عن كونه سمحة سهلة، كيف فنحن نري بالوجدان أن في هذا الزمان - مع سهولة العمل بالأحكام - لا يعملون بأكثرها، كما لا يخفي.
وقد عرفت: أن مجرد الإمكان بمعني الاحتمال يكفينا في هذا المقام، إذ لسنا بصدد إثبات الإمكان الوقوعي، لعدم الاحتياج إليه، كما تقدم.
(٤١٨)
صفحهمفاتيح البحث: الدولة الأموية (1)، يوم عرفة (1)، الباطل، الإبطال (1)، الحج (1)

دفع المحذور بناء علي المصلحة السلوكية

دفع المحذور بناء علي المصلحة السلوكية ثم إنه أجاب الشيخ العلامة الأنصاري (قدس سره) عن الإشكال بالتزام المصلحة السلوكية (1)، وفصل ذلك المحقق النائيني - علي ما في التقريرات - فقال ما ملخصه: إن سببية الأمارة لحدوث المصلحة تتصور علي وجوه:
الأول: أن تكون الأمارة سببا لحدوث مصلحة في المؤدي، تستتبع الحكم علي طبقها، بحيث لا يكون وراء الأمارة حكم في حق من قامت عنده الإرادة فتكون الأحكام الواقعية مختصة بالعالم بها. وهذا هو التصويب الأشعري الذي قامت الضرورة علي خلافه.
الثاني: أن تكون الأمارة سببا لحدوث مصلحة في المؤدي أيضا أقوي من مصلحة الواقع، بحيث يكون الحكم الفعلي في حق من قامت عنده الأمارة هو المؤدي، وإن كان في الواقع أحكام يشترك فيها العالم والجاهل علي طبق المصالح والمفاسد النفس الأمرية، إلا أن قيام الأمارة علي الخلاف يكون من قبيل الطوارئ والعوارض والعناوين الثانوية المغيرة لجهة الحسن والقبح، نظير الضرر والحرج، وهذا هو التصويب المعتزلي الذي يتلو الوجه السابق في الفساد والبطلان، لقيام الإجماع علي خلافه.
الثالث: أن يكون قيام الأمارة سببا لحدوث مصلحة في السلوك، مع بقاء الواقع والمؤدي علي ما هما عليه من المصلحة والمفسدة، من دون أن يحدث في المؤدي مصلحة بسبب قيام الأمارة، بل المصلحة إنما تكون في تطرق الطريق، وسلوك الأمارة، وتطبيق العمل علي مؤداها، والبناء علي أنه الواقع.
١ - فرائد الأصول ١: ٤٤.
(٤١٩)
صفحهمفاتيح البحث: مسألة الحسن والقبح (1)، الجهل (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)

الجواب عن محذور اجتماع المثلين أو الضدين

وبهذه المصلحة السلوكية يتدارك ما فات علي المكلف من مصلحة الواقع بسبب قيام الأمارة علي خلافه (1)، انتهي ملخصا.
وفيه أولا: أنه لا معني لسلوك الأمارة وتطرق الطريق إلا العمل علي طبق مؤداها، فإذا أخبر العادل بوجوب صلاة الجمعة مثلا فسلوك هذه الأمارة وتطرق الطريق ليس إلا الإتيان بصلاة الجمعة، إذ التصديق الغير العملي لا يصدق عليه السلوك علي طبقها، بل يتوقف ذلك علي جعل العمل مطابقا لها، الذي هو عبارة أخري عن الإتيان بمؤداها. ومن الواضح أن التغاير بين المؤدي والإتيان به ليس إلا بالاعتبار، لتغاير بين الإيجاد والوجود. وحينئذ فلم يبق فرق بين الوجه الثالث والوجه الثاني الذي قامت الضرورة والإجماع علي خلافه.
وثانيا: أن الأمارات الشرعية غالبها، بل جميعها أمارات عقلائية يعمل بها العقلاء في معاملاتهم وسياساتهم، ومن الواضح أن الأمارات العقلائية طرق محضة، لا مصلحة في سلوكها أصلا، إذ ليس المقصود بها إلا مجرد الوصول إلي الواقع، من دون أن يكون في سلوكها مصلحة، كما هو واضح لا يخفي.
هذا ما يتعلق بالجواب عن محذور التفويت والإلقاء.
الجواب عن محذور اجتماع المثلين أو الضدين وأما اجتماع المثلين أو الضدين أو النقيضين، فلا يخفي أنه يمكن توجيهه بنحو لا يرد عليه ما حققناه في مبحث اجتماع الأمر والنهي، من عدم ثبوت التضاد بين الأحكام أصلا، بأنه كيف يجتمع الإرادة الحتمية من المولي بفعل شئ أو تركه، مع جعله قول العادل حجة، الراجع إلي الترخيص في الترك أو
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 95 - 96.
(٤٢٠)
صفحهمفاتيح البحث: صلاة الجمعة (2)، النهي (1)، الوقوف (1)، الحج (1)
الفعل، إذا قام علي نفي الوجوب أو الحرمة.
وبعبارة أخري: معني كون الشئ واجبا في الواقع أنه أراد المولي بالإرادة الحتمية أن يوجده المكلف في الخارج، وبعثه إليه بالبعث الفعلي، ومعني حجية قول العادل جواز تطبيق العمل علي طبق إخباره ومتابعة قوله، فإذا أخبر بعدم وجوب ما يكون واجبا في الواقع فمعني حجية قوله يرجع إلي كون المكلف مرخصا في تركه، وحينئذ فكيف يجتمع البعث الحتمي إلي الفعل والإرادة الحتمية مع الترخيص في الترك.
ومن هذا التوجيه يظهر: أن أكثر الأجوبة التي أوردها الأعاظم في كتبهم مما لا يرتبط بالإشكال، ضرورة أن دعوي عدم كون المقام مشتملا علي حكمين، لأن الحجية غير جعل الحكم، أو دعوي كون الحكم المجعول هو الحكم الطريقي الغير المنافي للحكم الواقعي، أو غيرهما من الأجوبة التي سيأتي التعرض لبعضها مما لا يرتبط بالإشكال، لأن بعد تسليم تلك الأجوبة يبقي الإشكال بحاله، كما لا يخفي.
والتحقيق في الجواب أن يقال: إنه لا إشكال في كون الأحكام الواقعية الفعلية مجعولة علي جميع المكلفين، من دون أن يكون للعلم دخل في فعليتها، لما عرفت في بعض المباحث السابقة من أن المراد بالحكم الفعلي ليس إلا الأحكام التي أعطيت بيد الإجراء، وكان المقصود بها أن يأخذها الناس، ويعملوا بها.
وهذا لا فرق فيه بين أن يكون المكلف عالما بها أو جاهلا، مضافا إلي أن أخذ العلم بالحكم في موضوعه مستحيل بداهة.
فالأحكام الفعلية ثابتة بالنسبة إلي جميع المكلفين، كما أنها ثابتة بالنسبة إلي القادر والعاجز، ولا اختصاص لها بخصوص القادر. نعم، حيث
(٤٢١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، البعث، الإنبعاث (1)، الجواز (1)، الوجوب (1)
يكون الجهل والعجز من الأعذار العقلية، لعدم إمكان الانبعاث بالبعث مع الجهل به، أو عدم القدرة علي الإتيان بالمبعوث فلا محالة لا يكون المكلف معاقبا علي المخالفة ومذموما عليها، وقد حققنا في مبحث الترتب من مباحث الألفاظ أن التكليفين باقيان علي فعليتهما في صورة التزاحم. غاية الأمر: أن عجز المكلف صار سببا لكونه معذورا في مخالفة أحدهما، لعدم قدرته علي امتثالهما.
نعم، بينه وبين المقام فرق، وهو أن مخالفة المكلف في المقام - إذا أخطأت الأمارة - لا تكون مستندة إلي عذر عقلي، لأنه لو لم تكن الأمارة حجة من قبل الشارع لما وقع المكلف في مخالفة الواقع، لأنه كان يعمل بمقتضي الاحتياط الواجب بحكم العقل في موارد العلم الإجمالي. وحينئذ فتكون المخالفة مستندة إلي اعتبار الشارع قول العادل، وأمثاله من الأمارات.
وحينئذ فيمكن أن يقال: بمثل ما مر في الجواب عن محذور التفويت والإلقاء من أن جعل الشارع واعتباره للأمارات يمكن أن يكون بملاحظة أنه لو لم تكن الأمارة حجة من قبل الشارع لكان مقتضي حكم العقل وجوب الاحتياط علي الناس، وحينئذ فيلزم الحرج الشديد، والاختلال العظيم، الموجب لرغبة أكثر الناس عن الشريعة، وخروجها عن كونها سمحة سهلة، وذلك يوجب انتفاء المصلحة العظيمة، وهي مصلحة بقاء الشريعة.
فاعتبار قول العادل الراجع إلي الترخيص فيما لو أدي علي خلاف الواقع، وقام علي نفي وجوب الواجب الواقعي ليس إلا لملاحظة حفظ الشرع الذي يكون ذا مصلحة عظيمة، فيرخص في ترك صلاة الجمعة الواجبة واقعا القائمة علي نفي وجوبها الأمارة، لا لعدم كونها ذا مصلحة ملزمة، بل لرفع اليد عن مصلحتها في مقابل المصلحة التي هي أقوي منها بمراتب.
فوجوب صلاة الجمعة وإن كان حكما فعليا إلا أن الشارع يرفع اليد عن
(٤٢٢)
صفحهمفاتيح البحث: صلاة الجمعة (2)، الحج (1)، الجهل (1)، الوجوب (2)
مثله من بعض الأحكام الفعلية لأجل مصلحة هي أقوي المصالح وأتمها، فهو نظير من يقطع يده لأجل حفظ نفسه فيما لو توقف عليه، فقطع اليد وإن لم يكن ذا مصلحة - بل يكون عين المفسدة - إلا أن معارضته مع شئ آخر أقوي منه أوجب الإقدام عليه، مع كونه ذا مفسدة، كما لا يخفي.
ثم إن ما ذكرنا: يجري في جميع الأمارات والأصول، ولا اختصاص له بالأول، فإن اعتبار قاعدتي الفراغ والتجاوز، وإلغاء الشك بعد الوقت، وعدم وجوب ترتيب الأثر عليه، مع أن ذلك قد يؤدي إلي عدم الإتيان بالمأمور به - بعضا أو كلا - يمكن أن يكون لملاحظة أن تفويض الناس إلي ما يقتضيه عقولهم من ثبوت الاشتغال إلي أن يعلم الفراغ ربما يوجب تنفر الناس وإعراضهم عن أصل الشريعة، لعدم تحقق العلم لهم بإتيان التكاليف واجدة لجميع ما يعتبر فيها، إلا قليلا، ضرورة أن أكثرهم في شك من ذلك غالبا. فهذه المصلحة التي هو أقوي المصالح أوجبت رفع اليد عن بعض المصالح الضعيفة، وإن كان الحكم علي طبقها حكما فعليا، وكان الإتيان بها محبوبا للمولي في نفسها، كما لا يخفي.
فتلخص من جميع ذلك: أن الحكم الواقعي الفعلي عند قيام الأمارة علي خلافه يخرج عن الفعلية، بمعني أن المولي لا يريد إجرائه، فيصير كالأحكام الإنشائية التي لا يكون المقصود بها عمل الناس علي طبقها، إلا في زمان ظهور دولة الحق بقيام صاحب الأمر (عليه السلام)، كالحكم بنجاسة العامة علي ما في بعض الروايات.
وأما ما أفاده بعض محققي العصر - علي ما في تقريرات بحثه -: من أنه لا يعقل الحكم الإنشائي، بل الذي يكون في الواقع هو إنشاء الأحكام، وهو عبارة عن تشريعها وجعلها علي موضوعاتها المقدرة وجودها بجميع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط علي نهج القضايا الحقيقية. ودعوي أن الحكم الواقعي في مورد
(٤٢٣)
صفحهمفاتيح البحث: العصر (بعد الظهر) (1)

أجوبة الأعلام عن المشكلة ونقدها

الأمارة لا يكون فعليا واضحة الفساد، فإنه لا يمكن أن لا يكون الحكم فعليا إلا إذا اخذ في موضوعه عدم قيام الأمارة علي الخلاف، بحيث يكون قيدا في ذلك، ومعه يعود محذور التصويب (1).
ففيه: أن المراد بالحكم الإنشائي هو الحكم الذي ينشأه العقلاء المقننين للقوانين العرفية في أمورهم الدنيوية أيضا، ثم يخصصونه ببعض الأفراد، أو يقيدونه ببعض القيود، ضرورة أن العقلاء في جعل القوانين ليسوا بحيث يجعلون القانون بجميع خصوصياته، من حيث القيود أو الشمول، بل ينشأون الأحكام بنحو العموم أو الإطلاق، ثم يخصصونه أو يقيدونه.
كيف، ولو قلنا بأن الأحكام الواقعية كانت مجعولة علي موضوعاتها بجميع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط لم يبق وجه للتمسك بالإطلاق عند الشك في كون الحكم مقيدا، أو في تقيده بقيد آخر، إذ مع فرض كون المتكلم في مقام البيان لابد له من بيان الحكم المتعلق بالموضوع بجميع ما اعتبر فيه، وعند ذلك لايبقي شك في القيد، ومعه لا يجوز التمسك بالإطلاق، كما لا يخفي.
أجوبة الأعلام عن المشكلة ونقدها ثم إنه تفصي المحقق المعاصر عن أصل الإشكال - علي ما في التقريرات - بأن الموارد التي توهم وقوع التضاد بين الأحكام الظاهرية والواقعية علي أنحاء ثلاثة:
أحدها: موارد قيام الطرق والأمارات.
ثانيها: موارد مخالفة الأصول المحرزة.
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 103.
(٤٢٤)
صفحهمفاتيح البحث: الجواز (1)
ثالثها: موارد تخلف الأصول الغير المحرزة، والتفصي عن الإشكال يختلف في كل منها.
أما باب الطرق والأمارات: فليس المجعول حكما تكليفيا، حتي يتوهم التضاد بينه وبين الحكم الواقعي، بل المجعول فيها إنما هو الحجية والوسطية في الإثبات، وهو أمر عقلائي، ومما تناله يد الجعل. وحينئذ فليس حال الأمارة المخالفة إلا كحال العلم المخالف، فلا يكون في البين إلا الحكم الواقعي فقط، أصاب الطريق الواقع أو أخطأ، فإنه عند الإصابة يكون المؤدي هو الحكم الواقعي، كالعلم الموافق، ويوجب تنجيز الواقع، وعند الخطأ يوجب المعذورية وعدم صحة المؤاخذة عليه، كالعلم المخالف، من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول (1)، انتهي ملخصا. هذا ما أفاده في التفصي عن الإشكال في خصوص الأمارات.
ويرد عليه أولا: أنه ليس في باب الأمارات والطرق العقلائية الإمضائية حكم مجعول أصلا، لا الحجية ولا الوسطية في الإثبات، ولا الحكم التعبد به، ضرورة أنه ليس فيها إلا مجرد بناء العقلاء عملا علي طبقها، والمعاملة معها معاملة العلم، من دون أن يكون هنا جعل في البين، والشارع أيضا لم يتصرف فيها، بل عمل بها، كما يعمل العقلاء في أمورهم.
وثانيا: فلو سلم الجعل الشرعي فالمجعول فيها ليس إلا إيجاب العمل بالأمارات تعبدا، كما يظهر بملاحظة الروايات الواردة في ذلك، مثل قوله (عليه السلام):
" إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس " (2)، مشيرا إلي زرارة، وقوله (عليه السلام): " وأما
١ - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي ٣: ١٠٥.
٢ - اختيار معرفة الرجال ١: ٣٤٧ / ٢١٦، وسائل الشيعة ٢٧: ١٤٣، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 19.
(٤٢٥)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)
الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلي رواة أحاديثنا " (1)، وقوله (عليه السلام): " عليك بالأسدي " (2)، يعني أبا بصير، فإنه لو استفيد منها الجعل الشرعي، واغمض عن كون جميعها إرشادا إلي الارتكاز العقلائي فظاهرها وجوب العمل علي قول العادل، لا جعل الحجية والوسطية، كما لا يخفي.
وثالثا - وهو العمدة -: أنه مع الغمض عن الإيرادين الأولين نقول: إن ما أفاد من كون المجعول هو الوسطية في الإثبات لا يجدي في دفع الإشكال، لما تقدم في توجيهه من أن مرجع الإشكال إلي استحالة اجتماع الإرادة الحتمية المتعلقة بإيجاد شئ، والإرادة الجائية من قبل الحجية الراجعة إلي الترخيص في المخالفة فيما لو أخطأت الأمارة، وهذا لا يندفع بما ذكره، ولم يكن الإشكال منحصرا بالاجتماع في خصوص الحكمين، حتي يندفع بما ذكره من عدم كون المجعول في باب الأمارات هو الحكم.
هذا، وأما ما أفاده في باب الأصول المحرزة فملخصه: أن المجعول فيها هو البناء العملي علي أحد طرفي الشك علي أنه الواقع، وإلغاء الطرف الآخر، وجعله كالعدم، فالمجعول في الأصول التنزيلية ليس أمرا مغايرا للواقع، بل الجعل الشرعي إنما تعلق بالجري العملي علي المؤدي، علي أنه هو الواقع، كما يرشد إليه قوله (عليه السلام) في بعض أخبار قاعدة التجاوز " بلي قد ركعت " (3)، فإن كان
١ - إكمال الدين: ٤٨٤ / ٤، وسائل الشيعة ٢٧: ١٤٠، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب ١١، الحديث ٩.
٢ - اختيار معرفة الرجال ١: ٤٠٠ / ٢٩١، وسائل الشيعة ٢٧: ١٤٢، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب ١١، الحديث ١٥.
٣ - تهذيب الأحكام ٢: ١٥١ / ٥٩٢، وسائل الشيعة ٦: ٣١٧، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 13، الحديث 3.
(٤٢٦)
صفحهمفاتيح البحث: أبو بصير (1)، الوجوب (1)، كتاب اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (1)، كتاب تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (3)، الصّلاة (1)
المؤدي هو الواقع فهو، وإلا كان الجري العملي واقعا في غير محله، من دون أن يكون قد تعلق بالمؤدي حكم علي خلاف ما هو عليه. وبالجملة: المجعول في باب الأصول هو الهوهوية العملية التي بني عليها الشيخ في باب الأمارات (1)، انتهي.
ويرد عليه أولا: أن الجري والبناء العملي والهوهوية العملية ليس أمرا قابلا للجعل الشرعي، لأنه من الأمور التكوينية الغير القابلة للجعل، ضرورة أنه فعل للمكلف، فإنه هو الذي يعمل بمؤداها بما أنه الواقع. وأما قوله (عليه السلام):
" بلي قد ركع " فهو يرشد إلي ما ذكرنا من رفع اليد عن الحكم الفعلي، والاكتفاء بخلو المأمور به عن بعض الأجزاء.
وثانيا: أنه علي تقدير تسليم إمكان تعلق الجعل الشرعي بالجري العملي فنقول: من الذي أوجب علي المكلف، وأجاز له البناء علي أن المؤدي هو الواقع؟ فلا محالة يقال في الجواب: إن الجاعل والباعث له علي ذلك هو الشارع المرخص في العمل علي طبق الأصول، وحينئذ فيعود الإشكال بأنه كيف يجتمع ذلك مع الإرادة الحتمية المتعلقة بفعل المأمور به بجميع أجزائه وشرائطه، كما لا يخفي.
هذا، وذكر في مقام التفصي عن الإشكال في الأصول الغير المحرزة - بعد التفصيل في متممات الجعل - ما ملخصه: أن للشك في الحكم الواقعي اعتبارين:
أحدهما: كونه من الحالات والطوارئ اللاحقة للحكم الواقعي أو موضوعه، كحالتي العلم والظن، وهو بهذا الاعتبار لا يمكن أخذه موضوعا لحكم يضاد الحكم الواقعي، لانحفاظ الحكم الواقعي عنده.
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 110 - 111.
صفحه(٤٢٧)
ثانيهما: اعتبار كونه موجبا للحيرة في الواقع، وعدم كونه موصلا إليه ومنجزا له، وهو بهذا الاعتبار يمكن أخذه موضوعا لما يكون متمما للجعل ومنجزا للواقع، كما أنه يمكن أخذه موضوعا لما يكون مؤمنا عن الواقع حسب اختلاف مراتب الملاكات النفس الأمرية. فلو كانت مصلحة الواقع مهمة في نظر الشارع كان عليه جعل المتمم، لمصلحة احترام المؤمن وحفظ نفسه، فإنه لما كان حفظ نفس المؤمن أولي بالرعاية وأهم في نظر الشارع من مفسدة حفظ دم الكافر اقتضي ذلك تشريع حكم ظاهري طريقي بوجوب الاحتياط في موارد الشك، حفظا لدمه.
وهذا الحكم إنما يكون في طول الحكم للواقع، نشأ عن أهمية المصلحة الواقعية، ولذا كان الخطاب بالاحتياط خطابا نفسيا ناشئا عن أهمية مصلحة الواقع، فهو واجب نفسي للغير، لا واجب بالغير، ولذا كان العقاب علي مخالفة التكليف بالاحتياط عند تركه وأدائه إلي مخالفة الحكم الواقعي، لا علي مخالفة الواقع، لقبح العقاب عليه مع الجهل.
إن قلت: إن مقتضي ذلك صحة العقوبة علي مخالفة الاحتياط، صادف الواقع أو خالفه، لكونه واجبا نفسيا، وإن كان الغرض من وجوبه هو الوصلة إلي الأحكام الواقعية، إلا أن تخلف الغرض لا يوجب سقوط العقاب. فلو خالف الاحتياط، وأقدم علي قتل المشتبه، وصادف كونه مهدور الدم كان اللازم استحقاقه للعقوبة.
قلت: فرق بين علل التشريع وعلل الأحكام، والذي لا يضر تخلفه هو الأول، لأنها تكون حكمة تشريع الأحكام، وأما علة الحكم فالحكم يدور مدارها، ولا يمكن أن يتخلف عنها، ولا إشكال أن الحكم بوجوب حفظ نفس المؤمن علة للحكم بالاحتياط، لأن أهمية ذلك أوجب الاحتياط.
(٤٢٨)
صفحهمفاتيح البحث: القتل (1)، الجهل (1)
ومن ذلك يظهر: أنه لا مضادة بين إيجاب الاحتياط وبين الحكم الواقعي، فإن المشتبه إن كان مما يجب حفظ نفسه واقعا فوجوب الاحتياط يتحد مع الوجوب الواقعي، ويكون هو هو، وإن لم يكن كذلك فلا يجب الاحتياط، لانتفاء علته، وإنما المكلف يتخيل وجوبه، هذا كله إذا كانت مصلحة الواقع تقتضي جعل المتمم من إيجاب الاحتياط.
وإن لم تكن المصلحة الواقعية بهذه المثابة من الأهمية فللشارع جعل المؤمن بلسان الرفع كحديث الرفع (1)، أو بلسان الوضع كقوله: " كل شئ لك حلال " (2)، فإن المراد من الرفع ليس رفع التكليف عن موطنه، بل رفع التكليف عما يستتبعه من التبعات، وإيجاب الاحتياط، فالرخصة المستفادة من حديث الرفع نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان، فكما أن هذه الرخصة لا تنافي الحكم الواقعي كذلك الرخصة المستفادة من حديث الرفع.
والسر في ذلك: هو أن هذه الرخصة تكون في طول الحكم الواقعي، ومتأخر رتبتها عنه، لأن الموضوع فيها هو الشك في الحكم، من حيث كونه موجبا للحيرة في الواقع وغير موصل إليه، فقد لوحظ في الرخصة وجود الحكم الواقعي، ومعه كيف يعقل أن تضاد الحكم الواقعي.
وبالجملة: الرخصة والحلية المستفادة من حديثي الرفع والحل تكون في عرض المنع والحرمة المستفادة من إيجاب الاحتياط، وقد عرفت أن إيجاب
١ - التوحيد: ٣٥٣ / ٢٤، وسائل الشيعة ١٥: ٣٦٩، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب ٥٦، الحديث ١.
٢ - الكافي ٦: ٣٣٩ / ٢، وسائل الشيعة ٢٥: ١١٨، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحديث 2.
(٤٢٩)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (2)، الطعام (1)
الاحتياط يكون في طول الواقع ومتفرعا عليه، فما يكون في عرضه يكون في طول الواقع أيضا، إلا يلزم أن يكون ما في طول الشئ في عرضه (1)، انتهي.
ويرد عليه أولا: أن الفرق بين أخذ الشك باعتبار كونه من الحالات والطوارئ وبين أخذه باعتبار كونه موجبا للحيرة في الواقع، دعوي المناط في رفع التضاد هو الأخذ علي الوجه الثاني مما لا محصل له، فإن مجرد الطولية لو كان كافيا في رفع التضاد فاللازم رفعه بناء علي الوجه الأول أيضا، لأن الحالات الطارئة أيضا في طول الواقع، وإن لم يكن كافيا فيه، فالأخذ علي الوجه الثاني أيضا لا يرفع التضاد، بل نقول: إن الاعتبارين مجرد تغيير في العبارة، وإلا فلا فرق بينهما واقعا، كما لا يخفي.
وثانيا: أن ما أجاب به عن الإشكال الذي أورده علي نفسه بقوله: إن قلت: من عدم وجوب الاحتياط واقعا في مورد الشك مع عدم كون المشكوك مما يجب حفظه، لكون وجوب حفظ المؤمن علة للحكم بالاحتياط، لا علة للتشريع مما لاوجه له، فإن وجوب الاحتياط حكم ظاهري مجعول لغرض حفظ الواقع، ولابد أن يتعلق حقيقة بكل مشكوك، سواء كان واجب الحفظ أم لم يكن، وإلا فلو تعلق بخصوص ما كان منطبقا علي الواجب الواقعي فقط فيحتاج إلي متمم آخر، فإن وجوب الاحتياط المتعلق علي المشكوك الواجب بحسب الواقع لا يصلح للداعوية نحو المشكوك كونه هو الواقع، وقاصر عن تحريك العبد نحوه، فيصير جعل إيجاب الاحتياط لغوا، لأن جميع موارد الشك يكون تعلق وجوب الاحتياط بها مشكوكا، كما لا يخفي.
وثالثا: أن ما أفاد من أن الرخصة، وكذا أصالة الحلية إنما يكون في
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 114 - 119.
(٤٣٠)
صفحهمفاتيح البحث: الوجوب (5)
عرض الاحتياط الذي هو في طول الواقع، فلابد أن تكون الرخصة أيضا في طوله ممنوع جدا، لأنه قد ثبت في محله أن ما في عرض المتقدم علي شئ لا يلزم أن يكون متقدما عليه، لأن التقدم والتأخر إنما يثبت في موارد ثبوت ملاكهما، كالعلية والمعلولية، ولا معني لثبوتهما من دون ملاك، كما هو واضح.
ورابعا: أن ما ذكره - علي تقدير تسليم صحته - لا يجدي في رفع الإشكال بالتوجيه الذي ذكرناه، فتدبر.
ومما تفصي به عن الإشكال ما أفاده السيد الأصفهاني - علي ما حكاه عنه المحقق المعاصر في كتاب " الدرر " - وملخصه: أنه لا إشكال في أن الأحكام إنما تتعلق بالمفاهيم المتصورة في الذهن، لكن لا من حيث إنها كذلك، بل من حيث إنها حاكية عن الخارج.
ثم إن المفهوم المتصور تارة يكون مطلوبا علي نحو الإطلاق، واخري علي نحو التقييد، وعلي الثاني فقد يكون ذلك لعدم المقتضي في غير المقيد، وقد يكون لوجود المانع، مثلا قد يكون عتق الرقبة مطلوبا علي سبيل الإطلاق، وقد يكون الغرض في عتق الرقبة المؤمنة خاصة، وقد يكون في المطلق، إلا أن عتق الرقبة الكافرة مناف لغرضه الآخر، ولأجله قيد العتق المطلوب بما إذا تحقق في الرقبة المؤمنة، فتقييده في هذا القسم إنما هو من جهة الكسر والانكسار، لا لتضييق دائرة المقتضي.
ومن المعلوم: أن ذلك يتوقف علي تصور العنوان المطلوب أولا مع العنوان الآخر المتحد معه في الوجود المخرج له عن المطلوبية الفعلية، فلو فرضنا عنوانين غير مجتمعين في الذهن فلا يعقل تحقق الكسر والانكسار. فاللازم من ذلك: أنه متي تصور العنوان الذي فيه جهة المطلوبية يكون مطلوبا صرفا، من دون تقييد وكذا العنوان الذي فيه جهة المبغوضية.
(٤٣١)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (1)، العتق (3)
والعنوان المتعلق للأحكام الواقعية مع العنوان المتعلق للأحكام الظاهرية مما لا يجتمعان في الوجود الذهني، مثلا إذا تصور الآمر صلاة الجمعة فلا يمكن أن يتصور معها إلا الحالات التي يمكن أن تتصف بها في هذه الرتبة، مثل كونها في المسجد أو في الدار، وأما اتصافها بكون حكمها الواقعي مشكوكا فليس مما يتصور في هذه الرتبة، لأن هذا الوصف إنما يعرض الموضوع بعد تحقق الحكم، والأوصاف المتأخرة عنه لا يمكن إدراجها في موضوعه، فلا منافاة حينئذ بين الحكمين، لأن الجهة المطلوبية ملحوظة في ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم، وجهة المبغوضية ملحوظة مع لحاظه.
إن قلت: العنوان المتأخر وإن لم يكن متعقلا في مرتبة تعقل الذات ولكن الذات ملحوظة في مرتبة تعقل العنوان المتأخر، فعند ملاحظة العنوان المتأخر يجتمع العنوانان في اللحاظ.
قلت: تصور ما يكون موضوعا للحكم الواقعي الأولي مبني علي قطع النظر عن الحكم، وتصوره بعنوان كونه مشكوك الحكم لابد وأن يكون بلحاظ الحكم، ولا يمكن الجمع بين لحاظ التجرد عن الحكم ولحاظ ثبوته (1).
ويرد عليه أولا: أن عنوان كون الموضوع مشكوك الحكم لا يتوقف علي تحققه قبله، ضرورة أنه يمكن الشك في حكم الموضوع مع عدم كونه محكوما بحكم. فبين العنوانين - أعني عنوان الموضوع بلحاظ حكمه الواقعي وعنوان كونه مشكوك الحكم - نسبة العموم من وجه، لأنه كما يمكن أن يكون الموضوع معلوم الحكم فيتحقق الافتراق من ناحية الموضوع، كذلك يمكن أن يكون مشكوك الحكم مع عدم تحققه أصلا. كيف، ولو كان عنوان المشكوكية
١ - انظر درر الفوائد، المحقق الحائري: 351 - 353.
(٤٣٢)
صفحهمفاتيح البحث: صلاة الجمعة (1)، الوقوف (1)، السجود (1)
متوقفا علي سبق الحكم يلزم من وجود الشك العلم، لأن المفروض أن توقفه علي سبق الحكم أمر مقطوع، فبعد الشك يقطع به، مع أنه مستحيل جدا.
مضافا إلي أنه لو شك في حكم الموضوع، من حيث الوجوب والتحريم مثلا فاللازم - بناء علي هذا - أن يكون الموضوع في الواقع واجبا وحراما معا.
وثانيا: أنه لو سلم أن تحقق عنوان المشكوكية في الواقع يتوقف علي سبق الحكم فلا نسلم ذلك في مقام جعل الأحكام، الذي لا يتوقف إلا علي تصور موضوعاتها، فللمولي أن يجعل الحكم متعلقا بعنوان مشكوك الحكم قبل أن صدر منه حكم آخر متعلق بذوات الموضوعات، وقد حققنا في مبحث التعبدي والتوصلي إمكان أن يكون الموضوع مقيدا بما لا يأتي إلا من قبل الحكم، فراجع.
وثالثا - وهو العمدة -: أن ما أجاب به عن الإشكال الذي أورده علي نفسه بقوله: إن قلت مما لا يندفع به الإشكال أصلا، لأن الموضوع المتصور المأخوذ موضوعا للحكم الواقعي إما أن يكون مأخوذا بشرط لا، من حيث كونه مشكوك الحكم، وإما أن يكون مأخوذ الا بشرط. ومرجع الأول إلي أن ثبوت الحكم الواقعي للموضوع إنما هو في صورة العلم بثبوته له، وهو تصويب قام الإجماع، بل الضرورة علي خلافه، ولو كان المراد هو الثاني فمن الواضح أن الشئ المأخوذ لا بشرط لا يأبي من الاجتماع مع بشرط شئ، وحينئذ فيجتمع الحكمان عند ملاحظة عنوان مشكوك الحكم، وجعل الحكم متعلقا به، كما لا يخفي.
ثم إنه قد تخلص عن الإشكال بوجوه أخر، تعرض لبعضها الأستاذ مع الجواب عنه، ولكنه لا فائدة في التعرض له بعد كونه موردا للإشكال، وبعد الجواب عنه بما حققناه، فتأمل في المقام، فإنه من مزال الأقدام.
(٤٣٣)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (2)

