سرشناسه : سبحاني تبريزي، جعفر، - 1308
عنوان و نام پديدآور : اضواء علي عقائد الشيعه الاماميه و تاريخهم/ تاليف جعفر السبحاني
مشخصات نشر : تهران: نشر مشعر، 1421ق. = 1379.
مشخصات ظاهري : ص 774
شابك : 964-6293-82-4(دوره) ؛ 964-6293-82-4(دوره) ؛ 964-6293-82-4(دوره) ؛ 964-6293-80-8(ج.1) ؛ 964-6293-81-6(ج.2)
يادداشت : عربي.
يادداشت : چاپ 1379
يادداشت : كتابنامه: ص. [741] - 760؛ همچنين به صورت زيرنويس
عنوان ديگر : عقائد الشيعه الاماميه و تاريخهم
موضوع : شيعه -- عقايد -- تاريخ
موضوع : ائمه اثناعشر -- سرگذشتنامه
موضوع : شيعه -- تاريخ
موضوع : كلام شيعه اماميه -- تاريخ
رده بندي كنگره : BP211/5/س18الف63 1379
رده بندي ديويي : 297/4172
شماره كتابشناسي ملي : م 79-10724
ص: 1
ص:2
ص:3
ص:4
ص:5
لا يأتي المرء بجديد إذا ذهب إلى القول بأنّ الحقبة الزمنيّة التي شهدت البعثة المباركة لخاتم الأنبياء محمدصلى الله عليه و آله وسنوات عمره المعطاءة القصيرة كانت تؤلّف بحدّ ذاتها انعطافاً رهيباً وتحوّلًا كبيراً في حياة البشرية، في وقت شهد فيه الخطّ البياني الدالّ على مدى الابتعاد المتسارع عن المنهج السماوي وشرائعه المقدّسة انحداراً عميقاً وتردّياً ملحوظاً أصبح من العسير على أحد تحديد مدى انتهائه وحدود أبعاده.
بلى، إنّ مجرّد الاستقراء المتعجّل لأبعاد التحوّل الفكري والعقائدي في حياة البشرية عقيب قيام هذه الدعوة السماوية في أرض الجزيرة- المسترخية على رمال الوهم والخداع وسيل الدم المتدافع- يكشف وبلا تطرّف ومحاباة عظم ذلك التأثير الإيجابي الذي يمكن تحديد مساره من خلال رؤية التحوّل المعاكس في كيفيّة التعامل اليومي مع أحداث الحياة وتطوّراتها، وبالتالي في فهم الصورة الحقيقية لغاية خلق الإنسان ودوره في بناء الحياة.
كما أنّ هذه الحقائق المجسّدة تكشف بالتالي عن عظم الجهد الذي بذله صاحب
ص:6
الرسالةصلى الله عليه و آله في تحقيق هذا الأمر وتثبيت أركانه، في وقت شهدت فيه البشرية جمعاء ضياعاً ملحوظاً في جميع قيمها ومعتقداتها، وخلطاً وتزييفاً مدروساً في مجمل عقائدها ومرتكزات أفكارها، كرّس بالتالي مسارها المبتعد عن الخطّ السماوي ومناهجه السويّة، وأنّ أيّ استعراض لمجمل القيم السائدة آنذاك- والتي كانت تؤلّف المعيار الأساسي والمفصل المهمّ الذي تستند إليه مجموع السلوكيّات الفردية والجماعية، وتشذَّب من خلاله- يكشف عن عمق المأساة التي كانت تعيشها تلك الأُمم في تلك الأزمنة الغابرة.
فمراكز التشريع الحاكمة آنذاك- والتي تعتبر في تصوّر العوام وفهمهم مصدر القرار العرفي والشرعي المدير لشؤون الناس والمتحكّم بمصائرهم ومسار تفكيرهم- تنحصر في ثلاثة مراكز معلومة أركانها الأساسية: اليهود بما يمتلكونه من طرح عقائدي وفكري يستند إلى ثروات طائلة كبيرة، والصليبيون بما يؤلّفونه من قوّة مادّية ضخمة تمتد مفاصلها ومراكزها إلى أبعد النقاط والحدود، وأصحاب الثروة والجاه من المتنفّذين والمتحكّمين في مصائر الناس.
ومن هنا فإنّ كلّ الضوابط الأخلاقية والمبادئ العرفية والعلاقات الروحية والاجتماعية كانت تخضع لتشذيب تلك المراكز وتوجيهها بما يتلاءم وتوجّهاتها التي لا تحدّها أيّ حدود.
إنّ هذه المراكز الفاسدة كانت تعمل جاهدة لأن تسلخ الإنسان من كيانه العظيم الذي أراده اللَّه تعالى له، ودفعه عن دوره الكبير الذي خلق من أجله عندما قال تعالى للملائكة: إِني جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً «(1)»
بل تعمل جاهدة لأن تحجب تماماً رؤية هذه الحقيقة العظيمة عن ناظر الإنسان ليبقى دائماً بيدقاً أعمى تجول به أصابعهم الشيطانية لتنفيذ أفكارهم المنبعثة من شهواتهم المنحرفة.
ص:7
وأمّا ما يمكن الاعتقاد به من بقايا آثار الرسالات السابقة، فلا تعدو كونها ذبالات محتضرة لم تستطع الصمود أمام تيارات التزييف والكذب والخداع التي مسختصورتها إلى أبعد الحدود.
نعم بُعث محمّدصلى الله عليه و آله إلى قوم خير تعبير عنهم قول جعفر بن أبي طالب للنجاشي:
أيها الملك كنّا أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسي ء الجوار، ويأكل القويّ منا الضعيف.
هذا في الوقت الذي كانت فيه مراكز القوى تلك تتضخّم وتتعاظم على حساب ضياع البشرية وموت مبادئها.
وهكذا فقد كانت الدعوة الإسلامية الفتيّة وصاحبهاصلى الله عليه و آله في مواجهة هذه المراكز بامتداداتها الرهيبة وقدراتها العظيمة، والتي كوّنت أعنف مواجهة شرسة وقتالًا ليس له مثيلصبغ أرض الجزيرة ورمالها الصفراء بلون أحمر قانٍ لسنوات لم يعرف فيها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وخيرة أصحابه للراحة طعماً وللسكون مسكناً.
إنّ تلك الحصون المليئة بالشرّ والخراب لم تتهاوَ إلّابعد جهد جهيد وسيل جارف من الدماء الطاهرة التي لا توزن بها الجبال، من رجال وقفوا أنفسهم وأرواحهم من أجل هذا الدين وصاحبهصلى الله عليه و آله.
فاستطاع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن يقيم حكومة اللَّه تعالى في الأرض، وأن يثبت فيها الأركان على أساس الواقع والوجود، فلم تجد آنذاك كلّ قوى الشرّ بدّاً من الاختباء في زوايا العتمة والظلام تتحيّن الفرص السانحة والظروف الملائمة للانقضاض على هذا البنيان الذي بدا يزداد شموخاً وعلوّاً مع تقادم السنين.
لقد كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يدرك عياناً أنّ نقطة ضعف هذه الأُمّة يكمن في تفرّقها وفي تبعثر جهودها ممّا سيمكّن من ظهور منافذ مشرعة في هذا البنيان الكبير لا تتردّد أركان الكفر وأعداء الدين المتلوّنون والمتستّرون من النفوذ خلالها
ص:8
والتسلّل بين أهلها، وفي ذلك الخطر الأكبر. ولذا فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يصرّح ويحذّر من افتراق أُمّته، ويلوح للمفترقين بالنار والجحيم.
بيد أنّ ما حذَّر منهصلى الله عليه و آله وما كان يخشاه، بدت أوّل معالمه الخطرة تتوضّح في اللحظات الأُولى لرحيله صلى الله عليه و آله وانتقاله إلى عالم الخلود، وعندها وجد أعداء هذا الدين الفرصة مؤاتية للولوج إلى داخل هذا البناء، والعمل على هدمه بمعاول أهله لا بمعاولهم هم.
فتفرّقت هذه الأُمّة فرقاً فرقاً وجماعات جماعات، لا تتردّد كلّ واحدة من أن تكفّر الأُخرى، وتكيل لها التهم الباطلة والافتراءات الظالمة، وانشغل المسلمون عن أعدائهم بقتال إخوانهم والتمثيل بأجسادهم، وحلّ بالأُمّة وباء وبيل بدأ يستشري في جسدها الغضّ بهدوء دون أن تنشغل بعلاجه.
نعم بعد هذه السنين المرّة من الفرقة والتشتّت بدأ المسلمون في أُخريات المطاف يلعقون جراحاً خلّفتها سيوف إخوانهم لا سيوف أعدائهم في حين ينظر إليهم أعداؤهم بتشفّ وشماتة.
إنّ ما حلَّ بالمسلمين من مصائب وتخلّف في كافة المستويات أوقعتهم في براثن المستعمرين أعداء اللَّه ورسله يعود إلى تفرق كلمتهم وتبعثر جهودهم وتمزّق وحدتهم، ولعلّ نظرة عاجلة لما يجري في بقاع المعمورة المختلفة يوضّح لنا هذه الصورة المؤلمة والمفجعة، فمن فلسطين مروراً بلبنان، والعراق، وأفغانستان، والبوسنة والهرسك، والصومال وغيرها وغيرها مشاهد مؤلمة لنتائج هذا التمزّق والتبعثر.
وإن كان من كلمة تقال فإنّ للجهود المخلصة الداعية إلى الالتفات إلى مصدر الداء لا أعراضه فقط الثقل الأكبر في توقّي غيرها من المضاعفات الخطيرة التي تتولّد كلّ يوم في بلد من بلاد المسلمين لا في غيرها.
ص:9
ولا نغالي إذا قلنا بأنّ للجمهورية الإسلامية في إيران ومؤسّسها الإمام الخميني- رضوان اللَّه تعالى عليه- الفضل الأكبر في تشخيص موضع الداء وتحديد موطنه.
ولعل الاستقراء المختصر لجمل توجيهات الإمام قدس سره طوال حياته ولسنين طويلة يدلّنا بوضوح على قدرته التشخيصية في وضع يده على موضع الداء، ودعوته إلى الالتفات إلى ذلك، لا إلى الانشغال بما عداه.
فمن نداء له قدس سره إلى حجّاج بيت اللَّه الحرام في عام 1399 ه قال: ومن واجبات هذا التجمّع العظيم دعوة الناس والمجتمعات الإسلامية إلى وحدة الكلمة وإزالة الخلافات بين فئات المسلمين، وعلى الخطباء والوعّاظ والكتّاب أن يهتمّوا بهذا الأمر الحياتي ويسعوا إلى إيجاد جبهة للمستضعفين للتحرّر- بوحدة الجبهة ووحدة الكلمة وشعار (لا إله إلّااللَّه)- من أسر القوى الأجنبية الشيطانية والمستعمرة والمستغلّة، وللتغلّب بالأُخوّة الإسلامية على المشاكل.
فيامسلمي العالم، ويا أتباع مدرسة التوحيد: إنّ رمز كلّ مصائب البلدان الإسلامية هو اختلاف الكلمة وعدم الانسجام، ورمز الانتصار وحدة الكلمة والانسجام، وقد بيّن اللَّه تعالى ذلك في جملة واحدة: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّه جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُواْ «(1)»
والاعتصام بحبل اللَّه تبيان لتنسيق جميع المسلمين من أجل الإسلام وفي اتّجاه الإسلام ولمصالح المسلمين، والابتعاد عن التفرقة والانفصال والفئوية التي هي أساس كل مصيبة وتخلّف.
وقال قدس سره في كلمة له مع وفد من كبار علماء الحرمين الشريفين سنة 1399 ه:
رمز انتصار المسلمين فيصدر الإسلام كان وحدة الكلمة وقوة الإيمان.
لو كان ثمة وحدة كلمة إسلامية، ولو كانت الحكومات والشعوب الإسلامية
ص:10
متلاحمة فلا معنى لأن يبقى ما يقارب مليار إنسان مسلم تحت سيطرة القوى الأجنبية، لو أنّ هذه القدرة الإلهية الكبرى تقترن بقوة الإيمان، ونسير جميعاً متآخين على طريق الإسلام فلا تستطيع أيّة قوّة أن تتغلب علينا.
وأكّد قدس سره على مغزى سر انتصار المسلمين فيصدر الإسلام الأوّل رغم قلّة عددهم وتواضع إمكانياتهم، وانكسارهم في الوقت الحاضر مع عظم إمكانياتهم وكثرة عددهم بقوله:
يا مسلمي العالم ماذا دهاكم فقد دحرتم فيصدر الإسلام بعدّة قليلة جداً القوى العظمى، وأوجدتم الأُمّة الكبرى الإسلامية الإنسانية، واليوم وأنتم تقربون من مليار إنسان، وتملكون مخازن الخيرات الكبرى التي هي أكبر حربة، تقفون أمام العدو بمثل هذا الضعف والانهيار، أتعلمون أنّ كلّ مآسيكم تكمن في التفرقة والاختلاف بين زعماء بلدانكم وبالتالي بينكم أنتم أنفسكم.
وقال أيضاً: إثارة الاختلافات بين المذاهب الإسلامية من الخطط الإجرامية التي تدبّرها القوى المستفيدة من الخلافات بين المسلمين، بالتعاون مع عملائها الضالّين بمن فيهم وعاظ السلاطين المسودّة وجوههم أكثر من سلاطين الجور أنفسهم، وهؤلاء يؤجّجون نيران هذه الاختلافات باستمرار، وكلّ يوم يرفعون عقيرتهم بنعرة جديدة، وفي كل مرحلة ينفّذون خطّة لإثارة الخلافات، آملين بذلك هدمصرح الوحدة بين المسلمين من أساسه.
وهكذا فإنّ الصورة تبدو أكثر وضوحاً عند قراءة سلسلة خطب الإمام الخميني وتوصياته المستمرّة إلى عموم المسلمين وخصوصاً في مواسم الحج التي تؤلّف أفضل تجمّع إسلامي تشارك فيه أعداد ضخمة من المسلمين، ومن شتّى بقاع المعمورة في مؤتمر ضخم لابد من أن يكرّسه المسلمون لتدارس أُمورهم وعلاج مشاكلهم ومناقشة معتقداتهم، حيث إنّ الإمام قدس سره كان يواظب على إثارة هذه
ص:11
الأُمور الحسّاسة والمهمّة في حياة الإسلام والمسلمين، ولم يدّخر في ذلك جهداً.
كما أنّ الاطّلاع على فتاوى الإمام- رضوان اللَّه تعالى عليه- يكشف بوضوح عن عمق توجّهه إلى هذا الأمر الحيوي والدقيق، وتأكيده عليه.
فمن توجيهاته قدس سره إلى الحجّاج نورد هذه الملاحظات المختصرة:
قال: يلزم على الإخوة الإيرانيين والشيعة في سائر البلدان الإسلامية أن يتجنّبوا الأعمال السقيمة المؤدّية إلى تفرقةصفوف المسلمين، ويلزم الحضور في جماعات أهل السنّة، والابتعاد بشدّة عن إقامةصلاة الجماعة في المنازل ووضع مكبّرات الصوت بِشَكلٍ غير مألوف وعن إلقاء النفس على القبور المطهرة وعن الأعمال التي قد تكون مخالفة للشرع.
يلزم ويجزي (أي يكفي) في الوقوفين متابعة حكم القاضي من أهل السنّة، وإن حصل لكم القطع بخلافه.
على عامّة الإخوة والأخوات في الدين أن يلتفتوا إلى أنّ واحداً من أهم أركان فلسفة الحج إيجاد التفاهم وترسيخ الأُخوّة بين المسلمين.
وغير ذلك من الفتاوى المهمّة التي ندعو جميع المسلمين إلى مطالعتها والتأمّل فيها.
وعلى هذا الخط المبارك واصلت الجمهورية الإسلامية مسارها في الدعوة إلى وحدة كلمة المسلمين بعد رحيل الإمام الخميني- رضوان اللَّه تعالى عليه- وأخذت تؤكّد عليه في كلّ مناسبة ومكان على لسان قائدها سماحة آية اللَّه السيد عليّ الخامنئي- حفظه اللَّه- وباقي مسؤوليها، ولم تدّخر جهداً في العمل على إقامة هذا الأمر الشرعي المهمّ والدفاع عنه، من خلال توجيهاتها المستمرة في هذا المنحى أو دعمها غير المحدود لكلّ الجهود المخلصة في هذا الميدان.
وأخيراً.. فإنّ هذا الكتاب الماثل بين يدي القارئ الكريم- وهو بقلم الباحث
ص:12
القدير الشيخ جعفر السبحاني- دعوة للتأمّل ضمن الحدود التي أشرنا إليها في حديثنا، وهي بالتالي تعكسصورةصادقة عن حجم الهجمة الكافرة التي أرادت تمزيق الأُمّة ودفعها إلى التشتّت، وبيان ما أخذت من مساحة واسعة في فكر هذه الأُمّة ومعتقداتها.
بلى لسنا في معرض الدفاع عن الوجود المقدّس لهذه الشريعة السماوية فحسب، بل ابتغينا إزاحة اللثام وإماطة الخبث عن الدسائس الخبيثة التي تريد بالأُمّة الهلاك.
وقد قامت معاونية شؤون التعليم والبحوث بنشره، حتّى يعمّ نفعه ويتعرف المسلمون على الشيعة عن كثب.
واللَّه تعالى من وراء القصد.
معاونية شؤون التعليم والبحوث الإسلامية في الحجّ
ص:13
لا شكّ أنّ التقريب بين المذاهب الإسلامية ضرورة ملحّة يشعر بها كلّ من يحمل هموم المسلمين، وتتفاقم الحاجة إليه كلّما ازدادت حدّة المواجهة بين الإسلام وأعدائه الذين يتربّصون به الدوائر، لا سيّما ونحن في عصر العولمة الثقافيّة الذي تُشن فيه حملات مسعورة ضدّ ثقافتنا الإسلامية، ممّا يلحّ علينا باطّراد إلى تقريب الخُطى وتوثيق التعاون المشترك بين كافّة الطوائف الإسلامية.
كما أنّ تعزيز أواصر التقريب المنشود رهن عوامل عديدة أبرزها:
وقوف كلّ طائفةعلى ما لدى الطائفة الأُخرى من أفكار ومفاهيم، لتُدرك مدى عظمة المشتركات التي تجمعهما، وهامشيّة الأسباب التي تباعدهما.
ومع الأسف الشديد أنّ التاريخ أسدل ستار الجهالة على الشيعة، وهي الطائفة التي رفدت الفكر الإسلامي بالكثير من المفكّرين والعلماء والمثقفين، ونسج حولها الأوهام والشكوك.
وأنا لا أنسى أبداً حينما زرت مكّة المكرّمة عام 1376 ه ونزلت في بيت أحد مدرّسي الحرم المكّي، فإذا هو يباغتني بهذا السؤال؛ هل للشيعة تأليف؟!
ص:14
فقد هزّني كلامه هذا، وقلت في نفسي، سبحان اللَّه، في وسط هذا البلد الحرام يجهل مدرسُ الحرم المكّي تاريخَ الشيعة الإمامية ومصنّفاتها، وكأنّه يسأل عن أُمّة بائدة لا تاريخ لها ولا ثقافة، فما بال الآخرين الذين هم في منأى عن أُمّ القرى مكّة المكرّمة؟!!
ومنذ ذلك الحين راودتني فكرة تحرير كتاب عن تاريخ الشيعة، وعقائدها، وأئمّتها، وأحكامها.
وقد حرصتُ في هذا الكتاب على بيان المشتركات التي تجمع بين الطائفتين (السنّة والشيعة) علىصعيد العقيدة والشريعة والفكر، إلى جانب بيان الفوارق التي ساقها إليهم الدليل والبرهان، هذا في الوقت الذي نذعن فيه لما قاله أُستاذنا ورائدنا السيّد شرف الدين العاملي رحمه الله حينما خاطب علماء السنّة بقوله: ما يجمعنا أكثر ممّا يفرّقنا.
وتبعه الشاعر المفلق محمّد حسن عبدالغني المصري شاعر الأهرام لمّا قال:
إنّا لتجمعنا العقيدة أُمّةً ويضمّنا دينُ الهدى أتباعاً
ويؤلّف الإسلامُ بينَ قلوبنا مهما ذهبْنا في الهوى أشياعاً
وفي الختام نرجو من اللَّه سبحانه أن يكون هذا الكتاب مساهمة متواضعة في سبيل تقريب الخطى بين المسلمين وتوثيق أواصر الأُخوّة، وتعزيز التعاون المشترك بينهم كي يكونواصفّاً واحداً أمام أعدائهم، إنّه بذلك قدير وبالإجابة جدير.
جعفر السبحاني
قم- مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
17صفر المظفّر من شهور عام 1421 ه
ص:15
ص:16
صفحة بيضاء
ص:17
زعم غير واحد من الكتّاب القدامى والجدد: أنّ التشيّع كسائر المذاهب الإسلامية من إفرازات الصراعات السياسية، في حين يذهب البعض الآخر إلى القول بأنّه نتاج الجدال الكلامي والصراع الفكري. فأخذوا يبحثون عن تاريخ نشوئه وظهوره في الساحة الإسلامية، وكأنّهم يتلقّون التشيّع بوصفه ظاهرة جديدة وافدة على المجتمع الإسلامي، ويعتقدون بأنّ القطاع الشيعي وإن كان من جسم الأُمّة الإسلامية إلّاأنّه تكوّن على مرّ الزمن نتيجة لأحداث وتطوّرات سياسية أو اجتماعية فكرية أدّت إلى تكوين هذا المذهب كجزء من ذلك الجسم الكبير، ومن ثمّ اتّسع ذلك الجزء بالتدريج.
ولعلّ هذا التصور الخاطئ لمفهوم التشيّع هو ما دفع أصحاب هذه الأُطروحات إلى التخبّط والتعثّر في فهمهم لحقيقة نشوء هذا المذهب، ومحاولاتهم الرامية لتقديم التفسير الأصوب، ولو أنّ أُولئك الدارسين شرعوا في دراستهم لتأريخ هذه النشأة من خلال الأُطروحات العقائدية والفكرية التي ابتني عليها التشيّع لأدركوا بوضوح ودون لبس أنّ هذا المذهب لا يؤلّف في جوهر تكوينه
ص:18
وقواعد أركانه إلّاالامتداد الحقيقي للفكر العقائدي للدين الإسلامي والذي قام عليه كيانه.
وإذا كان البعض يذهب إلى الاعتقاد بأنّ التشيع يظهر بأوضحصوره من خلال الالتفاف والمشايعة للوصي الذي اختاره رسول اللَّهصلى الله عليه و آله خليفة له بأمر اللَّه تعالى ليكون قائداً وإماماً للناس- كما كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله- ففي ذلك أوضح المصاديق على حقيقة هذا النشوء الذي اقترن بنشوء وتبلور الفكر الإسلامي الكبير، والذي لابدّ له من الاستمرار والتواصل والتكامل حتّى بعد رحيلصاحب الرسالةصلى الله عليه و آله، والذي ينبغي له أن يكون الاستمرار الحقيقي لتلك العقيدة السماوية وحامل أعباء تركتها.
فإذا اعتبرنا بأنّ التشيّع يرتكز أساساً في استمرار القيادة بالوصي، فلا نجد له تأريخاً سوى تأريخ الإسلام، والنصوص الواردة عن رسولهصلى الله عليه و آله.
قد عرفت في الصفحات السابقة نصوصاً متوفرة في وصاية الإمام أمير المؤمنين، وإذا كانت تلك النصوص من القوّة والحجّية التي لا يرقى إليها الشكّ، وتعدّ وبدون تردّد ركائز عقائدية أراد أن يثبت أُسسها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فهي بلا شك تدلّ وبوضوح على أنّ هذه الاستجابة اللاحقة استمرار حقيقي لما سبقها في عهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وإذا كان كذلك فإنّ جميع من استجابوا لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وانقادوا له انقياداً حقيقياً، يعدّون بلا شكّ روّاد التشيع الأوائل وحاملي بذوره، فالشيعة هم المسلمون من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان في الأجيال اللاحقة، من الذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول في أمر القيادة، ولم يغيِّروه، ولم يتعدوا عنه إلى غيره، ولم يأخذوا بالمصالح المزعومة في مقابل النصوص، وصاروا بذلك المصداق الأبرز لقوله سبحانه: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَيِ اللَّه
ص:19
ورَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّه إنَّ اللَّه سَميعٌ عَليمٌ «(1)»
ففزعوا في الأُصول والفروع إلى عليّ وعترته الطاهرة، وانحازوا عن الطائفة الأُخرى مِنَ الذين لم يتعبّدوا بنصوص الخلافة والولاية وزعامة العترة، حيث تركوا النصوص، وأخذوا بالمصالح.
إنّ الآثار المرويّة في حقّ شيعة الإمام عن لسان النبيّ الأكرم- والذين هم بالتالي شيعة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله- ترفع اللثام عن وجه الحقيقة، وتعرب عن التفاف قسم من المهاجرين حول الوصي، فكانوا معروفين بشيعة عليّ في عصر الرسالة، وإنّ النبيّ الأكرم وصفهم في كلماته بأنّهم هم الفائزون، وإن كنت في شكّ من هذا فسأتلو عليك بعض ما ورد من النصوص في المقام:
1- أخرج ابن مردويه عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول اللَّه من أكرم الخلق على اللَّه؟ قال: «يا عائشة أما تقرئين: إنَّ الَّذِين آمنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيرُ البَرِيَّة» «(2)»
.
2- أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد اللَّه قال: كنّا عند النبيّصلى الله عليه و آله فأقبل عليّ فقال النبيّ: «والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة»، ونزلت:
إنَّ الَّذِين آمنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيرُ البَريَّة فكان أصحاب النبيّ إذا أقبل عليّ قالوا: جاء خير البريّة «(3)».
3- أخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً: «عليّ خير البريّة» «(4)».
ص:20
4- وأخرج ابن عدي عن ابن عبّاس قال: لمّا نزلت: «إنَّ الَّذِين آمنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِك هُمْ خَيرُ البَريَّة» قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعليّ: «هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين».
5- أخرج ابن مردويه عن عليّ قال: قال لي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «ألم تسمع قول اللَّه: إنَّ الَّذِين آمنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِك هُمْ خَيرُ البَريَّة أنت وشيعتك، موعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأُمم للحساب تدعون غرّاً محجّلين» «(1)».
6- روي ابن حجر فيصواعقه عن أُمّ سلمة: كانت ليلتي، وكان النبيّصلى الله عليه و آله عندي فأتته فاطمة فتبعها عليّ- رضي اللَّه عنهما- فقال النبيّ: «يا عليّ أنت وأصحابك في الجنّة، أنت وشيعتك في الجنّة» «(2)».
7- روى ابن الأثير في نهايته: قال النبيّ مخاطباً عليّاً: «يا عليّ، إنّك ستقدم على اللَّه أنت وشيعتك راضين مرضيّين، ويقدم عليه عدوُّك غضاباً مقمحين» ثمّ جمع يده إلى عنقه يريهم كيف الإقماح. قال ابن الأثير: الإقماح: رفع الرأس وغض البصر «(3)».
8- روى الزمخشري في ربيعه: أنّ رسول اللَّه قال: «يا عليّ، إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة اللَّه تعالى، وأخذت أنت بحجزتى، وأخذ ولدك بحجزتك، وأخذ شيعة ولدك بحجزهم، فترى أين يؤمر بنا؟» «(4)».
9- روى أحمد في المناقب: أنّهصلى الله عليه و آله قال لعليّ: «أما ترضى أنّك معي في الجنّة، والحسن والحسين وذرّيتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذرّيتنا، وشيعتنا عن
ص:21
أيماننا وشمائلنا» «(1)».
10- روى الطبراني: أنّهصلى الله عليه و آله قال لعليّ: «أوّل أربعة يدخلون الجنّة: أنا وأنت والحسن والحسين، وذرّيتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذرّياتنا، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا» «(2)».
11- أخرج الديلمي: «يا علي، إنّ اللَّه قد غفر لك ولذرّيّتك ولولدك ولأهلك ولشيعتك، فأبشر فإنّك الأنزع البطين» «(3)».
12- أخرج الديلمي عن النبيّ أنّه قال: «أنت وشيعتك تردون الحوض رواء مرويّين، مبيضّة وجوهكم، وإنّ عدوّك يردّون الحوض ظماء مقمحين» «(4)».
13- روى المغازلي بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه: «يدخلون من أُمّتي الجنّة سبعون ألفاً لا حساب عليهم- ثمّ التفت إلى عليّ فقال:- هم شيعتك وأنت إمامهم» «(5)».
14- روى المغازلي عن كثير بن زيد قال: دخل الأعمش على المنصور، فلمّا بصر به قال له: يا سليمان تصدَّر، قال: أناصدر حيث جلست- إلى أن قال في حديثه:- حدّثني رسول اللَّه قال: «أتاني جبرئيل عليه السلام آنفاً فقال: تختّموا بالعقيق، فإنّه أوّل حجر شهد للَّه بالوحدانيّة، ولي بالنبوّة، ولعليّ بالوصيّة، ولولده بالإمامة، ولشيعته بالجنّة» «(6)».
ص:22
15- روى ابن حجر: أنّه مرّ عليّ على جمعٍ فأسرعوا إليه قياماً، فقال: «من القوم؟» فقالوا: من شيعتك يا أمير المؤمنين، فقال لهم خيراً، ثمّ قال: «يا هؤلاء مالي لا أري فيكم سمة شيعتنا وحلية أحبَّتنا؟» فأمسكوا حياءً، فقال له من معه:
نسألك بالذي أكرمكم أهل البيت وخصّكم وحباكم، لما أنبأتنا بصفة شيعتكم فقال: «شيعتنا هم العارفون باللَّه، العاملون بأمر اللَّه» «(1)».
16- روى الصدوق (306- 381 ه): أنّ ابن عباس قال: سمعت رسول اللَّه يقول: «إذا كان يوم القيامة ورأى الكافر ما أعدّ اللَّه تبارك وتعالى لشيعة عليّ من الثواب والزلفى والكرامة...» «(2)».
17- وروى أيضاً بسنده إلى سلمان الفارسي عن النبيصلى الله عليه و آله قال: «يا علي تختّم باليمين تكن من المقرّبين، قال: يا رسول اللَّه ومن المقرّبون؟ قال: جبرئيل وميكائيل، قال: فبما أتختّم يا رسول اللَّه؟ قال: بالعقيق الأحمر؛ فإنّه جبل أقرّ للَّه بالوحدانيّة، ولي بالنبوّة، ولك يا عليّ بالوصيّة، ولولدك بالإمامة، ولمحبّيك بالجنّة، ولشيعتك وشيعة ولدك بالفردوس» «(3)».
وهذه النصوص المتضافرة الغنيّة عن ملاحظة أسنادها، تعرب عن كون عليّ عليه السلام متميزاً بين أصحاب النبيّ بأنّ له شيعة وأتباعاً، ولهم مواصفات وسمات كانوا مشهورين بها، في حياة النبيّ وبعدها، وكانصلى الله عليه و آله يشيد بهم ويبشّر بفوزهم، وهم- بلا ريب- ليسوا بخارجين قيد أُنملة عن الخط النبوي المبارك للفكر الإسلامي العظيم، والذي يؤكّد على حقيقة التشيّع ومبدئه الذي لا يفترق عن نشوء الدين واستقراره.
ص:23
فبعد هذه النصوص لا يصحّ لباحث أن يلتجئ إلى فروض ظنّية أو وهمية في تحديد تكوّن الشيعة وظهورها.
قد غلب استعمال لفظ الشيعة بعد عصر الرسول تبعاً له فيمن يوالي عليّاً وأهل بيته ويعتقد بإمامته ووصايته، ويظهر ذلك من خلال كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات والتي نشير إلى بعضها:
1- روى المسعودي في حوادث وفاة النبي: أنّ الإمام عليّاً أقام ومن معه من شيعته في منزله بعد ان تمّت البيعة لأبي بكر «(1)».
2- قال أبو مخنف: اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بنصرد فذكروا هلاك معاوية فحمدنا اللَّه عليه فقال: إنّ معاوية قد هلك، وأنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكّة وأنتم شيعته وشيعة أبيه «(2)».
3- وقال محمّد بن أحمد بن خالد البرقي (ت 274 ه): إنّ أصحاب عليّ ينقسمون إلى الأصحاب، ثمّ الأصفياء، ثمّ الأولياء، ثمّ شرطة الخميس... ومن الأصفياء سلمان الفارسي، والمقداد، وأبو ذر، وعمّار، وأبو ليلى، وشبير، وأبو سنان، وأبو عمرة، وأبو سعيد الخدري، وأبو برزة، وجابر بن عبد اللَّه، والبراء بن عازب، وطرفة الأزدي «(3)».
4- وقال النوبختي (ت 313 ه): إنّ أوّل فرق الشيعة، وهم فرقة عليّ بن أبي طالب، المسمّون شيعة عليّ في زمان النبيّ وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه
ص:24
والقول بإمامته «(1)».
5- وقال أبو الحسن الأشعري: وإنّما قيل لهم الشيعة؛ لأنّهم شايعوا عليّاً، ويقدّمونه على سائر أصحاب رسول اللَّه «(2)».
6- وقال الشهرستاني: الشيعة هم الذين شايعوا عليّاً على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصّاً ووصيّةً «(3)».
7- وقال ابن حزم: ومن وافق الشيعة في أنّ عليّاً أفضل الناس بعد رسول اللَّه وأحقّهم بالإمامة، وولده من بعده، فهو شيعيّ، وإن خالفهم فيما عدا ذلك ممّا اختلف فيه المسلمون، فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعيّاً «(4)».
هذا غيض من فيض وقليل من كثير ممّا جاء في كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات، تعرب عن أنّ لفيفاً من الأُمّة في حياة الرسول وبعده إلى عصر الخلفاء وبعدهم كانوا مشهورين بالتشيّع لعليّ، و أنّ لفظة الشيعة ممّا نطق بها الرسول وتبعته الأُمّة في ذلك.
وإنّ الإمام علياً وإن تسامح وتساهل في أخذ حقّه- تبعاً لمصالح عظيمة مكنونة في مثل هذا التصرّف الحكيم- إلّاأنّ حقيقة استخلاف النبيّ له أمست فكرة عقائدية ثابتة في النفوس والقلوب، وتضاعف عدد المؤمنين بها و المتشيّعين له على مرور الأيام، ورجع الكثير من المسلمين إلى الماضي القريب، واحتشدت في أذهانهمصور عن مواقف النبيّصلى الله عليه و آله، تلك المواقف التي كان يصرّح فيها باستخلاف عليّ من بعده تارة، ويلمّح فيها أُخرى، فالتفّوا حول عليّ عليه السلام وأصبحوا من الدعاة
ص:25
الأوفياء له في جميع المراحل التي مرّ بها، وما زال التشيّع ينمو وينتشر بين المسلمين في الأقطار المختلفة، يدخلها مع الإسلام جنباً إلى جنب، بل أنّ حقيقته استحكمت من خلال التطبيق العملي لهذا الاستخلاف عبر السنوات القصيرة التي تولّى فيها الإمام عليّ منصب الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفّان، فشاعت بين المسلمين أحاديث استخلافه، ووجد الناس من سيرته وزهده وحكمته ما أكّد لهمصحّة تلك المرويّات، وأنّه هو المختار لقيادة الأُمّة وحماية القرآن ونشر تعاليمه ومبادئه «(1)».
وإذا كان العنصر المقوّم لإطلاق عبارة الشيعة هو مشايعة عليّ بعد النبيّ الأكرم في الزعامة والوصاية أوّلًا، وفي الفعل والترك ثانياً؛ فإنّه من غير المنطقي محاولة افتراض علّة اجتماعية أو سياسية أو كلامية لتكوّن هذه الفرقة.
ومن أجل أن ترتسم في الأذهان الصورة واضحة عن مجسّدي هذه التسمية في تلك الحقبة البعيدة في التأريخ والملاصقة لعصر الرسالة الأوّل، نستعرض جملة من رواد هذا الميدان المقدّس والذين يعدّون بحقّ أوائل حملة هذه التسمية المباركة على وجه الإجمال. ومن أراد التفصيل فليرجع إلى ما كتب حولهم من المؤلّفات، وسنأتي بأسماء تلك الكتب في آخر البحث:
إنّ الإحالة للتعرّف على روّاد التشيّع إلى الكتب المؤلّفة في ذلك المضمار لا تخلو من عسر وغموض، قد تدفع بالأمر إلى جملة من المناقشات، إلّاأنّنا سنقتصر في حديثنا على إيراد جملة من أُولئك الصحابة الذين اشتهروا بالتشيّع ونسبوا له:
ص:26
1- عبد اللَّه بن عبّاس.
2- الفضل بن العبّاس.
3- عبيد اللَّه بن العبّاس.
4- قثم بن العبّاس.
5- عبد الرحمن بن العبّاس.
6- تمام بن العبّاس.
7- عقيل بن أبي طالب.
8- أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب.
9- نوفل بن الحرث.
10- عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب.
11- عون بن جعفر.
12- محمّد بن جعفر.
13- ربيعة بن الحرث بن عبد المطّلب.
14- الطفيل بن الحرث.
15- المغيرة بن نوفل بن الحارث.
16- عبداللَّه بن الحرث بن نوفل.
17- عبداللَّه بن أبي سفيان بن الحرث.
18- العبّاس بن ربيعة بن الحرث.
19- العبّاس بن عتبة بن أبي لهب.
20- عبدالمطّلب بن ربيعة بن الحرث.
21- جعفر بن أبي سفيان بن الحرث.
هؤلاء من مشاهير بني هاشم، وأمّا غيرهم فإليك أسماء طائفة منهم:
ص:27
22- سلمان الفارسي المحمّدي.
23- المقداد بن الأسود الكندي.
24- أبو ذرّ الغفاري.
25- عمّار بن ياسر.
26- حذيفة بن اليمان.
27- خزيمة بن ثابت.
28- أبو أيوب الأنصاري، مضيّف النبيّصلى الله عليه و آله.
29- أبو الهيثم مالك بن التيهان.
30- أُبيّ بن كعب.
31- سعد بن عبادة.
32- قيس بن سعد بن عبادة.
33- عديّ بن حاتم.
34- عبادة بن الصامت.
35- بلال بن رباح الحبشي.
36- أبو رافع مولى رسول اللَّه.
37- هاشم بن عتبة.
38- عثمان بن حنيف.
39- سهل بن حنيف.
40- حكيم بن جبلة العبدي.
41- خالد بن سعيد بن العاص.
42- ابن الحصيب الأسلمي.
43- هند بن أبي هالة التميمي.
ص:28
44- جعدة بن هبيرة.
45- حجر بن عديّ الكندي.
46- عمرو بن الحمق الخزاعي.
47- جابر بن عبد اللَّه الأنصاري.
48- محمّد بن أبي بكر.
49- أبان بن سعيد بن العاص.
50- زيد بنصوحان العبدي.
هؤلاء خمسون صحابياً من الطبقة الأُولى للشيعة، فمن أراد التفصيل والوقوف على حياتهم وتشيّعهم فليرجع إلى الكتب المؤلّفة في الرجال، ولكن بعين مفتوحة وبصيرة نافذة.
في الختام نورد ما ذكره محمّد كرد عليّ في كتابه «خطط الشام» قال: عرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة عليّ في عصر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله مثل سلمان الفارسي القائل: بايعنا رسول اللَّه على النصح للمسلمين والائتمام بعليّ بن أبي طالب والموالاة له.
ومثل أبي سعيد الخدري الذي يقول: أُمر الناس بخمس فعملوا بأربع وتركوا واحدة، ولمّا سئل عن الأربع، قال: الصلاة، والزكاة، وصوم شهر رمضان، والحجّ.
قيل: فما الواحدة التي تركوها؟
قال: ولاية عليّ بن أبي طالب.
قيل له: وإنّها لمفروضة معهنّ؟
قال: نعم هي مفروضة معهنّ.
ومثل أبي ذر الغفاري، وعمّار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وذي الشهادتين
ص:29
خزيمة بن ثابت، وأبي أيّوب الأنصاري، وخالد بن سعيد، وقيس بن سعد بن عبادة «(1)».
إنّ لفيفاً من علماء الإمامية ومفكّريها قاموا بإفراد العديد من المؤلّفات القيّمة والتي تناولت في متونها بالشرح والتفصيل ما يتعلّق بروّاد التشيع الأوائل ودورهم في تثبيت الأركان العقائدية للفكر الإسلامي الناصع، نذكر في هذا المقام ما وقفنا عليه:
1-صدر الدين السيّد عليّ المدني الحسيني الشيرازي،صاحب كتاب سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر، وأنوار الربيع في علم البديع، وطراز اللغة، توفّي عام (1120 ه) أفرد تأليفاً في ذلك المجال أسماه ب «الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة الإمامية» خصَّ الطبقة الأُولى بالصحابة الشيعة، وخصَّص الباب الأوّل لبني هاشم من الصحابة، والباب الثاني في غيرهم منهم. وقام في الباب الأوّل بترجمة (23)صحابيّاً من بني هاشم لم يفارقوا عليّاً قط، كما قام في الباب الثاني بترجمة (46)صحابيّاً «(2)».
2- ذكر الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء في كتابه «أصل الشيعة وأُصولها» أسماء جماعة من الصحابة الذين كانوا يشايعون عليّاً في حلّه وترحاله وقال- معلقاً على قول أحمد أمين الكاتب المصري: «والحقّ أنّ التشيع كان مأوى يرجع إليه كل من أراد هدم الإسلام»-:
ونحن لولا محافظتنا على مياه الصفاء أن لا تتعكّر، ونيران البغضاء أن لا
ص:30
تتسعّر، وأن تنطبق علينا حكمة القائل: «لا تنه عن خلق وتأتي مثله» لعرّفناه من الذي يريد هدم قواعد الإسلام بمعاول الإلحاد والزندقة، ومن الذي يسعى لتمزيق وحدة المسلمين بعوامل التقطيع والتفرقة، ولكنّا نريد أن نسأل ذلك الكاتب: أيّ طبقة من طبقات الشيعة أرادت هدم الإسلام؟ هل الطبقة الأُولى وهم أعيانصحابة النبيّ وأبرارهم كسلمان المحمّدي أو الفارسي، وأبي ذر، والمقداد، وعمّار، وخزيمة ذي الشهادتين، وابن التيهان، وحذيفة ابن اليمان، والزبير، والفضل بن العبّاس، وأخيه الحبر عبد اللَّه، وهاشم بن عتبة المرقال، وأبي أيّوب الأنصاري، وأبان وأخيه خالد بن سعيد بن العاص، وأُبيّ بن كعب سيد القرّاء، وأنس بن الحرث بن نبيه، الذي سمع النبيّ يقول: «إنّ ابني الحسين يقتل في أرض يقال لها كربلاء، فمن شهد ذلك منكم فلينصره» فخرج أنس وقتل مع الحسين راجع الإصابة والاستيعاب وهما من أوثق ما ألّف علماءُ السنّة في تراجم الصحابة، ولو أردت أن أعدّ عليك الشيعة من الصحابة وإثبات تشيّعهم من نفس كتب السنّة لأحوجني ذلك إلى إفراد كتاب ضخم «(1)».
3- كما أنّ الإمام السيّد عبد الحسين شرف الدين (1290- 1377 ه) قام بجمع أسماء الشيعة في الصحابة حسب حروف الهجاء، وقال: وإليك- إكمالًا للبحث- بعض ما يحضرني من أسماء الشيعة من أصحاب رسول اللَّه لتعلم أنّ بهم اقتدينا، وبهديهم اهتدينا، وسأُفرد لهم- إن وفّق اللَّه- كتاباً يوضّح للناس تشيّعهم، ويحتوي على تفاصيل شؤونهم، ولعلّ بعض أهل النشاط من حملة العلم وسدنة الحقيقة يسبقني إلى تأليف ذلك الكتاب، فيكون لي الشرف إذ خدمته بذكر أسماء بعضهم في هذا الباب وهي على ترتيب حروف الهجاء.
ثمّ ابتدأ بأبي رافع القبطي مولى رسول اللَّه، وختمهم بيزيد بن حوثرة
ص:31
الأنصاري، ولم يشر إلى شي ء من حياتهم، وإنّما ألقى ذلك على الأمل أو على من يسبقه من بعض أهل النشاط.
إلّا أنّه رحمه اللَّه ذكر ما يربو على المائتين من أسمائهم «(1)».
4- قام الخطيب المصقع الدكتور الشيخ أحمد الوائلي «حفظه اللَّه» بذكر أسماء روّاد التشيّع في عصر الرسول في كتابه «هويّة التشيّع» فجاء بأسماء مائة وثلاثين من خُلَّص أصحاب الإمام من الصحابة الكرام، وقال بعد ذكره لتنويه النبيّ باستخلاف عليّ في غير واحد من المواقف:
ولا يمكن أن تمرّ هذه المواقف والكثير الكثير من أمثالها من دون أن تشد الناس لعليّ، ودون أن تدفعهم للتعرف على هذا الإنسان الذي هو وصيّ النبيّ، ثمّ لابدّ للمسلمين من إطاعة الأوامر التي وردت في النصوص، والالتفاف حول من وردت فيه. ذلك معنى التشيّع الذي نقول إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله هو الذي بذر بذرته، وقد أينعت في حياته، وعرف جماعة بالتشيّع لعليّ والالتفاف حوله، وللتدليل على ذلك سأذكر لك أسماء الرعيل الأوّل من الصحابة الذين عرفوا بتشيّعهم للإمام عليّ «(2)».
5- آخرهم وليس أخيرهم كاتب هذه السطور حيث قام مجيباً دعوة السيّد شرف الدين فألّف كتاباً باسم «الشخصيات الإسلامية» في ذلك المجال في عدّة أجزاء، طُبع منه جزءان، وانتهينا في الجزء الثاني إلى ترجمة أبي ذر (جندب بن جنادة) ذلك الصحابي العظيم، والكتاب باللغة الفارسية، ونقله إلى العربية الشيخ المحقّق البارع جعفر الهادي وطبع ونشر.
وأخيراً فإنّ من أراد أن يقف بشكل جليّ على روّاد التشيّع في كتب الرجال لأهل السنّة فإنّ هذا الأمر ليس بمتعسّر ولا بممتنع، والتي يمكننا الإشارة إلى البعض
ص:32
منها أمثال:
1- الاستيعاب لابن عبد البرّ (ت 456 ه).
2- أُسد الغابة للجزري (ت 606 ه).
3- الإصابة لابن حجر (ت 852 ه).
وغير ذلك من أُمّهات كتب الرجال المعروفة.
ص:33
الشيعة في العصرين: الأُمويّ والعباسيّ
لا نأتي بجديد إذا ذهبنا إلى القول بأنّ الهجمة الشرسة التي كانت تستهدف استئصال الشيعة والقضاء عليهم قد أخذت أبعاداً خطيرة ودامية أبان الحكمين الأُموي و العباسي، فما أن لبّى الإمام دعوة ربّه في ليلة الحادي و العشرين من رمضان على يد أشقي الأوّلين و الآخرين، شقيق عاقر ناقة ثمود، وهو يصلّي في محراب عبادته، حتّى شرع أعداء الإمام وخصوم التشيّع إلى التعرّض الصريح بالقتل و التشريد لأنصار هذا المذهب و المنتسبين إليه، وإذا كان استشهاد الإمام علي يؤلّف في حدّ ذاته ضربة قاصمة في هيكلية البناء الإسلامي، إلّاأنّ هذا لم يمنع البعض ممّن وقفوا موقفاً باطلًا ومنحرفاً من الإمام عليّ في حياته من التعبير عن سرورهم من هذا الأمر الجلل، كما نقل ذلك ابن الأثير عن عائشة زوجة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله حيث قالت عندما وصلها النبأ:
فألقت عصاها واستقرّ بها النوى كما قرّ عيناً بالإياب المسافرُ
ثمّ قالت: من قتله، فقيل: رجل من مراد، فقالت:
فإن يك نائياً فلقد نعاهُ نعيُّ ليس في فيه الترابُ
فقالت زينب بنت أبي سلمة: أتقولين هذا لعليّ؟ فقالت: إنّي أنسى، فإذا نسيت فذكّروني...!! «(1)».
أمّا معاوية فلا مناص من القول بأنّه أكثر المستبشرين بهذا الأمر، حيث إنّه قال لمّا بلغه: إنّ الأسد الذي كان يفترش ذراعيه في الحرب قد قضى نحبه.
ثمّ أنشد:
قل للأرانب ترعى أينما سرّحت وللظباء بلا خوف و لا وجلِ «(2)»
في الجانب الآخر نرى أنّ الإمام الحسن الابن الأكبر للإمام عليّ ووارثه ينعى أباه بقوله في مسجد الكوفة: «ألا إنّه قد مضي في هذه الليلة، رجل لم يدركه الأوّلون، ولن يري مثله الآخرون. من كان يقاتل وجبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله. واللَّه لقد توفّي في هذه الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران، ورفع فيها عيسى بن مريم، وأُنزل القرآن. ألا وإنّه ما خلّفصفراء ولا بيضاء إلّا سبعمائة درهم فضلت من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله» «(3)».
ثمّ بويع الحسن في نهاية خطبته، وكان أوّل من بايعه قيس بن سعد الأنصاري، ثم تتابع الناس على بيعته، وكان أمير المؤمنين قد بايعه أربعون ألفاً من عسكره على الموت. فبينما هو يتجهّز للمسير قُتل عليه السلام. فبايع هؤلاء ولده الحسن، فلمّا بلغهم مسير معاوية في أهل الشام إليه، تجهّز هو و الجيش الذين كانوا قد بايعوا
ص:34
ص:35
عليّاً. وسار عن الكوفة إلى لقاء معاوية «(1)».
بيد إنّ الأُمور لم تستقم للإمام الحسن لجملة من الأسباب المعروفة، أهمّها تخاذل أهل العراق أوّلًا، وكون الشيوخ الذين بايعوا عليّاً و التفّوا حوله كانوا من عبدة الغنائم و المناصب، ولم يكن لهؤلاء نصيب في خلافة الحسن إلّاما كان لهم عند أبيه من قبل ثانياً. وإنّ عدداً غير قليل ممّن بايع الحسن كانوا من المنافقين، يراسلون معاوية بالسمع والطاعة ثالثاً. كما أنّ قسماً من جيشه كانوا من الخوارج أو أبنائهم رابعاً. إلى غير ذلك من الأسباب التي دفعت الإمام إلى قبول الصلح مع معاوية تحت شروط خاصّة تضمن لشيعة عليّ الأمن والأمان، إلّاأنّ معاوية وبعد أن وقّع علىصلحه مع الإمام الحسن لم يتردد من الإعلان عن سريرته بكلصراحة ووضوح على منبر الكوفة: إنّي واللَّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا- وإنّكم لتفعلون ذلك- ولكن قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني اللَّه ذلك وأنتم له كارهون، ألا وإنّي قد كنت منَّيتُ الحسن أشياء، وجميعها تحت قدمي لا أفي بشى ء منها له «(2)».
وكان ذلك التصريح الخطير، والمنافي لأبسط مبادئ الشريعة الإسلامية، يمثل الإعلان الرسمي لبدء الحملة الشرسة والمعلنة لاستئصال شيعة علي و أنصاره تحت كلّ حجر ومدر. وتوالت المجازر تترى بعد معاوية إلى آخر عهد الدولة الأُمويّة، فلم يكن للشيعة في تلك الأيّام نصيب سوى القتل والنفي والحرمان. وهذا هو الذي نستعرضه في هذا الفصل على وجه الإجمال، حتّى يقف القارئ على أنّ بقاء التشيّع في هذه العصور المظلمة كان معجزة من معاجز اللَّه سبحانه، كما يتوضّح له مدى الدور الخطير الذي لعبه الشيعة في الصمود والكفاح والردّ على الظلمة
ص:36
وأعوانهم منذ عصر الإمام إلى يومنا هذا. وإليك بعض الوثائق من جرائم معاوية.
«أمّا بعد فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي أُمور لم تكن تظنّني بها رغبة بي عنها، وأنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدّد إليها إلّا اللَّه تعالى، وأمّا ما ذكرت أنّه رمي إليك عنّي، فإنّما رقّاه الملّاقون المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الجمع، وكذب الغاوون المارقون، ما أُريد لك حرباً ولا خلافاً، وإنّي لأخشى اللَّه في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين حزب الظلمة وأعوان الشيطان الرجيم. ألست قاتل حجر وأصحابه العابدين- إلى أن قال- أو لست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك في زياد أنّه على دين عليّ كرّم اللَّه وجهه، ودين عليّ هو دين ابن عمّهصلى الله عليه و آله الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين: رحلة الشتاء والصيف، فوضعها اللَّه عنكم بنا منّة عليكم، وقلت فيما قلت: لا تردنّ هذه الأُمّة في فتنة وإنّي لا أعلم لها فتنة أعظم من إمارتك عليها، وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك ولأُمّة محمّد. وإنّي واللَّه ما أعرف فضلًا من جهادك، فإن أفعل فإنّه قربة إلى ربّي، وإن لم أفعله فأستغفر اللَّه لديني. وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى، وقلت فيما قلت: متى تكدني أكدك، فكدني يا معاوية ما بدا لك، فلعمري لقديماً يكاد الصالحون وإنّي لأرجو أن لا تضرّ إلّانفسك ولا تمحق إلّاعملك فكدني ما بدا لك، واتّق اللَّه يا معاوية، واعلم أنّ للَّه كتاباً لا يغادرصغيرة ولا كبيرة إلّاأحصاها، واعلم أنّ اللَّه ليس بناسٍ لك قتلك
ص:37
بالظنّة، وأخذك بالتهمة، وإمارتكصبيّاً يشرب الشراب ويلعب بالكلاب، ما أراك إلّاقد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعيّة و السلام» «(1)».
ولعلّ المتأمل في جوانب هذه الرسالة والمتدبّر لمفرداتها يدرك وبوضوح مدى الدور المنحرف الذي وقفه الأُمويّون وعلى رأسهم معاوية في محاربة أنصار مذهب التشيّع وروّاده، كما تتوضح له الصورة عن حجم المحنة التي مرّ بها الشيعة إبّان تلك الحقبة الزمنية.
ولكي تتوضّح الصورة في ذهن القارئ الكريم ندعوه إلى قراءة رسالة الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام لأحد أصحابه، حيث قال:
«إنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش حتّى أخرجت الأمر عن معدنه واحتجّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا. ثمّ تداولتها قريش، واحد بعد واحد، حتّى رجعت إلينا، فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا، ولم يزلصاحب الأمر فيصعود كؤود حتّى قتل، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثمّ غدر به وأُسلم ووثب عليه أهل العراق حتّى طعن بخنجر في جنبه، ونهبت عسكره، وعولجت خلاخيل أُمّهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته، وهم قليل حقّ قليل. ثم بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفاً، ثمّ غدروا به، وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم وقتلوه.
ثمّ لم نزل- أهل البيت- نستذلّ ونستضام، ونقصى ونمتهن، ونحرم
ص:38
ونقتل، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كل بلدة، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنّا ما لم نقله ولم نفعله، ليبغّضونا إلى الناس، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن عليه السلام، فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله، أو هدمت داره، ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان عبيداللَّه بن زياد قاتل الحسين عليه السلام ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كلّ قتلة، وأخذهم بكل ظنّة وتهمة، حتّى أنّ الرجل ليقال له: زنديق أو كافر، أحبّ إليه من أن يقال: شيعة عليّ، وحتّىصار الرجل الذي يذكر بالخير- ولعلّه يكون ورعاًصدوقاً- يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة، من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ولم يخلق اللَّه تعالى شيئاً منها، ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من قد رواها ممّن لم يعرف بكذب ولا بقلّة ورع» «(1)».
بل وإليك ما أورده ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة:
كان سعد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس من شيعة عليّ بن أبي طالب، فلمّا قدم زياد الكوفة والياً عليها أخافه فطلبه زياد، فأتى الحسن بن عليّ، فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته، فحبسهم وأخذ ماله وهدم داره، فكتب الحسن إلى زياد: «من الحسن بن عليّ إلى زياد، أمّا بعد: فإنّك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم، وعليه ما عليهم، فهدمت داره وأخذت ماله وعياله
ص:39
فحبستهم، فإذا أتاك كتابي هذا، فابن له داره، واردد عليه عياله وماله، فانّي قد أجرته فشفّعني فيه».
فكتب إليه زياد: من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة، أمّا بعد: فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة، وأنا سلطان وأنت سوقة، وتأمرني فيه بأمر المطاع المسلط على رعيّته كتبت إليّ في فاسق آويته إقامة منك على سوء الرأي و رضاً منك بذلك، وأيم اللَّه لا تسبقني به ولو كان بين جلدك ولحمك، وإن نلت بعضك فغير رفيق بك ولا مرع عليك، فإنّ أحبّ لحم عليَّ أن آكله اللّحم الذي أنت منه، فسلّمه بجريرته إلى من هو أولى به منك، فإن عفوت عنه لم أكن شفّعتك فيه، وإن قتلته لم أقتله إلّالحبّه أباك الفاسق، والسلام» «(1)».
«كان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصره يحرّضهم على لعن عليّ أو البراءة منه، فملأ منهم المسجد والرحبة، فمن أبى ذلك عرضه على السيف» «(2)».
وعن المنتظم لابن الجوزي: أنّ زياداً لمّا حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم، وهمّ أن يخرب دورهم ويحرق نخلهم، فجمعهم حتّى ملأ بهم المسجد والرحبة يعرضهم على البراءة من عليّ، وعلم أنّهم سيمتنعون، فيحتجّ بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم «(3)».
روى أبو الحسن عليّ بن محمّد بن أبي سيف المدائني في كتاب «الأحداث» قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة!!: «أن برأت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته» فقامت الخطباء في كلّ كورة، وعلى كلّ
ص:40
منبر، يلعنون عليّاً ويبرأون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة عليّ عليه السلام فاستعمل عليها زياد بن سميّة، وضمّ إليه البصرة، فكان يتبع الشيعة وهو بهم عارف، لأنّه كان منهم أيّام عليّ عليه السلام، فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم.
وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: ألّا يجيزوا لأحد من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته.
ففعلوا ذلك، حتّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء و الحباء و القطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كلّ مصر، وتنافسوا في المنازل و الدنيا، فليس يجي ء أحد مردود من الناس عاملًا من عمّال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلّاكتب اسمه وقرّبه وشفّعه. فلبثوا بذلك حيناً.
ثمّ كتب إلى عمّاله: إنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلّا وتأتوني بمناقض له في الصحابة؛ فإنّ هذا أحبّ إلىّ وأقرّ لعيني، وأدحض لحجّة أبي تراب و شيعته، وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله!!
فقرأت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لاحقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتّى أشادوا بذكر ذلك على
ص:41
المنابر، وأُلقي إلى معلّمي الكتاتيب، فعلّمواصبيانهم و غلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتّى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتّى علّموه بناتهم و نساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء اللَّه.
ثمّ كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه. وشفع ذلك بنسخة أُخرى: من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكّلوا به، واهدموا داره.
فلم يكن بلد أشدّ بلاءً من العراق، ولا سيّما الكوفة، حتّى أنّ الرجل من شيعة عليّ عليه السلام ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدّثه حتّى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنّ عليه. فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء والمراؤون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويتقرّبوا من مجالسهم، ويصيبوا الأموال والضياع والمنازل، حتّى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها، وهم يظنّون أنّها حقّ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها، ولا تديّنوا بها.
وقال ابن أبي الحديد: فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن عليّ عليه السلام فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلّاوهو خائف على دمه، أو طريد في الأرض.
ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين عليه السلام وولّي عبد الملك بن مروان، فاشتدّ على الشيعة، وولّي عليهم الحجّاج بن يوسف، فتقرّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض عليّ وموالاة أعدائه، وموالاة من يدّعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من الغضّ من
ص:42
عليّ عليه السلام وعيبه، والطعن فيه، والشنآن له، حتى أنّ إنساناً وقف للحجّاج- ويقال إنّه جدّ الأصمعي عبد الملك بن قريب- فصاح به: أيّها الأمير انّ أهلي عقّوني فسمّوني علياً، وانّي فقير بائس، وأنا إلىصلة الأمير محتاج. فتضاحك له الحجّاج، وقال: للطف ما توسّلت به، قد ولّيتك موضع كذا.
وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه- وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم- في تأريخه ما يناسب هذا الخبر، قال: إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني أُميّة تقرّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به أُنوف بني هاشم «(1)».
لعلّ المرء يصاب بالذهول وهو يتأمّل أسماء الصحابة والتابعين ذوي المنازل الرفيعة والمكانة السامية و الدور الجليل في خدمة الإسلام وأهله، كيف سقطواصرعى بسيف الأُمويّين لا لشي ءٍ إلّالأنّهم شيعة عليّ عليه السلام، ومن هؤلاء:
1- حجر بن عديّ: الذي قبض عليه زياد بعد هلاك المغيرة سنة (51 ه) وبعثه مع أصحابه إلى الشام بشهادة مزوّرة، وفرية ظالمة، كان يراد منها قتله وتوجيه ضربة قوية لشيعة عليّ وتصفيتهم.
يقول المسعودي:
«في سنة ثلاث وخمسين قتل معاوية حجر بن عديّ الكندي- وهو أوّل من قتلصبراً في الإسلام- وحمله زياد من الكوفة ومعه تسعة نفر من أصحابه من أهل الكوفة وأربعة من غيرها، فلمّاصار على أميال من الكوفة يراد به دمشق
ص:43
أنشأت ابنته تقول- ولا عقب له من غيرها-:
ترفّع أيّها القمر المنير لعلّك أن ترى حجراً يسير
يسير إلى معاوية بن حرب ليقتله، كذا زعم الأمير
ويصلبه على بابي دمشق وتأكل من محاسنه النسور
ثمّ قتله مع أصحابه في مرج عذراء «(1)» بصورة بشعة يندى لها الجبين، وهي مذكورة في جميع كتب التأريخ، فراجع.
2- عمرو بن الحمق: ذلك الصحابي العظيم الذي وصفه الإمام الحسين سيّد الشهداء بأنّه: «أبلت وجهه العبادة». قتله معاوية بعدما أعطاه الأمان «(2)».
3- مالك الأشتر: ملك العرب، وأحد أشرف رجالاتها وأبطالها، كان شهماً مطاعاً وكان قائد القوات العلوية. قتله معاوية بالسمّ في مسيره إلى مصر بيد أحد عمّاله «(3)».
4- رشيد الهجري: كان من تلاميذ الإمام وخواصّه، عرض عليه زياد البراءة واللعن فأبى، فقطع يديه ورجليه ولسانه، وصلبه خنقاً في عنقه «(4)».
5- جويرية بن مسهر العبديّ: أخذه زياد وقطع يديه ورجليه وصلبه على جذع نخلة «(5)».
6- قنبر مولى أمير المؤمنين: روي أن الحجّاج قال لبعض جلاوزته: أُحبّ أن أُصيب رجلًا من أصحاب أبي تراب فقالوا: ما نعلم أحداً كان أطولصحبة له من
ص:44
مولاه قنبر. فبعث في طلبه، فقال له: أنت قنبر؟ قال: نعم، قال له: ابرأ من دين عليّ، فقال له: هل تدلّني على دين أفضل من دينه؟ قال: إنّي قاتلك فاختر أيّ قتلة أحبّ إليك، قال: أخبرني أمير المؤمنين: أنّ ميتتي تكون ذبحاً بغير حقّ. فأمر به فذبح كما تذبح الشاة «(1)».
7- كميل بن زياد: وهو من خيار الشيعة وخاصّة أمير المؤمنين، طلبه الحجّاج فهرب منه، فحرم قومه عطاءهم، فلمّا رأى كميل ذلك قال: أنا شيخ كبير وقد نفد عمري ولا ينبغي أن أكون سبباً في حرمان قومي. فاستسلم للحجّاج، فلمّا رآه قال له: كنت أحبُّ أن أجد عليك سبيلًا، فقال له كميل:
لا تبرق ولا ترعد، فواللَّه ما بقي من عمري إلّامثل الغبار، فاقض فإنّ الموعد اللَّه عزّ وجلّ، وبعد القتل الحساب. وقد أخبرني أمير المؤمنين أنّك قاتلي، فقال الحجّاج: الحجّة عليك إذن، فقال: ذلك إن كان القضاء لك، قال: بلى، اضربوا عنقه «(2)».
8- سعيد بن جبير: التابعي المعروف بالعفّة والزهد والعبادة، وكان يصلّي خلف الإمام زين العابدين، فلمّا رآه الحجّاج قال له: أنت شقي ابن كسير، فقال:
أُمّي أعرف باسمي منك. ثم بعد أخذ وردّ أمر الحجاج بقتله، فقال سعيد: وجّهتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السمّواتِ وَالأرضَ حنيفاً- مسلماً- وما أنا مِنَ المشركين «(3)»
.
فقال الحجّاج: شدّوه إلى غير القبلة، فقال: أينما تولّوا فثمَّ وَجهُ اللَّه «(4)»
، فقال:
كبّوه على وجهه، قال: مِنْها خَلَقناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُم وَمِنْها نُخْرِجُكُم تارَة
ص:45
أُخرى «(1)»
. ثم ضربت عنقه «(2)».
وسيوافيك ما جرى على زيد بن عليّ من الصلب أيّام خلافة هشام بن عبدالملك عام (122 ه) عند الكلام عن فرقة الزيدية إن شاء اللَّه تعالى.
هذا غيض من فيض وقليل من كثير ممّا جناه الأُمويّون في حقّ الشيعة طوال فترة حكمهم وتولّيهم لدفّة الأُمور وزمام الحكم، وتاللَّه إنّ المرء ليصاب بالغثيان وهو يتأمّل هذه الصفحات السوداء التي لا تمحى من ذاكرة التاريخ وكيف لطّخت بالدماء الطاهرة المقدسة والتي أُريقت ظلماً وعدواناً وتجنّياً على الحقّ وأهله.
دار الزمان على بني أُميّة، وقامت ثورات عنيفة ضدّهم أثناء خلافتهم، إلى أن قضت على آخر ملوكهم (مروان الحمار): فَقُطِعَ دابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ للَّه رَبّ العالَمِينَ «(3)»
وامتطى ناصية الخلافة بعدهم العباسيون، والذين تسربلوا بشعار مظلومية أهل البيت للوصول إلى سدّة الخلافة وإزاحة خصومهم الأُمويين عنها، بيد أنّهم ما أن استقر بهم المقام وثبتت لهم أركانه حتّى انقلبوا كالوحوش الكاسرة في محاربتهم للشيعة وتشريدهم وتقتيلهم، فكانوا أسوأ من أسلافهم الأُمويين وأشدّ إجراماً، وللَّه درّ الشاعر حين قال:
واللَّه ما فعلت أُميّة فيهم معشار ما فعلت بنو العباسِ
1- كان أوّل من تولّى منهم أبو العباس السفّاح، بويع سنة (132 ه) ومات
ص:46
سنة (136 ه)، قضى وقته في تتبّع الأُمويّين والقضاء عليهم، وهو وإن لم يتعرّض للعلوّيين، لكنّه تنكّر لهم و لشيعتهم، بل وأوعز إلى الشعراء أن يتعرّضوا لأولاد عليّ وأهل بيته في محاولة مدروسة للنيل من منزلتهم وتسفيه الدعوة المطالبة بإيكال أمر الخلافة الإسلامية إليهم. هذا محمّد أحمد براق يقول في كتابه «أبو العباس السفاح»: «إنّ أصل الدعوة كان لآل عليّ؛ لأنّ أهل خراسان كان هواهم في آل عليّ لا آل العباس، لذلك كان السفّاح ومن جاء بعده مفتّحة عينوهم لأهل خراسان حتّى لا يتفشّى فيهم التشيّع لآل عليّ... وكانوا يستجلبون الشعراء ليمدحوهم، فيقدّمون لهم الجوائز، وكان الشعراء يعرّضون بأبناء عليّ وينفون عنهم حقّ الخلافة؛ لأنّهم ينتسبون إلى النبيّ عن طريق ابنته فاطمة، أمّا بنو العباس فإنّهم أبناء عمومة» «(1)».
2- ثمّ جاء بعده أبو جعفر المنصور، وبالرغم ممّا أُثير حوله من منزلة ومكانة وذكاء، إلّاأنّ في ذلك مجافاة عظيمة للحقّ وابتعاداً كبيراً عن جادّة الصواب، نعم حقّاً إنّ هذا الرجل قد ثبّت أركان دولته وأقام لها أُسساً قويةصلبة، إلّاأنّه أسرف كثيراً في الظلم والقسوة والإجرام بشكل ملفت للأنظار، ويكفي للإلمام بجرائمه وقسوته ما كتبه ابن عبد ربّه في العقد الفريد عن ذلك حيث قال:
إنّ المنصور كان يجلس ويُجلس إلى جانبه واعظاً، ثمّ تأتي الجلاوزة في أيديهم السيوف يضربون أعناق الناس، فإذا جرت الدماء حتّى تصل إلى ثيابه، يلتفت إلى الواعظ ويقول: عظني فإذا ذكّره الواعظ باللَّه، أطرق المنصور كالمن كسر ثمّ يعود الجلاوزة إلى ضرب الأعناق، فإذا ما أصابت الدماء ثياب المنصور ثانياً قال لواعظه: عظني!! «(2)».
ص:47
فماذا يا ترى يريد المنصور من قوله للواعظ: عظني، وماذا يعني بإطراقه بعد ذلك وسكوته، هل يريد الاستهزاء بالدين الذي نهى عن قتل النفس وسفك الدماء، أو يريد شيئاً آخر؟! وليت شعري أين كان المؤرّخون وأصحاب الكلمات الصادقة المنصفة من هذه المواقف المخزية التي تقشعر لها الأبدان، وهم يتحدّثون عن هذا الرجل الذي ما آلوا يشيدون بذكره ويمجّدون بأعماله، وهلّا تأمّل القرّاء في سيرة هذا الرجل ليدركوا ذلك الخطأ الكبير.
بلى إنّ هذا الرجل أسرف في القتل كثيراً، وكان للعلويين النصيب الأكبر، وحصّة الأسد من هذا الظلم الكبير.
يقول المسعودي: جمع المنصور أبناء الحسن، وأمر بجعل القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم، وحملهم في محامل مكشوفة وبغير وطاء، تماماً كما فعل يزيد بن معاوية بعيال الحسين. ثمّ أودعهم مكاناً تحت الأرض لا يعرفون فيه الليل من النهار، وأُشكلت أوقات الصلاة عليهم، فجزَّأوا القرآن خمسة أجزاء، فكانوا يصلّون على فراغ كلّ واحد من حزبه، وكانوا يقضون الحاجة الضرورية في مواضعهم، فاشتدّت عليهم الرائحة، وتورّمت أجسادهم، ولا يزال الورم يصعد من القدم حتّى يبلغ الفؤاد، فيموتصاحبه مرضاً وعطشاً وجوعاً «(1)».
وقال ابن الأثير: دعا المنصور محمّد بن عبد اللَّه العثماني، وكان أخاً لأبناء الحسن من أُمّهم، فأمر بشقّ ثيابه حتّى بانت عورته، ثمّ ضرب مائة وخمسون سوطاً، فأصاب سوط منها وجهه فقال: ويحك اكفف عن وجهي، فقال المنصور للجلّاد: الرأس الرأس، فضربه على رأسه ثلاثين سوطاً، وأصاب إحدى عينيه فسالت على وجهه، ثمّ قتله- ثمّ ذكر-: وأحضر المنصور محمّد بن إبراهيم بن الحسن، وكان أحس الناسصورة، فقال له: أنت الديباج الأصفر، لأقتلنّك قتلة
ص:48
لم أقتلها أحداً، ثمّ أمر به، فبني عليه أُسطوانة وهو حيّ، فمات فيها «(1)».
3- ثمّ ولي بعده المهدي ولد المنصور، وبقي في الحكم من سنة (158 ه) إلى سنة (169 ه) وكفى في الإشارة إلى ظلمه للعلويّين، أنّه أخذ علي بن العبّاس بن الحسن ابن عليّ بن أبي طالب، فسجنه فدّس إليه السمّ فتفسّخ لحمه وتباينت أعضاؤه.
4- ولمّا هلك المهدي بويع ولده الهادي، وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر، سار فيها على سيرة من سبقه في ظلم العلويين والتضييق عليهم، وكفى في الإشارة إلى ذلك ما ذكره أبو الفرج الإصبهاني في مقاتل الطالبيين حيث قال:
إنّ أُمّ الحسينصاحب فخ هي زينب بنت عبد اللَّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، قتل المنصور أباها وأُخوتها وعمومتها وزوجها عليّ بن الحسن، ثمّ قتل الهادي حفيد المنصور ابنها الحسين، وكانت تلبس المسوح على جسدها، لا تجعل بينها وبينه شيئاً حتّى لحقت باللَّه عزّ وجلّ «(2)».
5- ثمّ تولّى بعده الرشيد سنة (170 ه) ومات (193 ه) وكان له سجّل أسود في تعامله مع الشيعة تبلورت أوضحصوره فيما لاقاه منه الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، وهو ما سنذكره لاحقاً إن شاء اللَّه تعالى، وإليك واحدة من تلك الأفعال الدامية التي سجّلها له التأريخ ورواها الإصبهاني عن إبراهيم بن رباح، قال: إنّ الرشيد حين ظفر بيحيى بن عبد اللَّه بن الحسن، بنى عليه أُسطوانة وهو حيّ، وكان هذا العمل الإجرامي موروثاً من جدّه المنصور «(3)».
6- ثمّ جاء بعده ابنه الأمين، فتولّى الحكم أربع سنين وأشهراً، يقول أبوالفرج: كانت سيرة الأمين في أمر آل أبي طالب خلاف من تقدّم لتشاغله بما كان
ص:49
فيه من الله و ثمّ الحرب بينه وبين المأمون، حتّى قتل فلم يحدث على أحد منهم في أيّامه حدث.
7- وتولّى الحكم بعده المأمون، و كان من أقوى الحكّام العباسيّين بعد أبيه الرشيد. فلمّا رأى المأمون إقبال الناس على العلويّين وعلى رأسهم الإمام الرضا، ألقى عليه القبض بحيلة الدعوة إلى بلاطه، ثمّ دسّ اليه السمّ فقتله.
8- مات المأمون سنة (210 ه) وجاء إلى الحكم ابنه المعتصم فسجن محمّد بن القاسم بن عليّ بن عمر بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب إلّا أنّه استطاع الفرار من سجنه.
9- ثمّ تولى الحكم بعده الواثق الذي قام بسجن الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام ودسّ له السمّ بيد زوجته الأثيمة أُمّ الفضل بنت المأمون.
10- وولي الحكم بعد الواثق المتوكّل، وإليك نموذجاً من حقده على آل البيت وهو ما ذكره أبو الفرج قال: كان المتوكّل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظاً في جماعتهم، شديد الغيظ والحقد عليهم، وسوء الظنّ والتهمة لهم. واتّفق له أنّ عبيد اللَّه بن يحيى بن خاقان وزيره يسي ء الرأي فيهم، فحسَّن له القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله، وكان من ذلك أن كرب «(1)» قبر الحسين وعفّى آثاره، ووضع على سائر الطرق مسالح له لا يجدون أحداً زاره إلّاأتوه به وقتله أو أنهكه عقوبة.
وقال: بعث برجل من أصحابه (يقال له الديزج وكان يهودياً فأسلم) إلى قبر الحسين وأمره بكرب قبره ومحوه وإخراب ما حوله، فمضي ذلك فخرّب ما حوله، وهدم البناء وكرب ما حوله مائتي جريب، فلمّا بلغ إلى قبره لم يتقدّم إليه أحد، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه، وأجرى الماء حوله، ووكل به مسالحَ، بين كلّ
ص:50
مسلحتين ميل، لا يزوره زائر إلّاأخذوه ووجّهوا به إليه.
وقال أيضاً: حدّثني محمّد بن الحسين الأشناني: بَعُدَ عهدي بالزيارة في تلك الأيّام، ثمّ عملت على المخاطرة بنفسي فيها، وساعدني رجل من العطّارين على ذلك، فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل، حتى أتينا نواحي الغاضريّة، وخرجنا نصف الليل، فصرنا بين مسلحتين، وقد ناموا، حتى أتينا القبر فخفي علينا، فجعلنا نشمّه (نتسمه خ ل) ونتحرّى جهته حتّى أتيناه، وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه، وأُحرق وأُجري الماء عليه، فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق، فزرناه وأكببنا عليه- إلى أن قال:- فودّعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدّة مواضع، فلمّا قتل المتوكّل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتّىصرنا إلى القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه.
وقال أيضاً: واستعمل على المدينة ومكّة عمر بن الفرج، فمنع آل أبي طالب من التعرّض لمسألة الناس ومنع الناس من البرّ بهم، وكان لا يبلغه أنّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشي ء وإن قلّ إلّاأنهكه عقوبة، وأثقله غرماً، حتّى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة، ثمّ يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر، إلى أن قتل المتوكّل فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم بمال فرّقه بينهم، وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادّة مذهبه «(1)».
11- وولّي بعده المنتصر ابنه، وظهر منه الميل إلى أهل البيت وخالف أباه- كما عرفت- فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه فيما بلغنا.
وأوّل ما أحدثه انّه لمّا ولّي الخلافة عزلصالح بن عليّ عن المدينة، وبعث عليّ بن الحسين مكانه فقال له- عند الموادعة-: يا عليّ إنّي أُوجّهك إلى لحمي ودمي فانظر كيف تكون للقوم، وكيف تعاملهم- يعني آل أبي طالب- فقلت:
ص:51
أرجو أن أمتثل رأي أمير المؤمنين- أيّده اللَّه- فيهم، إن شاء اللَّه. قال: إذاً تسعد بذلك عندي «(1)».
12- وقام بعده المستعين بالأمر، فنقض كلّما غزله المنتصر من البرّ والإحسان، ومن جرائمه أنّه قتل يحيى بن عمر بن الحسين، قال أبو الفرج:
وكان- رضي اللَّه عنه- رجلًا فارساً شجاعاً، شديد البدن، مجتمع القلب، بعيداً من رهق الشباب وما يعاب به مثله، ولمّا أُدخل رأسه إلى بغداد جعل أهلها يصيحون من ذلك إنكاراً له، ودخل أبو هاشم على محمّد بن عبد اللَّه بن طاهر، فقال: أيّها الأمير، قد جئتك مهنّئاً بما لو كان رسول اللَّه حيّاً يُعزّى به.
وأُدخل الأُسارى من أصحاب يحيى إلى بغداد ولم يكن فيما رؤي قبل ذلك من الأُسارى أحد لحقه ما لحقهم من العسف وسوء الحال، وكانوا يساقون وهم حفاة سوقاً عنيفاً، فمن تأخّر ضربت عنقه.
قال أبوالفرج: وما بلغني أنّ أحداً ممّن قتل في الدولة العباسيّة من آل أبي طالب رثي بأكثر ممّا رثي به يحيى، ولا قيل فيه الشعر بأكثر ممّا قيل فيه.
أقول: إنّ العباسيين قد أتوا من الجرائم التي يندى لها الجبين وتقشعرّ منها الجلود في حقّ الشيعة بحيث تغصّ بذكرها المجلّدات الكبيرة الواسعة، بل وفاقوا بأفعالهم المنكرة ما فعله الأُمويّون من قبل، وللَّه درّ الشاعر حيث قال:
تاللَّه إن كانت أُميّة قد أتت قتل ابن بنت نبيّها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيه بمثلها هذا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا في قتله فتتبّعوه رميما
ومن أراد أن يقف على سجلّ جرائم الدولتين (الأُموية والعباسية) وملفّ
ص:52
مظالمهم فعليه قراءة القصائد الثلاث التي نظمها رجال مؤمنون مخلصون، عرّضوا أنفسهم للمخاوف والأخطار طلباً لرضى الحقّ:
1- تائية دعبل الخزاعي الشهيد عام (246 ه)، فإنّها وثيقة تأريخية خالدة تعرب عن سياسة الدولتين تجاه أهل البيت عليهم السلام، وقد أنشدها الشاعر للإمام الرضا، فبكى وبكت معه النسوة.
أخرج الحموي عن أحمد بن زياد عن دعبل الخزاعي قال: أنشدت قصيدة لمولاي عليّ الرضا- رضي اللَّه عنه-:
مدارس آيات خلت من تلاوةٍ ومنزل وحي مقفر العرصاتِ
قال دعبل: ثمّ قرأت باقي القصيدة، فلمّا انتهيت إلى قولي:
خروج إمام لا محالة واقع يقوم على اسم اللَّه والبركاتِ
فبكى الرضا بكاءً شديداً.
ومن هذه القصيدة قوله:
هُمُ نقضوا عهد الكتاب وفرضه ومحكمه بالزور والشبهاتِ
تراث بلا قربى، وملك بلا هدى وحكم بلا شورى، بغير هداةِ
وفيها أيضاً قوله:
لآل رسول اللَّه بالخيف من منى وبالبيت والتعريف والجمراتِ
ديار عليّ والحسين وجعفر وحمزة والسجّاد ذي الثفناتِ
ديار عفاها كلّ جون مبادر ولم تعف للأيّام والسنواتِ
منازل كانت للصلاة وللتقى وللصوم والتطهير والحسناتِ
ص:53
منازل وحي اللَّه معدن علمه سبيل رشاد واضح الطرقاتِ
منازل وحي اللَّه ينزل حولها على أحمد الروحاتِ والغدواتِ
إلى أن قال:
ديار رسول اللَّه أصبحن بلقعا ودار زياد أصبحت عمراتِ
وآل رسول اللَّه غُلَّتْ رقابهم وآل زياد غُلّظُ القصراتِ
وآل رسول اللَّه تُدْمى نحورهم وآل زياد زيّنوا الحجلاتِ
وفيها أيضاً:
أفاطم لو خلت الحسين مجدّلًا وقد مات عطشاناً بشطّ فراتِ
إذاً للطمتِ الخدّ فاطم عنده وأجريت دمع العين في الوجناتِ
أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي نجوم سماوات بأرض فلاتِ «(1)»
2- ميميّة الأمير أبي فراس الحمداني (320- 357 ه)، و هذه القصيدة تعرف بالشافية، وهي من القصائد الخالدة، وعليها مسحة البلاغة، ورونق الجزالة، وجودة السرد، وقوّة الحجّة، وفخامة المعنى، أنشدها ناظمها لمّا وقف على قصيدة ابن سكرة العبّاسي التي مستهلّها:
بني عليّ دعوا مقالتكم لا يُنقص الدُّرَّ وضع من وضعه
قال الأمير في جوابه ميميّته المعروفة وهي:
الحقّ مهتضمٌ والدين مخترم وفي ء آل رسول اللَّه مقتسمُ
إلى أن قال:
يا للرجال أما للَّه منتصرٌ من الطغاة؟ أما للَّه منتقمُ؟
بنو علي رعايا في ديارهم والأمر تملكه النسوان والخدم! «(2)»
3- جيميّة ابن الرومي التي رثى بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد، ومنها:
أمامك فانظر أيّ نهجيك تنهج طريقان شتّى مستقيم وأعوج
ألا أي هذا الناس طال ضريركم بآل رسول اللَّه فاخشوا أو ارتَجُوا
أكلّ أوانٍ للنبيّ محمّد قتيل زكيّ بالدماء مضرّج «(3)»
وكم من الانصاف فيما كتبه الأصبهاني عن مدى العب ء الذي تحمله أهل البيت وشيعتهم من أجل كلمة الحق، وموقف الصدق، وما ترتّب على ذلك من تكالب لا يعرف الرحمة من قبل الحكومات الجائرة المتلاحقة للقضاء على هذا الوجود المقدّس واجتثاثه من أصله، حيث ذكر:
«ولا يعرف التأريخ أُسرة كأُسرة أبي طالب بلغت الغاية من شرف الأرومة، وطيب النجار، ضلّ عنها حقّها، وجاهدت في سبيل اللَّه حقّ الجهاد من الأعصار، ثمّ لم تظفر من جهادها المرير إلّابالحسرات، ولم تعقب من جهادها إلّاالعبرات، على ما فقدت من أبطال أسالوا نفوسهم في ساحة الوغى، راضية قلوبهم مطمئنة ضمائرهم، وصافحوا الموت في بسالة فائقة، وتلقّوه فيصبر جميل يثير في النفس الإعجاب والإكبار، ويشيع فيها ألوان التقدير والإعظام.
وقد أسرف خصوم هذه الأُسرة الطاهرة في محاربتها، وأذاقوها ضروب
ص:54
ص:55
النكال، وصبّوا عليهاصنوف العذاب، ولم يرقبوا فيها إلًاّ ولا ذمّةً، ولم يرعوا لها حقّاً ولا حرمة، وأفرغوا بأسهم الشديد على النساء والأطفال، والرجال جميعاً، في عنف لا يشوبه لين، وقسوة لا تمازجها رحمة، حتّى غدت مصائب أهل البيت مضرب الأمثال، في فظاعة النكال، وقد فجّرت هذه القسوة البالغة ينابيع الرحمة والمودّة في قلوب الناس، وأشاعت الأسف الممض في ضمائرهم، وملأت عليهم أقطار نفوسهم شجناً، وصارت مصارع هؤلاء الشهداء حديثاً يروى، وخبراً يتناقل، وقصصاً تقص، يجد فيها الناس إرضاء عواطفهم وإرواء مشاعرهم، فتطلّبوه وحرصوا عليه» «(1)».
نعم، لقد اقترن تأريخ الشيعة بأنواع الظلم والنكال، والقتل والتشريد، بحيث لم تشهده أيّ طائفة أُخرى من طوائف المسلمين. بلى، لم ير الأُمويّون ولا العباسيّون ولا الملوك الغزانوة ولا السلاجقة ولا من أتى بعدهم أيّ حرمة لنفوسهم وأعراضهم وعلومهم ومكتباتهم، فحين كان اليهود والنصارى يسرحون ويمرحون في أرض الإسلام والمسلمين، وقد كفل لهم الحكّام حرّيّاتهم باسم الرحمة الإسلامية، كان الشيعة يأخذون تحت كلّ حجر ومدر، ويقتلون بالشبهة والظنّة، وتشرّد أُسرهم، وتصادر أموالهم، ولا يجدون بدّاً من أن يخفوا كثيراً من عقائدهم خوف النكال والقتل، وبأيدي وقلوب نزعت منها الرحمة.
فلا تثريب إذن على الشيعي أمام هذه الوحشية المسرفة من أن يتعامل مع أخيه المسلم بالتقية، وأن يظهر خلاف ما يعتقده، بل اللوم أجمعه يقع على من حمله على ذلك، بعد أن أباح دمه وعرضه وماله.
هذا هو طغرل بيك أوّل ملك من ملوك السلاجقة ورد بغداد سنة 447 ه،
ص:56
وشنّ على الشيعة حملة شعواء، وأمر بإحراق مكتبة الشيعة التي أنشأها أبو نصر سابور بن أردشير، وزير بهاء الدولة البويهي، وكانت من دور العلم المهمّة في بغداد بناها هذا الوزير الجليل في محلّة بين السورين في الكرخ سنة 381 ه على مثال بيت الحكمة الذي بناه هارون الرشيد، وكانت من الأهمية العلمية بمكان؛ حيث جمع فيها هذا الوزير ما تفرّق من كتب فارس والعراق، واستكتب تآليف أهل الهند والصين والروم، كما قاله محمد كرد علي، ونافت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الآثار ومهام الأسفار، وأكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلّفين «(1)».
قال ياقوت الحموي: وبها كانت خزانة الكتب التي أوقفها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة، ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها، كانت كلّها بخطوط الأئمّة المعتبرة وأُصولهم المحرّرة «(2)».
وكان من جملتها مصاحف بخطّ ابن مقلة على ما ذكره ابن الأثير «(3)».
ولمّا كان الوزير سابور من أهل الفضل والأدب، فقد أخذ العلماء يهدون إليه مصنّفاتهم المختلفة، فأصبحت مكتبته من أغني دور الكتب ببغداد، وقد أُحرقت هذه المكتبة العظيمة في جملة ما أُحرق من محال الكرخ عند مجي ء طغرل بيك، وتوسّعت الفتنة حتّى اتّجهت إلى شيخ الطائفة وأصحابه فأحرقوا كتبه وكرسيه الذي كان يجلس عليه للكلام.
قال ابن الجوزي في حوادث سنة (448 ه): وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره، ثمّ قال في حوادث سنة (449 ه): وفيصفر هذه السنة كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلّم الشيعة في الكرخ، وأُخذ ما وجد من دفاتره وكرسي يجلس عليه
ص:57
للكلام، وأُخرج إلى الكرخ وأُضيف إليه ثلاث مجانيق بيض كان الزوّار من أهل الكرخ قديماً يحملونها معهم إن قصدوا زيارة الكوفة، فأُحرق الجميع «(1)».
وأخيراً فلعلّ القارئ الكريم إذا تأمّل بتدبرّ وتأنّ إلى جملة ما كتب وأُلّف من المراجع التاريخية- وحتّى تلك التي كتبت في تلك العصور التي شهدت هذه المجازر المتلاحقة، والتي بلا أدنى شكّ كان أغلبها يجاري أهواء الأُسر الحاكمة آنذاك- فإنّه سيجد بوضوح أنّ بقاء الشيعة حتّى هذه الأزمنة من المعاجز والكرامات وخوارق العادات، كيف وإنّ تاريخهم كان سلسلة من عمليات الذبح، والقتل، والقمع، والاستئصال، والسحق، والإبادة، قد تظافرت قوى الكفر والفسق على إهلاكهم وقطع جذورهم، ومع ذلك فقد كانت لهم دول و دويلات، ومعاهد وكلّيّات، وبلدان وحضارات، وأعلام ومفاخر، وعباقرة وفلاسفة، وفقهاء، ومحدّثون، ووزراء وسياسيّون، ويؤلّفون اليوم خمس المسلمين أو ربعهم.
نعم إنّ ذلك من فضله سبحانه لتعلّق مشيئته على إبقاء الحقّ وإزهاق الباطل في ظلّ قيام الشيعة طيلة القرون بواجبها وهو الصمود أمام الظلم، والتضحية والتفدية للمبدأ والمذهب وقد قال سبحانه: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشرونَصابِرُونَ يَغْلِبُوا مائَتَينِ وإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مائَةٌ يَغْلِبُوا ألْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَروا بِأِنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ «(2)»
.
ولا يفوتنّك أخي القارئ الكريم أنّ ثوراتهم المتعاقبة على الحكومات الظالمة الفاسدة الخارجة عن حدود الشريعة الإسلامية العظيمة هي التي أدّت إلى تشريدهم وقتلهم والفتك بهم، ولو أنّهم ساوموا السلطة الأُموية والعباسية،
ص:58
لكانوا في أعلى المناصب والمدارج، لكنّ ثوراتهم لم تكن عنصرية أو قوميّة أو طلباً للرئاسة، بل كانت لإزهاق الباطل ورفع الظلم عن المجتمع، والدعوة إلى إعلاء كلمة اللَّه وغير ذلك ممّا هو من وظائف العلماء العارفين.
ص:59
فرضيّات وهميّة لمبدأ التشيّع
لقد تقدّم الحديث منّا في الصفحات السابقة حول ما يمكن تسميته بنشأة التشيّع، والتي تبّين لنا بوضوح أنّه لا فصل هنا بين النشأتين، نشأة الإسلام، ونشأة التشيّع، وأنّهما وجهان لعملة واحدة، إلّاأنّ هناك جماعة من المؤرّخين وكتّاب المقالات ممّن قادهم الوهم وسوء الفهم إلى اعتبار التشيّع أمراً حادثاً وطارئ على المجتمع الإسلامي، فأخذوا يفتّشون عن مبدئه ومصدره، وأشدّ تلك الظنون عدوانية فيه ما تلوكه أشداق بعض المتقدّمين والمتأخّرين، هو كونه وليد عبد اللَّه ابن سبأ ذلك الرجل اليهودي، الذي- بزعمهم- طاف الشرق والغرب، وأفسد الأُمور على الخلفاء والمسلمين، وألّب الصحابة والتابعين على عثمان فقتل في عقر داره، ثمّ دعا إلى عليّ بالإمامة والوصاية، وإلى النبيّ بالرجعة، وكوَّن مذهباً باسم الشيعة، فهو كما يتصوّر هؤلاء وصوّروه لغيرهم صنيع ذلك الرجل اليهودي المتظاهر بالإسلام. وبما أنّ لهذا الموضوع أهمية خاصة لما احتلّه من المساحة الواسعة في أذهان العديد من السذج والسطحيّين، فإنّا لا نكتفي ببيان توهّم واحد بل نأتي على ذكر كلّ تلك الادّعاءات واحدة بعد الأُخرى، مع رعاية التسلسل الزمني.
ص:60
ليس بخاف على أحد مدى الانعطافة الخطيرة التي حدثت في تأريخ الإسلام عقب انتهاء مؤتمر سقيفة بني ساعدة، وما ترتّب عليه من نتائج وقرارات خطيرة.
والحقّ يقال إنّ هذا المؤتمر الذي ضمّ بينصفوفة ثلّة كبيرة من وجوه الصحابة- من المهاجرين والأنصار- قد أغفل عند انعقاده الواجب الأعظم في إكرام رسول اللَّهصلى الله عليه و آلهصاحب الفضل الأكبر فيما وصل إليه الجميع- عندما تُرك مُسجّى بين يدي أهل بيته وانشغلوا بما كان من غير الإنصاف أن ينسب إليهصلى الله عليه و آله من قصور لا عذر فيه في ترك الأُمّة حائرة به بعد موته.
أقول: ونتيجة لانشغالهم ذاك فقد حرموا من واجب إكرام الرسولصلى الله عليه و آله جلّه، ففاتهم أعظمه، وقصروا في تأديته، وكان لأهل بيته وحدهم ذلك الدور كلّه، فأوفوه، ولم يألوا في ذلك جهداً.
وإذا كان المؤتمرون في السقيفة قد خرجوا إلى الملأ بقرار كان ثمرة مخاض عسير واعتراكصعب؛ فإنّه أوضح وبلا أدنى ريب تبعثر الآراء واختلافها، بل وظروف خطرة كان من الممكن أن تودي بالجهد العظيم الذي بذله رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ومن معه من المؤمنين في إرساء دعائم هذا الدين وتثبيت أركانه، وأوضحت- وذاك لا خفاء عليه- أنّ من غير المنطقي لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن يرحل- مع أنّه لم يفاجئه الموت- دون أن يدرك هذه الحقيقة التي ليس هو ببعيد عنها، ولا يمكن أن يتغاضى عنها، وهو الذي ما خرج في أمر جسيم إلّاوخلّف عنه من ينوبه في إدارة شؤون الأُمّة في فترة غيابه التي لا يلبث أن يعود منها بعد أيّام معدودات، فكيف بالرحيل الأبدي؟!
نعم إنّ هذا الأمر لابدّ وإن يستوقف كلّ ذي لب وعقل مستنير.
ص:61
كما أنّ الاستقراء المتأنّي لأحداث السقيفة قد أوضح وبقوّة في أثناء المؤتمر وبعده وجود تيار قوي ومتماسك تبنّته جملة من وجوه الصحابة ومتقدّميها، وعمدت إلى التذكير بوجوده والإجهار به، ولو قادهم هذا الأمر إلى الإقتتال دون تنفيذه، وذاك الأمر هو الإصرار على إيكال أمر الخلافة إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام دون غيره، رغم ابتعاده عليه السلام عن ساحة الاعتراك وميدان التنازع في تلك السقيفة.
ولعلّ تمسّك هذه الثلّة من الصحابة بموقفها من بيعة الإمام دون غيره هو ما دفع بعض المؤرّخين إلى الذهاب بأنّ التشيّع كان وليد هذا المؤتمر ونتاج مخاضه، وأن يليهم آخرون يتعبّدون بهذا الرأي ويرتّبون من خلاله تصوّراتهم وأفكارهم، فيتشعّب ذلك إلى جملة واسعة من المتبنّيات غير الواقعية والقائمة على أرض واسعة من الأوهام والاسترسال غير المنطقي.
ولعلّ هذا التصوّرات تعتمد في فهمها أساساً لمبدأ نشأة التشيّع على ما رواه الطبري وغيره عن مجريات هذا المؤتمر وما ترتّب عليه من نتائج، دون أن تمد بصرها إلى أبعد من هذه النقطة اللامعة التي أعمتهم عن التأمّل في أبعادها.
قال الطبري: اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟ فقالوا:
منّا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: منّا الأُمراء ومنكم الوزراء- إلى أن قال:- فبايعه عمر وبايعه الناس، فقالت الأنصار- أو بعض الأنصار: لانبايع إلّاعليّاً.
ثمّ قال (أي الطبري): أتى عمر بن الخطّاب منزل عليّ وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين، فقال: واللَّه لأحرّقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة:
فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف فعثر، فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه.
وقال أيضاً: وتخلّف عليّ والزبير، واخترط الزبير سيفه وقال: لا أغمده حتى
ص:62
يبايع عليّ. فبلغ ذلك أبا بكر وعمر فقالا: خذوا سيف الزبير «(1)».
وقال اليعقوبي في تأريخه: ومالوا مع عليّ بن أبي طالب، منهم: العبّاس بن عبد المطّلب، والفضل بن العبّاس، والزبير بن العوّام، وخالد بن سعيد بن العاص، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمّار بن ياسر، والبراء ابن عازب، وأُبيّ بن كعب «(2)».
وروى الزبير بن بكار في الموفّقيات: انّ عامّة المهاجرين وجلّ الأنصار كانوا لا يشكّون أنّ عليّاً هوصاحب الأمر.
وروى الجوهري في كتاب السقيفة: أنّ سلمان والزبير وبعض الأنصار كان هواهم أن يبايعوا علياً.
وروى أيضاً: أنّه لما بويع أبوبكر واستقر أمره، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً، وهتفوا باسم الإمام عليّ، ولكنّه لم يوافقهم «(3)».
وروى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة: كان أبو ذر وقت أخذ البيعة غائباً عن هذه الأحداث، فلمّا جاء قال: أصبتم قناعة، وتركتم قرابة، لو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيّكم لما اختلف عليكم الاثنان.
وقال سلمان: أصبتم ذا السن، وأخطأتم المعدن، أمّا لو جعلتموه فيهم ما اختلف منكم اثنان، ولأكلتموها رغداً.
وهكذا فمن خلال هذه النصوص المتقدّمة وغيرها اعتقد ذاك البعض- الذي أشرنا إليه سابقاً- أنّ مبتدأ التشيّع ونشأته كان في تلك اللحظات الحرجة في تأريخ الإسلام، متناسين أنّ ما اعتمدوه في بناء تصوّراتهم هو ما ينقضها ويثبت بطلانها،
ص:63
فإنّ المتأمل في هذه النصوص يظهر له وبوضوح أنّ فكرة التشيّع لعليّ ليست وليدة هذا الظرف المعقّد، وثمرة اعتلاجه، ونقيض تصوّره، بقدر ما تؤكّد على أنّ هذه الفكرة كانت مختمرة في أذهانهم ومركوزة في عقولهم ولسنين طوال، فلمّا رأت هذه الجماعة انصراف الأمر إلى جهة لم تكن في حساباتهم ولا في حدود تصوّراتهم، وانحساره عمّا كان معهوداً به إليهم، عمدوا إلى التمسّك به بالاجتماع في بيت عليّ والإعلانصراحة عن موقفهم ومعتقدهم.
نعم إنّ من غير المتوقع والمعهود أن يجتمع رأي هذه الجماعة- التي تؤلف خلاصة غنيّة من متقدّمي الصحابة- على هذا الأمر في تلك اللحظات المضطربة والمليئة بالمفاجئات، وأن يترتّب عليه موقف موحّد ثابت، فهذا الأمر يدلّ بوضوح على أنّه ما كان وليد يومه ونتاج مخاضه.
وممّا يؤكد ذلك ويقوي أركانه ما نقلته جميع مصادر الحديث المختلفة من نداءات رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وتوصياته بحقّ عليّ وعترته وشيعته في أكثر من مناسبة ومكان، وما كان يشير إليهصلى الله عليه و آله من فضل شيعة عليّ ومكانتهم، والتأكيد على وجوب ملازمتهم، وفي هذا دلالة لا تقبل النقض على أنّ التشيّع ما كان وليد السقيفة أو ردّة رافضة آنية لمجريات أحداثها، بل إنّ هذا الوجود يمتد عمقاً مع نشأة الإسلام واشتداد عوده في زمن النبيّ محمّدصلى الله عليه و آله وحياته المباركة المقدّسة.
لنقرأ ما كتبه الطبري حول هذا الوهم المصطنع:
قال: «إنّ يهودياً باسم عبد اللَّه بن سبأ المكنّى بابن السوداء فيصنعاء أظهر الإسلام في عصر عثمان، واندسّ بين المسلمين، وأخذ يتنقّل في حواضرهم
ص:64
وعواصم بلادهم: الشام، والكوفة، والبصرة، ومصر، مبشّراً بأنّ للنبيّ الأكرم رجعة كما أنّ لعيسى بن مريم رجعة، وأنّ عليّاً هو وصي محمّدصلى الله عليه و آله كما كان لكل نبيّ وصي، وأنّ عليّاً خاتم الأوصياء كما أنّ محمّداً خاتم الأنبياء، وأنّ عثمان غاصب حقّ هذا الوصيّ وظالمه، فيجب مناهضته لإرجاع الحقّ إلى أهله».
«إنّ عبد اللَّه بن سبأ بثّ في البلاد الإسلامية دعاته، وأشار عليهم أن يظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والطعن في الأُمراء، فمال إليه وتبعه على ذلك جماعات من المسلمين، فيهم الصحابي الكبير والتابعي الصالح من أمثال أبي ذر، وعمّار بن ياسر، ومحمّد بن حذيفة، وعبد الرحمن بن عديس، ومحمّد بن أبي بكر، وصعصعة بنصوحان العبدي، ومالك الأشتر، إلى غيرهم من أبرار المسلمين وأخيارهم، فكانت السبئية تثير الناس على ولاتهم، تنفيذاً لخطّة زعيمها، وتضع كتباً في عيوب الأُمراء وترسل إلى غير مصرهم من الأمصار. فنتج عن ذلك قيام جماعات من المسلمين- بتحريض السبئيين- وقدومهم إلى المدينة وحصرهم عثمان في داره، حتّى قتل فيها، كلّ ذلك كان بقيادة السبئيّين ومباشرتهم».
«إنّ المسلمين بعد ما بايعوا عليّاً، ونكث طلحة والزبير بيعته وخرجا إلى البصرة، رأى السبئيّون أنّ رؤساء الجيشين أخذوا يتفاهمون، وأنّه إنّ تمّ ذلك سيؤخذون بدم عثمان، فاجتمعوا ليلًا وقرّروا أنّ يندسّوا بين الجيشين ويثيروا الحرب بكرة دون علم غيرهم، وأنّهم استطاعوا أنّ ينفّذوا هذا القرار الخطير في غلس الليل قبل أن ينتبه الجيشان المتقاتلان، فناوش المندسّون من السياسيين في جيش عليّ من كان بأزائهم من جيش البصرة، ففزع الجيشان وفزع رؤساؤهما، وظنّ كلّ بخصمه شرّاً، ثمّ إنّ حرب البصرة وقعت بهذا الطريق، دون أن يكون لرؤساء الجيشين رأي أو علم».
ص:65
روى الطبري عن هذا الوهم في موضع آخر من كتابه:
«فيما كتب به إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة، عن يزيد الفقعسي، قال: كان عبد اللَّه بن سبأ يهوديّاً من أهلصنعاء أُمّه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثمّ تنقّل في بلدان المسلمين يحاول إضلالهم، فبدأ بالحجاز، ثمّ البصرة، ثمّ الكوفة، ثمّ الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه حتّى أتى مصر فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما يقول: العجب فيمن يزعم أنّ عيسى يرجع ويكذب بأنّ محمداً يرجع، وقد قال اللَّه عزّ وجلّ: إنّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْك القُرآنَ لرَادُّك إلى مَعادٍ «(1)»
، فمحمّد أحقّ بالرجوع من عيسى. قال: فَقُبِل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة فتكلّموا فيها، ثمّ قال لهم بعد ذلك: إنّه كان ألف نبيّ، ولكلّ نبيّ وصيّ، وكان عليّ وصي محمّد. ثمّ قال: محمّد خاتم الأنبياء وعليّ خاتم الأوصياء. ثمّ قال بعد ذلك: من أظلم ممّن لم يجز وصية رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ووثب على وصيّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتناول أمر الأُمّة. ثمّ قال لهم بعد ذلك: إنّ عثمان أخذها بغير حق وهذا وصيّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فانهضوا في هذا الأمر فحرّكوه، وابدأوا بالطعن على أُمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر. فبثّ دعاته، وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، فيقرأه أُولئك في أمصارهم، وهؤلاء في أمصارهم، حتّى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون، ويسرّون غير ما يبدون... إلى آخر ما يذكره الطبري في المقام» حتّى يتوقّف عن إيراد هذه الأحداث بعد حرب الجم
ص:66
ولا يأتي بعد ذلك بشي ء عن السبئية «(1)».
وهكذا فقد تبيّن لك ممّا أوردناه عن الطبري إنّ جلّة من فضلاء الصحابة قد عُدّوا من كبار السبئية وقادتها، وهم الذين كانوا يعرفون بالزهد والتقى والصدق والصفاء:
فأمّا عبد الرحمن بن عديس البلوي فهو ممّن بايع النبي تحت الشجرة وشهد فتح مصر، وكان رئيساً على من سار إلى عثمان من مصر «(2)».
وأمّا محمّد بن أبي بكر: فأُمّه أسماء بنت عميس الخثعمية، تزوّجها أبو بكر بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب، فولدت له محمّداً في حجّة الوداع بطريق مكّة، ثم نشأ في حجر عليّ بعد أبيه، وشهد معه حرب الجمل، كما شهدصفّين، ثمّ ولي مصر عن عليّ إلى أن قتل فيها بهجوم عمرو بن العاص عليها «(3)».
وأمّاصعصعة بنصوحان العبدي: فقد أسلم على عهد رسول اللَّه وكان خطيباً مفوّهاً، شهدصفّين مع علي. ولما استشهد عليّ واستولى معاوية على العراق نفاه إلى البحرين ومات فيها «(4)».
وأمّا الأشتر: فهو مالك بن الحرث النخعي، وهو من ثقات التابعين، شهد وقعة اليرموك، وصحب عليّاً في الجمل وصفّين، ولّاه على مصر سنة (38 ه) ولمّا
ص:67
وصل إلى القلزم دسّ إليه معاوية السمّ بواسطة أحد عملائه فتوفّي مسموماً» «(1)».
هذا هو الذي ذكره الطبري، وقد أخذه من جاء بعده من المؤرّخين وكتّاب المقالات حقيقة راهنة، وبنوا عليه ما بنوا من الأفكار والآراء، فصارت الشيعة وليدة السبئية في زعم هؤلاء عبر القرون والأجيال.
ومن الذين وقعوا في هذا الخطأ الفاحش دون فحص وتأمل في حقائق الأُمور:
1- ابن الأثير (ت 630 ه)، فقد أورد القصّة منبثّة بين حوادث (30- 36 ه) وهو وإن لم يذكر المصدر في المقام، لكنّه يصدر عن تاريخ الطبري في حوادث القرون الثلاثة الأُول «(2)».
2- ابن كثير الشامي (ت 774 ه) فقد ذكر القصّة في تأريخه «البداية والنهاية» وأسندها عندما انتهى من سرد واقعة الجمل إلى تاريخ الطبري، وقال: هذا ملخّص ما ذكره أبو جعفر بن جرير «(3)».
3- ابن خلدون (ت 808 ه)، في تأريخه «المبتدأ والخبر» أورد القصّة في حادثة الدار والجمل وقال: هذا أمر الجمل ملخّصاً من كتاب أبي جعفر الطبرى «(4)».
ص:68
وأمّا من جاء بعد أُولئك المؤرّخين وأخذوا ما أورده السابقون مأخذ التسليم فنذكر منهم:
4- محمّد رشيد رضا، مؤسس مجلة المنار (ت 1354 ه)، ذكره في كتابه «السنّة والشيعة» وقال: وكان مبتدع أُصوله (أي التشيّع) يهودي اسمه عبد اللَّه بن سبأ، أظهر الإسلام خداعاً، ودعا إلى الغلو في عليّ كرم اللَّه وجهه، لأجل تفريق هذه الأُمّة، وإفساد دينها ودنياها عليها، ثمّ سرد القصّة وقال: ومن راجع أخبار واقعة الجمل في تاريخ ابن الأثير مثلًا يرى مبلغ تأثير إفساد السبئيين دون ما كاد يقع من الصلح «(1)».
5- أحمد أمين (ت 1372 ه)، وهو الذي استبطل عبد اللَّه بن سبأ في كتابه «فجر الإسلام» وقال: إنّ ابن السوداء كان يهوديّاً منصنعاء، أظهر الإسلام في عهد عثمان، وحاول أن يفسد على المسلمين دينهم، وبثّ في البلاد عقائد كثيرة ضارّة، وقد طاف في بلاد كثيرة، في الحجاز، والبصرة، والكوفة، والشام، ومصر.
ثمّ ذكر أنّ أبا ذر تلقّى فكرة الاشتراكية من ذلك اليهودي، وهو تلقّى هذه الفكرة من مزدكيّي العراق أو اليمن.
وقد كان لكتاب «فجر الإسلام» عام انتشاره (1952 م) دويّ واسع النطاق في الأوساط الإسلامية؛ فإنّه أوّل من ألقى الحجر في المياه الراكدة بشكل واسع، وقد ردّ عليه أعلام العصر بأنواع الردود، فألّف الشيخ المصلح كاشف الغطاء «أصل الشيعة وأُصولها» ردّاً عليه، كما ردّ عليه العلامة الشيخ عبد اللَّه السبيتي
ص:69
بكتاب أسماه «تحت راية الحق».
6- فريد وجدي مؤلّف دائرة المعارف (ت 1370 ه) فقد أشار إلى ذلك في كتابه عند ذكره لحرب الجمل ضمن ترجمة الإمام عليّ بن أبي طالب «(1)».
7- حسن إبراهيم حسن، وذكره في كتابه «تاريخ الإسلام السياسي» في أُخريات خلافة عثمان بقوله: «فكان هذا الجوّ ملائماً تمام الملاءمة ومهيّأً لقبول دعوة (عبد اللَّه بن سبأ) ومن لفّ لفّه والتأثّر بها إلى أبعد حدّ- وأضاف- وقد أذكى نيران هذه الثورةصحابي قديم اشتهر بالورع والتقوى- وكان من كبار أئمّة الحديث- وهو أبو ذر الغفاري الذي تحدّى سياسة عثمان ومعاوية واليه على الشام بتحريض رجل من أهلصنعاء وهو عبد اللَّه بن سبأ، وكان يهوديّاً فأسلم، ثمّ أخذ ينتقل في البلاد الإسلامية، فبدأ بالحجاز، ثمّ البصرة فالكوفة والشام ومصر... الخ «(2)».
هذا حال من كتب عن الشيعة من المسلمين، وأمّا المستشرقون المتطفّلون على موائد المسلمين فحدّث عنهم ولا حرج، فقد ابتغوا تلك الفكرة الخاطئة في كتبهم الاستشراقية التي تؤلّف لغايات خاصّة، فمن أراد الوقوف على كلماتهم فليرجع إلى ما ألّفه الباحث الكبير السيّد مرتضى العسكري في ذلك المجال، فإنّه- دام ظلّه- حقّق المقال ولم يبق في القوس منزعاً «(3)».
1- إنّ ما جاء في تاريخ الطبري من القصّة، على وجه لا يصحّ نسبته إلّاإلى عفاريت الأساطير ومردة الجنّ؛ إذ كيف يصحّ لإنسان أن يصدّق أنّ يهوديّاً جاء منصنعاء وأسلم في عصر عثمان، واستطاع أن يغري كبار الصحابة والتابعين
ص:70
ويخدعهم، ويطوف بين البلاد ناشراً دعواه، بل واستطاع أن يكوّن خلايا ضدّ عثمان ويستقدمهم على المدينة، ويؤلّبهم على الخلافة الإسلامية، فيهاجموا داره ويقتلوه، بمرأى ومسمع من الصحابة العدول ومن تبعهم بإحسان، هذا شي ء لا يحتمله العقل وإن وطّن على قبول العجائب والغرائب.
بل إنّ هذه القصّة تمسّ كرامة المسلمين والصحابة والتابعين وتصوّرهم أُمّة ساذجة يغترّون بفكر يهودي، وفيهم السادة والقادة والعلماء والمفكّرون.
2- إنّ القراءة الموضوعية للسيرة والتاريخ توقفنا على سيرة عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان؛ فإنّهما كانا يعاقبان المعارضين لهم، وينفون المخالفين ويضربونهم، فهذا أبو ذر الغفاري- رحمه اللَّه- نفاه عثمان من المدينة إلى الربذة لاعتراضه عليه في تقسيم الفي ء وبيت المال بين أبناء بيته، كما أنّه ضرب الصحابي الجليل عمّار بن ياسر حتى انفتق له فتق في بطنه وكسروا ضلعاً من أضلاعه «(1)»، إلى غير ذلك من مواقفهم من مخالفيهم ومعارضيهم التي يقف عليها المتتبّع، ومع ذلك نرى في الأوهام التي عرضناها مسبقاً أنّ رجال الخلافة وعمالها يغضّون الطرف عمّن يؤلِّب الصحابة والتابعين على إخماد حكمهم، وقتل خليفتهم في عقر داره، ويجرّ الويل والويلات على كيانهم!! وهذا شي ء لا يقبله من له أدنى إلمام بتاريخ الخلافة وسيرة معاوية.
يقول العلّامة الأميني: لو كان ابن سبأ بلغ هذا المبلغ من إلقاح الفتن، وشقّ عصا المسلمين، وقد علم به وبعبثه أُمراء الأُمّة وساستها في البلاد، وانتهى أمره إلى خليفة الوقت، فلماذا لم يقع عليه الطلب؟ ولم يبلغه القبض عليه، والأخذ بتلكم الجنايات الخطرة والتأديب بالضرب والإهانة، والزجّ إلى أعماق السجون؟ ولا آل أمره إلى الإعدام المريح للأُمّة من شرّه وفساده كما وقع ذلك كلّه على الصلحاء
ص:71
الأبرار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟ وهتاف القرآن الكريم يرنُّ في مسامع الملأ الديني: إِنَّما جَزَاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّه وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأرضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوا مِنَ الأرضِ ذَلِك لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ «(1)»
فهلّا اجتاح الخليفة جرثومة تلك القلاقل بقتله؟ وهل كان تجهّمه وغلظته قصراً على الأبرار من أُمّة محمّدصلى الله عليه و آله ففعل بهم ما فعل «(2)»؟!!
وهناك لفيف من الكتّاب ممّن حضر أو غبر، بدل أن يفتحوا عيونهم على الواقع المرير، ليقفوا على الأسباب المؤدّية إلى قتل الخليفة، حاولوا التخلّص من أوزار الحقيقة بالبحث عن فروض وهميّة سبّبت قتل الخليفة وأودت به.
وفي حقّ هؤلاء يقول أحد الكتّاب المعاصرين:
«وفي الشرق كتَّابٌ لا يعنيهم من التاريخ واقعٌ ولا من الحياة حالٌ أو ظرف، فإذا بهم يعلّلون ثورة المظلومين على عثمان، ويحصرون أحداث عصر بل عصور بإرادة فرد يطوف في الأمصار والأقطار ويؤلّب الناس على خليفة ودولة!.
إنّ النتيجة العملية لمثل هذا الزعم وهذا الافتراء هي أنّ الدولة في عهد عثمان ووزيره مروان إنَّما كانت دولة مثاليّة، وأنّ الأمويين والولاة والأرستقراطيين إنَّما كانوا رُسُل العدالة الاجتماعية والإخاء البشري في أرض العرب. غير أنّ رجلًا فرداً هو عبد اللَّه بن سبأ أفسد على الأمويين والولاة والأرستقراطيينصلاحهم وبرّهم؛ إذ جعل يطوف الأمصار والأقطار مؤلّباً على عثمان وأُمرائه وولاته الصالحين المُصلحين، ولولا هذا الرجل الفرد وطوافه في الأمصار والأقطار لعاش الناس في نعيم مروان وعدل الوليد وحلم معاوية عيشاً هو الرغادة وهو الرخاء.
ص:72
في مثل هذا الزعم افتراءٌ على الواقع، واعتداء على الخلق، ومسايرة ضئيلة الشأن لبعض الآراء، يغلّف ذلك جميعاً منطق ساذج وحجّة مصطنعة واهية. وفيه ما هو أخطر من ذلك؛ فيه تضليل عن حقائق أساسية في بناء التاريخ؛ إذ يحاولصاحب هذا المسعى الفاشل أن يحصر أحداث عصر بكامله، بل عصور كثيرة، بإرادة فردٍ يطوف في الأمصار ويؤلّب الناس على دولة فيثور هؤلاء الناس على هذه الدولة لا لشى ء إلّالأنّ هذا الفرد طاف بهم وأثارهم!.
أمّا طبيعة الحكم، وسياسة الحاكم، وفساد النظام الاقتصادي والمالي والعمراني، وطغيان الأثرة على ذوي السلطان، واستبداد الولاة بالأرزاق، وحمل بني أُميّة على الأعناق، والميل عن السياسة الشعبية الديمقراطية إلى سياسة عائلية أرستقراطية رأسمالية، وإذلال من يضمر لهم الشعبُ التقدير والاحترام الكثيرين أمثال أبي ذرّ وعمّار بن ياسر وغيرهما، أمّا هذه الأُمور وما إليها جميعاً من ظروف الحياة الاجتماعية، فليست بذات شأن في تحريك الأمصار وإثارتها على الأُسرة الأمويّة الحاكمة ومن هم في ركابها، بل الشأن كلّ الشأن في الثورة على عثمان لعبد اللَّه بن سبأ الذي يلفت الناس عن طاعة الأئمّة ويلقي بينهم الشرّ.
أليس من الخطر على التفكير أن ينشأ في الشرق من يعلّلون الحوادث العامّة الكبرى المتّصلة اتّصالًا وثيقاً بطبيعة الجماعة وأُسس الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية بإرادة فرد من عامّة الناس يطوف في البلاد باذراً للضلالات والفساد في هذا المجتمع السليم.
أليس من الخطر على التفكير أن نعلّل الثورات الإصلاحية في التاريخ تعليلًاصبيانياً نستند فيه إلى رغبات أفراد في التاريخ شاءوا أن يحدثوا شغباً فطافوا الأمصار وأحدثوه» «(1)».
ص:73
3- إنّ رواية الطبري نقلت عن أشخاص لا يصحّ الاحتجاج بهم:
أ- السري: إنّ السري الذي يروي عنه الطبري، إنّما هو أحد رجلين:
1- السري بن إسماعيل الهمداني الذي كذّبه يحيي بن سعيد، وضعّفه غير واحد من الحفّاظ «(1)».
2- السري بن عاصم بن سهل الهمداني نزيل بغداد المتوفّى عام (258 ه) وقد أدرك ابن جرير الطبري شطراً من حياته يربو على ثلاثين سنة، كذّبه ابن خراش، ووهاه ابن عدي، وقال: يسرق الحديث، و زاد ابن حبّان: ويرفع الموقوفات، لا يحلّ الاحتجاج به، وقال النقاش في حديث وضعه السري «(2)».
فالاسم مشترك بين كذّابين لا يهمّنا تعيين أحدهما.
احتمال كونه السري بن يحيى الثقة غيرصحيح، لأنّه توفّي عام (167 ه) مع أنّ الطبري من مواليد عام (234 ه) فالفرق بينهما (57) عاماً، فلا مناص أن يكون السري، أحد الرجلين الكذابين.
ب- شعيب: والمراد منه شعيب بن إبراهيم الكوفي المجهول، قال ابن عدي:
ليس بالمعروف، وقال الذهبي: راوية، كتب سيف عنه: فيه جهالة «(3)».
ج- سيف بن عمر: قال ابن حبّان: كان سيف بن عمر يروي الموضوعات عن الأثبات، وقال: قالوا: إنّه كان يضع الحديث واتّهم بالزندقة. وقال الحاكم: اتّهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط، وقال ابن عدي: بعض أحاديثه مشهورة، وعامّتها منكرة لم يتابع عليها. وقال ابن عدي: عامّة حديثه منكر. وقال
ص:74
البرقاني- عن الدارقطني-: متروك. وقال ابن معين: ضعيف الحديث فليس خير منه. وقال أبو حاتم: متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي. وقال أبو داود: ليس بشي ء. وقال النسائي: ضعيف، وقال السيوطي: وضّاع، وذكر حديثاً من طريق السري بن يحيى عن شعيب بن إبراهيم عن سيف فقال: موضوع، فيه ضعفاء أشدّهم سيف «(1)».
د- فإذا كان هذا حال السند، فكيف نعتمد في تحليل نشوء طائفة كبيرة من طوائف المسلمين تؤلّف خمسهم أو ربعهم على تلك الرواية، مع أنّ هذا هو حال سندها ومتنها، فالاعتماد عليها خداع وضلال لا يرتضيه العقل.
إنّ القرائن والشواهد والاختلاف الموجود في حقّ الرجل ومولده، وزمن إسلامه، ومحتوى دعوته يشرف المحقّق على القول بأنّ مثل عبد اللَّه بن سبأ مثل مجنون بني عامر وبني هلال، وأمثال هؤلاء الرجال والأبطال كلّها أحاديث خرافة وضعها القصّاصون وأرباب السمر والمجون؛ فإنّ الترف والنعيم قد بلغ أقصاه في أواسط الدولتين: الأُمويّة والعباسيّة، وكلّما اتّسع العيش وتوفّرت دواعي اللهو اتّسع المجال للوضع وراج سوق الخيال، وجعلت القصص والأمثال كي تأنس بها ربّات الحجال، وأبناء الترف والنعمة «(2)».
هذا هو الذي ذكره المصلح الكبير كاشف الغطاء، ولعلّ ذلك أورث فكرة التحقيق بين أعلام العصر، فذهبوا إلى أنّ عبد اللَّه بن سبأ أقرب ما يكون إلى الأُسطورة منه إلى الواقع. وفي المقام كلام للكاتب المصري الدكتور طه حسين،
ص:75
يدعم كون الرجل أُسطورة تاريخية عمد أعداء الشيعة إلى تضخيمها وتهويلها لاستغفال الناس نكاية بالشيعة ومحاولة خبيثة لإلقاء التفرقة والتباغض بين عموم المسلمين، ولا بأس بالوقوف على كلامه حيث قال:
وأكبر الظنّ أنّ عبد اللَّه بن سبأ هذا- إن كان كل ما يروى عنهصحيحاً- إنّما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة، وعظم الخلاف، فهو قد استغلّ الفتنة، ولم يثرها.
إنّ خصوم الشيعة أيّام الأُمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد اللَّه بن سبأ هذا ليشكّكوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية، وليشنّعوا على عليّ وشيعته من ناحية أُخرى، فيردّوا بعض أُمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيداً للمسلمين، وما أكثر ما شنّع خصوم الشيعة على الشيعة.
فلنقف من هذا كلّه موقف التحفّظ والتحرّج والاحتياط، ولنكبر المسلمين فيصدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل منصنعاء، وكان أبوه يهودياً وكانت أُمّه سوداء، وكان هو يهوديّاً ثمّ أسلم، لا رغباً ولا رهباً ولكن مكراً وكيداً وخداعاً، ثمّ أُتيح له من النجح ما كان يبتغي، فحرَّض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه، وفرّقهم بعد ذلك أو قبله شيعاً وأحزاباً.
هذه كلّها أُمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أُمور التاريخ، وإنّما الشي ء الواضح الذي ليس فيه شكّ هو أنّ ظروف الحياة الإسلامية في ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى اختلاف الرأى، وافتراق الأهواء، ونشأة المذاهب السياسيّة المتباينة، فالمستمسكون بنصوص القرآن وسنّة النبيّ وسيرةصاحبيه كانوا يرون أُموراً تطرأ، ينكرونها ولا يعرفونها، ويريدون أن تواجه كما كان عمر يواجهها في حزم وشدة وضبط للنفس وضبط للرعية، والشباب الناشئون في قريش وغير قريش من أحياء العرب كانوا يستقبلون هذه
ص:76
الأُمور الجديدة بنفوس جديدة، فيها الطمع، وفيها الطموح، وفيها الأثرة، وفيها الأمل البعيد، وفيها الهَمّ الذي لا يعرف حدّاً يقف عنده، وفيها من أجل هذا كلّه التنافس والتزاحم لا على المناصب وحدها بل عليها وعلى كل شي ء من حولها، وهذه الأُمور الجديدة نفسها كانت خليقة أن تدفع الشيوخ والشباب إلى ما دفعوا إليه، فهذه أقطار واسعة من الأرض تفتح عليهم، وهذه الأموال لا تحصى تجبى لهم من هذه الأقطار، فأيّ غرابة في أن يتنافسوا في إدارة هذه الأقطار المفتوحة، والانتفاع بهذه الأموال المجموعة؟ وهذه بلاد أُخرى لم تفتح، وكلّ شي ء يدعوهم إلى أن يفتحوها كما فتحوا غيرها، فما لهم لا يستبقون إلى الفتح؟ وما لهم لا يتنافسون فيما يكسبه الفاتحون من المجد والغنيمة إن كانوا من طلّاب الدنيا، ومن الأجر والمثوبة إن كانوا من طلّاب الآخرة؟ ثمّ ما لهم جميعاً لا يختلفون في سياسة هذا المُلك الضخم وهذا الثراء العريض؟ وأيّ غرابة في أن يندفع الطامحون الطامعون من شباب قريش من خلال هذه الأبواب التي فتحت لهم ليلجوا منها إلى المجد والسلطان والثراء؟ وأيّ غرابة في أن يهمّ بمنافستهم في ذلك شباب الأنصار وشباب الأحياء الأُخرى من العرب؟ وفي أن تمتلئ قلوبهم موجدة وحفيظة وغيظاً إذا رأوا الخليفة يحول بينهم وبين هذه المنافسة، ويؤثر قريشاً بعظائم الأُمور، ويؤثر بني أُميّة بأعظم هذه العظائم من الأُمور خطراً وأجلّها شأناً؟
والشي ء الذي ليس فيه شكّ هو أنّ عثمان قد ولّى الوليد و سعيداً على الكوفة بعد أن عزل سعداً، وولّى عبد اللَّه بن عامر على البصرة بعد أن عزل أبا موسى، وجمع الشام كلّها لمعاوية، وبسط سلطانه عليها إلى أبعد حدّ ممكن بعد أن كانت الشام ولايات تشارك في إدارتها قريش وغيرها من أحياء العرب، وولّي عبد اللَّه ابن أبي سرح مصر بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص، وكلّ هؤلاء الولاة من ذوي قرابة عثمان، منهم أخوه لأُمّه، ومنهم أخوه في الرضاعة، ومنهم خاله، ومنهم
ص:77
من يجتمع معه في نسبه الأدنى إلى أُميّة بن عبد شمس.
كلّ هذه حقائق لا سبيل إلى إنكارها، وما نعلم أنّ ابن سبأ قد أغرى عثمان بتولية من ولّى وعزل من عزل، وقد أنكر الناس في جميع العصور على الملوك والقياصرة والولاة والأُمراء إيثار ذوي قرابتهم بشؤون الحكم، وليس المسلمون الذين كانوا رعية لعثمان بدعاً من الناس، فهم قد أنكروا وعرفوا ما ينكر الناس ويعرفون في جميع العصور «(1)».
هكذا نرى أنّ الموارد التي يستنتج منها كون ابن سبأ شخصية وهميّة خلقها خصوم الشيعة ترجع إلى الأُمور التالية:
1- إنّ المؤرّخين الثقات لم يشيروا في مؤلّفاتهم إلى قصّة عبد اللَّه بن سبأ، كابن سعد في طبقاته، والبلاذري في فتوحاته.
2- إنّ المصدر الوحيد عنه هو سيف بن عمر وهو رجل معلوم الكذب، ومقطوع بأنّه وضّاع.
3- إنّ الأُمور التي نسبت إلى عبد اللَّه بن سبأ، تستلزم معجزات خارقة لا تتأتّى لبشر، كما تستلزم أن يكون المسلمون الذين خدعهم عبد اللَّه بن سبأ، وسخّرهم لمآربه- وهم ينفّذون أهدافه بدون اعتراض- في منتهى البلاهة والسخف.
4- عدم وجود تفسير مقنع لسكوت عثمان وعمّاله عنه، مع ضربهم لغيره من المعارضين كمحمّد بن أبي حذيفة، ومحمّد بن أبي بكر، وغيرهم.
5- قصّة إحراق عليّ إيّاه وتعيين السنة التي عرض فيها ابن سبأ للإحراق تخلو منها كتب التاريخ الصحيحة، ولا يوجد لها في هذه الكتب أثر.
6- عدم وجود أثر لابن سبأ وجماعته في وقعةصفّين وفي حرب النهروان.
ص:78
وقد انتهى الدكتور بهذه الأُمور إلى القول: بأنّه شخص ادّخره خصوم الشيعة للشيعة ولا وجود له في الخارج «(1)».
وقد تبعه غير واحد من المستشرقين، وقد نقل آراءهم الدكتور أحمد محمودصبحي في نظرية الإمامة «(2)».
إلى أن وصل الدور إلى المحقّق البارع السيّد مرتضى العسكري- دام ظلّه- فألّف كتابه «عبد اللَّه بن سبأ» ودرس الموضوع دراسة عميقة، وهو الكتاب الذي يحلّل التاريخ على أساس العلم، وقد أدّى المؤلّف كما ذكر الشيخ محمّد جواد مغنية:
إلى الدين والعلم وبخاصّة إلى مبدأ التشيّع خدمة لا يعادلها أيّ عمل في هذا العصر الذي كثرت فيه التهجّمات والافتراءات على الشيعة والتشيّع، وأقفل الباب في وجوه السماسرة والدسّاسين الذين يتشبّثون بالطحلب لتمزيق وحدة المسلمين وإضعاف قوّتهم «(3)».
ونحن وإن افترضنا أنّ لهذا الرجل وجوداً حقيقياً على أرض الواقع إلّاأنّ ذلك لا يعني الاقتناع بما نُقل وروي عنه، لأنّه لا يعدو كونه سوى سراب ووهم وخداع لا ينطلي على أحد. يقول الدكتور أحمد محمودصبحي: وليس ما يمنع أن يستغل يهودي الأحداث التي جرت في عهد عثمان ليحدث فتنة وليزيدها اشتعالًا، وليؤلّب الناس على عثمان، بل أن ينادي بأفكار غريبة، ولكن السابق لأوانه أن يكون لابن سبأ هذا الأثر الفكري العميق، فيحدث هذا الانشقاق العقائدي بين
ص:79
طائفة كبيرة من المسلمين «(1)».
وهكذا، فإن ما يبدو واضحاً للعيان بطلان ما ذهب إليه بعض المنحرفين والمنخدعين من اعتبار أنّ نشأة التشيع عن هذا الطريق، بل ويزيد الحقّ وضوحاً أنّنا إذا راجعنا كتب الشيعة نرى أنّ أئمّتهم وعلماءهم يتبرّأون منه أشدّ التبرّؤ.
1- قال الكشّي، وهو من علماء القرن الرابع: عبد اللَّه بن سبأ كان يدّعي النبوّة وأنّ عليّاً هو اللَّه!! فاستتابه ثلاثة أيّام فلم يرجع، فأحرقه بالنار في جملة سبعين رجلًا «(2)».
2- قال الشيخ الطوسي (385- 460 ه) في رجاله في باب أصحاب أمير المؤمنين: عبد اللَّه بن سبأ الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلوّ «(3)».
3- وقال العلّامة الحلّي (648- 726 ه): غالٍ ملعون، حرقه أمير المؤمنين بالنار، كان يزعم أنّ عليّاً إله وأنّه نبيّ، لعنه اللَّه «(4)».
4- وقال ابن داود (647- 707 ه): عبد اللَّه بن سبأ رجع إلى الكفر وأظهر الغلوّ «(5)».
5- وذكر الشيخ حسن بن زين الدين (ت 1011 ه) في التحرير الطاووسي:
غالٍ ملعون حرقه أمير المؤمنين عليه السلام بالنار «(6)».
ومن أراد أن يقف على كلمات أئمّة الشيعة في حقّ الرجل، فعليه أن يرجع إلى رجال الكشّي، فقد روى في حقّه روايات كلّها ترجع إلى غلوّه في حقّ عليّ، وأمّا
ص:80
ما نقله عنه سيف بن عمر فليس منه أثر في تلك الروايات، فأدنى ما يمكن التصديق به أنّ الرجل ظهر غالياً فقتل أو أُحرق، والقول بذلك لا يضرّ بشي ء، وأمّا ما ذكره الطبري عن الطريق المتقدّم فلا يليق أن يؤمن ويعتقد به من يملك أدنى إلمام بالتاريخ والسير.
وأخيراً فقد تبين وبدون شك بطلان وفساد هذه النظرية المختلقة حول نشأة التشيّع، والتي لم تصمد أمام النقد والتمحيص، بل وتحمل بذور سقوطها في ذاتها، وفي ذلك الدليل البيّن على أصالة مذهب التشيع والذي أسلفنا القول بأصالة نشأته، وأنّه وليد العقيدة الإسلامية الأصيلة وامتدادها الحقيقي، وأمّا ما قام به ابن سبأ- على فرض صحّةوقوعه- فإنّه يعبّر عن موقف فردي و تصرّف شخصي خارج عن إطار المذهب، ومن تبعه فقد أدخل نفسه دار البوار، وأين هذا الأفّاك وزمرته من أُولئك الذين لا يخالفون اللَّه ورسوله وأُولي الأمر ولا يتخلّفون عن أوامرهم قيد أُنملة، كالمقداد وسلمان وحجر بن عدي ورشيد الهجري ومالك الأشتر وصعصعة وأخيه وعمرو بن الحمق، ممّن يُستدرّ بهم الغمام وتنزل بهم البركات.
إلى هنا تمّ تحليل النظرية الثانية في تكوّن الشيعة فلننتقل إلى مناقشة النظرية الثالثة.
وهناك فرضية ثالثة اخترعها المستشرقون لتكوّن مذهب الشيعة في المجتمع الإسلامي، وهذه الفرضية كسابقتيها تعتمد اعتبار حداثة هذا المذهب قصداً أم جهلًا، فقادها هذا التصوّر الخاطئ إلى اعتماد نظرية تقول بفارسيّة المبدأ أو الصبغة لمذهب التشيّع، وهذا الترديد بين الأمرين مرجعه رأيان لأصحاب هذه النظرية في المقام:
ص:81
1- إنّ التشيع من مخترعات الفرس؛ اخترعوه لأغراض سياسية ولم يعتنقه أحد من العرب قبل الفرس، ولكنّهم لما أسلموا اخترعوا تلك الفكرة لغاية خاصّة.
2- إنّ التشيّع عربي المبدأ، وإنّ لفيفاً من العرب اعتنقوه قبل أن يدخل الفرس في الإسلام، ولمّا أسلموا اعتنقوه وصبغوه بصبغة فارسية لم تكن من قبل.
وهذان الرأيان هما اللّذان عبّرنا عنهما في العنوان بما عرفت، وإليك تفصيل أمرهما:
أمّا النظرية الأُولى: فقد اخترعها المستشرق دوزي، وملخّصها: أنّ للمذهب الشيعي نزعة فارسية؛ لأنّ العرب كانت تدين بالحرّيّة، والفرس تدين بالملك والوراثة، ولا يعرفون معنى الانتخاب، ولمّا انتقل النبيّ إلى دار البقاء ولم يترك ولداً، قالوا: علي أولى بالخلافة من بعده.
وحاصله: أنّ الانسجام الفكري بين الفرس والشيعة- أعني: كون الخلافة أمراً وراثياً- دليل على أنّ التشيّع وليد الفرس.
وهذا التصوّر مردود لجملة واسعة من البديهيات، منها:
أوّلًا: أنّ التشيّع حسبما عرفت ظهر في عصر النبيّ الأكرم، وهو الذي سمّى أتباع عليّ بالشيعة، وكانوا موجودين في عصر النبيّ وبعده، إلى زمن لم يدخل أحد من الفرس- سوى سلمان- في الإسلام.
بلى، فإنّ روّاد التشيّع في عصر الرسول والوصي كانوا كلّهم عرباً ولم يكن بينهم أيّ فارسيّ سوى سلمان المحمّدي، وكلّهم كانوا يتبنّون فكرة التشيّع.
وكان لأبي الحسن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام أيام خلافته ثلاثة حروب: حرب الجمل، وصفّين، والنهروان. وكان جيشه كلّه عرباً ينتمون إلى أُصول وقبائل عربية مشهورة بين عدنانية وقحطانية، فقد انضمّ إلى جيشه
ص:82
زرافات من قريش والأوس والخزرج، ومن قبائل مذحج، وهمدان، و طي، وكندة، وتميم، ومضر، بل كان زعماء جيشه من رؤوس هذه القبائل كعمّار بن ياسر، وهاشم المرقال، ومالك الأشتر، وصعصعة بنصوحان وأخوه زيد، وقيس بن سعد بن عبادة، وعبد اللَّه بن عباس، ومحمّد بن أبي بكر، وحجر بن عدي، وعدي بن حاتم، وأضرابهم. وبهذا الجند وبأُولئك الزعماء فتح أمير المؤمنين البصرة، وحارب القاسطين- معاوية وجنوده- يوم صفّين، وبهم قضى على المارقين.
فأين الفرس في ذلك الجيش وأُولئك القادة كي نحتمل أنّهم كانوا الحجر الأساس للتشيّع؟ ثمّ إنّ الفرس لم يكونوا الوحيدين ممّن اعتنقوا هذا المذهب دون غيرهم، بل اعتنقه الأتراك والهنود وغيرهم من غير العرب.
إنّ عدداً من المستشرقين وغيرهمصرّحوا بأنّ العرب اعتنقت التشيّع قبل الفرس وإليك نصوصهم:
1- قال الدكتور أحمد أمين: الذي أرى- كما يدلّنا التاريخ- أنّ التشيّع لعليّ بدأ قبل دخول الفرس إلى الإسلام ولكن بمعنى ساذج، ولكن هذا التشيّع أخذصبغة جديدة بدخول العناصر الأُخرى في الإسلام، وحيث إنّ أكبر عنصر دخل في الإسلام الفرس فلهم أكبر الأثر في التشيّع «(1)». وسيوافيك الكلام على ما في ذيل كلامه من أنّ التشيّع أخذصبغة جديدة بعد فترة من حدوثه.
2- وقال المستشرق فلهوزن: كان جميع سكان العراق في عهد معاوية- خصوصاً أهل الكوفة- شيعة، ولم يقتصر هذا على الأفراد، بل شمل القبائل
ص:83
ورؤساء العرب «(1)».
3- وقال المستشرق جولد تسيهر: إنّ من الخطأ القول بأنّ التشيّع في نشأته ومراحل نموه يمثّل الأثر التعديلي الذي أحدثته أفكار الأُمم الإيرانية في الإسلام بعد أن اعتنقته، أو خضعت لسلطانه عن طريق الفتح والدعاية، وهذا الوهم الشائع مبني على سوء فهم الحوادث التاريخية، فالحركة العلوية نشأت في أرض عربية بحتة «(2)».
4- وأمّا المستشرق آدم متز فإنّه قال: إنّ مذهب الشيعة ليس كما يعتقد البعض ردّ فعل من جانب الروح الإيرانية يخالف الإسلام، فقد كانت جزيرة العرب شيعة كلّها عدا المدن الكبرى مثل مكّة وتهامة وصنعاء، وكان للشيعة غلبة في بعض المدن أيضاً مثل عمان، وهجر، وصعدة، أمّا إيران فكانت كلّها سنّة، ما عدا قم، وكان أهل إصفهان يغالون في معاوية حتى اعتقد بعض أهلها أنّه نبي مرسل «(3)».
ولعلّ المتأمّل في كلمات هؤلاء يجد بوضوح أنّهم يقطعون بفساد الرأي الذاهب إلى فارسيّة التشيّع، وأنّهم لم يجدوا له تبريراً معقولًا، بالرغم من عدم تعاطفهم أصلًا مع التشيّع، فتأمل.
5- يقول الشيخ أبو زهرة: إنّ الفرس تشيّعوا على أيدي العرب وليس التشيّع مخلوقاً لهم، ويضيف: وأمّا فارس وخراسان وما وراءهما من بلدان الإسلام، فقد هاجر إليها كثيرون من علماء الإسلام الذين كانوا يتشيّعون فراراً بعقيدتهم من الأُمويين أوّلًا، ثمّ العباسيين ثانياً، وأنّ التشيّع كان منتشراً في هذه البلاد انتشاراً
ص:84
عظيماً قبل سقوط الدولة الأُموية بفرار أتباع زيد ومن قبله إليها «(1)».
6- وقال السيّد الأمين: إنّ الفرس الذين دخلوا الإسلام لم يكونوا شيعة في أوّل الأمر إلّاالقليل، وجلّ علماء السنّة وأجلّائهم من الفرس، كالبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم النيسابوري والبيهقي، وهكذا غيرهم ممّن أتوا في الطبقة التالية «(2)».
وأما النظرية الثانية فإنّ التاريخ يدلّنا على أنّ الفرس دخلوا في الإسلام يوم دخلوا بالصبغة السنّية، وهذا هو البلاذري يحدّثنا في كتابه عن ذلك بقوله:
كان ابرويز وجّه إلى الديلم فأتى بأربعة آلاف، وكانوا خدمه وخاصّته، ثمّ كانوا على تلك المنزلة بعده، وشهدوا القادسية مع رستم، ولمّا قتل وانهزم المجوس اعتزلوا، قالوا: ما نحن كهؤلاء ولا لنا ملجأ، وأثرنا عندهم غير جميل، والرأي لنا أن ندخل معهم في دينهم، فاعتزلوا. فقال سعد: ما لهؤلاء؟ فأتاهم المغيرة بن شعبة فسألهم عن أمرهم، فأخبروا بخبرهم، وقالوا: ندخل في دينكم، فرجع إلى سعد فأخبره فآمنهم، فأسلموا وشهدوا فتح المدائن مع سعد، وشهدوا فتح جلولاء، ثمّ تحوّلوا فنزلوا الكوفة مع المسلمين «(3)».
لم يكن إسلامهم- يوم ذاك- إلّاكإسلام سائر الشعوب، فهل يمكن أن يقال: إنّ إسلامهم يوم ذاك كان إسلاماً شيعياً؟
وأمّا النظرية الثالثة: فإنّ الإسلام كان ينتشر بين الفرس بالمعنى الذي كان ينتشر به في سائر الشعوب، ولم يكن بلد من بلاد إيران معروفاً بالتشيّع إلى أن انتقل قسم من الأشعريين الشيعة إلى قم وكاشان، فبذروا بذرة التشيّع، وكان ذلك
ص:85
في أواخر القرن الأوّل، مع أنّ الفرس دخلوا في الإسلام في عهد الخليفة الثاني؛ أي ابتداء من عام (17 ه)، وهذا يعني أنّه قد انقضت أعوام كثيرة قبل أن يدركوا ويعلموا معنى ومفهوم التشيّع، فأين هذا من ذاك. وهذا هو ياقوت الحموي يحدّثنا في معجم البلدان بقوله:
قم، مدينة تذكر مع قاشان، وهي مدينة مستحدثة إسلامية لا أثر للأعاجم فيها، وأوّل من مصّرها طلحة بن الأحوص الأشعري، وكان بدو تمصيرها في أيام الحجّاج بن يوسف سنة (83 ه)، وذلك أنّ عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث بن قيس، كان أمير سجستان من جهة الحجّاج، ثمّ خرج عليه، وكان في عسكره سبعة عشر نفساً من علماء التابعين من العراقيين، فلمّا انهزم ابن الأشعث ورجع إلى كابل منهزماً كان في جملة إخوة يقال لهم: عبد اللَّه، والأحوص، وعبد الرحمن، وإسحاق، ونعيم، وهم بنو سعد بن مالك بن عامر الأشعري، وقعوا في ناحية قم، وكان هناك سبع قرى اسم احداها «كمندان» فنزل هؤلاء الأُخوة على هذه القرى حتّى افتتحوها واستولوا عليها، وانتقلوا إليها واستوطنوها، واجتمع عليهم بنو عمّهم وصارت السبع قرى سبع محالّ بها، وسمّيت باسم إحداها «كمندان»، فأسقطوا بعض حروفها فسميت بتعريبهم قماً، وكان متقدّم هؤلاء الأُخوة عبد اللَّه ابن سعد، وكان له ولد قد ربّي بالكوفة، فانتقل منها إلى قم، وكان إمامياً، وهو الذي نقل التشيّع إلى أهلها، فلا يوجد بها سنّيّ قط «(1)».
إذن فهذا كلّه راجع إلى تحليل النظرية من منظار التاريخ، وأمّا دليله فهو أوهن من بيت العنكبوت، فإذا كان الفرس لايعرفون معنى الانتخاب والحرية، فإنّ العرب أيضاً مثلهم، فالعربي الذي كان يعيش بالبادية عيشة فردية كان يحبّ
ص:86
الحرية ويمارسها، وأمّا العربي الذي يعيش عيشة قبلية، فقد كان شيخ القبيلة يملك زمام أُمورهم وشؤونهم وعند موته يقوم أبناؤه وأولاده مكانه واحداً بعد الآخر، فما معنى الحرية بعد هذا؟!
إنّ هذه النظرية وإن كانت تعترف بأنّ التشيّع عربي المولد والمنشأ، ولكنّها تدّعي أنّه اصطبغ بصبغة فارسية بعد دخول الفرس في الإسلام، وهذا هو الذي اختاره الدكتور أحمد أمين كما عرفت ولفيف من المستشرقين ك «فلهوزن» فيما ذهبوا إليه في تفسير نشأة التشيّع.
يقول الثانى: إنّ آراء الشيعة كانت تلائم الإيرانيين، أمّا كون هذه الآراء قد انبثقت من الإيرانيين فليست تلك الملاءمة دليلًا عليه، بل الروايات التاريخية تقول بعكس ذلك؛ إذ تقول إنّ التشيّع الواضح الصريح كان قائماً أوّلًا في الأوساط العربية، ثمّ انتقل بعد ذلك منها إلى الموالي، وجمع بين هؤلاء وبين تلك الأوساط.
ولكن لمّا ارتبطت الشيعة العربية بالعناصر المضطهدة تخلّت عن تربية القومية العربية، وكانت حلقة الارتباط هي الإسلام، ولكنّه لم يكن ذلك الإسلام القديم، بل نوعاً جديداً من الدين «(1)».
أقول: إنّ مراده أنّ التشيّع كان في عصر الرسول وبعده بمعنى الحبّ والولاء لعليّ لكنّه انتقل بيد الفرس إلى معنى آخر وهو كون الخلافة أمراً وراثياً في بيت عليّ عليه السلام وهو الذي يصرّح به الدكتور أحمد أمين في قوله: إنّ الفكر الفارسي استولى على التشيّع، والمقصود من الاستيلاء هو جعل الخلافة أمراً وراثياً كما كان الأمر كذلك بين الفرس في عهد ملوك بني ساسان وغيرهم.
ص:87
إلّا أنّه يلاحظ عليه: أنّ كون الحكم والملك أمراً وراثياً لم يكن من خصائص الفرس، بل إنّ مبدأ وراثية الحكم كان سائداً في جميع المجتمعات، فالنظام السائد بين ملوك الحيرة وغسّان وحمير في العراق والشام واليمن كان هو الوراثة، والحكم في الحياة القبلية في الجزيرة العربية كان وراثياً، والمناصب المعروفة لدى قريش من السقاية والرفادة وعمارة المسجد الحرام والسدانة كانت أُموراً وراثية، حتّى أنّ النبيّ الأكرم لم يغيّرها بل إنّه أمضاها كما في قضيّة دفعه لمفاتيح البيت إلى بني شيبة وإقرارهم على منصبهم هذا إلى الأبد.
فإلصاق مسألة الوراثة بالفرس دون غيرهم أمر عجيب لا يقرّه العقلاء، فعلى ذلك يجب أن نقول: انّ التشيّع اصطبغ بصبغة فارسية وغسّانية وحميرية وأخيراً عربية، وإلّا فما معنى تخصيص فكرة الوصاية بالفرس مع كونها آنذاك فكرة عامّة عالمية؟!