المقام الثاني: في تأسيس الأصل

في تأسيس الأصل المقام الثاني في تأسيس الأصل يقع الكلام في تأسيس الأصل الذي يعول عليه عند عدم الدليل علي وقوع التعبد بغير العلم مطلقا أو في الجملة. فنقول: ذكر الشيخ في " الرسالة " ما ملخصه: أن التعبد بالظن الذي لم يدل علي التعبد به دليل محرم بالأدلة الأربعة.
يكفي من الكتاب قوله تعالي: * (قل أألله أذن لكم أم علي الله تفترون) * (1) دل علي أن ما ليس بإذن من الله من إسناد الحكم إلي الشارع فهو افتراء.
ومن السنة: قوله (عليه السلام) في عداد القضاة من أهل النار: " ورجل قضي بالحق، وهو لا يعلم " (2).
ومن الإجماع: ما أدعاه الفريد البهبهاني من عدم كون الجواز بديهيا عند
١ - يونس (١٠): ٥٩.
٢ - الكافي ٧: ٤٠٧ / ١، وسائل الشيعة ٢٧: ٢٢، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4، الحديث 6.
(٤٣٤)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)
العوام، فضلا عن العلماء.
ومن العقل: تقبيح العقلاء من يتكلف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده من المولي.
نعم، فرق بين هذا وبين الاحتياط الذي يستقل العقل بحسنه، لأنه فرق بين الالتزام بشئ من قبل المولي علي أنه منه، مع عدم العلم بأنه منه، وبين الالتزام بإتيانه لاحتمال كونه منه.
والحاصل: أن المحرم هو العمل بغير العلم متعبدا به ومتدينا به. وأما العمل به من دون تعبد بمقتضاه فهو حسن إن كان لرجاء إدراك الواقع ما لم يعارضه احتياط آخر، ولم يثبت من دليل آخر وجوب العمل علي خلافه، كما لو ظن الوجوب، واقتضي الاستصحاب الحرمة (1)، انتهي موضع الحاجة.
أقول: المراد بالإسناد إلي الشارع هو التشريع الذي كان قبحه عقلا وحرمته شرعا مفروغا عنه عندهم، ولكن كلما تأملنا لم نعرف له معنا متصورا معقولا، إذ الالتزام الحقيقي بما يعلم عدم ورود التعبد من الشارع، أو لا يعلم وروده منه مما لا يمكن أن يتحقق، لعدم كون الالتزامات النفسانية تحت اختيار المكلف. نعم، الإسناد إلي الشارع - الذي هو عبارة أخري عن البدعة - أمر ممكن معقول، قد دل العقل والنقل علي خلافه، وأنه أمر قبيح محرم.
وبالجملة: فالتعبد بمقتضي الأمارة الغير العلمية التي لم يرد دليل علي اعتبارها إن كان معناه هو العمل بمضمونها بعنوان أنه من الشارع فهو مما لا يعقل، مع عدم العلم بورود التعبد به من الشارع، وإن كان معناه هو إسناد مضمونها إلي الشارع قولا فهو من مصاديق القول بغير العلم الذي يحكم العقل بقبحه قطعا،
١ - فرائد الأصول ١: ٤٩ - 50.
(٤٣٥)
صفحهمفاتيح البحث: الإبداع، البدعة (1)، الوجوب (1)، الحاجة، الإحتياج (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)
والدليل النقلي بحرمته شرعا.
وما ذكره من الأدلة الأربعة لا يستفاد منها أزيد من ذلك، لأن المراد بالافتراء في قوله تعالي هو الكذب، كما هو معناه لغة، وكذا سائر الأدلة لا يدل علي أزيد من حرمة القول بغير علم، ولا يدل شئ منها علي حرمة العمل بما لا يعلم بعنوان أنه من المولي قطعا.
ثم إن المبحوث عنه في المقام هو تأسيس الأصل فيما لا دليل علي اعتباره، حتي يتبع في موارد الشك، فالاستدلال علي أن الأصل هو عدم الحجية بقبح التشريع وحرمته - كما عرفت في كلام الشيخ - مبني علي دعوي الملازمة بين الحجية وصحة الإسناد، بمعني أنه كلما صح الإسناد - أي إسناد مقتضاه إلي الشارع - فهو حجة، وكلما لم يصح لا يكون بحجة، فإذا قام الدليل علي حرمة التشريع الذي يرجع إلي الإسناد إلي الشارع فيما لا يعلم يستفاد من ذلك عدم كونه حجة.
هذا، وقد يورد علي دعوي الملازمة بالنقض بموارد:
أحدها: ما أفاده المحقق الخراساني في " الكفاية " من أن الظن علي تقدير الحكومة حجة عقلا، مع أنه لا يصح إسناد المضمون إلي الشارع فيه (1).
هذا، ولكن يرد عليه: عدم تمامية النقض، بناء علي مبناه في تقرير مقدمات الانسداد من أن أحدها العلم الإجمالي بوجود التكاليف (2)، لأنه بناء علي ذلك لا يكون الظن حجة، بل الحجة هو العلم الإجمالي. غاية الأمر: أنه حيث لا يمكن - أو لا يجب - الاحتياط في جميع أطرافه فاكتفي بالعمل
١ - كفاية الأصول: ٣٢٣.
2 - نفس المصدر: 356 - 357.
(٤٣٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الكذب، التكذيب (1)، الحج (5)، الظنّ (2)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
بالمظنونات فقط، فالعمل بها ليس لكون الظن حجة، بل لكونه أقرب إلي الوصول إلي الواقع، كما لا يخفي.
ثانيها: ما ذكره المحقق العراقي - علي ما في تقريرات بحثه - من النقض باحتمال التكليف قبل الفحص، وبإيجاب الاحتياط في الشبهات البدوية (1).
ولكن يرد عليه: أن احتمال التكليف قبل الفحص لا يكون حجة، بل الحجة هي بيان التكليف المذكور في مظانه الذي يعلم به بعد الفحص. غاية الأمر: أن العقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان فيما إذا تفحص ولم يجد، فعدم الفحص لا يقتضي أزيد من عدم حكم العقل بقبحه في مورده، لا أن يكون الاحتمال معه حجة، كما أن إيجاب الاحتياط في الشبهات البدوية يمكن أن يقال بعدم كونه حجة، بل إنما هو رافع لحكم العقل بقبح العقاب الذي كان ثابتا عند عدم إيجاب الاحتياط، لأنه لو شرب التتن مثلا مع وجوب الاحتياط عليه، وكان في الواقع حراما فهو يعاقب علي الإتيان بالمنهي عنه، لا علي مخالفة الاحتياط.
وبالجملة: فلم يوجد مورد يتحقق الانفكاك فيه بين الحجية وصحة الإسناد. نعم، يرد علي الشيخ: أن ادعاء الملازمة بينهما إنما هو مجرد دعوي يحتاج إلي إقامة برهان، كما لا يخفي.
فالأولي في تقريرا لأصل ما أفاده في " الكفاية " مما حاصله: أن مع الشك في حجية شئ لا يترتب عليه آثار الحجية قطعا، ضرورة أن احتجاج المولي علي العبد لا يجوز إلا بما يعلم العبد بكونه حجة منه عليه، فالآثار المرغوبة من الحجة لا تكاد تترتب إلا علي ما أحرز اتصافها بالحجية الفعلية، لقبح المؤاخذة علي مخالفة التكليف مع الشك في حجية الأمارة المصيبة، ونحو
1 - نهاية الأفكار 3: 80 - 81.
(٤٣٧)
صفحهمفاتيح البحث: الحج (3)، الظنّ (1)، دولة العراق (1)، الجواز (1)، الوجوب (1)
ذلك من الآثار. فعدم حجية الأمارة التي شك في اعتبارها شرعا أمر مقطوع، يحكم به العقل جزما (1).
ومن هنا يظهر الخلل في استدلال الشيخ علي أصالة عدم الحجية بالأدلة الأربعة، فإن الكلام هنا في تأسيس الأصل الذي يتبع في موارد الشك، ولم يقم بعد دليل علي حجية ظواهر الكتاب أو السنة الغير القطعية أو الإجماع مثلا، حتي يتمسك بها علي أن الأصل في موارد الشك يقتضي عدم الحجية. نعم، لا بأس بالتمسك بالعقل لو كان حكمه بذلك قطعيا، كما لا يخفي.
ثم إنه قد يستدل علي أن الأصل عدم الحجية باستصحاب عدم الحجية وعدم وقوع التعبد به، وإيجاب العمل عليه. وأورد عليه الشيخ (قدس سره) بأن الأصل وإن كان كذلك إلا أنه لا يترتب علي مقتضاه شئ، فإن حرمة العمل بالظن يكفي في موضوعها مجرد عدم العلم بورود التعبد، من غير حاجة إلي إحراز عدمه.
والحاصل: أن أصالة عدم الحادث إنما يحتاج إليها في الأحكام المترتبة علي عدم ذلك الحادث، وأما الحكم المترتب علي عدم العلم بذلك الحادث فيكفي فيه الشك فيه، ولا يحتاج إلي إحراز عدمه بحكم الأصل، وهذا نظير قاعدة الاشتغال الحاكمة بوجوب اليقين بالفراغ، فإنه لا يحتاج في إجرائها إلي أصالة عدم فراغ الذمة، بل يكفي فيها عدم العلم بالفراغ (2)، انتهي.
واستشكل علي هذا الكلام المحقق الخراساني في " التعليقة " بما حاصله:
أن الحجية وعدمها، وكذا إيجاب التعبد وعدمه بنفسهما مما يتطرق إليه الجعل، وتناله يد التصرف من الشارع، وما كان كذلك يكون الاستصحاب فيه جاريا،
١ - كفاية الأصول: ٣٢٢ - ٣٢٣.
٢ - فرائد الأصول ١: ٤٩ - 50.
(٤٣٨)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)
كان هناك أثر شرعي يترتب علي المستصحب أو لا.
هذا، مع أنه لو كان الحجية وعدمها من الموضوعات الخارجية التي لا يصح الاستصحاب فيها إلا بملاحظة الآثار الشرعية المترتبة عليها فإنما لا يكون مجال لاستصحاب عدم الحجية فيما إذا لم يكن حرمة العمل إلا أثر الشك فيها، لا لعدمها واقعا. وأما إذا كانت أثرا له أيضا فالمورد وإن كان في نفسه قابلا لكل من الاستصحاب والقاعدة المضروبة لحكم هذا الشك إلا أنه لا يجري فعلا إلا الاستصحاب، لحكومته عليها.
والضابط: أنه إذا كان الحكم الشرعي مترتبا علي الواقع ليس إلا، فلا مجال إلا للاستصحاب، وإذا كان مترتبا علي الشك فيه كذلك فلا مجال إلا للقاعدة، وإذا كان مترتبا علي كليهما، فالمورد وإن كان قابلا لهما إلا أن الاستصحاب جار دونها، لحكومته عليها.
وفيما نحن فيه وإن كان حكم حرمة العمل والتعبد مترتبا علي الشك في الحجية إلا أنه يكون مترتبا أيضا علي عدمها، لمكان ما دل علي حرمة الحكم بغير ما أنزل الله، فيكون المتبع هو الاستصحاب.
ومن هنا انقدح الحال في استصحاب الاشتغال وقاعدته، وأنها لا تجري معه، لوروده عليها (1)، انتهي ملخصا.
وقد أورد علي هذا الاستشكال المحقق النائيني - علي ما في تقريرات بحثه - بما ملخصه: أن ما أفاده أولا من أن الحجية بنفسها من الأحكام، فلا يتوقف جريان استصحاب عدمها علي أن يكون وراء المؤدي أثر عملي.
ففيه: أن ما اشتهر من أن الأصول الحكمية لا يتوقف جريانها علي أن
١ - درر الفوائد، المحقق الخرساني: 80 - 81.
(٤٣٩)
صفحهمفاتيح البحث: الأحكام الشرعية (1)، الوقوف (2)
يكون في البين أثر عملي إنما هو لأجل أن المؤدي بنفسه من الآثار العملية، وإلا فلا يمكن أن تجري الأصول. كيف، وهي وظائف عملية، والحجية وإن كانت من الأحكام الوضعية، وكانت بنفسها مما تنالها يد الجعل إلا أنها بوجودها الواقعي لا يترتب عليها أثر عملي أصلا، والآثار المترتبة عليها منها ما يترتب عليها بوجودها العلمي، ككونها منجزة وعذرا، ومنها ما يترتب علي نفس الشك في حجيتها، كحرمة التعبد بها، وعدم جواز إسناد مؤداها إلي الشارع.
فعدم الحجية الواقعية بنفسه لا يقتضي الجري العملي، حتي يجري استصحاب العدم، إذ ليس لإثبات عدم الحجية أثر إلا حرمة التعبد بها، وهو حاصل بنفس الشك في الحجية وجدانا، لما عرفت من أن الشك تمام الموضوع لحرمة التشريع وعدم جواز التعبد.
فجريان الاستصحاب لإثبات هذا الأثر يكون من تحصيل الحاصل، بل أسوأ حالا منه، فإن تحصيل الحاصل فيما إذا كان المحصل والحاصل من سنخ واحد، كلاهما وجدانيان أو تعبديان، وفي المقام يلزم إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد، فهو أسوأ حالا منه.
وأما ما أفاده ثانيا من أن حرمة التعبد بالأمارة كما تكون أثرا للشك في حجيتها كذلك يكون أثر العدم حجيتها واقعا، ففي ظرف الشك يجري كل من الاستصحاب والقاعدة، ويقدم الأول، لحكومته.
ففيه: أنه لا يعقل أن يكون الشك في الواقع موضوعا للأثر في عرض الواقع، مع أنه علي هذا الفرض لا يجري الاستصحاب أيضا، لأن الأثر يترتب بمجرد الشك لتحقق موضوعه، فلا يبقي مجال لجريان الاستصحاب، لأنه لا تصل النوبة إلي إثبات بقاء الواقع، ليجري فيه الاستصحاب، فإنه في المرتبة السابقة علي هذا الإثبات تحقق موضوع الأثر، وترتب عليه. فأي فائدة في
(٤٤٠)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الجواز (2)
جريان الاستصحاب؟!
وما قرع سمعك من أن الاستصحاب يكون حاكما علي القاعدة المضروبة لحال الشك فإنما هو فيما إذا كان ما يثبته الاستصحاب مغايرا لما تثبته القاعدة (1)، انتهي ملخصا.
أقول: والتحقيق أن يقال: إنه قد ظهر من مطاوي ما ذكرنا أن هنا عناوين ثلاثة، قد وقع الخلط بينها في الكلمات التي نقلناها عن الأعلام:
أحدها: القول بغير علم الذي يدل علي حرمته الآية والرواية والعقل، ومن الواضح أن الموضوع فيه إنما هو نفس الشك وعدم العلم.
ثانيها: البدعة والتشريع، بمعني إدخال ما ليس من الدين في الدين، وإظهار أنه منه، وهذا أمر واقعي لا ربط له بعلم المكلف وجهله، فإن المكلف قد يدخل في الدين ما لا يكون باعتقاده منه، مع أنه كان في الواقع من الدين، فهذا لا يكون تشريعا، ولا يعاقب عليه حينئذ. نعم، لو قلنا باستحقاق المتجري للعقاب يترتب عليه عقوبته، وقد يدخل في الدين ما يكون باعتقاده منه، مع أنه ليس في الواقع منه، فهذا تشريع واقعا، ولكن المكلف معذور في ارتكاب هذا الحرام، لجهله به.
ثالثها: عنوان الكذب الذي هو أعم من البدعة، إذ تختص هي بما إذا ادخل في الدين والشريعة أو نقص منه، والأول أعم منها ومن الكذب في غير الأحكام الشرعية. ولا يخفي أن الكذب أيضا عنوان واقعي، لأنه ليس إلا مخالفة القول للواقع، لا للاعتقاد، فقد يتحقق مع اعتقاد خلافه، وقد لا يتحقق مع اعتقاد ثبوته.
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 127 - 131.
(٤٤١)
صفحهمفاتيح البحث: الأحكام الشرعية (1)، الكذب، التكذيب (3)، الإبداع، البدعة (2)
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنه مع الشك في حجية أصل أو أمارة يجري استصحاب عدم الحجية الراجع إلي عدم كونه من الدين، فيترتب عليه أنه لو أدخل في الدين يكون تشريعا وبدعة، فيخرج عن موضوع القول بغير علم، لأن المراد بالعلم المأخوذ أعم من العلم الوجداني والظن الذي قام الدليل علي اعتباره، فإذا ثبت بالاستصحاب عدم كونه من الدين، فيصير من جملة ما علم أنه ليس منه، فلو ارتكبه بأن أدخله في الدين يعاقب علي البدعة والتشريع والكذب مع المصادفة، ولا يعاقب علي أنه قال بغير علم.
نعم، لو أسند إلي الشارع مضمون الأمارة التي شك في حجيتها، مع قطع النظر عن استصحاب عدم الحجية يعاقب علي القول بغير العلم، ولا يعاقب علي البدعة، لأنه كانت الشبهة شبهة مصداقية لها، ولا يكون الحكم حجة في الشبهات المصداقية لموضوعاتها، كما لا يخفي.
فانقدح: أن الشك في الحجية كما أنه موضوع لحرمة التعبد والنسبة إلي الشارع، كذلك موضوع لاستصحاب عدم الحجية لما يترتب علي عدمها من الأثر، وهو حرمة إدخاله في الدين بعنوان أنه منه، كما عرفت.
(٤٤٢)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الحج (1)، الإبداع، البدعة (1)

المقام الثالث: فيما قيل أو يمكن أن يقال بخروجه عن الأصل

المقام الثالث فيما قيل أو يمكن أن يقال بخروجه عن الأصل وهو يشتمل علي أمور:
صفحه(٤٤٣)

وهو يشتمل علي أمور: الأمر الأول: ظواهر كلمات الشارع

ظواهر كلمات الشارع الأمر الأول ظواهر كلمات الشارع لا يخفي أن حجية كلام المتكلم، والاحتجاج به عليه يتوقف علي طي مراحل أربعة:
أحدها: إثبات صدور الكلام منه، والمتكفل لذلك في الشرعيات هو بحث حجية خبر الواحد الذي سيجئ فيما بعد.
ثانيها: كون الكلام الصادر من المتكلم له ظهور، وهذا يتوقف إثباته علي التبادر وصحة السلب وقول اللغويين.
ثالثها: هو كون هذا الظاهر مرادا له بالإرادة الاستعمالية.
رابعها: كون تلك الإرادة مطابقة للإرادة الجدية.
ولا شبهة في أن الأصل العقلائي يحكم في المرحلة الثالثة بكون الظاهر مرادا له بالإرادة الاستعمالية، لأن احتمال عدم كونه مرادا منشأه احتمال الغلط والخطأ، وهو منفي عندهم، ولا يعتنون بالشك فيه، كما هو بناؤهم في سائر أفعال الفاعلين، فإنهم يحملونها علي كونها صادرة من فاعلها علي نحو العمد والاختيار، لا الخطأ والاشتباه. فإذا صدر من المتكلم " أكرم زيدا " مثلا، وشك في أن مقصوده
(٤٤٥)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (2)، الكرم، الكرامة (1)
هل هو زيد أو كان مقصوده عمرا، غاية الأمر أنه تكلم بكلمة زيد اشتباها وخطأ فلا شبهة في عدم اعتنائهم بهذا الشك أصلا.
ومما ذكرنا ظهر: أنه ليس في هذه المرحلة إلا أصالة عدم الخطأ والاشتباه، وأما أصالة الحقيقة أو أصالة عدم التخصيص أو التقييد فلا يجدي شئ منها في هذه المرحلة، لما حققناه سابقا من أن المجاز ليس عبارة عن استعمال اللفظ في غير الموضوع له، كيف وإلا لا يكون فيه حسن أصلا، بل هو عبارة عن استعمال اللفظ في الموضوع له، غاية الأمر أنه قد ادعي كون المعني المجازي من مصاديق المعني الحقيقي نظير ما ذكره السكاكي في خصوص الاستعارة (1)، علي تفاوت بينه وبين ما ذكرنا.
فاللفظ في الاستعمال المجازي لا يكون مستعملا إلا في المعني الحقيقي، ولا فرق بينه وبين استعماله في معناه الحقيقي، وإرادته منه من هذه الجهة أصلا، فأصالة الحقيقة غير مجدية في تعيين المراد الاستعمالي.
وأما أصالة العموم والإطلاق فقد عرفت في مبحثهما أن العام المخصص لا يكون مجازا، ولم يكن لفظه مستعملا في ما عدا مورد التخصيص، بل كان المراد بالإرادة الاستعمالية في العام المخصص وغيره واحدا، بلا تفاوت من حيثية الاستعمال أصلا، وكذا أصالة الإطلاق، فهما أيضا لا يرتبطان بهذه المرحلة.
والعجب من المحقق العراقي (قدس سره) أنه مع اعترافه بكون المراد الاستعمالي في العام المخصص والمطلق المقيد هو العموم والإطلاق (2) ذكر علي ما في تقريرات بحثه: أن الذي يرفع الشك في مطابقة الإرادة الاستعمالية لظهور
1 - مفتاح العلوم: 157 - 158.
2 - نهاية الأفكار 2: 512.
(٤٤٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، دولة العراق (1)
الكلام هي الأصول العدمية، من أصالة عدم القرينة وأصالة عدم التخصيص والتقييد (1).
هذا، وأما المرحلة الرابعة: فالأصل فيها هو أصالة تطابق الإرادتين الاستعمالية والجدية. وبهذا الأصل يرفع الشك عن احتمال المجازية والتخصيص والتقييد، وأما أصالة الحقيقة وأصالة العموم وأصالة الإطلاق فليست أصولا مستقلة، بل مرجعها إلي أصالة التطابق.
وأما أصالة عدم القرينة فليست أصلا مستقلا أيضا، لأن منشأ احتمال وجود القرينة وعدمها فعلا إما عدم ذكر المتكلم لها عمدا، وإما عدم ذكره سهوا واشتباها. فعلي الثاني يكون الأصل هو أصالة عدم الخطأ والاشتباه، وعلي الأول يكون الأصل هو إفادة المتكلم جميع مرامه.
هذا، ولو كان المنشأ هو احتمال إسقاط الواسطة القرينة فاحتمال إسقاطه سهوا منفي أيضا بأصالة عدم الخطأ والاشتباه، واحتمال إسقاطه عمدا منفي باعتبار الوثاقة فيه، فلم يوجد مورد يحتاج فيه إلي أصالة عدم القرينة.
وأما أصالة الظهور التي تمسك بها كثير من المحققين فلا يخفي أن إسناد الأصل إلي الظهور مجردا لا معني له، وحينئذ فلابد إما أن يقال: إن الأصل هو كون هذا المعني ظاهرا للفظ، وإما أن يقال: بأن الأصل هو كون الظهور مرادا للمتكلم بالإرادة الجدية، ومن المعلوم أن الأول لا ارتباط له بمسألة حجية الظواهر، والثاني مرجعه إلي أصالة تطابق الإرادتين المتقدمة، ولا يكون أصلا برأسه.
فانقدح من جميع ما ذكرنا: أن الأصل الجاري في تعيين المراد الاستعمالي
1 - نفس المصدر 3: 85 - 86.
صفحه(٤٤٧)
هو أصالة عدم الغلط والخطأ والاشتباه، والجاري في تعيين المراد الجدي هو أصالة التطابق بين الإرادتين، ولا إشكال في أنها أصل معتمد عند العقلاء، ولا فرق في حجية الظهورات عندهم بين صورتي حصول الظن الشخصي بالوفاق وعدمه، كما أنه لا فرق بين صورتي حصول الظن الشخصي بالخلاف وعدمه، ولابين من قصد إفهامه وغيره.
ومن هنا يظهر: ضعف ما حكي عن المحقق القمي من التفصيل بين من قصد إفهامه وغيره (1)، لأن دعواه ممنوعة صغري وكبري، لأن بناء العقلاء علي العمل بالظواهر مطلقا إلا فيما إذا أحرز أن يكون بين المتكلم والمخاطب طريقة خاصة من المحاورة علي خلاف المتعارف، فإنه لا يجوز الأخذ بظاهر كلامه لغير المخاطب.
هذا، مضافا إلي أن دعوي اختصاص الخطابات الصادرة عن الأئمة (عليهم السلام) بخصوص المخاطبين بتلك الخطابات، وأنهم هم المقصودون بالإفهام، ممنوعة جدا، ضرورة أن كلامهم لا يكون إلا مثل الكتب المؤلفة التي لا يكون المقصود منها إلا نفي بيان المعاني، من غير مدخلية لمخاطب خاص، كما هو واضح.
ثم إنه لا فرق أيضا في حجية الظواهر بين ظهور الكتاب وغيره. وما حكي من الأخباريين من عدم حجية ظواهر الكتاب ففساده أظهر من أن يخفي.
وقد استدلوا علي ذلك بوجوه ضعيفة، منها: مسألة التحريف الذي قام الإجماع، بل الضرورة من الشيعة علي خلافه، ويدل علي بطلانه الأخبار الكثيرة، ويساعده الوجوه العقلية أيضا، ومنها غير ذلك مما ذكر مع جوابها في " الرسالة " و " الكفاية " (2)، فراجع.
١ - قوانين الأصول ١: ٣٩٨ / السطر ٢٢.
٢ - فرائد الأصول ١: ٥٦ - ٦٤، كفاية الأصول: ٣٢٣ - 329.
(٤٤٨)
صفحهمفاتيح البحث: الظنّ (2)، الجواز (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)، كتاب قوانين الأصول للميرزا القمي (1)

الأمر الثاني: قول اللغوي

قول اللغوي الأمر الثاني قول اللغوي واستدل علي حجيته بأن اللغوي من أهل الخبرة والصناعة، وبناء العقلاء علي الرجوع إلي أهل الخبرة من كل صنعة فيما اختص بها، فإن رجوع الجاهل إلي العالم من الارتكازيات التي لا ريب فيها عند العقلاء، ولم يثبت من الشارع ردع عن هذا البناء، فمن ذلك يستكشف رضاه بالمراجعة إلي اللغة، وتشخيص موضوعات الأحكام منها، كما لا يخفي.
هذا، وقد أجيب عن ذلك بمنع كون اللغوي من أهل الخبرة، ضرورة أن همه تشخيص موارد الاستعمال، وأن اللفظ الفلاني قد استعمل في معني واحد أو متعدد، وأما تعيين الحقائق من المجازات والمشتركات من غيرها فلا يستفاد من كتب اللغة أصلا، بل ولا يدعيه لغوي أيضا (1).
هذا، ولكن لا يخفي: أنه لو سلمنا الصغري، وأن اللغوي من أهل الخبرة والصناعة فإثبات الكبري في غاية الإشكال، لما هو واضح من أن حجية بناء
١ - كفاية الأصول: ٣٣٠.
(٤٤٩)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
العقلاء في الأمور الشرعية إنما يتوقف علي إحراز رضا الشارع بتبعية ذلك البناء، ولو كان ذلك مستكشفا من عدم الردع عنه، مع كونه بمرئي ومسمع منه.
ومن المعلوم أن كاشفية عدم الردع عن الرضا إنما هو فيما لو كان بناء العقلاء علي أمر متصلا بزمان الشارع، وثابتا فيه، وإثبات ذلك في المقام مشكل، لعدم إحراز أنه كان في زمن الشارع علم مدون مورد لمراجعة الناس، وكان ذلك بمنظر منهم، فإن الظاهر أن علم اللغة من العلوم المستحدثة في القرون المتأخرة عن زمن الشارع، فليس ذلك كالبناء علي العمل بخبر الواحد واليد وأصالة الصحة، بل والتقليد، فإن الظاهر ثبوته في زمان الأئمة (عليهم السلام)، كما يظهر من الروايات.
وبالجملة: فلم يثبت مراجعة الناس إلي أهل اللغة في زمانهم (عليهم السلام)، حتي يستكشف من عدم الردع الرضا والإمضاء، كما لا يخفي.
(٤٥٠)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (1)

الأمر الثالث: الإجماع المنقول

الإجماع المنقول الأمر الثالث الإجماع المنقول ولابد قبل الخوض في المقصود من البحث في جهات:
الجهة الأولي: في تعريف الإجماع إن الإجماع عند العامة حجة بنفسه في مقابل سائر الأدلة، وقد عرفوه بتعاريف:
منها: ما عن الغزالي: " أنه عبارة عن اتفاق أمة محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) علي أمر من الأمور الدينية " (1).
منها: ما عن الرازي من تفسيره " بأنه اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) علي أمر من الأمور " (2).
منها: ما عن الحاجبي من تعريفه " بأنه اتفاق المجتهدين من هذه الأمة
١ - المستصفي 1: 173.
2 - المحصول في علم الأصول 2: 3.
(٤٥١)
صفحهمفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، الحج (1)

ولا بد قبل الخوض في المقصود من البحث في جهات: الجهة الأولي: في تعريف الإجماع

الإجماع المنقول الأمر الثالث الإجماع المنقول ولابد قبل الخوض في المقصود من البحث في جهات:
الجهة الأولي: في تعريف الإجماع إن الإجماع عند العامة حجة بنفسه في مقابل سائر الأدلة، وقد عرفوه بتعاريف:
منها: ما عن الغزالي: " أنه عبارة عن اتفاق أمة محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) علي أمر من الأمور الدينية " (1).
منها: ما عن الرازي من تفسيره " بأنه اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) علي أمر من الأمور " (2).
منها: ما عن الحاجبي من تعريفه " بأنه اتفاق المجتهدين من هذه الأمة
١ - المستصفي 1: 173.
2 - المحصول في علم الأصول 2: 3.
(٤٥١)
صفحهمفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، الحج (1)

الجهة الثانية: في عدم شمول أدلة حجية الخبر للإجماع

علي أمر من الأمور " (1).
والظاهر: أن استنادهم في حجية الإجماع إلي ما رووه عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لا تجتمع أمتي علي الضلالة أو الخطأ " (2) هذا، ولا يخفي: أن ظاهر هذه الرواية مطابق لتعريف الغزالي، ولكن الغزالي وغيره لما رأوا أن ذلك ينافي مع ثبوت الخلافة لأبي بكر ومن بعده من مشايخهم أعرضوا عن هذا التعريف، مع أن تعريفهم أيضا لا يثبت مقصودهم، ضرورة عدم تحقق الاتفاق من جميع أهل الحل والعقد، وكذا من جميع المجتهدين، كما هو واضح.
هذا، وأما الإجماع عند الإمامية فليس دليلا مستقلا برأسه، بل حجيته إنما هو لكشف ذلك عن رأي المعصوم (عليه السلام) فهو الحجة، والإجماع كاشف عنها، إما من باب اللطف أو الحدس أو غيرهما من الوجوه التي ستجئ، ولا يكون لمجرد الاتفاق في نظرهم استقلال بالدليلية، كما لا يخفي.
الجهة الثانية: في عدم شمول أدلة حجية الخبر للإجماع لا يخفي أن العمدة في باب أدلة حجية خبر الواحد هو بناء العقلاء علي العمل به في أمورهم وسياسياتهم، كما سيجئ تحقيقه، ومن الواضح أن ذلك من الأدلة اللبية التي لا إطلاق لها، وحينئذ فنقول: لا إشكال في ثبوت بنائهم علي العمل بخبر الواحد فيما إذا كان المخبر به من الأمور المحسوسة بإحدي الحواس الخمسة الغير الغريبة، ولا يبعد أن يقال بثبوت ذلك أيضا فيما إذا لم يكن المخبر به من الأمور المحسوسة، ولكن يعد عند العرف كالمحسوسات،
١ - شرح العضدي ١: ١٢٢.
٢ - بحار الأنوار ٢: ٢٢٥ / 3 و 28: 104 / 3.
(٤٥٢)
صفحهمفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، كتاب بحار الأنوار (1)

الجهة الثالثة: في وجه حجية الإجماع

لقربه إلي الحس، كالشجاعة والسخاوة ونحوهما من الأمور القريبة إلي الحس.
وأما لو كان المخبر به من المحسوسات الغريبة الغير العادية، أو كان بعيدا عن الحس، بل كان محتاجا إلي الاجتهاد ونحوه مما يتطرق إليه الخطأ والاشتباه فلم يثبت بناء العقلاء علي العمل بقول شخص واحد فيها، إما لكون العمل به مشروطا بإحراز كون المخبر ثقة - وهذا المعني يبعد تحققه مع الإخبار بالأمور الغريبة أو لكون المخبر وإن كان ثقة إلا أن أصالة عدم الخطأ والاشتباه لا تجري عندهم في مثل تلك الأمور.
الجهة الثالثة: في وجه حجية الإجماع قد عرفت أن وجه اعتبار الإجماع هو القطع برأي الإمام (عليه السلام)، ومستند القطع به:
إما العلم بدخوله (عليه السلام) في المجمعين شخصا.
وإما لزوم أن يكون رأيه في جملة رأيهم من باب قاعدة اللطف التي مرجعها في المقام إلي وجوب إلقاء الخلاف علي الإمام (عليه السلام) لو رأي اجتماع الأمة علي أمر غير واقعي.
وإما الملازمة العادية بين رأي العلماء ورأيه (عليه السلام) وحدسه من اتفاقهم.
وإما الملازمة بين ذلك وبين وجود دليل معتبر عندهم وإن لم يصل إلينا.
هذا، والوجه الأول لا يكاد يتفق في زمان الغيبة، لعدم العلم بدخوله (عليه السلام) في جملة المجمعين، إلا نادرا، كما لا يخفي.
والوجه الثاني لا يتم، لعدم الدليل علي وجوب ذلك علي الإمام (عليه السلام).
والوجه الرابع أيضا مخدوش، لأنه لو كان اتفاقهم علي أمر مستندا إلي دليل
(٤٥٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الوجوب (2)
معتبر لكان اللازم نقل ذلك الدليل في كتبهم، خصوصا مع ما نري منهم من حرصهم علي جمع الأخبار المأثورة عن الأئمة (عليهم السلام).
والحق هو الوجه الثالث، الذي مرجعه إلي الملازمة العادية بين اتفاق المرؤوسين ورضا الرئيس، كما هو كذلك في الأمور الدنيوية، فإن من ورد في بلد مثلا، ورأي أمرا رائجا بين أهل ذلك البلد يحدس حدسا قطعيا بأن هذا قانون ذلك البلد، كما لا يخفي.
هذا، ولكن ذلك الحدس إنما هو فيما إذا لم يكن في مورد الإجماع أصل أو قاعدة أو دليل موافق لما اتفقوا عليه، فإنه مع وجود ذلك يحتمل أن يكون مستند الاتفاق أحد هذه الأمور، فلا يكشف اتفاقهم عن رضا الرئيس بذلك واقعا، كما لا يخفي.
هذا، ويرد علي الوجه الرابع أيضا: أن الكشف عن دليل معتبر - علي فرض تماميته - لا يفيد بالنسبة إلينا، لاحتمال أنه لو كان واصلا إلينا لفهمنا منه غير ما فهموا، لاختلاف الأنظار في فهم الظهورات.
إذا عرفت هذه المقدمات تظهر لك: أن نقل الإجماع لا يكون حجة ومشمولا لأدلة حجية خبر الواحد، من حيث المسبب، لما عرفت من انحصار أدلة حجيته بما إذا كان المخبر به من الأمور المحسوسة القريبة، وهنا ليس كذلك، لأنه علي تقدير كون مستند الناقل هو القطع بدخوله (عليه السلام) في جملة المجمعين فالمسبب وإن كان أمرا محسوسا، إلا أنه من المحسوسات الغريبة الغير العادية التي لا يكتفي فيها بإخبار واحد.
وعلي تقدير كون مستنده هو الملازمة العادية الراجعة إلي حدس رأي الإمام (عليه السلام) من آراء المرؤوسين فان لمسبب لا يكون حينئذ من الأمور المحسوسة، لأنه وصل إليه من طريق الحدس والاجتهاد، والذي لا تجري فيه أصالة عدم
(٤٥٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)
الخطأ والاشتباه، كما عرفت.
فنقل الإجماع، من حيث تضمنه لنقل المسبب لا يكون حجة أصلا، وأما من حيث نقل السبب فيكون حجة بلا ريب، لكونه من الأمور المحسوسة الغير الغريبة. وحينئذ فإن كان السبب تاما، من حيث السببية بنظر المنقول إليه أيضا يستفيد من ذلك رأي المعصوم (عليه السلام)، وإلا فيضم إليه مقدارا يوجب تمام السبب، فيستكشف منه رأيه (عليه السلام)، وإلا فلا يترتب علي نقله أثر، من حيث استكشاف رأي المعصوم (عليه السلام).
(٤٥٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الحج (2)، السب (3)