إنّ النبوّة والوصاية من الأُمور الوراثية في الشرائع السماوية، لا بمعنى أنّ الوراثة هي الملاك المعيّن بل بمعنى أنّه سبحانه جعل نور النبوّة والإمامة في بيوتات خاصّة، فكان يتوارث نبيّ نبيّاً، ووصيّ وصيّاً، يقول سبحانه:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وإِبرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُريَّتِهما النُّبُوَّةَ والكِتابَ «(1)». وإذِ ابْتَلَى إِبرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّي جَاعِلُك لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِي قَالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ «(2)». أمْ يَحْسُدُون النّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّه مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبراهِيمَ الكِتَابَ والحِكْمَةَ وآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً «(3)».
ص:88
لماذا لا يكون سبب تشيّع الفرس مفاد هذه الآيات والروايات التي تصرّح بأنّ الوصاية بين الأنبياء كانت أمراً وراثياً؟ وإنّ هذه سنّة اللَّه في الأُمم كما هو ظاهر قوله سبحانه: «لا ينال عهدِي الظالمين» فسمّى الإمامة عهد اللَّه لا عهد الناس.
ثمّ إنّ من زعم أنّ التشيّع منصنع الفرس مبدأ وصبغة فهو جاهل بتاريخ الفرس، وذلك لأنّ التسنّن كان هو السائد فيهم إلى أوائل القرن العاشر حتّى غلب عليهم التشيّع في عصر الصفويين، نعم كانت مدن ري وقم وكاشان معقل التشيّع ومع ذلك يقول أبو زهرة: إنّ أكثر أهل فارس إلى الآن من الشيعة، وإنّ الشيعة الأوّلين كانوا من فارس «(1)».
أمّا غلبة التشيّع عليهم في الأوان الأخير فلا ينكره أحد، إنّما الكلام في كونهم كذلك في بداية دخولهم إلى الإسلام، فالذي يظهر أنّ الرجل جاهل بتاريخ بلاد إيران وليس له معرفة حقيقية بتفاصيل التركيبة المذهبية المختلفة التي كانت واضحة في أطراف المجتمع الإيراني وبيّنة فيه.
وإليك ما ذكره أحد الكتّاب القدامى في كتابه «أحسن التقاسيم» لتقف على أنّ المذهب السائد في ذلك القرن، هل كان هو التشيّع أم التسنّن؟ يقول:
«إقليم خراسان للمعتزلة والشيعة، والغلبة لأصحاب أبي حنيفة إلّافي كورة الشاش؛ فأنّهم شوافع وفيهم قوم على مذهب عبد اللَّه السرخسى، وإقليم الرحاب مذاهبهم مستقيمة إلّاأنّ أهل الحديث حنابلة والغالب بدبيل- لعلّه يريد أردبيل- مذهب أبي حنيفة وبالجبال، أمّا بالريّ فمذاهبهم مختلفة، والغلبة فيهم للحنفية، وبالري حنابلة كثيرة، وأهل قم شيعة، والدينور غلبه مذهب سفيان الثوري، وإقليم خوزستان مذاهبهم مختلفة، أكثر أهل الأهواز ورامهرمز والدورق حنابلة، ونصف أهل الأهواز شيعة، وبه أصحاب أبي حنيفة كثير، وبالأهواز مالكيّون...
ص:89
إقليم فارس العمل فيه على أصحاب الحديث وأصحاب أبي حنيفة... إقليم كرمان المذاهب الغالبة للشافعي... إقليم السند مذاهبهم أكثرها أصحاب حديث، وأهل الملتان شيعة يهوعلون في الأذان- أي يقولون حيّ على خير العمل- ويثنّون في الإقامة- أي يقولون اللَّه أكبر مرّتين، وأشهد أن لا إله إلّااللَّه مرّتين أيضاً وهكذا- ولا تخلو القصبات من فقهاء على مذهب أبي حنيفة «(1)».
وأمّا ابن بطوطة في رحلته فيقول: «كان ملك العراق السلطان محمد خدابنده قدصحبه في حال كفره فقيه من الروافض الإمامية يسمّى جمال الدين بن مطهّر- يعني العلّامة الحلي (648- 726 ه)- فلمّا أسلم السلطان المذكور وأسلمت بإسلامه التتر زاد في تعظيم هذا الفقيه، فزيّن له مذهب الروافض وفضّله على غيره... فأمر السلطان بحمل الناس على الرفض، وكتب بذلك إلى العراقين وفارس وآذربايجان وإصفهان وكرمان وخراسان، وبعث الرسل إلى البلاد، فكان أوّل بلاد وصل إليها الأمر بغداد وشيراز وإصفهان، فأمّا أهل بغداد فخرج منهم أهل باب الأزج يقولون: لا سمعاً ولا طاعة، وجاءوا للجامع وهدّدوا الخطيب بالقتل إن غيّر الخطبة، وهكذا فعل أهل شيراز وأهل إصفهان «(2)».
وقال القاضي عيّاض في مقدّمة «ترتيب المدارك» وهو يحكي انتشار مذهب مالك: وأمّا خراسان وما وراء العراق من بلاد المشرق فدخلها هذا المذهب أوّلًا بيحيى بن يحيى التميمى، وعبد اللَّه بن المبارك، وقتيبة بن سعيد، فكان له هناك أئمّة على مرّ الأزمان، وتفشّى بقزوين وما والاها من بلاد الجبل. وكان آخر من درس منه بنيسابور أبوإسحاق بن القطّان، وغلب على تلك البلاد مذهبا
ص:90
أبي حنيفة والشافعي «(1)».
قال «بروكلمان»: إنّ شاه إسماعيل الصفوي بعد انتصاره على «الوند» توجّه نحو تبريز فأعلمه علماء الشيعة التبريزيون أنّ ثلثي سكان المدينة- الذين يبلغ عددهم ثلاثمائة ألف- من السنّة «(2)».
إذن فالنصوص المتقدّمة تدلّ دلالة واضحة على أنّ مذهب التسنّن كان هو المذهب السائد إلى القرن العاشر بين الفرس، فكيف يمكن أن يقال: إنّ بلاد فارس كانت هي الموطن الأصلي للتشيّع؟
وممّا يؤكّد ذلك أيضاً ما رواه ابن الأثير في تأريخه من أنّ أهل طوس كانوا سنّة إلى عصر محمود بن سبكتكين، قال: إنّ محمود بن سبكتكين جدّد عمارة المشهد بطوس الذي فيه قبر عليّ بن موسى الرضا وأحسن عمارته، وكان أبوه سبكتكين أخربه، وكان أهل طوس يؤذون من يزوره، فمنعهم ابنه عن ذلك، وكان سبب فعله ذلك أنّه رأى في المنام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وهو يقول: إلى متى هذا؟
فعلم أنّه يريد أمر المشهد، فأمر بعمارته «(3)».
ويؤيّد ذلك ما رواه البيهقي: أنّ المأمون العباسي همَّ بأن يكتب كتاباً في الطعن على معاوية، فقال له يحيي بن أكثم: يا أمير المؤمنين، العامّة لا تتحمّل هذا ولا سيما أهل خراسان، ولا تأمن أن يكون لهم نفرة «(4)».
إلّا أنّ المتوكل عمد وبصلافة وتهتّك إلى هدم قبر الحسين عليه السلام وفي ذلك قال الشاعر المعروف بالبسّامي:
ص:91
تاللَّه إن كانت أميّة قد أتت قتل ابن بنت نبيّها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيه بمثله هذا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا في قتله فتتبّعوه رميما «(1)»
فقد بان ممّا ذكر أمران:
1- إنّ التشيّع ليس فارسيّ المبدأ، وإنّما هو حجازي المولد والمنشأ، اعتنقه العرب فترة طويلة لم يدخل فيها أحد من الفرس- سوى سلمان المحمّدي- وإنّ الإسلام دخل بين الفرس مثل دخوله بين سائر الشعوب، وأنّهم اعتنقوا الإسلام بمذاهبه المختلفة مثل اعتناق سائر الأُمم له، وبقوا على ذلك طويلًا إلى أن اشتد عود التشيّع وكثر معتنقوه في عهد بعض ملوك المغول أو عهد الصفوية (905 ه).
2- إنّ كون الإمامة منحصرة في عليّ وأولاده ليسصبغة عارضة على التشيّع، بل هو جوهر التشيّع وحقيقته، ولولاه فقد التشيّع روحه وجوهره، فجعل الولاء لآل محمّد أو تفضيل عليّ على سائر الخلفاء أصله وجوهره، واعتبار هذا الأمر- كما يعتقده البعض- أمراً عرضياً دخيلًا على مذهب التشيع، تصوّر لا دليل له إلّاالتخرص والاختلاق.
قال المفيد- رحمه اللَّه-: الشيعي من دان بوجوب الإمامة ووجودها في كل زمان وأوجب النصّ الجليّ والعصمة والكمال لكلّ إمام، ثمّ حصر الإمامة في ولد الحسين بن عليّ عليهما السلام وساقها إلى الرضا عليّ بن موسى عليهما السلام.
ص:92
وأمّا الافتراض الخاطئ الرابع فيذهب إلى أنّ الشيعة تكوّنت يوم الجمل، حيث ذكر ابن النديم في الفهرست: أنّ عليّاً قصد طلحة والزبير ليقاتلهما حتّى يفيئا إلى أمر اللَّه- جلّ اسمه- وتسمّى من اتّبعه على ذلك الشيعة، وكان يقول: شيعتي، وسمّاهم عليه السلام: الأصفياء، الأولياء، شرطة الخميس، الأصحاب «(1)».
وعلى ذلك جرى المستشرق «فلهوزن» حيث يقول: بمقتل عثمان انقسم الإسلام إلى فئتين: حزب عليّ، وحزب معاوية، والحزب يطلق عليه في العربية اسم «الشيعة» فكانت شيعة عليّ في مقابل شيعة معاوية، لكن لمّا تولّى معاوية الملك في دولة الإسلام كلّها... أصبح استعمال لفظة «شيعة» مقصوراً على أتباع عليّ «(2)».
الملفت للنظر أن ما ذكره ابن النديم من تقسيمه لشيعة عليّ عليه السلام إلى الأصفياء والأولياء و... هو عين التقسيم الذي أورده البرقي «(3)» لأصحاب أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال:
من أصحاب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: الأصحاب، ثمّ الأصفياء، ثمّ الأولياء، ثمّ شرطة الخميس:
من الأصفياء من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام: سلمان الفارسي، المقداد، أبو ذر،
ص:93
عمّار، أبو ليلى، شبير، أبو سنان، أبو عمرة، أبو سعيد الخدري (عربي أنصارى) أبو برزة، جابر بن عبد اللَّه، البراء بن عازب (أنصاري)، عرفة الأزدي، وكان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله دعا له فقال: «اللّهمّ بارك له فيصفقته».
وأصحاب أمير المؤمنين، الذين كانوا شرطة الخميس كانوا ستّة آلاف رجل، وقال عليّ بن الحكم: (أصحاب) أمير المؤمنين الذين قال لهم: «تشرّطوا إنّما أُشارطكم على الجنّة، ولست أُشارطكم على ذهب أو فضّة، إنّ نبيّنا عليه السلام قال لأصحابه فيما مضى: تشرّطوا فانّي لست أُشارطكم، إلّاعلى الجنّة» «(1)» وممّا تقدّم يظهر أنّ من عدّه ابن النديم من أصحاب الإمام رجالًا ماتوا قبل أيام خلافته كسلمان و أبو ذر والمقداد، وكلّهم كانوا شيعة للإمام، فكيف يكون التشيّع وليد يوم الجمل؟ والظاهر وجود التحريف في عبارة ابن النديم.
على كل تقدير فما تلونا عليك من النصوص الدالّة على وجود التشيّع في عصر الرسول وظهوره بشكل جليّ بعد وفاتهصلى الله عليه و آله وهذا قبل أن تشبّ نار الحرب في البصرة، دليل على وهن هذا الرأي- على تسليم دلالة كلام ابن النديم- فإنّ الإمام وشيعته بعد خروج الحقّ عن محوره، واستتباب الأمر لأبي بكر، رأوا أنّ مصالح الإسلام والمسلمين تكمن في السكوت ومماشاة القوم، بينما كان نداء التشيّع يعلو بين آن وآخر من جانب المجاهرين بالحقيقة، كأبي ذر الغفاري وغيره، ولكن كانت القاعدة الغالبة هي المحافظة قدر الإمكان على بقاء الإسلام وعدم جرّ المسلمين إلىصدام كبير ونار متأجّجة لا تبقي ولا تذر، والعمل قدر الإمكان لدعم الواجهة السياسية للخلافة الإسلامية ورفدها بالجهد المخلص والنصح المتواصل.
إلّا أنّ الأمر عندما آل إلى الإمام عليّ وجدت شيعته متنفساً واسعاً للتعبير عن
ص:94
وجودها والإفصاح عن حقيقتها، فظهرت بأوضح وأجلى صورها، فمن هنا وقع أصحاب هذه الفرضية وغيرها في هذه الاشتباهات الواضحة البطلان.
زعم بعض المستشرقين «(1)» أنّ الشيعة تكوّنت يوم افترق جيش عليّ في مسألة التحكيم إلى فرقتين، فلمّا دخل عليّ الكوفة وفارقته الحرورية، وثبت إليه الشيعة، فقالوا: في أعناقنا بيعة ثانية، نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت.
وهذا الفهم الخاطئ لهذه الواقعة، وامتطاء هذه العبارة المذكورة لتحديد نشأة التشيّع يعتمد بالأساس على افتراض أنّ لتكوّن الشيعة تاريخاً مفصولًا عن تاريخ الإسلام، فأخذ يتمسّك بهذه العبارة، مع أنّ تعبير الطبري- أعني قوله: وثبت إليه الشيعة «(2)»- دليل على سبق وجودهم على ذلك.
نعم كان للشيعة بعد تولّي الإمام الخلافة وجود واضح حيث ارتفع الضغط فالتفّ حوله موالوه من الصحابة والتابعين، إلّاأنّ الأمر الثابت هو أنّ ليس جميع من كان في جيشه من شيعته بالمعنى المفروض والواقعي للتشيّع، بل أغلب من انخرط في ذلك الجيش كانوا تابعين له لأنّه خليفة لهم، وقد بايعوه على ذلك.
تقلّد آل بويه مقاليد الحكم والسلطة من عام (320) إلى (447 ه)، فكانت لهم السلطة في العراق وبعض بلاد إيران كفارس وكرمان وبلاد الجبل وهمدان
ص:95
وإصفهان والري، وقد أُقصوا عن الحكم في الأخير بهجوم الغزاونة عليهم عام (420 ه). وقد ذكر المؤرّخون- خصوصاً ابن الأثير في الكامل وابن الجوزي في المنتظم- شيئاً كثيراً من أحوالهم، وخدماتهم، وإفساحهم المجال لجميع العلماء من دون أن يفرقوا بينهم بمختلف طوائفهم، وقد ألّف المستشرق «استانلي لين بول» كتاباً في حياتهم ترجم باسم: طبقات سلاطين الإسلام.
يقول ابن الأثير في حوادث عام (372 ه) في حديثه عن أحد الملوك البويهيّين، وهو عضد الدولة: وكان عاقلًا، فاضلًا، حسن السياسة، كثير الإصابة، شديد الهيبة، بعيد الهمّة، ثاقب الرأي، محبّاً للفضائل وأهلها، باذلًا في مواضع العطاء... إلى أن قال: وكان محبّاً للعلوم وأهلها، مقرّباً للعلماء، محسناً إليهم، وكان يجلس معهم يعارضهم في المسائل، فقصده العلماء من كلّ بلد، وصنّفوا له الكتب، ومنها الإيضاح في النحو، والحجّة في القراءات، والملكي في الطبّ، والتاجي في التاريخ إلى غير ذلك «(1)». وهذا يدل على أنّهم كانوا محبّين للعلم ومروّجين له ولهم أياد مشكورة في نشر العلم ومساندة العلماء.
وبالرغم من أنّ في عصرهم كان يغلب على أكثر البلاد مذهب التسنّن إلّاأنّ البويهين لم يقفوا موقف المعادي لهم على الرغم مما وقفه غيرهم من الملوك الآخرين من غير الشيعة من معاداة التشيّع ومحاربته.
ولعلّ التأريخ قد سجّل فيصفحاته أحداثاً مؤلمة بعد سقوط البويهيين ودخول طغرل بك مدينة السلام (بغداد) عام (447 ه)، عندما أُحرقت مكتبة الشيخ الطوسي وكرسيّه الذي كان يجلس عليه للتدريس «(2)».
نعم راج مذهب الشيعة في عصرهم واستنشق رجالاته نسيم الحرية بعد أن
ص:96
تحملوا الظلم والاضطهاد طيلة حكم العباسيين خصوصاً في عهد المتوكّل ومن بعده، غير أنّ تكوّن مذهب الشيعة في أيّامهم شي ءٌ وكونهم مروّجين ومعاضدين له شي ء آخر، ومن السذاجة بمكان الخلط بين الحالين وعدم التمييز بينهما.
والكلام عن هذه الأُسرة هو عين الكلام عن البويهيين.
إنّ الصفويين هم أُسرة الشيخصفيّ الدين العارف المشهور في أردبيل المتوفّى عام (735 ه). فعندما انقرضت دولة المغول، انقسمت البلاد التي كانت تحت نفوذهم إلى دويلاتصغيرة شيعية وغير شيعية، إلى أن قام أحد أحفادصفيّ الدين، الشاه إسماعيل عام (905 ه) بتسلّم مقاليد الحكم والسيطرة على بلاد فارس وإقامة حكومة خاصّة به استطاع أن يمدّ نفوذها ويبسط سلطتها، واستمرّ في الحكم إلى عام (930 ه)، ثمّ ورثه أولاده إلى أن أُقصوا عن الحكم بسيطرة الأفاغنة على إيران عام (1135 ه) فكان الصفويون خير الملوك؛ لقلّة شرورهم وكثرة بركاتهم، وقد راج العلم والأدب والفنون المعمارية أثناء حكمهم، ولهم آثار خالدة إلى الآن في إيران والعراق، ومن وقف على أحوالهم ووقف على تاريخ الشيعة يقف على أنّ عصرهم كان عصر ازدهار التشيّع لا تكوّنه، وهو أمر لا مراء فيه، ولا يقتنع به إلّاالسذّج والجهلاء.
نعم إنّ هذه الآراء الساقطة في تحليل تاريخ الشيعة ومبدأ تكوّنهم، كلّها كانت أُموراً افتراضية بنوها على أساس خاطئ وهو أنّ الشيعة ظاهرة طارئة على المجتمع الإسلامي بعد عهد النبيّ، سامح اللَّه الذين لم يتعمّدوا التزييف وغفر اللَّه لنا ولهم.
ص:97
إنّ الدكتور عبد اللَّه فياض زعم أنّ التشيّع بمعني الموالاة لعليّ عليه السلام نضج في مراحل ثلاث:
1- التشيّع الروحي، يقول: إنّ التشيّع لعليّ بمعناه الروحي زرعت بذرته في عهد النبيّ وتمّت قبل تولّيه الخلافة. ثمّ ساق الأدلّة على ذلك وجاء بأحاديث يوم الدار أو بدء الدعوة وأحاديث الغدير وما قال النبيّ في حقّ عليّ من التسليم على عليّ بإمرة المؤمنين.
2- التشيّع السياسي، ويريد من التشيّع السياسي: كون عليّ أحق بالإمامة لا لأجل النص بل لأجل مناقبه وفضائله، ويقول: إنّ التشيّع السياسي ظهرت بوادره- دون الالتزام بقضية الاعتراف بإمامته الدينية (يريد النصّ)- في سقيفة بني ساعدة، حين أسند حقّ عليّ بالخلافة عدد من المسلمين أمثال الزبير والعبّاس وغيرهما، وبلغ التشيّع السياسي أقصى مداه حين بويع عليّ بالخلافة بعد مقتل عثمان.
3- ظهوره بصورة فرقة، فإنّما كان ذلك بعد فاجعة كربلاء سنة (61 ه) ولم يظهر التشيّع قبل ذلك بصورة فرقة دينية تعرف بالشيعة. ثمّ استشهد بكلام المقدسي حيث قال: إنّ أصل مذاهب المسلمين كلّها منشعبة من أربع:
الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والمعتزلة. وأصل افتراقهم قتل عثمان، ثمّ تشعّبوا «(1)».
وأيّد نظريته بما ذكره المستشرق «فلهوزن» من قوله: تمكّن الشيعة أوّلًا في العراق ولم يكونوا في الأصل فرقة دينية، بل تعبيراً عن الرأي السياسي في هذا الإقليم كلّه، فكان جميع سكان العراق خصوصاً أهل الكوفة شيعة عليّ على
ص:98
تفاوت بينهم «(1)».
وهذا التصوّر المذكور يمكن تثبيت جملة من الملاحظات عليه:
أوّلًا: انّ التفكيك بين المرحلتين الأوليين، وإنّ الأُولى منهما كانت في عصر النبيّ، وظهرت بوادر المرحلة الثانية بعد رحلة النبيّ، قد نقضه نفس الكاتب في كلامه حيث قال: كان روّاد التشيّع الروحي يلتزمون بآراء عليّ الفقهية إلى جانب الالتزام بإسناده سياسياً «(2)».
وثانياً: إنّ ما ذكره من النصوص في مجال التشيّع الروحي كما يدلّ على أنّ عليّاً هو القائد الروحي، فإنّه يدلّ بوضوح على أنّه القائد السياسي، وقد نقل الكاتب جلّ النصوص الواردة في هذا المبنى، فمعنى التفكيك بينهما هوأنّ الصحابة الواعين أخذوا ببعض مضامينها وتركوا بعضها، ولوصحّ إسناد ذلك إلى بعض الصحابة فلا يصح إسناده إلى سلمان، وأبي ذر، وعمّار، الذين لا يتركون الحق وإن بلغ الأمر ما بلغ.
وبما أنّ النبيّ كان هو القائد المحنَّك للمسلمين، فإنّه لم تكن هناك حاجة لظهور التشيّع السياسي في حياته، بل كان المجال واسعاً لظهور التشيّع الروحي ورجوع الناس إلى عليّ في القضايا والأحكام الفقهية، وهذا لا يعني عدم كونه قائداً سياسياً وإنّ وصايا النبيّ لم تكن هادفة إلى ذلك الجانب.
وثالثاً: إنّ التشيّع السياسي ظهر في أيّام السقيفة في ظل الاعتراف بإمامته الروحية؛ فإنّ الطبري وغيره وإن لم يذكروا مصدر رجوع الزبير والعباس إلى عليّ، ولكن هناك نصوص عن طرق الشيعة وردت في احتجاج جماعة من الصحابة على أبي بكر مستندين إلى النصوص الدينية.
فقد روى الصدوق عن زيد بن وهب أنّه قال: كان الذين أنكروا على أبي بكر
ص:99
تقدّمه على عليّ بن أبي طالب اثني عشر رجلًا من المهاجرين والأنصار؛ فمن المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص، والمقداد بن الأسود، وأُبيّ بن كعب، وعمّار بن ياسر، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وعبد اللَّه بن مسعود، وبريدة الأسلمي.
ومن الأنصار: زيد بن ثابت، وذو الشهادتين، وابن حنيف، وأبو أيّوب الأنصاري، وأبو الهيثم بن التيهان.
وبعدماصعد أبو بكر على المنبر قال خالد بن سعيد: يا أبا بكر اتقّ اللَّه... ثمّ استدل على تقدم عليّ بما ذكره النبيّ فقال: «معاشر المهاجرين والأنصار، أُوصيكم بوصيّة فاحفظوها، وانّي مؤدّ إليكم أمراً فاقبلوه: ألا إنّ علياً أميركم من بعدي وخليفتي فيكم»- إلى آخر ما ذكره- ثمّ قام أبو ذر وقال: يا معاشر المهاجرين والأنصار... طرحتم قول نبيّكم وتناسيتم ما أوعز إليكم. ثمّ ذكر مناشدة كل منهم مستندين في احتجاجهم على أبي بكر بالأحاديث التي سمعوها من النبيّ الأكرم «(1)».
وهذا يعرب عن أنّ التشيّع السياسي- الذي كان ظرف ظهوره حسب طبع الحال بعد الرحلة- كان مستفاداً من نصوص النبيّصلى الله عليه و آله.
رابعاً: ماذا يريد من الفرقة وأنّ الشيعة تكوّنت بصورة فرقة بعد مقتل الإمام الحسين؟ فهل يريد الفرقة الكلامية التي تبتني على آراء في العقائد تخالف فيها الفرق الأُخرى؟ فهذا الأمر لم يعلم له أيّ وجود يذكر إلى أواسط العقد الثالث من الهجرة، ولم تكن يومذاك أيّة مسألة كلامية مطروحة حتّى تأخذ شيعة عليّ بجانب والآخرون بجانب آخر، بل كان المسلمون متسالمين في العقائد والأحكام حسب ما بلغ إليهم من الرسول، ولم يكن آنذاك أيّ اختلاف عقائدي إلّافي مسألة القيادة،
ص:100
فالفرقة بهذا المعنى لم تكن موجودة في أوساط المسلمين.
وإن أراد من الفرقة الجماعة المتبنّية ولاية عليّ روحيّاً وسياسياً وأنّه أحقّ بالقيادة على جميع الموازين، فإنّها كانت موجودة في يوم السقيفة وبعدها.
نعم إنّ توسّع الرقعة الجغرافية للدولة الإسلامية وما رافق ذلك من احتكاك مباشر بكثير من الفرق والجماعاتصاحبة الأفكار العقائدية المختلفة، وتأثّر بعض الفرق الإسلامية ومفكّريها بجملة من تلك الآراء والتصوّرات، ساعد بشكل كبير في إيجاد مدارس كلامية متعدّدة في كيان المجتمع الإسلامي، ولمّا كان الشيعة أشد تمسّكاً بحديث الثقلين المشهور، فقد رجعوا إلى أئمّة أهل البيت فصاروا فرقة كلامية متشعّبة الأفنان، ضاربة جذورها في الكتاب والسنّة والعقل.
وهكذا فلا مرية من القول بخطأ كلّ الافتراضات السابقة وعدم حجّيتها في محاولة تثبيت كون التشيّع ظاهرة طارئة على الإسلام، وإنّما هو نفس الإسلام في إطار ثبوت القيادة لعليّ بعد رحلة النبيّ بتنصيصه، وتبنّاه منذ بعثة النبيّ الأكرم جملة من الصحابة والتابعين وامتدّ ذلك حسب الأجيال والقرون، بل وظهر بفضل التمسّك بالثقلين علماء مجاهدون، وشعراء مجاهرون، وعباقرة في الحديث، والفقه، والتفسير، والفلسفة، والكلام، واللغة، والأدب، وشاركوا جميع المسلمين في بناء الحضارة الإسلامية بجوانبها المختلفة، يتّفقون مع جميع الفرق في أكثر الأُصول والفروع وإن اختلفوا معهم في بعضها كاختلاف بعض الفرق مع بعضها الآخر.
وسيوافيك تفصيل عقائدهم في مبحث خاصّ بإذن اللَّه.
كما يظهر لك أيضاً وهن ما ذهب إليه الدكتور عبد العزيز الدوري من أنّ التشيّع باعتباره عقيدة روحية ظهر في عصر النبيّ وباعتباره حزباً سياسياً قد حدث بعد قتل عليّ «(1)».
ص:101
ص:102
صفحة بيضاء
ص:103
تعرف الشيعة الإمامية بالفرقة الاثني عشرية، ومبعث هذه التسمية هو اعتقادهم باثني عشر إماماً من بني هاشم نصّ عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، كما هو معلوم للجميع، ثمّ نصّ كلّ إمام على الإمام الذي بعده، بشكل يخلو من الشكّ والإبهام.
لقد تضافر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه يملك هذه الأُمّة اثنا عشر خليفة كعدد نقباء بني إسرائيل، وكما هو معلوم ومبسّط في كتب الشيعة بشكل لا يقبل الشك. إنّ هذه الروايات مع ما فيها من المواصفات لا تنطبق إلّاعلى أئمّة الشيعة والعترة الطاهرة «وإذا كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله هو الشجرة وهم أغصانها، والدوحة وهم أفنانها، ومنبع العلم وهم عيبته، ومعدن الحكم وهم خزائنه، وشارع الدين وهم حفظته، وصاحب الكتاب وهم حملته» «(1)» فتلزم علينا معرفتهم، كيف وهم أحد الثقلين اللَّذَين تركهما الرسولصلى الله عليه و آله، قدوة للأُمّة ونوراً على جبين الدهر.
ونحن نحاول هنا أن نعرض في هذا الفصل موجزاً عن أحوالهم وحياتهم متوخّين الاختصار والإيجاز فيما نورده، لأنّ بسط الكلام عنهم يحتاج إلى تدوين
ص:104
موسوعة كبيرة، وقد قام بذلك لفيف من علماء الإسلام فأثبتوا الشى ء الكثير عن حياتهم وسيرتهم وأقوالهم، جزاهم اللَّه عن الإسلام وأهله خير الجزاء.
إنّ من تصفّح مصنّفات الحديث النبوي الشريف يجد أنّ هناك روايات تحدِّد وتعيِّن عدد الأئمّة بعد الرسول وسماتهم، من دون ذكر لأسمائهم، وهي أحاديث الأئمّة الاثني عشر التي رواها أصحاب الصحاح والمسانيد، وهي على وجه لا ينطبق إلّا على من عيّنهم الرسولصلى الله عليه و آله للخلافة والزعامة، ولذلك نذكرها في عداد أدلّة التنصيص على الخلافة، والإمعان فيها يرشد القارئ إلى الحقّ، ويأخذ بيده حتّى يرسي مركبه على شاطئ الأمان والحقيقة.
ويطيب لي أن أذكر مجموع هذه النصوص؛ فإنّها تؤكّد بعضها بعضاً، وإليك البيان.
1- روى البخاري عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقول: «يكون اثنا عشر أميراً» فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: أنّه قال: «كلّهم من قريش» «(1)».
2- روى مسلم عنه أيضاً، قال: دخلت مع أبي على النبيصلى الله عليه و آله فسمعته يقول:
«إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة». قال: ثم تكلّم بكلام خفي عليّ، قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: «كلّهم من قريش».
3- وروى عنه أيضاً، قال: سمعت النبيصلى الله عليه و آله يقول: «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلًا» ثمّ تكلّم النبيصلى الله عليه و آله بكلمة خفيت عليّ، فسألت أبي: ماذا قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله؟ فقال: قال: «كلّهم من قريش».
ص:105
4- وروى عنه أيضاً نفس الحديث إلّاأنّه لم يذكر: «لا يزال أمر الناس ماضياً».
5- وروى مسلم عنه أيضاً قال: سمعت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقول: «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة» ثمّ قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: قال:
«كلّهم من قريش» «(1)».
6- وروى مسلم عنه أيضاً، قال: انطلقت إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ومعي أبي فسمعته يقول: «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة» فقال كلمةصمّنيها الناس، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: قال: «كلّهم من قريش».
7- وروى مسلم عنه أيضاً قال: سمعت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يوم جمعة عشية رجم الأسلمي يقول: «لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش» «(2)».
8- روى أبو داود عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقول: «لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة» فكبّر الناس وضجّوا، ثمّ قال كلمة خفيّة، قلت لأبي: يا أبتِ ما قال؟ فقال: قال: «كلّهم من قريش» «(3)».
9- روى الترمذي عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «يكون من بعدي اثنا عشر أميراً» ثمّ تكلّم بشي ء لم أفهمه فسألت الذي يليني، فقال: قال:
«كلّهم من قريش».
قال الترمذي: هذا حديث حسنصحيح، وقد روي من غير وجه عن جابر، ثمّ ذكر طريقاً آخر إلى جابر «(4)».
ص:106
10- روى أحمد في مسنده عن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه و آله يقول:
«يكون لهذه الأُمّة اثنا عشر خليفة» ورواه عن 34 طريقاً «(1)».
11- روى الحاكم في المستدرك على الصحيحين في كتاب معرفة الصحابة عن عون بن جحيفة عن أبيه، قال: كنت مع عمّي عند النبيصلى الله عليه و آله فقال: «لا يزال أمر أُمّتيصالحاً حتّى يمضي اثنا عشر خليفة» ثمّ قال كلمة وخفض بهاصوته، فقلت لعمّي- وكان أمامي-: ما قال يا عمّ؟ قال: يا بني قال: «كلّهم من قريش» «(2)».
12- وروى أيضاً بسنده عن جرير عن المغيرة عن الشعبي عن جابر، قال:
كنت عند رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فسمعته يقول: «لا يزال أمر هذه الأُمّة ظاهراً حتى يقوم اثنا عشر خليفة» وقال كلمة خفيت عليّ، وكان أبي أدنى إليه مجلساً منّي فقلت: ما قال؟ فقال: «كلّهم من قريش».
13- قال ابن حجر في الصواعق: أخرج الطبراني عن جابر بن سمرة أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش» «(3)».
كما أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد شبَّه عدّة خلفائه بعدّة نقباء بني إسرائيل.
14- فقد روى أحمد بسنده عن مسروق، قال: كنّا جلوساً عند عبداللَّه بن مسعود وهو يقرؤنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول اللَّه كم يملك هذه الأُمّة من خليفة؟ فقال عبداللَّه بن مسعود: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثمّ قال: نعم، ولقد سألنا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فقال: «اثنا عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل» «(4)».
ص:107
15- ورواه الخطيب في تاريخه بسنده عن جابر بن سمرة «(1)».
16- وأورده المتقي الهندي في منتخب كنز العمّال عن أحمد والطبراني في المعجم الكبير، والحاكم في المستدرك «(2)».
17- قال السيوطي في تاريخ الخلفاء بسند حسن عن ابن مسعود: أنّه سئل كم يملك هذه الأُمّة من خليفة؟ فقال: سألنا عنها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فقال: «اثنا عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل» «(3)».
إلى غير ذلك من الأحاديث الدالّة على أنّ الأئمّة بعد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله اثنا عشر، وقد جاء فيها سماتهم وصفاتهم وعددهم، غير أنّ المهمّ هو تعيين مصاديقها والإشارة إلى أعيانها وأشخاصها، ولا تعلم إلّاباستقصاء وحصر السمات الواردة في هذه الأحاديث، وهذا ما يمكن إجماله بما يلي:
1- لا يزال الإسلام عزيزاً.
2- لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً.
3- لا يزال الدين قائماً.
4- لا يزال أمر الأُمّةصالحاً.
5- لا يزال أمر هذه الأُمّة ظاهراً.
6- كلّ ذلك حتّى يمضي فيهم اثنا عشر أميراً من قريش.
7- وحتى يليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش.
8- وإنّ عددهم كعدد نقباء بني إسرائيل.
وهذه السمات والخصوصيات لا تتمثّل مجتمعة إلّافي الأئمة الاثني عشر
ص:108
المعروفين عند الفريقين، وهذه الأحاديث من أنباء الغيب ومعجزات النبي الأكرمصلى الله عليه و آله، خصوصاً إذا ضُمّت إليها أحاديث الثقلين والسفينة وكون أهل بيت النبي أماناً لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء، وسيوافيك تفصيل هذه الأحاديث الثلاثة.
فالأئمّة الاثنا عشر المعروفون بين المسلمين، والذين ينادي بإمامتهم الشيعة الإمامية، والذين أوّلهم علي أمير المؤمنين وآخرهم المهدي تنطبق عليهم تلك العلائم، ومن وقف على حياتهم العلمية والاجتماعية والسياسية يقف على أنّهم هم المَثَل الأعلى في الأخلاق، والقمّة السامقة في العلم والعمل والتقوى والإحاطة بالقرآن والسنّة، وبهم حفظ اللَّه تعالى دينه وأعزّ رسالته.
وأمّا ما ورد في بعض هذه الطرق أنّ: «كلّهم تجتمع عليهم الأُمّة» فهو على فرض الصحّة، فالمراد منه تجتمع على الإقرار بإمامتهم جميعاً وقت ظهور آخرهم، و- على فرض الإبهام- لا تمنع عن الأخذ بمضامين الحديث.
هلمّ معي نقرأ ماذا يقول غير الشيعة في حقّ هذه الأحاديث، وكيف يؤوّلونها بالخلفاء القائمين بالأمر بعد النبي الأكرمصلى الله عليه و آله، وإليك نصوص كلامهم:
1- إنّ قوله اثنا عشر إشارة إلى عدد خلفاء بني أُميّة!! وأوّل بني أُميّة يزيد بن معاوية وآخرهم مروان الحمار وعدّتهم اثنا عشر، ولا يعد عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير؛ لكونهمصحابة، ولا مروان بن الحكم لكونهصحابياً أو لأنّه كان متغلّباً بعد أن اجتمع الناس على عبداللَّه بن الزبير، وليس على المدح بل على استقامة السلطنة، وهم يزيد بن معاوية وابنه معاوية ثم عبدالملك ثمّ الوليد ثمّ سليمان ثمّ عمر ابن عبد العزيز ثمّ يزيد بن عبد الملك ثمّ هشام بن عبد الملك ثمّ الوليد بن يزيد ثمّ يزيد بن الوليد ثمّ إبراهيم بن الوليد ثمّ مروان بن محمد «(1)».
ص:109
وجوابه: أنّه لو كان الرسول أراد هذا ولم يكن في مقام مدحهم فأيّ فائدة في الإخبار بذلك. ثمّ كيف يقول: إنّهاصدرت على غير سبيل المدح مع ما عرفت من السمات الواردة الصريحة في المدح مثل: «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً قائماً»، أو «أمر أُمّتيصالحاً». والعجب أنّه جعل أوّل الخلفاء يزيد بن معاوية بحجّة أنّه استقامت له السلطنة، مع أنّه كيف استتبّت له السلطنة وقد ثار عليه العراق في السنة الأُولى، وثار عليه أهل المدينة في السنة الثانية، وكان مجموع أيّامه مؤلّفة من حروب دامية وقتل ونهب وتدمير لا يقرّ بهاصاحب ذرّة من الشرف والإيمان.
2- «إنّ المراد أنّه يملك اثنا عشر خليفة بهذه السمات بعد وفاة المهدي» «(1)» وهذا من أغرب التفاسير؛ لأنّ الأخبار ظاهرة في اتصال خلافتهم بعصر النبي الأكرمصلى الله عليه و آله، ولأجل تبادر ذلك في أذهان الناس سألوا عبداللَّه بن مسعود عن عدد من يملك أمر هذه الأُمّة.
3- ما نقله ابن حجر في فتح الباري عن القاضي عياض: أنّ المراد بهم الخلفاء الذين اجتمع عليهم الناس، وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية، ويزيد، وعبد الملك، وأولاده الأربعة، الوليد ثمّ سليمان ثمّ يزيد ثمّ هشام، وعمر بن عبد العزيز بن سليمان ويزيد، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك «(2)».
ولا يكاد ينقضي تعجّبي من القاضي عياض وابن حجر كيف يعرّفان هؤلاء بمن عزّ بهم الإسلام والدين وصار منيعاً وفيهم يزيد بن معاوية ذلك السكير المستهتر الذي كان يشرب الخمر ويدع الصلاة، ولم يكتف بذلك بل ضرب الكعبة
ص:110
بالمنجنيق، وأباح المدينة ثلاثة أيّام بأعراضها وأموالها وأنفسها بعد قتله لابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الحسين بن علي عليه السلام وأُخوانه وأبنائه وخيرة أصحابه، وسيَّر بنات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سبايا دون حرمة لجدّهم إلى الشام من أرض كربلاء، فليت شعري ما هو ميزان القوم في تفسيرهم للسنّة النبوية وتعاملهم معها؟ وكلّ الحقائق تكذب ما ذهبوا إليه وماصرّحوا به.
وهل اعتزّ الإسلام بعبد الملك الذي يكفي في ذكر مساوئه تنصيبه الحجّاج على العراق فقتل من الصحابة والتابعين ما لا يخفى «(1)»؟!
وكيف اعتزّ الدين بالوليد بن يزيد بن عبد الملك المنتهك لحرمات اللَّه حاول أن يشرب الخمر فوق ظهر الكعبة ففتح المصحف فإذا بالآية الكريمة: واسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كلّ جَبّارٍ عَنيدٍ «(2)»
فألقاه ورماه بالسهام وأنشد:
تهدّدني بجبّار عنيد فها أنا ذاك جبّار عنيد
إذا ما جئت ربّك يوم حشر فقل ياربّ مزّقني الوليد
ومن أراد أن يقف على جنايات الرجل وأقربائه وأجداده فليقرأ التاريخ الذي اسودّتصفحاته بأفعالهم الشنيعة التي لا يسترها شي ء ولا يغفل عنها إلّاالسذج والبلهاء.
أقول: إنّ للكاتب القدير السيّد محمد تقي الحكيم كلاماً في هذه الأحاديث يطيب لي نقله. قال: والذي يستفاد من هذه الروايات:
1- أنّ عدد الأُمراء أو الخلفاء لا يتجاوز الاثني عشر وكلّهم من قريش.
2- أنّ هؤلاء الأُمراء معيّنون بالنص، كما هو مقتضى تشبيههم بنقباء
ص:111
بني إسرائيل، لقوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً «(1)».
3- أنّ هذه الروايات افترضت لهم البقاء ما بقي الدين الإسلامي أو حتى تقوم الساعة كما هو مقتضى رواية مسلم: «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة» وأصرح من ذلك روايته الأُخرى في نفس الباب: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقى من الناس اثنان».
إذاصحّت هذه الاستفادة فهي لا تلتئم إلّامع مبنى الإمامية في عدد الأئمّة وبقائهم وكونهم من المنصوص عليهم من قبلهصلى الله عليه و آله وهي منسجمة جدّاً مع حديث الثقلين وبقاؤهما حتّى يردا عليه الحوض.
وصحّة هذه الاستفادة موقوفة على أن يكون المراد من بقاء الأمر فيهم بقاء الإمامة والخلافة بالاستحقاق لا بالسلطة الظاهرية؛ لأنّ الخليفة الشرعي خليفة يستمدّ سلطته من اللَّه، وهي في حدود السلطة التشريعية لا التكوينية؛ لأنّ هذا النوع من السلطة هو الذي تقتضيه وظيفته باعتباره مشرّعاً، ولا ينافي ذلك ذهاب السلطة منهم في واقعها الخارجي وتسلّط الآخرين عليهم، على أنّ الروايات تبقى بلا تفسير لو تخلّينا عن حملها على هذا المعنى، لبداهة أنّ السلطة الظاهرية قد تولّاها من قريش أضعاف أضعاف هذا العدد، فضلًا عن انقراض دولهم وعدم النص على أحد منهم- أُمويين وعباسيين- باتّفاق المسلمين.
ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الروايات كانت مأثورة في بعض الصحاح والمسانيد قبل أن يكتمل عدد الأئمّة، فلا تحتمل أن تكون من الموضوعات بعد اكتمال العدد المذكور، على أنّ جميع رواتها من أهل السنّة ومن الموثوقين لديهم، ولعلّ حيرة كثير من العلماء في توجيه هذه الأحاديث، ومحاولة ملائمتها للواقع
ص:112
التاريخي كان منشؤها عدم تمكّنهم من تكذيبها، ومن هنا تضاربت الأقوال في توجيهها وبيان المراد منها.
والسيوطي- بعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الأحاديث المشكلة- خرج برأي غريب وهو أنّه وجد من الاثني عشر الخلفاء الأربعة، والحسن، ومعاوية، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز في بني أُمية، وكذلك الظاهر لما أُوتيه من العدل، وبقي اثنان منتظران، أحدهما المهدي؛ لأنّه من أهل بيت محمّدصلى الله عليه و آله. ولم يُبيّن المنتظر الثاني، ورحم اللَّه من قال في السيوطي: إنّه حاطب ليل.
ص:113
إنّ الإمام علي بن أبي طالب أشهر من أن يعرَّف، ولقد قام لفيف من السنّة والشيعة بتأليف كتب وموسوعات عن حياته، ومناقبه، وفضائله، وجهاده، وعلومه، وخطبه، وقصار كلماته، وسياسته، وحروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين، فالأولى لنا الاكتفاء بالميسور في هذا المجال، وإحالة القارئ إلى تلك الموسوعات، بيد أنّنا نكتفي هنا بذكر أوصافه الواردة في السنّة فنقول:
هو أمير المؤمنين، وسيّد المسلمين، وقائد الغرّ المحجّلين، وخاتم الوصيّين، وأوّل القوم إيماناً، وأوفاهم بعهد اللَّه، وأعظمهم مزيّة، وأقومهم بأمر اللَّه، وأعلمهم بالقضية، وراية الهدى، ومنار الإيمان، وباب الحكمة، والممسوس في ذات اللَّه، خليفة النبيّصلى الله عليه و آله، الهاشمي، وليد الكعبة المشرّفة، ومُطهّرها من كلصنم ووثن، الشهيد في البيت الإلهي (مسجد الكوفة) في محرابه حال الصلاة سنة 40 ه.
وكلّ جملة من هذه الجمل، وعبارة من هذه العبارات، كلمة قدسيّة نبويّة أخرجها الحفّاظ من أهل السنّة «(1)».
ص:114
تعود شخصية كلّ إنسان- حسب مايرى علماء النفس- إلى ثلاثة عوامل هامّة لكلّ منها نصيب وافر في تكوين الشخصية وأثر عميق في بناء كيانها.
وكأنّ الشخصية الإنسانية لدى كل إنسان أشبه بمثلث يتألّف من اتّصال هذه الأضلاع الثلاثة بعضها ببعض، وهذه العوامل الثلاثة هي:
1- الوراثة.
2- التعليم والثقافة.
3- البيئة والمحيط.
إنّ كلّ ما يتّصف به المرء منصفات حسنة أو قبيحة، عالية أو وضيعة تنتقل إلى الإنسان عبر هذه القنوات الثلاث، وتنمو فيه من خلال هذه الطرق.
وإنّ الأبناء لا يرثون منّا المال والثروة والأوصاف الظاهرية فقط كملامح الوجه ولون العيون وكيفيات الجسم، بل يرثون كلّ ما يتمتّع به الآباء من خصائص روحية وصفات أخلاقية عن طريق الوراثة كذلك.
فالأبوان- بانفصال جزئي «الحويمن» و «البويضة» المكوّنين للطفل منهما- إنّما ينقلان- في الحقيقة-صفاتهما ملخّصة إلى الخلية الأُولى المكوّنة من ذينك الجزأين، تلك الخلية الجنينية التي تنمو مع ما تحمل من الصفات والخصوصيات الموروثة.
ويشكّل تأثير الثقافة والمحيط، الضلعين الآخرين في مثلث الشخصية الإنسانية، فإنّ لهذين الأمرين أثراً مهمّاً وعميقاً في تنمية السجايا الرفيعة المودعة في باطن كل إنسان بصورة فطرية جبليّة أو الموجودة في كيانه بسبب الوراثة من الأبوين.
ص:115
فإنّ في مقدور كل معلّم أن يرسم مصير الطفل ومستقبله من خلال ما يلقي إليه من تعليمات وتوصيات وما يعطيه من سيرة وسلوك ومن آراء وأفكار، فكم من بيئة حوّلت أفراداًصالحين إلى فاسدين، أو فاسدين إلى صالحين.
وإنّ تأثير هذين العاملين المهمّين من الوضوح بحيث لايحتاج إلى المزيد من البيان والتوضيح. على أننّا يجب أن لاننسى دور إرادة الإنسان نفسه وراء هذه العوامل الثلاثة.
لم يكن الإمام علي عليه السلام بصفته بشراً بمستثنى من هذه القاعدة؛ فقد ورث الإمام أمير المؤمنين عليه السلام جانباً كبيراً من شخصيته النفسية والروحية والأخلاقية من هذه العوامل والطرق الثلاثة، وإليك تفصيل ذلك:
لقد انحدر الإمام علي منصلب والد عظيم الشأن، رفيع الشخصيّة هو أبوطالب، ولقد كان أبو طالب زعيم مكّة، وسيّد البطحاء، ورئيس بني هاشم، وهو إلى جانب ذلك، كان معروفاً بالسماحة والبذل والجود والعطاء والعطف والمحبّة والفداء والتضحية في سبيل الهدف المقدّس، والعقيدة التوحيديّة المباركة.
فهو الذي تكفّل رسول اللَّه منذ توفّي جدّه وكفيله الأوّل عبدالمطلب وهو آنذاك في الثامنة من عمره، وتولّى العناية به والقيام بشؤونه، وحفظه وحراسته في السفر والحضر، بإخلاص كبير واندفاع وحرص لانظير لهما، بل وبقي يدافع عن رسالة التوحيد، والدين الحق الذي جاء به النبي الكريمصلى الله عليه و آله ويقوم في سبيل إرساء قواعده ونشر تعاليمه بكل تضحية وفداء، و يتحمّل لتحقيق هذه الأهداف العليا كلّ تعب
ص:116
ونصب وعناء.
وقد انعكست هذه الحقيقة وتجلّى موقفه هذا في كثير من أشعاره وأبياته المجموعة في ديوانه بصورة كاملة مثل قوله:
ليعلم خيار الناس أنّ محمّداً نبيّ كموسى والمسيح ابن مريم
وقوله:
ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّداً رسولًا كموسى خُطّ في أوّل الكتب «(1)»
إنّ من المستحيل أن تصدر أمثال هذه التضحيات التي كان أبرزها محاصرة بني هاشم جميعاً في الشعب، ومقاطعتهم القاسية، من دافع غير الإيمان العميق بالهدف والشغف الكبير بالمعنوية، الذي كان يتّصف به أبوطالب؛ إذ لا تستطيع مجرّد الوشائج العشائرية، وروابط القربى، أن توجِد في الإنسان مثل هذه الروح التضحويّة.
إنّ الدلائل على إيمان أبي طالب بدين ابن أخيه تبلغ من الوفرة والكثرة بحيث استقطبت اهتمام كلّ المحقّقين المنصفين والمحايدين، ولكن بعض المتعصّبين توقّف في إيمان تلك الشخصية المتفانية العظيمة، بالدعوة المحمدية، بينما تجاوز فريق هذا الحدّ إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث قالوا بأنّه مات غير مؤمن.
ولوصحّت عُشر هذه الدلائل الدالّة على إيمان أبي طالب الثابتة في كتب التاريخ والحديث في حقّ رجل آخر لما شكّ أحد في إيمانه فضلًا عن إسلامه، ولكن لايعلم الإنسان لماذا لاتسطيع كل هذه الأدلّة إقناع هذه الزمرة، و إنارة الحقيقة لهم؟!
ص:117
هذا عن والد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
وأمّا أُمّه فهي فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي من السابقات إلى الإسلام والإيمان برسول اللَّهصلى الله عليه و آله وقد كانت قبل ذلك تتّبع ملّة إبراهيم.
إنّها المرأة الطاهرة التي لجأت- عند المخاض- إلى المسجد الحرام، وألصقت نفسها بجدار الكعبة وأخذت تقول:
«يا ربّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم وإنّه بنى البيت العتيق، فبحقّ الذي بنى هذا البيت و (بحقّ) المولود الذي في بطني إلّا ما يسّرت عليّ ولادتي». فدخلت فاطمة بنت أسد الكعبة ووضعت عليّاً هناك «(1)».
تلك فضيلة نقلها قاطبة المؤرّخين والمحدّثين الشيعة، وكذا علماء الأنساب في مصنّفاتهم، كما نقلها ثلّة كبيرة من علماء السنّة وصرّحوا بها في كتبهم، واعتبروها حادثة فريدة، وواقعة عظيمة لم يسبق لها مثيل «(2)».
وقال الحاكم النيسابورى: وقد تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم اللَّه وجهه في جوف الكعبة «(3)».
وقال شهاب الدين أبو الثناء السيد محمود الآلوسي: «وكون الأمير كرّم اللَّه وجهه، ولد في البيت، أمر مشهور في الدنيا ولم يشتهر وضع غيره كرّم اللَّه وجهه، كما اشتهر وضعه» «(4)».
ص:118
وأمّا التربية الروحية والفكرية والأخلاقية فقد تلقّاها علي عليه السلام في حجر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهي الضلع الثاني من أضلاع شخصيته الثلاثة.
ولو أنّنا قسّمنا مجموعة سنوات عمر الإمام عليه السلام إلى خمسة أقسام لوجدنا القسم الأوّل من هذه الأقسام الخمسة من حياته الشريفة، يؤلّف السنوات التي قضاها عليه السلام قبل بعثة النبي الأكرمصلى الله عليه و آله.
وانّ هذا القسم من حياته الشريفة لا يتجاوز عشر سنوات؛ لأنّ اللّحظة التي ولد فيها عليّ عليه السلام لم يكن النبيّصلى الله عليه و آله قد تجاوز الثلاثين من عمره المبارك، هذا مع العلم بأنّهصلى الله عليه و آله قد بعث بالرسالة في سنّ الأربعين.
وعلى هذا الأساس لم يكن الإمام عليّ عليه السلام قد تجاوز السنة العاشرة من عمره يوم بعث رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بالرسالة، وتوّج بالنبوّة.
إنّ أبرز الحوادث في حياة الإمام عليّ عليه السلام هو تكوين الشخصية العلوية، وتحقّق الضلع الثاني من المثلّث الذي أسلفناه بواسطة النبيّ الأكرم، وفي ظلّ ما أعطاهصلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام من أخلاق وأفكار؛ لأنّ هذا القسم في حياة كل إنسان وهذه الفترة من عمره هي من اللحظات الخطيرة، والقيّمة جدّاً، فشخصيّة الطفل في هذه الفترة تشبه صفحة بيضاء نقيّة تقبل كلّ لون، وهي مستعدّة لأن ينطبع عليها كلّصورة مهما كانت، وهذه الفترة من العمر تعتبر- بالتالي- خير فرصة لأن ينمّي المربّون والمعلّمون فيها كلّما أودعت يد الخالق في كيان الطفل من سجايا طيّبة وصفات كريمة، وفضائل أخلاقية نبيلة، ويوقفوا الطفل- عن طريق التربية- على القيم الأخلاقية والقواعد الإنسانية وطريقة الحياة السعيدة، وتحقيقاً لهذا الهدف الساميّ تولّى النبي الكريمصلى الله عليه و آله بنفسه تربية عليّ عليه السلام بعد ولادته، وذلك عندما أتت فاطمة بنت أسد بوليدها عليّ عليه السلام إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فلقيت من رسول اللَّه حبّاً
ص:119
شديداً لعليّ حتّى أنّه قال لها: «اجعلي مهده بقرب فراشي» وكانصلى الله عليه و آله يطهّر علياً في وقت غسله، ويوجره اللّبن عند شربه، ويحرّك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويلاحظه ويقول: «هذا أخي، ووليّي، وناصري، وصفيّي، وذخري، وكهفي، وصهري، ووصيّي، و زوج كريمتي، وأميني على وصيّتي، وخليفتي» «(1)».
ولقد كانت الغاية من هذه العناية هي أن يتمّ توفير الضلع الثاني في مثلّث الشخصية (وهو التربية) بواسطتهصلى الله عليه و آله، وأن لا يكون لأحد غير النبيّصلى الله عليه و آله دخل في تكوين الشخصية العلوية الكريمة.
وقد ذكر الإمام عليّ عليه السلام ما أسداه الرسول الكريم إليه وما قام به تجاهه في تلكم الفترة إذ قال:
«وقد علمتم موضعي من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بالقرابة القريبة، والمنزلة الخَصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد، يضمّني إلىصدره، ويَكنُفني في فراشه، ويمسُّني جسدَه، ويُشمّني عَرْفَه، وكان يمضغ الشي ء ثمّ يُلقمنيه» «(2)».
وإذ كان اللَّه تعالى يريد لولي دينه أن ينشأ نشأةصالحة وأن يأخذ النبي عليّاً إلى بيته وأن يقع منذ نعومة أظفاره تحت تربية النبي الأكرمصلى الله عليه و آله، ألفت نظر نبيّه إلى ذلك.
قد ذكر المؤرّخون أنّه أصابت مكّة- ذات سنة- أزمة مهلكة وسنة مجدبة منهكة، وكان أبوطالب- رضي اللَّه عنه- ذا مال يسير وعيال كثير فأصابه ما أصاب قريشاً من العدم والضائقة والجهد والفاقة، فعند ذلك دعا رسول اللَّه عمّه
ص:120
العباس إلى أن يتكفّل كل واحد منهما واحداً من أبناء أبي طالب وكان العباس ذا مال وثروة وجدة فوافقه العباس على ذلك؛ أخذ النبي عليّاً، وأخذ العباس جعفراً وتكفّل أمره، وتولّى شؤونه «(1)».
هكذا وللمرّة الأُخرى أصبح عليّ عليه السلام في حوزة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بصورة كاملة، واستطاع بهذه المرافقة الكاملة أن يقتطف من ثمار أخلاقه العالية وسجاياه النبيلة، الشي ء الكثير، وأن يصل تحت رعاية النبي وعنايته وبتوجيهه وقيادته، إلى أعلى ذروة من ذرى الكمال الروحي.
وهذا هو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يشير إلى تلك الأيام القيّمة وإلى تلك الرعاية النبويّة المباركة المستمرّة إذ يقول:
«ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أُمّه، يرفع لي كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به» «(2)».
كان النبيّ- حتّى قبل أن يبعث بالرسالة والنبوّة- يعتكف ويتعبّد في غار حراء شهراً من كلّ سنة، فإذا انقضى الشهر وقضى جواره من حراء انحدر من الجبل، وتوجّه إلى المسجد الحرام رأساً وطاف بالبيت سبعاً، ثم عاد إلى منزله. وهنا يطرح سؤال: ماذا كان شأن عليّ عليه السلام في تلك الأيام التي كان يتعبّد ويعتكف فيها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في ذلك المكان مع ما عرفناه من حبّ الرسول الأكرم له؟ هل كان يأخذصلى الله عليه و آله عليّاً معه إلى ذلك المكان العجيب أم كان يتركه ويفارقه؟
إنّ القرائن الكثيرة تدلّ على أنّ النبيصلى الله عليه و آله منذ أن أخذ علياً لم يفارقه يوماً أبداً؛
ص:121
فهاهم المؤرّخون يقولون: كان عليّ يرافق النبيّ دائماً ولا يفارقه أبداً، حتّى أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله كان إذا خرج إلى الصحراء أو الجبل أخذ عليّاً معه «(1)».
يقول ابن أبي الحديد: وقد ذكر عليّ عليه السلام هذا الأمر في الخطبة القاصعة إذ قال:
«ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه ولايراه غيري» «(2)».
إنّ هذه العبارة وإن كانت محتملة في مرافقته للنبيّ في حرّاء بعد البعثة الشريفة إلّا أنّ القرائن السابقة وكون مجاورة النبيّ بحراء كانت في الأغلب قبل البعثة، تؤيّد أنّ هذه الجملة، يمكن أن تكون إشارة إلىصحبة عليّ للنبيّ في حراء قبل البعثة.
إنّ طهارة النفسيّة العلوية، ونقاوة الروح التي كان عليّ عليه السلام يتحلّى بها، والتربية المستمرّة التي كان يحظى بها في حجر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، كل ذلك كان سبباً في أن يتّصف عليّ عليه السلام- ومنذ نعومة أظفاره- ببصيرة نفّاذة وقلب مستنير، وأُذن سميعة واعية تمكّنه من أن يرى أشياءَ ويسمع أمواجاً تخفى على الناس العاديين، و يتعذّر عليهم سماعها ورؤيتها، كما يصرّح نفسه بذلك إذ يقول:
«أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة» «(3)».
يقول الإمام الصادق عليه السلام:
«كان عليّ عليه السلام يرى مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبل الرسالة الضوء، ويسمع الصوت».
وقد قال له النبيّ صلى الله عليه و آله: لولا أنّي خاتم الأنبياء لكنتَ شريكاً في النبوّة، فإن لا تكن نبيّاً فإنّك وصيّ نبيّ ووارثه، بل أنت سيّد الأوصياء وإمام الأتقياء» «(4)».
ويقول الإمام عليّ عليه السلام: «لقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه و آله
ص:122
فقلت: يا رسول اللَّه ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان أيس من عبادته، ثمّ قال له:
«إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلّاأنّك لست بنبيّ ولكنّك وزير» «(1)».
هذا هو الرافد الثاني الذي كان يرفد الشخصية العلوية بالأخلاق والسجايا الرفيعة.
ولو أضفنا ذينك الأمرين (أي ما اكتسبه من والديه الطاهرين بالوراثة، وما تلقّاه في حجر النبيّ) إلى ما أخذه من بيئة الرسالة والإسلام من أفكار وآراء رفيعة، وتأثّر عنها أدركنا عظمة الشخصية العلوية من هذا الجانب.
ومن هنا يحظى الإمام عليّ عليه السلام بمكانة مرموقة لدى الجميع؛ مسلمين وغير مسلمين؛ لما كان يتمتّع به من شخصية سامقة، وخصوصيات خاصّة يتميّز بها.
وهذا هو ما دفع بالبعيد والقريب إلى أن يصف عليّاً بما لم يوصف به أحد من البشر، ويخصّه بنعوت، حرم منها غيره، فهذا الدكتور شبلي شميل المتوفّى سنة 1335 ه/ 1917 م وهو من كبار المادّيين في القرن الحاضر يقول:
الإمام عليّ بن أبي طالب عظيم العظماء نسخة مفردة لم ير لها الشرق ولا الغربصورة طبق الأصل لا قديماً ولاحديثاً «(2)».
قال عمر بن الخطّاب:
«عقمت النساء أن يلدن مثل عليّ بن أبي طالب» «(3)».
ويقول جورج جرداق الكاتب المسيحي اللبناني المعروف:
«وماذا عليك يا دنيا لو حشدت قواك فأعطيت في كلّ زمن عليّاً بعقله وقلبه
ص:123
ولسانه وذي فقاره» «(1)».
هذه الأبعاد التي ألمحنا إليها هي الأبعاد الطبيعية للشخصية العلوية.
غير أنّ أبعاد شخصية الإمام عليّ عليه السلام لاتنحصر في هذه الأبعاد الثلاثة؛ فإنّ لأولياءاللَّه سبحانه بعداً رابعاً، داخلًا في هويّة ذاتهم، وحقيقة شخصيتهم، وهذا البعد هوالذي ميّزهم عن سائر الشخصيات وأضفى عليهم بريقاً خاصّاً ولمعاناً عظيماً.
وهذا البعد هو البعد المعنوي الذي ميّز هذه الصفوة عن الناس، وجعلهم نخبة ممتازة وثلّة مختارة من بين الناس؛ وهو كونهم رسل اللَّه وأنبياءه، أو خلفاءه وأوصياء أنبيائه.
نرى أنّه سبحانه يأمر رسوله أن يصف نفسه بقوله: «قُلْ سُبْحان ربِّي هَلْ كُنْتُ إلّابَشَراً رَسُولًا» «(2)».
فقوله: «بَشَراً» إشارة إلى الأبعاد البشرية الموجودة في كلّ إنسان طبيعيّ، وإن كانوا يختلفون فيها فيما بينهم كمالًا ولمعاناً.
وقوله: «رَسُولًا» إشارة إلى ذلك البعد المعنوي الذي ميّزهصلى الله عليه و آله عن الناس وجعله معلّماً وقدوة للبشر، فلأجل ذلك يقف المرء في تحديد الشخصيات الإلهية على شخصية مركّبة من بعدين: طبيعي و إلهي ولا يقدر على توصيفها إلّابنفس ما وصفهم به اللَّه سبحانه مثل قوله في شأن الرسول الأكرمصلى الله عليه و آله:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي
ص:124
التَّوْراةِ وَالإنْجِيلِ يَأمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيّباتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَ الأغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ «(1)»
وقد نزلت في حقّ الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام آيات، ووردت روايات.
كيف وقد قال رسو ل اللَّهصلى الله عليه و آله:
«عنوانصحيفة المؤمن حبّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام» «(2)».
وقالصلى الله عليه و آله:
«من سرّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي فليوال عليّاً بعدي، وليوال وليّه، وليقتد بالأئمّة من بعدي؛ فإنّهم عترتي خلقوا من طينتي، رزقوا فهماً وعلماً، وويل للمكذّبين بفضلهم من أُمّتي، القاطعين فيهمصلتي، لا أنالهم اللَّه شفاعتي» «(3)».
وقال الإمام أحمد بن حنبل:
ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعليّ رضى الله عنه «(4)».
وقال الإمام الفخر الرازي:
من اتّخذ عليّاً إماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه «(5)».
وقال أيضاً:
من اقتدى في دينه بعليّ بن أبي طالب فقد اهتدى لقول النبيّصلى الله عليه و آله: اللّهمّ أدر الحقّ مع عليّ حيث دار «(6)».
ص:125
لاعتب على اليراع لو وقف عند تحديد شخصيّة كريمة معنويّة خصّها اللَّه تعالى بمواهب وفضائل، وكفى في ذلك ما رواه طارق بن شهاب، قال: كنت عند عبداللَّه ابن عباس فجاء أُناس من أبناء المهاجرين فقالوا له: يا بن عباس أيّ رجل كان عليّ بن أبي طالب؟
قال: ملئ جوفه حكماً وعلماً وبأساً ونجدة وقرابة من رسول اللَّه «(1)».
روى عكرمة عن ابن عباس قال: ما نزل في القرآن: «يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعليّ عليه السلام رأسها وأميرها، ولقد عاتب اللَّه أصحاب محمّد في غير مكان، وما ذكر عليّاً إلّابخير «(2)».
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما نزل في أحد من كتاب اللَّه ما نزل في عليّ «(3)».
وقال ابن عباس: نزلت في عليّ أكثر من ثلاثمائة آية في مدحه «(4)».
نكتفي في ترجمة عليّ عليه السلام بكلمتين عن تلميذيه اللّذين كانا معه سرّاً وجهراً.
1- قال ابن عباس- عندما سئل عن عليّ-: رحمة اللَّه على أبي الحسن، كان واللَّه علم الهدى، وكهف التقى، وطود النهى، ومحلّ الحجى، وغيث الندى، ومنتهى العلم للورى، ونوراً أسفر في الدجى، وداعياً إلى المحجّة العظمى، ومستمسكاً بالعروة الوثقى، أتقى من تقمّص وارتدى، وأكرم من شهد النجوى بعد محمد المصطفى، وصاحب القبلتين، وأبو السبطين، وزوجته خير النساء، فما يفوقه أحد،
ص:126
لم تر عيناي مثله، ولم أسمع بمثله، فعلى من أبغضه لعنة اللَّه ولعنة العباد إلى يوم التناد «(1)».
2- إنّ معاوية سأل ضرار بن حمزة بعد موت عليّ عنه، فقال:صف لي عليّاً، فقال: أو تعفيني؟ قال:صفه، قال: أو تعفيني؟ قال: لا أعفيك، قال: أمّا إذ لابدّ فأقول ما أعلمه منه:
واللَّه كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلًا، ويحكم عدلًا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان واللَّه غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلّب كفّيه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب.
كان واللَّه كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه ويبتدئنا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن واللَّه مع تقريبه لنا وقربه منّا لانكلّمه هيبة، ولانبتدئه عظمة، إن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدين، ويحبّ المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله.
فأشهد باللَّه لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين، وكأنّي أسمعه وهو يقول: يا دنيا أبي تعرّضت؟ أم إليّ تشوّقت؟ هيهات هيهات غرّي غيري، قد باينتك ثلاثاً لارجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كثير، آه من قلّة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.
قال: فذرفت دموع معاوية على لحيته فما يملكها وهو ينشفها بكمّه وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال معاوية: رحم اللَّه أباالحسن! كان واللَّه كذلك، فكيف حزنك
ص:127
عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها؛ فلا ترقأ عبرتها ولايسكن حزنها «(1)».
هذه شذرات من فضائله، وقبسات من مناقبه الكثيرة التي حفظها التاريخ من تلاعب الأيدي.
غير أنّه لا يعرف عليّاً غير خالقه، وبعدهصاحب الرسالة الكبرى ابن عمه المصطفى صلى الله عليه و آله.
ص:128
لا شكّ في أنّ الدين الإسلامي دين عالميّ، وشريعة خاتمة، وقد كانت قيادة الأُمّة الإسلامية من شؤون النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله ما دام على قيد الحياة، وطبع الحال يقتضي أن يوكل مقام القيادة بعده إلى أفضل أفراد الأُمّة وأكملهم.
إنّ في هذه المسألة؛ وهي أنّ منصب القيادة بعد النبيّصلى الله عليه و آله هل هو منصب تنصيصيّ تعيينيّ أو أنّه منصب انتخابيّ؟ اتّجاهين:
فالشيعة ترى أنّ مقام القيادة منصب تنصيصيّ، ولابدّ أن يُنصّ على خليفة النبيّ من السماء، بينما يرى أهل السنّة أنّ هذا المنصب انتخابيّ جمهوريّ؛ أي أنّ على الأُمّة أن تقوم بعد النبيّ باختيار فرد من أفرادها لإدارة البلاد.
إنّ لكل من الاتّجاهين المذكورين دلائل، ذكرها أصحابهما في الكتب العقائدية، إلّاأنّ ما يمكن طرحه هنا هو تقييم ودراسة المسألة في ضوء دراسة وتقييم الظروف السائدة في عصر الرسالة؛ فإنّ هذه الدراسة كفيلة بإثباتصحّة أحد الاتّجاهين.
إنّ تقييم الأوضاع السياسية داخل المنطقة الإسلامية وخارجها في عصر الرسالة يقضي بأنّ خليفة النبىّصلى الله عليه و آله لابدّ أن يعيَّن من جانب اللَّه تعالى، ولا يصحّ أن يوكل هذا إلى الأُمّة؛ فإنّ المجتمع الإسلامي كان مهدّداً على الدوام بالخطر الثلاثي (الروم- الفرس- المنافقون) بشنّ الهجوم الكاسح، وإلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين.
كما أنّ مصالح الأُمّة كانت توجب أن تتوحّدصفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي، وذلك بتعيين قائد سياسي من بعده، وبذلك يسدّ الطريق على نفوذ العدو في جسم الأُمّة الإسلامية والسيطرة عليها، وعلى مصيرها.
ص:129
وإليك بيان وتوضيح هذا المطلب:
لقد كانت الإمبراطورية الرومانيّة أحد أضلاع الخطر المثلّث الذي يحيط بالكيان الإسلامي، ويهدّده من الخارج والداخل، وكانت هذه القوّة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغل بال النبي القائد على الدوام، حتّى إنّ التفكير في أمر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتّى لحظة الوفاة، والالتحاق بالرفيق الأعلى.
وكانت أوّل مواجهة عسكرية بين المسلمين والجيش المسيحي الرومي وقعت في السنة الثامنة من الهجرة في أرض فلسطين، وقد أدّت هذه المواجهة إلى استشهاد القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم: «جعفر الطيار» و «زيد بن حارثة» و «عبد اللَّه بن رواحة»، ولقد تسبّب انسحاب الجيش الإسلامي بعد استشهاد القادة المذكورين إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي، فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرّض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.
من هنا خرج رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في السنة التاسعة للهجرة على رأس جيش كبير جدّاً إلى حدود الشام ليقود بنفسه أيّة مواجهة عسكرية، وقد استطاع الجيش في هذا الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد هيبته الغابرة، ويجدّد حياته السياسية.
غير أنّ هذا الانتصار المحدود لم يقنع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فأعدّ قُبيل مرضه جيشاً كبيراً من المسلمين، وأمّر عليهم «أُسامة بن زيد»، وكلّفهم بالتوجّه إلى حدود الشام، والحضور في تلك الجبهة.
أمّا الضلع الثاني من المثلث الخطير الذي كان يهدّد الكيان الإسلامي، فكان الإمبراطورية الإيرانية (الفارسية) وقد بلغ من غضب هذه الإمبراطورية على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ومعاداتها لدعوته، أن أقدم إمبراطور إيران «خسرو برويز» على
ص:130
تمزيق رسالة النبي صلى الله عليه و آله، وتوجيه الإهانة إلى سفيره بإخراجه من بلاطه، والكتابة إلى واليه وعامله على اليمن بأن يوجّه إلى المدينة من يقبض على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، أو يقتله إن امتنع.
و «خسرو» هذا وإن قتل في زمن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله إلّاأنّ استقلال اليمن- التي رزخت تحت استعمار الامبراطورية الإيرانية ردحاً طويلًا من الزمان- لم يغب عن نظر ملوك إيران آنذاك، وكان غرور أُولئك الملوك وتجبّرهم وكبرياؤهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوة الجديدة (القوة الإسلامية) لهم.
والخطر الثالث كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين كالطابور الخامس على تقويض دعائم الكيان الإسلامي من الداخل إلى درجة أنّهم قصدوا اغتيال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في طريق العودة من تبوك إلى المدينة.
فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخطر يقول في نفسه: إنّ الحركة الإسلامية سينتهي أمرها بموت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ورحيله، وبذلك يستريح الجميع «(1)».
ولقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بمكيدة مشؤومة لتوجيه ضربة إلى الأُمّة الإسلامية من الداخل، وذلك عندما أتى علياً عليه السلام وعرض عليه أن يبايعه ضدّ من عيّنه رجال السقيفة، ليستطيع بذلك تشطير الأُمّة الإسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين، فيتمكّن من التصيّد في الماء العكر.
ولكنّ الإمام علياً عليه السلام أدرك بذكائه البالغ نيّات أبي سفيان الخبيثة، فرفض مطلبه وقال له كاشفاً عن دوافعه ونيّاته الشريرة:
«واللَّه ما أردت بهذا إلّا الفتنة، وإنّك- واللَّه- طالما بغيت للإسلام شرّاً.
لا حاجة لنا في نصيحتك» «(2)».
ص:131
ولقد بلغ دور المنافقين التخريبي من الشدّة بحيث تعرّض القرآن لذكرهم في سور عديدة هي: سورة آل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والعنكبوت، والأحزاب، ومحمّدصلى الله عليه و آله، والفتح، والمجادلة، والحديد، والمنافقون، والحشر.
فهل مع وجود مثل هؤلاء الأعداء الخطرين والأقوياء الذين كانوا يتربّصون بالإسلام الدوائر، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه، يصحّ أن يترك رسول اللَّه أُمّته الحديثة العهد بالإسلام، الجديدة التأسيس من دون أن يعيّن لهم قائداً دينياً سياسياً؟!!