الأمر الرابع: الشهرة في الفتوي

الشهرة في الفتوي الأمر الرابع الشهرة في الفتوي والظاهر حجيتها إذا كانت متحققة بين قدماء الأصحاب إلي زمن الشيخ أبي جعفر الطوسي (قدس سره)، لملاك حجية الإجماع فيها، فإنه إذا كان الفتوي علي حكم مشهورا بين الفقهاء الذين هم حملة علوم أهل البيت، والأخبار المأثورة عنهم بحيث كان خلافه شاذا نادرا يستكشف من ذلك أن رأي المعصوم (عليه السلام) إنما هو مطابق له، إذ لا يعتبر في هذا الكشف اتفاق الكل، بل يكفي فتوي المعظم منهم.
ولكن ذلك إنما هو إذا كان الفتوي مشتهرا بين القدماء، لأن بنائهم في التأليف والتصنيف علي ضبط الأصول المتلقاة من الأئمة (عليهم السلام)، من دون التعرض للتفريعيات، كما هو ديدن المتأخرين منهم، فالشهرة بين القدماء كإجماعهم حجة، لوجود ملاك حجيته فيها، كما عرفت.
هذا، ويمكن أن يستدل له بما في مقبولة عمر بن حنظلة، بعد فرض الراوي كون الحاكمين عدلين مرضيين، لا يفضل واحد منهما علي الآخر من قوله (عليه السلام): " ينظر إلي من كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع
(٤٥٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، عمر بن حنظلة (1)، الحج (1)
عليه بين أصحابك، فيؤخذ به من حكمهما، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد حكمه إلي الله تعالي ".
إلي أن قال قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين، قد رواهما الثقات عنكم. قال: " ينظر … " الحديث (1)، فإن وجوب الأخذ بالخبر المجمع عليه بين الأصحاب، معللا بأن المجمع عليه لا ريب فيه إنما يتم فيما لو كان الخبر مشهورا بين الأصحاب، من حيث الفتوي علي طبق مضمونه، وإلا فمجرد اشتهاره رواية، بأن نقله الأكثر في كتب حديثهم، ولو مع إطراحه، وعدم الفتوي علي طبق مضمونه لا يوجب أن يكون مما لا ريب فيه، فيجب الأخذ به من هذه الجهة.
ويؤيده الاستشهاد بحديث التثليث، فإن مجرد الاشتهار، من حيث الرواية لا يوجب أن يكون الخبر من أفراد بين الرشد. نعم، ينافي ذلك قوله في الذيل:
" فإن كان الخبران عنكم مشهورين، قد رواهما الثقات عنكم " فإن الشهرة الفتوائية مما لا يعقل أن تكون في طرفي المسألة، مضافا إلي أن التعبير بقوله:
" قد رواهما الثقات عنكم " يؤيد أن النظر إنما هو في حيثية صحة الرواية، واشتهاره بين الثقات، وكذا ينافي ذلك التعبير عن الشهرة ب " المجمع عليه "، فإن ذلك يتم لو كان المراد بها هي الشهرة في الرواية الحاصلة بتدوين الكل، واتفاقهم علي روايته، ولا ينافيه تدوين بعضهم للرواية الغير المشهورة أيضا، وأما لو كان المراد بها هي الشهرة في الفتوي فلا يتم هذا التعبير.
١ - الكافي ١: ٦٧ / ١٠، وسائل الشيعة ٢٧: ١٠٦، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 1.
(٤٥٧)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب الثقات لابن حبان (4)، الوجوب (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)
هذا، ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن المقصود بالإجماع في الرواية ليس اتفاق الكل، فإن جل الأصحاب لو ذهبوا إلي أمر، وأفتوا علي طبق رواية يصح عرفا أن يقال: إن هذه الرواية تكون مجمعا عليها. وأما قوله: " فإن كان الخبران عنكم مشهورين " فيمكن أن يقال بعدول السائل عن السؤال عن ترجيح أحد الحكمين أو مستندهما علي الآخر إلي السؤال عن حكم تعارض الخبرين اللذين رواهما الثقات، فتأمل.
هذا، ولو سلمنا كون المراد بالشهرة في المقبولة هي الشهرة، من حيث الرواية فلا إشكال في أن المراد بقوله: " فإن المجمع عليه لا ريب فيه " هي مطلق ما يكون مجمعا عليه، فيكون بمنزلة كبري كلية يمكن التمسك بها في جميع صغرياته التي منها الشهرة في الفتوي.
وأما ما أفاده في " التقريرات " مما ملخصه: أن التعليل ليس من العلة المنصوصة ليكون من الكبري الكلية التي يتعدي عن موردها، فإن المراد بالمجمع عليه إن كان هو الإجماع المصطلح فلا يعم الشهرة الفتوائية، وإن كان المراد منه المشهور فلا يصح حمل قوله: " مما لا ريب فيه " عليه بقول مطلق، بل لابد أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلي ما يقابله، وهذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبري كلية، لأنه يعتبر فيها صحة التكليف بها ابتداء، بلا ضم المورد إليها، والمقام ليس كذلك، لأنه لا يصح أن يقال: يجب الأخذ بكل ما لا ريب فيه بالإضافة إلي ما يقابله، وإلا لزم الأخذ بكل راجح بالنسبة إلي غيره، وبأقوي الشهرتين، وبالظن المطلق، وغير ذلك من التوالي الفاسدة، فالتعليل أجنبي عن أن يكون كبري كلية عامة (1).
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 154 - 155.
(٤٥٨)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب الثقات لابن حبان (1)
ففيه: أن عدم الريب المحمول في الرواية علي المجمع عليه ليس عدم الريب بالإضافة إلي ما يقابله، بل هو من المعاني النفسية التي لا تقبل الإضافة، فالمراد: أن كل ما يكون عند العرف مما لا ريب فيه يجب الأخذ به، وعدم الاعتناء باحتمال خلافه، ولا يلزم شئ من التوالي الفاسدة، كما هو واضح.
صفحه(٤٥٩)

الأمر الخامس: خبر الواحد

خبر الواحد الأمر الخامس خبر الواحد مما خرج عن أصالة حرمة التعبد بالظن، وقام الدليل علي حجيته بالخصوص، خبر الواحد واختلفت أقوال العلماء في حجيته وعدمها.
أدلة عدم حجية خبر الواحد وقد حكي عن السيد والقاضي وابن زهرة والطبرسي وابن إدريس عدم حجية خبر الواحد (1)، واستدل لهم بالآيات الناهية عن اتباع غير العلم.
والتحقيق في الجواب عن هذا الاستدلال: أن الآيات الناهية بعضها ظاهر في الأصول الاعتقادية، مثل قوله تعالي: * (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) * (2)،
١ - الذريعة إلي أصول الشريعة ٢: ٥٢٨، المهذب ٢: ٥٩٨، غنية النزوع ٢: ٣٥٦، مجمع البيان ٩: ١٩٩، السرائر ١: ٥٠.
2 - النجم (53): 28.
(٤٦٠)
صفحهمفاتيح البحث: الظنّ (1)، كتاب السرائر لابن إدريس الحلي (1)

أدلة عدم حجية خبر الواحد

خبر الواحد الأمر الخامس خبر الواحد مما خرج عن أصالة حرمة التعبد بالظن، وقام الدليل علي حجيته بالخصوص، خبر الواحد واختلفت أقوال العلماء في حجيته وعدمها.
أدلة عدم حجية خبر الواحد وقد حكي عن السيد والقاضي وابن زهرة والطبرسي وابن إدريس عدم حجية خبر الواحد (1)، واستدل لهم بالآيات الناهية عن اتباع غير العلم.
والتحقيق في الجواب عن هذا الاستدلال: أن الآيات الناهية بعضها ظاهر في الأصول الاعتقادية، مثل قوله تعالي: * (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) * (2)،
١ - الذريعة إلي أصول الشريعة ٢: ٥٢٨، المهذب ٢: ٥٩٨، غنية النزوع ٢: ٣٥٦، مجمع البيان ٩: ١٩٩، السرائر ١: ٥٠.
2 - النجم (53): 28.
(٤٦٠)
صفحهمفاتيح البحث: الظنّ (1)، كتاب السرائر لابن إدريس الحلي (1)
وبعضها أعم منها، مثل قوله تعالي: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * (1).
أما الطائفة الأولي فغير مرتبطة بالمقام، وأما الطائفة الثانية فمضافا إلي عدم إبائها عن التخصيص بالأدلة الآتية الدالة علي اعتبار الخبر يرد عليه أن الاستدلال بها مستلزم لعدم جواز الاستدلال به، وما يلزم من وجوده العدم لا يجوز الاستدلال به.
توضيحه: أن قوله: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) *، قضية حقيقية تشمل كل ما وجد في الخارج، وكان مصداقا لغير العلم، فيشمل دلالة نفسها، لأنها ليست إلا ظنية، لكونها ظاهرة في الدلالة علي المنع، والظواهر كلها ظنية. وبالجملة: إذا لم يجز اتباع غير العلم بمقتضي الآية لم يجز اتباع ظاهرها، لكونه غير علمي، والفرض شمولها لنفسها، لكونها قضية حقيقية.
إن قلت: لزوم هذا المحذور من شمول الآية لنفسها دليل علي التخصيص وعدم الشمول.
قلت: كما يرتفع المحذور بذلك كذلك يرتفع بالالتزام بعدم شمولها لمثل الظواهر مما قام الدليل علي حجيته، فتختص الآية بالظنون التي هي غير حجة، ولا ترجيح للأول، لو لم نقل بترجيح الثاني باعتبار أن الغرض منها هو الردع عن اتباع غير العلم، ولا تصلح للرادعية إلا بعد كونها مفروضة الحجية عند المخاطبين، ولا تكون حجة إلا بعد ثبوت كون الظواهر حجة ومورد البناء العقلاء.
فالآية لا تشمل ما كان من قبيلها من الظنون، ومرجع ذلك إلي أن تلك الظنون لا يكون بنظر العقلاء مصداقا لما ليس لهم به علم، وإلا لكان اللازم عند
1 - الإسراء (17): 36.
(٤٦١)
صفحهمفاتيح البحث: الحج (2)، الظنّ (1)، الجواز (2)
نزول الآية الشريفة أن يرفع الناس أيديهم عن اشتغالاتهم المبتنية بحسب الغالب علي الأمور الظنية، كاليد وأصالة الصحة وغيرهما، مع وضوح خلافه، وليس ذلك إلا لعدم كون هذه الظنون داخلة عندهم في الآية. وخبر الواحد أيضا من هذا القبيل، كما هو واضح.
وقد أفاد بعض الأعاظم - علي ما في تقريرات بحثه - في مقام الجواب عن الاستدلال بالآية ما ملخصه: أن نسبة الأدلة الدالة علي جواز العمل بخبر الواحد إلي الآيات ليست نسبة التخصيص، حتي يقال بأنها آبية عنه، بل نسبة الحكومة، فإن تلك الأدلة تقتضي إلغاء احتمال الخلاف، وجعل الخبر محرزا للواقع، فيكون حاله حال العلم في عالم التشريع، فلا تشمله الأدلة الناهية عن العمل بالظن، هذا في غير السيرة العقلائية.
وأما فيها فيمكن بوجه أن تكون نسبتها إلي الآيات نسبة الورود، بل التخصص، لأن عمل العقلاء بخبر الثقة ليس من العمل بالظن، لعدم التفاتهم إلي احتمال مخالفة الخبر للواقع، فالعمل بخبر الثقة خارج بالتخصص عن العمل بالظن. هذا، مضافا إلي عدم صلاحيتها للرادعية عن السيرة العقلائية، للزوم الدور المحال، لأن الردع عن السيرة بها يتوقف علي أن لا تكون السيرة مخصصة لعمومها، وعدم كونها مخصصة لعمومها يتوقف علي أن تكون رادعة منها (1)، انتهي.
ويرد عليه: أن ما ذكره من إباء الآيات عن التخصيص لا يتم في مثل قوله:
* (ولا تقف ما ليس لك به علم) *، لعدم اختصاصها بالأصول الاعتقادية.
وأما مسألة الحكومة فلا أساس لها، لأن الأخبار الدالة علي جواز العمل
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 161 - 162.
(٤٦٢)
صفحهمفاتيح البحث: الوقوف (2)، الظنّ (1)، الجواز (2)
بقول الثقة لم يكن لسانها لسان الحكومة، بحيث كان مفادها هو إلغاء احتمال الخلاف. وقوله (عليه السلام) في بعض الأخبار: " العمري ثقة فما أدي إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول " (1) لا يدل علي الحكومة، لأنه ليس مفادها إلا العمل بقوله، لوثاقته، لا وجوب إلغاء احتمال الخلاف.
وأما ورود السيرة العقلائية علي الآيات فممنوعة، لعدم كون العمل بالخبر عندهم من العمل بالعلم، ولو سلم غفلتهم عن احتمال الخلاف فلا يوجب ذلك أيضا تحقق الورود أو التخصيص، فإن موردهما هو الخروج عن الموضوع واقعا، لا عند المخاطب. والفرق بينهما: أن الأول إنما هو مع إعمال التعبد، بخلاف الثاني.
وأما ما أفاد أخيرا من لزوم الدور ففيه - مضافا إلي جريان الدور في المخصصية أيضا، كما لا يخفي - أن توقف الرادعية إنما هو علي عدم مخصص حاصل، إذ لا مخصص في البين جزما، لأن النواهي الرادعة حجة في العموم، ولابد من رفع اليد عنها بحجة أقوي، ولا حجية للسيرة بلا إمضاء الشارع، فالرادع رادع فعلا، والسيرة حجة لو أمضاها الشارع، وهو منتف مع هذه المناهي. وبالجملة: فعدم كون السيرة مخصصة للآيات الناهية وإن كان متوقفا علي كونها رادعة عنها إلا أن رادعيتها لا تتوقف علي شئ.
هذا، ويمكن تقريب الورود بالنسبة إلي أدلة حجية الخبر الواحد بأن يقال: إن العلم الذي نهي عن اتباعه لا يكون المقصود به هو العلم المقابل للظن، بل المراد به هو الحجة، ولو كانت ظنية. فمفاد الآية إنما هو النهي عن اتباع
١ - الكافي ١: ٣٢٩ / ١، وسائل الشيعة ٢٧: ١٣٨، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 4.
(٤٦٣)
صفحهمفاتيح البحث: الحج (3)، النهي (1)، الوجوب (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)
غير الحجة، وأدلة حجية خبر الواحد إنما تكون مثبتة لحجيته، فتكون واردة عليها.
كما أنه يمكن أن يقال - بعد إبقاء العلم علي معناه الظاهر المرادف لليقين -:
إن العمل بخبر الواحد ليس عملا بغير العلم واتباعا له، لأنه وإن كان كشفه عن الواقع كشفا ظنيا، ولا يحصل العلم منه إلا أنه بعد قيام الدليل القطعي من السيرة أو غيرها علي حجيته يكون العمل في الحقيقة عملا بالعلم، كما هو واضح.
فانقدح مما ذكرنا: أن الاستدلال في المقام بالآيات الناهية استدلال في غير محله، كما عرفت.
وقد يستدل لهم أيضا بالروايات الدالة علي رد ما لم يكن عليه شاهد من كتاب الله أو شاهدان (1) أو لم يكن موافقا للقرآن (2) أو لم يعلم أنه قولهم (عليهم السلام) إليهم (3)، أو علي بطلان ما لا يصدقه كتاب الله (4)، أو علي أن ما لا يوافق كتاب الله زخرف (5)، أو مثل ذلك من التعبيرات. ولكن لا يخفي أنها أخبار آحاد، لا مجال للاستدلال بها علي عدم حجيتها. ودعوي تواترها إجمالا وإن لم يكن
١ - الكافي ٢: ٢٢٢ / ٤، وسائل الشيعة ٢٧: ١١٢، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب ٩، الحديث ١٨.
٢ - وسائل الشيعة ٢٧: ١١٢ و ١١٩، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب ٩، الحديث ١٩ و ٣٥.
٣ - وسائل الشيعة ٢٧: ١١٩، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب ٩، الحديث ٣٦.
٤ - المحاسن: ٢٢١ / ١٢٩.
٥ - الكافي ١: ٦٩ / ٣ و ٤، وسائل الشيعة ٢٧: ١١٠ و ١١١، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 12 و 14.
(٤٦٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الباطل، الإبطال (1)، الشهادة (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (4)

أدلة حجية خبر الواحد

متواترة لفظا أو معنا إنما تجدي - علي تقدير تسليمها - بالنسبة إلي القدر المتيقن، ومورد توافق الجميع، وهو بطلان الخبر المخالف، ولا بأس بالالتزام بعدم حجيته، كما هو واضح.
أدلة حجية خبر الواحد ثم إنه قد استدل للمشهور بالأدلة الأربعة:
الدليل الأول: الآيات منها: آية النبأ قال الله تبارك وتعالي: * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا … ) * (1) ويمكن تقريب الاستدلال بها بوجوه:
الأول: من جهة مفهوم الشرط، وأن تعليق الحكم بإيجاب التبين علي كون الجائي بالخبر فاسقا يدل علي انتفاء الوجوب عند عدم الشرط.
الثاني: من جهة مفهوم الوصف وأن وجوب التبين إنما جعل محمولا علي خبر الفاسق، فينتفي عند انتفائه.
الثالث: من جهة مناسبة الحكم والموضوع، فإن وجوب التبين إنما يناسب مع كون الجائي بالخبر فاسقا.
الرابع: من جهة ذكر الفاسق في الموضوع، فإنه مركب من الخبر ومن
1 - الحجرات (49): 6.
(٤٦٥)
صفحهمفاتيح البحث: الباطل، الإبطال (1)، الوجوب (2)

الدليل الأول: الآيات

متواترة لفظا أو معنا إنما تجدي - علي تقدير تسليمها - بالنسبة إلي القدر المتيقن، ومورد توافق الجميع، وهو بطلان الخبر المخالف، ولا بأس بالالتزام بعدم حجيته، كما هو واضح.
أدلة حجية خبر الواحد ثم إنه قد استدل للمشهور بالأدلة الأربعة:
الدليل الأول: الآيات منها: آية النبأ قال الله تبارك وتعالي: * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا … ) * (1) ويمكن تقريب الاستدلال بها بوجوه:
الأول: من جهة مفهوم الشرط، وأن تعليق الحكم بإيجاب التبين علي كون الجائي بالخبر فاسقا يدل علي انتفاء الوجوب عند عدم الشرط.
الثاني: من جهة مفهوم الوصف وأن وجوب التبين إنما جعل محمولا علي خبر الفاسق، فينتفي عند انتفائه.
الثالث: من جهة مناسبة الحكم والموضوع، فإن وجوب التبين إنما يناسب مع كون الجائي بالخبر فاسقا.
الرابع: من جهة ذكر الفاسق في الموضوع، فإنه مركب من الخبر ومن
1 - الحجرات (49): 6.
(٤٦٥)
صفحهمفاتيح البحث: الباطل، الإبطال (1)، الوجوب (2)

منها: آية النبأ

متواترة لفظا أو معنا إنما تجدي - علي تقدير تسليمها - بالنسبة إلي القدر المتيقن، ومورد توافق الجميع، وهو بطلان الخبر المخالف، ولا بأس بالالتزام بعدم حجيته، كما هو واضح.
أدلة حجية خبر الواحد ثم إنه قد استدل للمشهور بالأدلة الأربعة:
الدليل الأول: الآيات منها: آية النبأ قال الله تبارك وتعالي: * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا … ) * (1) ويمكن تقريب الاستدلال بها بوجوه:
الأول: من جهة مفهوم الشرط، وأن تعليق الحكم بإيجاب التبين علي كون الجائي بالخبر فاسقا يدل علي انتفاء الوجوب عند عدم الشرط.
الثاني: من جهة مفهوم الوصف وأن وجوب التبين إنما جعل محمولا علي خبر الفاسق، فينتفي عند انتفائه.
الثالث: من جهة مناسبة الحكم والموضوع، فإن وجوب التبين إنما يناسب مع كون الجائي بالخبر فاسقا.
الرابع: من جهة ذكر الفاسق في الموضوع، فإنه مركب من الخبر ومن
1 - الحجرات (49): 6.
(٤٦٥)
صفحهمفاتيح البحث: الباطل، الإبطال (1)، الوجوب (2)
كون الجائي به فاسقا، وهو يدل علي مدخلية ذلك في ترتب المحمول، وإلا لكان ذكره لغوا، كما هو واضح.
هذا، ويرد علي الاستدلال بالآية من جهة مفهوم الشرط: أنه - علي تقدير تسليم ثبوت المفهوم لمطلق القضايا الشرطية وللآية بالخصوص - أن ما جعل في الآية جزاء لمجئ الفاسق بالنبأ بحسب الظاهر لا يناسب مع الشرط، ولا ارتباط بينهما، فلابد أن يكون الجزاء أمرا آخر محذوفا يدل عليه المذكور.
توضيح ذلك: أن التبين عبارة عن التفحص والتحقيق ليظهر الأمر ويتبين، ومن الواضح أن التبين عند مجئ الفاسق بالخبر لا يوجب العمل بخبر الفاسق، من حيث مجيئه به، بل يكون العمل حينئذ علي طبق ما يتبين، بلا مدخلية إتيان الفاسق به.
وبالجملة: فوجوب التبين والعمل علي طبقه مما لا ارتباط له بمجئ الفاسق بالخبر، فاللازم أن يكون الجزاء هو عدم الاعتناء بخبره وعدم الاعتماد بقوله، فمنطوق الآية حينئذ عبارة عن أنه لو جاءكم فاسق بنبأ فتوقفوا، ولا ترتبوا عليه الأثر أصلا. وحينئذ فالحكم في المفهوم إنما هو نفي التوقف والإطراح بالكلية، وهو لا يثبت أزيد من ترتيب الأثر علي قول العادل في الجملة، الغير المنافي مع اشتراط عدل آخر، كما لا يخفي.
هذا، ويؤيد ما ذكرنا: أن المنقول عن بعض القراء هو " تثبتوا " موضع " تبينوا " (1)، والتثبت التوقف، فتدبر.
هذا كله علي تقدير تسليم ثبوت المفهوم للآية، مع أن لنا المنع منه، كما أفاده الشيخ المحقق الأنصاري في " الرسالة "، ومحصله: أن الجزاء هو وجوب
1 - الكشاف 4: 360، مجمع البيان 9: 198، كنز الدقائق 9: 589.
(٤٦٦)
صفحهمفاتيح البحث: الوجوب (1)، كتاب مجمع البيان للطبرسي (1)
التبين عن الخبر الذي جاء به الفاسق لا مطلق الخبر، كما هو واضح، ومن المعلوم انتفاء ذلك عند انتفاء الشرط، وهو مجئ الفاسق بالخبر، لانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، إذ لا يعقل التبين عن خبر الفاسق مع عدم مجيئه به. وحينئذ فالقضية السالبة المفهومية إنما هي سالبة بانتفاء الموضوع، فتكون الجملة الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع، كما في قول القائل: " إن رزقت ولدا فاختنه " ونظائر هذا المثال (1).
وهنا تقريبات لبيان ثبوت المفهوم للآية:
أحدها: ما أفاده في " الكفاية ": أن الشرط هو كون الجائي بالخبر فاسقا، والموضوع المفروض هو نفس النبأ المتحقق، فمرجع الآية إلي أن النبأ إن كان الجائي به فاسقا، فيجب التبين، ومفهومه أنه إن لم يكن الجائي به فاسقا فينتفي وجوب التبين، وهو لا يصدق إلا مع مجئ العادل به (2).
هذا، ويرد عليه: أن هذا تصرف في الآية، وحمل لها علي غير المعني الظاهر بلا دليل.
ثانيها: ما أفاده المحقق العراقي - علي ما في تقريرات بحثه - وملخصه:
أنه لا شبهة في أن استخراج المفهوم من القضايا يحتاج إلي تجريد الموضوع المذكور في المنطوق في ناحية المفهوم من القيود التي أريد استخراج المفهوم من جهتها، وحينئذ فنقول: إن المحتملات المتصورة في الشرط في الآية ثلاثة:
منها: كون الشرط فيها نفس المجئ خاصة مجردا عن متعلقاته، وعليه يتم ما أفاده الشيخ من انحصار المفهوم فيها بالسالبة بانتفاء الموضوع، فإن لازم
١ - فرائد الأصول ١: ١١٨.
٢ - كفاية الأصول: ٣٤٠.
(٤٦٧)
صفحهمفاتيح البحث: دولة العراق (1)، الوجوب (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)
الاقتصار علي التجريد علي خصوص المجئ هو حفظ إضافة الفسق في ناحية الموضوع بجعله عبارة عن النبأ المضاف إلي الفاسق.
ومنها: كون الشرط هو المجئ مع متعلقاته، ولازمه هو كون الموضوع نفس النبأ، مجردا عن إضافته إلي الفاسق أيضا، وعليه يكون للآية مفهومان:
أحدهما السالبة بانتفاء الموضوع، وثانيهما السالبة بانتفاء المحمول.
ومنها: كون الشرط عبارة عن الربط الحاصل بين المجئ والفاسق الذي هو مفاد كان الناقصة، ولازمه هو الاقتصار في التجريد علي خصوص ما جعل شرطا، أعني الإضافة الحاصلة بين المجئ والفاسق، وينحصر المفهوم فيه بالسالبة بانتفاء المحمول.
هذا، ولكن الأخير من هذه الوجوه الثلاثة في غاية البعد، لظهور الجملة الشرطية في الآية في كون الشرط هو المجئ، أو مع إضافته إلي الفاسق، لا الربط الحاصل بين المجئ والفاسق بما هو مفاد كان الناقصة مع خروج نفس المجئ عن الشرطية، كي يلزمه ما ذكر من كون الموضوع فيها هو النبأ المجئ به، كما أفاده في " الكفاية ".
ويتلوه في البعد الوجه الأول، فإن ذلك أيضا ينافي ظهور الآية المباركة، فإن المتبادر المنساق منها عرفا كون الشرط هو المجئ بما هو مضاف إلي الفاسق، نظير قوله " إن جاءك زيد بفاكهة يجب تناولها "، وعليه فكما يجب تجريد الموضوع في الآية عن إضافته إلي المجئ كذلك يجب تجريده عن متعلقاته، فيكون الموضوع نفس طبيعة النبأ، لا النبأ الخاص المضاف إلي الفاسق، ولازمه جواز التمسك بإطلاق المفهوم في الآية، لعدم انحصاره حينئذ في السالبة بانتفاء الموضوع (1)، انتهي.
1 - نهاية الأفكار 3: 111 - 112.
(٤٦٨)
صفحهمفاتيح البحث: الجواز (1)
ثالثها: ما في تقريرات المحقق النائيني، وملخصه: أنه يمكن استظهار كون الموضوع في الآية مطلق النبأ، والشرط هو مجئ الفاسق به من مورد النزول (1)، فإن موردها إخبار الوليد بارتداد بني المصطلق، فقد أجتمع في إخباره عنوانان: كونه من الخبر الواحد، وكون المخبر فاسقا، والآية الشريفة إنما وردت لإفادة كبري كلية لتمييز الأخبار التي يجب التبين عنها عن غيرها، وقد علق وجوب التبين علي كون المخبر فاسقا، فيكون الشرط لوجوب التبين هو كون المخبر فاسقا، لا كون الخبر واحدا، إذ لو كان الشرط ذلك لعلق وجوب التبين في الآية عليه، لأنه بإطلاقه شامل لخبر الفاسق. فجعل الشرط خبر الفاسق كاشف عن انتفاء التبين في خبر غير الفاسق (2)، انتهي.
رابعها: تقريب آخر أفاده الأستاذ (3)، وهو أنه لا فرق في شمول العام لأفراده بين كونها أفرادا ذاتية له أو عرضية، إذا كانت شموله للثانية بنظر العرف حقيقة، فكما أن الأبيض صادق علي نفس البياض ذاتا كذلك صادق علي الجسم المتصف به، مع أن صدقه عليه عرضي عند العقل. وحينئذ نقول: إن لعدم مجئ الفاسق بالخبر فرد ذاتي، هو عدم تحقق الخبر أصلا، وأفراد عرضية هي مجئ العادل به، فكما يشمل العام الذي هو مفهوم الآية الفرد الذاتي كذلك يشمل الفرد العرضي أيضا.
هذا، ويرد علي الأخير ثبوت الفرق بين المثال والممثل، فإن صدق عنوان الأبيض علي نفس البياض في المثال يكون أخفي من صدقه علي الفرد العرضي الذي هو الجسم المتصف به، بخلاف المقام، فإن صدق المفهوم علي الفرد
١ - أسباب النزول: ٢٧٧ - ٢٧٨، التبيان ٩: ٣٤٣، مجمع البيان ٩: ١٩٨.
٢ - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي ٣: ١٦٩.
٣ - أنوار الهداية ١: ٢٨٣ - 285.
(٤٦٩)
صفحهمفاتيح البحث: التصديق (2)، الإخفاء (1)، الوجوب (1)، كتاب مجمع البيان للطبرسي (1)، كتاب أنوار الهداية للسيد الخميني (1)، كتاب التبيان للشيخ الطوسي (1)

تذييل: فيما أورد علي التمسك بالآية

العرضي، وهو مجئ العادل بالنبأ أخفي من صدقه علي الفرد الذاتي، وهو عدم تحقق النبأ أصلا، بل لا يكون عرفا من مصاديقه وإن كان أحد الضدين مما ينطبق عليه عدم الضد الآخر، ويكون مصدوقا عليه بحسب اصطلاح فن المعقول، لكنه أمر خارج عن متفاهم العرف.
هذا، ويرد علي الوجه السابق علي هذا الوجه: أن كون مورد النزول هو إخبار الوليد بارتداد بني المصطلق لا ربط له بكون الموضوع في الآية مطلق النبأ، والشرط خارج غير مسوغ لتحقق الموضوع. وبالجملة: فلا يمكن أن يستفاد من مورد النزول مدخلية المجئ في الموضوع وعدمها، فاللازم الأخذ بظاهرها، الذي هو كون الموضوع النبأ المقيد بمجئ الفاسق به، وقد عرفت عدم ثبوت المفهوم له حينئذ أصلا مع أن دعوي كون الآية واردة لإفادة كبري كلية إنما يبتني علي ثبوت المفهوم لها، ضرورة أنها بدونه لا تكون في مقام تمييز ما يجب فيه التبين عن غيره، فإثبات المفهوم لها من هذه الناحية غير ممكن أصلا. ومن هنا يظهر الجواب عن باقي التقريبات، فتدبر.
تذييل: فيما اورد علي التمسك بالآية قد اورد علي التمسك بالآية الشريفة لحجية خبر الواحد بأمور، بعضها يختص بالآية وبعضها يشترك بين الآية وغيرها:
أما الإشكالات المختصة بالآية فمنها: معارضة المفهوم مع عموم التعليل الواقع في ذيلها، وهو قوله تعالي: * (أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا علي ما فعلتم نادمين) * فإن الجهالة هي عدم العلم بالواقع، وهو مشترك بين إخبار الفاسق وغيره. فمقتضي التعليل وجوب
(٤٧٠)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الإخفاء (1)، الوجوب (1)

الإشكالات المختصة بالآية

العرضي، وهو مجئ العادل بالنبأ أخفي من صدقه علي الفرد الذاتي، وهو عدم تحقق النبأ أصلا، بل لا يكون عرفا من مصاديقه وإن كان أحد الضدين مما ينطبق عليه عدم الضد الآخر، ويكون مصدوقا عليه بحسب اصطلاح فن المعقول، لكنه أمر خارج عن متفاهم العرف.
هذا، ويرد علي الوجه السابق علي هذا الوجه: أن كون مورد النزول هو إخبار الوليد بارتداد بني المصطلق لا ربط له بكون الموضوع في الآية مطلق النبأ، والشرط خارج غير مسوغ لتحقق الموضوع. وبالجملة: فلا يمكن أن يستفاد من مورد النزول مدخلية المجئ في الموضوع وعدمها، فاللازم الأخذ بظاهرها، الذي هو كون الموضوع النبأ المقيد بمجئ الفاسق به، وقد عرفت عدم ثبوت المفهوم له حينئذ أصلا مع أن دعوي كون الآية واردة لإفادة كبري كلية إنما يبتني علي ثبوت المفهوم لها، ضرورة أنها بدونه لا تكون في مقام تمييز ما يجب فيه التبين عن غيره، فإثبات المفهوم لها من هذه الناحية غير ممكن أصلا. ومن هنا يظهر الجواب عن باقي التقريبات، فتدبر.
تذييل: فيما اورد علي التمسك بالآية قد اورد علي التمسك بالآية الشريفة لحجية خبر الواحد بأمور، بعضها يختص بالآية وبعضها يشترك بين الآية وغيرها:
أما الإشكالات المختصة بالآية فمنها: معارضة المفهوم مع عموم التعليل الواقع في ذيلها، وهو قوله تعالي: * (أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا علي ما فعلتم نادمين) * فإن الجهالة هي عدم العلم بالواقع، وهو مشترك بين إخبار الفاسق وغيره. فمقتضي التعليل وجوب
(٤٧٠)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الإخفاء (1)، الوجوب (1)
التبين عن خبر العادل أيضا، وهو يعارض مع مفهوم الصدر، والتعليل أقوي.
ودعوي: أن النسبة بينهما عموم من وجه، فيتعارضان في مادة الاجتماع، وهي خبر العادل الغير المفيد للعلم، ويجب حينئذ تقديم عموم المفهوم وإدخال مادة الاجتماع فيه، إذ لو خرج عنه، وانحصر مورده بالخبر العادل المفيد للعلم لكان لغوا، لأن خبر الفاسق المفيد للعلم أيضا واجب العمل، بل نقول: إن الخبر المفيد للعلم خارج عن الآية مفهوما ومنطوقا، فيكون المفهوم أخص مطلق من عموم التعليل، فيجب تخصيصه به.
مدفوعة: بأن المدعي إنما هو التعارض بين ظهور التعليل في العموم وظهور الجملة الشرطية في ثبوت المفهوم، وحينئذ فالأخذ بظاهر التعليل أولي من تخصيصه بعد ثبوت المفهوم، خصوصا بعد كونه آبيا عن التخصيص. وبعبارة أخري: لا ينعقد للآية مفهوم، حتي تعارض مع عموم التعليل (1).
هذا، والحق أن يقال: إن الآية الشريفة لا مجال للاستدلال بها للمقام، فإن المراد بالنبأ ليس مطلق الخبر، بل الخبر العظيم، والنبأ الذي يترتب عليه أمور كثيرة. والدليل عليه - مضافا إلي التعبير بالنبأ لا بالخبر - ملاحظة التعليل، فإن من الواضح أن العمل بخبر الفاسق في غير الأمور العظيمة مما لا يترتب عليه الندامة، فإنه لو أخبر بمجئ زيد فرتب المخاطب آثار المجئ بمجرد إخباره لا يوجب ذلك إصابة القوم بجهالة الموجبة للندامة، ويدل علي ذلك ملاحظة مورد نزول الآية أيضا، ومن المعلوم أن في تلك الأمور العظيمة التي يترتب عليها قتل الرجال، وسبي النساء والصبيان، وتصرف الأموال لا يجوز الاكتفاء فيها بخبر العادل أيضا، فالآية الشريفة بعيدة عن المقام بمراحل.
١ - فرائد الأصول ١: ١١٨.
(٤٧١)
صفحهمفاتيح البحث: القتل (1)، الجواز (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)
هذا، مضافا إلي أنه علي تقدير تسليم كون المراد بالنبأ هو مطلق الخبر نقول: إنه لا مجال لدعوي المفهوم فيها، فإن التعليل إنما يدل علي كون الحكم معللا بمضمونه، ومعه لا مجال لدعوي كون التعليق في القضية الشرطية ظاهرا في كون الشرط علة، فضلا عن كونه علة منحصرة، إذ هذا الظهور إنما نشأ من إطلاق الأداة أو إطلاق الشرط أو إطلاق الجزاء - كما قد قرر في باب المفاهيم - ومع التصريح بالعلية لم يكن للقضية ظهور في الإطلاق، بل لا يكون لها ظهور في مجرد علية الشرط، فضلا عن انحصارها. ولعمري إن هذا الإشكال مما لا يمكن الذب عنه، فتدبر.
هذا، وأما ما يظهر من بعض من دعوي أن الجهالة ليس بمعني عدم العلم، بل بمعني السفاهة والركون إلي ما لا ينبغي الركون إليه (1) فهو ظاهر الفساد، وبعد وضوح كونه من اشتقاقات مادة الجهل، مضافا إلي تصريح أهل اللغة به أيضا (2).
ومنها: أنه يلزم خروج المورد عن عموم المفهوم، لأن مورد نزول الآية الشريفة هو الإخبار بالارتداد، وهو لا يثبت إلا بالبينة، فاللازم خروجه عن العموم، مع أنه نص في المورد، فلابد من رفع اليد عن المفهوم لئلا يلزم التخصيص الشنيع (3)، وهذا الإشكال أيضا مما لا يمكن الذب عنه، وإن تصدي للجواب عنه المحقق النائيني - علي ما في التقريرات (4) - ولكنه لا يندفع به، فتأمل فيه.
١ - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي ٣: ١٧١.
٢ - مجمع البحرين ٥: ٣٤٥، القاموس المحيط ٣: ٣٦٣، الصحاح ٤: ١٦٦٣.
٣ - انظر فرائد الأصول ١: ١٢٤.
4 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 174.
(٤٧٢)
صفحهمفاتيح البحث: الجهل (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)