إنّ المحاسبات الاجتماعية تقول: إنّه كان من الواجب أن يمنع رسول الإسلام بتعيين قائد للأُمّة،... من ظهور أيّ اختلاف وانشقاق فيها من بعده، وأن يضمن استمرار وبقاء الوحدة الإسلامية بإيجاد حصن قويّ وسياج دفاعي متين حول تلك الأُمّة.
إنّ تحصين الأُمّة، وصيانتها من الحوادث المشؤومة، والحيلولة دون مطالبة كلّ فريق «الزعامة» لنفسه دون غيره، وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة، لم يكن ليتحقّق، إلّابتعيين قائد للأُمّة، وعدم ترك الأُمور للأقدار.
إنّ هذه المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلىصحّة نظرية «التنصيص على القائد بعد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله» ولعلّ لهذه الجهة ولجهات أُخرى طرح رسول الإسلام مسألة الخلافة في الأيام الأُولى من ميلاد الرسالة الإسلامية، وظلّ يواصل طرحها والتذكير بها طوال حياته حتّى الساعات الأخيرة منها، حيث عيّن خليفته ونصّ عليه بالنصّ القاطع الواضح الصريح في بدء دعوته، وفي نهايتها أيضاً.
وإليك بيان كلا هذين المقامين:
ص:132
بغضّ النظر عن الأدلّة العقلية والفلسفية التي تثبتصحّة الرأي الأوّل بصورة قطعيّة، هناك أخبار وروايات وردت في المصادر المعتبرة تثبتصحّة الموقف والرأي الذي ذهب إليه علماء الشيعة وتصدّقه، فقد نصّ النبيّصلى الله عليه و آله على خليفته من بعده في الفترة النبوية من حياته مراراً وتكراراً، وأخرج موضوع الإمامة من مجال الانتخاب الشعبي والرأي العام.
فهو لم يعيّن (ولم ينصّ على) خليفته ووصيّه من بعده في أُخريات حياته فحسب، بل بادر إلى التعريف بخليفته ووصيّه منذ بدء الدعوة يوم لم ينضو تحت راية رسالته بعدُ سوى بضعة عشر من الأشخاص، وذلك يوم أُمر من جانب اللَّه العليّ القدير أن ينذر عشيرته الأقربين من العذاب الإلهي الأليم، وأن يدعوهم إلى عقيدة التوحيد قبل أن يصدع برسالته للجميع، ويبدأ دعوته العامة للناس كافة.
فجمع أربعين رجلًا من زعماء بني هاشم وبني المطلّب، ثمّ وقف فيهم خطيباً فقال:
«أيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟»
فأحجم القوم، وقام عليّ عليه السلام وأعلن مؤازرته وتأييده له، فأخذ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله برقبته، والتفت إلى الحاضرين، وقال:
«إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم» «(1)».
وقد عرف هذا الحديث عند المفسّرين والمحدّثين: ب «حديث يوم الدار» و «حديث بدء الدعوة».
ص:133
على أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يكتف بالنصّ على خليفته في بدء رسالته، بلصرّح في مناسبات شتّى في السفر والحضر، بخلافة عليّ عليه السلام من بعده، ولكن لا يبلغ شي ء من ذلك في الأهمية والظهور والصراحة والحسم ما بلغه حديث الغدير.
لمّا انتهت مراسم الحجّ، وتعلّم المسلمون مناسك الحجّ من رسول اللَّه، قرّر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله الرحيل عن مكّة، والعودة إلى المدينة، فأصدر أمراً بذلك، ولمّا بلغ موكب الحجيج العظيم إلى منطقة «رابغ» «(1)» التي تبعد عن «الجحفة» «(2)» بثلاثة أميال، نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بمنطقة تدعى «غدير خم»، وخاطبه بالآية التالية:
يأيُّها الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ رَبّك وإنْ لمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتهُ وَاللَّه يَعْصِمُك مِنَ النّاسِ «(3)».
إنّ لسان الآية وظاهرها يكشف عن أنّ اللَّه تعالى ألقى على عاتق النبيّصلى الله عليه و آله مسؤولية القيام بمهمّة خطيرة، وأيّ أمر أكثر خطورة من أن ينصّب علياً عليه السلام لمقام الخلافة من بعده على مرأى ومسمع من مائة ألف شاهد؟!
من هنا أصدر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أمره بالتوقّف، فتوقّف طلائع ذلك الموكب العظيم، والتحق بهم من تأخر.
لقد كان الوقت وقت الظهيرة، وكان المناخ حارّاً إلى درجة كبيرة جّداً، وكان الشخص يضع قسماً من عباءته فوق رأسه والقسم الآخر منها تحت قدميه، وصنع للنبيّصلى الله عليه و آله مظلّة، وكانت عبارة عن عباءة أُلقيت على أغصان شجرة (سمرة)، وصلّى
ص:134
رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالحاضرين الظهر جماعة وفيما كان الناس قد أحاطوا بهصعدصلى الله عليه و آله على منبر أُعدّ من أحداج الإبل وأقتابها، وخطب في الناس رافعاًصوته، وهو يقول:
«الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونؤمن به ونتوكّل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، الذي لا هادي لمن أضلّ، ولا مضلّ لمن هدى، وأشهد أن لا إله إلّا هو، وأنّ محمداً عبده ورسوله.
أمّا بعد؛ أيّها الناس إنّي أُوشك أن أُدعى فأُجيب، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟»
قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت، فجزاك اللَّه خيراً.
قالصلى الله عليه و آله: «ألستم تشهدون أن لا إله إلّااللَّه، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ اللَّه يبعث من في القبور؟»
قالوا: بلى نشهد بذلك.
قالصلى الله عليه و آله: «اللّهمّ اشهد».
ثمّ قالصلى الله عليه و آله: «وإنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً».
فنادى منادٍ: بأبي أنت وأُمّي يا رسول اللَّه، وما الثقلان؟
قالصلى الله عليه و آله: «كتاب اللَّه سبب طرف بيد اللَّه، وطرف بأيديكم، فتمسّكوا به؛ والآخر عترتي، وإنّ اللّطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا».
وهنا أخذ بيد عليّ عليه السلام ورفعها، حتى رؤي بياض آباطهما، وعرفه الناس أجمعون ثمّ قال:
«أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟»
قالوا: اللَّه ورسوله أعلم.
ص:135
فقال صلى الله عليه و آله:
«إنّ اللَّه مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه «(1)».
اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأحب من أحبّه، وابغض من بغضه، وأدر الحق معه حيث دار» «(2)».
فلمّا نزل من المنبر، استجازه حسّان بن ثابت شاعر عهد الرسالة في أن يفرغ ما نزل به الوحي في قالب الشعر، فأجازه الرسول، فقام وأنشد:
يناديهم يوم الغدير نبيّهم بخمّ وأكرم بالنبيّ مناديا
يقول فمن مولاكم ووليّكم فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت وليّنا ولم ترَ منّا في الولاية عاصيا
فقال له قم يا عليّ فإنّني رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليّه فكونوا له أنصارصدقٍ ومواليا
هناك دعا: اللّهمّ! وال وليّه وكن للذي عادى عليّاً معاديا
هذه هي واقعة الغدير استعرضناها لك على وجه الإجمال، وهي بحقّ واقعة لا يسوغ لأحد إنكارها بأدنى مراتب التشكيك والقدح، فقد تناولها بالذكر أئمّة المؤرّخين أمثال: البلاذري، وابن قتيبة، والطبري، والخطيب البغدادي، وابن عبدالبرّ، وابن عساكر، وياقوت الحموي، وابن الأثير، وابن أبي الحديد، وابن خلّكان، واليافعي، وابن كثير، وابن خلدون، والذهبي، وابن حجر
ص:136
العسقلاني، وابن الصباغ المالكي، والمقريزي، وجلال الدين السيوطي، ونور الدين الحلبي إلى غير ذلك من المؤرّخين الذين جادت بهم القرون والأجيال.
كما ذكره أيضاً أئمّة الحديث أمثال: الإمام الشافعى، وأحمد بن حنبل، وابن ماجة، والترمذي، والنسائي، وأبو يعلي الموصلي، والبغوي، والطحّاوي، والحاكم النيسابوري، وابن المغازلي، والخطيب الخوارزمي، والكنجي، ومحبّ الدين الطبري، والحمويني، والهيثمي، والجزري، والقسطلاني، والمتقي الهندي، وتاج الدين المناوي، وأبو عبداللَّه الزرقاني، وابن حمزة الدمشقي إلى غير ذلك من أعلام المحدّثين الذين يقصر المقال عن عدّهم وحصرهم.
كما تعرّض له كبار المفسرين، فقد ذكره: الطبري، والثعلبي، والواحدي- في أسباب النزول، والقرطبي، وأبو السعود، والفخر الرازي، وابن كثير الشامي، والنيسابوري، وجلال الدين السيوطي، والآلوسي، والبغدادي.
وذكره من المتكلّمين طائفة جمّة في خاتمة مباحث الإمامة وإن ناقشوا نقضاً وإبراماً في دلالته كالقاضي أبي بكر الباقلاني في تمهيده، والقاضي عبد الرحمن الإيجي في مواقفه، والسيد الشريف الجرجاني في شرحه، وشمس الدين الأصفهاني في مطالع الأنوار، والتفتازاني في شرح المقاصد، والقوشجي في شرح التجريد إلى غير ذلك من المتكلّمين الذين تعرّضوا لحديث الغدير وبحثوا حول دلالته ووجه الحجّة فيه.
أراد المولى عزّوجلّ أن يبقى حديث الغدير غضّاً طرياً على مرّ الأجيال لم يُكدّرصفاء حقيقته الناصعة تطاول الأحقاب، وكرّ الأزمان، وانصرام الأعوام، ويرجع ذلك إلى أُمور ثلاثة:
ص:137
1- إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قد هتف به في مزدحم غفير يربو على عشرات الآلاف عند منصرفه من الحجّ الأكبر، فنهض بالدعوة والإعلان، وحوله جموع من وجوه الصحابة وأعيان الأُمّة، وأمر بتبليغ الشاهد الغائب ليكونوا كافّة على علم وخبر بما تمّ إبلاغه.
2- إنّ اللَّه سبحانه قد أنزل في تلك المناسبة آيات تلفت نظر القارئ إلى الواقعة عندما يتلوها وإليك الآيات:
أ- «يا أيُّها الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ رَبّك وإنْ لمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتهُ وَاللَّه يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ» «(1)».
وقد ذكر نزولها في واقعة الغدير طائفة من المفسّرين يربو عددهم على الثلاثين، وقد ذكر العلّامة البحّاثة المحقّق الأميني في كتاب «الغدير» نصوص عبارات هؤلاء، فمن أراد الاطلاع عليها، فليرجع إليه.
ب- «اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً» «(2)».
وقد نقل نزول الآية جماعة منهم يزيدون على ستّة عشر.
ج- «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ* لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ* مِنَ اللَّه ذِي المَعارِج» «(3)».
وقد ذكر أيضاً نزول هذه الآية جماعة من المفسّرين ينوف على الثلاثين، أضف إلى ذلك أنّ الشيعة عن بكرة أبيهم متّفقون على نزول هذه الآيات الثلاث في شأن هذه الواقعة «(4)».
ص:138
3- إنّ الحديث منذصدوره من منبع الوحي، تسابقت الشعراء والأُدباء على نظمه، وإنشاده في أبيات وقصائد امتدّت رقعتها منذ عصر انبثاق ذلك النصّ في تلك المناسبة إلى عصرنا هذا، وبمختلف اللغات والثقافات، وقد تمكّن البحّاثة المتضلّع العلّامة الأميني من استقصاء وجمع كلّ ما نظم باللغة العربية حول تلك الحادثة، والمؤمّل والمنتظر من كافّة المحقّقين على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم استنهاض هممهم لجمع ما نظم وأُنشد في أدبهم الخاص.
وحصيلة الكلام: قلّما نجد حادثة تاريخية حظيت في العالم البشري عامّة، وفي التاريخ الإسلامي والأُمّة الإسلامية خاصّة بمثل ما حظيت به واقعة الغدير، وقلّما استقطبت اهتمام الفئات المختلفة من المحدّثين والمفسّرين والكلاميّين والفلاسفة والأُدباء والكتّاب والخطباء وأرباب السير والمؤرّخين كما استقطبت هذه الحادثة، وقلّما اعتنوا بشي ء مثلما اعتنوا بها.
هذا ويستفاد من مراجعة التاريخ أنّ يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام كان معروفاً بين المسلمين بيوم عيد الغدير، وكانت هذه التسمية تحظى بشهرة كبيرة إلى درجة أنّ ابن خلّكان يقول حول «المستعلي ابن المستنصر»:
«فبويع في يوم غدير خمّ؛ وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجّة سنة 487 ه» «(1)».
وقال في ترجمة المستنصر باللَّه، العبّاسي: «وتوفّي ليلة الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجّة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، قلت: وهذه هي ليلة عيد الغدير، أعني ليلة الثامن عشر من شهر ذي الحجّة، وهو غدير خمّ» «(2)».
وقد عدّه أبو ريحان البيروني في كتابه «الآثار الباقية ممّا استعمله أهل الإسلام
ص:139
من الأعياد» «(1)».
وليس ابن خلّكان، وأبو ريحان البيروني، هما الوحيدين اللّذينصرّحا بكون هذا اليوم هو عيد من الأعياد، بل هذا الثعالبي قد اعتبر هو الآخر ليلة الغدير من الليالي المعروفة بين المسلمين «(2)».
إنّ عهد هذا العيد الإسلامى، وجذوره ترجع إلى نفس يوم «الغدير»؛ لأنّ النبيّصلى الله عليه و آله أمر المهاجرين والأنصار، بل أمر زوجاته ونساءه في ذلك اليوم بالدخول على عليّ عليه السلام وتهنئته بهذه الفضيلة الكبرى.
يقول زيد بن أرقم: كان أوّل منصافح النبيّصلى الله عليه و آله وعليّاً: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وباقي المهاجرين والأنصار، وباقي الناس «(3)».
فالحمد للَّه الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
يطيب لي أن أُشير إلى بعض خصائصه قياماً ببعض الوظيفة تجاه ما له من الحقوق على الإسلام والمسلمين عامّة، فنقول: إنّ له خصائص لم يشاركه فيها أحد:
1- ولادته في جوف الكعبة.
2- احتضان النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله له منذصغره.
3- سبقه الجميع في الإسلام.
4- مؤاخاة النبيّصلى الله عليه و آله له من دون باقي الصحابة.
ص:140
5- حمله من قبل النبيّ صلى الله عليه و آله على كتفه لطرح الأصنام الموضوعة في الكعبة.
6- استمرار ذريّة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله منصلبه.
7- بصاق النبيّصلى الله عليه و آله في عينيه يوم خيبر، ودعاؤه له بأن لا يصيبه حرّ ولا قرّ.
8- إنّ حبّه إيمان وبغضه نفاق.
9- إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله باهل النصارى به وبزوجته وأولاده دون سائر الأصحاب.
10- تبليغه سورة براءة عن النبىّ صلى الله عليه و آله.
11- إنّ النبيّصلى الله عليه و آله خصّه يوم الغدير بالولاية.
12- إنّه القائل: «سلوني قبل أن تفقدوني».
13- إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله خصّه بتغسيله وتجهيزه والصلاة عليه.
14- إنّ الناس جميعاً من أرباب الأديان، وغيرهم ينظرون إليه كأعظم رجل عرفه التاريخ «(1)»
ص:141
الإمام الثاني: أبو محمد الحسن بن علي المجتبى عليه السلام
هو ثاني أئمّة أهل البيت الطاهر، وأوّل السبطين، وأحد سيّدي شباب أهل الجنّة، وريحانة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وأحد الخمسة من أصحاب الكساء، أُمّه فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سيّدة نساء العالمين.
ولد في المدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث أو اثنتين من الهجرة، وهو أوّل أولاد عليّ وفاطمة عليهما السلام.
نسب كان عليه من شمس الضحى نور ومن فلق الصباح عمودا
وروي عن أنس بن مالك قال: لم يكن أحد أشبه برسول اللَّه صلى الله عليه و آله من الحسن بن علي عليهما السلام «(1)».
ص:142
فلمّا ولد الحسن قالت فاطمة لعليّ: سمّه، فقال: «ما كنت لأسبق باسمه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله»، فجاء النبيّصلى الله عليه و آله فأُخرج إليه فقال: «اللّهمّ إنّي أُعيذه بك وولده من الشيطان الرجيم، وأذّن في أُذنه اليمني وأقام في اليسرى.
أشهرها: التقيّ والزكيّ والسبط.
يكفي أنّه كان يجلس في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويجتمع الناس حوله فيتكلّم بما يشفي غليل السائل ويقطع حجج المجادلين. من ذلك ما رواه الإمام أبو الحسن عليّ ابن أحمد الواحدي في تفسير الوسيط: أنّ رجلًا دخل إلى مسجد المدينة فوجد شخصاً يحدّث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والناس حوله مجتمعون فجاء إليه الرجل، قال:
أخبرني عن شاهد ومشهود «(1)»
؟ فقال: «نعم، أمّا الشاهد فيوم الجمعة والمشهود فيوم عرفة».
فتجاوزه إلى آخر غيره يحدّث في المسجد، فسأله عن شاهد ومشهود قال:
«أمّا الشاهد فيوم الجمعة، وأمّا المشهود يوم النحر».
قال: فتجاوزه إلى ثالث، غلام كأنّ وجهه الدينار، وهو يحدّث في المسجد، فسأله عن شاهد ومشهود، فقال: «نعم، أمّا الشاهد فرسول اللَّهصلى الله عليه و آله وأمّا المشهود فيوم القيامة، أما سمعته عزّ وجلّ يقول: يا أيُّها النَّبِيُّ إنّا أرْسَلْناك شاهِداً
ص:143
وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً «(1)»
، وقال تعالى: ذلِكَ يَومٌ مَجمَوعٌ لَهُ النَّاسُ وذلِكَ يَومٌ مَشْهُودٌ» «(2)»
.
فسأل عن الأوّل، فقالوا: ابن عبّاس، وسأل عن الثاني، فقالوا: ابن عمر، وسأل عن الثالث، فقالوا: الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام «(3)».
يكفي في ذلك ما نقله الحافظ أبو نعيم في حليته بسنده أنّه عليه السلام قال: «إنّي لأستحيي من ربّي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته» فمشى عشرين مرّة من المدينة إلى مكّة على قدميه.
وروي عن الحافظ أبي نعيم في حليته أيضاً: أنّه عليه السلام خرج من ماله مرّتين، وقاسم اللَّه تعالى ثلاث مرّات ماله وتصدّق به.
وكان عليه السلام من أزهد الناس في الدنيا ولذّاتها، عارفاً بغرورها وآفاتها، وكثيراً ما كان عليه السلام يتمثّل بهذا البيت شعراً:
يا أهل لذّات دنيا لا بقاء لها إنّ اغتراراً بظلّ زائلٍ حَمَقُ «(4)»
روى ابن خلّكان عن ابن عائشة: أنّ رجلًا من أهل الشام قال: دخلت
ص:144
المدينة- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- فرأيت رجلًا راكباً على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا سمتاً ولا ثوباً ولا دابّة منه، فمال قلبي إليه، فسألت عنه فقيل:
هذا الحسن بن عليّ بن أبي طالب، فامتلأ قلبي له بغضاً وحسدت عليّاً أن يكون له ابن مثله، فصرت إليه وقلت له: أأنت ابن عليّ بن أبي طالب؟ قال: «أنا ابنه»، قلت: فعل بك وبأبيك، أسبّهما، فلمّا انقضى كلامي قال لي: «أحسبك غريباً»؟
قلت: أجل، قال: «مِلْ بنا، فإن احتجت إلى منزل أنزلناك، أو إلى مال آتيناك، أو إلى حاجة عاونّاكَ» قال: فانصرفت عنه وما على الأرض أحبّ إليّ منه، وما فكرت فيماصنع وصنعت إلّاشكرته وخزيت نفسي «(1)».
يكفي في ذلك ماصرّح به النبيّصلى الله عليه و آله من قوله: «هذان ابناي إمامان قاما أو قعدا...».
وروت الشيعة بطرقهم عن سليم بن قيس الهلالي قال: شهدت أمير المؤمنين عليه السلام حين أوصى إلى ابنه الحسن عليه السلام وأشهد على وصيّته الحسين عليه السلام ومحمّداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ثمّ دفع إليه الكتاب والسلاح وقال له: «يا بنيّ إنّه أمرني رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن أُوصي إليك، وأدفع إليك كتبي وسلاحي، كما أوصى إليّ ودفع إليّ كتبه وسلاحه، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين، ثمّ أقبل على ابنه الحسين عليه السلام فقال: وأمرك رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن تدفعها إلى ابنك هذا، ثمّ أخذ بيد عليّ بن الحسين وقال: وأمرك رسول اللَّه أن تدفعها إلى ابنك محمّد بن عليّ فاقرأه من رسول اللَّه
ص:145
ومنّي السلام» «(1)».
روى أبو الفرج الأصفهاني: أنّه خطب الحسن بن عليّ بعد وفاة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وقال: «قد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل، ولا يدركه الآخرون بعمل، ولقد كان يجاهد مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فيقيه بنفسه، ولقد كان يوجّهه برايته فيكتنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح اللَّه عليه، ولقد توفّي في هذه الليلة التي عرج فيها بعيسي بن مريم، ولقد توفّي فيها يوشع بن نون وصي موسى، وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلّاسبعمائة درهم بقيّة من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله».
ثمّ خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه.
ثمّ قال: «أيّها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّدصلى الله عليه و آله، أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى اللَّه عزّ وجلّ بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، والذين افترض اللَّه مودّتهم في كتابه إذ يقول: ومَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً «(2)»
فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت».
قال أبو مخنف عن رجاله: ثمّ قام ابن عباس بين يديه فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا له وقالوا: ما أحبّه إلينا وأحقّه بالخلافة، فبايعوه «(3)».
وقال المفيد: كانت بيعته يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، فرتّب العمّال وأمّر الأُمراء، وأنفذ عبد اللَّه بن العبّاس إلى
ص:146
البصرة، ونظر في الأُمور «(1)».
وقال أبو الفرج الأصفهاني: وكان أوّل شي ء أحدثه الحسن [عليه السلام] أنّه زاد في المقاتلة مائة مائة، وقد كان عليّ فعل ذلك يوم الجمل، وهو فعله يوم الاستخلاف، فتبعه الخلفاء بعد ذلك «(2)».
قال المفيد: فلمّا بلغ معاوية وفاة أمير المؤمنين وبيعة الناس ابنه الحسن، دسَّ رجلًا من حمير إلى الكوفة، ورجلًا من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار ويفسدا على الحسن الأُمور، فعرف ذلك الحسن، فأمر باستخراج الحميري من عند لحّام في الكوفة فأُخرج وأمر بضرب عنقه، وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم، فأُخرج وضربت عنقه «(3)».
ثمّ إنّه استمرّت المراسلات «(4)» بين الحسن ومعاوية وانجرّت إلى حوادث مريرة إلى أن أدّت إلى الصلح واضطرّ إلى التنازل عن الخلافة لصالح معاوية، فعقداصلحاً وإليكصورته:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
هذا ماصالح عليه الحسن بن عليّ بن أبي طالب معاوية بن أبي
ص:147
سفيان،صالحه على أن يسلّم إليه ولاية المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب اللَّه وسنّة رسول اللَّه، وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً، على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللَّه تعالى في شامهم ويمنهم وعراقهم وحجازهم.
على أنّ أصحاب عليّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا، وعلى معاوية بذلك عهد اللَّه وميثاقه.
على أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله غائلة سوء سرّاً وجهراً، ولا يخيف أحداً في أُفق من الآفاق. شهد عليه بذلك فلان وفلان، وكفى باللَّه شهيداً «(1)».
ولمّا تمّ الصلحصعد معاوية المنبر وقال في خطبته: إنّي واللَّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنّكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني اللَّه ذلك وأنتم كارهون. ألا وإنّي كنت منّيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدميّ هاتين لا أفي بشي ء منها له «(2)».
لمّا نقض معاوية عهده مع الإمام الحسن عليه السلام، وما كان ذلك بغريب على رجل أبوه أبوسفيان، وأُمّه هند، وهو طليق ابن طلقاء عمد إلى أخذ البيعة ليزيد ولده المشهور بمجونه وتهتكه وزندقته، وما كان شي ء أثقل عليه من أمر الحسن بن عليّ عليهما السلام، فدسّ إليه السمّ، فمات بسببه.
ص:148
فقد روي: أنّ معاوية أرسل إلى ابنة الأشعث- وكانت تحت الحسن عليه السلام-: إنّي مزوّجك بيزيد ابني على أن تسمّي الحسن بن عليّ. وبعث إليها بمائة ألف درهم، فقبلت وسمّت الحسن، فسوّغها المال ولم يزوّجها منه «(1)».
فلمّا دنا موته أوصى لأخيه الحسين عليه السلام وقال: «إذا قضيت نحبي غسّلني وكفّني واحملني على سريري إلى قبر جدّي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ثمّ ردّني إلى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد فادفنّي هناك، وباللَّه أُقسم عليك أن تهريق في أمري محجمة دم».
فلمّا حملوه إلى روضة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لم يشكّ مروان ومن معه من بني أُميّة أنّهم سيدفنونه عند جدّه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فتجمّعوا له ولبسوا السلاح، ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول: ما لي ولكم تريدون أن تُدخلوا بيتي من لا أُحبّ!! وجعل مروان يقول: يا ربّ هيجاء هي خير من دعةٍ، أيدفن عثمان في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبيّ؟! وكادت الفتنة تقع بين بني هاشم وبني أُميّة. ولأجل وصيّة الحسن مضوا به إلى البقيع ودفنوه عند جدّته فاطمة بنت أسد «(2)».
وتوفّي الحسن وله من العمر (47) عاماً وكانت سنة وفاته سنة (50) من الهجرة النبويّة. والعجيب أنّ مروان بن الحكم حمل سريره إلى البقيع فقال له الحسين: «أتحمل سريره؟! أما واللَّه لقد كنت تجرّعه الغيظ» فقال مروان: إنّي كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال «(3)».
ولما بلغ معاوية موت الحسن عليه السلام سجد وسجد من حوله وكبّر وكبّروا معه.
ص:149
ذكره الزمخشري في ربيع الأبرار وابن عبد البرّ في الاستيعاب وغيرهما.
فقال بعض الشعراء:
أصبح اليوم ابن هند شامتاً ظاهر النخوة إذ مات الحسنْ
يا ابن هند إن تذق كأس الردى تكُ في الدهر كشي ء لم يكنْ
لستَ بالباقي فلا تشمت به كلّ حيّ للمنايا مرتهن «(1)»
هذه لمحة عن حياة الحسن المشحونة بالحوادث المريرة. وتركنا الكثير ممّا يرجع إلى جوانب حياته، خصوصاً ما نقل عنه من الخطب والرسائل والكلم القصار، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى تحف العقول «(2)» فقد ذكر قسماً كبيراً من كلماته.
ص:150
الإمام الثالث: أبو عبداللَّه الحسين بن علي سيّد الشهداء عليه السلام
هو ثالث أئمّة أهل البيت الطاهر، وثاني السبطين، وسيدي شباب أهل الجنّة، وريحانتي المصطفىصلى الله عليه و آله، وأحد الخمسة أصحاب الكساء، وسيّد الشهداء، وأُمّه فاطمة بنت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.
ولد في المدينة المنوّرة في الثالث من شعبان سنة ثلاث أو أربع من الهجرة، ولمّا ولد جي ء به إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فاستبشر به، وأذّن في أُذنه اليمنى وأقام في اليسرى، فلمّا كان اليوم السابع سمّاه حسيناً، وعقَّ عنه بكبش، وأمر أُمّه أن تحلق رأسه وتتصدّق بوزن شعره فضّة، كما فعلت بأخيه الحسن، فامتثلت عليها السلام ما أمرها به.
إنّ حياة الإمام الحسين من ولادته إلى شهادته حافلة بالأحداث،
ص:151
والإشارة- فضلًا عن الإحاطة- إلى كلّ ما يرجع إليه يحتاج إلى تأليف مفرد، وقد أغنانا في ذلك ما كتبه المؤلّفون والباحثون عن جوانب حياته عليه السلام، حيث تحدّثوا في مؤلّفاتهم المختلفة عن النصوص الواردة من جدّه وأبيه في حقّه، وعن علمه ومناظراته، وخطبه وكتبه وقصار كلمه، وفصاحته وبلاغته، ومكارم أخلاقه، وكرمه وجوده، وزهده وعبادته، ورأفته بالفقراء والمساكين، وعن أصحابه والرواة عنه، والجيل الذي تربّى على يديه. وذلك في مؤلّفات قيّمة لا تعد ولاتحصى.
غير إنّ للحسين عليه السلام وراء ذلك، خصّيصة أُخرى وهي كفاحه وجهاده الرسالي والسياسي الذي عُرِفَ به، والذي أصبح مدرسة سياسية دينيّة، لعلها أصبحت الطابع المميّز له عليه السلام والصبغة التي اصطبغت حياته الشريفة بها، وأُسوة وقدوة مدى أجيال وقرون، ولم يزل منهجه يؤثّر في ضمير الأُمّة ووعيها، ويحرّك العقول المتفتّحة، والقلوب المستنيرة إلى التحرّك والثورة، ومواجهة طواغيت الزمان بالعنف والشدّة.
وها نحن نقدّم إليك نموذجاً من غرر كلماته في ذلك المجال حتّى تقف على كفاحه وجهاده أمام التيّارات الإلحاديّة والانهيار الخلقي.
لمّا توفّي أخوه الحسن في السنة الخمسين من الهجرة أوصى إليه بالإمامة فاجتمعت الشيعة حوله، يرجعون إليه في حلّهم وترحالهم، وكان لمعاوية عيون في المدينة يكتبون إليه ما يكون من الأحداث المهمّة التي لا توافق هوى السلطة
ص:152
الأُموية المنحرفة، والتي قد تؤلّف خطراً جدّياً على وجودها غير المشروع، ولقد كان همّ هذه السلطة هو الإمام الحسين عليه السلام لما يعرفونه عنه من موقف لا يلين ولا يهادن في الحقّ، ومن هنا فقد كتب مروان بن الحكم- وكان عامل معاوية على المدينة-: إنّ رجالًا من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن عليّ وأنّه لا يأمن وثوبه، ولقد بحثت عن ذلك فبلغني أنّه لا يريد الخلاف يومه هذا، ولست آمن أن يكون هذا أيضاً لما بعده.
ولمّا بلغ الكتاب إلى معاوية كتب رسالة إلى الحسين وهذا نصّها:
أمّا بعد؛ فقد انتهت إليّ أُمور عنك إن كانت حقّاً فإنّي أرغب بك عنها، ولعمر اللَّه إنّ من أعطى اللَّه عهده وميثاقه لجدير بالوفاء، وإنّ أحقَّ الناس بالوفاء من كان في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك اللَّه لها... «(1)».
ولمّا وصل الكتاب إلى الحسين بن عليّ، كتب إليه رسالة مفصّلة ذكر فيها جرائمه ونقضه ميثاقه وعهده، نقتبس منها ما يلي:
«ألست قاتل حجر بن عديّ أخا كندة وأصحابه المصلّين، العابدين، الّذين ينكرون الظلم، ويستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يخافون في اللَّه لومة لائم، ثمّ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة، ولا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم، جرأة على اللَّه واستخفافاً بعهده؟
أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللَّه، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفرّ لونه، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من شعف الجبال «(2)».
ص:153
أولست المدّعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد بن ثقيف فزعمت أنّه ابن أبيك، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، فتركت سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تعمّداً وتبعت هواك بغير هدي من اللَّه، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم، ويقطع أيديهم وأرجلهم، ويُسمل أعينهم، ويصلبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الأُمّة وليسوا منك.
أولستصاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سميّة أنّهم على دين عليّ-صلوات اللَّه عليه- فكتبت إليه: أن اقتل كلّ من كان على دين عليّ، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين عليّ هو دين ابن عمّهصلى الله عليه و آله الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، وبه جلست مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين رحلة الشتاء والصيف» «(1)».
هذا هو الحسين، وهذا هو إباؤه للضيم ودفاعه عن الحق ونصرته للمظلومين في عصر معاوية. وذكرنا هذه المقتطفات كنموذج من سائر خطبه ورسائله التي ضبطها التاريخ.
ص:154
لمّا هلك معاوية في منتصف رجب سنة 60 هجرية كتب يزيد إلى الوليد بن عتبة والي المدينة أن يأخذ الحسين عليه السلام بالبيعة له، فأنفذ الوليد إلى الحسين عليه السلام فاستدعاه، فعرف الحسين ما أراد، فدعا جماعة من مواليه وأمرهم بحمل السلاح وقال: «اجلسوا على الباب فإذا سمعتمصوتي قد علا فادخلوا عليه ولا تخافوا عليّ».
وصار عليه السلام إلى الوليد فنعى الوليد إليه معاوية، فاسترجع الحسين عليه السلام ثمّ قرأ عليه كتاب يزيد بن معاوية، فقال الحسين عليه السلام: «إنّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً حتّى أُبايعه جهراً فيعرف ذلك الناس»، فقال له الوليد: أجل، فقال الحسين عليه السلام: «فتصبح وترى رأيك في ذلك» فقال الوليد: انصرف على اسم اللَّه تعالى، فقال مروان: واللَّه لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى يكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتّى يبايع أو تضرب عنقه، فوثب عند ذلك الحسين عليه السلام وقال: «أنت يا بن الزرقاء تقتلني أو هو؟ كذبت واللَّه وأثمت» ثمّ خرج «(1)».
وأصبح الحسين من غده يستمع الأخبار، فإذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه فقال: أبا عبد اللَّه إنّي لك ناصح فأطعني ترشد وتسدّد، فقال:
«وما ذاك قل أسمعْ» فقال: إنّي أرشدك لبيعة يزيد؛ فانّها خير لك في دينك وفي
ص:155
دنياك!! فاسترجع الحسين وقال: «إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون وعلى الإسلام السَّلام إذا بليت الأُمّة براع مثل يزيد، ثمّ قال: يا مروان أترشدني لبيعة يزيد!! ويزيد رجل فاسق، لقد قلت شططاً من القول وزللًا، ولا ألومك؛ فإنّك اللعين الذي لعنك رسول اللَّه وأنت فيصلب أبيك الحكم بن العاص، ومن لعنه رسول اللَّه فلا ينكر منه أن يدعو لبيعة يزيد، إليك عنّي يا عدوّ اللَّه، فإنّا أهل بيت رسول اللَّه الحقّ فينا ينطق على ألسنتنا، وقد سمعت جدّي رسول اللَّه يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان الطلقاء وأبناء الطلقاء، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. ولقد رآه أهل المدينة على منبر رسول اللَّه فلم يفعلوا به ما أُمروا فابتلاهم بابنه يزيد» «(1)».
ثمّ إنّ الحسين غادر المدينة إلى مكّة، ولمّا بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بنصرد فاتّفقوا أن يكتبوا إلى الحسين رسائل وينفذوا رسلًا طالبين منه القدوم إليهم في الكوفة؛ لأنّ القوم قد بايعوه ونبذوا بيعة الأمويّين، وألحّوا في ذلك الأمر أيّما إلحاح، مبيّنين للإمام عليه السلام أنّ السبل ميسّرة والظروف مهيّأة لقدومه، حيث كتب له وجهاؤهم من جملة ما كتبوه:
«أمّا بعد؛ فقد اخضرّ الجناب وأينعت الثمار، فإذا شئت فأقبل على جند لك مجنّدة».
ولما جاءت رسائل أهل الكوفة تترى على الحسين عليه السلام أرسل ابن عمّه مسلم ابن عقيل- رضوان اللَّه عليه- إلى الكوفة ممثّلًا عنه لأخذ البيعة له منهم، وللتحقّق
ص:156
من جدّية هذا الأمر، ثمّ كتب إليهم: «أمّا بعد؛ فإنّ هانئاً وسعيداً قدما عليَّ بكتبكم، وكانا آخر من قدم عليَّ من رسلكم، وقد فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلّكم أنّه ليس علينا إمام فاقبل لعلّ اللَّه أن يجمعنا بك على الحقّ والهدى، وإنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإن كتب إليَّ: أنّه قد اجتمع رأي ملَئِكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم، وقرأته في كتبكم، فإنّي أقدم عليكم وشيكاً إن شاء اللَّه، فلعمري ما الإمام إلّاالحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات اللَّه» «(1)».
ثمّ خرج الإمام من مكة متوجّهاً إلى الكوفة يوم التروية أو يوماً قبله مع أهل بيته وجماعة من أصحابه وشيعته، وكان كتاب من مسلم بن عقيل قد وصل إليه يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفاً من أهل الكوفة، وذلك قبل أن تنقلب الأُمور على مجاريها بشكل لا تصدّقه العقول، حيث استطاع عبيد اللَّه بن زياد بخبثه ودهائه، وإفراطه في القتل، أن يثبّط همم أهل الكوفة، وأن تنكث بيعة الإمام الحسين عليه السلام، ويقتل سفيره بشكل وحشيّ بشع.
ولمّا أخذ الإمام عليه السلام يقترب من الكوفة استقبله الحرّ بن يزيد الرياحي بألف فارس مبعوثاً من الوالي عبيد اللَّه بن زياد لاستقدامه وإكراهه على إعطاء البيعة ليزيد، وإرساله قهراً إلى الكوفة، فعند ذلك قام الإمام وخطب بأصحابه وأصحاب الحرّ بقوله: «أيّها الناس إنّ رسول اللَّه قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّا حرم اللَّه ناكثاً لعهد اللَّه، مخالفاً لسنّة رسول اللَّه، يعمل في عباده بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على اللَّه أن يدخله مدخله، ألا
ص:157
وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفي ء، وأحلّوا حرام اللَّه وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غَيَّر» «(1)».
رغم انّ الدافع الظاهري لهجرته عليه السلام إلى العراق كانت رسائل أهل الكوفة ورسلهم حتّى أنّ الإمام احتجّ بها عندما واجه الحرّ بن يزيد الرياحي وعمر بن سعد عندما سألاه عن سرّ مجيئه إلى العراق فقال: «كتب إليَّ أهل مصركم هذا أن أقدم» «(2)». إلّاأنّ السرّ الحقيقي لهجرته عليه السلام رغم إدراكه الواضح لما سيترتّب عليها من نتائج خطرة ستودي بحياته الشريفة- وهو ما وطّن نفسه عليه السلام عليه- يمكن إدراكه من خلال الاستقراء الشامل لمسيرة حياته، وكيفية تعامله مع مجريات الأحداث.
إنّ الأمر الذي لا مناص من الذهاب إليه هو إدراك الإمام عليه السلام ما ينتجه الإذعان والتسليم لتولّي يزيد بن معاوية خلافة المسلمين رغم ما عُرف عنه من تهتّك ومجون وانحراف واضح عن أبسط المعايير الإسلامية، وفي هذا مؤشّر خطر على عظم الانحراف الذي أصاب مفهوم الخلافة الإسلامية، وابتعادها الرهيب عن مضمونها الشرعي.
ومن هنا فكان لابدّ من وقفة شجاعة تعيد للأُمّة جانباً من رشدها المضاع وتفكيرها المسلوب. إنّ الإمام الحسين عليه السلام قد أعلنهاصراحة بقوله لمّا طالبه مروان بن الحكم بالبيعة ليزيد، حيث قال: «فعلى الإسلام السلام إذا بليت الأُمّة
ص:158
براع مثل يزيد» كما عرفت سابقاً.
نعم إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «صنفان من أُمّتي إذاصلحاصلحت أُمّتي، وإذا فسدا فسدت أُمّتي، قيل: يا رسول اللَّه ومن هما؟ فقال: الفقهاء والأُمراء» «(1)»، فإذا كانصلاح الأُمّة وفسادها رهن صلاح الخلافة وفسادها، فقيادة مثل يزيد لا تزيد الأمر إلّاعيثاً وفساداً.
إنّ القيادة الإسلامية بين التنصيص والشورى، ولم يملك يزيد السلطة لا بتنصيص من اللَّه سبحانه ولا بشورى من الأُمّة، وهذا ما أدركه المسلمون آنذاك حيث كتبوا إلى الحسين عليه السلام رسالة جاء فيها: أمّا بعد فالحمد للَّه الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الأُمّة فابتزّها أمرها وغصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضى منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها «(2)».
ولم يكن الولد (يزيد) فريداً في غصب حقّ الأُمّة، بل سبقه والده معاوية إلى ذلك كما هو معروف، وليس بخاف على أحد، وإلى تلك الحقيقة المرّة يشير الإمام عليّ عليه السلام في كتاب له إلى معاوية، حيث يقول:
«فقد آن لك أن تنتفع باللمح الباصر من عيان الأُمور، فقد سلكت مدارج أسلافك بادّعائك الأباطيل واقتحامك غرور المين والأكاذيب، وبانتحالك ما قد علا عنك، وابتزازك لما قد اختزن دونك فراراً من الحقّ وجحوداً لما هو ألزم لك من لحمك ودمك ممّا قد وعاه سمعك، وملئ بهصدرك، فماذا بعد الحق إلّا الضلال المبين» «(3)».
هذا ونظائره المذكورة في التاريخ ما دفع الحسين إلى الثورة، وتقديم نفسه
ص:159
وأهل بيته قرابين طاهرة من أجل نصرة هذا الدين العظيم، مع علمه بأنّه وفقاً لما تحت يديه من الإمكانات المادّية لن يستطيع أن يواجه دولة كبيرة تمتلك القدرات المادّية الضخمة ما يمكنها من القضاء على أيّ ثورة فتيّة، نعم إنّ الإمام الحسين عليه السلام كان يدرك قطعاً هذه الحقيقة، إلّاأنّه أراد أن يسقي بدمائه الطاهرة المقدّسة شجرة الإسلام الوارفة التي يريد الأُمويّون اقتلاعها من جذورها.
كما أنّ الإمام عليه السلام أراد أن يكسر حاجز الخوف الذي أصاب الأُمّة فجعلها حائرة متردّدة أمام طغيان الجبابرة وحكّام الجور، وأن تصبح ثورته مدرسة تتعلّم منها الأجيال معنى البطولة والتضحية من أجل المبادئ والعقائد، وكان كلّ ذلك بعد استشهاد الإمام عليه السلام، والتاريخ خير شاهد على ذلك.
كان المعروف منذ ولادة الإمام الحسين عليه السلام أنّه سيستشهد في العراق في أرض كربلاء وعرف المسلمون ذلك في عصر النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله ووصيّه، لذا كان الناس يترقّبون حدوث تلك الفاجعة، كما أنّ هناك الكثير من القرائن التي تدلّ بوضوح على حتميّة استشهاده عليه السلام، ومن ذلك:
1- روى غير واحد من المحدّثين عن أنس بن الحارث الذي استشهد في كربلاء أنّه قال: سمعت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقول: «إنّ ابني هذا يقتل بأرض يقال لها كربلاء، فمن شهد ذلك منكم فلينصره» فخرج أنس بن الحارث فقتل بها مع الحسين عليه السلام «(1)».
2- إنّ أهل الخبرة والسياسة في عصر الإمام كانوا متّفقين على أنّ الخروج إلى العراق يكون خطراً كبيراً على حياة الإمام عليه السلام وأهل بيته، ولأجل ذلك أخلصوا له النصيحة، وأصرّوا عليه عدم الخروج، ويتمثّل ذلك في كلام أخيه محمّد بن الحنفيّة، وابن عمّه ابن عبّاس، ونساء بني عبدالمطّلب، ومع ذلك اعتذر لهم الإمام
ص:160
وأفصح عن عزمه على الخروج «(1)».
3- لمّا عزم الإمام المسير إلى العراق خطب وقال: «الحمد للَّه وما شاء اللَّه ولا قوّة إلّاباللَّه وصلّى اللَّه على رسوله، خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي، اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرع أنا أُلاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء فيملأن منّي أكراشاً جُوَّفاً وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم. رضى اللَّه رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا أُجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تَقرّ بهم عينه، وينجز بهم وعده، ألا ومن كان فينا باذلًا مهجته، موطِّناً على لقاء اللَّه نفسه فليرحل معنا؛ فإنّي راحل مصبحاً إن شاء اللَّه تعالى» «(2)».
4- لمّا بلغ عبد اللَّه بن عمر ما عزم عليه الحسين عليه السلام دخل عليه فلامه في المسير، ولما رآه مصرّاً عليه قبّل ما بين عينيه وبكى وقال: أستودعك اللَّه من قتيل «(3)».
5- لمّا خرج الحسين عليه السلام من مكّة لقيه الفرزدق الشاعر فقال له: إلى أين يا بن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله؟ ما أعجلك عن الموسم؟ قال: «لو لم أعجل لأُخذْتُ، ثمّ قال له:
أخبرني عن الناس خلفك» فقال: الخبير سألت، قلوب الناس معك، وأسيافهم عليك «(4)».
6- لما أتى إلى الحسين خبر قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد اللَّه بن
ص:161
يقطر، قال لأصحابه: «لقد خذلنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف غير حرجٍ ليس عليه ذمام» فتفرّق الناس عنه، وأخذوا يميناً وشمالًا، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه. ومع ذلك فقد واصل عليه السلام مسيره نحو الكوفة، ولما مرّ ببطن العقبة لقيه شيخ من بني عكرمة يقال له: عمر بن لوذان، فسأل الإمام: أين تريد؟ فقال له الحسين عليه السلام: «الكوفة» فقال الشيخ: أُنشدك لمّا انصرفت، فواللَّه ما تقدِمُ إلّاعلى الأسنّة وحدّ السيوف، فقال له الحسين: «ليس يخفى عليّ الرأي، وأنّ اللَّه تعالى لا يُغلب على أمره» «(1)».
في نفس النصّ دلالة على أنّ الإمام كان يدرك ما كان يتخوّفه غيره، و أنّ مصيره لو سار إلى الكوفة هو القتل، ومع ذلك أكمل السير طلباً للشهادة من أجل نصرة الدين وردّ كيد أعدائه، وحتى لا تبقى لأحد حجة يتذرّع بها لتبرير تخاذله وضعفه.
نعم لقد كان الحسين عليه السلام على بيّنة من أمره وما سيؤول إليه سفره من مصير محتوم، فلا شي ء يقف أمام إرادته من أجل إعلاء كلمة الدين وتثبيت دعائمه التي أراد الأُمويّون تقويضها، انظر إليه وهو يخاطب الحرّ بن يزيد الرياحي الذي يحذّره من مغبّة إصراره على موقفه حيث يقول له: «أفبالموت تخوّفني، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني، وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول اللَّه فخوّفه ابن عمّه وقال: أين تذهب فإنّك مقتول، فقال:
سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بنفسه وفارق مثبوراً وخالف مجرما
فإن عشت لم أندَم وإن مِتُّ لم أُلمْ كفى بك ذلًاّ أن تعيش وترغما»
«(2)»
ص:162
ثمّ إنّه كان لشهادة الحسين عليه السلام أثر كبير في إيقاظ شعور الأُمّة وتشجيعها على الثورة ضدّ الحكومة الأُموية التي أصبحت رمزاً للفساد والانحراف عن الدين، ولأجل ذلك توالت الثورات بعد شهادته من قبل المسلمين في العراق والحجاز، وهذه الانتفاضات وإن لم تحقّق هدفها في وقتها، ولكن كان لها الدور الأساسي في سقوط الحكومة الأُمويّة بعد زمان.
ولقد أجاد من قال: لولا نهضة الحسين عليه السلام وأصحابه- رضي اللَّه عنهم- يوم الطفّ لما قام للإسلام عمود، ولا اخضرّ له عود، ولأماته معاوية وأتباعه ولدفنوه في أوّل عهده في لحده. فالمسلمون جميعاً بل الإسلام من ساعة قيامه إلى قيام الساعة رهين شكر للحسين عليه السلام وأصحابه- رضي اللَّه عنهم- «(1)».
بلى، فلا مغالاة في قول من قال: إنّ الإسلام محمّديّ الحدوث حسينيّ البقاء والخلود.
ترى أنّى للإمام الحسين عليه السلام الإذعان لحقيقة تسلّم يزيد مقاليد خلافة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، يزيد المنحرف الفاسد، عدوّ اللَّه وعدوّ رسوله، الذي لم يستطع إخفاء دفائنه عندما أُحضر رأس سيد الشهداء بين يديه حيث أنشد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسلْ
لأهلّوا واستهلّوا فرحاً ثمّ قالوا يا يزيد لا تشلّ
قد قتلنا القرم من ساداتهم وعدلنا قتل بدر فاعتدل
لست من خندف إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل «(2)»
ص:163
وأمّا بيان خروجه من مكة متوجّهاً إلى العراق والحوادث التي عرضت له في مسيره إلى أن نزل بأرض كربلاء، والتي استشهد فيها مع أولاده وأصحابه البالغ عددهم 72 شخصاً، ظمآنَ وعطشانَ، فهو خارج عن موضوع البحث. وقد أُلّفت فيه مئات الكتب وعشرات الموسوعات.
لقد استشهد يوم الجمعة لعشر خلون من المحرم سنة 61 من الهجرة، وقيل يوم السبت، وكان قد أدرك من حياة النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله خمس أو ستّ سنوات، وعاش مع أبيه 36 سنة، ومع أخيه 46 سنة.
فسلام اللَّه عليه يوم ولد، ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.
ص:164
الإمام الرابع: عليّ بن الحسين بن عليّ زين العابدين عليه السلام
هو رابع أئمّة أهل البيت الطاهر، المشهور بزين العابدين أو سيّدهم، والسجّاد، وذي الثفنات.
ولد في المدينة سنة 38 أو 37 ه.
قال ابن خلّكان: هو أحد الأئمّة الاثني عشر ومن سادات التابعين. قال الزهري: ما رأيت قرشيّاً أفضل منه. وفضائله ومناقبه أكثر من أن تحصى وتذكر، ولمّا توفّي دفن في البقيع في جنب عمّه الحسن في القبّة التي فيها قبر العباس- رضي اللَّه عنه- «(1)».
ولقد تولّى الإمامة بعد استشهاد أبيه الحسين عليه السلام في كربلاء، وللاطّلاع على النصوص الواردة في إمامته ينبغي الرجوع إلى كتب الحديث والعقائد المتكفّلة بهذا
ص:165
الجانب المهم، وأخصّ منها بالذكر كتاب «الكافي» للكليني، و «الإرشاد» للشيخ المفيد، و «كفاية الأثر» للخزّاز، و «إثبات الهداة» للحرّ العاملي.
ومن أراد الاطّلاع على مناقبه وكراماته وفضائله في مجالات شتّى كالعلم، والحلم، والجرأة والإقدام، وثبات الجنان، وشدة الكرم والسخاء، والورع، والزهد، والتقوى، وكثرة التهجّد والتنفّل، والفصاحة والبلاغة، وشدّة هيبته بين الناس ومحبّتهم له، وتربيته لجيل عظيم من الصحابة والعلماء وقّفوا حياتهم في خدمة الإسلام، وغير ذلك ممّا لا يسعنا التعرّض لها هنا، فعليه يطلب ذلك في الموسوعات المتعدّدة التي تعرّضت لذلك بالشرح والتفصيل.
إلّا أنّا نكتفي هنا بجانب من سيرته عليه السلام تتعلّق بجملة محدّدة من الأُمور:
لقد كان عليه السلام مهاباً جليلًا بين الناس بشكل كبير، حتّى أنّ هذه المنزلة العظيمة جعلت الأُمراء والحكّام يحسدونه عليها، والتاريخ يذكر لنا على ذلك شواهد كثيرة ومتعدّدة، ومن ذلك:
لمّا حجّ هشام بن عبد الملك قبل أن يلي الخلافة اجتهد أن يستلم الحجر الأسود فلم يمكنه ذلك، وجاء عليّ بن الحسين عليهما السلام فتوقّف له الناس، وتنحّوا حتّى استلم، فقال جماعة لهشام: من هذا؟ فقال: لا أعرفه (مع أنّه كان يعرفه أنّه عليّ بن الحسين عليه السلام) فسمعه الفرزدق، فقال: لكنّي أعرفه، هذا عليّ بن الحسين زين العابدين، وأنشد هشاماً قصيدته التي منها هذه الأبيات:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحلّ والحرمُ
هذا ابن خير عباد اللَّه كلّهم هذا التقي النقي الطاهر العلمُ
يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلمُ
ص:166
يُغضي حياء ويُغضى من مهابته فما يكلّم إلّاحين يبتسمُ
إذا رأته قريش قال قائلها إلى مكارم هذا ينتهي الكرمُ
إن عُدَّ أهل التقى كانوا أئمّتهم أو قيل من خير أهل الأرض قيل همُ
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجدّه أنبياء اللَّه قد خُتموا
وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجمُ
إلى آخر القصيدة التي حفظتها الأُمّة وشطّرها جماعة من الشعراء. وقدثقل ذلك على هشام فأمر بحبسه، فحبسوه بين مكّة والمدينة، فقال معترضاً على عمل هشام:
أيحبسني بين المدينة والتي إليها قلوب الناس يهوى منيبها
يقلّب رأساً لم يكن رأس سيّدٍ وعيناً له حولاء بادٍ عيوبها
فأخرجه من الحبس فوجّه إليه علي بن الحسين عليهما السلام عشرة آلاف درهم وقال: «اعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به» فردّها الفرزدق وقال: ما قلت ما كان إلّا للَّه، فقال له علي عليه السلام: «قد رأى اللَّه مكانك فشكرك، ولكنّا أهل بيت إذا أنفذنا شيئاً لم نرجع فيه» وأقسم عليه فقبلها.
أمّا زهده وعبادته ومواساته للفقراء، وخوفه من اللَّه فغني عن البيان. فقد روي عنه عليه السلام أنّه إذا توضّأ اصفرّ لونه، فيقال: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟
قال: «أتدرون بين يَدي من أُريد أن أقف».
من كلماته عليه السلام: «إنّ قوماً عبدوا اللَّه رياضة؛ فتلك عبادة العبيد، وأنّ قوماً عبدوه رغبة؛ فتلك عبادة التجّار، وأنّ قوماً عبدوه شكراً؛ فتلك عبادة الأحرار».
وكان إذا أتاه سائل يقول له: «مرحباً بمن يحمل زادي إلى الآخرة».
ص:167
كان عليه السلام كثير الصدقات حريصاً عليها، و كان يوصلصدقاته ليلًا دون أن يعلم به أحد، وقد روي أنّه عليه السلام كان يعول مائة عائلة من أهالي المدينة لا يدرون من يأتيهم بالصدقات، ولما توفّي عليه السلام أدركوا ذلك.
وفي رواية: أنّه عليه السلام كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدّق به ويقول: «صدقة السر تطفئ غضب الربّ».
وفي رواية كان أهل المدينة يقولون: ما فقدناصدقة السر حتّى مات عليّ بن الحسين عليه السلام «(1)».
وقال رجل لسعيد بن المسيّب: ما رأيت رجلًا أورع من فلان- وسمّى رجلًا- فقال له سعيد: أما رأيت عليّ بن الحسين؟ فقال: لا، فقال: ما رأيت أورع منه.
قال أبو حازم: ما رأيت هاشمياً أفضل من عليّ بن الحسين.
قال طاووس: رأيت عليّ بن الحسين عليهما السلام ساجداً في الحجر فقلت: رجلصالح من أهل بيت طيّب لأسمعنّ ما يقول، فأصغيت إليه فسمعته يقول: «عُبيدُك بفنائك، مسكينك بفنائك، سائلك بفنائك، فقيرك بفنائك» قال طاووس: فواللَّه ما دعوت بهنّ في كرب إلّاكشف عنّي.
وكان يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة، فإذا أصبح سقط مغشيّاً عليه، وكانت الريح تميله كالسنبلة، وكان يوماً خارجاً فلقيه رجل فسبّه، فثارت إليه العبيد والموالي، فقال لهم علي عليه السلام: «مهلًا كفّوا» ثمّ أقبل على ذلك الرجل فقال له: «ما سُترَ عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟» فاستحيى الرجل فألقى إليه عليه السلام خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنّك من أولاد الرسل «(2)».
ص:168
أمّا الثروة العلمية والعرفانية، فهي أدعيته التي رواها المحدّثون بأسانيدهم المتضافرة، والتي جمعت بما سمّي بالصحيفة السجّادية المنتشرة في العالم، فهي زبور آل محمد، ومن الخسارة الفادحة أنّ إخواننا أهل السنّة- إلّا النادر القليل منهم- غير واقفين على هذا الأثر القيّم الخالد.
نعم، إنَّ فصاحة ألفاظها، وبلاغة معانيها، وعلوّ مضامينها، وما فيها من أنواع التذلّل للَّه تعالى والثناء عليه، والأساليب العجيبة في طلب عفوه وكرمه والتوسّل إليه، أقوى شاهد علىصحّة نسبتها إليه، وإنّ هذا الدرّ من ذلك البحر، وهذا الجوهر من ذلك المعدن، وهذا الثمر من ذلك الشجر، مضافاً إلى اشتهارها شهرة لا تقبل الريب، وتعدّد أسانيدها المتّصلة إلى منشئها، فقد رواها الثقات بأسانيدهم المتعدّدة المتّصلة، إلى زين العابدين «(1)».
وقد أرسل أحد الأعلام نسخة من الصحيفة مع رسالة إلى العلّامة الشيخ الجوهري الطنطاوي (المتوفّى عام 1358 ه)صاحب التفسير المعروف، فكتب في جواب رسالته: «ومن الشقاء أنّا إلى الآن لم نقف على هذا الأثر القيّم الخالد في مواريث النبوّة وأهل البيت، وإنّي كلّما تأمّلتها رأيتها فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق» «(2)».
وكان المعروف بين الشيعة هو الصحيفة الأُولى التي تتضمّن واحداً وستّين دعاء في فنون الخير وأنواع السؤال من اللَّه سبحانه، والتي تعلّم الإنسان كيف يلجأ إلى
ص:169
ربّه في الشدائد والمهمّات، وكيف يطلب منه حوائجه، وكيف يتذلّل ويتضرّع له، وكيف يحمده ويشكره. غير أنّ لفيفاً من العلماء استدركوا عليها فجمعوا من شوارد أدعيتهصحائف خمسة كان آخرها ما جمعه العلّامة السيد محسن الأمين العاملي قدس سره.
ولقد قام العلّامة الحجة السيّد محمد باقر الأبطحي- دام ظلّه- بجمع جميع أدعية الإمام الموجودة في هذه الصحف في جامع واحد، وقال في مقدّمته:
وحريّ بنا القول إنّ أدعيته عليه السلام كانت ذات وجهين: وجهاً عبادياً، وآخر اجتماعياً يتّسق مع مسار الحركة الإصلاحية التي قادها الإمام عليه السلام في ذلك الظرف الصعب. فاستطاع بقدرته الفائقة المسدّدة أن يمنح أدعيته- إلى جانب روحها التعبّدية- محتوىً اجتماعياً متعدّد الجوانب، بما حملته من مفاهيم خصبة، وأفكار نابضة بالحياة، فهو عليه السلامصاحب مدرسة إلهيّة، تارة يعلّم المؤمن كيف يمجّد اللَّه ويقدّسه، وكيف يلج باب التوبة، وكيف يناجيه وينقطع إليه، وأُخرى يسلك به درب التعامل السليم مع المجتمع فيعلّمه أُسلوب البرّ بالوالدين، ويشرح حقوق الوالد، والولد، والأهل، والأصدقاء، والجيران، ثمّ يبيّن فاضل الأعمال وما يجب أن يلتزم به المسلم في سلوكه الاجتماعي، كلّ ذلك بأُسلوب تعليميّ رائع وبليغ.
وصفوة القول: إنّها كانت أُسلوباً مبتكراً في إيصال الفكر الإسلامي والمفاهيم الإسلامية الأصيلة إلى القلوب الظمأى، والأفئدة التي تهوى إليها لترتزق من ثمراتها، وتنهل من معينها، فكانت بحقّ عملية تربوية نموذجية من الطراز الأوّل، أسّس بناءها الإمام السجاد عليه السلام مستلهماً جوانبها من سيرالأنبياء و سنن المرسلين «(1)».
و من أدعيته عليه السلام في هذه الصحيفة دعاؤه في يوم عرفة، ومنه:
«اللّهمَّ هذا يوم عرفةَ، يومٌ شرَّفتهُ وكرَّمتهُ وعظَّمتهُ، نَشَرتَ فيهِ رحمتَكَ، وَمَننتَ فيهِ بعفوك، وأجزلتَ فيهِ عطيتكَ، وتفضَّلتَ بهِ على عبادِك.
ص:170
اللّهمَّ وأنا عبدك الذي أنعمتَ عليهِ قَبلَ خَلقِكَ لهُ، وبعدَ خَلقِكَ إيّاهُ، فَجَعَلتَهُ مِمَّن هَديتَهُ لدينِكَ، وَوفَّقتَهُ لَحقّك، وعصمتَهُ بِحَبلِكَ، وأدْخَلتَهُ في حِزبِكَ، وأَرْشَدتَهُ لموالاةِ أوليائِكَ ومعاداةِ أعدائِكَ».
إنّ للإمام عليّ بن الحسين رسالة معروفة باسم رسالة الحقوق، أوردها الصدوق في خصاله «(1)» بسند معتبر، ورواها الحسن بن شعبة في تحف العقول «(2)» مرسلة، وبين النقلين اختلاف يسير.
وهي من جلائل الرسائل في أنواع الحقوق، يذكر الإمام فيها حقوق اللَّه سبحانه على الإنسان، وحقوق نفسه عليه، وحقوق أعضائه من اللسان والسمع والبصر والرجلين واليدين والبطن والفرج، ثمّ يذكر حقوق الأفعال، من الصلاة والصوم والحجّ والصدقة والهدي... التي تبلغ خمسين حقّاً، آخرها حقّ الذمّة.
كما روى الحفّاظ وتلاميذ مدرسته أحاديث وحكماً مختلفة جليلة حوَتها بطون الكتب المختلفة، جمع الكثير منها العلّامة المجلسي في موسوعته الموسومة ببحار الأنوار من مختلف المصادر، فراجع.
توفّي بالمدينة عام 95 أو 94 ه، يوم السبت الثاني عشر من محرّم. وقيل الخامس والعشرين منه.
ص:171
الإمام الخامس: أبو جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام
هو خامس أئمّة أهل البيت الطاهر، المعروف بالباقر، وقد اشتهر به لبقره العلم وتفجيره له. قال ابن منظور في لسان العرب: لقّب به؛ لأنّه بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه وتوسّع فيه «(1)».
وقال ابن حجر: سمّي بذلك لأنّه من بقر الأرض؛ أي شقّها، وإثارة مخبّآتها، ومكامنها، فكذلك هو أظهر من مخبّآتها كنوز المعارف وحقائق الأحكام، والحكم واللطائف ما لا يخفى إلّاعلى منطمس البصيرة أو فاسد الطويّة والسريرة، ومن ثمّ قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه «(2)».
وقال ابن كثير: أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب،
ص:172
وسمّي بالباقر لبقره العلوم، واستنباطه الحكم، كان ذاكراً خاشعاًصابراً، وكان من سلالة النبوّة، رفيع النسب، عالي الحسب، وكان عارفاً بالخطرات، كثير البكاء والعبرات، معرضاً عن الجدال والخصومات «(1)».
وقال ابن خلّكان: أبو جعفر محمّد بن زين العابدين، الملقّب بالباقر، أحد الأئمّة الاثني عشر في اعتقاد الإماميّة، وهو والد جعفر الصادق. كان الباقر عالماً سيّداً كبيراً، وإنّما قيل له الباقر؛ لأنّه تَبقَّر في العلم؛ أي توسّع، وفيه يقول الشاعر:
يا باقر العلم لأهل التُّقى وخير من لبّى على الأجبُلِ «(2)»
ولد بالمدينة غرّة رجب سنة 57 ه وقيل 56 ه، وتوفّي في السابع من ذي الحجّة سنة 114 ه، وعمره الشريف 57 سنة. عاش مع جدّه الحسين عليه السلام 4 سنين، ومع أبيه عليه السلام بعد جدّه عليه السلام 39 سنة، وكانت مدة إمامته عليه السلام 18 سنة «(3)».
وأمّا النصوص الدالّة على إمامته من أبيه وأجداده والتي ذكرها المحدّثون والمحقّقون من علمائنا الأعلام فهي مستفيضة نقلها الكليني- رضي اللَّه عنه- وغيره.
وقال ابن سعد: محمّد الباقر من الطبقة الثالثة من التابعين من المدينة، كان عالماً عابداً ثقة، وروى عنه الأئمّة أبو حنيفة وغيره.
قال أبو يوسف: قلت لأبي حنيفة: لقيت محمّد بن علي الباقر؟ فقال: نعم وسألته يوماً فقلت له: أراد اللَّه المعاصي؟ فقال: «أفيعصى قهراً»؟ قال أبو حنيفة:
فما رأيت جواباً أفحم منه.
وقال عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر، لقد
ص:173
رأيت الحكم عنده كأنّه مغلوب، ويعني الحكم بن عيينة، وكان عالماً نبيلًا جليلًا في زمانه.
وذكر المدائني عن جابر بن عبد اللَّه: أنّه أتى أبا جعفر محمّد بن علي إلى الكتّاب وهوصغير فقال له: رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يسلّم عليك، فقيل لجابر: وكيف هذا؟ فقال:
كنت جالساً عند رسول اللَّه والحسين في حجره وهو يداعبه فقال: «يا جابر يولد مولود اسمه عليّ إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم سيّد العابدين فيقوم ولده، ثمّ يولد له ولد، اسمه محمّد، فإن أدركته يا جابر فاقرأه منّي السلام».
وذكر ابن الصبّاغ المالكي بعد نقل القصّة: أنّ النبيّصلى الله عليه و آله قال لجابر: «وإن لاقيته فاعلم أنّ بقاءك في الدنيا قليل» فلم يعش جابر بعد ذلك إلّاثلاثة أيّام. ثمّ قال:
هذه منقبة من مناقبه باقية على ممر الأيّام، وفضيلة شهد له بها الخاصّ والعام «(1)».
وقال المفيد: لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين عليهما السلام في علم الدين والآثار والسنّة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ما ظهر من أبي جعفر الباقر عليه السلام «(2)».
وروى عنه معالم الدين بقيّة الصحابة ووجوه التابعين وفقهاء المسلمين، وسارت بذكر كلامه الأخبار وأُنشدت في مدائحه الأشعار... «(3)».
قال ابن حجر:صفا قلبه، وزكا علمه وعمله، وطهرت نفسه، وشرف خلقه، وعمرت أوقاته بطاعة اللَّه، وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكلّ عنه ألسنة الواصفين، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة «(4)».
ص:174
وأمّا مناظراته مع المخالفين فحدّث عنها ولا حرج، وقد جمعها العلّامة الطبرسي في كتاب الاحتجاج «(1)».
قال الشيخ المفيد في الإرشاد: وجاءت الأخبار: أنّ نافع بن الأزرق «(2)» جاء إلى محمّد بن عليّ، فجلس بين يديه يسأله عن مسائل الحلال والحرام. فقال له أبو جعفر في عرض كلامه: «قل لهذه المارقة، بم استحللتم فراق أمير المؤمنين، وقد سفكتم دماءكم بين يديه في طاعته والقربة إلى اللَّه بنصرته؟ فسيقولون لك: إنّه حكَّم في دين اللَّه، فقل لهم: قد حكَّم اللَّه تعالى في شريعة نبيّهصلى الله عليه و آله رجلين من خلقه فقال: فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يُريدا إصلاحاً يوفّق اللَّه بينهما، وحكَّم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم فيهم بما أمضاه اللَّه، أوما علمتم أنَّ أمير المؤمنين إنَّما أمر الحكمين أن يحكما بالقرآن ولا يتعدّياه، واشترط ردّ ما خالف القرآن في أحكام الرجال، وقال حين قالوا له:
حكّمت على نفسك من حكم عليك؟ فقال: ما حكّمت مخلوقاً وإنّما حكّمت كتاب اللَّه. فأين تجد المارقة تضليل من أمر بالحكم بالقرآن، واشترط ردّ ما خالفه لولا ارتكابهم في بدعتهم البهتان»؟ فقال نافع بن الأزرق: هذا واللَّه كلام ما مرّ بسمعي قط، ولا خطر منّي ببال، وهو الحقّ إن شاء اللَّه.
ثمّ إنّ الشيعة الإمامية أخذت كثيراً من الأحكام الشرعية عنه وعن ولده البارّ
ص:175
جعفر الصادق عليه السلام وحسب الترتيب المتداول في الكتب الفقهيّة، حيث روي عنه عليه السلام الكثير من الروايات الفقهيّة التي تناولت مختلف جوانب الحياة، وللاطلاع على ذلك تراجع كتب الفقه وموسوعاته المختلفة.
وأمّا ما روي عنه في الحِكَم والمواعظ، فقد نقلها أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء، والحسن بن شعبة الحرّاني في تحفه «(1)».
وقد توفّي الإمام محمّد الباقر عليه السلام عام 114 ه، ودفن في البقيع إلى جنب قبر أبيه، ومن أراد البحث عن فصول حياته في شتّى المجالات فليراجع الموسوعات التي تحفل بها المكتبات العامّة والخاصّة.
ص:176
الإمام السادس: أبو عبداللَّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام
هو الإمام السادس من أئمّة أهل البيت الطاهر- رضي اللَّه عنهم أجمعين- ولقّب بالصادق لصدقه في مقاله، وفضله أشهر من أن يذكر.
ولد عام 80 ه، وتوفّي عام 148 ه، ودفن في البقيع جنب قبر أبيه محمّد الباقر وجدّه عليّ زين العابدين وعم جدّه الحسن بن عليّ- رضي اللَّه عنهم أجمعين- فللّه درّه من قبر ما أكرمه وأشرفه! «(1)».
قال محمّد بن طلحة: هو من عظماء أهل البيت وساداتهم، ذو علوم جمّة، وعبادة موفورة، وزهادة بيّنة، وتلاوة كثيرة، يتبع معاني القرآن الكريم، ويستخرج من بحره جواهره، ويستنتج عجائبه، ويقسِّم أوقاته على أنواع الطاعات بحيث يحاسب عليها نفسه، رؤيته تذكّر الآخرة، واستماع كلامه يزهّد في
ص:177
الدنيا، والاقتداء بهداه يورث الجنّة، نور قسماته شاهد أنّه من سلالة النبوّة، وطهارة أفعاله تصدع أنّه من ذرّيّة الرسالة. نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من أعيان الأئمّة وأعلامهم، مثل: يحيى بن سعيد الأنصاري، وابن جريج، ومالك بن أنس، والثوري، وابن عيينة، وأبو حنيفة، وشعبة، وأبو أيّوب السجستاني «(1)» وغيرهم، وعدّوا أخذهم عنه منقبة شرّفوا بها، وفضيلة اكتسبوها «(2)».
ذكر أبو القاسم البغّاء في مسند أبي حنيفة: قال الحسن بن زياد: سمعت أبا حنيفة وقد سئل: من أفقه من رأيت؟ قال: جعفر بن محمّد، لمّا أقدمه المنصور بعث إليَّ فقال: يا أبا حنيفة إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد، فهيّئ لي من مسائلك الشداد، فهيّأت له أربعين مسألة، ثمّ بعث إليّ أبوجعفر وهو بالحيرة فأتيته، فدخلت عليه، وجعفر جالس عن يمينه، فلمّا بصرت به، دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلمت عليه، فأومأ إليّ فجلست، ثمّ التفت إليه فقال: يا أبا عبد اللَّه هذا أبو حنيفة. قال: نعم أعرفه، ثمّ التفت إليّ فقال: يا أبا حنيفة ألقِ على أبي عبداللَّه من مسائلك، فجعلت أُلقي عليه فيجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربّما تابعنا وربّما تابعهم، وربّما خالفنا جميعاً حتّى أتيت على الأربعين مسألة، فما أخلّ منها بشي ء. ثمّ قال أبو حنيفة:
أليس أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس «(3)».
عن مالك بن أنس: جعفر بن محمد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلّاعلى
ص:178
إحدى ثلاث خصال: إمّا مصلّ، وإمّاصائم، وإمّا يقرأ القرآن، وما رأت عين، ولا سمعت أُذن، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً «(1)».
وعن عمرو بن بحر الجاحظ (مع عدائه لأهل البيت): جعفر بن محمّد الذي ملأ الدنيا علمه و فقهه، ويقال: إنّ أبا حنيفة من تلامذته، وكذلك سفيان الثوري، وحسبك بهما في هذا الباب «(2)».
وأمّا مناقبه وصفاته فتكاد تفوق عدّ الحاصر، ويَحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر، حتّى أنّ من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى،صارت الأحكام التي لا تدرك عللها، والعلوم التي تقصر الأفهام عن الإحاطة بحكمها، تضاف إليه وتروى عنه «(3)».
وقال ابن الصبّاغ المالكي: كان جعفر الصادق عليه السلام من بين إخوته خليفة أبيه، ووصيّه، والقائم بالإمامة من بعده، برز على جماعة بالفضل، وكان أنبههم ذكراً وأجلّهم قدراً، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشرصيته وذكره في البلدان، ولم ينقل العلماء عن أحد من أهل بيته ما نقلوا عنه من الحديث.
إنّك إذا تتبّعت كتب التاريخ والتراجم والسير تقف على نظير هذه الكلمات وأشباهها، كلّها تعرب عن اتّفاق الأُمّة على إمامته في العلم والقيادة الروحيّة، وإن
ص:179
اختلفوا في كونه إماماً منصوصاً من قبل اللَّه عزّ وجلّ، فذهبت الشيعة إلى الثاني نظراً إلى النصوص المتواترة المذكورة في مظانّها «(1)».
ولقد امتدّ عصر الإمام الصادق عليه السلام من آخر خلافة عبد الملك بن مروان إلى وسط خلافة المنصور الدوانيقي، أي من سنة 83 ه إلى سنة 148 ه. فقد أدرك طرفاً كبيراً من العصر الأُموي، وعاصر كثيراً من ملوكهم، وشاهد من حكمهم أعنف أشكاله، وقضى سنوات عمره الأُولى حتّى الحادية عشرة من عمره مع جدّه زين العابدين، وحتّى الثانية والثلاثين مع أبيه الباقر ونشأ في ظلّهما يتغذّى من تعاليمهما وتنمو مواهبه وتربّى تربيته الدينية، وتخرّج من تلك المدرسة الجامعة فاختصّ بعد وفاة أبيه بالزعامة سنة 114 ه، واتسعت مدرسته بنشاط الحركة العلميّة في المدينة ومكّة والكوفة وغيرها من الأقطار الإسلامية.