الإشكالات العامة

وأما الإشكالات العامة فمنها: أن مفهوم الآية لو دل علي حجية خبر العادل لدل علي حجية الإجماع الذي أدعاه السيد وأتباعه علي عدم حجية خبر العادل أيضا، لأنهم عدول أخبروا بحكم الإمام (عليه السلام) بعدم حجية خبر الواحد، فيلزم من حجية الخبر عدم حجيته، وما يلزم من وجوده العدم فهو محال (1).
هذا، ولكن هذا الإشكال يندفع بملاحظة ما ذكرنا في الإجماع المنقول من عدم حجية الإخبار عن حدس، ومن المعلوم أن ادعاء الإجماع مبني علي الحدس، كما عرفت.
وأجيب عنه بوجوه أخر:
أحدها: أن ذلك معارض بقول السيد، فإن حجيته يستلزم عدم حجيته، وما يلزم من وجوده العدم فهو محال، فلا يكون قول السيد بحجة (2). ولكن يمكن أن يقال: بأن المحال إنما يلزم من شمول خبر السيد لنفسه، وهو يوجب عدم الشمول، ولكنه معارض بأن حجية الخبر الواحد لا يستلزم المحال، بل المحال يلزم من شمول أدلة حجية خبر الواحد لخبر السيد، وهو يوجب عدم شمولها له، فيرتفع الإشكال.
ثانيها: أن الأمر يدور بين دخوله وخروج ما عداه وبين العكس، ولا ريب أن الثاني متعين، لا لمجرد قبح انتهاء التخصيص إلي الواحد، بل لأن المقصود من جعل الحجية ينحصر في بيان عدم الحجية، ولا ريب أن التعبير عن هذا المقصود
١ - انظر فرائد الأصول ١: ١٢١.
2 - نفس المصدر.
(٤٧٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الحج (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)
بما يدل علي عموم حجية خبر العادل قبيح في الغاية (1).
وأورد علي ذلك المحقق الخراساني في " التعليقة " بمنع لزوم ما هو قبيح في الغاية، لأنه من الممكن جدا أن يكون المراد من الآية واقعا هو حجية خبر العادل مطلقا إلي زمان خبر السيد بعدم حجيته، كما هو قضية ظهورها، من دون أن يزاحمه شئ قبله وعدم حجيته بعده، كما هو قضيته، لمزاحمة عمومها لسائر الأفراد، وبعد شمول العموم له أيضا.
ومن الواضح: أن مثل هذا ليس بقبيح أصلا، فإنه ليس إلا من باب بيان إظهار انتهاء حكم العام في زمان بتعميمه، بحيث يعم فردا ينافي ويناقض الحكم سائر الأفراد. ولا يوجد إلا في ذاك الزمان، حيث إنه ليس إلا نحو تقييد. لكن الإجماع قائم علي عدم الفصل (2)، انتهي موضع الحاجة.
ولكن لا يخفي: أن دعوي السيد الإجماع لو كانت حجة بمقتضي شمول أدلة حجية خبر العدل لكان مقتضاها عدم حجية خبر الواحد من زمن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، فيعود حينئذ محذور الاستهجان، كما هو واضح.
ثالثها: ما ذكره المحقق العراقي - علي ما في تقريرات بحثه -: من أن هذا الإشكال مدفوع أولا: بأنه من المستحيل شمول دليل الحجية لمثل خبر السيد الحاكي عن عدمها، من جهة استلزام شمول الإطلاق لمرتبة الشك بمضمون نفسه، فإن التعبد بإخبار السيد بعدم حجية خبر الواحد إنما كان في ظرف الشك في الحجية واللا حجية، ومن المعلوم استحالة شمول إطلاق مفهوم الآية وغيره من الأدلة لمرتبة الشك في نفسه. بل علي هذا يمكن أن يقال بعدم
١ - فرائد الأصول ١: ١٢١ - ١٢٢.
٢ - درر الفوائد، المحقق الخراساني: 110.
(٤٧٤)
صفحهمفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، الحج (1)، دولة العراق (1)، الحاجة، الإحتياج (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)
شموله لمثل خبر الشيخ، الحاكي عن الحجية، فإن مناط الاستحالة جار في كليهما، ولا يختص بالخبر الحاكي عن عدم الحجية.
وثانيا: أنه بعد شمول أدلة الحجية لما عدا خبر السيد من سائر الأخبار لايبقي مجال لشمولها له، لأن القطع بحجيتها ملازم لانتفاء الشك في مطابقة مضمون خبر السيد للواقع وعدمها، فيخرج بذلك عن عموم أدلة حجية الخبر، فيصير عدم شمول الأدلة لمثل خبر السيد من باب التخصص لانتفاء الشك في مطابقة مؤداه للواقع، وهذا بخلاف ما لو شملت الأدلة لخبر السيد، إذ عليه يلزم كون خروج ما عداه من سائر الأخبار من باب التخصيص، لتحقق الموضوع فيها، وهو الشك في المطابقة وجدانا. ومن المعلوم أنه مع الدوران بين التخصص والتخصيص يتعين الأول.
لا يقال: كيف، ولازم شمول الأدلة لمثل خبر السيد أيضا هو القطع بعدم حجية ما عداه، فيلزم أن يكون خروج ما عداه أيضا من باب التخصص لا التخصيص.
فإنه يقال: إن المدار في التعبد بكل أمارة إنما هو الشك في مطابقة مضمونه ومؤداه للواقع، ومؤديات ما عدا خبر السيد لا يكون حجية خبر الواحد، كي يقطع بعدم الحجية بسبب شمول أدلة الاعتبار لخبر السيد الحاكي عن عدم الحجية، بل وإنما مؤديات ما عداه عبارة عن وجوب الأمر الفلاني أو حرمة كذا واقعا، ولا ريب في بقاء الشك في المطابقة، ولو علي تقدير القطع بحجية خبر السيد، فيشملها أدلة الاعتبار، فلا يكون رفع اليد عنها بمقتضي اعتبار خبر السيد إلا من باب التخصيص (1)، انتهي ملخصا.
1 - نهاية الأفكار 3: 118.
(٤٧٥)
صفحهمفاتيح البحث: الوجوب (1)
أقول: أما ما أفاده أولا فيرد عليه: ما نبهنا عليه في مبحث القطع من أن ما اشتهر بينهم من تأخر الشك في الشئ عن ذلك الشئ، وتوقفه علي تحققه مما لا يتم أصلا، كيف ولازم ذلك انقلاب الشك إذا وجد علما، إذ علي الفرض لا يتحقق بدون ثبوت المشكوك، فمع العلم بذلك ينقلب الشك علما، كما هو واضح. فما ذكره من استحالة شمول إطلاق مفهوم الآية لمرتبة الشك في نفسه مما لا نعرف لها وجها أصلا.
وأما ما أفاده ثانيا فيرد عليه: أن شمول أدلة الحجية لما عدا خبر السيد إنما هو فيما إذا كان حجيته مشكوكة، إذ لا معني لشمولها له مع القطع بعدم الحجية، وحينئذ نقول: كما أن شمولها له مستلزم لخروج خبر السيد من باب التخصص، إذ لايبقي حينئذ شك في حجيته ولا حجيته حتي تشمله أدلة الحجية، كذلك شمول الأدلة لخبر السيد موجب لخروج ما عداه من الأخبار عن تحتها من باب التخصص، إذ لايبقي مع شمولها لخبر السيد شك في حجية ما عداه وعدم حجيته، والملاك في الشمول هو الشك في الحجية، لا مطابقة مضمونه للواقع وعدمها، فما ذكره من دوران الأمر بين التخصيص والتخصص مما لا وجه له أصلا، كما هو أظهر من أن يخفي.
ومن الإشكالات العامة: إشكال شمول أدلة الحجية للأخبار الحاكية لقول الإمام (عليه السلام) بواسطة أو وسائط، كإخبار الشيخ عن المفيد عن الصدوق عن الصفار عن العسكري (عليه السلام).
ويمكن تقريب هذا الإشكال من وجوه (1):
١ - فرائد الأصول ١: ١٢٢، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 177 - 179.
(٤٧٦)
صفحهمفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي العسكري عليهما السلام (1)، الشيخ الصدوق (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)
الأول: دعوي انصراف الأدلة عن الإخبار بالواسطة.
الثاني: أنه لابد أن يكون للمخبر به أثر شرعي، حتي يصح بلحاظه التعبد به، وليس للمخبر به في المقام هذا الأثر، فإن المخبر به بخبر الشيخ هو قول المفيد، ولا أثر شرعي لقوله أصلا.
الثالث: دعوي أن الحكم بتصديق العادل مثبت لأصل إخبار الوسائط، مع أن خبرهم يكون موضوعا لهذا الحكم، فلابد وأن يكون الخبر في المرتبة السابقة محرزا بالوجدان أو بالتعبد، ليحكم عليه بوجوب تصديقه، لأن نسبة الموضوع إلي الحكم نسبة المعروض إلي العرض، فلا يعقل أن يكون الحكم موجد الموضوعة، لاستلزامه الدور المحال.
الرابع: أنه يلزم أن يكون الأثر الذي بلحاظه وجب تصديق العادل نفس تصديقه، من دون أن يكون في البين أثر آخر كان وجوب التصديق بلحاظه، ولا يعقل أن يكون الحكم بوجوب التصديق بلحاظ نفسه.
هذا، والجواب عن الأول: منع الانصراف، ولو قيل بأن العمدة في هذا الباب هو بناء العقلاء علي العمل بخبر الواحد، ولابد من إحرازه في الإخبار مع الوسائط، ومن المعلوم عدم إحرازه، لو لم نقل بثبوت عدمه من جهة أنا نري بالوجدان عدم اعتنائهم بالإخبار مع الوسائط الكثيرة التي بلغت إلي عشرة أو أزيد مثلا. فيشكل الأمر في الأخبار المأثورة عن الأئمة (عليهم السلام)، لاشتمالها علي الوسائط الكثيرة بالنسبة إلينا.
فنقول: إن الواسطة في تلك الأخبار قليلة، لأن الواسطة إنما هو بين الشيخ والكليني والصدوق وبين الإمام (عليه السلام)، ومن الواضح قلتها، بحيث لا يتجاوز عن خمس أو ست، وأما الواسطة بيننا وبينهم فلا يحتاج إليها بعد تواتر كتبهم، ووضوح صحة انتسابها إليهم، كما لا يخفي.
(٤٧٧)
صفحهمفاتيح البحث: المنع (1)، الوجوب (1)
وأجيب عن الوجه الثالث: بأن المستحيل إنما هو إثبات الحكم موضوع شخصه، لا إثبات موضوع لحكم آخر، فإن هذا بمكان من الإمكان، والمقام يكون من هذا القبيل، فإن الذي يثبت بوجوب تصديق الشيخ إنما هو خبر المفيد، وإذا ثبت خبر المفيد بوجوب تصديق الشيخ يعرض عليه وجوب التصديق أيضا، وهكذا (1).
وعن الوجه الرابع تارة: بما في تقريرات المحقق النائيني من أن هذا الإشكال إنما يتوجه بناء علي أن يكون المجعول في باب الأمارات منشأ انتزاع الحجية، أما بناء علي ما هو المختار من أن المجعول في باب الطرق والأمارات نفس الكاشفية والوسطية في الإثبات فلا إشكال حتي نحتاج إلي التفصي عنه، فإنه لا يلزم شئ مما ذكر، لأن المجعول في جميع السلسلة هو الطريقية إلي ما تؤدي إليه أي شئ كان المؤدي، فقول الشيخ طريق إلي قول المفيد، وقول المفيد طريق إلي قول الصدوق، وهكذا إلي أن ينتهي إلي قول زرارة الحاكي لقول الإمام (عليه السلام) (2).
واخري: بما في تقريرات المحقق العراقي مما حاصله: أن دليل الاعتبار - وهو قوله " صدق العادل " مثلا - وإن كان بحسب الصورة قضية واحدة، ولكنها تنحل إلي قضايا متعددة حسب تعدد حصص الطبيعي بتعدد الأفراد، وبعد فرض انتهاء سلسلة سند الرواية إلي الحاكي لقول الإمام (عليه السلام)، وشمول دليل وجوب التصديق له، لكون المخبر به في خبره حكما شرعيا تصير بقية الوسائط ذات أثر شرعي، فيشملها دليل وجوب التصديق، إذ حينئذ يصير وجوب التصديق
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 179.
2 - نفس المصدر 3: 180.
(٤٧٨)
صفحهمفاتيح البحث: الشيخ الصدوق (1)، التصديق (1)، دولة العراق (1)، الوجوب (3)
المترتب علي مثل قول الصفار الحاكي لقول الإمام (عليه السلام) أثرا شرعيا له، وهكذا إلي منتهي الوسائط. فكان كل لاحق مخبرا عن موضوع ذي أثر شرعي (1).
وثالثة: بما أفاده المحقق المعاصر في كتاب " الدرر " مما حاصله: أن وجوب تصديق العادل فيما أخبره ليس من قبيل الحكم المجعول للشك تعبدا، بل مفاده جعل الخبر، من حيث إنه مفيد للظن النوعي طريقا إلي الواقع، وعليه لو أخبر العادل بشئ يكون ملازما لشئ له أثر شرعا، إما عادة أو عقلا أو بحسب العلم نأخذ به، ونرتب علي لازم المخبر به الأثر الشرعي المرتب عليه.
والسر في ذلك: أن الطريق إلي أحد المتلازمين طريق إلي الآخر، وحينئذ نقول يكفي في حجية خبر العادل انتهاؤه إلي أثر شرعي، ولا يلزم أن تكون الملازمة عادية أو عقلية، ويكفي ثبوت الملازمة الجعلية، بمعني أن الشارع جعل الملازمة النوعية الواقعية بين إخبار العادل، وتحقق المخبر به بمنزلة الملازمة القطعية، ولا تكون قضية " صدق العادل " ناظرة إلي هذه الملازمة، كما لا تكون ناظرة إلي الملازمة العقلية والعادية، بل يكفي في ثبوت هذا الحكم ثبوت الملازمة في نفس الأمر، حتي تكون منتجة للحكم الشرعي العملي (2)، انتهي.
هذا، ويرد علي الجواب الأول: أن جعل الطريقية لابد وأن يكون بلحاظ الأثر الشرعي المترتب علي ما أدي إليه الطريق، وإلا فلا يجوز جعل الطريقية مع عدم ترتب الأثر الشرعي علي المؤدي، والمفروض في المقام أن ما أدي إليه الطريق هو قول المفيد، وهو لا يكون موضوعا لشئ من الآثار الشرعية، بناء
١ - نهاية الأفكار ٣: ١٢٤.
٢ - درر الفوائد، المحقق الحائري: 388.
(٤٧٩)
صفحهمفاتيح البحث: الأحكام الشرعية (1)، التصديق (1)، الجواز (1)
علي جعل الوسطية والكاشفية، كما هو واضح.
وعلي الجواب الثاني: أن ما ذكره من شمول دليل وجوب التصديق لقول الراوي الذي يحكي لقول الإمام (عليه السلام) لكون المخبر به في خبره حكما شرعيا إنما يتم لو ثبت خبره، والكلام إنما هو فيه، إذ المفروض أن خبره لم يثبت وجدانا، فمن أين يشمل له دليل وجوب التصديق؟!
وبالجملة: ففرض الكلام من صدر السلسلة إنما يصح لو ثبت أن الراوي الذي وقع في صدرها أخبر من بعده بتحديث الإمام (عليه السلام) له، والكلام إنما هو في ثبوته، كما لا يخفي.
وعلي الجواب الثالث - مضافا إلي أنه لم يدل دليل علي الملازمة التي ادعاها -: أن المخبر به، وهو قول المفيد في المثال لا يكون مترتبا عليه الأثر الشرعي، حتي يجب تصديق الشيخ فيما أخبره بلحاظ ذلك الأثر. وتوهم أن قول المفيد يترتب عليه بعض الآثار، وهو صحة النسبة إليه، وعدم كون إسناده إليه من القول بغير العلم، فلا مانع من أن يكون وجوب التصديق بلحاظ ذلك الأثر، مدفوع بأن قول المفيد بلحاظ هذا الأثر إنما يكون من الموضوعات الخارجية التي لا تثبت إلا بالبينة، ولا يكفي فيه قول العادل الواحد، كما هو واضح.
والتحقيق في هذا المقام - بعد عدم رفع الإشكال بما ذكره الأعلام، كما عرفت - أن يقال: إن أصل الإشكال، وكذا الجوابات كلها من الأمور العقلية الخارجة عن فهم العرف، الذي هو الملاك والمرجع في معني الآية ونظائرها من الأدلة، فإنه لاشك في أنه لو ألقي عليهم هذا الكلام، وهو حجية قول العادل، ووجوب تصديقه فيما أخبره لا يفهمون من ذلك الفرق بين الإخبار بلا واسطة أو معها، ولا ينظرون في الإخبار مع الواسطة إلي الوسائط أصلا، بل
(٤٨٠)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب الإرشاد للشيخ المفيد (1)، يوم عرفة (1)، الوجوب (3)

منها: آية النفر

يقولون في المثال بأن العادل أخبر بأن الإمام (عليه السلام) قال كذا أو فعل كذا، وإن كان العادل الذي وقع في منتهي السلسلة لم يخبر بقول الإمام (عليه السلام)، بل المخبر به بخبره هو إخبار العادل الذي حدثه.
ومن هنا يعلم: أن المخبر به بخبر هذا العادل وإن كان من الموضوعات، ولا يكفي في ثبوتها إلا البينة إلا أنه حيث لا يكون في نظر العرف منظورا مستقلا، بل منظورا آليا فيكفي في ثبوته إخبار عادل واحد.
منها: آية النفر ومن الآيات التي استدل بها علي حجية خبر الواحد آية النفر: * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * (1).
ولكن الاستدلال بها لذلك في غاية الضعف، لأن المستفاد من لولا التحضيضية ليس وجوب أصل النفر، بل المقصود بها بملاحظة قوله: * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) *، وبملاحظة الآيات التي قبل هذه الآية هو نفي وجوب نفر المؤمنين كافة، والنهي عن ذلك، بمعني أن مفاد لولا التحضيضية هو وجوب التفرقة والتفكيك، أي لا يجوز للمؤمنين كافة النفر، وإبقاء رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وحده، فلم لا يكون النافرون طائفة خاصة من المؤمنين.
فالمراد من الآية بحسب الظاهر هو النهي عن النفر العمومي، وليس المقصود منها هو بيان أصل وجوب نفر طائفة لغاية التفقه. هذا، مضافا إلي أن كلمة النفر كما يدل عليه التأمل في سياق الآية وفي موارد استعمالاتها في
1 - التوبة (9): 122.
(٤٨١)
صفحهمفاتيح البحث: النهي (2)، الجواز (1)، الوجوب (2)
القرآن الكريم يكون المراد بها النفر للجهاد، لا النفر للتفقه.
وعليه فيتعين أن يكون المراد من الآية هو تفقه النافرين بسبب ما يرونه في الجهاد من السفرة الإلهية والإمدادات الغيبية وقوة الإيمان وإنذار القوم الذين هم الكفار الموجودون في المدينة، لعلهم يحذرون ويدخلون في دين الله، أو يصون الإسلام والمسلمون من شرورهم. ويؤيد ذلك رجوع الضمير في " ليتفقهوا " أو ما بعده إلي النافرين المذكورين في الآية، ولا وجه للرجوع إلي المتخلفين، بعد عدم كونهم مذكورين، وأيضا لا يناسب الإنذار والحذر بالإضافة إلي المجاهدين، أصلا.
وإلي أن التفقه يحتمل أن يكون المراد به التفقه في الأصول الاعتقادية، لا الأحكام الفرعية، كما يشهد بذلك الروايات الكثيرة التي استدل فيها بالآية الشريفة لأصل الإمامة (1).
وعلي تقدير أن يكون المراد به الأعم من التفقه في الأحكام الفرعية فالظاهر أن المراد بقوله " لينذروا " هو إنذار كل واحد من المتفقهين النافرين أو المتخلفين - علي اختلاف التفسيرين - جميع قومهم، وحينئذ فلا يدل علي وجوب تصديق كل واحد من المنذرين، وعلي تقدير وجوب تصديقه ينحصر ذلك بالمتفقه المنذر، لا كل من تحمل الحديث، وإن لم يكن فقيها.
هذا كله، مضافا إلي المنع من كون الحذر واجبا، وعلي تقدير وجوبه لا دليل علي كون المراد بالحذر هو الحذر العملي الراجع إلي العمل بقول المنذر، بل الظاهر هو التحذر القلبي والخوف والخشية، فيكون المقصود لينذروا قومهم بالموعظة والإيعاد، حتي يخافوا من عذاب الله، ويعملوا بوظائفهم.
١ - الكافي ١: ٣٧٨ - 380 / 1 - 3.
(٤٨٢)
صفحهمفاتيح البحث: القرآن الكريم (1)، الخوف (1)، الشهادة (1)، الوجوب (1)

الدليل الثاني: الأخبار

وكيف كان فالآية الشريفة بعيدة عن الدلالة علي حجية خبر الواحد بمراحل. ومما ذكرنا يظهر الخلل فيما أفاده المحقق النائيني علي ما في تقريراته في تقريب دلالة الآية علي حجية خبر الواحد (1)، فراجع.
الدليل الثاني: الأخبار هذا، وقد استدل علي حجية خبر الواحد بالأخبار الكثيرة، وتقريب الاستدلال بها - كما أفاده في " الكفاية " وتبعه في " الدرر " - أن هذه الأخبار وإن لم يكن متواترة لفظا ومعني إلا أنها متواترة إجمالا، ضرورة أنه يعلم إجمالا بصدور بعضها منهم (عليهم السلام)، ومقتضي ذلك وإن كان حجية خبر دل علي حجيته أخصها مضمونا إلا أنه يتعدي عنه فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصية، وقد دل علي حجية ما كان أعم (2).
هذا، ولكن لا يخفي: أن ذلك مجرد فرض، وإلا فالظاهر أنه لا يكون بين الأخبار ما كان جامعا لشرائط الحجية، وكان مدلوله حجية خبر الواحد بنحو الإطلاق، مضافا إلي أن إثبات التواتر - ولو إجمالا - مشكل، لأن من شرط التواتر أن يكون متواترا في جميع الطبقات، مع أنه ليس الأمر في المقام كذلك، لأن هذه الأخبار كلها مذكورة في الجوامع الأربعة للأعاظم الثلاثة، فينحصر الناقلون فيهم، مع أن الواضح عدم ثبوت التواتر بقولهم. وأما غيرها من الجوامع فلم يثبت صحة إسنادها إلي مؤلفيها علي نحو التواتر، كالجوامع الأربعة، كما لا يخفي.
هذا، مضافا إلي أن أخص تلك الأخبار مضمونا هو ما يدل علي إرجاع
١ - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي ٣: ١٨٥.
٢ - كفاية الأصول: ٣٤٦ - ٣٤٧، درر الفوائد، المحقق الحائري: 392.
(٤٨٣)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
السائل إلي زرارة في تعلم الأحكام، وأخذ معالم الدين، وهو يشتمل علي خصوصيتين: أحدهما كون من يؤخذ عنه ذلك فقيها في الدين كزرارة، وثانيهما:
أن الأخذ منه إنما هو من دون واسطة.
ومن المعلوم: أنه لا يمكن إلغاء شئ من الخصوصيتين، وإن كانت خصوصية كونه زرارة ملغاة قطعا.
هذا، ويمكن تقريب الاستدلال بالإخبار لحجية خبر الواحد بوجه آخر، وهو أن يقال: إنه لا إشكال في ثبوت بناء العقلاء علي العمل بخبر الواحد في الجملة - لو لم نقل بثبوته علي العمل به مطلقا، كما سنحققه - وحينئذ فنقول:
يوجد في تلك الأخبار الكثيرة ما يدل علي حجية خبر الواحد مطلقا، فإنه يثبت ببناء العقلاء حجية ذلك الخبر الذي مدلوله هو حجية الخبر مطلقا، ولا يلزم الدور، ولا يحتاج إلي إثبات التواتر، كما هو واضح.
وهذا الخبر هو ما رواه الكليني عن محمد بن عبد الله الحميري ومحمد بن يحيي جميعا عن عبد الله بن جعفر الحميري عن أحمد بن إسحاق قال: سألت أبا محمد (عليه السلام)، وقلت: من أعامل، وعمن آخذ، وقول من أقبل؟
فقال: " العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك عني فعني يؤديان، وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنهما الثقتان المأمونان … " الحديث (1).
فإنه لا إشكال في كون مثل هذا السند العالي الذي يكون كل رواته مذكي بتذكية عدلين، بل عدول مورد البناء العقلاء قطعا، وحينئذ فيجب الأخذ به، وبه يثبت حجية قول الثقة المأمون مطلقا، كما لا يخفي.
١ - الكافي ١: ٣٢٩ / ١، وسائل الشيعة ٢٧: ١٣٨، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 4.
(٤٨٤)
صفحهمفاتيح البحث: عبد الله بن جعفر الطيار بن أبي طالب عليه السلام (1)، محمد بن عبد الله الحميري (1)، أحمد بن إسحاق (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)

الدليل الثالث والرابع: الإجماع وسيرة العقلاء

الدليل الثالث والرابع: الإجماع وسيرة العقلاء هذا، وأما الاستدلال بالإجماع علي حجية خبر الواحد فمخدوش من وجوه لا يخفي علي المتأمل.
نعم، استمرار سيرة العقلاء علي العمل بأخبار الآحاد في أمور معاشهم وسياساتهم دليل قطعي علي حجية أخبار الآحاد لو لم يردع عنه الشارع، وهو العمدة في هذا الباب، إذ قد عرفت عدم تمامية الأدلة الثلاثة المتقدمة.
ولا يخفي: أن ذلك إنما هو في مقام المحاجة، وأما الأغراض الشخصية الجزئية فيمكن أن لا يعملوا فيها بأخبار الآحاد، كما نراه بالوجدان، ولكن ذلك لا يضر بما نحن بصدده، فإن الغرض إثبات حجية خبر الثقة في مقام الاحتجاج، فإنه لا شبهة في أنه لو أمر المولي عبده بشئ، وأعلمه علي ذلك بتوسط ثقة لا يكون للعبد الاعتذار لدي المخالفة بأن المولي لم يبينه لي، وأن الواسطة كان جاريا فيه احتمال الكذب، كما هو واضح.
نعم، يبقي في المقام إثبات عدم الردع عن هذه السيرة المستمرة، فنقول: قد يستدل لثبوت الردع بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم. هذا.
وأجاب عن ذلك في " الكفاية " بأنها لو كانت رادعة يلزم الدور (1).
ولكن قد عرفت عدم لزومه بوجه، وأن التحقيق عدم جواز الاستدلال بها، لأن ظاهرها أيضا ظني، فيلزم من جواز الاستدلال بها عدمه، وهو محال.
مضافا إلي أنك عرفت: أن المقصود بالعلم في الآية هي الحجة المعتبرة، وخبر الواحد منها قطعا، ضرورة أنه لم تصر الآية بعد نزولها سببا لتعطيل الأسواق
١ - كفاية الأصول: ٣٤٨.
(٤٨٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (3)، الكذب، التكذيب (1)، الجواز (2)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
وأمور الناس أصلا، وليس ذلك إلا لكون المقصود من الآية - علي ما هو المتفاهم منها بنظر العرف - هو ما عدا الدليل المعتبر العلمي أو الظني، كما هو واضح.
ثم إنه أفاد المحقق الخراساني في هامش " الكفاية " كلاما حاصله: أن خبر الثقة حجة، ولو قيل بسقوط كل من السيرة والإطلاق عن الاعتبار بسبب دوران الأمر بين ردعها به، وتقييده بها، وذلك لأجل استصحاب حجيته الثابتة قبل نزول الآيتين.
ودعوي أنه لا مجال لاحتمال التقييد بها، فإن دليل اعتبارها مغيي بعدم الردع عنها، ومعه لا تكون صالحة لتقييد الإطلاق مع صلاحيته للردع عنها، مدفوعة بأن الدليل ليس إلا إمضاء الشارع لها، ورضاه بها المستكشف بعدم ردعه عنها في زمان مع إمكانه.
وبالجملة: ليس حال السيرة مع الآيات الناهية إلا كحال الخاص المقدم والعام المؤخر في دوران الأمر بين التخصيص بالخاص أو النسخ بالعام (1)، انتهي.
هذا، ولكن يرد عليه: - مضافا إلي أنه لم يعلم أن المتشرعة كانوا قبل نزول الآيتين يعملون بخبر الواحد في الأمور الشرعية، حتي كان عدم الردع عنها دليلا علي الإمضاء وذلك لكون المسلمين كانوا قليلين غير محتاجين إلي العمل بخبر الواحد، لانفتاح باب العلم لهم، وهو السؤال عن شخص النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) - أن الاستصحاب يكون مدرك حجيته خبر الواحد، فكيف يستدل لها بالاستصحاب، كما لا يخفي.
١ - كفاية الأصول: ٣٤٩، الهامش 1.
(٤٨٦)
صفحهمفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، الحج (1)، كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني (1)
المقصد الثامن مبحث البراءة
صفحه(٤٨٧)

المقصد الثامن: مبحث البراءة تمهيد: تقسيم أحوال المكلف وذكر مجاري الأصول

تمهيد تمهيد تقسيم أحوال المكلف وذكر مجاري الأصول اعلم: أنه قد جرت عادتهم في أول مبحث القطع بتقسيم حالات المكلف، من حيث إنه قد يحصل له القطع بالحكم، وقد يحصل له الظن به، وقد يحصل له الشك فيه، ثم ذكر مجاري الأصول، ولكن لا يخلو شئ من التقسيمات وكذا بيان مجاري الأصول من المناقشة والإشكال، ويظهر ذلك بملاحظة ما سنحققه.
فنقول: المكلف إما أن يحصل له القطع بالحكم الواقعي الفعلي تفصيلا أو إجمالا، وإما أن لا يحصل له ذلك، وعلي الثاني: إما أن يكون قاطعا بقيام الأمارة المعتبرة علي الحكم الواقعي تفصيلا أو إجمالا أو لا يكون كذلك، وعلي الثاني: إما أن يقوم الحجة المعتبرة بالنسبة إلي الواقع وإما أن لا يقوم، بل يكون شاكا في الواقع أو ظانا به من غير قيام أمارة معتبرة ولا حجة شرعية.
فالأول: هو مبحث القطع، وقد عرفت أنه لا فرق فيه بين القطع التفصيلي والإجمالي أصلا، فإنه كما يكون القطع التفصيلي بالحكم الواقعي الفعلي حجة وموجبا لتنجزه، من غير افتقار إلي جعل الحجية له، وكذا لا يجوز جعل حكم
(٤٨٩)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الحج (1)، الظنّ (1)، الجواز (1)
علي خلافه، كذلك القطع الإجمالي بالحكم الفعلي يكون حجة موجبا لتنجزه، ولا يعقل الترخيص بخلافه، فإنه لو علم إجمالا بأن قتل النبي المردد بين جمع كثير مهدور الدم يكون محرما بالحرمة الفعلية التي لا يرضي المولي به أصلا لا يجوز له ارتكاب قتل واحد من تلك الجماعة، وكذا لا يجوز الترخيص من المولي، فإنه لا يجتمع مع الحرمة الفعلية، كما هو واضح.
وبالجملة: فلا فرق في أحكام القطع بين القطع التفصيلي والإجمالي قطعا، فلابد من إدخاله فيه.
والثاني: هو مبحث الظن، وقد عرفت أنه لافرق فيه أيضا بين أن يعلم تفصيلا بقيام الأمارة المعتبرة، وبين أن يعلم إجمالا بقيامها. والقسم الثاني هو مبحث الاشتغال المعروف بينهم، الذي يذكرونه عقيب مبحث البراءة، فإن الظاهر أن المراد منه هو العلم الإجمالي بقيام الأمارة علي التكليف من إطلاق دليل أو غيره، لما عرفت من أنه لا مجال لتوهم الإشكال في حجية العلم الإجمالي المتعلق بالتكليف الفعلي، وكونه منجزا، بحيث لا يجوز الترخيص بخلافه.
وحينئذ فيكون مبحث الاشتغال من مباحث الظن.
والثالث: هو مبحث الاستصحاب، لأنه حجة علي الواقع، وإن لم يكن أمارة عليه.
والرابع: هو مبحث البراءة، ومن هنا ظهر: أن الوضع الطبيعي يقتضي تأخير مبحث البراءة عن جميع المباحث، وكذا إدراج البحث عن الاشتغال في مباحث الظن. نعم، للاشتغال حظ من مبحث الاستصحاب، وهو ما لو كان المستصحب المعلوم مرددا بين شيئين أو أشياء، كما لا يخفي.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنه لا إشكال في تقدم القطع بقسميه علي غيره من
(٤٩٠)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (3)، القتل (2)، الحج (2)، الظنّ (2)، الجواز (3)، الجماعة (1)
الأمارات والأصول، ولا مجال لها معه، أما القطع التفصيلي فتقدمه عليها واضح، لأنها أمور تعبدية مجعولة للشاك الذي لا يعلم بالواقع، وأما القطع الإجمالي فلما عرفت من أنه حجة عقلية موجبا لتنجز التكليف، بحيث لا يعقل الترخيص في تركه، فلا مجال معه من التعبد الذي مورده صورة الشك وعدم العلم.
وأما تقدم الأمارات علي الأصول فنقول: أما تقدمها علي الاستصحاب فربما يشكل وجهه لو كان المراد باليقين الذي ورد في أخبار لا تنقض هو اليقين القطعي الوجداني الذي لا يحتمل معه الخلاف، لأن مفاد هذه الأخبار حينئذ أن نقض اليقين بالشك حرام إلي أن يحصل اليقين الوجداني، بخلاف اليقين الأول.
ومن المعلوم: أن الأمارات التي جلها، بل كلها حجج عقلية ثابتة ببناء العقلاء - كما عرفت - لا تكون مفيدة لليقين، ولم يكن عملهم علي طبقها من باب أنه يقين، ضرورة أن الطريق عندهم لا يكون منحصرا بالقطع، وليس ذلك من جهة تنزيل سائر الطرق منزلة الطريقة العلمية أصلا، كما يظهر ذلك بمراجعتهم.
وحينئذ فيقع التعارض بحسب الظاهر بين دليل اعتبار الأمارة وبين أخبار لا تنقض، لأن مفاده التعبد بثبوت الطهارة مثلا لو شهدت البينة بها، ومفادها حرمة نقض اليقين بالنجاسة ما دام لم يحصل يقين وجداني بالطهارة. وحينئذ فيشكل وجه تقدم الأمارات علي الاستصحاب.
هذا، ويحتمل قويا أن يكون المراد باليقين في أخبار الاستصحاب هي الحجة والدليل، فمعناها حينئذ حرمة نقض الحجة بمجرد الشك، بل الواجب نقضها بحجة أخري، ولا يجوز رفع اليد عن الحجة بلا حجة، وحينئذ فالوجه
(٤٩١)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (2)، الحج (3)، الجواز (1)، الطهارة (1)
في تقدم الأمارات عليه واضح، لأن الأمارات حجة شرعية - تأسيسا أو إمضاء - فيجوز رفع اليد بها عن اليقين السابق، لأن مقتضي أخبار الاستصحاب هو حرمة نقض الحجة ما لم تحصل حجة علي خلافها، وأدلة اعتبار الأمارات تثبت الحجة المعتبرة، فتكون واردة عليها.
هذا، ويشهد لما ذكرنا: من أن اليقين ليس المراد به اليقين الوجداني، بل الحجة والدليل ملاحظة نفس أخبار الاستصحاب، والتأمل فيها، فإنه قد حكم الإمام (عليه السلام) في صحيحة زرارة الأولي، الواردة في الوضوء (1) بحرمة نقض اليقين بالطهارة بالشك فيها، مع أن اليقين الوجداني بالطهارة لا يتفق إلا نادرا، لأن العلم الجزمي بكون الوضوء الصادر من الإنسان قد صدر جامعا لجميع ما اعتبر فيه في غاية القلة، بل لولا قاعدة الفراغ لأشكل الأمر بسبب ذلك، ومع ذلك قد حكم الإمام (عليه السلام) بجريان استصحاب الطهارة، وليس ذلك إلا لكون المراد من اليقين ليس ما اصطلح عليه العلماء، وهو ما يقابل الظن والشك والوهم، كما هو واضح.
ونظير ذلك ما وقع في صحيحته الثانية (2) من حكم الإمام (عليه السلام) بجريان الاستصحاب فيما لو ظن إصابة الدم أو المني الثوب، مع عدم اليقين بذلك، معللا ب " أنك كنت علي يقين من طهارتك "، مع أن اليقين الوجداني والعلم الجزمي بطهارة الثوب مما لا يتفق إلا نادرا.
وكذلك صحيحته الثالثة الواردة في عدة أحكام الشكوك: منها
١ - تهذيب الأحكام ١: ٨ / ١١، وسائل الشيعة ١: ٢٤٥، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب ١، الحديث ١.
٢ - تهذيب الأحكام ١: ٤٢١ / ١٣٣٥، وسائل الشيعة ٣: ٤٧٧، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 41، الحديث 1.
(٤٩٢)
صفحهمفاتيح البحث: الحج (2)، الظنّ (2)، الوضوء (2)، الطهارة (3)، كتاب تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (2)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (2)
قوله (عليه السلام): " وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام، فأضاف إليها أخري، ولا شئ عليه، ولا ينقض اليقين بالشك " (1)، فإن التعبير بقوله:
" وقد أحرز الثلاث " دليل علي أن المراد باليقين ليس إلا الإحراز، فتأمل. وكيف كان فالظاهر - خصوصا بملاحظة ما ذكرنا، وكذا سائر الموارد التي يستفاد منها هذا المعني - أن المراد باليقين في أخبار لا تنقض ليس إلا الحجة، وحينئذ فتكون أدلة الأمارات واردة عليها، كما لا يخفي.
هذا، ومن هنا يظهر وجه تقدم الأمارات علي أصالة البراءة التي مدركها إما مثل حديث الرفع، وإما حكم العقل. فعلي الأول فالظاهر أن المراد ب " ما لا يعلمون " الوارد فيه ليس إلا ما يعم الحجة عليه، ومن الواضح أن أدلة الأمارات يثبت حجيتها، كما أن مدركه لو كان قاعدة قبح العقاب بلا بيان تكون الأمارات متقدمة عليه أيضا، لأنها بيان قام الدليل علي اعتبارها.
وأما تقدم الاستصحاب علي أصل البراءة، فإن كان مدركها حكم العقل بقبح العقاب، من دون بيان فواضح، لأن أدلة الاستصحاب الدالة علي حرمة نقض اليقين بغير اليقين بيان وحجة للمولي علي العبد، كما هو واضح.
وأما لو كان مدركها هو مثل حديث الرفع فلأن مفاد أدلة الاستصحاب تنزيل الشك المسبوق باليقين بمنزلة اليقين، لكونه أمرا مستحكما مبرما لا ينبغي أن ينقض بالشك الذي لا يكون كذلك علي ما هو التحقيق من أن المراد باليقين ليس المتيقن، فإنه لا يناسب النقض بالشك، كما لا يخفي. وحينئذ فتكون أدلة
١ - الكافي ٣: ٣٥١ / ٣، وسائل الشيعة ٨: ٢٢٠، كتاب الصلاة، أبواب الخلل في الصلاة، الباب 11، الحديث 3.
(٤٩٣)
صفحهمفاتيح البحث: الحج (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)، الصّلاة (2)
الاستصحاب حاكمة علي مثل حديث الرفع (1)، لأن مدلوله رفع ما لا يعلم، وهي تدل علي تنزيل الشك منزلة العلم، وتحكم بكونه علما في عالم التشريع.
وإن شئت قلت: إن المراد ب " ما لا يعلمون " - كما عرفت - هو مالم يقم الحجة عليه، ولا شبهة في أن أدلة الاستصحاب حجة ودليل، فتكون متقدمة عليه، كما هو واضح، ولعله سيجئ التكلم في هذا المقام في مبحث الاستصحاب.
١ - التوحيد: ٣٥٣ / ٢٤، وسائل الشيعة ١٥: ٣٦٩، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
(٤٩٤)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الحج (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)

أدلة الأصوليين علي البراءة

أدلة الأصوليين علي البراءة حول أدلة الأصوليين علي البراءة إذا عرفت ذلك، فلنرجع إلي ما كنا بصدده، وهو التكلم في البراءة، فنقول:
قد استدل علي البراءة بالأدلة الأربعة:
الدليل الأول: الآيات منها: قوله تعالي: * (وما كنا معذبين حتي نبعث رسولا) * (1).
وقد اورد علي التمسك به تارة: بأن ظاهره الإخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السابقة (2).
واخري: بأن نفي فعلية التعذيب أعم من نفي الاستحقاق (3).
وثالثة: بأن مفادها أجنبي عن البراءة، فإن مفادها الإخبار بنفي التعذيب
١ - الإسراء (١٧): ١٥.
٢ - فرائد الأصول ١: ٣١٧.
3 - الفصول الغروية: 353 / السطر 7.
(٤٩٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، البعث، الإنبعاث (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)

الدليل الأول: الآيات

أدلة الأصوليين علي البراءة حول أدلة الأصوليين علي البراءة إذا عرفت ذلك، فلنرجع إلي ما كنا بصدده، وهو التكلم في البراءة، فنقول:
قد استدل علي البراءة بالأدلة الأربعة:
الدليل الأول: الآيات منها: قوله تعالي: * (وما كنا معذبين حتي نبعث رسولا) * (1).
وقد اورد علي التمسك به تارة: بأن ظاهره الإخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السابقة (2).
واخري: بأن نفي فعلية التعذيب أعم من نفي الاستحقاق (3).
وثالثة: بأن مفادها أجنبي عن البراءة، فإن مفادها الإخبار بنفي التعذيب
١ - الإسراء (١٧): ١٥.
٢ - فرائد الأصول ١: ٣١٧.
3 - الفصول الغروية: 353 / السطر 7.
(٤٩٥)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، البعث، الإنبعاث (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)
قبل إتمام الحجة، كما هو حال الأمم السابقة، فلا دلالة لها علي حكم مشتبه الحكم، من حيث إنه مشتبه، فهي أجنبية عما نحن فيه (1).
وأنت خبير بعدم تمامية شئ من هذه الإيرادات.
أما الأول: فلأن الآية إنما وقعت في ذيل الآيات الواردة في القيامة، ولا اختصاص لها، بل لا ارتباط لها بنفي العذاب الدنيوي بالنسبة إلي الأمم السالفة. وحينئذ فيكون المراد بالتعذيب المنفي هو العذاب الأخروي، كما أن المراد ببعث الرسول ليس مجرد بعثه، ولو لم يكن مأمورا بالتبليغ، كما يدل علي ذلك - مضافا إلي أنه هو المتفاهم منه - ذكر الرسول، لا النبي، بل المراد به أن البعث لأجل التبليغ وإتمام الحجة إنما يكون غاية لعدم التعذيب.
ومن هنا يظهر: أنه لو بلغ بعض الأحكام دون بعض، أو بلغها إلي أهل بلد خاص دون سائر البلدان، أو بلغها إلي جميع البلدان في عصره، ثم لم يبلغ إلي الأعصار المتأخرة، لأجل الموانع والحوادث يفهم من الآية عدم التعذيب بالنسبة إلي التكليف الذي لم يبلغه أصلا، أو الشخص الذي لم يصل إليه، وحينئذ فالآية ظاهرة، بل صريحة في نفي العذاب بالنسبة إلي ما لم يصل إلي المكلف.
هذا، ولو سلم ظهورها في الإخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث، واختصاصها بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السابقة فنقول: يستفاد منه البراءة في المقام حينئذ بطريق أولي، إذ لو كان التعذيب الدنيوي مع كونه يسيرا محدودا بمكان لا يصدر منه تعالي إلا بعد بعث الرسول وإتمام الحجة فالعذاب الأخروي الذي لا يمكن قياسه مع العذاب الدنيوي، لا من حيث الكم، ولا من حيث الكيف
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 333.
(٤٩٦)
صفحهمفاتيح البحث: البعث، الإنبعاث (2)، العذاب، العذب (4)
لا يصدر منه تعالي إلا بعد ذلك بطريق أولي، كما لا يخفي.
وأما الثاني: فلأنه ليس المقصود في المقام إثبات نفي الاستحقاق، بل يكفينا مجرد ثبوت المؤمن عن العذاب، وإن كان أصل الاستحقاق ثابتا.
وأما الثالث: فيظهر الجواب عنه مما ذكرناه في الجواب عن الإيراد الأول.
هذا، ويبقي في الآية أنه لو ثبت بدليل وجوب الاحتياط لا يكون التعذيب حينئذ تعذيبا قبل بعث الرسول، حتي لا يناسب مقامه - جل شأنه - كما لا يخفي.
ومنها: قوله تعالي: * (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) * (1).
ويقع الكلام فيه في مقامين: أحدهما في إمكان دلالته علي المقام، ثانيهما فيما هو ظاهره.
أما المقام الأول: فلا إشكال في أنه لو كان المراد من التكليف هو التكليف الفعلي، ومن الموصول هو التكليف الفعلي أيضا أو أعم منه ومن المال وغيره يلزم المحال، لأنه يصير معناه حينئذ: أن التكليف الفعلي لا يتحقق إلا بعد إيصال التكليف الفعلي، فيكون اتصافه بالفعلية مشروطا بإيصاله متصفا بها، وهذا دور صريح.
وكذا يلزم ذلك لو كان المراد من كليهما هو التكليف الشأني، وأما لو كان المراد بالأول هو التكليف الفعلي وبالموصول هو التكليف الشأني فلا يلزم المحال بوجه، كما أنه لو كان المراد من قوله: * (لا يكلف الله) * هو عدم إيقاعه تعالي نفسا في الكلفة والمشقة، لا التكليف المصطلح فلا مانع من أن يكون المراد بالموصول هو التكليف الفعلي. وحينئذ يصير معني الآية: أنه تعالي لا يوقع نفسا
1 - الطلاق (65): 7.
(٤٩٧)
صفحهمفاتيح البحث: العذاب، العذب (1)، الوجوب (1)
في المشقة إلا من قبل التكاليف الواقعية الفعلية التي بلغها إلي المكلف.
وحينئذ فيدل علي نفي وجوب الاحتياط أيضا، لأنه لو فرض وجوب الاحتياط يلزم إيقاع المكلف في الكلفة من قبل التكاليف المجهولة التي لم تصل إلي المكلف، ضرورة أن إيجاب الاحتياط ليس إلا لرعاية حفظ الواقع، ولا يكون وجوبه إلا طريقيا، فلا يقال بأن الآية لا تنافي وجوب الاحتياط، لأنه تكليف واصل إلي المكلفين، فلا مانع من وقوع المكلف في المشقة من ناحيته، فتدبر.
ثم إنه لو أريد بالموصول في الآية أعم من التكليف فالظاهر أنه مما لا يمكن، لأنه لا يعقل أن يتعلق التكليف بالتكليف إلا علي وجه تعلق الفعل بالمفعول المطلق، كما أن تعلقه بالمال أو بمطلق الشئ إنما يكون علي وجه تعلقه بالمفعول به، وهذان الوجهان مما لا يمكن فرض الجامع القريب بينهما، لأن المفعول به لابد وأن يكون مفروض التحقق قبل ورود الفعل عليه، والمفعول المطلق إنما هو من شؤون الفعل وأنواعه، ولا جامع بين ما يقع عليه الفعل وبين ما هو مأخوذ من نفس الفعل. وإن شئت قلت في المقام بعدم الجامع بين التكليف والمكلف به.
هذا، وأجيب عن ذلك بوجوه:
منها: ما أفاده المحقق النائيني علي ما في التقريرات من أن إرادة العموم من الموصول لا يستلزم أن يكون المراد من الموصول الأعم من المفعول به والمفعول المطلق، بل يراد منه خصوص المفعول به.
وتوهم أن المفعول به لابد وأن يكون له نحو وجود وتحقق في وعائه قبل ورود الفعل عليه ممنوع بأن المفعول المطلق النوعي والعددي يصح جعله مفعولا به بنحو من العناية، مثلا الوجوب وإن كان وجوده بنفس الإيجاب
(٤٩٨)
صفحهمفاتيح البحث: الوجوب (2)
والإنشاء إلا أنه باعتبار ما له من المعني الاسم المصدري يصح تعلق التكليف به. نعم، الوجوب بالمعني المصدري لا يصح تعلق التكليف به (1).
هذا، ولا يخفي ما فيه، فإن المعني الاسم المصدري هو ما يحصل من المصدر، ويتحقق منه، فيكون في الرتبة المتأخرة عن نفس المصدر، وحينئذ فكيف يعقل فرض وجود له قبيل المصدر، ثم إيقاعه عليه، كما هو واضح.
ومنها: ما أفاده المحقق العراقي من أن هذا الإيراد إنما يرد في فرض إرادة الخصوصيات المزبورة من شخص الموصول، وإلا فبناء علي استعمال الموصول في معناه الكلي العام، وإرادة الخصوصيات من دوال اخر خارجية فلا يتوجه محذور، لا من طرف الموصول، ولا في لفظ الإيتاء، ولا في تعلق الفعل بالموصول، لأنه لم تستعمل الموصول والإيتاء إلا في المعني الكلي، وإفادة الخصوصيات إنما هي بدوال اخر. وكذلك تعلق الفعل بالموصول ليس إلا نحو تعلق واحد. ومجرد تعدده بالتحليل لا يقتضي تعدده بالنسبة إلي الجامع (2)، انتهي ملخصا.
وأنت خبير بأنه بعد فرض عدم وجود الجامع القريب بين خصوصيات الموصول كيف يمكن أن يقال بأنها مستعملة في المعني العام.
نعم، الإيتاء مستعمل في معناه، وهو الإعطاء، وهو أمر كلي جامع بين الإعطاء والإقدار والإعلام، وبعد عدم وجود الجامع لا يكون النسبة أيضا متعلقة به، حتي يقال بأن تعددها إنما هو بالتحليل.
أما المقام الثاني: - بحسب مقام الإثبات والاستظهار - فدعوي ظهور
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 331 - 333.
2 - نهاية الأفكار 3: 202.
(٤٩٩)
صفحهمفاتيح البحث: دولة العراق (1)