وقد اتّسم العصر المذكور الذي عاشه الإمام بظهور الحركات الفكريّة، ووفود الآراء الاعتقادية الغريبة إلى المجتمع الإسلامي، وأهمها عنده هي حركة الغلاة الهدّامة، الذين تطلّعت رؤوسهم في تلك العاصفة الهوجاء إلى بثّ روح التفرقة بين المسلمين، وترعرت بنات أفكارهم في ذلك العصر ليقوموا بمهمة الانتصار لمبادئهم التي قضى عليها الإسلام، فقد اغتنموا الفرصة في بثّ تلك الآراء الفاسدة في المجتمع الإسلامي، فكانوا يبثّون الأحاديث الكاذبة ويسندونها إلى حملة العلم من آل محمد، ليغروا بها العامّة، فكان المغيرة بن سعيد يدّعي الاتصال بأبي جعفر الباقر ويروي عنه الأحاديث المكذوبة، فأعلن الإمام الصادق عليه السلام كذبه
ص:180
والبراءة منه، وأعطي لأصحابه قاعدة في الأحاديث التي تروي عنه، فقال:
«لا تقبلوا علينا حديثاً إلّاما وافق القرآن والسنّة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة».
ثمّ إنّ الإمام قام بهداية الأُمّة إلى النهج الصواب في عصر تضاربت فيه الآراء والأفكار، واشتعلت فيه نار الحرب بين الأُمويين ومعارضيهم من العباسيين، ففي تلك الظروف الصعبة والقاسية استغلّ الإمام الفرصة فنشر من أحاديث جدّه، وعلوم آبائه ما سارت به الركبان، وتربّى على يديه آلاف من المحدّثين والفقهاء.
ولقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة عنه من الثقات- على اختلاف آرائهم ومقالاتهم- فكانوا أربعة آلاف رجل «(1)». وهذه سمة امتاز بها الإمام الصادق عن غيره من الأئمّة- عليه و عليهم السلام-.
إنّ الإمام عليه السلام شرع بالرواية عن جدّه وآبائه عندما اندفع المسلمون إلى تدوين أحاديث النبيّصلى الله عليه و آله بعد الغفلة التي استمرّت إلى عام 143 ه «(2)» حيث اختلط آنذاك الحديث الصحيح بالضعيف وتسرّبت إلى السنّة، العديد من الروايات الاسرائيلية والموضوعة من قبل أعداء الإسلام من الصليبيين والمجوس، بالإضافة إلى المختلقات والمجعولات على يد علماء السلطة ومرتزقة البلاط الأُموي.
ومن هنا فقد وجد الإمام عليه السلام أنّ أمر السنّة النبويّة قد بدأ يأخذ اتّجاهات خطيرة وانحرافات واضحة، فعمد عليه السلام للتصدّي لهذه الظاهرة الخطيرة، وتفنيد الآراء الدخيلة على الإسلام والتي تسرّب الكثير منها نتيجة الاحتكاك الفكري والعقائدي بين المسلمين وغيرهم.
إنّ تلك الفترة كوّنت تحدّياً خطيراً لوجود السنّة النبويّة، وخلطاً فاضحاً في
ص:181
كثير من المعتقدات، لذا فإنّ الإمام عليه السلام كان بحقّ سفينة النجاة من هذا المعترك العسر.
إنّ علوم أهل البيت عليهم السلام متوارثة عن جدّهم المصطفى محمّدصلى الله عليه و آله، الذي أخذها عن اللَّه تعالى بواسطة الأمين جبرئيل عليه السلام، فلا غرو أن تجد الأُمّة ضالّتها فيهم عليهم السلام، وتجد مرفأ الأمان في هذه اللجج العظيمة، ففي ذلك الوقت حيث أخذ كلّ يحدّث عن مجاهيل ونكرات ورموز ضعيفة ومطعونة، أو أسانيد مشوّشة، تجد أنّ الإمام الصادق عليه السلام يقول: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث عليّ بن أبي طالب، وحديث عليّ حديث رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وحديث رسول اللَّه قول اللَّه عزّ وجلّ».
بيد أنّ ما يثير العجب أن تجد من يعرض عن دوحة النبوّة إلى رجال قد كانوا وبالًا على الإسلام وأهله، وتلك وصمة عار وتقصير لا عذر فيه خصوصاً فيصحيح البخاري.
فالإمام البخاري مثلًا يروي ويحتج بمثل مروان بن الحكم، وعمران بن حطّان وحريز بن عثمان الرحبي وغيرهم، ويعرض عن الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام!!
أمّا الأوّل: فهو الوزغ بن الوزغ، اللعين بن اللعين على لسان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وأمّا الثاني: فهو الخارجي المعروف الذي أثني على ابن ملجم بشعره لا بشعوره، وأمّا الثالث: فكان ينتقص عليّاً وينال منه، ولست أدري لمَ هذا الأمر؟ إنّه مجرد تساؤل.
إنّ للإمام الصادق وراء ما نشر عنه من الأحاديث في الأحكام التي تتجاوز عشرات الآلاف، مناظرات مع الزنادقة والملحدين في عصره، والمتقشّفين من الصوفيّة، ضبط المحقّقون كثيراً منها، وهي في حد ذاتها ثروة علميّة تركها الإمام عليه السلام، وأمّا الرواية عنه في الأحكام فقد روى عنه أبان بن تغلب ثلاثين ألف حديث.
ص:182
حتّى أنّ الحسن بن عليّ الوشّاء قال: أدركت في هذا المسجد (مسجد الكوفة) تسعمائة شيخ كلّ يقول حدّثني جعفر بن محمّد «(1)».
وأمّا ما أُثر عنه من المعارف والعقائد فحدّث عنها ولا حرج، ولا يسعنا نقل حتى القليل منها، ومن أراد فليرجع إلى مظانّها «(2)».
يقول «سيد أمير علي» بعد النقاش حول الفرق المذهبيّة والفلسفيّة في عصر الإمام:
«ولم تتخذ الآراء الدينيّة اتّجاهاً فلسفياً إلّاعند الفاطميّين، ذلك أنّ انتشار العلم في ذلك الحين أطلق روح البحث والاستقصاء، وأصبحت المناقشات الفلسفية عامّة في كلّ مجتمع من المجتمعات، والجدير بالذكر أنّ زعامة تلك الحركة الفكريّة إنّما وجدت في تلك المدرسة التي ازدهرت في المدينة، والتي أسّسها حفيد عليّ بن أبي طالب المسمّى بالإمام جعفر والملقّب بالصادق، وكان رجلًا بحّاثة ومفكّراً كبيراً جيد الإلمام بعلوم ذلك العصر، ويعتبر أوّل من أسّس المدارس الفلسفيّة الرئيسيّة في الإسلام.
ولم يكن يحضر محاضراته أُولئك الذين أسّسوا فيما بعد المذاهب الفقهيّة فحسب «(3)» بل كان يحضرها الفلاسفة وطلّاب الفلسفة من الأنحاء القصيّة، وكان الإمام «الحسن البصري» مؤسس المدرسة الفلسفيّة في مدينة البصرة، وواصل بن عطاء مؤسّس مذهب المعتزلة من تلاميذه، الذين نهلوا من معين علمه الفيّاض وقد عرف واصل والإمام العلوي بدعوتهما إلى حرية إرادة الانسان... «(4)».
ص:183
وأمّا حِكَمه وقصار كلمه، فلاحظ تحف العقول، وأمّا رسائله فكثيرة منها رسالته إلى النجاشي والي الأهواز، ومنها: رسالته في شرائع الدين نقلها الصدوق في الخصال، ومنها: ما أملاه في التوحيد للمفضّل بن عمر، إلى غير ذلك من الرسائل التي رسمها بخطّه «(1)».
ونقتطف من وصاياه وكلماته الغزيرة وصية واحدة وهي وصيته لسفيان الثوري:
«الوقوف عند كلّ شبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وترك حديث لم تُرْوَه «(2)»، أفضل من روايتك حديثاً لم تحصِه».
«إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّصواب نوراً، فما وافق كتاب اللَّه فخذوه وما خالفه فدعوه» «(3)».
ونختم هذا البحث بما قاله أبو زهرة في هذا المجال:
إنّ للإمام الصادق فضل السبق، وله على الأكابر فضل خاصّ، فقد كان أبو حنيفة يروي عنه، ويراه أعلم الناس باختلاف الناس، وأوسع الفقهاء إحاطة، وكان الإمام مالك يختلف إليه دارساً راوياً، وكان له فضل الأُستاذية على
ص:184
أبي حنيفة فحسبه ذلك فضلًا.
وهو فوق هذا حفيد عليّ زين العابدين الذي كان سيّد أهل المدينة في عصره فضلًا وشرفاً وديناً وعلماً، وقد تتلمذ له ابن شهاب الزهري، وكثير من التابعين، وهو ابن محمّد الباقر الذي بقر العلم ووصل إلى لبابه، فهو ممّن جعل اللَّه له الشرف الذاتي والشرف الإضافي بكريم النسب، والقرابة الهاشمية، والعترة المحمّديّة «(1)».
وبما كتبه الأُستاذ أسد حيدر إذ قال:
كان يؤمّ مدرسته طلاب العلم ورواة الحديث من الأقطار النائية، لرفع الرقابة وعدم الحذر فأرسلت الكوفة، والبصرة، وواسط، والحجاز إلى جعفر بن محمد أفلاذ أكبادها، ومن كلّ قبيلة من بني أسدّ، ومخارق، وطي، وسليم، وغطفان، وغفار، والأزد، وخزاعة، وخثعم، ومخزوم، وبني ضبة، ومن قريش، ولا سيّما بني الحارث بن عبد المطلب، وبني الحسن بن الحسن بن عليّ «(2)».
ولمّا توفّي الإمام شيّعه عامّة الناس في المدينة، وحُمِل إلى البقيع، ودفن في جوار أبيه وجدّه عليهما السلام، وقد أنشد فيه أبو هريرة العجلي قوله:
أقول وقد راحوا به يحملونه على كاهل من حامليه وعاتقِ
أتدرون ماذا تحملون إلى الثرى ثبيراً ثوى من رأس علياء شاهقِ
غداة حثا، الحاثون فوق ضريحه تراباً وأولى كان فوق المفارقِ
فسلام اللَّه عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً.
ص:185
الإمام السابع: أبو الحسن موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
ولد بالأبواء بين مكة والمدينة يوم الأحد في 7صفر سنة 128 ه.
كان عليه السلام نموذج عصره، وفريد دهره، جليل القدر، عظيم المنزلة، مهيب الطلعة، كثير التعبّد، يطوي ليله قائماً ونهارهصائماً، عظيم الحلم، شديد التجاوز، حتّى سمّي لذلك كاظماً، لاقى من المحن ما تنهدّ لهولها الجبال فلم تحرّك منه طرفاً، بل كان عليه السلام صابراً محتسباً كحال آبائه وأجداده عليهم السلام.
يُعرَف بأسماء عديدة منها: العبد الصالح، والكاظم، والصابر، والأمين.
قال ابن الصباغ: روى عبد الأعلى عن الفيض بن المختار قال: قلت لأبي عبداللَّه جعفر الصادق عليه السلام: خذ بيدي من النار، من لنا بعدك؟ فدخل موسى
ص:186
الكاظم وهو يومئذ غلام، فقال (أي الصادق عليه السلام): «هذاصاحبكم فتمسّك به» «(1)».
قال الشيخ المفيد: هو الإمام بعد أبيه، والمقدّم على جميع بنيه؛ لاجتماع خصال الفضل فيه، وورودصحيح النصوص وجليّ الأقوال عليه من أبيه بأنّه وليّ عهده والإمام القائم من بعده «(2)».
وقد تولّى منصب الإمامة بعد أبيه الصادق عليه السلام في وقت شهدت فيه الدولة العبّاسية استقرار أركانها وثبات بنيانها، فتنكّرت للشعار الذي كانت تنادي به من الدعوة لآل محمد- عليه و عليهم السلام- فالتفتت إلى الوارث الشرعي لشجرة النبوّة مشهرة سيف العداء له ولشيعته تلافياً من تعاظم نفوذه أن يؤتي على أركان دولتهم وينقضها، فشهد الإمام الكاظم عليه السلام طيلة سنيّ حياتهصنوف التضييق والمزاحمة، إلّا أنّ ذلك لم يمنعه عليه السلام من أن يؤدّي رسالته في حماية الدين وقيادة الأُمّة، فعرفه المسلمون آية من آيات العلم والشجاعة، ومعيناً لا ينضب من الحلم والكرم والسخاء، ونموذجاً عظيماً لا يدانى في التعبّد والزهد والخوف من اللَّه تعالى.
ولقد أفرد الباحثون والمحقّقون مصنّفات كثيرة في سيرة هذا الإمام العظيم، كفتنا عن التعرّض لها هنا في هذه العجالة، إلّا أنّنا سنحاول في هذه الصفحات التعرّض لجوانب مختارة من تلك السيرة العطرة:
ص:187
1- روى الخطيب في تاريخ بغداد بسنده قال: حجّ هارون الرشيد فأتى قبر النبيّصلى الله عليه و آله زائراً، وحوله قريش ومعه موسى بن جعفر، فلمّا انتهى إلى القبر قال:
السلام عليك يا رسول اللَّه يا بن عمّي- افتخاراً على من حوله- فدنا موسى بن جعفر فقال: «السلام عليك يا أبة» فتغيّر وجه الرشيد وقال: هذا الفخر يا أباالحسن حقّاً! «(1)».
2- ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار: أنّ هارون كان يقول لموسى بن جعفر: يا أبا الحسن خذ فدكاً «(2)» حتّى أردّها عليك، فيأبى، حتى ألحّ عليه فقال: «لا آخذها إلّا بحدودها» قال: وما حدودها؟ قال: «يا أمير المؤمنين إن حددتها لم تردّها»، قال: بحقّ جدّك إلّافعلت، قال: «أمّا الحدّ الأوّل فعدن» فتغيّر وجه الرشيد وقال:
هيه، قال: «والحدّ الثاني سمرقند» فأربد وجهه، قال: «والحدّ الثالث إفريقية» فاسودّ وجهه وقال: هيه، قال: «والرابع سيف البحر ممّا يلي الخزر وإرمينية»، قال الرشيد: فلم يبق لنا شي ء، فتحوّل في مجلسي، قال موسى عليه السلام: «قد أعلمتك أنّي إن حددتها لم تردّها».
فعند ذلك عزم على قتله «(3)».
3- كان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ثمّ يعقّب حتّى تطلع الشمس
ص:188
ويخرّ للَّه ساجداً، فلا يرفع رأسه من الدعاء والتحميد حتّى يقرب زوال الشمس.
كان يدعو كثيراً فيقول: «اللّهمّ إنّي أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب»، ويكرّر ذلك.
وكان من دعائه عليه السلام: «عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك».
وكان يبكي من خشية اللَّه حتّى تخضل لحيته بالدموع.
وكان أوصل الناس لأهله ورحمه.
وكان يتفقّد فقراء المدينة في الليل، فيحمل إليهم الزنبيل فيه العين والورق والأدقة والتمور، فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أيّة جهة هو «(1)».
4- في تحف العقول للحسن بن عليّ بن شعبة: قال أبو حنيفة: حججت في أيام أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام فلمّا أتيت المدينة دخلت داره فجلست في الدهليز أنتظر إذنه، إذ خرجصبي فقلت: يا غلام أين يضع الغريب الغائط من بلدكم؟ قال: «على رسلك»، ثمّ جلس مستنداً إلى الحائط، ثمّ قال: «توقّ شطوط الأنهار، ومساقط الثمار، وأفنية المساجد، وقارعة الطريق، وتوار خلف جدار، وشل ثوبك، ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، وضع حيث شئت» فأعجبني ما سمعت من الصبيّ فقلت له: ما اسمك؟ فقال: «أنا موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب» فقلت له: يا غلام ممّن المعصية؟ فقال: «إنّ السيّئات لا تخلو من إحدى ثلاث: إمّا أن تكون من اللَّه وليست من العبد؛ فلا ينبغي للربّ أن يعذّب العبد على ما لا يرتكب، وإمّا أن تكون منه ومن العبد- وليست كذلك- فلا ينبغي للشريك القويّ أن يظلم الشريك الضعيف، وإمّا أن تكون من العبد- وهي منه- فإن عفا فكرمه وجوده، وإن عاقب فبذنب العبد وجريرته».
قال أبو حنيفة: فانصرفت ولم ألق أبا عبد اللَّه واستغنيت بما سمعت.
ص:189
وروى ابن شهر آشوب في المناقب نحوه إلّاأنّه قال: «يتوارى خلف الجدار ويتوقّى أعين الجار»، وقال: فلمّا سمعت هذا القول منه نبل في عيني، وعظم في قلبي. وقال في آخر الحديث: فقلت: ذرّية بعضها من بعض «(1)». «(2)»
5- روى أبو الفرج الأصفهاني: حدّثنا يحيى بن الحسن قال: كان موسى بن جعفر إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرّة دنانير. وكانتصراره ما بين الثلاثمائة وإلى المائتين دينار، فكانتصرار موسى مثلًا.
وقال: إنّ رجلًا من آل عمر بن الخطّاب كان يشتم عليّ بن أبي طالب إذا رأى موسى بن جعفر، ويؤذيه إذا لقيه، فقال له بعض مواليه وشيعته: دعنا نقتله، فقال:
«لا» ثمّ مضى راكباً حتّى قصده في مزرعة له فتواطأها بحماره، فصاح: لا تدس زرعنا.
فلم يصغ إليه وأقبل حتّى نزل عنده، فجلس معه وجعل يضاحكه، وقال له:
«كم غرمت على زرعك هذا»؟ قال: مائة درهم. قال: «كم ترجو أن تربح»؟ قال:
لا أدري. قال: «إنّما سألتك كم ترجو». قال: مائة أُخرى. قال: فأخرج ثلاثمائة دينار فوهبه له، فقام فقبّل رأسه، فلمّا دخل المسجد بعد ذلك وثب العمري فسلّم عليه وجعل يقول: اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته.
وكان بعد ذلك كلّما دخل موسى خرج وسلّم عليه ويقوم له، فقال موسى لجلسائه الذين طلبوا قتله: «أيّما كان خيراً ما أردتم أو ما أردت» «(3)».
6- حكي أنّ الرشيد سأله يوماً: كيف قلتم: نحن ذرّية رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وأنتم بنو عليّ، وإنّما ينسب الرجل إلى جدّه لأبيه دون جدّه لأُمّه؟ فقال الكاظم عليه السلام: «أعوذ
ص:190
باللَّه من الشيطان الرجيم بِسم اللَّه الرَّحمن الرَّحيم وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيَمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ... وليس لعيسى أب إنّما أُلحق بذريّة الأنبياء من قبل أُمّه، وكذلك أُلحقنا بذريّة النبيّ من قبل أُمّنا فاطمة الزهراء، وزيادة أُخرى يا أميرالمؤمنين: قال اللَّه عزّ وجلّ: فَمَنْ حاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعدِ ما جاءَك مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعالَوا نَدْعُ أبناءَنا وأبناءَكُمْ ونِساءَنا ونِساءَكُمْ وأنْفُسنَا وأنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ...
ولم يدعصلى الله عليه و آله عند مباهلة النصارى غير عليّ وفاطمة والحسن والحسين وهما الأبناء» «(1)».
7- أمّا علمه والحديث عنه فقد روى عنه العلماء في فنون العلم ما ملأ الكتب، وكان يعرف بين الرواة بالعالم. وقد روى الناس عنه فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب اللَّه «(2)».
وقد اتفقت كلمة المؤرّخين على أنّ هارون الرشيد قام باعتقال الإمام الكاظم عليه السلام وإيداعه السجن لسنين طويلة مع تأكيده على سجّانيه بالتشديد والتضييق عليه.
قال ابن كثير: فلمّا طال سجن الإمام الكاظم عليه السلام كتب إلى الرشيد: «أمّا بعد يا أمير المؤمنين إنّه لم ينقض عنّي يوم من البلاء إلّاانقضى عنك يوم من الرخاء، حتى يفضي بنا ذلك إلى يوم يخسر فيه المبطلون» «(3)».
ولم يزل ذلك الأمر بالإمام عليه السلام، يُنقل من سجن إلى سجن حتى انتهى به الأمر
ص:191
إلى سجن السندي بن شاهك «(1)»، وكان فاجراً فاسقاً، لا يتورّع عن أي شي ء تملّقاً ومداهنة للسلطان، فغالى في سجن الإمام عليه السلام وزاد في تقييده حتّى جاء أمر الرشيد بدسّ السمّ للكاظم عليه السلام، فأسرع السندي إلى إنفاذ هذا الأمر العظيم، واستشهد الإمام عليه السلام بعد طول سجن ومعاناة في عام 183 ه.
ولمّا كان الرشيد يخشى ردّة فعل المسلمين عند انتشار خبر استشهاد الإمام عليه السلام، لذا عمد إلى حيلة ماكرة للتنصّل من تبعة هذا الأمر الجلل، فقد ذكر أبوالفرج الاصفهاني وغيره «(2)»: أنّ الإمام الكاظم لما توفّي مسموماً أدخل عليه الفقهاء ووجوه أهل بغداد، وفيهم الهيثم بن عديّ وغيره ليشهدوا على أنّه مات حتف أنفه دون فعل من الرشيد وجلاوزته، ولما شهدوا على ذلك أُخرج بجثمانه الطاهر ووضع على الجسر ببغداد ونودي بوفاته. ودفن في بغداد في الجانب الغربي في المقبرة المعروفة بمقابر قريش المشهورة في أيامنا هذه بالكاظمية.
فالسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد سجيناً مظلوماً مسموماً، ويوم يبعث حيّاً.
ص:192
الإمام الثامن: أبوالحسن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام
ولد في المدينة سنة 148 ه.
هو الإمام الثامن من أئمّة أهل البيت عليهم السلام، القائم بالإمامة بعد أبيه موسى بن جعفر عليهما السلام لفضله على جماعة أهل بيته وبنيه وإخوته في عصره، ولعلمه وورعه وكفاءته لمنصب الإمامة، مضافاً إلى النصوص الواردة في حقّه من أبيه على إمامته «(1)». وكانت مدة إمامته بعد أبيه 20 سنة «(2)».
ص:193
قال الواقدي: عليّ بن موسى، سمع الحديث من أبيه وعمومته وغيرهم، وكان ثقة يفتي بمسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهو ابن نيف وعشرين سنة، وهو من الطبقة الثامنة من التابعين من أهل المدينة «(1)».
قال الشيخ كمال الدين بن طلحة: ومن أمعن نظره وفكره، وجده في الحقيقة وارثهما (المراد عليّ بن أبي طالب وعليّ بن الحسين عليهما السلام) نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفعت مكانته، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتّى أدخله الخليفة المأمون محلّ مهجته، وأشركه في مملكته، وفوّض إليه أمر خلافته، وعقد له على رؤوس الأشهاد عقد نكاح ابنته، وكانت مناقبه عليّة، وصفاته ثنيّة، ونفسه الشريفة زكيّة هاشميّة، وأرومته النبوية كريمة «(2)».
وقد عاش الإمام الرضا عليه السلام في عصر ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية، وكثرت الترجمة لكتب اليونانيين والرومانيين وغيرهم، وازداد التشكيك في الأُصول والعقائد من قبل الملاحدة وأحبار اليهود، وبطارقة النصارى، ومجسّمة أهل الحديث.
وفي تلك الأزمنة أُتيحت له عليه السلام فرصة المناظرة مع المخالفين على اختلاف مذاهبهم، فظهر برهانه وعلا شأنه. يقف على ذلك من اطّلع على مناظراته واحتجاجاته مع هؤلاء «(3)».
ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من احتجاجاته نذكر ما يلي:
ص:194
دخل أبو قرّة المحدّث على أبي الحسن الرضا عليه السلام فقال: روينا أنّ اللَّه قسَّم الرؤية والكلام بين نبيَّين، فقسم لموسى عليه السلام الكلام ولمحمّدصلى الله عليه و آله الرؤية.
فقال أبو الحسن عليه السلام: «فمن المبلّغ عن اللَّه إلى الثقلين الجنّ والإنس: أنّه لا تدركه الأبصار «(1)»
، و لا يحيطون به علماً «(2)»
، و ليس كمثله شى ء «(3)»
، أليس محمدصلى الله عليه و آله»؟ قال: بلى.
قال: «فكيف يجي ء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند اللَّه، وأنّه يدعوهم إلى اللَّه بأمر اللَّه، فيقول: لا تدركه الأبصار، و لا يحيطون به علماً، و ليس كمثله شي ء، ثمّ يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً، وهو علىصورة البشر. أما تستحيون؟! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا: أن يأتي من عند اللَّه بشي ء ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر».
قال أبو قرّة: فإنّه يقول: ولَقَدْ رَآهُ نزلةً أُخرى «(4)»
.
قال أبو الحسن عليه السلام: «إنّ بعد هذه الآية ما يدلّ على ما رأى حيث قال:
ما كذب الفؤادُ ما رأى «(5)»
يقول: ما كذب فؤاد محمّدصلى الله عليه و آله ما رأت عيناه ثمّ أخبر بما رأى فقال: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى «(6)»
فآيات اللَّه غير اللَّه، وقال: «لا يُحيطون بِهِ عِلْماً» فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة».
فقال أبو قرة: فتكذّب بالرواية؟
ص:195
فقال أبو الحسن: «إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذّبتها، وما أجمع المسلمون عليه: أنّه لا يحاط به علماً، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شي ء» «(1)».
ولما انتشر علم الإمام وفضله، أخذت الأفئدة والقلوب تشدّ إليه، وفي الأُمّة الإسلامية رجال واعون يميزون الحق من الباطل، فكثر التفاف المسلمين حول الإمام الرضا عليه السلام وازدادت أعدادهم، ممّا دفع بالخلافة العباسية إلى محاولة سحب البساط من تحت رجلي الإمام عليه السلام وأعوانه قبل أن تستفحل الأُمور ويصعب السيطرة على الموقف بعدها، فلجأ المأمون إلى مناورة ذكيّة ماكرة استطاع من خلالها قلب تيار الأحداث لصالحه، حيث استقدم الإمام الرضا عليه السلام وجملة من وجوه الطالبيين إلى مقر الحكومة آنذاك في مرو من مدينة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، معزّزين مكرّمين حتّى أنزلوهم إلى جوار مقر الخلافة ريثما يلتقي المأمون بالإمام عليّ ابن موسى عليهما السلام.
وما كان من المأمون إلّاأن بعث إلى الإمام الرضا عليه السلام قبل اجتماعه به: إنّي أُريد أن أخلع نفسي من الخلافة وأُقلّدك إيّاها فما رأيك؟ فأنكر الرضا عليه السلام هذا الأمر وقال له: «أُعيذك باللَّه يا أمير المؤمنين من هذا الكلام وأن يسمع به أحد» فردّ عليه الرسالة: فإذا أبيت ما عرضت عليك فلابد من ولاية العهد بعدي، فأبى عليه الرضا إباءً شديداً.
فاستدعاه وخلا به ومعه الفضل بن سهل ذو الرياستين- ليس في المجلس
ص:196
غيرهم- وقال له: إنّي قد رأيت أن أُقلّدك أمر المسلمين وأفسخ ما في رقبتي وأضعه في رقبتك.
فقال له الرضا عليه السلام: «اللَّه اللَّه يا أمير المؤمنين إنّه لا طاقة لي بذلك ولا قوّة لي عليه».
قال له: فإنّي موليك العهد من بعدي.
فقال له: «أعفني من ذلك يا أمير المؤمنين».
فقال له المأمون- كلاماً فيه التهديد له على الامتناع عليه وقال في كلامه-: إنّ عمر بن الخطّاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدّك أمير المؤمنين عليه السلام وشرط فيمن خالف منهم أن يضرب عنقه، ولابد من قبولك ما أُريد منك فإنّي لا أجد محيصاً عنه.
فقال له الرضا عليه السلام: «فإنّي أُجيبك إلى ما تريد من ولاية العهد على أنّني لا آمر، ولا أنهى، ولا أفتي، ولا أقضي، ولا أُولي، ولا أعزل، ولا أُغير شيئاً ممّا هو قائم» فأجابه المأمون إلى ذلك كلّه «(1)».
أقول: ليس بخاف على ذي لبّ مغزى إصرار المأمون على تولية الإمام الرضا عليه السلام لمنصب ولاية العهد، وتبدو هذه الصورة واضحة عند استقراء الأحداث التي سبقت أو رافقت هذه المؤامرة المحكمة.
فعندما قدّم هارون الرشيد ولده الأمين رغم إقراره ومعرفته بقوّة شخصيّة المأمون وذكائه قياساً بأخيه المدلّل الذي لا يشفع له إلّامكانة أُمّه زبيدة الحاكمة في قصر الرشيد، كان يعني ذلك إيذاناً بقيام الفتنة التي حصلت من بعد وراح ضحيتها عشرات الأُلوف وعلى رأسهم الأمين الذي وقف العباسيون إلىصفّه وقاتلوا معه، ولما انتقلت السلطة بأكملها إلى المأمون المستقرّ في خراسان والمدعوم بأهلها
ص:197
آنذاك، فقد واجه خطر نقمة أكثر العباسيين وعدائهم له وتحيّنهم الفرص السانحة للانقضاض عليه وعلى حكمه.
وفي الجانب الآخر كان الشيعة في كلّ مكان يرفضون ويناصبون الخلافة العباسية العداء نتيجة سوءصنيعهم وظلمهم للعلويين ولآل البيت خاصة، والذين يؤلف شيعة خراسان جانباً مهماً منهم.
وكان في أوّل سنة لخلافة المأمون أن خرج السري بن منصور الشيباني المعروف بأبي السرايا في الكوفة منادياً بالدعوة لمحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن الحسن بن الحسن بن علي عليه السلام حيث بايعه عامّة الناس على ذلك.
وفي المدينة خرج محمد بن سليمان بن داود بن الحسن، وفي البصرة عليّ بن محمد بن جعفر بن عليّ بن الحسين وزيد بن موسى بن جعفر الملقّب بزيد النار، وفي اليمن إبراهيم بن موسى، ومن ثمّ فقد ظهر في المدينة أيضاً الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين المعروف بالأفطس.
وهكذا فقد اندلعت في أنحاء الدولة الكثير من الثورات تناصرها الآلاف من الناس الذين ذاقوا الأمرّين من حكم الطواغيت والظلمة.
وهكذا فقد أدرك المأمون مدى تأزّم الموقف، وتخلخل وضع الحكومة آنذاك، فلم يجد بداً من تظاهره أمام الرأي العام الشيعي- الذي كان من أقوى التيّارات المؤهلة للإطاحة بالخلافة العباسية دون أيّ شكّ- بتنازله عن الخلافة- التي قتل أخاه من أجلها- إلى الإمام الرضا عليه السلام إمام الشيعة وقائدهم.
وهكذا فبعد قبول علي بن موسى الرضا عليهما السلام ولاية العهد قام بين يديه الخطباء والشعراء، فخفقت الألوية على رأسه، وكان فيمن ورد عليه من الشعراء دعبل بن عليّ الخزاعيّ، فلمّا دخل عليه قال: قلت قصيدة وجعلت على نفسي أن لاأنشدها أحداً قبلك، فأمره بالجلوس حتى خفّ مجلسه ثمّ قال له: «هاتها»
ص:198
فأنشد قصيدته المعروفة:
مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصاتِ
لآل رسول اللَّه بالخيف من منى وبالركن والتعريف والجمراتِ
ديار علي والحسين وجعفر وحمزة والسجاد ذي الثفناتِ
ديار عفاها كلّ جون مبادر ولم تعف للأيّام والسنواتِ
إلى أن قال:
قبور بكوفان وأُخرى بطيبة وأُخرى بفخ نالهاصلواتي
وقبر ببغداد لنفس زكيّة تضمّنها الرحمن بالغرفاتِ
فأمّا المصمّات التي لست بالغاً مبالغها منّي بكنهصفاتِ
إلى الحشر حتّى يبعث اللَّه قائماً يفرّج منها الهمّ والكربات
إلى أن قال:
ألم تر أنّي مذ ثلاثين حجّة أروح وأغدو دائم الحسرات؟
أرى فيئهم في غيرهم متقسماً وأيديهم من فيئهمصفرات
إذا وتروا مدّوا إلى أهل وترهم أكفّاً من الأوتار منقبضات
حتّى أتى على آخرها، فلمّا فرغ من إنشادها قام الرضا عليه السلام فدخل إلى حجرته وأنفذ إليهصُرّة فيها مائة دينار واعتذر إليه، فردّها دعبل وقال: واللَّه ما لهذا جئت، وإنّما جئت للسلام عليك والتبرّك بالنظر إلى وجهك الميمون، وإنّي لفي غنى، فإن رأيت أن تعطيَني شيئاً من ثيابك للتبرّك فهو أحب إليَّ. فأعطاه الرضا جبّة خز وردّ عليه الصرّة «(1)».
ص:199
كان الإمام في مرو يقصده البعيد والقريب من مختلف الطبقات وقد انتشرصيته في بقاع الأرض، وعظم تعلّق المسلمين به، ممّا أثار مخاوف المأمون وتوجّسه من أن ينفلت زمام الأمر من يديه على عكس ما كان يتمنّاه، وما كان يبتغيه من ولاية العهد هذه، وقوي ذلك الظن أنّ المأمون بعث إليه يوم العيد في أن يصلّي بالناس ويخطب فيهم فأجابه الرضا عليه السلام: «إنّك قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول الأمر، فاعفني من الصلاة بالناس». فقال له المأمون: إنّما أُريد بذلك أن تطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضلك.
ولم تزل الرسل تتردّد بينهما في ذلك، فلمّا ألحّ عليه المأمون، أرسل إليه الرضا: «إن أعفيتني فهو أحبّ إليّ وإن لم تعفني خرجت كما خرج رسول اللَّه وأمير المؤمنين عليه السلام» فقال له المأمون: اخرج كيف شئت. وأمر القوّاد والحجاب والناس أن يبكروا إلى باب الرضا عليه السلام.
قال: فقعد الناس لأبي الحسن عليه السلام في الطرقات والسطوح، واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه، فاغتسل أبو الحسن ولبس ثيابه وتعمّم بعمامةٍ بيضاء من قطنٍ، ألقى طرفاً منها علىصدره وطرفاً بين كتفه، ومسّ شيئاً من الطيب، وأخذ بيده عكازة وقال لمواليه: «افعلوا مثل ما فعلت» فخرجوا بين يديه وهو حاف قد شمّر سراويله إلى نصف الساق وعليه ثياب مشمّرة، فمشي قليلًا ورفع رأسه إلى السماء وكبّر وكبّر مواليه معه، فلمّا رآه الجند والقوّاد سقطوا كلّهم عن الدوابّ إلى الأرض، ثمّ كبّر وكبّر الناس، فخيّل إلى الناس أنّ السماء والحيطان تجاوبه، وتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج لمّا رأوا الإمام الرضا عليه السلام وسمعوا
ص:200
تكبيره، فبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل: إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل فتن به الناس، وخفنا كلّنا على دمائنا، فأنفذ إليه أن يرجع. فأرسل إليه من يطلب منه العودة، فرجع الرضا عليه السلام واختلف أمر الناس في ذلك اليوم «(1)».
وقد أشار الشاعر البحتري إلى تلك القصّة بأبيات منها:
ذكروا بطلعتك النبيّ فهلّلوا لما طلعت من الصفوف وكبّروا
حتّى انتهيت إلى المصلّى لابساً نور الهدى يبدو عليك فيظهر
ومشيت مشية خاشع متواضع للَّه لا يزهي ولا يتكبّر
«(2)» إنّ هذا وأمثاله، وبالأخصّ خروج بعض العباسيّين بالبصرة على المأمون؛ لتفويضه ولاية العهد لعليّ بن موسى الرضا الذي كان في تصوّره سيؤدي إلى خروج الأمر من بيت العباسيين، كل ذلك وغيره دفع المأمون إلى أن يريح نفسه وقومه من هذا الخطر فدسّ إليه السم على النحو المذكور في كتب التاريخ.
ومن لطيف ما نقل عن أبي نؤاس أنّه كان ينشد الشعر في كلّ جليل وطفيف ولم يمدح الإمام، ولما عوتب على ذلك من قبل بعض أصحابه حيث قال له: ما رأيت أوقح منك، ما تركت خمراً ولا طرداً ولا معنى إلّاقلت فيه شيئاً، وهذا عليّ بن موسى الرضا في عصرك لم تقل فيه شيئاً! فقال أبو نواس: واللَّه ما تركت ذلك إلّا إعظاماً له، وليس قدر مثلي أن يقول في مثله، ثمّ أنشد بعد ساعة هذه الأبيات:
ص:201
قيل لي أنت أحسن الناس طراً في فنون من الكلام النبيه
لك من جيّد القريض مديحٌ يثمر الدر في يديّ مجتنيه
فعلامَ تركت مدح ابن موسى والخصال التي تجمّعن فيه
قلت لا أستطيع مدح إمامٍ كان جبريلُ خادماً لأبيه
وقال فيه عليه السلام أيضاً:
مطهّرون نقيّات جيوبهم تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
من لم يكن علوياً حين تنسبه فما له في قديم الدهر مفتخر
اللَّه لمّا برا خلقاً فأتقنهصفّاكُمُ واصطفاكم أيّها البشر
فأنتم الملأ الأعلى وعندكم علم الكتاب وما جاءت به السور «(1)»
واستشهد في طوس من أرض خراسان فيصفر 203 ه، وله يومئذ 55 سنة.
ولما استشهد الإمام عليه السلام دفن في مدينة طوس في قبر ملاصق لقبر هارون الرشيد، وقبر الإمام الرضا الآن مزار مهيب يتقاطر المسلمون على زيارته والتبرك به.
فسلام اللَّه عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حياً.
ص:202
الإمام التاسع: أبوجعفر محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام
ولد بالمدينة المنورة في شهر رمضان من سنة خمس وتسعين بعد المائة، فورث الشرف من آبائه وأجداده، واستسقت عروقه من منبع النبوّة، وارتوت شجرته من منهل الرسالة.
قام بأمر الولاية بعد شهادة والده الرضا عليه السلام عام 203 ه، واستشهد ببغداد عام 220 ه، أدرك خلافة المأمون وأوائل خلافة المعتصم.
أمّا إمامته ووصايته فقد وردت فيها النصوص الوافرة «(1)».
لقّب بالجواد والقانع والمرتضى والنجيب والتقيّ والزكيّ وغيرها من الألقاب الدالّة على علو شأنه وارتفاع منزلته.
ص:203
لمّا توفّي الرضا عليه السلام كان الإمام الجواد في المدينة، وقام بأمر الإمامة بوصية من أبيه وله من العمر تسع أو عشر سنين، وكان المأمون قد مارس معه نفس السياسة التي مارسها مع أبيه عليه السلام خلافاً لأسلافه من العباسيين، حيث إنّهم كانوا يتعاملون مع أئمّة أهل البيت بالقتل والسجن، وكان ذلك يزيد في قلوب الناس حبّاً لأهل البيت وبغضاً للخلفاء، ولمّا شعر المأمون بذلك بدّل ذلك الأُسلوب بأُسلوب آخر وهو استقدام أهل البيت من موطنهم إلى دار الخلافة لكي يشرف على حركاتهم وسكناتهم، وقد استمرّت هذه السياسة في حقّهم إلى الإمام الحادي عشر كما ستعرف.
وما كان من المأمون عندما استقدم الإمام إلى مركز الخلافة، إلّاأن شغف به لما رأى من فضله معصغر سنّه وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان، فزوّجه ابنته أُمّ الفضل وحملها معه إلى المدينة، وكان حريصاً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قدره، ونحن نكتفي في المقام بذكر أمرين:
1- لمّا توفّي الإمام الرضا عليه السلام وقدم المأمون بغداد، اتّفق أنّ المأمون خرج يوماً يتصيّد، فاجتاز بطرف البلدة وصبيان يلعبون ومحمّد الجواد واقف عندهم، فلمّا أقبل المأمون فرّ الصبيان ووقف محمّد الجواد، وعمره آنذاك تسع سنين، فلمّا قرب منه الخليفة قال له: يا غلام ما منعك أن لا تفرّ كما فرّ أصحابك؟! فقال له محمّد الجواد مسرعاً: «يا أمير المؤمنين فرّ أصحابي فرقاً والظنّ بك حسن أنّه لا يفرّ منك من لا ذنب له، ولم يكن بالطريق ضيق فانتحي عن أميرالمؤمنين» فأعجب
ص:204
المأمون كلامه وحسنصورته فقال له: ما اسمك يا غلام؟ قال: «محمّد بن عليّ الرضا عليه السلام» فترحّم على أبيه «(1)».
2- لمّا أراد المأمون تزويج ابنته أُمّ الفضل من الإمام الجواد ثقل ذلك على العباسيين وقالوا له: ننشدك اللَّه أن تقيم على هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا؛ فانّا نخاف أن تخرج به عنّا أمراً قد ملّكناه اللَّه! وتنزع منّا عزّاً قد ألبسناه اللَّه! فقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا حتى كفى اللَّه المهمّ من ذلك- إلى أن قالوا-: إنّ هذا الفتى وإن راقك منه هديه؛ فإنّهصبي لا معرفة له؛ فأمهله حتّى يتأدّب ويتفقّه في الدين ثمّ اصنع ما ترى.
قال المأمون: ويحكم إنّي أعرف بهذا الفتى منكم، وإنّ أهل هذا البيت علمهم من اللَّه تعالى وإلهامه، ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب من الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر حتّى يتبيّن لكم ما وصفت لكم من حاله. قالوا: رضينا.
فخرجوا واتّفق رأيهم على أنّ يحيى بن أكثم يسأله مسألة وهو قاضي الزمان فأجابهم المأمون على ذلك.
واجتمع القوم في يوم اتّفقوا عليه، وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست ففعل ذلك، وجلس يحيى بن أكثم بين يديه، وقام الناس في مراتبهم، والمأمون جالس في دست متّصل بدست أبي جعفر عليه السلام.
فقال يحيي بن أكثم للمأمون: أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر؟
فقال: استأذنه في ذلك.
فأقبل عليه يحيى وقال: أتأذن لي- جعلت فداك- في مسألة؟
ص:205
فقال: «سل إن شئت».
فقال: ما تقول- جعلت فداك- في مُحْرم قتلصيداً؟
فقال أبو جعفر عليه السلام: «في حلّ أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلًا؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان المحرم أو عبداً؟صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً كان بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم غيرها؟ منصغار الصيد أم كبارها؟ مصرّاً كان على ما فعل أو نادماً؟ ليلًا كان قتله للصيد أم نهاراً؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحجّ كان محرماً؟».
فتحيّر يحيى وبان في وجهه العجز والانقطاع، وتلجلج حتّى عرف أهل المجلس أمره.
فقال المأمون: الحمد للَّه على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثمّ قال لأبي جعفر عليه السلام: اخطب لنفسك فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوّجك أُمّ الفضل ابنتي «(1)».
ولمّا تمّ الزواج قال المأمون لأبي جعفر: إن رأيت- جعلت فداك- أن تذكر الجواب فيما فصّلته من وجوه قتل المُحْرم الصيد لنعلمه ونستفيده.
فقال أبو جعفر عليه السلام: «إنّ المحرم إذا قتلصيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة، فإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً؛ فإن قتل فرخاً في الحلّ فعليه حمل قد فطم من اللّبن، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ، وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبياً فعليه شاة، فإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه بالحج نحره بمنى، وإن كان إحرامه بالعمرة نحره
ص:206
بمكّة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد له المأثم وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفّارة على الحرّ في نفسه، وعلى السيّد في عبده، والصغير لا كفّارة عليه وهي على الكبير واجبة، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة، والمصرّ يجب عليه العقاب في الآخرة».
فقال له المأمون: أحسنت يا أبا جعفر... «(1)».
ثمّ إنّ أبا جعفر بعد أن أقام مدّة في بغداد هاجر إلى المدينة وسكن بها مدّة إلى أن توفّي المأمون وبويع المعتصم، ولم يزل المعتصم متفكّراً في أبي جعفر يخاف من اجتماع الناس حوله ووثوبه على الخلافة، فلأجل ذلك مارس نفس السياسة التي مارسها أخوه المأمون من قبله فاستقدم الإمام الجواد عليه السلام إلى بغداد سنة 220 «(2)» وبقي فيها عليه السلام حتى توفّي في آخر ذي القعدة من تلك السنة، وله من العمر 25 سنة وأشهر. ودفن عند جدّه موسى بن جعفر في مقابر قريش.
وقال ابن شهر آشوب: إنّه قبض مسموماً «(3)».
فسلام اللَّه على إمامنا الجواد يوم ولد، ويوم مات أو استشهد بالسمّ، ويوم يبعث حيّاً.
ص:207
الإمام العاشر: أبو الحسن عليّ بن محمّد الهادي عليه السلام
ولد عام 212 ه، وهو من بيت الرسالة والإمامة، ومقر الوصاية والخلافة، وثمرة من شجرة النبوّة.
قام عليه السلام بأمر الإمامة بعد والده الإمام الجواد عليه السلام، وقد عاصر خلافة المعتصم والواثق والمتوكّل والمنتصر والمستعين والمعتز، وله مع هؤلاء قضايا لا يتّسع المقام لذكرها.
قال ابن شهر آشوب: كان أطيب الناس مهجة، وأصدقهم لهجة، وأملحهم من قريب، وأكملهم من بعيد، إذاصمت علَتْه هيبة الوقار، وإذا تكلّم سماه البهاء «(1)».
وقال عماد الدين الحنبلي: كان فقيهاً إماماً متعبّداً «(2)».
ص:208
وقال المفيد: تقلّد الإمامة بعد أبي جعفر ابنه أبو الحسن عليّ بن محمّد، وقد اجتمعت فيه خصال الإمامة وثبت النص عليه بالإمامة، والإشارة إليه من أبيه بالخلافة «(1)».
وقد تضافرت النصوص على إمامته عن طرقنا، فمن أراد فليرجع إلى الكافي وإثبات الهداة وغيرهما من الكتب المعدّة لذلك «(2)».
لقد مارس المتوكّل نفس الأُسلوب الخبيث الذي رسمه المأمون ثمّ أخوه المعتصم من إشخاص أئمّة أهل البيت من موطنهم وإجبارهم على الإقامة في مقرّ الخلافة، وجعل العيون والحرّاس عليهم حتى يطّلعوا على دقيق حياتهم وجليلها.
وكان المتوكّل من أخبث الخلفاء العباسيين، وأشدّهم عداءً لعليّ، فبلغه مقام عليّ الهادي بالمدينة ومكانته هناك، وميل الناس إليه، فخاف منه «(3)»، فدعا يحيى ابن هرثمة وقال: اذهب إلى المدينة، وانظر في حاله وأشخصه إلينا.
قال يحيى: فذهبت إلى المدينة، فلمّا دخلتها ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله، خوفاً على عليّ الهادي، وقامت الدنيا على ساق؛ لأنّه كان مُحْسِناً إليهم، ملازماً للمسجد لم يكن عنده ميل إلى الدنيا.
قال يحيى: فجعلت أُسكِّنهم وأحلِف لهم أنّي لم أُؤمر فيه بمكروه، وأنّه لا بأس عليه، ثمّ فتّشت منزله فلم أجد فيه إلّامصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في
ص:209
عينى، وتولّيت خدمته بنفسى، وأحسنت عشرته، فلمّا قدمت به بغداد، بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري وكان والياً على بغداد، فقال لي: يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول اللَّه، والمتوكّل مَنْ تعلَم، فإن حرّضته عليه قتله، كان رسول اللَّه خصمك يوم القيامة. فقلت له: واللَّه ما وقعت منه إلّاعلى كلّ أمر جميل.
ثمّصرت به إلى «سرّ من رأى» فبدأت ب «وصيف» التركي، فأخبرته بوصوله، فقال: واللَّه لئن سقط منه شعرة لا يطالب بها سواك، فلمّا دخلت على المتوكّل سألني عنه فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته، وأنّي فتّشت داره ولم أجد فيها إلّاالمصاحف وكتب العلم، وأنّ أهل المدينة خافوا عليه، فأكرمه المتوكّل وأحسن جائزته وأجزل برّه، وأنزله معه سامراء «(1)».
ومع أنّ الإمام كان يعيش في نفس البلد الذي يسكن فيه المتوكّل، وكانت العيون والجواسيس يراقبونه عن كثب، إلّاأنّه وشي به إلى المتوكّل بأنّ في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم، وأنّه عازم على الوثوب بالدولة، فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهاجموا داره ليلًا فلم يجدوا فيها شيئاً، ووجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة منصوف وهو جالس على الرمل والحصى، وهو متوجّه إلى اللَّه تعالى يتلو آيات من القرآن، فحمل على حاله تلك إلى المتوكل وقالوا له: لم نجد في بيته شيئاً، ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة، وكان المتوكّل جالساً في مجلس الشراب فأُدخل عليه والكأس في يده، فلمّا رآه هابه وعظّمه وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس التي كانت في يده، فقال الإمام عليه السلام: «واللَّه ما خامر لحمي ودمي قط، فاعفني» فأعفاه، فقال له: انشدني شعراً، فقال عليّ: «أنا قليل الرواية للشعر» فقال: لابدّ، فأنشده وهو جالس عنده:
ص:210
«باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم وأُسكنوا حفراً يا بئس ما نزلوا
ناداهمُصارخ من بعد دفنهم أين الأسرّة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعّمة من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم تلك الوجوه عليها الدود يقتتل «(1)»
قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلوا»
فبكى المتوكّل حتى بلّتْ لحيته دموع عينه وبكي الحاضرون، ورفع إلى عليّ أربعة آلاف دينار ثمّ ردّه إلى منزله مكرّماً «(2)».
روى الحفّاظ والرواة عن الإمام أحاديث كثيرة في شتّى المجالات من العقيدة والشريعة، وقد جمعها المحدّثون في كتبهم، وبثّها الحرّ العاملي في كتابه الموسوم ب «وسائل الشيعة» على أبواب مختلفة، وممّا نلفت إليه النظر أنّ للإمام عليه السلام بعض الرسائل؛ وهي:
1- رسالته في الردّ على الجبر والتفويض وإثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين، أوردهابتمامها الحسن بن علي بن شعبة الحرّاني في كتابه الموسوم ب «تحف العقول» «(3)».
2- أجوبته ليحيى بن أكثم عن مسائله، وهذه أيضاً أوردها الحرّاني في تحف العقول.
ص:211
3- قطعة من أحكام الدين، ذكرها ابن شهر آشوب في المناقب.
ولأجل إيقاف القارئ على نمط خاصّ من تفسير الإمام نأتي بنموذج من هذا التفسير:
قُدّم إلى المتوكّل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة، فأراد أن يقيم عليه الحدّ، فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: الإيمان يمحو ما قبله، وقال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود، فكتب المتوكل إلى الإمام الهادي يسأله، فلمّا قرأ الكتاب، كتب:
«يضرب حتى يموت» فأنكر الفقهاء ذلك، فكتب إليه يسأله عن العلّة، فكتب:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم فَلَمَّا رَأوْا بَأْسَنا قَالوا آمَنَّا بِاللَّه وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشركينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمانُهُمْ لَمَّا رَأوْا بأسنا سُنَّة اللَّه الَّتي قَدْ خَلَتْ في عبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الكافِرونَ «(1)»
، فأمر به المتوكّل فضرب حتّى مات «(2)».
توفّي أبو الحسن عليه السلام في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين ودفن في داره بسرّ من رأى، وخلّف من الولد أبا محمّد الحسن ابنه وهو الإمام من بعده، والحسين، ومحمّد، وجعفر، وابنته عائشة، وكان مقامه بسرّ من رأى إلى أن قبض عشر سنين وأشهر، وتوفّي وسنّه يومئذ على ما قدمناه إحدى وأربعون سنة «(3)».
وقد ذكر المسعودي في إثبات الوصيّة «تفصيل كيفية وفاته وتشييعه وإيصاء الإمامة لابنه أبي محمّد العسكري» فمن أراد فليراجع «(4)».
ص:212
الإمام الحادي عشر: أبو محمّد الحسن بن علي العسكري عليه السلام
أبو محمّد الحسن بن علي الهادي بن محمّد الجواد، أحد أئمّة أهل البيت، والإمام الحادي عشر، الملقب بالعسكري، ولد عام 232 ه «(1)»، وقال الخطيب في تاريخه «(2)» وابن الجوزي في تذكرته «(3)»: أنّه ولد عام 231 ه وأشخص والده إلى العراق سنة 236 ه وله من العمر أربع سنين وعدّة شهور، وقام بأمر الامامة والقيادة الروحية بعد شهادة والده، وقد اجتمعت فيه خصال الفضل، وبرز تقدّمه على كافة أهل العصر، واشتهر بكمال الفعل والعلم والزهد والشجاعة «(4)»، وقد روى عنه لفيف من الفقهاء والمحدّثين يربو عددهم على 150 شخصاً «(5)». وتوفّي عام
ص:213
260 ه ودفن في داره التي دفن فيها أبوه بسامراء.
وخلّف ابنه المنتظر لدولة الحق، وكان قد أخفى مولده وستر أمره لصعوبة الوقت، وشدّة طلب السلطة، واجتهادها في البحث عن أمره، ولكنّه سبحانه حفظه من شرار أعدائه كما حفظ سائر أوليائه كإبراهيم الخليل وموسى الكليم، فقد خابت السلطة في طلبهما والاعتداء عليهما.
وقد اشتهر الإمام بالعسكري لأنّه منسوب إلى عسكر، ويراد بها سرّ من رأى التي بناها المعتصم، وانتقل إليها بعسكره، حيث أشخص المتوكل أباه عليّاً إليها وأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر فنُسب هو وولده إليها «(1)». قال سبط ابن الجوزي: كان عالماً ثقة روى الحديث عن أبيه عن جدّه ومن جملة مسانيده حديث في الخمر عزيز.
ثمّ ذكر الحديث عن جدّه أبي الفرج الجوزيّ في كتابه المسمّى ب «تحريم الخمر»، ثمّ ساق سند الحديث إلى الحسن العسكري وهو يسند الحديث إلى آبائه إلى علي بن أبي طالب وهو يقول: «أشهد باللَّه لقد سمعت محمّداً رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: أشهد باللَّه لقد سمعت جبرائيل يقول: أشهد باللَّه لقد سمعت ميكائيل يقول: أشهد باللَّه لقد سمعت إسرافيل يقول: أشهد باللَّه على اللوح المحفوظ أنّه قال: سمعت اللَّه يقول:
شارب الخمر كعابد الوثن» «(2)».
ولقد وقع سبط ابن الجوزي في الاشتباه عندما توهّم أنّ اسناد الإمام عليه السلام هذا الحديث إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مختص بهذا المورد، ولكن الحقيقة غير ذلك، فإنّ أحاديث أهل البيت مروية كلّها عن النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله، فهم لا يروون في مجال الفقه والتفسير والأخلاق والدعاء إلّا ما وصل إليهم عن النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله عن طريق آبائهم وأجدادهم، ومروياتهم لا تعبّر عن آرائهم الشخصية، فمن قال بذلك وتصوّر كونهم مجتهدين مستنبطين، فقد قاسهم بالآخرين مّمن يعتمدون على آرائهم
ص:214
الشخصية، وهو في قياسه خاطى ء؛ منذ نعومة أظفارهم إلى أن لبّوا دعوة ربّهم لم يختلفوا إلى أندية الدروس، ولم يحضروا مجلس أحد من العلماء، ولا تعلّموا شيئاً من غير آبائهم، فما يذكرونه من علوم ورثوها من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وراثة غيبية لا يعلم كنه ها إلّااللَّه سبحانه والراسخون في العلم.
وهذا الإمام جعفر الصادق عليه السلام يبيّن هذا الأمر بوضوح لا لبس فيه، حيث يقول: «إنّ حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وحديث علي أمير المؤمنين حديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وحديث رسول اللَّه قول اللَّه عزّ وجلّ» «(1)».
وروى حفص بن البختري، قال: قلت لأبي عبداللَّه الصادق عليه السلام أسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك، فقال: «ما سمعته منّي فاروه عن أبي، وما سمعته منّي فاروه عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله» «(2)».
فأئمّة المسلمين على حد قول القائل:
ووال أُناساً نقلهم وحديثهم روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري
ولقد عاتب الإمام الباقر عليه السلام سلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة حيث كانايأخذان الحديث من الناس ولايهتمان بأحاديث أهل البيت، فقال لهما: «شرّقا وغرّبا فلا تجدان علماًصحيحاً إلّاشيئاً خرج من عندنا أهلَ البيت».
ورغم أنّ الخلفاء العباسيين قد وضعوا الإمام تحت الإقامة الجبرية وجعلوا عليه عيوناً وجواسيساً، ولكن روى عنه الحفّاظ والرواة أحديثاً جمّة في شتى المجالات، بل يروى أنّ الإمام عليه السلام ورغم كلّ ذلك كان على اتّصال مستمر بالشيعة الذين كان عددهم يقدر بعشرات الملايين، وحيث كان لامرجع لهم سوى الإمام عليه السلام.
ص:215
كما أنّ الكلام عن أخلاقه وأطواره، ومناقبه وفضائله، وكرمه وسخائه، وهيبته وعظمته، ومجابهته للخلفاء العباسيين بكل جرأة وعزّة وما نقل عنه من الحكم والمواعظ والآداب، يحتاج إلى تأليف مفرد وكفانا في ذلك علماؤنا الأبرار، بيد أنّا نشير إلى لمحة من علومه.
1- لقد شغلت الحروف المقطّعة بال المفسّرين فضربوا يميناً وشمالًا، وقد أنهى الرازي أقوالهم فيها فى أوائل تفسيره الكبير إلى قرابة عشرين قولًا، ولكن الإمام عليه السلام عالج تلك المعضلة بأحسن الوجوه وأقربها للطبع، فقال: «كذبت قريش واليهود بالقرآن، وقالوا سحر مبين تقوّله، فقال اللَّه: الم* ذلِكَ الكتابُ أي: يا محمّد، هذا الكتاب الذي نزّلناه عليك هو الحروف المقطّعة اليي منها «ألف»، «لام»، «ميم» وهو بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتمصادقين، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم، ثمّ بيّن أنّه لا يقدرون عليه بقوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالجِنُّ عَلى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذا القُرآنِ لا يَأتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبعْضٍ ظَهِيرا «(1)»» «(2)»
.
وقد روي هذا المعنى عن أبيه الإمام الهادي عليه السلام «(3)».
2- كان أهل الشغب والجدل يلقون حبال الشك في طريق المسلمين فيقولون إنّكم تقولون فيصلواتكم: اهدنا الصِّراط المُستقيم أو لستم فيه؟ فما معنى هذه الدعوة؟ أو أنّكم متنكّبون عنه فتدعون ليهديكم إليه؟ ففسّر الإمام الآية قاطعاً لشغبهم فقال: «أدِم لناتوفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيّامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمالنا».
ص:216
ثمّ فسّر الصراط بقوله: «الصراط المستقيم هو:صراطان:صراط في الدينا وصراط في الآخرة، أمّا الأوّل فهو ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير، واستقام فلم يعدل إلى شي ء من الباطل، وأمّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنّة الذي هو مستقيم، لا يعدلون عن الجنّة إلى النار ولا إلى غير النار سوى الجنّة» «(1)»،
وكان قد استفحل أمر الغلاة في عصر الإمام العسكري ونسبوا إلى الأئمّة الهداة أُموراً هم عنها براء، ولأجل ذلك يركّز الإمام على أنّ الصراط المستقيم لكل مسلم هو التجنّب عن الغلو والتقصير.
3- ربّما تغتر الغافل بظاهر قوله سبحانه:صِراطَ الَّذِينَ أْنعَمْتَ عَلَيهِم ويتصوّر أنّ المراد من النعمة هو المال والأولاد وصحّة البدن، وإن كان كلّ هذا نعمة من اللَّه، ولكنّ المراد من الآية بقرنية قوله: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيْهِم ولا الضَّالِّين «(2)»
هو نعمة التوفيق والهداية، ولأجل ذلك نرى أنّ الإمام يفسّر هذا الإنعام بقوله:
«قولوا اهدناصراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك، وهم الذين قال اللَّه عزّ وجلّ: وَمَنْ يُطِع اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولِئكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيَّينَ والصَّديقينَ والشُّهداءِ وَالصَّالِحِينَ وحَسُنَ أُولِئكَ رَفيقاً ثمّ قال: ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحّة البدن وإن كان كلّ هذا نعمة من اللَّه ظاهرة» «(3)».
4- لقد تفشّت آنذاك فكرة عدم علمه سبحانه بالأشياء قبل أن تخلق، تأثراً بتصورات بعض المدارس الفكرية الفلسفية الموروثة من اليونان، فسأله محمّد بنصالح عن قول اللَّه: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ «(4)»
فقال: «هل
ص:217
يمحو إلّاما كان وهل يثبت إلّامالم يكن»؟
فقلت في نفسي: هذا خلاف ما يقوله هشام الفوطي: إنّه لا يعلم الشي ء حتى يكون، فنظرإليَّ شزراً، وقال: «تعالى اللَّه الجبّار العالم بالشي ء قبل كونه، الخالق إذ لا مخلوق، والربّ إذ لا مربوب، والقادر قبل المقدور عليه» «(1)».
ص:218
الإمام الثاني عشر: المهدي ابن الحسن المنتظر عليه السلام
هو أبو القاسم محمّد بن الحسن العسكري الحجّة، الخلف الصالح، ولد عليه السلام بسرّ من رأى ليلة النصف من شعبان، سنة خمس وخمسين ومائتين، وله من العمر عند وفاة أبيه خمس سنين، آتاه اللَّه الحكمصبيّاً كما حدث ليحيى، حيث قال سبحانه:
يايَحْيى خُذِ الِكتابَ بِقُوَّةٍ وآتَيْناهُ الحُكْمَصَبيّاً «(1)»
،
وجعله إماماً وهو طفل، كما جعل المسيح نبيّاً وهو رضيع قال سبحانه عن لسانه وهو يخاطب قومه: إنّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الِكتابَ وَجَعَلَني نَبيّاً «(2)»
.
اتّفق المسلمون على ظهور المهدي في آخر الزمان لإزالة الجهل والظلم، والجور، ونشر أعلام العدل، وإعلاء كلمة الحق، وإظهار الدين كلّه ولو كره المشركون، فهو بإذن اللَّه ينجي العالم من ذلّ العبودية لغير اللَّه، ويلغي الأخلاق والعادات الذميمة، ويبطل القوانين الكافرة التي سنّتها الأهواء، ويقطع أُواصر التعصّبات القومية والعنصرية، ويمحي أسباب العداء والبغضاء التيصارت سبباً
ص:219
لاختلاف الأُمّة وافتراق الكلمة، ويحقّق اللَّه سبحانه بظهوره وعده الذي وعد به المؤمنين بقوله:
1- وعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالحِاتِ لَيَستَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهمْ وَليُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهمْ أمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْركُونَ بي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعَدَ ذلِكَ فَأولِئكَ هُمُ الفاسِقُونَ «(1)».
2- وَنُريدُ أنْ نَمُنَّ عَلىَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلهُمْ أَئِمَّةًوَنَجْعَلهُمُ الوراثِينَ «(2)».
3- وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذَّكْرِ أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِباديَ الصّالِحُونَ «(3)».
وتشهد الأُ مّة بعد ظهوره عليه السلام عصراً ذهبياً لا يبقى فيه على الأرض بيت إلّا ودخلته كلمة الإسلام، ولا تبقى قرية إلّاوينادى فيها بشهادة «لا إله إلّا اللَّه» بكرة وعشياً.
أقول: لقد تواترت النصوص الصحيحة والأخبار المروية من طريق أهل السنّة والشيعة المؤكدة على إمامة أهل البيت عليه السلام، والمشيرةصراحة إلى أنّ عددهم كعدد نقباء بني إسرائيل، وأنّ آخر هؤلاء الأئمّة هو الذي يملأ الأرض- في عهده- عدلًا وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وأنّ أحاديث الإمام الثاني عشر الموسوم بالمهدي المنتظر قد رواها جملة من محدثي السنَّة فيصحاحهم المختلفة كأمثال الترمذي (المتوفّى عام 297 ه)، وأبي داود (المتوفّى عام 275 ه) وغيرهم؛ حيث
ص:220
أسندوا رواياتهم هذه إلى جملة من أهل بيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وصحابته، أمثال علي ابن أبي طالب عليه السلام، وعبداللَّه بن عباس، وعبداللَّه بن عمر عليه السلام وأُمّ سلمة زوجة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة وغيرهم:
1- روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «لو لم يبق من الدهر إلّا يوم واحد لبعث اللَّه رجلًا من أهل بيتي يملأها عدلًا كما ملئت جوراً» «(1)».
2- أخرج أبو داود عن عبداللَّه بن مسعود: أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي» «(2)».
3- أخرج أبو داود عن أُمّ سلمة- رضي اللَّه عنها- قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة» «(3)».
4- أخرج الترمذي عن ابن مسعود: أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي» «(4)».
إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة التي بلغت أعلى مراتب التواتر على وجه حتّى قال الدكتور عبدالباقي: إنّ المشكلة ليست مشكلة حديث أو حديثين أو راو أو روايين، إنّها مجموعة من الأحاديث والآثار تبلغ الثمانين تقريباً، اجتمع على تناقلها مئات الرواة وأكثر منصاحب كتابصحيح «(5)».
هذا هو المهدي الذي اتّفق المحدّثون والمتكلّمون عليه، وإنّما الاختلاف بين الشيعة والسنّة في ولادته، فالشيعة ذهبت إلى أنّ المهدي الموعود هو الإمام الثاني
ص:221
عشر الذي ولد بسامراء عام 255 ه واختفى بعد وفاة أبيه عام 260 ه، وقد تضافرت عليه النصوص من آبائه، على وجه ما ترك شكّاً ولا شبهة «(1)» ووافقتهم جماعة من علماء أهل السنّة، وقالوا بأنّه ولد وأنّه محمّد بن الحسن العسكري.
نعم كثير منهم قالوا: بأنّه سيولد في آخر الزمان، وبما أنّ أهل البيت أدرى بما في البيت، فمن رجع إلى روايات أئمّة أهل البيت في كتبهم يظهر له الحق، وأنّ المولود للإمام العسكري هو المهدي الموعود.
ومّمن وافق من علماء أهل السنّة بأنّ وليد بيت الحسن العسكري هو المهدي الموعود:
1- كمال الدين محمّد بن طلحة بن محمّد القرشي الشافعي في كتابه «مطالب السؤول في مناقب آل الرسول». وقد أثنى عليه من ترجم له مثل اليافعي في «مرآة الجنان» في حوادث سنة 652 ه.
قال- بعد سرد اسمه ونسبه-: «المهدي الحجّة، الخلف الصالح المنتظر، فأمّا مولده فبسر من رأى، وأمّا نسبه أباً فأبوه الحسن الخالص» ثمّ أورد عدّة أخبار واردة في المهدي من طريق أبي داود، والترمذي ومسلم، والبخاري وغيرهم، ثمّ ذكر بعض الاعتراضات بالنسبة إلى أحواله عليه السلام من حيث الغيبة وطول العمر وغير ذلك، وأجاب عنها جميعاً، ثمّ قال رادّاً على تأويل البعض لهذه الروايات بأنّها لا تدلّ على أنّه محمّد بن الحسن العسكري قائلًا: بأنّ الرسول لما وصفه وذكر اسمه ونسبه وجدنا تلك الصفات والعلامات موجوده في محمّد بن الحسن العسكري علمنا هو المهدي.
2- أبو عبداللَّه محمّد بن يوسف بن محمّد الكنجي الشافعي في كتابيه: «البيان
ص:222
في أخبارصاحب الزمان» و «كفاية الطالب في مناقب علي ابن أبي طالب».
3- نور الدين علي بن محمّد بن الصباغ المالكي في كتابه: «الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة».
4- الفقيه الواعظ شمس الدين المعروف بسبطابن الجوزي في «تذكرة الخواص».
إلى غير ذلك من علماء وحفّاظ ذكر أسماءهم وكلماتهم السيد الأمين في أعيان الشيعة وأنهاها إلى ثلاثة عشر، ثمّ قال: والقائلون بوجود المهدي من علماء أهل السنّة كثيرون، وفيما ذكرناه منهم كفاية، ومن أراد الاستقصاء فليرجع إلى كتابنا «البرهان على وجودصاحب الزمان» ورسالة «كشف الأستار» للشيخ حسين النوري «(1)».
وقد كان الاعتقاد بظهور المهدي في عصر الأئمّة الهداة أمراً مسلّماً، حتى أنّ شاعراً مثل دعبل الخزاعي ذكره في قصيدته التي أنشدها لعلي بن موسى الرضا عليه السلام فقال:
خروج إمام لا محالة قائم يقوم على اسم اللَّه والبركات
يميز فينا كل حق وباطل ويجزي على النعماء والنقمات
ولمّا وصل دعبل إلى هذين البيتين بكى الرضا عليه السلام بكاءً شديداً ثمّ رفع رأسه، فقال له: «يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين، فهل تدري من هذا الإمام ومتى يقوم»؟
فقلت: لا يا مولاي، إلّاأنّي سمعت بخروح إمام منكم يطّهر الأرض من الفساد، ويملأها عدلًا كما ملئت جور.
فقال: «يا دعبل، الإمام بعدي محمّد ابني (الجواد) وبعد محمّد ابنه علي
ص:223
(الهادي)، وبعد علي ابنه الحسن (العسكري)، وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم، المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره، لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل اللَّه ذلك اليوم حتى يخرج فيملأها عدلًا كما ملئت جوراً، وأمّا متى؟ فإخبار عن الوقت، فقد حدّثني أبي عن أبيه عن آبائه عن علي عليه السلام إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قيل له: يا رسول اللَّه متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال: مثله الساعة لا يجليها لوقتها إلّا هو، ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلّا بغتة «(1)».
ثمّ إنّ للمهدي- عجّل اللَّه تعالى فرجه- غيبتين صغرى وكبرى، كما جاءت بذلك الأخبار عن أئمّة أهل البيت، أمّا الغيبة الصغرى فمن ابتداء إمامته إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته بوفاة السفراء وعدم نصب غيرهم، وقد مات السفير الأخير علي بن محمّد السمري عام 329 ه، ففي هذه الفترة كان السفراء يرونه وربّما رآه غيرهم ويصلون إلى خدمته وتخرج على أيديهم توقيعات منه إلى شيعته في أُمور شتّى.
وأمّا الغيبة الكبرى فهي بعد الأُولى إلى أن يقوم بإذن اللَّه تعالى.
وأمّا من رأى الحجّة في زمان أبيه وفي الغيبة الصغرى وحتى في الكبرى، فحدّث عنه ولا حرج، وقد أُلّفت في ذلك كتب أحسنها وأجملها: «كمال الدين» للصدوق، و «الغيبة» للشيخ الطوسي.
فنذكر هنا بعض من رآه فيصباه:
إنّ هناك لفيفاً من أصحاب الإمام العسكري رأوا الإمام المهدي في أيامصباه، ووالده بعد حي. وها نحن نذكر من الكثير شيئاً قليلًا حتى لا يرتاب المنصف في
ص:224
ولادته:
1- روى يعقوب بن منقوش قال: دخلت على أبي محمّد الحسن بن علي عليه السلام هو جالس على دكّان في الدار، وعن يمينه بيت عليه ستر مسبل، فقلت له: منصاحب هذا الأمر؟ فقال: ارفع الستر. فرفعته فخرج إلينا غلام خماسي له عشرة أو ثمان أو نحو ذلك، واضح الجبين أبيض الوجه، درّي المقلتين، شثن الكفين، معطوف الركبتين، في خدّه الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة، فجلس على فخذ أبي محمد ثمّ قال لي: هذاصاحبكم «(1)».
2- روى إبراهيم بن محمد بن فارس النيسابوري قال: لما همّ الوالي عمر بن عوف بقتلي غلب عليَّ خوف عظيم، فودعت أهلي وتوجهت إلى دار أبي محمّد لأُودّعه، وكنت أردت الهرب، فلمّا دخلت عليه رأيت غلاماً جالساً في جنبه وكان وجهه مضيئاً كالقمر ليلة البدر، فتحيرت من نوره وضيائه وكاد ينسيني ما كنت فيه، فقال: يا إبراهيم لا تهرب فإنّ اللَّه سيكفيك شره، فازداد تحّيري، فقلت لأبي محمّد: يا سيدي يا بن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من هذا وقد أخبرني بما كان في ضميري؟
فقال: هو ابني وخليفتي من بعدي «(2)».
3- روى أحمد بن إسحاق قال: قلت لأبي محمد الحسن العسكري: يا ابن رسول اللَّه فمن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهض عليه السلام مسرعاً فدخل البيت ثمّ خرج و على عاتقه غلام كأنّ وجهه القمر ليلة البدر، من أبناء ثلاث سنين، فقال: يا أحمد بن إسحاق، لو لا كرامتك على اللَّه عزّوجلّ وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا، إنّه سمّي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكنيّه، الذي يملأالأرض قسطاً و عدلًا كما ملئت جوراً وظلماً «(3)».
ص:225
4- روى أبو الحسين الحسن بن وجناء قال: حدثني أبي عن جده أنّه كان في دار الحسن بن علي عليه السلام فكبستنا الخيل وفيها جعفر بن علي الكذّاب واشتغلوا بالنهب والغارة وكانت همّتي في مولاي القائم عليه السلام، قال: فإذا أنا به، قد أقبل وخرج عليهم من الباب وأنا أنظر إليه وهو عليه السلام ابن ست سنين فلم يره أحد حتى غاب «(1)».
5- روى عبداللَّه بن جعفر الحميري قال: سألت أبا عمر عثمان بن سعيد العمري (أحد وكلاء الإمام أيام غيبته) فقلت له: هل أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمد عليه السلام؟ فقال: أي واللَّه ورقبته مثل ذا- أومأ بيده- فقلت له: فبقيت واحدة؟
فقال لي: هات. قلت: الاسم؟ قال: محرّم عليكم أن تسألوا عن ذلك... «(2)».
6- روت حكيمة بنت الإمام محمد الجواد قالت: بعث إليَّ أبو محمّد الحسن بن علي عليه السلام فقال: يا عمة اجعلي إفطارك هذه الليلة عندنا، فإنّها ليلة النصف من شعبان، فإنّ اللَّه تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة، وهو حجّته في أرضه.
ثمّ إنّ حكيمة عمة الإمام العسكري تتحدث عن ولادة الإمام المهدي وتقول:
فصممته إليَّ فإذا أنا به نظيف متنظف، فصاح بي أبو محمد عليه السلام: هلمّ إليَّ ابني يا عمة، فجئت إليه... «(3)».
7- ورى كامل بن إبراهيم فقال: دخلت على سيدي أبي محمد عليه السلام إذ نظرت إليه على ثياب بيض ناعمة فقلت في نفسي: ولي اللَّه وحجّته يلبس الناعم من الثياب، ويأمرنا بمواساة إخواننا وينهانا عن لبس مثله، فقال الإمام: يا كامل وحسر عن ذراعيه، فإذا مسح أسود خشن، فقال: هذا للَّه وهذا لكم، فجاءت الريح، فكشفت طرفه، فإذا أنا بفتى كأنّه فلقة قمر من أبناء أربع سنين أو مثلها،
ص:226
فقال لي: يا كامل بن إبراهيم. فاقشعررت من ذلك، والهمت أن قلت: لبيك يا سيدي. فقال: جئت إلى وليّ اللَّه وحجّته تريد أن تسأل: لا يدخل الجنة إلّامن عرف معرفتك وعرف مقالتك... إلى أن قال: فنظر إليَّ أبو محمّد وتبسّم وقال: يا كامل بن إبراهيم، ما جلوسك وقد أبانك المهدى والحجّة من بعدي بما كان في نفسك وجئت تسألني عنه. قال: فنهضت وقد أخذت الجواب الذي أسررته في نفسي من الإمام المهدي ولم ألقه بعد ذلك «(1)».
هذه نماذج ممّن رأى الإمام المهدي بعد ولادته، وقبل غيبته ذكرناه ولو أردنا الاستقصاء لطال بنا المقام في المقال.
- عجّل اللَّه تعالى فرجه-
إنّ القول بأنّ الإمام المهدي لا يزال حياً يرزق منذ ولادته عام 255 هجرية إلى الآن، وأنّه غائب سوف يظهر بأمر من اللَّه سبحانه، أثار أسئلة حول حياته وإمامته، نذكر رؤوسها:
1- كيف يكون إماماً وهو غائب، وما الفائدة المرتقبة منه في غيبته؟
2- لماذا غاب؟
3- كيف يمكن أن يعيش إنسان هذه المدة الطويلة؟
4- ماهي أشراط وعلائم ظهوره؟
هذه أسئلة أُثيرت حول الإمام المهدي منذ أن غاب، وكلّما طالت غيبته اشتدّ التركيز عليها، وقد قام المحققون من علماء الإمامية بالإجابة عليها في مؤلّفات مستقلة لا مجال لنقل معشار ما جاء فيها، غير أنّ الإحالة لما كانت غير خالية عن
ص:227
المحذور، نبحث عنها على وجه الإجمال، ونحيل من أراد التبسّط إلى المصادر المؤلّفة في هذا المجال.
إنّ القيادة والهداية والقيام بوظائف الإمامة، هو الغاية من تنصيب الإمام، أو اختياره، وهو يتوقف على كونه ظاهراً بين أبناء الأُمة، مشاهداً لهم، فكيف يكون إماماً قائداً، وهو غائب عنهم؟!
والجواب: على وجهين نقضاً وحلًا.
أمّا النقض: فإنّ التركيز على هذا السؤال يعرب عن عدم التعرّف على أولياء اللَّه، وأنّهم بين ظاهرٍ قائم بالأُمور ومُختَفٍ قائم بها من دون أن يعرفه الناس.
إنّ كتاب اللَّه العزيز يعرّفنا على وجود نوعين من الأئمّة والأولياء والقادة للأُمّة: وليّ غائب مستور، لا يعرفه حتى نبي زمانه، كما يخبر سبحانه عن مصاحب موسى عليه السلام بقوله: فَوَجَدا عَبْداً مِن عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْماً* قالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً الآيات «(1)».
ووليّ ظاهر باسط اليد، تعرفه الأُمّة وتقتدي به.
فالقرآن إذن يدلّ على أنّ الولي ربّما يكون غائباً، ولكنّه مع ذلك لا يعيش في غفلة عن أُمّته، بل يتصرّف في مصالحها ويرعى شؤونها، من دون أن يعرفه أبناء الأُمّة.
فعلى ضوء الكتاب الكريم، يصحّ لنا أن نقول بأنّ الولي إمّا ولي حاضر مشاهَد، أو غائب محجوب.
ص:228
وإلى ذلك يشير الإمام علي بن أبي طالب في كلامه لكميل بن زياد النخعيّ، يقول كميل: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن طالب عليه السلام فأخرجني إلى الجبّان، فلمّا أصحر، تنفَّس الصعداء، وكان مما قاله: «اللّهم، لا تخلو الأرض من قائم للَّه بحجّةٍ، إمّا ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً لئلّا تبطل حُجج اللَّه وبيِّناته» «(1)».
وليست غيبة الإمام المهدي، بِدعاً في تاريخ الأولياء، فهذا موسى بن عمران، قد غاب عن قومه قرابة أربعين يوماً، وكان نبيّاً وليّاً، يقول سبحانه:
وواعَدنا موسى ثلاثينَ لَيلةً وأتمناها بِعَشرٍ فَتمَّ ميقاتُ ربِّهِ أربعينَ لِيلةً وقالَ مُوسى لأخيهِ هارونَ اخلُفني في قومي وأصلح ولا تتّبعْ سبيلَ المفسدين «(2)».
وهذا يونس كان من أنبياء اللَّه سبحانه، ومع ذلك فقد غاب في الظلمات كما يقول سبحانه: وذا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى في الظُّلُمات أن لا إِله إلّاأنت سُبحانك إِنّي كُنْتُ من الظَّالمين* فاستجبنا له ونَجَّيْناهُ مِنَ الغَمِّ وكذلك نُنْجي المُؤْمنين «(3)».
أولم يكن موسى ويونس نيَّين من أنبياء اللَّه سبحانه؟ وما فائدة نبي يغيب عن الأبصار، ويعيش بعيداً عن قومه؟
فالجواب في هذا المقام، هو الجواب في الإمام المهدي عليه السلام وسيوافيك ما يفيدك من الانتفاع بوجود الإمام الغائب في زمان غيبته في جواب السؤال التالي.
وأمّا الحلّ: فمن وجوه:
الأوّل: إنّ عدم علمنا بفائدة وجوده في زمن غيبته، لايدلّ على عدم كونه
ص:229
مفيداً في زمن غيبته، فالسائل جَعَلَ عدم العلم طريقاً إلى العلم بالعدم!! وكم لهذا السؤال من نظائر في التشريع الإسلامي، فيقيم البسطاء عدم العلم بالفائدة، مقام العلم بعدمها، وهذا من أعظم الجهل في تحليل المسائل العلمية، ولا شك أنّ عقول البشر لا تصل إلى كثير من الأُمور المهمّة في عالم التكوين والتشريع، بل لا تفهم مصلحة كثير من سننه، وإن كان فعله سبحانه منزّهاً عن العبث، بعيداً عن اللغو.
وعلى ذلك فيجب علينا التسليم أمام التشريع إذا وصل إلينا بصورةصحيحة كما عرفت من تواتر الروايات على غَيبته.
الثاني: إنّ الغَيبَة لا تلازم عدم التصرف في الأُمور، وعدم الاستفادة من وجوده، فهذا مصاحب موسى كان ولياً، لجأ إليه أكبر أنبياء اللَّه في عصره، فقد خرق السفينة التي يمتلكها المستضعفون ليصونها عن غصب الملك، ولم يَعْلَم أصحاب السفينة بتصرّفه، وإلّا لصدُّوه عن الخرق، جهلًا منهم بغاية علمه. كما أنّه بنى الجدار، ليصون كنز اليتيمين، فأي مانع حينئذ من أن يكون للإمام الغائب في كلّ يوم وليلة تصرّف من هذا النمط من التصرّفات. ويؤيد ذلك مادلّت عليه الروايات من أنّه يحضر الموسم في أشهر الحج، ويحجّ ويصاحب الناس، ويحضر المجالس، كما دلتّ على أنّه يغيث المضطرين، ويعود المرضى، وربّما يتكفّل- بنفسه الشريفة- قضاء حوائجهم، وإن كان الناس لا يعرفونه.
الثالث: المُسَلّم هو عدم إمكان وصول عموم الناس إليه في غَيبته، وأمّا عدم وصول الخواص إليه، فليس بأمر مسلّم، بل الذي دلّت عليه الروايات خلافه، فالصلحاء من الأُمّة الذين يُستَدَرُّ بهم الغمام، لهم التشرّف بلقائه، والاستفادة من نور وجوده، وبالتالي تستفيد الأُمّة بواسطتهم.
الرابع: لا يجب على الإمام أن يتولّى التصرّف في الأُمور الظاهرية بنفسه، بل له تولية غيره على التصرف في الأُمور كما فعل الإمام المهدي- أرواحنا له الفداء-
ص:230
في غَيبته. ففي الغيبة الصغرى، كان له وكلاء أربعة، يقومون بحوائج الناس، وكانت الصلة بينه وبين الناس مستمرّة بهم. وفي الغيبة الكبرى نصب الفقهاء والعلماء العدول العالمين بالأحكام، للقضاء وتدبير الأُمور، وإقامة الحدود، وجعلهم حجة على الناس، فهم يقومون في عصر الغيبة بصيانة الشرع عن التحريف، وبيان الأحكام، ودفع الشبهات، وبكل ما يتوقّف عليه نظم أُمور الناس «(1)».
وإلى هذه الأجوبة أشار الإمام المهدي عليه السلام في آخر توقيع له إلى بعض نوّابه، بقوله: «وأمّا وجهُ الانتفاع بي في غَيبتي، فكالانتفاع بالشَّمسِ إذا غيّبَها عن الأبصارالسحاب» «(2)».
إنّ ظهور الإمام بين الناس، يترتّب عليه من الفائدة ما لا يترتب عليه في زمن الغيبة، فلماذا غاب عن الناس، حتى حرموا من الاستفادة من وجوده، وما هي المصلحة التي أخفته عن أعين الناس؟
الجواب:
أنّ هذا السؤال يجاب عليه بالنقض والحل:
ص:231
أمّا النقض: فبما ذكرناه في الإجابة عن السؤال الأوّل، فإنّ قصور عقولنا عن إدراك أسباب غيبته، لا يجرّنا إلى إنكار المتضافرات من الروايات، فالاعتراف بقصور أفهامنا أولى من ردّ الروايات المتواترة، بل هو المتعّين.
وأمّا الحلّ: فإنّ أسباب غيبته، واضحة لمن أمعن فيما ورد حولها من الروايات، فإنّ الإمام المهدي عليه السلام هو آخر الأئمة الاثني عشر الذين وعد بهم الرسول، وأناط عزّة الإسلام بهم، ومن المعلوم أنّ الحكومات الإسلامية لم تُقدِّرْهُم، بل كانت لهم بالمرصاد، تلقيهم في السجون وتريق دماءهم الطاهرة بالسيف أو السمّ، فلو كان ظاهراً، لأقدموا على قتله، إطفاءً لنوره، فلأجل ذلك اقتضت المصلحة أن يكن مستوراً عن أعين الناس، يراهم ويرونه ولكن لا يعرفونه، إلى أن تقتضي مشيئة اللَّه سبحانه ظهوره، بعد حصول استعدادٍ خاص في العالم لقبوله، والانضواء تحت لواء طاعته، حتى يحقّق اللَّه تعالى به ما وعد به الأُمم جمعاء من توريث الأرض للمستضعفين.
وقد ورد في بعض الروايات إشارة إلى هذه النكتة، روى زرارة قال: سمعت أبا جعفر (الباقر عليه السلام) يقول: إنّ للقائم غَيبة قبل أن يقوم، قال: قلت: ولِمَ؟ قال: يخاف.
قال زرارة: يعني القتل.
وفي رواية أُخرى: يخاف على نفسه الذبح «(1)».
وسيوافيك ما يفيدك عند الكلام عن علائم ظهوره.
إنّ من الأسئلة المطروحة حول الإمام المهدي، طول عمره في فترة غَيبته، فإنّه ولد عام 255 ه، فيكون عمره إلى العصر الحاضر أكثر من ألف ومائة وخمسين
ص:232
عاماً، فهل يمكن في منطق العلم أن يعيش إنسان هذا العمر الطويل؟
الجواب:
من وجهين، نقضاً وحلًّا.
أمّا النقض: فقد دلّ الذكر الحكيم على أنّ شيخ الأنبياء عاش قرابة ألف سنة، قال تعالى: فَلَبِثَ فيهم أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسينَ عاماً «(1)».
وقد تضمّنت التوارة أسماء جماعة كثيرة من المعمّرين، وذكرت أحوالهم في سِفْر التكوين «(2)».
وقد قام المسلمون بتأليف كتب حول المعمّرين، ككتاب «المعمّرين» لأبي حاتم السجستانى، كما ذكر الصدوق أسماء عدّة منهم في كتاب «كمال الدين» «(3)»، والعلّامة الكراجكي في رسالته الخاصّة، باسم «البرهان على صحة طول عمر الإمامصاحب الزمان» «(4)»، والعلّامة المجلسي في البحار «(5)»، وغيرهم.
وأمّا الحلّ: فإنّ السؤال عن إمكان طول العمر، يعرب عن عدم التعرّف على سعة قدرة اللَّه سبحانه: وَما قَدَروا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «(6)»
، فإنّه إذا كانت حياته وغيبته وسائر شؤونه، برعاية اللَّه سبحانه، فأي مشكلة في أن يمدّ اللَّه سبحانه في عمره ما شاء، ويدفع عنه عوادي المرض ويرزقه عيش الهناء.
وبعبارة أُخرى: إنّ الحياة الطويلة إمّا ممكنة في حد ذاتها أو ممتنعة، والثاني لم
ص:233
يقل به أحد، فتعيّن الأوّل، فلا مانع من أن يقوم سبحانه بمدّ عمر وليّه، لتحقيق غرض من أغراض التشريع.
أضف إلى ذلك ما ثبت في علم الحياة، من إمكان طول عمر الإنسان إذا كان مراعياً لقواعد حفظ الصحة، وأنّ موت الإنسان في فترة متدنية، ليس لقصور الاقتضاء، بل لعوارض تمنع عن استمرار الحياة، ولو أمكن تحصين الإنسان منها بالأدوية والمعالجات الخاصة لطال عمره ما شاء.
وهناك كلمات ضافية من مَهَرة علم الطب في إمكان إطالة العمر، وتمديد حياة البشر، نشرت في الكتب والمجلات العلمية المختلفة «(1)».
وبالجملة، اتّفقت كلمة الأطباء على أنّ رعاية أُصول حفظ الصحّة، توجب طول العمر، فكلّما كثرت العناية برعاية تلك الأُصول، طال العمر، ولأجل ذلك نرى أنّ الوفيات في هذا الزمان، في بعض الممالك، أقلّ من السابق، والمعمّرين فيها أكثر من ذي قبل، وما هو إلّالرعاية أُصول الصحّة، ومن هنا أُسّست شركات تضمن حياة الإنسان إلى أمد معلوم تحت مقرّرات خاصة وحدود معيّنة، جارية على قوانين حفظ الصحّة، فلو فرض في حياة شخص اجتماع موجبات الصحّة من كلّ وجه، طال عمره إلى ما شاء اللَّه.
وإذا قرأت ما تُدَوِّنه أقلام الأطباء في هذا المجال، يتّضح لك معنى قوله سبحانه: فَلَوْلا أنّه كانَ مِنَ المُسَبِّحينَ* لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إِلى يَومِ يُبْعَثونَ «(2)»
.
فإذا كان عيش الإنسان في بطون الحيتان، في أعماق المحيطات، ممكناً إلى يوم البعث، فكيف لا يعيش إنسان على اليابسة، في أجواء طبيعية، تحت رعاية اللَّه وعنايته، إلى ما شاء اللَّه؟
ص:234
إذا كان للإمام الغائب، ظهورٌ بعد غيبة طويلة، فلا بدّ من أن يكون لظهوره علامات وأشراط تخبر عن ظهوره، فما هي هذه العلامات؟
الجواب:
إنّ ما جاء في كتب الأحاديث من الحوادث والفتن الواقعة في آخر الزمان على قسمين:
قسم هو من أشراط الساعة وعلامات دنوّ القيامة.
وقسم هو ما يقع قبل ظهور المهدي المنتظر.
وربّما وقع الخلط بينهما في الكتب، ونحن نذكر القسم الثاني منهما، وهو عبارة عن أُمور عدّة، منها:
1- النداء في السماء.
2- الخسوف والكسوف في غير مواقعهما.
3- الشقاق والنفاق في المجتمع.
4- ذيوع الجور والظلم والهرج والمرج في الأُمّة.
5- ابتلاء الإنسان بالموت الأحمر والأبيض.
6- قتل النفس الزكية.
7- خروج الدجّال.
8- خروج السفياني.
وغير ذلك مما جاء في الأحاديث الإسلامية «(1)».
هذه هي علامات ظهوره، ولكن هناك أُمور تمهّد لظهوره، وتسهّل تحقيق
ص:235
أهدافه نشير إلى إبرزها:
1- الاستعداد العالمي: والمراد منه أنّ المجتمع الإنساني- وبسبب شيوع الفساد- يصل إلى حدّ، يقنطمعه من تحقّق الإصلاح بيد البشر، وعن طريق المنظمات العالمية التي تحمل عناوين مختلفة، وأنّ ضغط الظلم والجور على الإنسان يحمله عن أن يُذعن ويُقرّ بأنّ الإصلاح لا يتحقّق إلّابظهور إعجاز إلهي، وحضور قوّة غيبية، تدمّر كلّ تلك التكتلات البشرية الفاسدة، التي قَيّدَتْ بسلاسلها أعناق البشر.
2- تكامل العقول: إنّ الحكومة العالمية للإمام المهدي عليه السلام لا تتحقّق بالحروب والنيران والتدمير الشامل للأعداء، وإنّما تتحقّق برغبة الناس إليها، وتأييدهم لها، لتكامل عقولهم ومعرفتهم.
يقول الإمام الباقر عليه السلام في حديث له يرشد فيه إلى أنّه إذا كان ذلك الظرف، تجتمع عقول البشر وتكتمل أحلامهم: «إذا قام قائمنا، وَضَعَ اللَّه يده على رؤوس العباد، فيجمع بها عقولهم، تكتمل به أحلامهم» «(1)».
فقوله عليه السلام: «فيجمع بها عقولهم»، بمعنى أنّ التكامل الاجتماعي يبلغ بالبشر إلى الحدّ الذي يَقْبَلُ فيه تلك الموهبة الإلهية، ولن يترصّد للثورة على الإمام والانقلاب عليه، وقتله أو سجنه.
3- تكامل الصناعات: إنّ الحكومة العالمية الموحّدة لا تتحقق إلّابتكامل الصناعات البشرية، بحيث يسمع العالم كلّهصوته ونداءه، وتعاليمه وقوانينه في يوم واحد، وزمنٍ واحدٍ.
قال الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ المؤمنَ في زمان القائم، وهو بالمشرق يرى أخاه الذي في المغرب، وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي بالمشرق» «(2)».
ص:236
4- الجيش الثوري العالمي: إنّ حكومة الإمام المهدي، وإن كانت قائمة على تكامل العقول، ولكن الحكومة لا تستغني عن جيش فدائي ثائر وفعّال، يُمَهِّد الطريق للإمام عليه السلام ويواكبه بعد الظهور إلى تحقّق أهدافه وغاياته المتوخّاة.
ص:237
حصيلة البحث
هؤلاء هم أئمّة الشيعة وقادتهم بل أئمّة المسلمين جميعاً، وكيف لا يكونون كذلك؟ وقد ترك رسول اللَّه بعد رحلته الثقلين وحثّ الأُمّة على التمسّك بهما وقال:
«إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً» «(1)».
ولكن المؤسف أنّ أهل السنّة والجماعة لم يعتمدوا في تفسير كتاب اللَّه العزيز على أقوال أئمّة أهل البيت وهم قرناء القرآن وأعداله والثقل الآخر من الثقلين، وإنّما استعانوا في تفسيره بأُناس لا يبلغون شأوهم ولا يشقّون غبارهم، نظراء مجاهد بن جبر (المتوفّى عام 104 ه)، وعكرمة البربري (المتوفّى عام 104 ه)، وطاووس بن كيسان اليماني (المتوفّى عام 106 ه) وعطاء بن أبي رباح (المتوفّى عام 114 ه)، ومحمّد بن كعب القرظي (المتوفّى عام 118 ه)، إلى غير ذلك من أُناس لا يبلغون في الوثاقة والمكانة العلمية معشار ما عليه أئمّة أهل البيت-صلوات اللَّه عليهم-...
فالإسلام عقيدة وشريعة، والنجاة عن الضلال- حسب مفاد حديث الثقلين- هو الرجوع إليهما، وأمّا غيرهما فإن رجع إليهما فنعم المطلوب وإلّا فلا قيمة له، أمّا الصحابة والتابعون، فلا يعتد برأيهم إلّاإذا كان مأخوذاً عن كتابه سبحانه أو سنّة نبيّه، وليس حديث أئمّة أهل البيت إلّاإشراقاً خالداً لحديث جدّهم الأكرم وسنّته.
ص:238
صفحه سفيد
ص:239
ص:240
صفحة بيضاء
ص:241
إنّ الحديث عن دور الإنسان في بناء الحضارة البشرية حديث ذو شجون لا يسع المرء وهو يتحدّث عنه إلّاأن يتبيّن بوضوح أثر العمق العقائدي في استقرار هذه الحضارات المتلاحقة والتي تركت- وبلا شكّ- لها بعض الآثار الدالّة عليها، وهذا العامل الداعم لقيام تلك الحضارات يكون وبلا أدنى ريب المفصل الأساسي في هيكلية ذلك البناء الكبير.
ولقد شهدت الحياة البشرية على هذا الكوكب (الأرض) حضارات متعدّدة، لكلّ ميزاتها وخصائصها التي ضبطها التاريخ، وأفصحت عنها الاكتشافات الأثرية.
ومن مشاهير هذه الحضارات: الحضارة الصينية، المصرية، البابلية، اليونانية، الرومانية، الفارسية، وأخيراً الحضارة الغربية القائمة في عصرنا الحاضر، ولكلّ من هذه الحضارات انطباعاتها الخاصة.
وأمّا الحضارة الإسلامية و التي تتوسّط بين الحضارة الأخيرة (الغربية) وما تقدّمها فهي تعدّ بلا شكّ من أكبر الحضارات في تاريخ الإنسان وأكثرها اهتماماً بالعلم والفلسفة والأدب والفنون. وهي الأساس الوطيد الذي قامت عليه حركة
ص:242
النهضة الأوروبية. ولقد وضع عشرات من العلماء موسوعات وكتباً لبيان ما قدّمته الحضارة الإسلامية من خدمات جليلة إلى المجتمع البشري في المجالات المختلفة.
ولا يمكن لأحد القول بأنّ الحضارة الإسلامية حضارة عربية بحتة تفرَّد العرب في إقامة بنيانها وتثبيت أركانها، بقدر ما كانت تمثّل الجهد المتفاعل لجميع الشعوب الإسلامية بقومياتها المختلفة من عرب وفرس وترك وغيرهم من القوميات، الذين ذابوا في الإسلام ونسوا قوميّاتهم ومشخّصاتهم العنصرية والبيئية.
ومن هنا فإنّ أيّ تعبير عن الحضارة التي سادت إبّان تلك الحقبة الزاهرة من حياة البلاد العربية وما يجاورها، فإنّ المراد به الإشارة إلى الحضارة الإسلامية بكلّ أبعادها وأُسس بنيانها، والتي شارك فيها جميع المسلمين، المخلصين لرسالة السماء التي جاء بها نبيّ الرحمة محمّدصلى الله عليه و آله.
إنّ المسلمين الأوائل وبفضل جهدهم المخلص في بناء حياة الأُمم والشعوب، استطاعوا أن يقيموا للإسلام حضارة عظيمة ورائعة مترامية الأطراف كانت متوازية مع خطّ انتشار الدعوة الإسلامية، فلا غرو أن تخفق راياتها في بقاع واسعة من العالم تمتد من حدود الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً.
بلى لقد استطاع المسلمون أن يقيموا حضارة حقيقية ترتكز على أُسس أخلاقية وعقائدية سماوية، ضربت جذورها في أعماق البناء الإنساني واستطاعت أن تجعل منه وكما أراد خالقه له أن يكون خليفته في أرضه.
وإذا كان «ويل دورانت» في كتابه الشهير «قصّة الحضارة» قد أشار إلى أنّ الحضارة تتألّف من عناصر أربعة، وهي:
1- الموارد الاقتصادية.
2- النظم السياسية.
3- التقاليد الخلقية.
ص:243
4- متابعة العلوم والفنون.
وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق؛ لأنّه إذا ما أمن الإنسان من الخوف تحرّرت في نفسه دوافع التضلّع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفكّ الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها «(1)».
فإنّ ما ذكره ذلك العالم الباحث من أُسس الحضارة وأركانها يرجع إلى تفسير الحضارة بالمعنى الجامع الشامل للحضارة الإلهية والماديّة، وأمّا بالنظر إلى الحضارة المرتكزة على الأُسس الدينية فمن أهمّ أركانها توعية الإنسان في ظلال الاعتقاد باللَّه سبحانه واليوم الآخر، حتى يكون هو الدافع إلى العمل والالتزام بالسلوك الأخلاقي والديني، فالحضارة المنقطعة عن التوعية الدينية حضارةصناعية لا إنسانية، وتمدّن مادّي وليس بإلهي.
إنّ مؤسّس الحضارة الإسلامية هو النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله، وقد جاء بسنن وقوانين دفعت البشرية إلى مكارم الأخلاق كما دفعتهم إلى متابعة العلوم والفنون، واستغلال الموارد الطبيعية، وتكوين مجتمع تسود فيه النظم الاجتماعية المستقيمة.
ولا يشكّ في ذلك من قرأ تاريخ الإسلام، وتاريخ النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله، خصوصاً إذا قارن بين حياة البشرية بعد بزوغ شمس الإسلام بما قبلها.
ثمّ إنّ المسلمين شيّدوا أركان الحضارة الإسلامية في ظل الخطوط التي رسمها النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله من خلال القرآن والسنّة، فأصبحت لهم قوّة اقتصادية، ونظم سياسية، وتقاليد دينية وخلقية، وأعطوا العلوم المختلفة جلّ اهتمامهم، فبرز منهم العديد من العلماء المتفوّقين والبارعين في شتّى مناحي العلم، ورفدوا حركة تطوّر الحضارة البشرية بجهودهم المخلصة، والتي تعكسها مؤلّفاتهم القيّمة والتي لا زالت حتّى يومنا هذا مثار إعجاب الجميع، بل إنّهم عمدوا إلى ترجمة كتب العلم المختلفة
ص:244
لدى غيرهم من الأُمم، مثل الفرس واليونانيين وغيرهم، فأغنوا المكتبة الإسلامية بسيل وافر من المؤلّفات القيّمة والمهمة.
لقد شملت الحضارة الإسلامية كلّ ميادين الحياة المختلفة، فلم تلق جلّ جهدها في جانب واحد من جوانب الرقيّ الحضاري دون غيره، بل شمل اهتمامها كلّ جوانب الحياة المختلفة، وتلك حقيقة لا يمكن لأحد الإغضاء عنها، فإذا كانت كلّ حضارة من الحضارات المعروفة قد تميّزت برقيّ في جانب واحد من الجوانب الحياتية، سواء الاقتصادي كان أو العسكري، فإنّ الحضارة الإسلامية تتمتّع بمجموع هذه المميزات؛ فلم تترك ميزة دون أُخرى.
والذي يطيب لنا هنا ذكر مشاركة الشيعة في بناء هذه الحضارة، خصوصاً فيما يتعلّق بالركن الرابع وهو متابعة العلوم والفنون، وأمّا الأركان الثلاثة الباقية فغير مطلوبة لنا في هذا المقام؛ وذلك لأنّ الموارد الاقتصادية شارك فيها المسلمون انطلاقاً من دوافعهم النفسية من خلال الاهتمام بالأُمور التالية:
1- التنمية الزراعية بجوانبها المختلفة.
2- استخراج وصناعة المعادن المختلفة، مثل الذهب والفضة والأحجار الكريمة بأنواعها النفيسة المختلفة.
3- إحداث القنوات المائية وبناء السدود.
4- الاهتمام بتطوير الثروة الحيوانية وتوسيعها.
5-صناعة الألبسة والأقمشة وغيرها.
6-صناعة الورق وكتابة الكتب ونشرها في العالم.
7- إيجاد المواصلات البريّة و البحريّة، وتنظيم حركة الملاحة، ومحاربة قطّاع الطرق واللصوص في البرّ والبحر.
8- العناية الفائقة بالتجارة، وعقد الاتّفاقيات التجارية مع البلدان المجاورة.
ص:245
إلى غير ذلك ممّا يوجب ازدهار الوضع الاقتصادي، فلا يصح إبعاد قوم عن تلك الساحة وتخصيص الازدهار الاقتصادي بطائفة دون أُخرى؛ فإنّ الإنسان حسب الفطرة والدافع الغريزي ينساق إلى ذلك.
وأمّا النظم السياسية؛ فإنّ الدول الإسلامية المختلفة قد ساهمت في إرساء دعائمها وتثبيت أركانها خلال سني حكمها، ولا فرق في ذلك بين دول الشيعة منها كالحمدانيين والبويهيين والفاطميين وغيرهم كالساميين والسلاجقة وغيرهم.
وأمّا التقاليد الخلقية فقد كانت منبثقة منصميم الإسلام، ومأخوذة من الكتاب والسنّة، كما أنّ التقاليد القومية للشعوب المختلفة، والتي لم تكن معارضة لمبادئ الشريعة الإسلامية السمحاء فقد فسح لها الإسلام المجال ولم ينه عنها.
فلأجل ذلك نركّز على الركن الرابع من هذه الأركان الأربعة للحضارة، وهو متابعة العلوم والفنون، فهي الطابع الأساسي للحضارة الإسلامية، وبها تتميّز عمّا تقدّم عليها وما تأخّر، فنأتي بموجز عن دور الشيعة في بناء هذا الركن- أي ازدهار العلوم والفنون- ليظهر أنّهم كانوا في الطليعة، وكان لهم الدور الأساسي في ازدهارها.
ولمّا كانت الحضارة الإسلامية تستمدّ أسباب وجودها من الكتاب والسنّة، فكلّ من قدّم خدمة للقرآن والسنّة لفظاً ومعنى،صورة ومادة، فقد شارك في بناء الحضارة الإسلامية. وإليك هذا البيان تأييداً لما أسلفنا:
إنّ دراسة القرآن بين الأُمّة ونشر مفاهيمه يتوقّف على معرفة العلوم التي تعدّ مفتاحاً له؛ إذ لولا تلك العلوم لكانت الدراسة ممتنعة، ونشرها في ربوع العالم غير ميسور جدّاً. بل لولا هذه العلوم ونضجها لحرم جميع المسلمين حتّى العرب منهم
ص:246
من الاستفادة من القرآن الكريم؛ لأنّ الفتوحات فرضت على المجتمع العربي الاختلاط مع بقية القوميات، وسبَّب ذلك خطراً على بقاء اللغة العربية، وكان العرب عند ظهور الإسلام يعربون كلامهم على النحو الذي كان في القرآن، إلّامن خالطهم من الموالي والمتعرّبين، ولكن اللحن لم يكثر إلّابعد الفتوح وانتشار العرب في الآفاق، فشاع اللحن في قراءة القرآن، فمسّت الحاجة الشديدة إلى ضبط قواعد اللّغة «(1)».
فقام أبو الأسود الدؤلي بوضع قواعد نحوية بأمر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فأبو الأسود إمّا واضع علم النحو أو مدوّنه، وكان من سادات التابعين، وقدصاحب عليّاً وشهد معهصفّين، ثمّ أقام في البصرة.
يقول الشيخ أبو الحسن سلامة الشامي النحوي: إنّ علياً دخل عليه أبو الأسود يوماً. قال: فرأيته مفكّراً، فقلت له: ما لي أراك مفكّراً يا أمير المؤمنين؟
قال: «إنّي سمعت من بعض الناس لحناً، وقد هممت أن أضع كتاباً أجمع فيه كلام العرب».
فقلت: إن فعلت ذلك أحييت أقواماً من الهلاك.
فألقى إليَّصحيفة فيها: «الكلام كلّه اسم وفعل وحرف، فالاسم ما دلّ على المسمّى، والفعل ما دلّ على حركة المسمّى، والحرف ما أنبأ عن معنى وليس باسم ولا فعل». وجعل يزيد على ذلك زيادات.
قال: واستأذنته أن أصنع في النحو ماصنع، فأذن، وأتيته به فزاد فيه ونقص.
وفي رواية: أنّه ألقى إليه الصحيفة وقال له: «انحَ نحو هذه» فلهذا سمّي النحو نحواً «(2)».
ص:247
ومن المعلوم أنّ هذه القواعد لم تكن لتسد الحاجة الملحّة، ولكن أبا الأسود قام بإكمالها وضبطها وبتمييز المنصوب من المرفوع، والاسم من الفعل، بعلامات نسمّيها الإعراب. فالروايات مجمعة على أنّ أبا الأسود (وهو شيعي المذهب توفّي سنة (69 ه) إمّا مدوّن علم النحو أو واضعه، وأضحى ما دوّنه مصدراً لهذا العلم في العصور اللاحقة.
وهناك كلام لابن النديم دونك لفظه، يقول:
قال محمّد بن إسحاق: زعم أكثر العلماء أنّ النحو أُخذ عن أبي الأسود الدؤلي، وأنّ أبا الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
ثمّ نقل عن الطبري وقال: إنّما سمّي النحو نحواً لأنّ أبا الأسود الدؤلي قال لعليّ عليه السلام وقد ألقى عليه شيئاً من أُصول النحو، قال أبو الأسود: واستأذنته أن أصنع نحو ماصنع. فسمّي ذلك نحواً «(1)».
2- وإذا كان أبو الأسود الدؤلي واضعاً للنحو، فالخليل بن أحمد الفراهيدي هو المنقّح له والباسط له. قال أبو بكر محمّد بن الحسن الزبيدي: والخليل بن أحمد، أوحد العصر، وفريد الدهر، وجهبذ الأُمّة، وأُستاذ أهل الفطنة، الذي لم ير نظيره، ولا عرف في الدنيا عديله، وهو الذي بسط النحو ومدّ أطنابه وبيّن علله وفتق معانيه وأوضح الحجاج فيه، حتّى بلغ أقصى حدوده، وانتهى إلى أبعد غايته...
وسيوافيك أنّ الخليل من أصحاب الإمام الصادق ومن شيعته.
ثمّ إنّ علماء الفريقين شاركوا في إنضاج هذا العلم وإيصاله إلى القمّة. وليس للمنصف بخس حق طائفة لمصالح أُخرى، ولكن لمّا كان الهدف هو بيان دور الشيعة في تطوير العلوم وتتبّعها فانّا نذكر من ألّف في علم النحو من قدماء الشيعة فقط، ومنهم:
ص:248
1- عطاء بن أبي الأسود: قال الشيخ الطوسي في باب أصحاب الحسين بن عليّ: ومنهم ابن أبي الأسود الدؤلي.
وقال الحافظ السيوطي في الطبقات: عطاء، أُستاذ الأصمعي وأبو عبيدة «(1)».
2- أبو جعفر محمّد بن الحسن بن أبي سارة الرواسي الكوفي: قال السيوطي:
هو أوّل من وضع من الكوفيين كتاباً في النحو وسمّاه الفيصل، وهو أُستاذ الكسائي والفرّاء «(2)».
قال النجاشي: روى هو وأبوه عن أبي جعفر وأبي عبد اللَّه عليهما السلام وله: كتاب الوقف والابتداء، وكتاب الهمز، وكتاب إعراب القرآن «(3)».
3- حمران بن أعين، أخو زرارة بن أعين: كان نحوياً إماماً فيه، عالماً بالحديث واللغة والقرآن، أخذ النحو والقراءة عن ابن أبي الأسود، وأخذ عنه الفرّاء، وكان قد أخذ الحديث عن الإمام السجّاد والباقر والصادق.
وآل أعين بيت كبير بالكوفة من أجلّ بيوت الشيعة، ولأبي غالب الزراري رسالة في ترجمة آل أعين قال: كان حمران من أكابر مشايخ الشيعة وكان عالماً بالنحو واللغة «(4)».
4- أبو عثمان المازني، بكر بن محمّد: قال النجاشي: كان سيّد أهل العلم بالنحو والعربية واللغة، ومقدّمته بذلك مشهورة، وكان من علماء الإمامية، قد تأدّب على يد إسماعيل بن ميثم «(5)»، له في الأدب: كتاب التصريف، كتاب ما يلحن فيه العامة،
ص:249
التعليق. مات سنة 248 ه «(1)».
5- ابن السكيت، يعقوب بن إسحاق السكيت: كان مقدّماً عند أبي جعفر (الجواد) وأبي الحسن (الهادي) عليهما السلام وكانا يختصّانه. وله عن أبي جعفر عليه السلام رواية ومسائل، وقتله المتوكّل لأجل تشيّعه عام 244 ه، وأمره مشهور. وكان وجيهاً في علم العربية واللغة، ثقة، مصدّقاً، لا يطعن عليه. وله كتب: إصلاح المنطق، كتاب الألفاظ، كتاب ما اتّفق لفظه واختلف معناه، كتاب الأضداد، كتاب المذكّر والمؤنث، كتاب المقصور والممدود، و... «(2)».
وسبب قتله: أنّ المتوكّل سأله يوماً وهو يعلّم ابنيه وقال: يا يعقوب، أيّهما أحبّ إليك، ابناي هذان، أم الحسن والحسين؟ فأجابه: «انّ قنبر خادم علي خير منك ومن ابنيك» فأمر المتوكّل، فسلّوا لسانه من قفاه فمات، وقد خلّف بضعة وعشرين أثراً في النحو واللغة والشعر «(3)».
6- ابن حمدون، أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود بن حمدون: قال فيه النجاشي: الكاتب النديم شيخ أهل اللغة ووجههم. أُستاذ أبي العبّاس «(4)» وكان خصّيصاً بسيّدنا أبي محمّد العسكري وأبي الحسن قبله. له كتب. ثمّ ذكر كتبه «(5)».
7- أبو إسحاق النحوي، ثعلبة بن ميمون: قال عنه النجاشي: كان وجهاً في أصحابنا، قارئاً، فقيهاً، نحويّاً، لغويّاً، راوية، وكان حسن العمل، كثير العبادة
ص:250
والزهد، روى عن الصادق والكاظم «(1)». وبما أنّ الإمام الكاظم توفّي عام مائة وثلاثة وثمانين، فهو من أهل المائة الثانية.
8- قتيبة النحوي الجعفي الكوفي: قال النجاشي: المؤدّب، المقرئ، ثقة عين، روى عن الصادق عليه السلام «(2)».
وذكره السيوطي في بغية الوعاة، ووصفه في تأسيس الشيعة بأنّه إمام أهل النحو واللغة «(3)».
9- إبراهيم بن أبي البلاد: قال النجاشي: كان ثقة، قارئاً، أديباً، روى عن الصادق والكاظم عليهما السلام «(4)».
10- محمّد بن سلمة اليشكري: قال النجاشي: جليل من أصحابنا الكوفيين، عظيم القدر، فقيه، قارئ، لغوي، راوية، خرج إلى البادية ولقى العرب وأخذ عنهم. وأخذ عنه يعقوب بن السكّيت. ثمّ ذكر كتبه «(5)»، وبما أنّه شيخ ابن السكيت فهو من أهل المائة الثانية وأوائل الثالثة.
11- أبو عبد اللَّه النحوي، الحسين بن أحمد بن خالويه: سكن حلب ومات بها، وكان عارفاً بمذهبنا، مع علمه بعلوم العربية، واللغة، والشعر. وله كتب، ومن كتبه: مستحسن القراءات والشواذّ، كتاب في اللغة «(6)».
ووصفه السيوطي في الطبقات: إنّه إمام اللغة والعربية، وغيرهما من العلوم الأدبية، دفن ببغداد سنة 314 ه.
ص:251
12- أبو القاسم التنوخي: قال الشيخ رشيد الدين بن شهر آشوب: إنّه من جملة الشعراء المجاهرين بالشعر في مدح أهل البيت.
وقال ياقوت: كان في النحو وحفظ الأحكام وعلم الهيئة والعروض قدوة، وكان يحفظ من اللغة والنحو شيئاً عظيماً «(1)».
ما ذكرناه نماذج من أئمّة اللغة من الشيعة الإمامية في القرون الأُولى، وأمّا من وليهم من الأئمّة فحدّث عنهم ولا حرج، فإنّ ذكر أسمائهم ونبذٍ من حياتهم يدفعنا إلى تأليف كتاب مفرد، وقد كفانا في ذلك ما كتبه السيد الصدر في هذا المجال، فقد بلغ النهاية، وقد ذكر أئمّة النحو من الشيعة إلى القرن السابع «(2)» فبلغوا (140) إماماً وأُستاذاً ومؤلّفاً في الأدب العربي، ولا سيما النحو، وبينهم شخصيات بارزة كالشريف المرتضى والشريف الرضى وابن الشجريّ الذي يقول في حقّه السيوطي: كان أوحد زمانه، وفرد أوانه في علم العربية ومعرفة اللغة وأشعار العرب، توفّي عام (542 ه).
ونجم الأئمّة الرضي الاسترآبادي، إلى غير ذلك من الشخصيات البارزة.
إنّ أوّل من دوّن الصرف أبو عثمان المازني، وكان قبل ذلك مندرجاً في علم النحو، كما ذكره في كشف الظنون، وشرحه أبو الفتح عثمان بن جنّي المتوفّى في (392 ه) «(3)».
وأبسط كتاب في الصرف، ما كتبه نجم الأئمّة محمّد بن الحسن الاسترآبادي
ص:252
الغروي، وله شرح الشافية في الصرف، كما له شرح الكافية في النحو، وكلا كتابيه جليل الخطر، محمود الأثر، قد جمع فيهما بين الدلائل والمباني.
قال في كشف الظنون: للكافية شروح أعظمها شرح الشيخ رضيّ الدين محمّد ابن الحسن الطوسي الاستر آبادي النحوي. قال السيوطي: لم يؤلّف عليها، بل ولا في غالب كتب النحو مثله جمعاً وتحقيقاً، فتداوله الناس واعتمدوا عليه، وله فيه أبحاث كثيرة ومذاهب ينفرد بها، فرغ من تأليفه سنة (683 ه).
أقول: فرغ من شرح الكافية سنة (686 ه) في النجف الأشرف، كما هو مذكور في آخر الكتاب.
ولنكتف بهذا المقدار عن مساهمة الشيعة مع غيرهم في بناء الأدب العربي، وتجديد قواعده وإرسائها في مجالي النحو والصرف، وفيما ذكرناه غنى وكفاية.
ونريد بعلم اللغة: الاشتغال بألفاظ اللغة من حيث أُصولها، واشتقاقاتها ومعانيها، وهو يعدّ بحقّ من العلوم الإنسانية التي ساهمت بشكل مباشر في إقامةصرح الحضارة الإسلامية، وقد ظهر في ميدان هذا العلم المهم جملة واسعة من علماء الشيعة، خلَّفوا آثاراً مهمة أصبحت زاداً لطلّاب العلم والمعرفة، ومن هؤلاء الأفاضل:
1- أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد البصري الفراهيدي الأزدي: سيد أهل الأدب، وهو أوّل من ضبط اللغة، وأوّل من استخرج علم العروض إلى الوجود، فهو أسبق العرب إلى تدوين اللغة وترتيب ألفاظها على حروف المعجم، فألّف كتابه «العين» الذي جمع فيه ما كان معروفاً في أيّامه من ألفاظ اللغة، وأحكامها، وقواعدها، ورتّب ذلك على حروف الهجاء، لكنّه رتّب الحروف حسب مخارجها
ص:253
من الحلق، فاللسان، فالأسنان، فالشفتين، وبدأ بحرف العين وختمها بحروف العلّة «واي» وسُمِّي الكتاب بأوّل لفظ من ألفاظه «(1)».
وكان الكتاب مخطوطاً عزيز النسخة، لكنّه رأى النور أخيراً وطبع محقّقاً.
والخليل بن أحمد الذي لا يشكّ أحد في تشيّعه من أعلام القرن الثاني الهجري، قال المرزباني: إنّه ولد عام مائة من الهجرة وتوفّي سنة (170) أو (175 ه)، وقال ابن قانع: إنّه توفّي سنة (160 ه) «(2)».
قد ألّف كتاباً في الإمامة، أورده بتمامه محمّد بن جعفر المراغي في كتابه، واستدرك عليه ما لم يذكره وأسماه «الخليلي».
قال النجاشى: محمّد بن جعفر بن محمّد، أبو الفتح الهمداني الوادعي المعروف ب «المراغي» كان يتعاطى الكلام، له: كتاب مختار الأخبار، كتاب الخليلي في الإمامة، وكتاب ذكر المجاز من القرآن «(3)».
قال العلّامة في الخلاصة: كان خليل بن أحمد أفضل الناس في الأدب وقوله حجّة فيه واخترع علم العروض، وفضله أشهر من أن يذكر، وكان إماميّ المذهب «(4)».
وقال ابن داود: الخليل بن أحمد شيخ الناس في علوم الأدب، فضله وزهده أشهر من أن يخفى، كان إماميّ المذهب «(5)».
2- أبان بن تغلب بن رباح الجريري: من أصحاب الباقر والصادق، قال
ص:254
النجاشي: كان قارئاً من وجوه القرّاء، فقيهاً، لغوياً، سمع من العرب، وحكى عنهم «(1)».
وقال ياقوت: ذكره أبو جعفر الطوسي في مصنّفي الإمامية. وقال: هو ثقة جليل القدر عظيم المنزلة، وقال: كان قارئاً، فقيهاً، لُغويّاً، نبيهاً، ثبتاً «(2)».
3- ابن حمدون النديم: شيخ أهل اللغة ووجههم وأُستاذ أبي العباس ثعلب «(3)».
4- أبو بكر محمّد بن الحسن بن دريد الأزدي: الأديب اللغوي،صاحب الجمهرة في اللغة، مات هو وأبو هاشم الجبّائي في يوم واحد، فقال الناس: مات علم اللغة والكلام. وألّف كتاب «جمهرة اللغة» على منوال كتاب «العين» للخليل، واختصره الصاحب بن عباد وسمّاه «جوهرة الجمهرة» «(4)».
5- الصاحب بن عباد: عظيم الشأن، جليل القدر في العلم والأدب، وألّف الصدوق (306- 381 ه) كتاب عيون أخبار الرضا عليه السلام لأجله، ومن كتبه في اللغة:
«المحيط» عشرة مجلدات، قد عرفت تلخيص «الجوهرة»، وأمّا تشيّعه فحدّث عنه ولا حرج.
وكم له من قصائد في مدح أهل البيت نذكر منها:
ألم تعلموا أنّ الوصيّ هو الذي آتى الزكاة وكان في المحراب
ألم تعلموا أنّ الوصيّ هو الذي حكم الغدير له على الأصحاب «(5)»
وهكذا فإنّنا نتوقّف عند هذا الحد من إيراد نماذج من كبار القدماء الذين
ص:255
شاركوا المسلمين في تأسيس العلوم العربية وتطويرها، ومن أراد التفصيل فليطلبه من محالّه «(1)».
كما أسلفنا سابقاً من أنّ الشيعة بمفكّريها كانت هي المبتكرة لعلم النحو بتوجيه من الإمام علي عليه السلام باب علم النبي الأكرمصلى الله عليه و آله؛ فإنّها أيضاً المبتكرة لعلم العروض والمؤسسة لبنيانه الشامخ، وإليك أسماء بعض روّاده ورجاله:
1- الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري: قال ابن خلّكان: هو الذي استنبط علم العروض وأخرجه إلى الوجود، وحصر أقسامه في خمس دوائر يستخرج منها خمسة عشر بحراً «(2)».
2- كافي الكفاة الصاحب بن عباد: الطائر الصيت، له كتاب الإقناع في العروض «(3)».
وقد توالى التأليف بعده إلى عصرنا هذا، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المعاجم حول مصنّفات الشيعة الإمامية.
ومن أبرز ما ألّف في العروض أخيراً أثران:
أحدهما: للسيد الشريف هبة الدين الشهرستاني (1301- 1386 ه) أسماه «رواشح الفيوض في علم العروض» وقد طبع في طهران (1324 ه).
ثانيهما: منظومة رصينة قيّمة قلّما رأى الدهر مثلها للشيخ مصطفى
ص:256
التبريزي (1298- 1338 ه) شرحها العلّامة أبو المجد الشيخ محمّد رضا الأصفهاني (1286- 1362 ه) وأسماها «أداء المفروض في شرح أُرجوزة العروض» وإليك مستهلّها:
الحمد للَّه على إسباغ ما أولى لنا من فضله وأنعما
وخصّنا منه بواف وافر من بحر جوده المديد الزاخر
صلّى على نبيّنا المختار ما عاقب الليل على النهار
وآله معادن الرساله بهم يداوي علل الجهاله
خذها ودع عنك رموز الزامرة كعادة تجلى عليك بارزة
تجمع كلّ ظاهر وخافِ في علمي العروض والقوافي «(1)»
لا نريد من الشعر في المقام الألفاظ المسبوكة، والكلمات المنضَّدة على أحد الأوزان الشعرية، وانّما نريد منه ما يحتوي على المضامين العالية في الحياة، وما يبثّ روح الجهاد في الإنسان، أو الذي يشتمل على حجاج في الدين أو تبليغ للحقّ.
وعلى مثل هذا الشعر بنيت الحضارة الإنسانية، وهو مقياس ثقافة الأُمّة ورقيّها، وله خلود عبر القرون لا تطمسه الدهور والأيّام.
فما نقرأه في الذكر الحكيم من التنديد بالشعراء من قوله تعالى: والشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الغاوون «(2)»
، إنّما يراد بذلك الشعراء المأجورون الذين يتاجرون بالشعر فيقلبون الحقائق، ويصنعون من الظالم مظلوماً، ومن المظلوم ظالماً، ولأجل ذلك
ص:257
قال سبحانه: أَلمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهيمُونَ* وأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ» «(1)».
ومن هنا فإنّا نعني بحديثنا هنا أُولئك الشعراء الذين أوقفوا أشعارهم في خدمة كلمة الحق وإعلاء شأن الدين الحنيف. ولقد ظهرت في سماء الشعر وفي القرون الأُولى للعهد الإسلامي من بين رجالات الشيعة طائفة من الشعراء حظوا برعاية أهل البيت عليهم السلام وتقديرهم.
وإليك أسماء بعض من شعراء الشيعة مع ذكر أبيات من شعرهم الخالد:
1- قيس بن سعد بن عبادة:
سيّد الخزرج، و الصحابي الجليل، كان زعيماً مطاعاً، كريماً ممدوحاً، وكان من شيعة عليّ عليه السلام ومن أشدّ المتحمّسين له، بعثه أميراً على مصر سنة (36 ه)، وهو وأبوه وأهل بيته من الذين لم يبايعوا أبا بكر وقالوا: لا نبايع إلّاعليّاً «(2)».
ومن أشعاره التي أنشدها بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام فيصفّين:
قلتُ لما بغى العدوّ علينا حسبنا ربّنا ونعم الوكيلُ
حسبنا الذي فتح البص - رة بالأمس والحديث الطويلُ
وعليٌّ إمامنا وإمامٌ لسوانا أتى به التنزيلُ
يوم قال النبيّ من كنت مو لاه فهذا مولاه خطبٌ جليلُ
إنّما قاله النبيّ على الأُمّ - ة حتمٌ ما فيه قالٌ وقيلُ
«(3)»
ص:258
2- الكميت بن زيد (60- 126 ه):
شاعر مقدم، عالم بلغات العرب، خبير بأيّامها، و من شعراء مضر. كان معروفاً بالتشيّع لبني هاشم، مشهوراً بذلك، وقد حظي بتقدير أئمّة أهل البيت لإجهاره بالحق، ولجهاده في سبيله، وهاشمياته المقدّرة ب 578 بيتاً خلّدت ذكراه في التاريخ وهي مشتملة على ميمية وبائية ورائية وغيرها.
وإليك أبياتاً من عينيّته:
ويوم الدوح دوح غدير خمٍّ أبان له الولاية لو أُطيعا
ولكن الرجال تبايعوها فلم أر مثلها خطراً مبيعا
إلى أن قال:
أضاعوا أمر قائدهم فضلّوا وأقومهم لدى الحدثان ريعا
تناسوا حقّه وبغوا عليه بلا ترة وكان لهم قريعا
فقل لبني أُميّة حيث حلّوا وإن خفت المهنّد والقطيعا
ولقد طبع ديوان الكميت غير مرّة، وشرحه الأُستاذ محمد شاكر الخيّاط والأُستاذ الرافعي «(1)».
3- السيد الحميري (ت 173 ه):
أبو هاشم إسماعيل بن محمّد الملقّب بالسيّد، الشاعر المعروف، ومن المكثرين المجيدين، ومن الثلاثة الذين عدّوا أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام وهم:
«السيّد» و «بشار» و «أبو العتاهية»، وكان السيّد الحميري متفانياً في حبّ العترة الطاهرة فلم يكن يرى لمناوئيهم حرمة وقدراً، وكان يشدّد النكير عليهم في كلّ
ص:259
موقف ويهجوهم بألسنة حداد في كلّ حول وطول.
ومن قصائده المعروفة عينيّته، وقد شرحها عدة من الأُدباء ومستهلّها:
لأُمّ عمرو باللوى مربَع طامسة أعلامها بلقعُ
تروع عنها الطير وحشيّة والوحشُ من خيفته تفزعُ «(1)»
4- دعبل الخزاعي (المتوفّى 246 ه):
أبو عليّ دعبل بن عليّ الخزاعي، من بيت علم وفضل وأدب، يرجع نسبه إلى بديل بن ورقاء الخزاعي الذي دعا له النبيّصلى الله عليه و آله.
قال النجاشي: أبو علي الشاعر المشهور في أصحابنا،صنّف كتاب طبقات الشعراء، ومن أراد التوغّل في حياته وسيرته فليقرأ النواحي الأربعة من حياته:
1- تهالكه في ولائه لأهل البيت عليهم السلام.
2- نبوغه في الشعر والأدب والتاريخ وتآليفه.
3- روايته للحديث والرواة عنه ومن يروي عنهم.
4- سيرته مع الخلفاء ثمّ ملحه ونوادره ثمّ ولادته ووفاته «(2)».
وإليك مطلع تائيّته المعروفة:
تجاوبن بالأرنان والزفراتِ نوائح عجم اللفظ والنطقات
5- الأمير أبو فراس الحمداني (320- 357 ه):
أبو فراس الحارث بن أبي العلاء، قال عنه الثعالبي: كان فرد دهره، وشمس
ص:260
عصره، أدباً وفضلًا وكرماً ونبلًا ومجداً وبلاغة وبراعة وفروسية وشجاعة، وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة، والسهولة والجزالة، والعذوبة والفخامة، والحلاوة والمتانة «(1)».
وتبعه في إطرائه والثناء عليه ابن عساكر.
من قصائده المعروفة ميميّته التي مستهلّها:
الحقّ مهتضم والدين مخترم وفي ء آل رسول اللَّه مقتسمُ
والناس عندك لا ناس فيحفظهم سوم الرعاة ولا شاءٌ ولا نعمُ
إلى أن قال:
يا للرجال أما للَّه منتصر من الطغاة أما للَّه منتقم
بنو عليّ رعايا في ديارهم والأمر تملكه النسوان والخدمُ
إلى أن قال:
أبلغ لديك بني العباس مالكةً لا يدّعوا ملكها ملّاكها العجمُ
أيّ المفاخر أمست في منازلكم وغيركم آمر فيها ومحتكمُ
أنّى يزيدكم في مفخر علَمٌ وفي الخلاف عليكم يخفق العلمُ
يا باعة الخمر كُفّوا عن مفاخركم لمعشرٍ بَيْعهم يوم الهياج دمُ «(2)»
ويطيب لي في هذا المقام أن أُشير إلى أسماء بعض من أنجبتهم مدرسة أهل البيت عليهم السلام في حلبة الشعر والأدب في القرن الرابع والخامس، من أُناس معدودين في القمّة، يمكن للقارئ الكريم أن يجد الشي ء الكثير عن حياتهم في دواوينهم، أو في كتب الأدب المختلفة:
ص:261
1- ابن الحجّاج البغدادي (المتوفّى 321 ه)صاحب القصيدة المعروفة:
ياصاحب القبّة البيضاء في النجف من زار قبرك واستشفى لديك شُفي
2- الشريف الرضي (359- 406 ه) الغني عن كل تعريف وبيان.
3- الشريف المرتضى (355- 436 ه) وهو كأخيه أشهر من أن يعرّف.
4- مهيار الديلمي (المتوفّى 448 ه) الذي يُعد في الرعيل الأوّل من شعراء القرن الرابع وله غديريات كثيرة منها:
هل بعد مفترق الأظغان مجتمع أم هل زمان بهم قد فات يرتجع
هذا عرض موجز لبعض الشعراء البارزين من الشيعة، وفيه كفاية لمن أراد الإجمال، و أمّا من أراد التوسّع فليرجع إلى الكتب التالية:
1- الأدب في ظلّ التشيّع: للشيخ عبد اللَّه نعمة.
2- تأسيس الشيعة: للسيّد حسن الصدر، الفصل السادس.
3- الغدير: للعلّامة الأميني بأجزائه الأحد عشر.
إنّ القرآن هو المصدر الرئيسي للمسلمين في مجالي العقيدة والشريعة، وهو المعجزة الخالدة للنبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله، وقد قام المسلمون بأروع الخدمات لهذا الكتاب الإلهي على وجه لا تجد له مثيلًا بين أصحاب الشرائع السابقة، حتّى أسّسوا لفهم كتابهم علوماً قد بقي في ظلّها القرآن مفهوماً للأجيال، كما قاموا بتفسيره وتبيين مقاصده بصور شتى، لا يسع المقام ذكرها. فأدّوا واجبهم تجاه كتاب اللَّه العزيز- شكر اللَّه مساعيهم- من غير فرق بين الشيعة والسنّة.
ص:262
إنّ مدرسة الشيعة منذ أن ارتحل النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله إلى يومنا هذا، أنتجت تفاسير على أصعدة مختلفة، وخدمت الذكر الحكيم بصور شتّى، نأتي بوجه موجز، لما ألّف في القرون الإسلامية الاولى.
إنّ أئمّة أهل البيت- بعد الرسول الأكرمصلى الله عليه و آله- هم المفسّرون الحقيقيون للقرآن الكريم، حيث فسّروا القرآن بالعلوم التي نحلهم الرسولصلى الله عليه و آله بأقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم التي لا تشذّ عن قول الرسولصلى الله عليه و آله وفعله وحجته، ومن الظلم الفادح أن نذكر الصحابة والتابعين في عداد المفسّرين ولا نعترف بحقوق أئمّة أهل البيت وهم عديله باتفاق الجميع.
وهذا ما فعله في كتابه محمّد حسين الذهبي، جعل عليّاً- وهو الوصي وباب علم النبيّ صلى الله عليه و آله- في الطبقة الثالثة من حيث نقل الرواية عنه، وجعل تلميذه ابن عباس في الدرجة الأُولى!! «(1)»، ولم يذكر عن بقية الأئمّة شيئاً مع كثرة ما نقل عنهم في مجال التفسير من الروايات الوافرة.
أقول: ما إن ارتحل النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله حتّى عكف المسلمون على دراسة القرآن وتدبره، بيد أنّهم وجدوا أنّ لفيفاً من المسلمين كانوا عاجزين عن فهم بعض ألفاظ القرآن. والقرآن وإن نزل بلغة الحجاز إلّاأ نّه يحوي ألفاظاً غير رائجة فيها، وربّما كانت رائجة بين القبائل الأُخرى، وهذا النوع من الألفاظ ما سمّوه ب «غريب القرآن» وقد سأل ابن الأزرق- رأس الخوارج- ابن عبّاس عن شي ء كثير من غريب القرآن وأجاب عنه مستشهداً بشعر العرب الأقحاح، وقد جمعها السيوطي في إتقانه «(2)».
وبما أنّ تفسير غريب القرآن كان الخطوة الأُولى لتفسيره، فقد ألّف أصحابنا
ص:263
في إبّان التدوين كتباً في ذلك المضمار، نذكر قليلًا من كثير:
1- غريب القرآن، لأبان بن تغلب بن رباح البكري (ت 141 ه) «(1)».
2- غريب القرآن، لمحمّد بن السائب الكلبي، من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام «(2)».
3- غريب القرآن، لأبي روق، عطية بن الحارث الهمداني الكوفي التابعي، قال ابن عقدة: كان ممّن يقول بولاية أهل البيت «(3)».
4- غريب القرآن، لعبد الرحمن بن محمّد الأزدي الكوفي، جمع فيه ما ورد في الكتب الثلاثة المتقدّمة «(4)».
5- غريب القرآن، للشيخ أبي جعفر أحمد بن محمّد الطبري الآملي الوزير الشيعي (ت 313 ه) «(5)».
وقد توالى التأليف حول غريب القرآن في القرون الماضية، فبلغ العشرات، وكان أخيرها- لا آخرها- ما ألّفه السيّد محمّد مهدي الخرسان في جزأين «(6)».
مجازات القرآن:
إذا كان الهدف من هذه الكتب بيان معاني مفردات القرآن وألفاظه، فإنّ في الجانب الآخر منه لون آخر من التفسير يهدف لبيان مقاصده ومعانيه إذا كانت الآية مشتملة على المجاز والكناية والاستعارة. إليك أخي القارئ الكريم نماذج
ص:264
قليلة ممّا أُلّف في ذلك المجال بيد أعلام الشيعة:
1- مجاز القرآن، لشيخ النحاة الفرّاء يحيى بن زياد الكوفي (المتوفّى عام 207 ه)، وقد طبع أخيراً في جزأين «(1)».
2- مجاز القرآن، لمحمّد بن جعفر بن محمّد، أبو الفتح الهمداني. قال النجاشي:
له كتاب «ذكر المجاز من القرآن» «(2)».
3- مجازات القرآن، للشريف الرضي المسمّى بتلخيص البيان في مجازات القرآن، وهو أحسن ما أُلّف في هذا الباب وهو مطبوع.
التفسير بصور متنوّعة:
وهناك لون آخر من التفسير، يعمد فيه المفسّر إلى توضيح قسم من الآيات تجمعهاصلة خاصّة كالمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، وآيات الأحكام، وقصص الأنبياء، وأمثال القرآن، وأقسامه، والآيات الواردة في مغازي النبيّصلى الله عليه و آله، والنازلة في حقّ العترة الطاهرة عليهم السلام إلى غير ذلك من الموضوعات التي لا تعمّ جميع آيات القرآن، بل تختصّ بموضوع واحد.
وكان علماء الشيعة قد شاركوا غيرهم من علماء المسلمين في هذا الجانب الحيوي والمهم، ورفدوا المكتبة الإسلامية بهذه الأنواع من التفاسير، ومن أراد أن يقف عليها فعليه أن يرجع إلى المعاجم، وأخص بالذكر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة.
الشيعة والتفسير الموضوعي:
إنّ نزول القرآن نجوماً، وتوزّع الآيات الراجعة إلى موضوع واحد في سور
ص:265
متعدّدة، يطلب لنفسه نمطاً آخر، غير النمط المعروف بالتفسير الترتيبي؛ فإنّ النمط الثاني يتّجه إلى تفسير القرآن سورة بعد سورة، وآية بعد آية، وأمّا النمط الأوّل فيحاول فيه المفسّر إيراد الآيات الواردة في موضوع خاصّ، في مجال البحث، وتفسير الجميع جملة واحدة وفي محلّ واحد.
فيستمدّ المفسّر من المعاجم المؤلّفة حول القرآن، ومن غيرها، في الوقوف على الآيات الواردة في جانب معيّن، مثلًا في خلق السماء والأرض، أو الإنسان، أو أفعاله وحياته الأخروية، فيفسّر المجموع مرّة واحدة، ويرفع إبهام آية بآية أُخرى، ويخرج بنتيجة واحدة، وهذا النوع من التفسير وإن لم يهتم به القدماء واكتفوا منه بتفسير بعض الموضوعات كآيات الأحكام، والناسخ والمنسوخ، إلّا أنّ المتأخّرين منهم بذلوا جهدهم في طريقه، ولعلّ العلّامة المجلسي (1037- 1110 ه) كان أوّل من فتح هذا الباب على مصراعيه في موسوعته الموسومة ب «بحار الأنوار»، حيث أورد في أوّل كل باب من أبواب كتابه المتخصّصة جملة الآيات الواردة حول موضوع الباب، ثمّ لجأ إلى تفسيرها إجمالًا، ثمّ أورد ما جمعه من الأحاديث التي لهاصلة بالباب.
وقد قام كاتب هذه السطور بتفسير الآيات النازلة حول العقائد والمعارف وخرج منه حتّى الآن سبعة أجزاء وانتشر باسم «مفاهيم القرآن» نسأل اللَّه تعالى التوفيق لإتمامه.
الشيعة والتفسير الترتيبي:
قد تعرّفت على أنّ المنهج الراسخ بين القدماء وأكثر المتأخّرين هو التفسير الترتيبي، وقد قام فضلاء الشيعة منصحابة الإمام علي والتابعين له إلى العصر الحاضر بهذا النمط من التفسير، إمّا بتفسير جميع سوره، أو بعضها، والغالب على التفاسير المعروفة في القرون الثلاثة الأُولى، هو التفسير بالأثر، ولكن انقلب النمط
ص:266
إلى التفسير العلمي والتحليلي من أواخر القرن الرابع. فأوّل من ألّف من الشيعة على هذا المنهاج هو الشريف الرضي (359- 406 ه) مؤلّف كتاب «حقائق التأويل» في عشرين جزءاً «(1)»، ثمّ جاء بعده أخوه الشريف المرتضي فسلك مسلكه في أماليه المعروفة ب «الدرر والغرر»، ثمّ توالى التأليف على هذا المنهاج من عصر الشيخ الأكبر الطوسي (385- 460 ه) مؤلّف «التبيان في تفسير القرآن» في عشرة أجزاء كبار، إلى عصرنا هذا.
فقد قامت الشيعة في كلّ قرن بتأليف عشرات التفاسير وفق أساليب متنوّعة، ولغات متعدّدة. لا يحصيها إلّاالمتوغّل في المعاجم وبطون المكتبات.
ولقد فهرسنا على وجه موجز أسماء مشاهير المفسّرين من الشيعة وأعلامهم في 14 قرناً، وفصّلنا كلّ قرن عن القرن الآخر، واكتفينا بالمعروفين منهم؛ لأنّ ذكر غيرهم عسير ومحوج إلى تأليف حافل. فبلغ عددهم (122) مفسّراً. ومن أراد الإلمام بذلك فعليه الرجوع إلى المقدّمة التي قدّمناها لتفسير التبيان للشيخ الطوسي، ولأجل ذلك نطوي الكلام في المقام.
إنّ السنّة هي المصدر الثاني للثقافة الإسلامية بجميع مجالاتها، ولم يكن شي ء أوجب بعد كتابة القرآن وتدوينه وصيانته من نقص أو زيادة، من كتابة حديث الرسولصلى الله عليه و آله وتدوينه وصيانته من الدسّ والدجل، وقد أمر به الرسول الأكرمصلى الله عليه و آله غير مرّة، فقد روى الإمام أحمد عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّه قال للنبيّصلى الله عليه و آله: يا رسول اللَّه أكتب كلّ ما أسمع منك؟ قال: «نعم». قلت: في الرضا
ص:267
والسخط؟ قال صلى الله عليه و آله: «نعم، فإنّه لا ينبغي لي أن أقول في ذلك إلّاحقّاً» «(1)».
إنّ اللَّه سبحانه أمر بكتابة الدَّين حفظاً له، واحتياطاً عليه، وإشفاقاً من دخول الريب فيه، فالعلم الذي حفظه أصعب من حفظ الدَّين أحرى بأن يكتب ويحفظ من دخول الريب والشكّ فيه «(2)».
فإذا كان النبيّصلى الله عليه و آله لا ينطق عن الهوى وإنّما ينطق عن الوحي الذي يوحى إليه «(3)» فيجب حفظ أقواله وأفعاله أُسوة بكتاب اللَّه المجيد، حتّى لا يبقى المسلم في حيرة من أمره، ويستغني عن المقاييس الظنّية والاستنباطات الذوقية.
وبالرغم من وضوح الأمر و أهميته القصوى إلّاأنّ الخلافة الإسلامية باجتهاداتها حالت دون ذلك، بل وحاسبت عليه حتّى أنّ الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب قال لأبي ذر وعبد اللَّه بن مسعود وأبي الدرداء: «ما هذا الحديث الذي تفشون عن محمّد؟» «(4)».
ولقد أضحى عمل الخليفة سنّة فاتّبعه عثمان ومشى على خطاه معاوية، فأصبح ترك كتابة الحديث سنّة إسلامية، وعدّت الكتابة شيئاً منكراً مخالفاً لها.
إنّ الرزيّة الكبرى هي المنع عن التحدّث بحديث رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وكتابته وتدوينه، وفسح المجال في نفس الوقت للرهبان والأحبار للتحدّث بما عندهم منصحيح وباطل، ولقد أذن عمر لتميم الداري النصراني الذي استسلم في عام تسعة من الهجرة أن يقصّ «(5)».
ص:268
ولما تسنّم عمر بن عبد العزيز منصب الخلافة، أدرك ضرورة تدوين الحديث، فكتب إلى أبي بكر بن حزم في المدينة، أن يقوم بتدوين الحديث قائلًا: إنّ العلم لا يهلك حتّى يكون سرّاً «(1)».
ومع ذلك فلم يقدر ابن حزم على القيام بما أمر به الخليفة؛ لأنّ رواسب الحظر السابق المؤكّد من قبل الخلفاء حالت دون أُمنيته، إلى أن زالت دولة الأُمويين وجاءت دولة العبّاسيين، فقام المسلمون بتدوين الحديث في عصر أبي جعفر المنصور سنة (143 ه)، وأنت تعلم أخي القارئ الكريم أنّ الخسارة التي لحقت بالتراث الإسلامي من منع تدوين السنّة لا تجبر بتدوينه بعد مضي قرن ونيّف، وبعد موت الصحابة وكثير من التابعين الذين رأوا النور المحمدي وسمعوا منه الحديث، ولم يحدّثوا بما سمّعوه إلّاسرّاً ومن ظهر القلب إلى مثله.
أضف إلى ذلك أنّ الأحبار والرهبان والمأجورين للبلاط الأُموي نشروا كلّ كذب وافتراء بين المسلمين.
اهتمام الشيعة بتدوين الحديث:
قام الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام بتأليف عدّة كتب في زمان النبيّ صلى الله عليه و آله، فقد أملى رسول اللَّه كثيراً من الأحكام عليه وكتبها الإمام واشتهر بكتاب علي، وقد روى عنه البخاري فيصحيحه في باب «كتابة الحديث» «(2)» وباب «أثم من تبرّأ من مواليه» «(3)» وتبعه عليه السلام ثلّة من الصحابة الذين كانوا شيعة له، وإليك أسماء من اهتمّ
ص:269
بتدوين الآثار وما لهصلة بالدين، وإن لم يكن حديث الرسول.
1- قام أبو رافع صحابي الرسول صلى الله عليه و آله بتدوين كتاب السنن والأحكام والقضايا «(1)».
2- وقام الصحابي الكبير سلمان الفارسي: (ت 34 ه) بتأليف كتاب حديث الجاثليق الرومي الذي بعثه ملك الروم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و آله.
قال الشيخ الطوسي: روى سلمان حديث الجاثليق الذي بعثه ملك الروم بعد النبيّصلى الله عليه و آله «(2)».
3- وألّف الصحابي الورع أبو ذر الغفاري المتوفّى سنة 32 ه كتاب الخطبة التي يشرح فيها الأُمور بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «(3)».
هذا ما يرجع إلى الصحابة من الشيعة، وأمّا الشيعة من غير الصحابة- أعني:
التابعين وتابعي التابعين منهم- فقد قام عدد منهم بتدوين السنّة إلى عصر الغيبة الكبرى، وقد تكفّلت بذكرهم و ذكر تآليفهم معاجم الرجال قديماً وحديثاً، وإليك عرضاً موجزاً من محدّثي الشيعة ومؤلّفيهم في القرن الأوّل وبداية القرن الثاني.
1- الأصبغ بن نباتة المجاشعي، كان من خاصّة أمير المؤمنين عليه السلام روى عنه عليه السلام عهد الأشتر، ووصيته إلى ابنه محمّد «(4)».
2- عبيد اللَّه بن أبي رافع المدني، مولى النبيّ صلى الله عليه و آله، كان كاتب أمير المؤمنين عليه السلام له
ص:270
كتاب قضايا أمير المؤمنين عليه السلام وتسمية من شهد مع أمير المؤمنين الجمل وصفّين والنهروان «(1)».
3- ربيعة بن سميع، له كتاب في زكاة النعم عن أمير المؤمنين عليه السلام «(2)».
4- سليم بن قيس الهلالي، أبوصادق، له كتاب مطبوع باسم: سليم بن قيس.
5- عليّ بن أبي رافع، قال النجاشي عنه: تابعيّ من خيار الشيعة، كانت لهصحبة مع أمير المؤمنين عليه السلام، وكان كاتباً له، وحفظ كثيراً، وجمع كتاباً في فنون من الفقه: الوضوء، والصلاة، وسائر الأبواب «(3)».