الدليل الثاني: الأخبار

الآية فيه ممنوعة، والذي يدفع الإشكال: أن ظاهر الآية - بقرينة ما قبلها وما بعدها - ينافي الحمل علي التكليف، وكونها بمنزلة كبري كلية لا يوجب شمولها للتكليف، بل الظاهر أن مفادها هو مفاد قوله تعالي: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (1)، فلا مجال للاستدلال بها علي المقام، كما لا يخفي.
الدليل الثاني: الأخبار منها: حديث الرفع (2)، حيث عد فيه " ما لا يعلمون " من جملة التسعة المرفوعة. وتحقيق الكلام في مفاد الحديث الشريف يتم برسم أمور:
الأمر الأول: في معني الرفع فنقول: ذكر المحقق النائيني - علي ما في التقريرات - أن الرفع في الحديث بمعني الدفع، ولا يلزم من ذلك مجاز، ولا يحتاج إلي عناية أصلا، قال في توضيحه ما ملخصه: إن استعمال الرفع وكذا الدفع لا يصح إلا بعد تحقق مقتضي الوجود، بحيث لو لم يرد الرفع وكذا الدفع علي الشئ لكان موجودا في وعائه المناسب له، لوضوح أن كلا منهما لا يرد علي ما يكون معدوما في حد ذاته لا وجود له ولا اقتضاء الوجود، ويفترق الرفع عن الدفع بأن استعمال الرفع إنما يكون غالبا في المورد الذي فرض وجوده في الزمان السابق أو في المرتبة السابقة، والدفع يستعمل غالبا في المورد الذي فرض ثبوت المقتضي بوجود
١ - البقرة (٢): ٢٨٦.
٢ - التوحيد: ٣٥٣ / ٢٤، وسائل الشيعة ١٥: ٣٦٩، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
(٥٠٠)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)

منها: حديث الرفع

الآية فيه ممنوعة، والذي يدفع الإشكال: أن ظاهر الآية - بقرينة ما قبلها وما بعدها - ينافي الحمل علي التكليف، وكونها بمنزلة كبري كلية لا يوجب شمولها للتكليف، بل الظاهر أن مفادها هو مفاد قوله تعالي: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (1)، فلا مجال للاستدلال بها علي المقام، كما لا يخفي.
الدليل الثاني: الأخبار منها: حديث الرفع (2)، حيث عد فيه " ما لا يعلمون " من جملة التسعة المرفوعة. وتحقيق الكلام في مفاد الحديث الشريف يتم برسم أمور:
الأمر الأول: في معني الرفع فنقول: ذكر المحقق النائيني - علي ما في التقريرات - أن الرفع في الحديث بمعني الدفع، ولا يلزم من ذلك مجاز، ولا يحتاج إلي عناية أصلا، قال في توضيحه ما ملخصه: إن استعمال الرفع وكذا الدفع لا يصح إلا بعد تحقق مقتضي الوجود، بحيث لو لم يرد الرفع وكذا الدفع علي الشئ لكان موجودا في وعائه المناسب له، لوضوح أن كلا منهما لا يرد علي ما يكون معدوما في حد ذاته لا وجود له ولا اقتضاء الوجود، ويفترق الرفع عن الدفع بأن استعمال الرفع إنما يكون غالبا في المورد الذي فرض وجوده في الزمان السابق أو في المرتبة السابقة، والدفع يستعمل غالبا في المورد الذي فرض ثبوت المقتضي بوجود
١ - البقرة (٢): ٢٨٦.
٢ - التوحيد: ٣٥٣ / ٢٤، وسائل الشيعة ١٥: ٣٦٩، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
(٥٠٠)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)

وفيه أمور: الأمر الأول: في معني الرفع

الآية فيه ممنوعة، والذي يدفع الإشكال: أن ظاهر الآية - بقرينة ما قبلها وما بعدها - ينافي الحمل علي التكليف، وكونها بمنزلة كبري كلية لا يوجب شمولها للتكليف، بل الظاهر أن مفادها هو مفاد قوله تعالي: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (1)، فلا مجال للاستدلال بها علي المقام، كما لا يخفي.
الدليل الثاني: الأخبار منها: حديث الرفع (2)، حيث عد فيه " ما لا يعلمون " من جملة التسعة المرفوعة. وتحقيق الكلام في مفاد الحديث الشريف يتم برسم أمور:
الأمر الأول: في معني الرفع فنقول: ذكر المحقق النائيني - علي ما في التقريرات - أن الرفع في الحديث بمعني الدفع، ولا يلزم من ذلك مجاز، ولا يحتاج إلي عناية أصلا، قال في توضيحه ما ملخصه: إن استعمال الرفع وكذا الدفع لا يصح إلا بعد تحقق مقتضي الوجود، بحيث لو لم يرد الرفع وكذا الدفع علي الشئ لكان موجودا في وعائه المناسب له، لوضوح أن كلا منهما لا يرد علي ما يكون معدوما في حد ذاته لا وجود له ولا اقتضاء الوجود، ويفترق الرفع عن الدفع بأن استعمال الرفع إنما يكون غالبا في المورد الذي فرض وجوده في الزمان السابق أو في المرتبة السابقة، والدفع يستعمل غالبا في المورد الذي فرض ثبوت المقتضي بوجود
١ - البقرة (٢): ٢٨٦.
٢ - التوحيد: ٣٥٣ / ٢٤، وسائل الشيعة ١٥: ٣٦٩، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
(٥٠٠)
صفحهمفاتيح البحث: كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)
شئ قبل إشغاله لصفحة الوجود، فيكون الرفع مانعا عن استمرار الوجود، والدفع مانعا عن تأثير المقتضي.
ولكن هذا المقدار من الفرق لا يمنع عن صحة استعمال الرفع بدل الدفع علي وجه الحقيقة، فإن الرفع في الحقيقة يدفع المقتضي عن التأثير في الزمان اللاحق أو في المرتبة اللاحقة، لأن بقاء الشئ كحدوثه يحتاج إلي علة البقاء. فالرفع في مرتبة وروده علي الشئ إنما يكون دفعا حقيقة باعتبار علة البقاء، وإن كان رفعا باعتبار الوجود السابق. فاستعمال الرفع في مقام الدفع لا يحتاج إلي رعاية علاقة المجاز أصلا (1)، انتهي.
وأنت خبير بما فيه، لأن صدق عنوان الدفع علي مورد الرفع باعتبار كونه دافعا عن تأثير المقتضي في الزمان اللاحق أو المرتبة اللاحقة لا يوجب اتحاد الاعتبارين ووحدة العنوانين في عالم المفهومية، فإن اعتبار الرفع إنما هو إزالة الشئ الموجود في زمان أو مرتبة عن صفحة الوجود، واعتبار الدفع إنما هو المنع عن تأثير العلة المبقية في الآن اللاحق، وصدق عنوان الدفع علي محل الرفع باعتباره لا يوجب اتحاد الاعتبارين.
ألا تري أن صدق عنوان الضاحك دائما علي مورد يصدق عليه الإنسان لا يقتضي اتحاد معني الضاحك والإنسان، وإن كان التصادق دائميا، فضلا عن المقام الذي لا يكون النسبة إلا العموم والخصوص، لا التساوي، كما هو واضح.
وبالجملة: تصادق العنوانين في الوجود الخارجي - مطلقا أو في الجملة - أمر، واتحادهما في عالم المفهومية أمر آخر. وحينئذ فمع اعترافه بتغاير الاعتبارين لا مجال لدعوي صحة استعمال أحدهما مكان الآخر بلا
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 336 - 337.
(٥٠١)
صفحهمفاتيح البحث: التصديق (2)، المنع (1)، الصدق (1)
احتياج إلي رعاية العلاقة والعناية، كما اعترف بذلك في مبحث الاشتغال، حيث قال: إن استعمال الرفع مكان الدفع أو بالعكس إنما هو بضرب من العناية والتجوز (1).
والتحقيق في المقام أن يقال: إن الرفع في الحديث الشريف قد أسند إلي نفس الأفعال التي يتعلق بها التكليف، ولم يكن مسندا إلي نفس الحكم، حتي يحتاج إلي دعوي كون المراد من الرفع هو الدفع، فإن الرفع قد أسند إلي نفس الخطأ والنسيان ونظائرهما. نعم، لا ننكر أن هذا الإسناد يحتاج إلي ادعاء أنه إذا كانت تلك الأمور مما لا يترتب علي فعلها المؤاخذة، أو أظهر آثارها أو جميعها فكأنها لا تكون متحققة في صفحة الوجود.
وبالجملة: فالرفع قد استعمل في الحديث بمعناه الحقيقي، وهي إزالة الشئ بعد وجوده، لأنه قد نسب إلي العناوين المتحققة في الخارج، وهي موجودة ثابتة، وإسناد الرفع إليها إنما هو بأحد الوجوه المحتملة. هذا، ولو قلنا بأن التقدير هو رفع الأحكام والآثار المترتبة علي تلك العناوين فيمكن أن يقال بأن الرفع حينئذ أيضا قد استعمل في معناه الحقيقي، وهو إزالة الحكم بعد ثبوته، لأن أدلة الأحكام شاملة بالعموم أو الإطلاق صورة الخطأ والنسيان والاضطرار والإكراه والجهل، فالرفع إنما يتعلق بتلك الأحكام في خصوص تلك الصور، فهو بمعني إزالة الحكم الثابت بالإرادة الاستعمالية في تلك الموارد، وإن كان بحسب الإرادة الجدية دفعا حقيقة.
كما أن التخصيص إنما يكون تخصيصا بالنسبة إلي الإرادة الاستعمالية الشاملة لمورد التخصيص. وأما بالنظر إلي الإرادة الجدية المقصورة علي غيره
1 - نفس المصدر 4: 222.
(٥٠٢)
صفحهمفاتيح البحث: الجهل (1)، النسيان (1)

الأمر الثاني: في متعلق الرفع

فيكون في الحقيقة تخصصا، كما أن النسخ إنما يكون نسخا باعتبار ظهور الحكم في الاستمرار، وإلا ففي الحقيقة لا يكون نسخا، لأن مورده إنما هو ما إذا انتهي أمد الحكم، وإلا فلا يجوز، بل يستحيل.
وبالجملة: فاستعمال الرفع والتخصيص والنسخ إنما هو باعتبار شمول الحكم المجعول قاعدة وقانونا لموارد هذه الأمور، وإلا ففي الحقيقة لا يكون هنا رفع وتخصيص ونسخ، بل دفع وتخصص وانتهاء أمد. فظهر صحة استعمال الرفع في المقام علي كلا التقديرين، وهما تقدير إسناده إلي نفس العناوين، كما هو الظاهر، وتقدير إسناده إلي الأحكام المترتبة عليها، كما لا يخفي.
الأمر الثاني: في متعلق الرفع قد عرفت أن ظاهر الحديث إنما هو إسناد الرفع إلي نفس تلك العناوين المذكورة فيه، ومن الواضح أن ذلك يحتاج إلي تقدير، صونا لكلام الحكيم من اللغوية، إذ لا يمكن الحمل علي ظاهره. وحينئذ فنقول: إنه قد وقع البحث في تعيين ما هو المقدر، فقيل: هي المؤاخذة، وقيل: هو أظهر الآثار، وقيل: هو جميع الآثار.
هذا، وذكر المحقق النائيني - علي ما في التقريرات - أنه لا حاجة إلي التقدير أصلا، فإن التقدير إنما يحتاج إليه إذا توقف تصحيح الكلام عليه، كما إذا كان الكلام إخبارا عن أمر خارجي، أو كان الرفع رفعا تكوينيا، وأما إذا كان الرفع رفعا تشريعيا فالكلام يصح بلا تقدير، فإن الرفع التشريعي كالنفي التشريعي ليس إخبارا عن أمر واقع، بل إنشاء الحكم يكون وجوده التشريعي بنفس الرفع
(٥٠٣)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، الجواز (1)
والنفي (1)، انتهي ملخصا.
وأنت خبير بما فيه، أما أولا: فلأن ما ذكره من أن الرفع في الحديث إنما هو رفع تشريعي ممنوع، فإن الحديث يتضمن إخبار النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عن مرفوعية تلك الأمور في الواقع، ضرورة أن التشريع لا يكون إلا شأنا له - تبارك وتعالي -، والنبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، وكذا الأئمة (عليهم السلام) إنما يخبرون بالحكم الذي شرع في الواقع، كالمفتي الذي يفتي بالأحكام. غاية الأمر أنهم عالمون بالأحكام الواقعية، بخلاف المفتي. وبالجملة: فالحديث لا يدل علي الرفع التشريعي أصلا.
وأما ثانيا: فلأن الفرق بين الرفع التشريعي وغيره، من حيث عدم احتياج الأول إلي التقدير، دون الثاني مما لا يصح، فإن كليهما يحتاج إلي تصحيح وادعاء، لعدم صحة إسناده إلي نفس العناوين، لا تشريعا ولا تكوينا بلا ادعاء، كما لا يخفي.
والتحقيق أن يقال: إن المصحح لإسناد الرفع إلي نفس العناوين المذكورة في الحديث إنما هو كونها بلا أثر أصلا، لأن تقدير أظهر الآثار، أو خصوص المؤاخذة يحتاج إلي ادعائين: أحدهما ادعاء كون ذلك الأثر بمنزلة جميع الآثار المترتبة علي ذلك الشئ، ثانيهما ادعاء كون الشئ الذي لم يكن له أثر أصلا، فهو معدوم ومرفوع. وهذا بخلاف كون المراد رفع جميع الآثار، فإنه لا يحتاج إلا إلي ادعاء واحد. ومنه يظهر ترجيحه علي الاحتمالين الأولين.
هذا، ويدل علي أن المراد رفع جميع الآثار رواية صفوان بن يحيي والبزنطي جميعا عن أبي الحسن (عليه السلام) في الرجل يستحلف علي اليمين، فحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، أيلزمه ذلك؟
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 342 - 343.
(٥٠٤)
صفحهمفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، صفوان بن يحيي (1)
فقال (عليه السلام): " لا، قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): رفع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لا يطيقون وما أخطأوا " (1).
والحلف بالطلاق والعتاق والصدقة وإن كان باطلا عند الإمامية في حال الاختيار أيضا إلا أن استشهاد الإمام (عليه السلام) علي عدم لزومها في صورة الإكراه دليل علي عدم اختصاص حديث الرفع برفع خصوص المؤاخذة. هذا، ويمكن أن يقال بأن المقصود من الرواية: أنه إذا أكره الرجل علي الحلف بأن يطلق أو يعتق أو يصدق فهل يجب عليه العمل علي مقتضي حلفه أم لا؟ وحينئذ فلا يكون هذا الحلف باطلا مع الاختيار، بل يجب عليه مع وجود شرائطه أن يطلق أو يعتق أو يصدق.
ويؤيد كون المقصود من الرواية هو هذا المعني التعبير بقوله " يلزمه "، فإنه لا يناسب كون المراد بالحلف بالطلاق ونظائره هو الحلف بكون امرأته مطلقة مثلا، كما لا يخفي.
ثم لا يذهب عليك: أن نسبة الرفع إلي الأمور التسعة المذكورة في الحديث ليس علي نسق واحد، ضرورة أن المراد برفع الخطأ والنسيان ليس هو رفع الآثار المترتبة علي نفس الخطأ والنسيان، لأنه لا يعقل ذلك، كما صرح به الشيخ في " الرسالة " (2)، بل المراد بالخطأ والنسيان هو ما أخطأ وما نسي.
فالآثار المترتبة علي الفعل لا يترتب عليه إذا وقع خطأ أو نسيانا.
والسر في التعبير عنه بذلك إنما هو وضوح أن المتفاهم من هذين العنوانين بحسب نظر العرف ليس نفسهما مستقلا، بل من حيث كونهما طريقا، وهذا بخلاف
١ - المحاسن: ٣٣٩ / ١٢٤، وسائل الشيعة ٢٣: ٢٢٦، كتاب الأيمان، الباب ١٢، الحديث ١٢.
٢ - فرائد الأصول ١: ٣٢٠ - 322.
(٥٠٥)
صفحهمفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، النسيان (4)، الشهادة (1)، كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (1)، كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي (1)
عنوان الحسد والطيرة، فإنه لا يكون طريقا إلي شئ آخر، بل المتبادر منه إنما هو نفس عنوانه. ويدل علي ذلك: التعبير عن الخطأ في الرواية المتقدمة بكلمة " ما أخطأوا ". هذا، ويمكن أن يكون الوجه في التعبير بالخطأ والنسيان في الحديث هو متابعة الآية الشريفة، من حيث إنه قد عبر فيها بالنسيان والخطأ.
وبالجملة: لا ينبغي الإشكال في أن المراد بالخطأ والنسيان في الحديث ليس ظاهرهما، بل المراد هو ما أخطأوا وما نسوا، وحينئذ فيصير مطابقا لمثل " ما لا يعلمون " ونظائره.
ثم إن ظاهر الحديث هو اختصاص رفع هذه الأمور بهذه الأمة، مع أن المؤاخذة علي الخطأ والنسيان وما لا يعلمون وأشباهها مرفوعة عقلا، ولا اختصاص له بهذه الأمة، ولكن هذا الإيراد إنما يرد بناء علي أن يكون المرفوع هو المؤاخذة، وقد عرفت أن المصحح لإسناد الرفع إلي الأمور المذكورة في الحديث إنما هو كونها مرفوعة بجميع آثارها. وعلي تقدير أن يكون المرفوع هو خصوص المؤاخذة يمكن أن يقال بمنع استقلال العقل بقبح المؤاخذة علي هذه الأمور بقول مطلق، فإنه لا يقبح المؤاخذة علي الخطأ والنسيان الصادرين من ترك التحفظ، كما لا يخفي.
ثم إن مقتضي كون الحديث امتنانا علي العباد ليس إلا مجرد رفع الأحكام والآثار عن تلك الأمور المذكورة فيما إذا وقعت تلك الأمور اتفاقا، فهو بصدد رفع الكلفة والمشقة علي العباد، وحينئذ فلا دلالة له علي رفع الحكم فيما إذ أوقع المكلف نفسه اختيارا في الاضطرار إلي ترك واجب أو فعل محرم أو شرب دواء - مثلا - اختيارا، فذهبت منه القدرة علي فعل المأمور به وأشباه ذلك، كما هو واضح جدا.
(٥٠٦)
صفحهمفاتيح البحث: يوم عرفة (1)، النسيان (3)

الأمر الثالث: في شمول الحديث للأمور العدمية

كما أن مقتضي الحديث رفع الحكم فيما إذا لم يلزم من رفعه ضرر علي شخص آخر، لأن ذلك ينافي الامتنان علي الأمة الظاهر في الامتنان علي جميع الأمة، كما لا يخفي. وحينئذ فالاضطرار مثلا إلي أكل مال الغير لا يوجب إلا سقوط التحريم المتعلق بإتلاف مال الغير من دون إذن، لا سقوط الضمان أيضا، بل يشكل سقوط الحكم التكليفي أيضا في بعض الموارد، كما إذا اضطر بالاضطرار العرفي الغير البالغ حد الاضطرار الشرعي إلي أكل عين متعلقة بالغير، بحيث كانت خصوصيتها أيضا متعلقة لغرضه، ولا يرضي بإتلافه مع دفع القيمة أصلا، لكون خصوصيتها مطلوبة له أيضا، فإنه يشكل الحكم بجواز الإتلاف بمجرد عروض اضطرار يمكن له التحمل عقلا، وإن لم يكن مما يتحمل عادة، كما لا يخفي.
الأمر الثالث: في شمول الحديث للأمور العدمية ذكر المحقق النائيني (قدس سره) - علي ما في تقريرات بحثه - أن حديث الرفع إنما يختص برفع الأمور الوجودية، فلو أكره المكلف علي الترك أو اضطر إليه أو نسي الفعل ففي شمول الحديث له إشكال، لأن شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم، لا تنزيل المعدوم منزلة الوجود، فإن ذلك إنما يكون وضعا لا رفعا، فلو نذر أن يشرب من ماء دجلة، فأكره علي العدم أو اضطر إليه أو نسي أن يشرب فمقتضي القاعدة وجوب الكفارة عليه، لو لم تكن أدلة وجوب الكفارة مختصة بصورة التعمد ومخالفة النذر عن إرادة والتفات (1).
هذا، وأجاب عن ذلك المحقق العراقي - علي ما في تقريرات بحثه - بعدم
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 352 - 353.
(٥٠٧)
صفحهمفاتيح البحث: دولة العراق (1)، الضرر (1)، الأكل (2)، النسيان (1)، الوجوب (2)
الفرق بين رفع الفعل أو الترك، إذ كما أن معني رفع الوجود في عالم التشريع عبارة عن رفع الأثر المترتب عليه، وخلوه عن الحكم في عالم التشريع، كذلك في رفع العدم، فإن مرجع رفعه إلي رفع الأثر المترتب علي هذا العدم الراجع إلي عدم أخذه موضوعا للحكم بالفساد، ووجوب الإعادة مثلا بملاحظة دخل نقيضه، وهو الوجود في الصحة.
وبالجملة: فرق واضح بين قلب الوجود بعدم ذاته وتنزيله منزلته، وبالعكس، وبين قلب أخذه موضوعا للحكم بعدم أخذه في مرحلة تشريع الحكم، وخلو خطاباته عنه. والإشكال المزبور إنما يرد علي الأول دون الثاني (1)، انتهي.
هذا، وأنت خبير بعدم تمامية هذا الجواب، إذ ليس معني رفع هذه الأمور هو رفعها عن موضوعية الحكم المترتب عليها مطلقا، حتي في ناحية رفع الفعل، فإنه لو كان معني رفع ما اضطروا إليه مثلا هو رفع شرب الخمر الذي حصل الاضطرار إليه عن موضوعية الحكم بالحرمة، الظاهر في حرمته مطلقا لما كان الكلام محتاجا إلي ادعاء ومصحح، كما أتعبوا به أنفسهم، إذ الرفع حينئذ يصير رفعا حقيقيا، لا ادعائيا.
فالإشكال إنما هو بناء علي ظاهر الحديث من كون المرفوع هي ذوات هذه الأشياء، وجعلها بمنزلة العدم، والجواب لا ينطبق عليه، كما هو واضح.
والتحقيق في الجواب أن يقال: أما أولا، فلأن العدم المرفوع في الحديث هو العدم المضاف، وهو يمكن اعتباره بنحو ثبت له الثبوت الإضافي، وثانيا: أن تعلق الرفع به يوجب تحققا اعتباريا له، وبهذا الاعتبار يمكن أن يتعلق به،
1 - نهاية الأفكار 3: 219.
(٥٠٨)
صفحهمفاتيح البحث: شرب الخمر (1)

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.