6- عبيد اللَّه بن الحرّ الجعفي، الفارس، الفاتك، الشاعر، له نسخة يرويها عن أمير المؤمنين عليه السلام «(4)».
7- زيد بن وهب الجهني، له كتاب خطب أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر في الجمع والأعياد وغيرها «(5)».
1- الإمام السجّاد زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام، له الصحيفة الكاملة، المشتهرة بزبور آل محمّد عليهم السلام.
2- جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي، أبو عبد اللَّه، (ت 128 ه)، له كتب «(6)».
ص:271
3- لوط بن يحيى بن سعيد، شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة، له كتب كثيرة، أوردها الشيخ في رجاله وعدّه في أصحاب الحسن والصادق عليهما السلام «(1)».
4- جارود بن منذر، الثقة، أورده الشيخ في أصحاب الحسن والباقر والصادق عليهم السلام، له كتب «(2)».
وهم من أصحاب السجّاد والباقر عليهما السلام:
1- برد الإسكاف، من أصحاب السجاد والصادقين عليهم السلام، له كتاب «(3)».
2- ثابت بن دينار، أبو حمزة الثمالي الأزدى، الثقة، (ت 150 ه)، روى عنهم عليهم السلام، له كتاب، وله النوادر والزهد، وله تفسير القرآن «(4)».
3- ثابت بن هرمز الفارسي، أبو المقدّم العجلي، مولاهم الكوفي، روى نسخة عن عليّ بن الحسين عليهم السلام «(5)».
4- بسّام بن عبد اللَّه الصيرفي، مولي بني أسد، أبو عبد اللَّه، روى عن أبي جعفر وأبي عبد اللَّه عليهما السلام، له كتاب «(6)».
5- محمّد بن قيس البجلي، له كتاب قضايا أمير المؤمنين عليه السلام «(7)».
6- حجر بن زائدة الحضرمي، روى عن الباقر والصادق عليهما السلام، له كتاب «(8)».
ص:272
7- زكريا بن عبد اللَّه الفياض، له كتاب «(1)».
8- ثوير بن أبي فاختة «أبو جهم الكوفي»، واسم أبي فاختة: سعيد بن علاقة «(2)».
9- الحسين بن ثور بن أبي فاختة، سعيد بن حمران، له كتاب نوادر «(3)».
10- عبد المؤمن بن القاسم بن قيس الأنصاري، (ت 147 ه)، عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب السجّاد والصادقين عليهما السلام، له كتاب «(4)».
ولقد خصّص أبو عمرو الكشي باباً للمحدّثين المتقدّمين من الشيعة وجعله فيصدر رجاله، وتبعه النجاشي في رجاله فخصّ الطبقة الأُولى بباب، ثمّ أورد أسماء الرواة على حسب الحروف الهجائية.
ولقد أجاد الشيخ الطوسي في التعرّف على طبقات الشيعة بعد رسول اللَّه إلى عصره، فذكر الأئمّة الاثني عشر، وذكر أصحاب كلّ إمام وفق الترتيب الزمني، ثمّ ذكر باباً آخر باسم من لم يرهم ولكن روى عنهم بالواسطة.
وأحسن كتاب أُلّف في هذا المجال هو ما ألّفه أُستاذنا الجليل السيد النحرير المحقّق البروجردي- رحمه اللَّه- الذي أخرج رجال الشيعة في (34) طبقة، من عصر الصحابة إلى زمانه (1292- 1380 ه) فهذا الكتاب يكشف عن سبق الشيعة في نظم الحديث وتدوينه، وأنّهم لم يقيموا لمنع الخلفاء وزناً ولا قيمة.
وبذلك حفظوا نصوص النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله وأهل بيته وقدموها إلى المجتمع الإسلامي، فعلى جميع علماء المسلمين أن يتمسّكوا بهذا الحبل الذي هو أحد الثقلين.
ص:273
هذا عرض موجز لمحدّثي الشيعة من عصر الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى عصر السجّاد والباقر عليهما السلام وأمّا الطبقات الأُخرى فيأتي الكلام في فصل قدماء الشيعة والفقه؛ لأنّهم تجاوزوا التحديث إلى درجة الاجتهاد.
إنّ الفقه الشيعي هو الشجرة الطيّبة الراسخة الجذور، المتّصلة الأُسس بالنبّوة، والتي امتازت بالسعة، والشمولية، والعمق، والدقّة، والقدرة على مسايرة العصور المختلفة، والمستجدّات المتلاحقة من دون أن تتخطّى الحدود المرسومة في الكتاب والسنّة.
إنّ الفقه الإمامي يعتمد في الدرجة الأُولى على القرآن الكريم، ثمّ على السنّة المحمّدية المنقولة عن النبيّصلى الله عليه و آله عن طريق العترة الطاهرة عليهم السلام أو الثقات من أصحابهم والتابعين لهم بإحسان.
وكما يعتمد الفقه الشيعي على الكتاب والسنّة، فإنّه كذلك يتّخذ من العقل مصدراً في المجال الذي له الحقّ في إبداء الرأي، كأبواب الملازمات العقلية، أو قبح التكليف بلا بيان، أو لزوم البراءة اليقينية عند الاشتغال اليقيني.
ولا يكتفي بذلك، بل يستفيد من الإجماع الكاشف عن وجود النص في المسألة أو موافقة الإمام المعصوم مع المجمعين في عصر الحضور.
إنّ الشيعة الإمامية قدّمت في ظلّ هذه الأُسس الأربعة فقهاً يتناسب مع المستجدّات، جامعاً لما تحتاج إليه الأُمّة، ولم يقفل باب الاجتهاد، منذ رحلة النبيّصلى الله عليه و آله إلى يومنا هذا، بل فتح بابه طيلة القرون، فأنتج عبر العصور فقهاء عظاماً، وموسوعات كبيرة، لم يشهد التاريخ لها ولهم مثيلًا، وإليك عرضاً موجزاً لمشاهير فقهائهم مع الإيعاز إلى بعض كتبهم في القرن الثاني والثالث.
ص:274
فقهاء الشيعة في القرن الثاني:
تخرّجت من مدرسة أهل البيت وعلى أيدي أئمة الهدى عليهم السلام عدّة من الفقهاء العظام لا يستهان بعددهم، فبلغوا الذروة في الاجتهاد، كزرارة بن أعين، ومحمّد بن مسلم، وبريد بن معاوية، والفضيل بن يسار، وكلّهم من أفاضل خرّيجي مدرسة أبي جعفر الباقر وولده الصادق عليهما السلام فأجمعت الطائفة على تصديق هؤلاء، وانقادت لهم في الفقه والفقاهة.
ويليهم في الفضل لفيف آخر، هم أحداث خرّيجي مدرسة أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام، أمثال: جميل بن دراج، و عبد اللَّه بن مسكان، وعبد اللَّه بن بكير، وحمّاد بن عثمان، وحمّاد بن عيسى، وأبان بن عثمان.
وهناك ثلّة أُخرى يعدّون من تلاميذ مدرسة الإمام موسى الكاظم وابنه أبي الحسن الرضا عليهما السلام منهم: يونس بن عبد الرحمن، ومحمّد بن أبي عمير، وعبد اللَّه بن المغيرة، والحسن بن محبوب، والحسين بن عليّ بن فضال، وفضالة بن أيّوب «(1)».
وأكثر هؤلاء من فقهاء القرن الثاني وأوائل القرن الثالث.
هؤلاء أعلام الشيعة في الفقه والحديث في القرن الثاني، وكلّهم خرّيجو مدرسة أهل البيت عليهم السلام ولقد خلّفوا آثاراً علمية باسم الأصل، والكتاب، والنوادر، والجامع، والمسائل، وعناوين أُخرى.
أصحاب الجوامع الفقهية في القرن الثالث:
لقد تخرّج من مدرسة أهل البيت عليهم السلام جملة كبيرة من أعاظم الفقهاء؛ أوقفوا علمهم في خدمة هذا الدين الحنيف؛ فشمّروا عن سواعدهم، وسخّروا أنفسهم قدر ما مكَّنهم اللَّه تعالى عليه، فخلَّفوا جوامع فقهيّة مهمّة كانت ولا زالت خير زاد
ص:275
للمسلمين، ومن هؤلاء الأعلام:
1- يونس بن عبد الرحمن، الّذي وصفه ابن النديم في فهرسته بعلّامة زمانه، له جوامع الآثار، والجامع الكبير، وكتاب الشرائع.
2-صفوان بن يحيى البجلي، الذي كان أوثق أهل زمانه،صنّف ثلاثين كتاباً.
3 و 4- الحسن والحسين ابنا سعيد بن حمّاد الأهوازي،صنّفا ثلاثين كتاباً.
5- أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، (ت 274 ه)،صاحب كتاب المحاسن وغيره.
6- محمّد بن أحمد بن يحيى الأشعري القمّي، (ت 293 ه)،صاحب نوادر الحكمة وكتاب الجامع المعروف.
7- أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي، (ت 221 ه)،صاحب الجامع المعروف.
فقهاء الشيعة في القرن الرابع:
هؤلاء هم فقهاء الشيعة في القرن الثالث وتليهم عدّة أُخرى في القرن الرابع نذكر أسماءهم على وجه الإجمال:
1- الحسن بن علي بن أبي عقيل، شيخ الشيعة وفقيهها،صاحب كتاب المتمسّك بحبل آل الرسول، المعاصر للكليني.
2- عليّ بن الحسين بن بابويه، (ت 329 ه)،صاحب كتاب الشرائع.
3- محمّد بن الحسن بن الوليد القمي، شيخ القميين وفقيههم ومتقدّمهم، مات سنة 343 ه، ولقد بلغ في الوثاقة والدقة على حد يسكن إليه الشيخ الصدوق في تصحيحاته وتضعيفاته.
4- جعفر بن محمّد بن قولويه، أُستاذ الشيخ الصدوق، و مؤلّف كامل الزيارات، يقول النجاشي عنه: إنّه من ثقات أصحابنا وأجلّائهم في الفقه والحديث.
ص:276
5- محمّد بن عليّ بن الحسين الصدوق (306- 381 ه) مؤلّف من لا يحضره الفقيه والمقنع والهداية.
6- محمّد بن أحمد بن الجنيد المعروف بالإسكافي، (ت 385 ه).
قال عنه النجاشي: وجه في أصحابنا، ثقة جليل القدر،صنّف فأكثر، ثمّ ذكر فهرس كتبه، ومنها كتاب تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة، وكتاب الأحمدي للفقه المحمّدي.
وفي القرن الخامس نبغ فقهاء كبار، ازدان الفقه الشيعي بل الإسلامي بأسمائهم وآرائهم، ومنهم: الشيخ المفيد (336- 413 ه) والسيّد المرتضى (355- 436 ه) والشيخ الكراجكي (ت 449 ه) والشيخ الطوسي (385- 460 ه) وسلار الديلمي مؤلّف المراسم (ت 463 ه)، وابن البرّاج (401- 489 ه) مؤلّف المهذّب، وغيرهم من الذين ملأت أسماؤهم كتب التراجم والرجال.
ومن أراد الوقوف على حياتهم وكتبهم فعليه الرجوع إلى الموسوعات الرجالية، وأخص بالذكر كتاب الذريعة إلى تصانيف الشيعة.
هذا عرض موجز لمشاركة الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية على المستوى الفقهي. ويشهد اللَّه أنّ علماء الشيعة قاموا بهذه الجهود في ظروف قاسية ورهيبة، وكانت الحكومات الظالمة ومرتزقتها لا ينفكّون عن مطاردتهم وإيداعهم في السجون وعرضهم على السيف، ومع ذلك نرى هذا الإنتاج العلمي الهائل في مجال الفقه. والذي لو تأمل فيه علماء المسلمين بفرقهم المختلفة، وتجنّبوا أهواء التعصب، لأقرُّوا بلا ريب بما فيه من سعة الفكر، وعمق النظر، وغزارة الانتاج.
هذا هو الشيخ الطوسي الذي ألّف المبسوط في الفقه المقارن (في 8 أجزاء) في زمن كانت الفتن الطائفية على أوجها، والشيعة هم الضحية في هذه المخاضات
ص:277
العسرة، والتي امتدت ألسنتها نحو الشيخ الطوسي نفسه، فأُحرقت داره، ومكتبته في كرخ بغداد، فالتجأ سرّاً إلى النجف الأشرف، تاركاً بلده الذي عاش فيه قرابة نصف قرن، وأين هؤلاء من الفقهاء الذين تنعّموا بالهدوء والاستقرار، واستقبلتهم السلطات الحاكمة بصدر رحب، وأُجيزوا مقابل أبيات معدودة من الشعر الرخيص، أو كتيب أو رسالةصغيرة بالهبات والعطايا.
إنّ السنّة النبوية بعد القرآن الكريم هي المصدر للتشريع، وقد سبق أنّ الخلافة- بعد رحلة الرسولصلى الله عليه و آله- حالت دون تحديث ما تركه بين الأُمّة، وكتابته وتدوينه. فلم تدوّن السنّة إلى عصر أبي جعفر المنصور، إلّاصحائف غير منظّمة ولا مرتّبة، إلى أن شرع علماء الإسلام في التدوين سنة (53 ه) «(1)».
إنّ الحيلولة بين السنّة وتدوينها ونشرها أدّت إلى نتائج سلبية عظيمة، منها قصور ما وصل إلى الفقهاء في ذلك العصرصحيحاً من الرسول صلى الله عليه و آله عن تلبية متطلّباتهم في مجال الأحكام، حتّى اشتهر عن إمام الحنفية أنّه لم يثبت عنده من أحاديث الرسولصلى الله عليه و آله في مجال التشريع إلّاسبعة عشر حديثاً.
ونحن وإن كنّا لا نتوافق مع ما حُكي عن النعمان، ولكن نؤكّد على شي ء آخر، وهو أنّ ما ورد في مجموع الصحاح والمسانيد والسنن الأعم من الصحيح والضعيف في مجال الأحكام الشرعية لا يتجاوز 500 حديث.
قال السيّد محمّد رشيد رضا: إنّ أحاديث الأحكام الأُصول لا تتجاوز 500 حديث تمدّها «(2)» أربعة آلاف موقوفات و مراسيل.
ص:278
ويقول أيضاً في تفسيره: يقولون إنّ مصدر القوانين الأُمّة، ونحن نقول بذلك في غير المنصوص في الكتاب والسنّة. كما قرّره الإمام الرازي والمنصوص قليل جدّاً «(1)».
وما ذكره من قضية الإمداد، يوحي إلى الموقوفات عن الصحابة، من دون أن يثبتصدورها عن النبيّصلى الله عليه و آله فهذه الموقوفات تعرب عن اجتهادات الصحابة في المسألة. ومن المعلوم أنّ قول الصحابي لا يكون حجّة إلّاإذا نسبه إلى الرسولصلى الله عليه و آله.
هذا وإنّ الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 ه) جمع كلّ ما ورد في مجال التشريع في كتاب أسماه بلوغ المرام من أدلّة الأحكام «(2)» وهو كتابصغير جدّاً.
إنّ افتقاد النصّ في مجال التشريع الذي واجه فقهاء أهل السنّة بعد رحلة الرسول صلى الله عليه و آله، هو الذي دعاهم إلى التفحّص عن الحلّ لهذه الأزمة حتّى تسدّ حاجاتهم الفقهية، فعكفوا على المقاييس الظنّية التي ما أنزل اللَّه بها من سلطان، كالقياس، و الاستقراء، والاستحسان، وسدّ الذرائع، وسنّة الخلفاء، أو سنّة الصحابة، أو رأي أهل المدينة، إلى غير ذلك من القواعد، أسّسوا عليها فقههم عبر قرون متمادية، وقد جاء ذلك نواة لتأسيس علم أُصول الفقه بصورة مختصرة نمت ونضجت في الأجيال.
وأمّا الشيعة فحيث إنّهم لم يفتقدوا سنّة الرسول بعد وفاته لوجود باب علم النبيّصلى الله عليه و آله؛ علي عليه السلام والأئمّة المعصومين بين ظهرانيهم، فلم تكن هناك أيّة حاجة للعمل بتلك المقاييس، وبالتالي لم يكن هناك أيّ دافع للاتّجاه نحو أُصول الفقه.
نعم لمّا كان الإسلام ديناً عالمياً، والنبيّصلى الله عليه و آله خاتم الأنبياء، والأُصول والسنن
ص:279
مهما كثرت لا يمكن أن تلبّي بحرفيّتها حاجات المسلمين إلى يوم القيامة، انبرى أئمّة أهل البيت إلى إملاء ضوابط وقواعد يرجع إليها الفقيه عند فقدان النص أو إجماله أو تعارضه إلى غير ذلك من الحالات التي يواجه بها الفقيه. وتلك الأُصول هي التي تكون أساساً لعلم أُصول الفقه، ولقد جمعها عدّة من الأعلام في كتاب خاصّ أفضلها «الفصول المهمّة في أُصول الأئمّة» للشيخ المحدّث الحرّ العاملي المتوفّى سنة (1104 ه).
ومن هنا فإنّا يمكننا القول إنّ وجود أئمّة أهل البيت عليهم السلام بين ظهراني الشيعة أغنى هذه الطائفة عن الحاجة الملحّة لتدوين مسائل أُصول الفقه إبّان تلك الفترة الماضية، إلّاأنّ هذا لا يعني أنّه لم ينبرِ لفيف منصحابة الأئمّة لدراسة بعض مسائل الفقه نظير:
1- هشام بن الحكم (ت 199 ه)،صنّف كتاب الألفاظ «(1)».
2- يونس بن عبد الرحمن،صنّف كتاب اختلاف الحديث ومسائله. وهو مبحث تعارض الحديثين «(2)».
3- إسماعيل بن عليّ بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت (237- 311 ه).
قال عنه النجاشي: كان شيخ المتكلّمين من أصحابنا. وذكر مصنّفاته وعدّ منها كتاب الخصوص والعموم «(3)».
وذكره ابن النديم في فهرسته، وعدّ من مصنّفاته كتاب إبطال القياس، وكتاب
ص:280
نقض اجتهاد الرأي على ابن الراوندي «(1)».
4- أبو محمّد الحسن بن موسى النوبختي، من علماء القرن الثالث، له كتاب الخصوص والعموم والخبر الواحد والعمل به «(2)».
5- أبو منصورصرّام النيشابوري، من علماء القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، له إبطال القياس «(3)».
6- محمّد بن أحمد بن داود بن عليّ (ت 368 ه)، قال النجاشي: شيخ هذه الطائفة وعالمها، له كتاب الحديثين المختلفين «(4)».
7- محمّد بن أحمد بن الجنيد المتوفّى سنة (381 ه)، له كتاب كشف التمويه والالتباس في إبطال القياس «(5)».
والطابع السائد على هذه الكتب هو دراسة بعض المسائل الأُصولية، كحجّية خبر الواحد، أو حلّ مشكلة اختلاف الحديثين، أو نقد بعض الأساليب الرائجة في تلك الأجيال في استنباط الأحكام، كالقياس وغيره، ولا يصح عدّها كتباً أُصولية بالمعنى المصطلح.
نعم؛ يمكن عدّها مرحلة أُولى ونواة بالنسبة إلى المرحلة الثانية.
وأمّا المرحلة الثانية فقد امتازت بالسعة والشمول، بإدخال كثير من المسائل الأدبية والكلامية في علم أُصول الفقه، وأوّل من فتح هذا الباب للشيعة على مصراعيه:
1- معلم الأُمّة الشيخ المفيد (336- 413 ه) ألّف رسالة في هذا المضمار
ص:281
وأدرجها تلميذه العلّامة الكراجكي في كتابه كنز الفوائد «(1)».
وألّف بعده تلميذه الجليل علم الهدى المعروف بالسيّد المرتضى كتابه القيّم «الذريعة إلى أُصول الشريعة»، والذي طبع في جزأين، وقد رأيت منه نسخة مخطوطة في مدينة قزوين كتب فيها: إنّ تاريخ فراغ المؤلّف منه عام (400 ه).
2- الشيخ الطوسي: (385- 460 ه) ألّف كتاب عدّة الأُصول والذي يحتلّ مكانة رفيعة في هذا الميدان، حتّى أنّه أُعيد طبعه لمرات متكرّرة.
وهكذا يمكن القول بأنّ هذه الكتب كوّنت اللبنة الأساسية التي توسعت بواسطتها وانتشرت آراء الشيعة في علم الأُصول.
وأمّا في المرحلة الثالثة من مراحل تطوّر علم الأُصول لدى الشيعة فقد شهدت بزوغ جملة واسعة من كبار العلماء توسّعوا بشكل كبير في تثبيت وشرح الأبعاد الأساسية لعلم الأُصول، فكان من نتاج تلك المرحلة:
1- التقريب في أُصول الفقه للشيخ أبي ليلى المعروف بسلّار بن عبد العزيز الديلميصاحب المراسم، توفّي عام (463 ه).
2- غنية النزوع إلى علمي الأُصول والفروع، تأليف أبي المكارم حمزة بن علي المعروف بابن زهرة، المتوفّى عام (585 ه).
3- المصادر، تأليف الشيخ سديد الدين الحمصي، المتوفّى حدود سنة (600 ه).
هذه هي المراحل الثلاث التي مرّ بها علم الأُصول، وقد تلتها مراحل أُخرى إلى أن بلغت في القرن الرابع عشر ذروتها وقمّتها، و أعلى مراحل كمالها، ويتّضح ذلك من ملاحظة ما أُلّف من عصر الأُستاذ الأكبر المحقّق البهبهاني (1118- 1206 ه) إلى يومنا؛ فقد راج التحقيق في المسائل الأُصولية من عصره إلى عصر الشيخ
ص:282
مرتضى الأنصاري (1212- 1281 ه) وعصر تلميذه الشيخ محمّد كاظم الخراساني (1255- 1329 ه) ففي هذه الفترة؛ أي القرون الثلاثة، أُلّفت مئات الكتب والرسائل في ذلك المجال، ولا أُغالي إذا قلت: إنّه لم تبلغ طائفة من الطوائف الإسلامية تلك الدرجة التي وصلت إليها الشيعة في علمي الفقه والأُصول من جانب كثرة الانتاج والاستيعاب ودقّة النظر، شكر اللَّه مساعيهم.
مغازي النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله جزء من تاريخ حياته وسيرته، والرسولصلى الله عليه و آله قدوة وأُسوة، وفعله كقوله حجّة بلا إشكال، وقد وضع بعضهم كتباً في فقه السيرة «(1)» فكان على المسلمين ضبط دقيقها وجليلها، وقد قاموا بذلك لولا أنّ الخلافة حالت دون الأُمنية، ولكن قيّض اللَّه سبحانه، رجالًا في الشيعة في ذلك المجال ضبطوا سيرة الرسولصلى الله عليه و آله ومغازيه، منهم:
1- ابن إسحاق، محمّد بن إسحاق (ت 151 ه) عدّه الشيخ الطوسي في رجاله «(2)» من أصحاب الإمام الصادق. ولأجل انتمائه إلى بيت النبوّة وصفه ابن حجر في التقريب: «بأنّه إمام المغازي،صدوق، يدلّس، ورمي بالتشيّع والقدر» «(3)».
وفي مختصر الذهبي: أنّه كان صدوقاً من بحور العلم.
في تاريخ اليافعي عن شعبة بن الحجّاج أنّه قال: محمّد بن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث «(4)».
ص:283
وعن الشافعي: من أراد أن يتبحَّر في المغازي فهو عيال محمّد بن إسحاق «(1)».
و لمّا كان المترجم شيعياً مجاهراً في ولائه لأهل البيت عمد ابن هشام (ت 212 ه) بتلخيص كتابه على أساس حذف ما لا يلائم نزعته، فحذف أكثر ما لهصلة بفضائل الإمام علي وأهل بيته.
فعلى المسلمين الغياري الباحثين عن الحقيقة التفحّص في مكتبات العالم وفهارسها، حتّى يعثروا على النسخة الأُمّ، وينشروا هذا الكنز الدفين خدمة للدين وإحياءً لسيرة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وكان قد أعلن أحد المستشرقين أنّه قد عثر على الأصل ونشره باسم سيرة ابن إسحاق إلّاأنّه جزء من السيرة لا كلّها.
ومن حسن الحظّ أنّ سيرة ابن إسحاق وإن لم تكن موجودة بصورتها لكنّها موجودة بمادتها، فقد بثّها الطبرسي (470- 548 ه) في أجزاء مجمع البيان، وابن الجوزي (ت 597 ه) في المنتظم، وابن كثير في تاريخه وغيرهم. فيمكن للباحثين، استخراج مادة السيرة متفرّقة عن هذه الكتب، وملخّصها المعروف بالسيرة النبوية لابن هشام.
2- عبيد اللَّه بن أبي رافع، وكان قد سبق ابن إسحاق، وهو من أصحاب الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقد ألّف كتاباً أسماه «تسمية من شهد مع أمير المؤمنين الجمل وصفّين والنهروان من الصحابة» ذكره الشيخ في الفهرست «(2)»، إلّاأنّه أُلّف في مغازي الإمام علي عليه السلام لا في مغازي الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله.
3- جابر الجعفي (ت 128 ه) ألّف كتباً في ذلك المجال: قال النجاشي: جابر:
عربيّ قديم، ثمّ ذكر نسبه وعدّ من كتبه: كتاب الجَمل، وكتابصفّين، وكتاب
ص:284
النهروان، وكتاب مقتل أمير المؤمنين عليه السلام، وكتاب مقتل الحسين عليه السلام «(1)».
4- أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي، هو ممّن ألّف في ذلك المجال أيضاً والذي أخذ عنه أبوعبيدة معمّر بن المثنّى (110- 209 ه) وأبو عبداللَّه بن القاسم ابن سلّام (157- 224 ه) وأكثروا الحكاية عنه في أخبار الشعراء والنسب والأيّام.
له كتاب حسن يجمع المبتدأ والمغازي والوفاة والردّة «(2)». وقد جمع فيه أخبار ابتداء أمر النبي صلى الله عليه و آله من مبعثه ومغازيه ووفاته، وأخبار يوم السقيفة وارتداد بعض القبائل.
5- ومن مشاهير هذا الفن من الشيعة أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي الغامدي، شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة، روى عن جعفر بن محمّد عليهما السلام. وصنّف كتباً: منها كتاب المغازي، كتاب السقيفة، كتاب الردّة، كتاب فتوح الإسلام... «(3)».
6- ومن أعلامه نصر بن مزاحم (212 ه) ألّف كتباً كثيرة في ذلك المجال، لعلّ أهمها كتاب «وقعةصفّين» الشهير «(4)».
7- هشام بن محمّد بن السائب الكلبي (المتوفّى 206 ه) أعلم علماء النسب والسير والآثار، ذكره النجاشي وقال: الناسب، العالم بالأيّام، المشهور بالفضل والعلم، وكان يختصّ بمذهبنا، ثمّ ذكر كتبه «(5)».
هذا عرض موجز لمن شارك المسلمين من قدماء الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية عن طريق تدوين السيرة والمغازي والمقاتل والتاريخ، وأمّا المتأخّرون
ص:285
فسل عنهم ولا حرج، وراجع المعاجم كأعيان الشيعة للسيد الأمين العاملي، والذريعة لشيخنا الطهراني.
اهتمّ علماء الشيعة بعد عصر التابعين بعلم الرجال، وأولوه اهتماماً كبيراً، فبرزت منهم ثلّة كبيرة من سادة هذا العلم، وسنحاول هنا أن نذكر أوائل المؤلّفين منهم:
1- عبد اللَّه بن جبلة الكناني (ت 219 ه).
قال النجاشي: وبيت جبلة مشهور بالكوفة، كان فقيهاً ثقة مشهوراً، له كتب، منها كتاب الرجال... «(1)».
2- عليّ بن الحسن بن فضّال، كان فقيه أصحابنا بالكوفة ووجههم وثقتهم، وعارفهم بالحديث، من أصحاب الإمام الهادي والعسكري، له كتب منها كتاب الرجال «(2)».
3- الحسن بن محبوب السّراد (150- 224 ه) الراوي عن ستّين رجلًا من أصحاب الصادق عليه السلام، له كتاب «المشيخة» وكتاب «معرفة رواة الأخبار» «(3)».
4- أبو عمرو الكشّي، البصير بالأخبار والرجال، تلميذ الشيخ العيّاشي، وكتابه المعروف ب «معرفة الرجال» هو الذي لخّصه الشيخ الطوسي وأسماه ب «اختيار معرفة الرجال» وهو الموجود في الأعصار الأخيرة.
5- الشيخ أبو العبّاس أحمد بن عليّ النجاشي (372- 450 ه) من نقّاد هذا
ص:286
الفن ومن أجلّائه وأعيانه حاز قصب السبق في ميدان علم الرجال، له كتاب فهرس مصنّفي الشيعة المعروف برجال النجاشي.
6- والشيخ الطوسي (385- 460 ه) الغني عن التعريف، عمل كتابين أحدهما الفهرست والآخر الرجال، ويعدّان من أُمّهات الكتب الرجالية.
وتوالى التأليف في علم الرجال كما في قرينه علم الدراية إلى عصرنا هذا، وقد أنهى الشيخ الطهراني، المؤلّفين من الشيعة في علم الرجال فبلغوا قرابة خمسمائة مؤلّف، شكر اللَّه مساعي الجميع.
هذا عرض موجز لمشاركة علماء الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية عن طريق تأسيس العلوم وإكمالها وتطويرها، وأنت إذا وقفت على جهودهم الجبّارة في القرون الأُولى وما بعدها إلى عصرنا الحاضر، تقف على طائفة كبيرة من عمالقة العلم وجهابذة الفضل، كرّسوا حياتهم الثمينة في إرساءصرح الحضارة الإسلامية ورفع قواعدها، فخلّدوا لأنفسهمصحائف بيضاء، ولصالح أُمّتهم حضارة إنسانية، كل ذلك في ظروف قاسية، وسلطات ظالمة شديدة الكلب، وأضغان محتدمة، إلّافي فترات يسيرة.
جاء الإسلام ليحرّر عقل الإنسان وتفكيره من الأغلال المتراكمة الموروثة التي توارثها قهراً من الأجيال الماضية، فهو يخاطب العقل ويدعوه إلى التأمّل والتفكير، ويخاطب القلب والضمير بما حوله من الأدلّة الناطقة، ويكفي في توضيح ذلك أنّ الذكر الحكيم استعمل مادة «العقل» بمختلفصورها (47) مرّة، و «التفكّر» (18) مرّة، و «اللب» (16) مرّة و «التدبّر» (4) مرات و «النُهى» مرتين.
فبذلك نهى عن التقليد وحثّ على التعقّل ببيانات مختلفة.
ص:287
فتارة يدعو الإنسان إلى التأمّل فيما حوله من الكائنات لما فيها من دلائل ناطقة على وجوده سبحانه وصفاته. قال سبحانه: «ءَأنْتُمْ أشَدُ خَلْقَاً أمِ السَّماءُ بَناها* رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها* وأغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها* والأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحاها* أخْرَجَ مِنْها ماءَها ومَرْعاها* وَالجِبالَ أرْساها* متاعاً لَكُمْ ولأنْعامِكُمْ» «(1)».
وأُخرى يدعوه إلى التفكير والاستدلال المنطقي، فقال سبحانه: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَي ءٍ أمْ هُمُ الخالِقُونَ* أمْ خَلَقُوا السَّمواتِ والأرْضَ بَلْ لا يوقِنُونَ «(2)»
فعالج المشاكل العلمية والفلسفية تارة بالدعوة إلى النظر في الكون نظرة ثاقبة فاحصة، وأُخرى بالحثّ على التفكير في المعارف بأُسلوب منطقي وبرهاني، وبذلك أيقظ عقول المسلمين وحثّهم على التأمّل والتدبّر في العلوم المختلفة، دون التقليد الأعمى والتتبّع غير المتبصّر، وجعل لأُولئك المكانة المتميّزة.
غير أنّ المسلمين سوى قليل منهم تنكّبوا عن هذا الطريق، خصوصاً فيما يرجع إلى المعارف العليا، فصاروا بين مشبّه ومعطّل، فالبسطاء منهم بنوا عقائدهم بالجمود على المفردات الواردة في الكتاب والسنّة، وبذلك استغنوا عن أيّ تعقّل وتفكّر، إلى أن بلغت جرأتهم إلى حدّ قال بعضهم في الخالق: اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك «(3)»!!! فهؤلاء هم المجسّمة والمشبّهة، وأمّا غيرهم فاختاروا تعطيل العقول عن التفكّر في اللَّه سبحانه، فقالوا: أُعطينا العقل لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبّية، فمن شَغَل ما أُعطي لإقامة العبودية بإدراك الربوبية فاتته العبودية، ولم يدرك الربوبية «(4)».
ص:288
فالأكثرية الساحقة في القرون الأُولى كانوا بين مشبّه ومعطّل، غير أنّه سبحانه شملت عنايته أُمّة من المسلمين رفضوا التشبيه والتعطيل، وسلكوا طريقاً ثالثاً وقالوا بأنّه يمكن للإنسان التعرّف على ما وراء الطبيعة بما فيها من الجمال والكمال عن طريقين:
1- النظرة الفاحصة إلى عالم الوجود وجمال الطبيعة كما وردت في القرآن الكريم.
2- ترتيب المقاييس المنطقية للوصول إلى الحقائق العليا، وهذا أيضاً هو الخطّ الذي رسمه القرآن الكريم، وسار على هذا الخطّ الأئمّة عليهم السلام من أوّلهم إلى آخرهم.
ترى ذلك في كلام الإمام علي عليه السلام بوضوح، في أحاديثه وخطبه ورسائله، ولا يسعنا هنا أن نستعرض ولو بعضاً ممّا له عليه السلام في هذا المجال، إلّاأنّا نكتفي بحديث واحد.
سأله سائل: هل يقدر ربّك أن يُدخل الدنيا في بيضة من غير أن يُصغّر الدنيا أو يُكبّر البيضة؟ فقال: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى لا يُنسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون» «(1)».
إنّ خطب الإمام علي عليه السلام ورسائله وقصار حكمه كانت هي الحجر الأساس لكلام الشيعة وآرائهم في العقائد والمعارف، ولم يتوقّف نشاط الشيعة في ذلك المجال، بل ونتيجة لتوالي الأئمة عليهم السلام إمام بعد إمام، كان يعني ذلك استمرار عين المنهج السابق الذي ربّى عليه الإمام عليّ عليه السلام شيعته، فواصل الأئمّة من بعده- عليهم وعليه السلام- في حياتهم تربية شيعتهم، فشحذوا عقولهم بالدعوة إلى التدبّر والتفكّر في المعارف، حتّى تربّى في مدرستهم عمالقة الفكر من عصر سيّد
ص:289
الساجدين إلى عصر الإمام العسكري، تجد أسماءهم وتآليفهم وأفكارهم في المعاجم وكتب الرجال، وقد نبغ في عصر أئمّة أهل البيت مفكّرون بارزون أدّوا لعموم المسلمين خدمات لا تنكر، وأشرعوا أبواب المعرفة للباحثين والمفكّرين الذين تلوهم، ومن هؤلاء:
متكلّمو الشيعة في القرن الثاني:
1- زرارة بن أعين: مولى بني عبد اللَّه بن عمرو السمين بن أسعد بن همام بن مرّة بن ذهل بن شيبان، أبو الحسن: شيخ أصحابنا في زمانه، ومتقدّمهم، وكان قارئاً، فقيهاً، متكلّماً، شاعراً، أديباً، قد اجتمعت فيه خصال الفضل والدين،صادقاً فيما يرويه.
قال أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه: رأيت له كتاباً في الاستطاعة والجبر «(1)».
وقال ابن النديم: وزرارة أكبر رجال الشيعة فقهاً وحديثاً ومعرفة بالكلام والتشيّع «(2)». وهو من الشخصيات البارزة للشيعة التي أجمعت الطائفة على تصديقهم، وهو غنيّ عن التعريف والتوصيف.
2- محمّد بن عليّ بن النعمان بن أبي طريفة البجلي: مولى الأحول «أبو جعفر» كوفي،صيرفي يلقب ب «مؤمن الطاق» و «صاحب الطاق»، ويلقّبه المخالفون ب «شيطان الطاق»... وكان دكّانه في طاق المحامل في الكوفة، فيرجع إليه في النقد فيردّ ردّاً فيخرج كما يقول، فيقال «شيطان الطاق».
أمّامنزلته في العلم وحسن الخاطر فأشهر، وقد نسبت إليه أشياء لم تثبت عندنا.
ص:290
وله كتاب «افعل لا تفعل» وهو كتاب حسن كبير، وقد أدخل فيه بعض المتأخّرين أحاديث تدلّ على فسادها، ويذكر تباين أقاويل الصحابة.
وله كتاب «الاحتجاج في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام» وكتاب كلامه على الخوارج، وكتاب مجالسه مع أبي حنيفة والمرجئة... «(1)».
وقال ابن النديم: وكان متكلّماً حاذقاً، وله من الكتب كتاب الإمامة، كتاب المعرفة، كتاب الردّ على المعتزلة في إمامة المفضول، كتاب في أمر طلحة والزبير وعائشة «(2)».
3- هشام بن الحكم: قال ابن النديم: هو من متكلّمي الشيعة الإمامية وبطانتهم، وممّن دعا له الصادق عليه السلام، فقال: «أقول لك ما قال رسول اللَّه لحسّان: لا تزال مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك».
وهو الذي فتق الكلام في الإمامة، وهذّب المذهب، وسهّل طريق الحجاج فيه، وكان حاذقاً بصناعة الكلام حاضر الجواب «(3)».
ويقول الشهرستاني: وهذا هشام بن الحكم،صاحب غور في الأُصول، لا ينبغي أن يغفل عن إلزاماته على المعتزلة؛ فإنّ الرجل وراء ما يلزم به على الخصم، ودون ما يظهره من التشبيه، وذلك أنّه ألزم الغلاة... «(4)».
وقال النجاشي: هشام بن الحكم، أبو محمّد مولى كندة، وكان ينزل بني شيبان بالكوفة، انتقل إلى بغداد سنة (199 ه)، ويقال: إنّه مات في هذه السنة، له كتاب
ص:291
يرويه جماعة. ثم ذكر أسماء كتبه فبلغت ثلاثين كتاباً «(1)».
وأمّا أحمد أمين فيقول عنه: أكبر شخصية شيعية في الكلام، وكان جداً قويّ الحجّة، ناظر المعتزلة وناظروه، ونقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرقّة تدل على حضور بديهيته وقوّة حججه.
إنّ الرجل كان في بداية أمره من تلاميذ أبي الشاكر الديصاني،صاحب النزعة الإلحادية في الإسلام، ثمّ تبع الجهم بنصفوان الجبري المتطرّف المقتول بترمذ عام (128 ه)، ثمّ لحق بالإمام الصادق عليه السلام ودان بمذهب الإمامية، وما تنقل منه من الآراء التي لا توافق أُصول الإمامية، فإنّما هي راجعة إلى العصرين اللّذين كان فيهما على النزعة الإلحادية أو الجهمية، وأمّا بعد ما لحق بالإمام الصادق عليه السلام فقد انطبعت عقليته بمعارف أهل البيت إلى حدّ كبير، حتّىصار أحد المناضلين عن عقائد الشيعة الإمامية «(2)».
4- قيس الماصر: أحد أعلام المتكلّمين، تعلّم الكلام من عليّ بن الحسين عليهما السلام.
روى الكليني: أنّه أتى شاميّ إلى أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام ليناظر أصحابه، فقال عليه السلام ليونس بن يعقوب: أُنظر من ترى بالباب من المتكلّمين... إلى أن قال
ص:292
يونس: فأدخلت زرارة بن أعين وكان يحسن الكلام، وأدخلت الأحول وكان يحسن الكلام، وأدخلت هشام بن الحكم وهو يحسن الكلام، وأدخلت قيس الماصر وكان عندي أحسنهم كلاماً وقد تعلّم الكلام من عليّ بن الحسين عليهما السلام «(1)».
5- عيسى بن روضة حاجب المنصور: قال عنه النجاشي: كان متكلّماً، جيد الكلام، وله كتاب في الإمامة. وقرأت في بعض الكتب: أنّ المنصور لمّا كان بالحيرة، تسمّع على عيسى بن روضة، وكان مولاه، وهو يتكلّم في الإمامة فأُعجب به واستجاد كلامه «(2)».
6- الضحّاك، أبو مالك الحضرمي: كوفي، عربي، أدرك أبا عبد اللَّه عليه السلام وقال قوم من أصحابنا: روى عنه، وقال آخرون: لم يرو عنه، روى عن أبي الحسن، وكان متكلّماً ثقة ثقة في الحديث، وله كتاب في التوحيد رواه عنه عليّ بن الحسن الطاطري «(3)» فالرجل من متكلّمي القرن الثاني.
وقال ابن النديم: من متكلّمي الشيعة، وله مع أبي عليّ الجبّائي مجلس في الإمامة وتثبيتها بحضرة أبي محمّد القاسم بن محمّد الكوفي، وله من الكتب: كتاب الإمامة، نقض الإمامة على أبي عليّ ولم يتمّه «(4)».
7- عليّ بن الحسن بن محمّد الطائي: المعروف ب «الطاطري» كان فقيهاً ثقة في حديثه، له كتب منها: التوحيد، الإمامة، الفطرة، المعرفة، الولاية «(5)» وغيرها.
وعدّه ابن النديم من متكلّمي الإمامية وقال: ومن القدماء الطاطري، وكان
ص:293
شيعياً، وله من الكتب كتاب الإمامة حسن «(1)».
8- الحسن بن عليّ بن يقطين بن موسى، مولى بني هاشم، وقيل مولى بني أسد، كان فقيهاً متكلّماً، روى عن أبي الحسن والرضا عليهما السلام، وله كتاب مسائل أبي الحسن موسى عليه السلام «(2)» وبما أنّ أبا الحسن الأوّل توفّي عام (183 ه)، والثاني توفّي عام (203 ه)، فالرجل من متكلّمي القرن الثاني وأوائل الثالث.
وذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الإمام الرضا عليه السلام «(3)».
9- حديد بن حكيم: أبو علي الأزدي المدائني، ثقة، وجه، متكلّم، روى عن أبي عبداللَّه، وأبي الحسن عليهما السلام و له كتاب يرويه محمّد بن خالد «(4)».
10- فضّال بن الحسن بن فضّال: وهو من متكلّمي عصر الصادق عليه السلام وذكره الطبرسي في احتجاجه ومناظرته مع أبي حنيفة، فلاحظ «(5)».
إنّ ما ذكرناه من أساتذة الكلام كانوا نماذج مصغّرة من تلامذة أهل البيت عليهم السلام وخرّيجي مدرستهم، وقد اكتفينا بذكر هذه الطائفة تجنّباً عن الإطالة والإسهاب، ومن ابتغى الاستزادة فعليه بالمراجع التاريخية وكتب الكلام المختلفة التي حفلت بأسماء الأعلام الباقين، أمثال حمران بن أعين الشيباني، وهشام بن سالم الجواليقي، والسيد الحميري، والكميت الأسدي «(6)».
متكلّمو الشيعة في القرن الثالث:
1- الفضل بن شاذان بن خليل أبو محمّد الأزدي النيشابوري: كان أبوه من
ص:294
أصحاب يونس، وروى عن أبي جعفر الثاني وقيل الرضا عليهما السلام وكان ثقة، أحد أصحابنا الفقهاء، والمتكلّمين، وله جلالة في هذه الطائفة، وهو في قدره أشهر من أن نصفه، وذكر الكنجي أنّهصنّف مائة وثمانين كتاباً.
وذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الإمام الهادي والعسكري. وقد توفّي عام (260 ه) فهو من متكلّمي القرن الثالث. وقد ذكر النجاشي فهرس كتبه فراجع للاستزادة «(1)».
2- حكم بن هشام بن حكم: أبو محمّد، مولى كندة، سكن البصرة، وكان مشهوراً بالكلام، كلّم الناس، وحكي عنه مجالس كثيرة، ذكر بعض أصحابنا أنّه رأى له كتاباً في الإمامة «(2)» وقد توفّي والده عام (200 ه أو 199 ه) فهو من متكلّمي أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث.
3- داود بن أسد بن أعفر: أبو الأحوص البصري- رحمه اللَّه- شيخ جليل، فقيه متكلّم من أصحاب الحديث، ثقة ثقة، وأبوه من شيوخ أصحاب الحديث الثقات، له كتب منها: كتاب في الإمامة على سائر من خالفه من الأُمم، والآخر
ص:295
مجرّد الدلائل والبراهين «(1)».
وذكره الشيخ الطوسي في الفهرست في باب الكنى وقال: إنّه من جملة متكلّمي الإمامية، لقيه الحسن بن موسى النوبختي وأخذ عنه، واجتمع معه في الحائر على ساكنه السلام، وكان ورد للزيارة «(2)»، فبما أنّه من مشايخ الحسن بن موسى النوبختي المعاصر للجبّائي (ت 303 ه) فهو من متكلّمي القرن الثالث.
4- محمّد بن عبد اللَّه بن مملك الاصبهاني: أصله من جرجان، وسكن إصبهان، جليل في أصحابنا، عظيم القدر والمنزلة له كتب منها كتاب الجامع في سائر أبواب الكلام كبير، كتاب المسائل والجوابات في الإمامة، كتاب مواليد الأئمة عليهم السلام، كتاب مجالسه مع أبي على الجبّائي (235- 303 ه) «(3)».
5- ثبيت بن محمّد، أبو محمّد العسكري:صاحب أبي عيسى الوراق (محمّد بن هارون) متكلّم حاذق، من أصحابنا العسكريين، وكان أيضاً له اطّلاع بالحديث والرواية، والفقه، له كتب في الحديث والإمامة وغيرها «(4)».
6- إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل بن هلال المخزومي: أبو محمّد، أحد أصحابنا، ثقة فيما يرويه له كتاب التوحيد، كتاب المعرفة، كتاب الإمامة «(5)».
7- محمّد بن هارون، أبو عيسى الوراق: له كتاب الإمامة، وكتاب السقيفة.
قال ابن حجر: له تصانيف على مذهب المعتزلة، وقال المسعودي له مصنّفات
ص:296
حسان في الإمامة وغيرها، وكانت وفاته سنة (247 ه) «(1)».
8- إبراهيم بن سليمان بن أبي داحة المزني: مولى آل طلحة بن عبيد اللَّه، أبوإسحاق، وكان وجه أصحابنا البصريين في الفقه والكلام والأدب والشعر «(2)».
9- الشكّال: قال ابن النديم:صاحب هشام بن الحكم وخالفه في أشياء إلّافي أصل الإمامة، وله من الكتب: كتاب المعرفة، كتاب في الاستطاعة، كتاب الإمامة، كتاب على من أبى وجوب الإمامة بالنصّ «(3)».
10- الحسين بن اشكيب: ثقة مقدّم، ذكره أبو عمرو في كتاب الرجال في أصحاب أبي الحسن العسكري عليه السلام ووصفه بأنّه عالم متكلّم مؤلّف للكتب له من الكتب: كتاب الردّ على من زعم أنّ النبيّصلى الله عليه و آله كان على دين قومه، والردّ على الزيدية «(4)».
11- عبد الرحمن بن أحمد بن جبرويه، أبو محمّد العسكري: متكلّم من أصحابنا، حسن التصنيف، جيّد الكلام. من كتبه: كتاب الكامل في الإمامة، كتاب حسن «(5)».
12- عليّ بن منصور، أبو الحسن، كوفي سكن بغداد، متكلّم من أصحاب هشام، له كتب، منها كتاب التدبير في التوحيد والإمامة «(6)».
13- عليّ بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم بن يحيى التمّار: أبو الحسن مولى
ص:297
بني أسد، كوفي، سكن البصرة، وكان من وجوه المتكلّمين من أصحابنا، كلّم أبا الهذيل (135- 235 ه) والنظّام (160- 231 ه) له مجالس وكتب منها كتاب الإمامة، كتاب مجالس هشام بن الحكم وكتاب المتعة «(1)».
وقال ابن النديم: أوّل من تكلّم في مذهب الإمامة عليّ بن إسماعيل بن ميثم التمّار، وميثم (جدّه) من أجلّة أصحاب عليّ- رضي اللَّه عنه- ولعليّ من الكتب كتاب الإمامة و كتاب الاستحقاق «(2)».
1- الحسن بن علي بن أبي عقيل: أبو محمّد العماني، الحذّاء، فقيه متكلّم ثقة، له كتب في الفقه والكلام، منها كتاب «المتمسّك بحبل الرسول» «(3)».
2- إسماعيل بن عليّ بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت: كان شيخ المتكلّمين من أصحابنا وغيرهم، له جلالة في الدنيا والدين، يجري مجرى الوزراء في جلالة الكتاب،صنّف كتباً كثيرة، منها: كتاب الاستيفاء في الإمامة، التنبيه في الإمامة.
وقال ابن النديم: أبو سهل، إسماعيل بن عليّ بن نوبخت، من كبار الشيعة، وكان أبو الحسن الناشئ يقول: إنّه أُستاذه، وكان فاضلًا، عالماً، متكلّماً، وله مجالس بحضرة جماعة من المتكلّمين... وذكر فهرس كتبه «(4)».
3- الحسين بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه: (أخو الصدوق) القمي أبو عبد اللَّه، ثقة، روى عن أبيه إجازة، وله كتب منها: كتاب التوحيد ونفي التشبيه، وقد توفّي أخوه عام (381 ه) فهم من أعيان القرن الرابع، وهو وأخوه
ص:298
ولدا بدعوةصاحب الأمر عليه السلام، ترجمه ابن حجر في لسان الميزان «(1)».
4- محمّد بن بشر الحمدوني «أبو الحسين السوسنجردي»: متكلّم جيد الكلام،صحيح الاعتقاد، كان يقول بالوعيد، له كتب، منها: كتاب المقنع في الإمامة، كتاب المنقذ في الإمامة «(2)».
وقال ابن النديم: السوسنجردي من غلمان أبي سهل النوبختي ويكنّى أباالحسن، ويعرف بالحمدوني منسوباً إلى آل حمدون، وله من الكتب كتاب الإنقاذ في الإمامة «(3)».
وقال ابن حجر: كان زاهداً ورعاً متكلّماً، على مذهب الإمامية، وله مصنّفات في نصرة مذهبه «(4)».
5- يحيى أبو محمّد العلوي من بني زبارة: علوي، سيّد، متكلّم، فقيه، من أهل نيشابور. قال الشيخ الطوسي: جليل القدر، عظيم الرئاسة، متكلّم، حاذق، زاهد، ورع، لقيت جماعة ممّن لقوه وقرأوا عليه، له كتاب إبطال القياس، وكتاب في التوحيد «(5)».
6- محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي، أبو جعفر: متكلّم، عظيم القدر حسن العقيدة، قويّ في الكلام، له كتب في الكلام، وقد سمع الحديث، وأخذ عنه ابن بطّة وذكره في فهرسته الذي يذكر فيه من سمع منه فقال: وسمعت من محمّد بن عبد الرحمن بن قبة.
وقال ابن النديم: أبو جعفر بن محمّد بن قبة من متكلّمي الشيعة وحذّاقهم، وله
ص:299
من الكتب: كتاب الإنصاف في الإمامة، كتاب الإمامة «(1)».
وقال العلّامة الحلّي عنه: «وكان حاذقاً شيخ الإمامية في عصره» «(2)».
7- عليّ بن وصيف، أبو الحسن الناشئ: (271- 365 ه) ذكره النجاشي وقال: الشاعر المتكلّم، ذكر شيخنا- رضي اللَّه عنه- أنّ له كتاباً في الإمامة «(3)».
وقال الطوسي: كان شاعراً مجوّداً في أهل البيت عليهم السلام ومتكلّماًبارعاًوله كتب «(4)».
وقال ابن خلّكان: من الشعراء المحبّين، وله في أهل البيت قصائد كثيرة، وكان متكلّماً بارعاً، أخذ علم الكلام عن أبي سهل إسماعيل بن عليّ بن نوبخت المتكلّم، وكان من كبار الشيعة، وله تصانيف كثيرة، وقال ابن كثير: إنّه كان متكلّماً، بارعاً من كبار الشيعة، فهو من متكلّمي القرن الرابع «(5)».
10- الحسن بن موسى، أبو محمد النوبختي: شيخنا المبرز على نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة وبعدها، له على الأوائل كتب كثيرة، منها:
1- كتاب الآ راء والديانات، يقول النجاشي: كتاب كبير حسن يحتوي على علوم كثيرة قرأت هذا الكتاب على شيخنا أبي عبد اللَّه (المفيد)- رحمه اللَّه-.
2- كتاب فرق الشيعة.
3- كتاب الردّ على فرق الشيعة ما خلا الإمامية.
4- كتاب الجامع في الإمامة «(6)».
ص:300
والرجل من أكابر متكلّمي الشيعة، عاصر الجبّائي (ت 303 ه)، والبلخي (ت 319 ه)، وأبا جعفر بن قبة المتوفّى قبل البلخي، فهو من أعيان متكلّمي الشيعة في أواخر القرن الثالث، وأوائل القرن الرابع.
وقال عنه ابن النديم: أبو محمّد الحسن بن موسى بن أُخت أبي سهل بن نوبخت، متكلّم فيلسوف كان يجتمع إليه جماعة من النقلة لكتب الفلسفة، مثل أبي عثمان الدمشقي، وإسحاق وثابت وغيرهم، وكانت المعتزلة تدّعيه، والشيعة تدّعيه ولكنّه إلى حيّز الشيعة ما هو (كذا) لأنّ آل نوبخت معروفون بولاية عليّ وولده عليهم السلام في الظاهر، فلذلك ذكرناه في هذا الموضع... وله مصنّفات ومؤلّفات في الكلام والفلسفة وغيرها. ثمّ ذكر فهرس كتبه ولم يذكر إلّاالقليل من الكثير «(1)».
أقول: إنّ بيت نوبخت من أرفع البيوتات الشيعية نبغ منه فلاسفة كبار، متكلّمون عظام، لا يسعنا هنا الحديث عنهم، فمن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتب المؤلّفة حول هذا البيت.
هؤلاء هم بعض أعلام الشيعة و متكلّموهم في القرون الأربعة من الذين ذادوا عن حياض الإسلام والتشيّع ببيانهم وبنانهم، أتينا بأسمائهم في هذا المقام كنموذج عن رجالات الشيعة الأفذاذ الذين ساهموا مع إخوانهم من المفكّرين المسلمين في بناءصرح الحضارة الإسلامية الخالد، ونختم بحثنا هذا بذكر أكبر فطاحلة الكلام ورجاله الأفذاذ، رجل قلّ أن يسمع الدهر بمثله، ونقصد به شيخ الأُمّة وأُستاذ المتكلّمين شيخنا المفيد (336- 413 ه) الذي نطق بفضله وعلمه وورعه وتقاه لسان كل موافق ومخالف، وإليك نموذجاً ممّا ذكره أصحاب التذكرة وعلماء الرجال في كتبهم على وجه الإيجاز، ونركّز على كلمات أهل السنّة و مع ذكر القليل من كلمات الشيعة في حقّه.
ص:301
1- قال عنه معاصره ابن النديم (ت 388 ه) في الفهرست:
ابن المعلم أبو عبد اللَّه، في عصرنا انتهت رئاسة متكلّمي الشيعة إليه، مقدّم فيصناعة الكلام على مذهب أصحابه، دقيق الفطنة، ماضي الخاطرة، شاهدته فرأيته بارعاً... «(1)».
2- وقال عبد الرحمن بن الجوزي (ت 597 ه):
شيخ الإمامية وعالمها،صنّف على مذهبه، ومن أصحابه المرتضى، كان لابن المعلم مجلس نظر بداره- بدرب رياح- يحضره كافّة العلماء، له منزلة عند أُمراء الأطراف، لميلهم إلى مذهبه «(2)».
3- وقال أبو السعادات عبد اللَّه بن أسعد اليافعي (ت 768 ه):
وفي سنة ثلاث عشرة وأربعمائة توفّي عالم الشيعة وإمام الرافضة،صاحب التصانيف الكثيرة، شيخهم المعروف بالمفيد، وابن المعلّم أيضاً، البارع في الكلام والجدل والفقه، وكان يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية.
قال ابن أبي طي: وكان كثير الصدقات، عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، خشن اللباس، وقال غيره: كان عضد الدولة ربّما زار الشيخ المفيد، وكان شيخاً ربعة نحيفاً أسمر، عاش ستّاً وسبعين سنة، وله أكثر من مائتي مصنّف، وكانت جنازته مشهورة وشيّعه ثمانون ألفاً من الرافضة والشيعة «(3)».
4- ووصفه أبو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي (ت 774 ه) بقوله:
شيخ الإمامية الروافض، والمصنّف لهم، والمحامي عن حوزتهم، وكان يحضر مجلسه خلق كثير من العلماء وسائر الطوائف «(4)».
ص:302
5- وقال الذهبي (ت 748 ه):
عالم الشيعة وإمام الرافضة وصاحب التصانيف الكثيرة، قال ابن أبي طي في تاريخه- تاريخ الإمامية:- هو شيخ مشايخ الطائفة ولسان الإمامية ورئيس الكلام والفقه والجدل، وكان يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة العظيمة في الدولة البويهية «(1)».
6- قال ابن حجر (ت 852 ه) بعد نقل ما ذكره الذهبي:
وكان كثير التعقيب والتخشّع والإكباب على العلم، تخرّج به جماعة، وبرع في المقالة الإمامية حتّى يقال: له على كلّ إمامي منّة، وكان أبوه معلماً بواسط، وما كان المفيد ينام من الليل إلّاهجعة ثمّ يقوم يصلي أو يطالع أو يدرس أو يتلو القرآن «(2)».
7- وقال عنه ابن العماد الحنبلي (ت 1089 ه):
ابن المعلم، عالم الشيعة، إمام الرافضة، وصاحب التصانيف الكثيرة، قال ابن أبي طي في تاريخ الإمامية: هو شيخ مشايخ الطائفة ولسان الإمامية ورئيس الكلام، والفقه، والجدل، وكان يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية «(3)».
هذا جانب ممّا ترجم له أهل السنّة، وأمّا الشيعة فنقتصر على كلام تلميذيه الطوسي والنجاشي توخّياً للاختصار:
1- يقول الشيخ الطوسي (385- 460 ه) في الفهرست:
المفيد يكنّى أباعبداللَّه، المعروف بابن المعلم، من جملة متكلّمي الإمامية،
ص:303
انتهت إليه رئاسة الإمامية في وقته، وكان مقدّماً في العلم، وصناعة الكلام، وكان فقيهاً متقدّماً فيه، حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب، وله قريب من مائتي مصنّف كبار وصغار، وفهرست كتبه معروف، ولد سنة (338 ه)، وتوفّي لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة (413 ه)، وكان يوم وفاته يوماً لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه وكثرة البكاء من المخالف والموافق «(1)».
2- ويقول تلميذه الآخر، النجاشي (372- 450 ه):
شيخنا وأُستاذنا- رضي اللَّه عنه- فضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والوثاقة والعلم. ثمّ ذكر تصانيفه «(2)».
وهكذا وبعد أن أوردنا بعضاً من رجالات الطائفة الذين برعوا في علم الكلام حتّى نهاية القرن الرابع، أودّ أن أُشير إلى بعض أساتذة الفلسفة الذين لمعت أسماؤهم في سماء العالم الإسلامي بعد القرن الرابع الهجري.
1- الشيخ أبو علي بن سينا: إذا كان الشيخ المفيد أكبر متكلّم للشيعة ظهر في العراق، فإنّ الشيخ الرئيس ابن سينا (370- 428 ه) أكبر فيلسوف إسلامي شيعي ظهر في المشرق، وهو من الذين دفعوا عجلة الفكر والعلم إلى الأمام خطوات كثيرة، وقد ذاعصيته شرقاً وغرباً، وكتبت عنه دراسات ضافية من المسلمين والمستشرقين، ونحن في غنى عن إفاضة القول في ترجمة حياته، وآثاره التي خلّفها، والتلاميذ الذين تربّوا في مدرسته، ولكن نشير إلى كتابين من كتبه لما لهما من الشهرة والمكانة:
ص:304
ألف- الشفاء: وهو يشتمل على المنطق والطبيعيات والإلهيات والرياضيات وقد طبع أخيراً في مصر في أجزاء، وبالإمعان فيما ذكره في مبحث النبوّة يعلم منه مذهبه، قال: والاستخلاف بالنص أصوب، فإنّ ذلك لا يؤدّي إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف «(1)».
باء- الإشارات: وهو يشتمل على المنطق والطبيعيات والإلهيات، وهو من أحسن مؤلّفاته، وفيه آراؤه النهائية، وقد وقع موقع العناية لمن بعده، فشرحه الإمام الرازي (543- 606 ه) والمحقّق الطوسي (597- 672 ه) والشرح الثاني كان محور الدراسة في الحوزات العلمية.
2- نصير الدين الطوسي: سلطان المحقّقين وأُستاذ الحكماء والمتكلّمين (597- 672 ه) وهو أشهر من أن يذكر، شارك في جميع العلوم النظرية فأصبح أُستاذاً محقّقاً مؤسّساً، أثنى عليه الموافق والمخالف.
3- الشيخ كمال الدين، ميثم بن عليّ بن ميثم البحراني (636- 699 ه) الفيلسوف المحقّق، والحكيم المدقّق، قدوة المتكلّمين، تظهر جلالة شأنه و سطوع برهانه من الإمعان في شرحه لنهج البلاغة في أربعة أجزاء، وله «قواعد المرام في الكلام» وكلاهما مطبوعان.
4- العلّامة الحلّي: شيخ الشيعة جمال الدين المعروف بالعلّامة الحلّي (648- 726 ه) له الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد، وكشف المراد في الكلام، وكتبه في المنطق والكلام والفلسفة تنوف على العشرين.
5- قطب الدين الرازي (ت 766 ه) تلميذ العلّامة الحلّي وأُستاذ الشهيد الأوّل، له شرح المطالع في المنطق، والمحاكمات بين العلمين: الرازي ونصير الدين الطوسي.
ص:305
إلى غير ذلك من العقول الكبيرة التي ظهرت في الحوزات الشيعية، كالفاضل المقداد (ت 808 ه) مؤلّف نهج المسترشدين في الكلام، والشيخ بهاء الدين العاملي (953- 1030 ه)، والسيد محمّد باقر المعروف بالداماد (ت 1040 ه)، وتلميذه المعروف بصدر المتألّهين مؤلّف الأسفار الأربعة (971- 1050 ه)، وغيرهم ممّن يتعسّر علينا إحصاء أسمائهم فضلًا عن تحرير تراجمهم.
هذه لمحة عابرة عن مشاركة الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية في مجال العلوم العقلية، والتي اقتصرنا فيها على ذكر ما يتّسع به المجال من بعض المشاهير منهم إلى أواسط القرن الحادي عشر، حيث إنّ هناك العديد من الأسماء الكبيرة واللامعة.
هذا وقد قام المتتبّع المتضلّع الشيخ عبد اللَّه نعمة بتأليف كتاب حول فلاسفة الشيعة ومتكلّميهم أسماه «فلاسفة الشيعة» فسدّ بذلك بعض الفراغ جزاه اللَّه خيراً.
ومن الجانب الآخر يجد المرء أنّ هذا العطاء المقدّس في علوم التفكير والبرهنة لم يزل متواصلًا لدى الشيعة وحتّى عصرنا الحاضر هذا، حيث ظهرت العديد من الشخصيات الفذّة والبارزة، رفدت المكتبة الإسلامية بمؤلّفات غنيّة في الكلام والفلسفة والمنطق، في الوقت الذي عاش فيه كثير من هؤلاء العلماء والمفكّرين في ظروف قاهرة ومصاعب جمّة، لعبت فيها السلطات الجائرة دوراً كبيراً في مطاردة وتصفية الكثير منهم، حتّىصار ذلك سبباً في اختفاء آثارهم وضياعها، بل وتراكم الأساطير حولها.
وبذلك تقف على ضعف وركاكة ما ذكره المستشرق آدم متز في حقّ كلام الشيعة:
«أمّا من حيث العقيدة والمذهب، فإنّ الشيعة هم ورثة المعتزلة، ولابدّ أن يكون قلّة اعتداد المعتزلة بالأخبار المأثورة ممّا لاءم أغراض الشيعة، ولم يكن
ص:306
للشيعة في القرن الرابع مذهب كلامي خاصّ بهم» «(1)».
إنّ الشيعة عن بكرة أبيهم كانوا مقتفين أثر أئمّتهم، ولم يكونوا ورثة للمعتزلة ولا لغيرهم، وإنّما أخذت المعتزلة أُصول مذهبهم عن أئمّة أهل البيت، كما هو واضح للجميع، بل والمعروف كثرة المناظرات بين الشيعة والمعتزلة منذ عصر الإمام الصادق عليه السلام وإلى عصر المفيد وما بعده.
نعم، ما أضعف ما ذهب إليه هذا المستشرق، وفي ذلك دلالة واضحة على سطحيّة الآراء التي يذهب إليها الغرباء في الحكم على عقائد المسلمين، ولسنا نلومه بقدر ما نلوم به إخواننا المسلمين ومفكّريهم الذين يستندون في كثير من مذاهبهم على أقوال هؤلاء وتخرّصاتهم، حتّى أنّ الشيخ المفيد وضع كتباً في نقد المعتزلة، كما وضع قبله بعض أئمّة المتكلّمين من الشيعة ردوداً على المعتزلة، فكيف يكون الشيعة ورثة للمعتزلة؟ نعم إنّ القائل خلط مسألة الاتّفاق في بعض المسائل بالتبعية والاقتفاء، فالشيعة والمعتزلة تتّفقان في بعض الأُصول، لا أنّ أحدهما عيال على الآخر.
لم يكن اتّجاه الشيعة مختصّاً بالعلوم العقلية كالكلام والفلسفة والمنطق فحسب، بل امتدّ نشاطهم وحركتهم الفكرية إلى العلوم الرياضية، والكونية، فتجد هذا النشاط بارزاً في مؤلّفاتهم طيلة القرون الماضية، ونحن نأتي هنا بذكر موجز عن مشاهير علمائهم ومؤلّفاتهم في القرون الأُولى تاركين غيرهم للمعاجم:
1- هشام بن الحكم (ت 199 ه)، له آراء في الأعراض كاللون والطعم
ص:307
والرائحة، وقد أخذ منه إبراهيم بن سيّار النظّام، وحاصل هذا الرأي أنّ الرائحة جزئيات متبخّرة من الأجسام تتأثّر بها الغدد الأنفية، وأنّ الأطعمة جزئياتصغيرة تتأثّر بها الحليمات اللسانية «(1)».
2- إنّ بيت آل نوبخت بيت شيعي عريق، فقد قاموا بترجمة الكثير من كتب العلوم والمعرفة من اللغة الفارسية إلى العربية، كما برع منهم من له باع طويل في كثير من العلوم، ومنها العلوم الكونية.
قال ابن النديم: آل نوبخت معروفون بولاية علي وولده.
وقال الأفندي في رياض العلماء: بنو نوبخت طائفة معروفة من متكلّمي الإمامية منهم:
أ- أبو الفضل بن نوبخت، قال ابن النديم: كان في خزانة الحكمة لهارون الرشيد، وقال ابن القفطي في تاريخ الحكماء: إنّه مذكور مشهور من أئمّة المتكلّمين وذُكر في كتب المتكلّمين. وكان في زمن هارون الرشيد وولّاه القيام بخزانة كتب الحكمة، وهو من متكلّمي أواخر القرن الثاني.
ب- ولده إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت، من متكلّمي القرن الثالث.
ج- يعقوب بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت، متقدّم في الحكمة والكلام والنجوم «(2)».
3- أبو عليّ أحمد بن محمّد بن يعقوب بن مسكويه، من أعيان الشيعة وأعلام فلاسفتهم،صنّف في علوم الأوائل، وله تعليقات في المنطق، ومقالات جليلة في أقسام الحكمة والرياضة «(3)».
ص:308
4- جابر بن حيّان، ويعدّ من أشهر علماء الشيعة وأقدمهم الذين برزوا في علم الكيمياء، وهو أوّل من أشار إلى طبقات العين قبل «يوحنا بن ما سويه» (ت 243 ه) وقبل حنين بن إسحاق (ت 264 ه) وأوّل من أثبت إمكان تحويل المعدن الخسّيس إلى الذهب والفضة، فلم تقف عبقريته في الكيمياء عند هذا الحدّ، بل دفعته إلى ابتكار شي ء جديد في الكيمياء فأدخل فيها ما سمّاه بعلم الميزان، والمقصود منه معادلة ما في الأجسام والطبائع، وجعل لكلّ جسم من الأجسام، موازين خاصّة «(1)» وقد أُلّفت حول جابر وعبقريته كتب كثيرة، فمن أراد فليرجع إليها، وقد اتّفق الكلّ على أنّه تلميذ الإمام الصادق عليه السلام.
5- الشريف أبو القاسم عليّ بن القاسم القصري، وهو من علماء القرن الرابع، ذكره ابن طاووس في فرج المهموم في عداد منجّمي الشيعة «(2)».
وهذه نماذج من علماء الشيعة في الطبيعيات والفلكيات، وأمّا المتأخّرون، فحدّث عنهم ولا حرج، وقد أتى بقسم كبير منهم الشيخ عبد اللَّه نعمة في كتابه «فلاسفة الشيعة» فمن أراد فليرجع إليه، غير أنّا نذكر هنا المحقّق الطوسي الذي له حقّ على الأُمّة جمعاء، والذي تقول في حقّه المستشرقة الألمانية:
«وحصل نصير الدين الطوسي على مرصده، فكان معهداً للأبحاث لا مثيل له، وزوّده بالآلات الفلكية التي زادت في شهرة المعهد، ورفعت مكانته... ويحكى أنّ زائراً قصد ابن الفلكي نصير الدين في مرصده في مراغة، فلمّا رأى الآلات الفلكية المتنوّعة ذُهل، وقد ازداد دهشة حين رأى «المحلقة» ذات الخمس حلقات والدوائر من النحاس: أولاها: تمثل خطّ الطول الذي كان مركّزاً في الأسفل، وثانيتها: خطّ الاستواء، وثالثتها: الخطّ الاهليلجي، ورابعتها: دائرةخطّ الأرض،
ص:309
وخامستها: دائرة الانقلاب الصيفي والشتوي، وشاهد أيضاً دائرة السمت التي يمكن للمرء بواسطتها أن يحدّد سمت النجوم، أي الزاوية الناتجة على خطّ أُفقي ثابت وخطّ أُفقي آخرصادر عن كوكب في السماء.
وتقول أيضاً: إنّ نصير الدين أحضر إلى مكتبة المعهد أربعمائة ألف مجلّد كانت قد سرقت من مكتبات بغداد وسورية وبلاد بابل، وقد استدعى علماء ذوي شهرة طائرة من إسبانيا ودمشق وتفليس والموصل إلى مدينة مراغة لكي يعملوا على وضع الازياج بأسرع وقت ممكن» «(1)».
ويناسب في المقام ذكر إجمالي عمّا قدّموا من الخدمة في مجال الجغرافية وعلم البلدان فنقول:
نذكر في المقام رحّالتين طافا البلاد الإسلامية وكتبا ما يرجع إلى جغرافية البلدان، وقدصار كتاباهما أساساً للآخرين:
1- أحمد بن أبي يعقوب بن واضح، المعروف باليعقوبي، المتوفّى في أواخر القرن الثالث، فهو أوّل جغرافي بين العرب، وصف الممالك معتمداً على ملاحظاته الخاصّة، ومتوخّياً قصد ما أراد من وصف البلد وخصائصها، وهو يقول عن نفسه: إنّه عنى في عنفوان شبابه وحدّة ذهنه بعلم أخبار البلدان ومسافة ما بين كل بلد وبلد، لأنّه سافر حديث السنّ، واتّصلت أسفاره، ودام تغرّبه، وقد طاف في بلاد المملكة الإسلامية كلّها، فنزل أرمينيّة، وورد خراسان، وأقام بمصر والمغرب، بل سافر إلى الهند وكان متى لقى رجلًا سأله عن وطنه ومصره، وعن
ص:310
زرعه ما هو؟ وساكنيه من هم؟ عرب أو عجم؟ وعن شرب أهله ولباسهم ودياناتهم ومقالاتهم، من غير أن يلحقه من ذلك ملال ولا فتور، وقد وصف المملكة الإسلامية مبتدئاً ببغداد وصفاً منظّماً مع إصابة جديرة بالثقة والإعجاب «(1)».
2- أبو الحسن عليّ بن الحسين المسعودي (ت 346 ه) فقد ألّف في ذلك المضمار كتابه «مروج الذهب ومعادن الجوهر» وكتابه الآخر «التاريخ في أخبار الأُمم من العرب والعجم» وكتابه الثالث «التنبيه والأشراف» فقد اشتمل وراء التاريخ على الجغرافية وتقويم البلدان، وقد جرّه حُبّه للاستطلاع إلى السفر إلى بلاد بعيدة، فكتب ما رآه وشاهده.
ص:311
يمثّل الشيعة شريحة كبيرة من المجتمع الإسلامي الكبير المتوزّع في بقاع العالم المختلفة، حيث ساهموا كما أسلفنا مع إخوانهم المسلمين في بناء الحضارة الإسلامية، وإقامةصرح الدين الحنيف، ونشره في أصقاع المعمورة، وسنحاول في بحثنا هذا استعراض وجود الشيعة في بلدان العالم مع ذكر مختصر عن جوامعهم ومعاهدهم ودورهم وأعدادهم، لكي يكون القارئ الكريم على تصوّر واضح عنهم.
ينتشر الشيعة في جميع أنحاء العالم بنسب مختلفة، وربّما تعد بعض البلدان معقل الشيعة ومزدحمها حيث يكون المذهب السائد فيها هو مذهب التشيع، في حين تتفاوت هذه النسبة في بلدان أُخرى. وإليك أسماء بعضها، وهي إيران، والعراق، وسورية، والسعودية، وتركيا، وأفغانستان، والباكستان، والهند، واليمن، ومصر، والإمارات العربية المتّحدة، والبحرين، والكويت، ومسقط، وعمان، والتبت، والصين، وآذربيجان، وطاجيكستان، وباقي الجمهوريات المتحرّرة بانحلال الاتحاد السوفيتي، وماليزيا، وأندونيسيا، وسيلان، وتايلند، وسنغافورة، وشمال أفريقيا، والصومال، والأرجنتين، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وألبانيا، والولايات المتّحدة، وكندا وغيرها من الدول المختلفة التي يضيق المجال بحصرها.
ولا بأس بالإيعاز إلى خصوصيّات بعض البلدان؛ إذ فيه تسليط لبعض الضوء للتعرّف على ماضي التشيّع وما لاقاه أتباعه من العدوان والويلات والمصائب.
ص:312
التشيّع حجازي المحتد والمولد؛ إذ فيه نشأ، وفي تربته غرست شجرته، ثمّ نمت وكبرت، فصارت شجرة طيّبة ذات أغصان متّسقة وثمار يانعة. وفيه حثّ النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله على ولاء الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام وسمّى أولياءه شيعة، وحدّث بحديث الثقلين، وجعل أئمة أهل البيت قرناء الكتاب في العصمة ولزوم الاقتفاء والطاعة، وفيه رَقى النبيّصلى الله عليه و آله المنبر الذيصنعوه من رحال الإبل وأخذ بيد وصيّه ووليّ عهده عليّ المرتضى وحمد اللَّه وأثنى عليه وقال: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» فقالوا: اللّهمّ بلى، ولما أخذ من الجمع المحتشد الإقرار بأولويّته على النفس والنفيس عرَّف عليّاً خليفة بعده وقال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» ونزل من المنبر ثمّ نزلت آيات من الذكر الحكيم تشير إلى هذه البيعة وتؤكّدها، ومن ثمّ تبودلت التهاني والتحيّات بين الإمام والصحابة «(1)».
وقد أشار إلى بعض ما ذُكر مؤلّف خطط الشام وقال: «إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله هو الذي حثّ على ولاء عليّ وأهل بيته عليهم السلام وهو أوّل من سمّى أولياءه بالشيعة، وفي عهده ظهر التشيّع وسمّي جماعة بالشيعة «(2)».
ولما ارتحل النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله إلى دار البقاء تناسى أُولو القوّة والمنعة من الصحابة عهد النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله فحالوا بين النبيّ صلى الله عليه و آله وأُمنيته كما حالوا بين أُمّته وإمامها، فتداولوا كُرة الخلافة بينهم، وأخذوا بمقاليد الحكم واحداً بعد آخر، والإمام منعزل عن الحكم، لا عمل له إلّاهداية الأُمّة وإرشادها بلسانه وبيانه وقلمه وبنانه.
ص:313
ولقد كان الذي دعا عليّاً إلى السكوت والانحياز، هو مشاهدة ظاهرة الردّة الطارئة على المجتمع الإسلامي عن طريق مسيلمة الكذاب، وطليحة بن خويلد الأفّاك، وسجاح بنت الحرث الدجّالة، وأتباعهم الرعاع الذين كانوا على الدين الفتيّ خطراً جدّياً كان من الممكن أن يؤدّي إلى محق الإسلام وسحق المسلمين.
ويحدّث عن هذه الحقيقة الإمام في رسالته التي أرسلها مع مالك الأشتر إلى أهل مصر، حيث يقول فيها: «فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّدصلى الله عليه و آله فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم» «(1)».
رأي الإمام أنّصيانة الإسلام وردّ عادية الأعداء تتوقّفان على المسالمة والموادعة، فألقى حبل الخلافة على غاربها، تقديماً للأهمّ على المهمّ، وتبعته شيعتهصابرين على مضض الحياة ومرّها.
بقي الإمام منعزلًا عن الحكم قرابة ربع قرن إلى أن قتل عثمان في عقر داره، وانثال الناس إلى دار عليّ من كلّ جانب مجتمعين حوله كربيضة الغنم، يطلبون منه القيام بالأمر وأخذ مقاليد الحكم، وفيهم شيعته المخلصون الأوفياء، فلم ير بدّاً من قبول دعوتهم لقيام الحجّة بوجود الناصر «(2)».
ولمّا نكث الناكثون البيعة، وقادوا حبيسة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله «عائشة» معهم إلى البصرة، ارتحل الإمام بأنصاره وشيعته إلى العراق إلّاقليلًا بقوا في الحجاز لقلع مادّة الفساد قبل أن تستفحل، ولمّا قلع عين الفتنة، استوطن الإمام الكوفة، واستوطنها معه شيعته، وصارت الكوفة عاصمة التشيّع، ومعقله، وفيها نما وأينع
ص:314
وأثمر ومنها انحدر إلى سائر البلدان، بعد ما كان الحجاز مهبط التشيّع ومغرسه ومحتده. فكان حجازي المحتد والمغرس، عراقي النشوء والنمو، ولم يكن يوم ذاك يتظلّل في ظلال التشيّع إلّاعربيصميم، من عدنانيّ وقحطانيّ، ولم يكن بينهم فارسيّ ولا بربريّ الأصل ولا شعوبيّ العقيدة يمقت العرب.
وهكذا فإنّا يمكننا القول بأنّ مهد التشيّع الأوّل كان في أرض الحجاز الطيّبة ومنها درج واشتد حتّى تسامق وتطاول وأصبح له وجود في كلّ بقاع المعمورة.
ولا زال الشيعة يعيشون مع إخوانهم المسلمين في مكّة المكرّمة، والمدينة المنوّرة، وحضرموت، ونجران، وغيرها، كما توجد في أنحاء من أرض الحجاز الكثير من القبائل العربية الشيعية أمثال بني جهم، وبنو عليّ، وغيرهم.
وأمّا المنطقة الشرقية كالإحساء والقطيف والدمّام، فأكثر سكّانها من الشيعة.
قد عرفت أنّه لمّا غادر الإمام المدينة المنوّرة متوجّهاً إلى العراق واستوطن الكوفة هاجر كثير من شيعته معه واستوطنوا العراق، فصار ذلك أقوى سبب لنشوء التشيّع ونموّه في العراق، ولا سيما في الكوفة، فصارت معقل الشيعة، ولمّا قضى الإمام نحبه حاولت السلطة الأُموية وعمّالها استئصال التشيّع منها بأبشعصورة مستخدمة في ذلك شتّى الأساليب الإجرامية الرهيبة من دون أيّ وازع من ضمير.
وبالرغم من أنّ العراق وأخصّ منه الكوفة كان علوي النزعة هاشمي الولاء، إلّا أنّ الحسين ابن الإمام عليّ عليهما السلام قتل بسيف الكوفيين، وسقط عطشان وحوله أجساد أبنائه وأبناء أخيه وأصحابه، إلّا أنّ ذلك لا يدلّ على انسلاخهم عن التشيّع؛ لأنّ الشيعة يوم ذاك كانوا بين مسجون في زنزانات الأُمويين، أو مرعوب
ص:315
متخاذل فاقد للتصميم والحمية، أو منتظر لما تؤول إليه الأُمور، أو ناصر التحق بالحسين في أحلك الظروف. هؤلاء هم الشيعة.
وأمّا الذين شاركوا في قتل الحسين فلم يكونوا من الشيعة أبداً، بل كانوا أتباع الأُمويين والمنضوين تحت راياتهم. فلما قتل الحسين أثار قتله شجون الشيعة، وبقوا يتحيّنون الفرص للانقضاض على الحكم الأُموي الفاسد وأتباعه، حتّى تهيّأت الفرصة عند خروج المختار من سجنه، فالتفوا حوله في ثورة كبيرة اقتلعت جذور الامويين واقتصّت من أعوانهم قتلة الحسين وأهل بيته وأصحابه.
وقد حاول الأُمويون جعل العراق أُموياً، وبذلوا جهوداً حثيثة في سبيل هذا الأمر، إلّاأنّ جهودهم ذهبت أدراج الرياح، وبقي العراق هاشمياً وعلوياً، حتّى أنّ دعوة العباسيين نجحت في بداية الأمر في العراق في ظلّ طلب ثأر الحسين وأهل بيته، وكانت الدعوة للرضا من آل محمّدصلى الله عليه و آله.
لقد تبلور التشيّع بعد حادثة الطفّ بقليل واتّسع نطاقه وصار العراق مركزه، وكانت القوافل من أنحاء العراق وغيره من بلاد المسلمين تؤمّ قبر الحسين وأصحابه، فصارت مشاهد أهل البيت فيها معمورة بالزائرين والمجاورين، وكانت المآتم تقام في حواضرها تخليداً لذكرى استشهاد الإمام الحسين المفجع، واتّخذت الشيعة قرب مشاهد أئمّتهم، حوزات علمية ومعاهد فكرية، فازدهر العراق بعمالقة الفكر، وأساتذة الفقه، وأساطين الكلام، وأعان على نشر التشيّع ونموّه في العراق نشوء دول وإمارات للشيعة في القرن الرابع وما بعده.
يقول الشيخ المظفّر «(1)»: وساعد على نمو التشيّع وانتشاره في العراق، أن تكوّنت من الشيعة فيه سلطنات دول وإمارات كسلطنة آل بويه، وإمارة بني مزيد في الحلّة
ص:316
والنيل، وبني شاهين في البطائح، وبني حمدان وآل المسيّب في الموصل، ونصيبين، وكدولة بعض المغول أمثال محمّد خدابنده وابنه أبي سعيد، وأمّا محمود غازان فقد قيل بتشيّعه وهناك أمارات عليه إلّاأنّه لم يصارح به، وكدولة الجلائرية التي أسّسها الشيخ حسن الجلائري أحد قوّاد المغول وابن أُخت محمود غازان ومحمّد خدابنده، وكانت بغداد عاصمة ملكه، وكالدولة الصفوية التي ناصرت التشيّع ونشرته في البلاد بشتّى الطرق، فكأنّما هي دولة دينية تأسّست لنشر مذهب أهل البيت.
وأيّد مذهب التشيّع أيضاً أن انعقدت عدّة وزارات من رجاله، فقد استوزر السفاح أوّل ملوك بني العباس أبا سلمة الخلّال الكوفي الهمداني داعية أهل البيت، وقتله على التشيّع.
واستوزر المنصور: محمّد بن الأشعث الخزاعي.
واستوزر المهدي: أبا عبد اللَّه يعقوب بن داود، وحبسه لتشيّعه، واستوزر الرشيد: عليّ بن يقطين، وجعفر بن الأشعث الخزاعي.
واستوزر المأمون: الفضل بن سهل ذا الرياستين لجمعه بين القلم والسيف، وقتله عندما أحسّ بميله إلى الرضا عليه السلام، واستوزر من بعده أخاه الحسن بن سهل.
واستوزر المعتزّ والمهتدي: أبا الفضل جعفر بن محمود الإسكافي.
واستوزر المقتدي: أبا شجاع ظهير الدين محمّد بن الحسين الهمداني، وعزله لتشيّعه.
واستوزر المستظهر: أبا المعالي هبة الدين بن محمّد بن المطلّب، وعزله لتشيّعه، ثمّ أعاده على أن لا يخرج من مذهب أهل السنّة، ثمّ تغيّر عليه وعزله.
واستوزر الناصر والظاهر والمستنصر: مؤيّد الدين محمّد بن عبد الكريم القمّي من ذريّة المقداد- رضوان اللَّه عليه-.
ص:317
واستوزر المستعصم آخر ملوك بني العباس: أبا طالب محمّد بن أحمد العلقمي الأسدي، وأقرّه هولاكو على الوزارة، ولمّا مات- رحمه اللَّه- استوزر: ولده أبا الفضل عزّالدين. إلى ما سوى هؤلاء.
وأمّا الإمارات، والقيادات، والكتابة، والخزانة، فما أكثرها، أمثال: إمارة آل قشتمر، وآل أبي فراس الشيباني، وآل دبيس كما أشرنا إليهم.
وقيادة طاهر بن الحسين الخزاعي، وقيادة أولاده كابنه عبد اللَّه، ومحمّد بن عبد اللَّه وغيرهما، وتولّيهم إمارة هراة.
وكان عبد اللَّه بن سنان خازناً للمنصور والمهدي والهادي والرشيد، وكان من ثقات الرواة لأبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام. إلى ما يعسر استقصاؤه.
وكفاك برهاناً على أنّ التشيّع كان ضارباً أطنابه على بسيطة العراق، ما كان من نقابة الطالبيين في بغداد، فما أكثر ما كان يتولّاها الشيعة، أمثال الشريف الرضي وأبيه وابنه وأخيه المرتضى، وقد تولّوا المظالم أيضاً، وتولّى الشريف الرضي وأبوه أيضاً إمارة الحاج، كما تولّاها ثلاث عشرة حجّة حسام الدين أبو فراس جعفر بن أبي فراس الشيباني.
وتولّى آل طاووس نقابة الطالبيين في العراق عامة، تولّاها منهم السيّدان العلمان رضي الدين وغياث الدين عبد الكريم «(1)».
كما تولّى الأوقاف في العراق وغيرها ممّا كان تحت حكم المغول الخواجا نصير الدين الطوسي- طاب ثراه- وعندما قبض عليها، أقام ببغداد، وتصفّح الأوقاف، وأدار أخبار الفقهاء والمدرّسين، وقرّر القواعد في الوقف، وأصلحها بعد
ص:318
اختلالها «(1)»، ومن بعده تولّاها ابنه أحمد فخر الدين، ولمّا وليها حذف الحصّة الديوانية في الوقوف، ووفّرت على أربابها «(2)».
وهكذا فإنّ الاستقراء الموضوعي لسكان العراق يكشف بوضوح التفوّق الكبير في عدد الشيعة على ماعداهم، فجنوب العراق يغلب على سكّانه الشيعة بشكل واضح جدّاً، وأما وسطه فتتركّز شيعته في أغلب محافظاته أمثال محافظة النجف وكربلاء وبابل وواسط والسماوة والديوانية وغيرها، وأما شمال العراق فتقلّ نسبة الشيعة فيه بشكل ملحوظ، إلّاأنّ هناك أعداداً لا بأس بها في محافظتي الموصل وكركوك.
دخل التشيّع في اليمن بعد أن أسلموا على يد عليّ عليه السلام، حيث يحدّثنا التاريخ: أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بعث خالد بن الوليد إلى اليمن ليدعوهم إلى الإسلام، فأقام هناك ستّة أشهر فلم يجيبوه إلى شي ء. فبعث النبيّ صلى الله عليه و آله عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأمره أن يُرجع خالد بن الوليد ومن معه.
قال البراء: فلمّا انتهينا إلى أوائل اليمن بلغ القوم الخبر فجمعوا له فصلّى بنا عليّ الفجر، فلمّا فرغ صفّناصفّاً واحداً ثمّ تقدّم بين أيدينا فحمد اللَّه وأثنى عليه ثمّ قرأ عليهم كتاب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فأسلمت همدان كلّها في يوم واحد، وكتب بذلك إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فلمّا قرأ كتابه خرّ ساجداً ثمّ جلس فقال: «السلام على همدان، السلام على همدان» ثمّ تتابع أهل اليمن على الإسلام «(3)».
فكان تمسّكهم بعرى الإسلام على يد عليّ عليه السلام، وصار هذا أكبر العوامل
ص:319
لصيرورتهم علويين مذهباً ونزعة. وفي ظلّ هذه النزعة ضحّوا بأنفسهم ونفيسهم بين يدي عليّ عليه السلام في حروبه.
أضف إليه أنّهم سمعوا من المصطفى صلى الله عليه و آله فضائل إمامهم ومناقبه غير مرّة، وهذا ممّا زادهم شوقاً وملأ قلوبهم حبّاً وولاءً له، فقد روى المحدثون: أنّ اليمانّيين طلبوا من النبيّصلى الله عليه و آله أن يبعث إليهم رجلًا يفقّههم في الدين ويعلّمهم السنن ويحكم بينهم بكتاب اللَّه، فبعث النبيّ صلى الله عليه و آله علياً وضرب علىصدره وقال: «اللّهمّ اهد قلبه، وثبّت لسانه». قال الإمام عليّ عليه السلام: «فما شككت في قضاء بين اثنين حتّى الساعة» «(1)».
بقي الإمام عليّ عليه السلام بينهم مدّة يفقّههم في الدين، ويقضي بكتاب اللَّه، ويحلّ المشاكل القضائية، بما تنبهر به العقول.
ومن هنا تتوضّح الصورة عن حقد الأُمويين على أهل اليمن وقسوتهم في تعاملهم معهم، كما فعل ذلك بسر بن أُرطاة عند حملته على اليمن، حيث لم يترك محرّماً إلّااستحلّه، ولا جريمة إلّافعلها فلحقته اللعنة في الدارين.
نعم إنّ شيعة أهل اليمن كانوا من خلّص شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فلا غرو ولا غرابة أن يذكرهم في شعره بقوله:
فلو كنت بوّاباً على باب جنّة لقلت لهمدان ادخلي بسلام
وممّا يدل على فرط حبّهم وولائهم لعليّ عليه السلام ما قاله سيّدهم سعيد بن قيس الهمداني- رضوان اللَّه عليه- في وقعة الجمل:
قل للوصيّ أقبلت قَحطانُها فادع بها تكفيكها هَمدَانُها
همُ بنوها وهُم أُخوانها «(2)»
ص:320
نعم رحل يحيى بن الحسين الرسّي العلوي من العراق إلى اليمن في القرن الثالث ودعا إلى المذهب الزيدي في ظلّ ولاء أهل البيت وأخذ بمجامع القلوب وانتشرت دعوته فانتموا إلى زيد، فالشيعة إلى اليوم في اليمن زيديّو المذهب يهتفون في الأذان ب «حيّ على خير العمل».
ويوجد هناك شيعة إماميّة قليلون.
كانت الحكومة منذ دعوة الرسّي العلوي بيد الزيدية، وكان آخر حاكم مقتدر زيدي يحكم البلاد هو حميد الدين يحيى المتوكّل على اللَّه، ولما اغتيل هو وولداه الحسن والمحسن، وحفيده الحسين بن الحسن بيد بعض وزرائه عام (1367 ه) في ظلّ مؤامرة أجنبية، قام مكانه ولده الإمام بدر الدين، ولم يكن له نصيب من الحكم إلّامدّة قليلة حتّى أُزيل عن الحكم عن طريق انقلاب عسكري، وبذلك انتهى الحكم الزيدي في اليمن، ولكنّ اليمنيّين بقوا على انتمائهم إلى التشيّع.
ظلّ التشيّع سائداً في الشام وحلب وبعلبك وجبل عامل منذ القرن الأوّل إلى يومنا هذا، ومن المعروف أنّ أبا ذر الصحابي الجليل هو الذي بذر بذرته، أو غرس شجرته، وذلك عندما نفاه عثمان من المدينة إلى الشام، وكان يجول في الشام وضواحيه وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، من دون أن يخاف قوّة أو سطوة، أو إهانة أو قسوة، وطبع الحال يقتضي أن يبوح بما انطوت عليه جوانحه من الولاء لعليّ وأهل بيته، يدعو له على القدر المستطاع، فنمت بذرة التشيّع في ظلّ التستّر والتقيّة، وأمّا اليوم فالشيعة مجاهرون ولهم شأن عند الدولة، ولهم مظاهر في الشام وضواحيه، ترى اسم عليّ والحسين مكتوبين تحت قبّة المسجد الأُموي، وفي الجانب الشرقي مسجد خاصّ باسم رأس الحسين، وفي نفس البلد قباب مشيّدة
ص:321
لأهل البيت، أمثال زينب بنت عليّ عليهما السلام و رقيّة بنت الحسين عليهما السلام في الوقت نفسه لا تجد أثراً لمعاوية «(1)» ويزيد والحكّام الأُمويين. إنّ في ذلك لعبرة لأُولي الألباب.
قويت شوكة التشيّع في سورية بعد قيام دولة الحمدانيين في الشام والجزيرة، وكان لسيف الدولة أيادٍ بيضاء في رفع منارة التشيّع، كيف وأبو فراسصاحب القصيدة الميمية هو ابن عمّه الذي يقول:
الحقّ مهتضم والدين مخترمُ وفَي ءُ آل رسول اللَّه مقتسمُ
وأمّا جبل عامل فقد انتشر فيه التشيّع منذ دخل إلى الشام ووجد في تلك البقاع مرتعاً خصباً ونفوساً متلهّفة، فتعلّق به أهله تعلّقاً شديداً حتّى لقد برز منهم العديد من العلماء الكبار طبقوا البلاد شهرة وصيتاً أخصّ منهم بالذكر:
1- محمّد بن مكّي المعروف بالشهيد الأوّل (734- 786 ه) وكان إماماً في الفقه، ولكنّهصلب بيد الجور، ثمّ رجم، ثمّ أُحرق، بذنب أنّه شيعي موالٍ لأهل البيت ولا يفتي بفتوى أئمّة المذاهب الأربعة.
وله كتب فقهية أشهرها كتاب اللمعة الدمشقية، ألّفه في السجن خلال أُسبوع ولم يكن عنده من الكتب الفقهية سوى المختصر النافع للمحقّق الحلّي (600- 676 ه).
2- زين الدين بن عليّ الجبعي (911- 966 ه) المعروف بالشهيد الثانيصاحب الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية، والمسالك في شرح الشرائع الذي يتضمّن مجموع الكتب الفقهية مع ذكر المستند والدليل. وقد امتدت إليه أيدي الظلم كسلفه الشهيد الأوّل، حيث اعتقل بأمر الخليفة العثماني ثمّ قتله معتقلوه قرب
ص:322
شاطئ البحر وحُزّ رأسه من جسده وأُرسل إلى السلطان.
وتااللَّه إنّها لجرائم بشعة تقشعرّ منها الأبدان، ويندى لها جبين البشرية خجلًا، فما معنى هذه القسوة المتناهية في قتل الشيعة وعلمائها، وإذا كان هذا مصير الشيعة من قبل الحكومات المتعاقبة والظالمة، فهل يلومهم أحد على اتّخاذهم التقية حجاباً لحقن دمائهم وحفظ أعراضهم؟! لا أعتقد أن يلومهم عليها عاقل؛ لأنّ الملام من دفعهم إليها لا هم.
أقول: ورغم هذا الإسراف في مطاردة الشيعة وقتلهم، فقد ظهر في جبل عامل بعد هذين العالمين الجليلين، علماء فضلاء وفقهاء عظام، ولم يزل منار التشيّع مرتفعاًولواؤه خفّاقاًبهم، ولقد تحمّلوا عبرالقرون و خصوصاً في عهد السلطة العثمانية المصاعب الجسام والتي ذكرها التاريخ فيصفحات سوداء لا تنسى، ولا سيما في عهد أحمد باشا الجزّار، ممثّل الدولة العثمانية في بلاد الشام من (1195- 1198 ه).
ولقد ألّف الشيخ الحرّ العاملي كتاباً أسماه أمل الآمل في علماء جبل عامل طبع في جزأين، واستدرك عليه السيد الجليل حسن الصدر.
وأمّا بالنسبة إلى بعلبك فهي من المدن الشيعية العريقة، والتي ظهر بها التشيّع منذ دخل بلاد الشام وراج في ظلّ الدولة الحمدانية، ووجد في نفوس أهلها خير موطن، فاحتضنوه وتمسّكوا به.
دخل التشيّع مصر في اليوم الذي دخل فيه الإسلام، ولقد شهد جماعة من شيعة عليّ عليه السلام فتح مصر، منهم: المقداد بن الأسود الكندي، وأبو ذر الغفاري، وأبورافع، وأبو أيوب الأنصاري، وزارها عمّار بن ياسر في خلافة عثمان «(1)».
ص:323
وهؤلاء ما كانوا يبطنون فكرة التشيّع التي كانوا يؤمنون بها منذ عهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.
ولأجل ذلك حين قتل عثمان، بإجهاز المصريين عليه، بايعوا عليّاً كما بايع أهلها طوعاً ورغبة.
لمّا بعث عليّ عليه السلام قيس بن سعد أميراً على مصر بايع أهلها طوعاً، إلّاقرية يقال لها خربتاء «(1)».
كان هذا نواة لمذهب التشيّع في تلك البلاد، وإن تغلّب عليها الأمويون بعد ذلك حين قَتلَ عمرو بن العاص ومعاوية بن حديج- اللذين أرسلهما معاوية بن أبي سفيان إلى مصر- والي عليّ عليه السلام على مصر محمّد بن أبي بكر بشكل بشع، ثمّ جعلوا جثّته في جيفة حمار وأحرقوها بالنار، وهو أُسلوب يدلّ على انحراف كبير عن الدين، وانسلاخ عن أبسط معاني الإنسانية، ولكن للحقّ دولة وللباطل جولة، فهذه الأعمال الإجرامية وما ارتكبه العباسيون من الجرائمصارت سبباً لابتعاد الناس عن السلطات المتعاقبة الظالمة وتعاطفهم مع العلويين واحتضانهم لهم، ويظهر ذلك بوضوح عند قيام الدولة الفاطمية الشيعية هناك والتفاف المسلمين حولها، والتي كان لها الدور الأكبر في انتشار التشيّع واعتناق المسلمين له في شمال أفريقيا، حيث امتدّ نفوذها وسلطانها إلى الجزائر والمغرب وتونس وليبيا، وكذا إلى السودان جنوب مصر.
لقد اعتنق المصريّون التشيّع برغبة وجهروا بحيّ على خير العمل، وتفضيل عليّ على غيره، كما جهروا بالصلاة على النبيّ وآلهصلى الله عليه و آله.
لقد قامت في عهد الفاطميين مراسم عاشوراء، وعيد الغدير، ولم تزل هذه المراسم إلى يومنا هذا. وكان التشيّع مخيّماً على مصر في عهد الفاطميين وضارباً أطنابه في القرى والبلدان، لولا أنّصلاح الدين الأيوبي أزال سلطتهم
ص:324
ومذهبهم من مصر بقوّة السيف والنار، والتاريخ يشهد على عظم الجرائم وقسوتها التي قام بهاصلاح الدين وأتباعه في سبيل هذا الأمر. وهذه الصفحة من تاريخ مصر مليئة بالأسى والحزن، راح ضحيتها العديد من أتباع المذهب المحمّدي، إلّاأنّها لم تستطع أن تقضي عليه، فلا زال هناك الكثير من الشيعة ومن المتعاطفين روحياً معهم، والذين يعبّرون عن ذلك بوضوح في حرصهم على زيارة المشاهد المعروفة برأس الإمام الحسين عليه السلام ومرقد أُخته السيدة زينب- رضوان اللَّه عليها-.
إنّ التشيّع هو المذهب الساحق في إيران من أوائل القرن العاشر (905 ه) إلى يومنا هذا وذلك أنّ الدولة الصفويّة الشيعية هي التي أشاعت التشيّع في إيران، وفي عصرها ثبّتت أركانه، وتعلّق به المسلمون تعلّقاً عظيماً، وتزايد عدد الشيعة بتقادم السنين، فإن بلغ عدد النفوس في إيران الإسلامية قرابة ستّين مليوناً، فالأكثرية هم الشيعة، ولا يتجاوز عدد سائر الطوائف عن أربعة ملايين نسمة، يرفل الجميع بثوب الأُخوّة الإسلامية والمحبّة والتفاهم في ظلّ العقائد العظيمة التي يتمسّك بها الشيعة والتي تحدّد علاقتهم بإخوانهم من سائر المذاهب الإسلامية، والتي كرّسها قيام الجمهورية الإسلامية المباركة، بزعيمها الراحل الإمام الخميني قدس سره والذي دعا إلى تقوية الترابط بين المذاهب الإسلامية المختلفة، وأمر بإثبات أيّام معيّنة خلال العام سمّيت بأُسبوع الوحدة، وعلى نفس خطاه واصل خلفه سماحة آية اللَّه السيد عليّ الخامنئي تعهّد شجرة الوحدة بتكافل جميع المسؤولين في الدولة الإسلامية المباركة، والتي يلمسها بوضوح كلّ من زار هذه الدولة أو مرّ بها.
ص:325
ثمّ إنّ هنا أُموراً لا محيص عن طرحها وتحليلها؛ لأنّها من المواضيع التي كثر فيها اللغط، وقد أكثر المستشرقون وغيرهم فيها الصخب والهياج وهي:
1- ما هو السبب الحقيقي لدخول الفرس في الإسلام؟
2- ما هو السبب الحقيقي لجنوحهم إلى آل البيت؟
3- سببان مزعومان: الأصهار، وإرادة هدم الإسلام.
وإليك تحليل تلك النقاط:
1- ما هو السبب الحقيقي لدخول الفرس في الإسلام؟
إنّ الفرس دخلوا في الإسلام كدخول سائر الشعوب، والعلّة في الجميع واحدة أو متقاربة، وحاصلها: أنّهم وقفوا على أنّ في هذه الشريعة الغرّاء من سمات العدل والمساواة، ورفض التمييز العنصري، والنظام الطبقي، وأنّ الناس فيه كأسنان المشط لا فضل لأعجمي على عربي ولا لعربي على أعجمي إلّابالتقوى، وكانت الثورة الإسلامية تحمل يوم تفجّرها رايات العدل العظيمة، فكان ذلك هو الدافع المهمّ للشعوب للدخول في الإسلام، والانضواء تحت رايته، من غير فرق بين قوم دون قوم وشعب دون شعب.
2- ما هو السبب الحقيقي لولائهم آل البيت عليهم السلام؟
إنّ السبب الحقيقي لولائهم وجنوحهم إلى أهل البيت هو أنّهم شاهدوا أنّ علياً وأهل بيته- خلافاً للخلفاء عامّتهم- يكافحون فكرة القومية ويطبّقون المساواة، فأخذوا يتحنّنون إليهم حيناً بعد حين، وشبراً بعد شبر، فكان ذلك نواة لبذر الولاء في قلوب بعضهم، يرثه الأبناء من الآباء، وإن لم يكن الحبّ- يوم ذاك- ملازماً للقول بخلافتهم عن الرسولصلى الله عليه و آله وإمامتهم بعده، بل كان حبّاً وودّاً خالصاً لأسباب نفسية لا قيادية، وتدلّ على ذلك عشرات من القضايا نذكر بعضها:
ص:326
1- روى الفضل بن أبي قرة عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «أتت الموالي أمير المؤمنين عليه السلام فقالوا: نشكو إليك هؤلاء العرب، إنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله كان يعطينا معهم العطايا بالسويّة، وزوّج سلمان، وبلالًا، وصهيباً، وأبوا علينا هؤلاء، فقالوا: لا نفعل، فذهب إليهم أمير المؤمنين عليه السلام فكلّمهم فيهم، فصاح الأعاريب: أبينا ذلك يا أبا الحسن، أبينا ذلك، فخرج وهو مغضب يجرّ رداءه وهو يقول: يا معشر الموالي إنّ هؤلاء قدصيّروكم بمنزلة اليهود والنصارى، يتزوّجون إليكم ولا يزوّجونكم، ولا يعطونكم مثل ما يأخذون، فاتَّجروا بارك اللَّه لكم؛ فانّي قد سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: الرزق عشرة أجزاء، تسعة أجزاء في التجارة وواحد في غيرها» «(1)».
2- وروى أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن سعيد الثقفي في غاراته: عن عبّاد ابن عبد اللَّه الأسدي، قال: كنت جالساً يوم الجمعة، وعليّ عليه السلام يخطب على منبر من آجر، وابنصوحان جالس، فجاء الأشعث، فجعل يتخطى الناس فقال: يا أمير المؤمنين غلبتنا هذه الحمراء على وجهك، فغضب، فقال ابنصوحان: ليبين اليوم من أمر العرب ما كان يخفى، فقال عليّ عليه السلام: «من يعذرني من هؤلاء الضياطرة، يقبل أحدهم يتقلّب على حشاياه، ويهجّد قوم لذكر اللَّه، فيأمرني أن أطردهم فأكون من الظالمين، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد سمعت محمّداًصلى الله عليه و آله يقول:
ليضربنّكم واللَّه على الدين عَوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً».
قال المغيرة: كان عليّ عليه السلام أميل إلى الموالي وألطف بهم، وكان عمر أشدّ تباعداً منهم «(2)».
ص:327
3- روى ابن شهر آشوب: لما ورد بِسبي الفرس إلى المدينة أراد عمر بيع النساء، وأن يجعل الرجال عبيد العرب، وعزم على أن يحملوا العليل والضعيف، والشيخ الكبير في الطواف وحول البيت على ظهورهم، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ النبيّصلى الله عليه و آله قال: أكرموا كريم قوم وإن خالفوكم، وهؤلاء الفرس حكماء كرماء، فقد ألقوا إلينا بالسلام، ورغبوا في الإسلام، وقد أعتقت منهم لوجه اللَّه حقّي وحقّ بني هاشم» فقالت المهاجرون والأنصار: قد وهبنا حقّنا لك يا أخا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فقال: «اللّهمّ فاشهد أنّهم قد وهبوا، وقبلت وأعتقت»، فقال عمر: سبق إليها عليّ ابن أبي طالب عليه السلام ونقض عزمي في الأعاجم «(1)».
4- روى الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام: قال: قال رجل له: إنّ الناس يقولون: من لم يكن عربياًصلباً، أو مولىصريحاً، فهو سفلي، فقال: «وأيّ شي ء المولى الصريح»؟! فقال له الرجل: من ملك أبواه، فقال: «ولِمَ قالوا هذا»؟! قال:
يقول رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: مولى القوم من أنفسهم، فقال: «سبحان اللَّه، أما بلغك أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: أنا مولى من لا مولى له، أنا مولى كلّ مسلم، عربيّها وعجميّها، فمن والى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أليس يكون من نفس رسول اللَّهصلى الله عليه و آله؟» ثمّ قال: «أيّهما أشرف، من كان من نفس رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أو من كان من نفس أعرابي جلف بائل على عقبيه؟ ثمّ قال: من دخل في الإسلام رغبة، خير ممّن دخل رهبة، ودخل المنافقون رهبة، والموالي دخلوا رغبة» «(2)».
5- روى الفضل بن شاذان (ت 260 ه): أنّ عمر بن الخطاب نهى عن أن يتزوّج العجم في العرب وقال: لأمنعنّ فروجهنّ إلّامن الأكفاء «(3)».
ص:328
6- روى المفيد: أنّ سلمان الفارسي- رضي اللَّه عنه- دخل مجلس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ذات يوم فعظّموه وقدّموه وصدّروه إجلالًا لحقّه، وإعظاماً لشيبته، واختصاصه بالمصطفى صلى الله عليه و آله وآله فدخل عمر فنظر إليه، فقال: من هذا العجمي المتصدّر فيما بين العرب؟ فصعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المنبر فخطب، فقال: «إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمى، ولا للأحمر على الأسود إلّابالتقوى، سلمان بحر لا ينزف، وكنز لا ينفد، سلمان منّا أهل البيت، سلسل يمنح الحكمة ويؤتي البرهان» «(1)».
7- روى الثقفي في الغارات: أنّ امرأتين أتتا علياً عليه السلام عند القسمة، إحداهما من العرب، والأُخرى من الموالي، فأعطى كلّ واحدة خمسة وعشرين درهماً، وكرّاً من الطعام، فقالت العربية: يا أمير المؤمنين، إنّي امرأة من العرب، وهذه امرأة من العجم، فقال عليّ عليه السلام: «إنّي لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفي ء فضلًا على بني إسحاق» «(2)».
8- روى المفيد عن ربيعة وعمارة وغيرهما: أنّ طائفة من أصحاب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب مشوا إليه عند تفرّق الناس عنه وفرار كثير منهم إلى معاوية، طلباً لما في يديه من الدنيا، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، أعط هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريشاً على الموالي والعجم، ومن يخاف خلافه عليك من الناس وفراره إلى معاوية.
فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟! لا واللَّه لا أفعل ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم، ولو كانت أموالهم لي لواسيت
ص:329
بينهم، فكيف وإنّما هي أموالهم» «(1)».
9- روى المبّرد: قال الأشعث بن قيس لعليّ بن أبي طالب عليه السلام وأتاه يتخطّى رقاب الناس وعليّ على المنبر، فقال: يا أمير المؤمنين غلبتنا هذه الحمراء على قربك، قال: فركض على المنبر برجله، فقالصعصعة بنصوحان العبدي: ما لنا ولهذا؟- يعني الأشعث- ليقولنّ أمير المؤمنين اليوم في العرب قولًا لا يزال يذكر، فقال عليّ: «من يعذرني من هذه الضياطرة، يتمرّغ أحدهم على فراشه تمرّغ الحمار، ويهجر قوم للذكر، فيأمرني أن أطردهم، ما كنت لأطردهم فأكون من الجاهلين، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ليضربنّكم على الدين عَوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً» «(2)».
هذه الشواهد الكثيرة توقفنا على السبب الحقيقي لتوجّه الفرس والموالي إلى آل البيت، وأنّه لم يكن إلّالصمودهم في طريق تحقيق العدل والمساواة، والمكافحة ضد العنصرية والتعصّب.
3- سببان مزعومان: الإصهار، وإرادة هدم الإسلام:
أولًا: هل الإصهار كان سبباً للولاء:
روى الزمخشري في ربيع الأبرار وغيره: أنّ الصحابة جاءوا بسبي فارس في خلافة الخليفة الثاني كان فيهم ثلاث بنات ليزدجرد، فباعوا السبايا، وأمر الخليفة ببيع بنات يزدجرد فقال الإمام عليّ: «إنّ بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن» فقال الخليفة: كيف الطريق إلى العمل معهنّ؟ فقال: «يقوَّمن ومهما بلغ ثمنهنَّ قام به من يختارهنَّ» فقوِّمن فأخذهنَّ عليّ فدفع واحدة لعبد اللَّه بن عمر،
ص:330
وأُخرى لولده الحسين، وأُخرى لمحمّد بن أبي بكر، فأولد عبد اللَّه بن عمر: ولده سالماً، وأولد الحسين: زين العابدين، وأولد محمّد: ولده القاسم، فهؤلاء أولاد خالة، وأُمّهاتهم بنات يزدجرد «(1)».
وقد استند إلى هذه القصّة أحمد أمين في فجر الإسلام، والدكتور حسن إبراهيم في التاريخ السياسي للإسلام «(2)»، وذهبا إلى أنّ الاصهارصار سبباً لتشيّع الفرس.
لن ندخل في نقاش مع هذه القصّة وأنّها هل هيصادقة أو ممّا وضعه أصحاب الأساطير، وكفانا في هذا الأمر ما ألّفه زميلنا العزيز الدكتور السيد جعفر شهيدي «(3)»، ولو وقفنا إلى جانب هذه القصّة وسلّمنا بها، فإنّا نسأل أيّصلة بين دخول الفرس في التشيّع ومصاهرة الإمام الحسين يزدجرد، فلو كانت تلك علّة فليكن تسنّن الفرس لأصهار عبد اللَّه بن عمر ومحمّد بن أبي بكر لهم، فإنّ الرجلين من أبناء الخليفتين، على أنّ هذا التفسير يدلّ على سطحية في التفكير وسقم في المنطق لا يقرّ به العقلاء.
ثانياً: إرادة هدم الإسلام:
أثار بعض أعداء الإسلام، ومن أعماه الحقد وخبث السريرة، الكثير من الشبهات حول تمسّك الفرس بالمذهب الشيعي، وولائهم العميق لأهل البيت عليهم السلام، ومن هذه الشبهات السقيمة التي وجدت من يطبّل لها ويزمّر، هي أنّ الفرس ما دخلوا في المذهب الشيعي إلّاللتستّر من أجل هدم الإسلام تحت هذا الغطاء.
وإلى هذا الرأي السقيم يذهب ضمناً أحمد أمين في تخرّصاته دون أن يحاسب نفسه على تقوّلاته التي هي أشدّ المعاول هدماً فيصرح الإسلام لا الفرس الذين
ص:331
يتّهمهم ظلماً وجوراً، حيث قال: والحقّ أنّ التشيّع كان مأوى يلجأ إليه كلّ من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد، ومن كان يريد إدخال تعاليم آبائه من يهودية ونصرانية وزرادشتية وهندية، ومن يريد استقلال بلاده والخروج على مملكته، كلّ هؤلاء كانوا يتّخذون حبّ أهل البيت ستاراً!! «(1)» وقد استغل هذه الأُطروحة الخبيثة الكاتب الأمريكي «لو تروب ستودارد» في كتابه «حاضر العالم الإسلامي» الذي نقله إلى العربية الأمير شكيب أرسلان، وتجد الفكرة أيضاً عندصاحب المنار، ومحبّ الدين الخطيب، وغيرهم من كتّاب العصر.
وهذا الكلام أشبه بكلام من أعمى اللَّه بصره وبصيرته؛ فإنّ من نظر إلى تاريخ الفرس يجد أنّهم خدموا الإسلام بنفسهم ونفيسهم وأقلامهم وآرائهم من غير فرق بين الشيعي والسنّي، وخدمات المذهب الشيعي للإسلام أعظم من أن تحصى، وأوضح من أن تخفيها إرهاصات الحاقدين، وقد تقدّم منّا في الصفحات الأُولى وما بعدها دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية، وما شيعة الفرس إلّاجزءاً من عموم الشيعة المسلمين، ولهم أيادٍ بيضاء مشكورة في خدمة الإسلام، ولن يضرّهم نفث السموم وتخرّص المتخرّصين.
رغم أنّ الأُمويين حاولوا جاهدين القضاء على التشيّع، وأراد العباسيّون الوقوف في وجه انتشاره بعد اليأس عن استئصاله، إلّا أنّه بلطف اللَّه تعالى نما وازدهر عبر القرون بالرغم من تلك العوائق، بل قامت لهم هنا وهناك دول
ص:332
ودويلات نظير:
1- دولة الأدارسة في المغرب (194- 305 ه).
2- دولة العلويين في الديلم (205- 304 ه).
3- دولة البويهيين في العراق وما يتّصل به من بلاد فارس (321- 447 ه).
4- دولة الحمدانيين في سورية والموصل وكركوك (293- 392 ه).
5- دولة الفاطميين في مصر (296- 567 ه).
6- دولة الصفويين في إيران (905- 1133 ه).
7- دولة الزنديين (1148- 1193 ه).
8- دولة القاجاريين (1200- 1344 ه).
أضف إلى ذلك وجود إمارات للشيعة في نقاط مختلفة من العالم.
أقول: إنّ إفاضة القول في مؤسّسي هذه الدول وترجمة أحوالهم وما آل إليه مصيرهم يحوجنا إلى تأليف كتاب مستقلّ في ذلك، فمن أراد الاطّلاع على ذلك فليراجع الكتب المؤلّفة في هذه المواضيع «(1)».
الإسلام دين العلم والمعرفة، دفع الإنسان من حضيض الجهل والأُميّة إلى أعلى مستويات العلم والكمال من خلال تشجيعه على القراءة والكتابة «(2)»، والتدبّر في آثار الكون ومظاهر الطبيعة، ونبذ التقليد في تبنّي العقيدة، فأراد للإنسان حياة نابضة بالفكر والثقافة.
ص:333
وقد كانت للشيعة خلال القرون الماضية جامعات وحوزات علمية نشير إلى بعضها إجمالًا:
إنّ المدينة المنوّرة هي المنطلق العلمي الأوّل لنشر العلم والثقافة فهي المدرسة الأُولى للمسلمين، نشأ فيها عدّة من الأعلام من شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وعلى رأسهم: ابن عباس حبر الأُمّة، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وأبو رافع الذي هو من خيار شيعة الإمام علي مؤلّف كتاب السنن والأحكام والقضاء «(1)»، وغيرهم.
ثمّ جاءت بعدهم طبقة من التابعين تخرّجوا من تلك المدرسة على يد الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليهما السلام ولقد روى الكليني عن الإمام الصادق أنّه قال:
«كان سعيد بن المسيّب، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر، وأبو خالد الكابلي من ثقات علي بن الحسين عليهما السلام» «(2)».
وازدهرت تلك المدرسة في عصر الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام وزخرت بطلّاب العلوم ووفود الأقطار الإسلامية، فكان بيتهما جامعة إسلامية يزدحم فيها رجال العلم وحملة الحديث، يأتون إليها من كلّ فجّ عميق.
قد سبق أنّ الإمام أمير المؤمنين هاجر من المدينة إلى الكوفة واستوطن معه خيار شيعته ومن تربّى على يديه من الصحابة والتابعين.
ولقد أتى ابن سعد في طبقاته الكبرى على ذكر جماعة من التابعين الذين سكنوا
ص:334
الكوفة «(1)» وكان قد أعان على ازدهار مدرسة الكوفة مغادرة الإمام الصادق عليه السلام المدينة المنوّرة إلى الكوفة أيّام أبي العباس السفاح حيث بقي فيها مدّة سنتين.
وقد اغتنم الإمام فرصة ذهبية أوجدتها الظروف السياسية آنذاك، وهي أنّ الحكومة العباسية كانت جديدة العهد بعد سقوط الدولة الأُموية ولم يكن للعباسيين يومذاك قدرة على الوقوف في وجه الإمام لانشغالهم بأُمور الدولة، بالإضافة إلى أنّهم كانوا قد رفعوا شعار العلويين للوصول إلى السلطة، فلم يكن من مصلحتهم في تلك الفترة الوقوف في وجه الإمام عليه السلام، فعمد في زمن وجوده عليه السلام إلى نشر علوم جمّة، وتخرّج على يديه الكثير من الطلبة النابغين.
هذا الحسن بن على بن زياد الوشّاء يحكي لنا ازدهار مدرسة الكوفة في تلك الظروف كما ينقله عنه النجاشي:
أدركت في هذا المسجد- يعني مسجد الكوفة- تسعمائة شيخ كلّ يقول:
حدّثني جعفر بن محمّد. ويضيف النجاشي: كان هذا الشيخ عيناً من عيون هذه الطائفة وله كتب، ثمّ ذكر أسماءها «(2)».
وكان من خرّيجي هذه المدرسة لفيف من الفقهاء الكوفيين، نظير أبان بن تغلب بن رباح الكوفي، ومحمّد بن مسلم الطائفي، وزرارة بن أعين، إلى غير ذلك ممّن تكفّلت كتب الرجال بذكرهم والتعريف بهم.
ولقد ألّف فقهاء الشيعة ومحدّثوهم في هذه الظروف في الكوفة (6600) كتاب، ولقد امتاز من بينها (400) كتاب اشتهرت بالأُصول الأربعمائة «(3)» فهذه
ص:335
الكتب هي التي أدرجها أصحاب الجوامع الحديثية في كتبهم المختلفة.
ولم تقتصر الدراسة آنذاك على الحديث والتفسير والفقه، بل شملت علوماً أُخرى ساعدت على تخريج جملة واسعة من المؤلّفين الكبار الذينصنّفوا كتباً كثيرة في علوم مختلفة ومتنوّعة كهشام بن محمّد بن السائب الكلبي الذي ألّف أكثر من مائتي كتاب «(1)»، وابن شاذان ألّف 280 كتاباً «(2)»، وابن عميرصنّف 194 كتاباً، وابن دوّل الذيصنّف 100 كتاب «(3)»، وجابر بن حيان أُستاذ الكيمياء والعلوم الطبيعية، إلى غير ذلك من المؤلّفين العظام في كافّة العلوم الإسلامية.
دخل الفرس الإسلام وكان أكثرهم على غير مذهب الشيعة، نعم كانت قم والري وكاشان وقسم من خراسان مركزاً للشيعة، وقد عرفت أنّ الأشعريين هاجروا- خوفاً من الحجّاج- إلى قم وجعلوها موطنهم ومهجرهم، وكانت تلك الهجرة نواة للشيعة في إيران.
كانت مدرسة الكوفة مزدهرة بالعلم والثقافة، رغم ما كانت تتعرّض له من مضايقات من قبل العباسيين، إلّاأنّها لم تقف عائقاً أمام تطوّر العلوم المختلفة وازدياد طلب العلم فيها، ولما هاجر إبراهيم بن هاشم الكوفي تلميذ يونس بن عبد الرحمن وهو من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام إلى قم، نشر فيها حديث الكوفيين فصارت مدرسة قم والري مزدهرة بعد ذاك بالمحدّثين والرواة الكبار. وساعد على ذلك بسط الدولة البويهية نفوذها على تلك البلدان، ولقد تخرّج من تلك المدرسة علماء ومحدّثون منهم:
ص:336
1- عليّ بن إبراهيم شيخ الكلينى. الذي كان حيّاً سنة (307 ه) «(1)».
2- محمّد بن يعقوب الكليني، (ت 329 ه)، مؤلّف الكافي في الفروع والأُصول.
3- عليّ بن الحسين بن بابويه، والد الشيخ الصدوقصاحب الشرائع، (ت 329 ه).
4- ابن قولويه أبو القاسم جعفر بن محمّد (285- 368 ه) من تلامذة الكليني وأُستاذ الشيخ المفيد.
والذي يدلّ على وجود النشاط الفكري في أوائل القرن الثالث ما رواه الشيخ في كتاب الغيبة: أنّه أنفذ الشيخ حسين بن روح- رضي اللَّه تعالى عنه- النائب الخاصّ للإمام المنتظر- عجّل اللَّه تعالى فرجه الشريف- كتاب التأديب إلى قم وكتب إلى جماعة الفقهاء بها وقال لهم: انظروا ما في هذا الكتاب، وانظروا فيه شي ء يخالفكم. فكتبوا إليه: إنّه كلّه صحيح... «(2)».
فهذه الرواية وغيرها تعرب عن وجود نشاط فكري وفقهي في ذينك البلدين في القرن الثالث والرابع، وكفى في فضلها أنّ كتاب «الكافي» وكتاب «من لا يحضره الفقيه» وكتب محمّد بن أحمد بن خالد البرقي (ت 274 ه) من ثمار هذه المدرسة العظيمة.
كانت مدرسة الكوفة تزدهر بمختلف النشاطات العلمية عندما كانت بغداد عاصمة الخلافة، ولمّا دبّ الضعف في السلطة العباسية وصارت السلطة بيد
ص:337
البويهيين تنفّس علماء الشيعة في أكثر مناطق العراق، فأُسّست مدرسة رابعة للشيعة في العاصمة أنجبت شخصيات مرموقة تفتخر بها الإنسانية نظير:
1- الشيخ المفيد (336- 413 ه) تلك الشخصية الفذّة الذي اعترف المؤالف والمخالف بعلمه، وذكائه، وزهده، وتقواه، وكان شيخ أساتذة الكلام في عصره الذي شهد قمة الجدل الفكري والعقائدي بين المدارس الفكرية المختلفة، وكان- رحمه اللَّه- عظيم الشأن رفيع المنزلة، له كرسي للتدريس في مسجد براثا في بغداد، يقصده العلماء والعوام للاستزادة من علمه، وله أكثر من (200) مصنّف في مختلف العلوم.
2- السيد المرتضى علم الهدى (355- 436 ه)، قال عنه الثعالبي في يتيمته (1: 53) قد انتهت الرئاسة اليوم ببغداد إلى المرتضى في المجد والشرف والعلم والأدب والفضل والكرم.
وفي تاريخ ابن خلّكان: كان إماماً في علم الكلام والأدب والشعر.
السيد المرتضى الذي حاز من العلوم ما لم يدانه فيها أحد في زمانه، أخذ العلم على يد أُستاذ المتكلّمين الشيخ المفيد- رحمه اللَّه- وله مصنّفات كثيرة لا يسعنا عدّها هنا، منها: الانتصار، تنزيه الأنبياء، جمل العلم والعمل وغيرها.
3- السيد الرضي (359- 406 ه)، علم من أعلام عصره في العلم والحديث والأدب، درس العلم هو وأخوه السيد المرتضى على يد الشيخ المفيد- رحمه اللَّه- له مؤلّفات جمّة منها: خصائص الأئمّة، معاني القرآن، حقائق التأويل.
4- الشيخ الطوسي (385- 460 ه) وهو شيخ الطائفة ومن أعلام الأُمّة، تربّى على يد شيخه المفيد والسيد المرتضى. وله مؤلّفات جمّة غنية عن التعريف، منها كتابا: «التهذيب» و «الاستبصار» وهما من المصادر المهمّة عند الشيعة.
وكانت مدرسة بغداد زاهرة في عهد هذه الأعلام واحد بعد الآخر، وقام كلّ
ص:338
منهم بدور كبير في تطوير العلوم وتقدّمها، وكان يحضر في حلقات دروسهم مئات من المجتهدين والمحدّثين من الشيعة والسنّة.
واستمرّ هذا الحال إلى أن ضعفت سلطة البويهيين، ودخل طغرل بك الحاكم التركي بغداد، فأشعل نار الفتنة بين الطائفتين السنّة والشيعة، وأحرق دوراً في الكرخ، ولم يكتف بذلك حتّى كبس دار الشيخ الطوسي وأخذ ما وجد من دفاتره وكتبه، وأحرق الكرسي الذي كان الشيخ يجلس عليه «(1)».
إنّ هذه الحادثة المؤلمة التي أدّت إلى ضياع الثروة العلمية للشيعة وقتل العديد من الأبرياء، دفعت الشيخ الطوسي- رحمه اللَّه- إلى مغادرة بغداد واللجوء إلى النجف الأشرف وتأسيس مدرسة علمية شيعية في جوار قبر أمير المؤمنين عليه السلام، وشاء اللَّه تبارك وتعالى أن تكون هذه المدرسة مدرسة كبرى أنجبت خلال ألف سنة من عمرها عشرات الآ لاف من العلماء والفقهاء والمتكلّمين والحكماء.
والمعروف أنّ الشيخ الطوسي هو المؤسّس لتلك الجامعة العلمية المباركة، وهو حقّ لا غبار عليه، ومع ذلك يظهر من النجاشي وغيره أنّ الشيخ ورد عليها وكانت غير خالية من النشاط العلمي. يقول في ترجمة الحسين بن أحمد بن المغيرة: له كتاب عمل السلطان أجازنا بروايته أبو عبد اللَّه بن الخمري الشيخصالح في مشهد مولانا أمير المؤمنين سنة (400 ه) «(2)».
ولقد استغلّ الشيخ تلك الأرضية العلمية، وأعانته على ذلك الهجرة العلمية الواسعة التي شملت أكثر الأقطار الشيعية، فتقاطرت الوفود إليها، من كلّ فجّ،
ص:339
فصارت حوزة علمية، وكلّيّة جامعة في جوار النبأ العظيم عليّ أمير المؤمنين- من عصر تأسيسها (448 ه)- إلى يومنا هذا، ولقد مضى على عمرها قرابة (1000) سنة، وهي بحقّ شجرة طيبة أصلها في الأرض وفرعها في السماء آتت أُكلها كلّ حين بإذن ربّها.
إنّ لجامعة النجف الأشرف حقوقاً كبرى على الإسلام والمسلمين عبر القرون، فمن أراد الوقوف على تاريخها والبيوتات العلمية التي أنجبتها، فعليه الرجوع إلى كتاب «ماضي النجف وحاضرها» يقع في ثلاثة أجزاء «(1)». وقد قام الشيخ هادي الأميني بتخريج أسماء طائفة من العلماء الذين تخرّجوا من هذه المدرسة الكبرى، فراجع.
في الوقت الذي كانت جامعة النجف تزدهر وتنجب جملة من العلماء الأفذاذ، تأسّست للشيعة في الحلّة الفيحاء جامعة كبيرة أُخرى كانت تحفل بكبار العلماء، وتزدهر بالنشاط الفكري، عقدت فيها ندوات البحث والجدل، وأُنشئت فيها المدارس والمكاتب، وظهر في هذا الدور فقهاء كبار كان لهم الأثر الكبير في تطوير الفقه الشيعي وأُصوله، نأتي بأسماء بعضهم:
1- المحقّق الحلّي، نجم الدين أبو القاسم جعفر بن سعيد، من كبار فقهاء الشيعة، يصفه تلميذه ابن داود بقوله: الإمام العلّامة، واحد عصره، كان ألسن أهل زمانه، وأقواهم بالحجّة، وأسرعهم استحضاراً «(2)» توفّي عام (676 ه). له من الكتب: «شرائع الإسلام» في جزأين، وهو أثر خالد شرحه العلماء وعلّقوا عليه.
ص:340
واختصره في كتاب أسماه «المختصر النافع» وشرحه أيضاً وأسماه «المعتبر في شرح المختصر».
2- العلّامة الحلّي، جمال الدين حسن بن يوسف (648- 726 ه) تخرّج على يد خاله المحقّق الحلّي في الفقه، وعلى يد المحقّق الطوسي في الفلسفة والرياضيات، وعرف بالنبوغ وهو بعد لم يتجاوز سنّ المراهقة، وقد بلغ الفقه الشيعي في عصره القمة، وله موسوعات فيه أجلّها «تذكرة الفقهاء» ولعلّه لم يؤلّف مثله.
3- فخر المحققّين، محمّد بن الحسن بن يوسف (682- 771 ه) ولَد العلّامة الحلّي، تتلمذ على يد أبيه، ونشأ تحت رعايته وعنايته، وألّف والده قسماً من كتبه بالتماس منه، وقد تتلمذ عليه إمام الفقه الشهيد الأوّل (734- 786 ه).
إلى غير ذلك من رجال الفكر كابن طاووس، وابن ورّام، وابن نما، وابن أبي الفوارس الحلّيِّين، الذين حفلت بهم مدرسة الحلّة، ولهم على العلم وأهله أيادٍ بيضاء، لا يسعنا ذكر حياتهم.
امتدّ سلطان الدولة الفاطمية من المحيط الأطلسي غرباً، إلى البحرالأحمر شرقاً، ونافست الدولة الفاطمية الشيعية خلافة الحكّام العباسيين في بغداد، وكان المعزّ لدين اللَّه- أحد الخلفاء الفاطميين بمصر- رجلًا مثقّفاً ومولعاً بالعلوم والآداب، وقد اتّخذ بفضل تدبير قائده العسكري القاهرة عاصمة للدولة الجديدة، وبنى الجامع الأزهر، وعقدت فيه حلقات الدرس، وكان يركّز على نشر المذهب الشيعي بين الناس، وقد أمر أن يؤذّن في جميع المساجد ب «حيّ على خير العمل» ومنع من لبس السواد شعار العباسيين.
إنّ المسلمين عامّة- وفي طليعتهم المصريون- مدينون في ثقافتهم وازدهار
ص:341
علومهم وتقدّمهم في مجال العلم والصنعة للفاطميين وهممهم العالية؛ فإنّ الجامع الأزهر لا يزال مزدهراً من يوم بني إلى يومنا هذا باعتباره أعظم الجامعات العلمية «(1)»، وهي كانت جامعة شيعية من بدء تأسيسها إلى قرنين.
وإن شئت أن تقف على صورةصغيرة من خدماتهم الجليلة فاقرأ ما كتبه السيّد مير علي حيث ذكر: «كان الفاطميون يشجّعون على العلم، ويكرمون العلماء، فشيّدوا الكلّيّات، والمكاتب العامة، ودار الحكمة، وحملوا إليها مجموعات عظيمة من الكتب في سائر العلوم والفنون، والآلات الرياضية، لتكون رهن البحث والمراجعة، وعيّنوا لها أشهر الأساتذة، وكان التعليم فيها حرّاً على نفقة الدولة، كما كان الطلّاب يمنحون جميع الأدوات الكتابية مجّاناً، وكان الخلفاء يعقدون المناظرات في شتّى فروع العلم، كالمنطق والرياضيات والفقه والطب، وكان الأساتذة يرتدون لباساً خاصاً عرف بالخلعة، أو العباءة الجامعية- كما هي الحال اليوم- وأُرصدت للإنفاق على تلك المؤسّسات، وعلى أساتذتها، وطلّابها، وموظّفيها، أملاك بلغ إيرادها السنوي (43) مليون درهم، ودعي الأساتذة من آسيا والأندلس لإلقاء المحاضرات في دار الحكمة، فازدادت بهم روعة وبهاء «(2)».
وقد ألّف غير واحد من المؤرّخين كتباً ورسائل حول الأزهر الشريف ومن أراد التفصيل فليرجع إليها.
كانت الشيعة تعيش تحت الضغط والإرهاب السياسي من قبل الأُمويين والعباسيين، فلمّا دبّ الضعف في جهاز الخلافة العباسية، وظهرت دول شيعية في العراق- خصوصاً دولة الحمدانيين في الموصل وحلب- استطاعت الشيعة أن
ص:342
تجاهر بنشاطها الثقافي، وفي ظلّ هذه الحرّية أُسّست مدارس شيعية في جبل عامل، وحلب، تخرّج منها العديد من العلماء الأفذاذ والفضلاء.
فأمّا حلب فقد ازدانت بالعديد من الأسماء اللامعة كأبناء زهرة وغيرهم، من رجال العلم والأدب.
وأمّا مدرسة جبل عامل فقد كانت تتراوح بين القوّة والضعف، إلى أن رجع الشهيد الأوّل من العراق إلى مسقط رأسه «جزّين»، فأخذت تلك المدرسة في نفسها نشاطاً واسعاً، وقد تخرّج من تلك المدرسة منذ تلك العهود إلى يومنا هذا مئات من الفقهاء والعلماء لا يحصيها إلّااللَّه سبحانه، ومن الشخصيات البارزة في هذه المدرسة: المحقّق الشيخ علي الكركي مؤلّف «جامع المقاصد» (المتوفّى عام 940 ه) وبعده الشيخ زين الدين المعروف بالشهيد الثاني (911- 966 ه).
هذا غيض من فيض وقليل من كثير، ممّن أنجبتهم هذه التربة الخصبة بالعلم والأدب.
ولنكتف بهذا المقدار من الإشارة إلى الجامعات الشيعية؛ فإنّ الإحصاء يحوجنا إلى بسط في المقال، ويطيب لنا الإشارة إلى أسماء المعاهد الأُخرى مجرّدة.
كانت للشيعة جامعات متعدّدة في أقطار العالم المختلفة لم تزل بعضها زاهرة إلى اليوم. فالشرق الإسلامي كأفغانستان والباكستان والهند تزخر بالشيعة، ولهم هناك جامعات وكلّيّات في هراة ولكنهو وبومبي، كما أنّ للشيعة نشاطات ثقافية في آسيا الجنوبية الشرقية كماليزيا وتايلند، ومن أراد الوقوف على الخرّيجين من هذه المدارس فعليه أن يقرأ تاريخ هذه البلاد، خصوصاً بلاد الهند.
ومنذ تسنّم الصفويّة منصّة الحكم أُسّست في إيران حوزات فقهية وكلامية
ص:343
وفلسفية زاهرة، وقد تخرج منها آلاف من العلماء، ومن هذه الجامعات: جامعة أصفهان، وطهران، وخراسان، وتبريز، وقزوين، وزنجان، وشيراز، وأخيراً الجامعة الكبرى للشيعة في قم المحمية بجوار فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر عليه السلام. وقد أُسِّست هذه الجامعة سنة (1340 ه) على يد رجل العلم والزهد الشيخ عبد الكريم اليزدي (1274- 1355 ه)، ولم تزل هذه الجامعة مشعَّة زاهرة، وقد تقاطر إليها الأساتذة ووفود الطلاب من نقاط شتّى، ومن جنسيّات مختلفة منذ أوّل يومها، ويتجاوز عدد الطلاب فيها في هذه السنين (25000 طالب)، وفيها مكتبات زاخرة، ومؤسّسات علمية، ومراكز تحقيقية، ومطابع حديثة، وعمالقة الفكر وأساتذة القلم، ومنها تفجّرت الثورة الإسلامية على يد أحد خرّيجيها ألا وهو الإمام الخميني- قدس اللَّه سره- فانبثقت أنوارها على ربوع العالم، وأيقظت الأُمّة من سباتها العميق.
إنّ مراكز الإحصاء في العالم تخضع لنفوذ أعداء الإسلام خصوصاً الصهاينة، وقدصار ذلك سبباً لعدم وجود إحصاء دقيق بأيدينا عن عدد المسلمين وعامّة طوائفهم ومنهم الشيعة. ولكن القرائن تشهد على أنّ الشيعة بطوائفها الثلاث:
الإمامية والزيدية والإسماعيلية يؤلّفون خمس أو ربع المسلمين، فلو كان عدد المسلمين- على ما يقولون- مليار نسمة فالشيعة تبلغ (200) مليون، وأكثرهم عدداً هم الإمامية المعروفون بالاثني عشرية أو الجعفرية.
نسأله سبحانه أن يرفع كلمة التوحيد في ربوع العالم، ويوفّق المسلمين لتوحيد الكلمة ورصّ الصفوف، إنّه على ذلك لقدير.
ص:344
صفحه سفيد
ص:345
ص:346
صفحة بيضاء
ص:347
رسائل موجزة حول عقائد الشيعة
إنّ المناهج الكلامية التي فرّقت المسلمين إلى مذاهب حدثت في أواخر القرن الأوّل الهجري، واستمرّت في القرون التالية، فنجمت عنها فرق إسلامية مختلفة كالمرجئة، والجهمية، والمعتزلة، والحشوية، والأشعرية، والكرّامية بفرقهم المتشعّبة. وهذه الفرق بمجموعها تكون نتاجاً حقيقياً لمخاض البحث والمذاكرة، وكنتيجة منطقية للتوسع الأُفقي في الرقعة الإسلامية التي شملت العديد من الأُمم والقوميات المختلفة، وما يؤلّفه ذلك من احتكاك وجدل فكري وتأثّر وتأثير في تلك التيّارات الفكرية وتداخل غير محسوس في أحيان كثيرة أُوجد ودون وعي من الكثيرين، ركائز وجود هذه التصوّرات التي تبلورت فيما بعد فيما يسمّى بالفرق الإسلامية.
ومن هنا فإنّ المرء لا يجد لها تاريخاً متّصلًا بزمن النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله، ويقف علىصدق ما ذكرنا من سبر أجزاء كتابنا هذا.
فالخوارج مثلًا كانوا فرقة سياسية نشأت في عام (37 ه) أثناء حربصفّين، ثمّ تبدّلت إلى فرقة دينيّة في أواخر القرن الأوّل وأوائل القرن الثاني.
ص:348
والمرجئة ظهرت في الأوساط الإسلاميّة عند اختلاف الناس في الخليفة عثمان والإمام عليّ، ثمّ تطورت إلى معنى آخر، وكان من حصيلة التطوّر هو تقديم الإيمان وتأخير العمل.
والجهمية نتيجة أفكار «جهم بنصفوان» المتوفّى سنة (128 ه).
والمعتزلة تستمدّ أُصولها من واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري المتوفّى عام (130 ه)، وهكذا القدريّة والكرّاميّة والظاهريّة والأشعريّة فجميعها فرق نتجت عن البحث الكلامي وصقلها الجدل عبر القرون، فلا تجد لهذه الفرق سنداً متّصلًا بالنبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله.
وأمّا عقائد الشيعة الإمامية فعلى النقيض من ذلك، ولاصلة في نشأتها بينها وبين تلك الفرق، لأنّها أُخذت أساساً من مصادر التشريع الحقيقية للإسلام، وهي: الذكر الحكيم أوّلًا، والسنّة النبويّة ثانياً، وخطب الإمام عليّ وكلمات العترة الطاهرة الصادرة من النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله ثالثاً. فلأجل ذلك يحدّد تاريخ عقائدهم بتاريخ الإسلام وحياة أئمّتهم الطاهرين.
وهذا لا يعني أنّ الشيعة تتعبّد بالنصوص في أُصولها المذكورة من دون تحليل وتفكير، بل إنّ أُصول العقائد الواردة في المصادر المذكورة أخذها علماؤهم منها وحرّروها بأوضح الوجوه، ودعموها بالبراهين الواضحة، كما أنّهم لا يعتدّون في بناء معتقداتهم ومتبنّياتهم برواية الآحاد بل يشترطون فيها أن تكون متواترة، أو محفوفة بالقرائن المفيدة للعلم واليقين؛ إذ ليس المطلوب في باب الاعتقاد مجرّد العمل، بل المطلوب هو الإذعان والإيمان، وهذا لا يحصل برواية الآحاد.
إلّا أنّ الأمر الجدير بالذكر هو أنّ المرتكز الأساسي لبناء العقيدة الخاصّة بالشيعة الإمامية هو الاعتقاد بأنّ الإمام عليّاً منصوص عليه بالوصاية على لسان النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله، وأنّه وعترته الطاهرة هم المرجع الأعلى بعد الذكر الحكيم. وهذا
ص:349
هو العنصر المقوّم للتشيّع، وأمّا سائر الأُصول فإنّها عقائد إسلامية لا تختصّ بالشيعة الإمامية وحدها.
وسنحاول أن نستعرض في الصفحات اللاحقة بعضاً من جوانب عقائد الشيعة الإمامية، الواردة في أحاديث أئمّتهم تارة، وكلمات علمائهم الأقدمين ثانياً، حتّى يقف القارئ على جذور تلك العقائد وتتوضّح له الصورة الحقيقية عن ركائز هذه المعتقدات، والتي تستمدّ كيانها من الأخبار والروايات الواردة من أئمّتهم الطاهرين والتي تكوّن كلمات الإمام عليّ عليه السلام وخطبه البعد الأكبر فيها، أو من الآراء الكلامية لعلمائهم، والتي تتفق كثيراً مع جمهور المسلمين في أبعادها المختلفة.
روى الصدوق بسنده عن الفضل بن شاذان قال: سأل المأمون عليّ بن موسى الرضا أن يكتب له محض الإسلام على سبيل الإيجاز والاختصار، فكتب عليه السلام له:
«إنّ محض الإسلام شهادة أن لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له، إلهاً واحداً، أحداً، فرداً،صمداً، قيّوماً، سميعاً، بصيراً، قديراً، قديماً، قائماً، باقياً، عالماً لايجهل، قادراً لا يعجز، غنيّاً لا يحتاج، عدلًا لا يجور، وأنّه خالق كلّ شي ء، ليس كمثله شي ء، لا شبه له، ولا ضدّ له، ولا ندّ له، ولا كفو له، وأنّه المقصود بالعبادة والدعاء والرغبة والرهبة.
وأنّ محمّداً عبده ورسوله وأمينه وصفيّه وصفوته من خلقه، وسيّد المرسلين وخاتم النبيين وأفضل العالمين، لا نبيّ بعده ولا تبديل لملّته ولا تغيير لشريعته، وأنّ جميع ما جاء به محمّد بن عبد اللَّه هو الحقّ المبين، والتصديق به وبجميع من مضى قبله من رسل اللَّه، وأنبيائه، وحججه، والتصديق بكتابه
ص:350
الصادق العزيز الذي: لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميد «(1)»
وأنّه المهيمن على الكتب كلّها، وأنّه حقّ من فاتحته إلى خاتمته، نؤمن بمحكمه ومتشابهه، وخاصّه وعامّه، ووعده ووعيده، وناسخه ومنسوخه، وقصصه وأخباره، لا يقدر أحد من المخلوقين أن يأتي بمثله.
وأنّ الدليل بعده والحجّة على المؤمنين والقائم بأمر المسلمين، والناطق عن القرآن، والعالم بأحكامه: أخوه وخليفته ووصيّه ووليّه، والذي كان منه بمنزلة هارون من موسى: عليّ بن أبي طالب عليه السلام أمير المؤمنين، وإمام المتّقين، وقائد الغرّ المحجّلين، وأفضل الوصيّين، ووارث علم النبيّين، والمرسلين، وبعده الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، ثمّ عليّ بن الحسين زين العابدين، ثمّ محمّد بن عليّ باقر علم النبيّين، ثمّ جعفر بن محمّد الصادق وارث علم الوصيّين، ثمّ موسى بن جعفر الكاظم، ثمّ عليّ بن موسى الرضا، ثمّ محمّد بن عليّ، ثمّ عليّ بن محمّد، ثمّ الحسن بن عليّ، ثمّ الحجّة القائم المنتظر-صلوات اللَّه عليهم أجمعين-.
أشهد لهم بالوصية والإمامة، وأنّ الأرض لا تخلو من حجّة للَّه تعالى على خلقه في كلّ عصر وأوان، وأنّهم العروة الوثقى، وأئمّة الهدى، والحجّة على أهل الدنيا، إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها، وأنّ كل من خالفهم ضالّ مضلّ باطل، تارك للحقّ والهدى، وأنّهم المعبّرون عن القرآن، والناطقون عن الرسولصلى الله عليه و آله بالبيان، ومن مات ولم يعرفهم مات ميتة جاهلية، وأنّ من دينهم الورع والفقه والصدق والصلاة والاستقامة والاجتهاد، وأداء الأمانة إلى البرّ
ص:351
والفاجر، وطول السجود، وصيام النهار وقيام الليل، واجتناب المحارم، وانتظار الفرج بالصبر، وحسن العزاء وكرم الصحبة «(1)».
ثمّ ذكر الإمام فروعاً شتّى من مختلف أبواب الفقه وأشار إلى بعض الفوارق بين مذهب أهل البيت وغيرهم لا يهمّنا في المقام ذكرها ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى المصدر.
روى الصدوق عن عبد العظيم الحسني «(2)» قال: دخلت على سيّدي عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام فلمّا بَصُرَ بي، قال لي: «مرحباً بك يا أبا القاسم أنت وليّنا حقّا» قال:
فقلت له: يابن رسول اللَّه إنّي أُريد أن أعرض عليك ديني، فإن كان مرضيّاً أثبت عليه حتّى ألقى اللَّه عزّوجلّ. فقال: «هاتها أبا القاسم».
فقلت: إنّي أقول: إنّ اللَّه تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شي ء، خارج من
ص:352
الحدّين؛ حدّ الإبطال، وحدّ التشبيه، وأنّه ليس بجسم ولاصورة ولا عرض ولا جوهر، بل هو مجسِّم الأجسام ومصوِّر الصور، وخالق الأعراض والجواهر، وربُّ كلّ شي ء ومالكه وجاعله ومحدثه، وإنّ محمّداً عبده ورسوله، خاتم النبيّين فلا نبيّ بعده إلى يوم القيامة، وأقول: إنّ الإمام والخليفة ووليّ الأمر بعده أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ عليّ بن الحسين، ثمّ محمّد بن عليّ، ثمّ جعفر بن محمّد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ عليّ بن موسى، ثمّ محمّد بن عليّ، ثمّ أنت يا مولاي.
فقال عليه السلام: «ومن بعدي الحسن ابني، فكيف للناس بالخلف من بعده؟» قال:
فقلت: وكيف ذاك يا مولاي؟ قال: «لأنّه لا يرى شخصه ولا يحل ذكره باسمه حتّى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلًا كما ملئت ظلماً وجوراً».
قال: فقلت: أقررت وأقول: إنّ وليّهم وليّ اللَّه، وعدوّهم عدوّ اللَّه، وطاعتهم طاعة اللَّه ومعصيتهم معصية اللَّه، وأقول: إنّ المعراج حقّ والمساءلة في القبر حقّ، وإنّ الجنّة حقّ، والنار حقّ، والميزان حقّ، وإنّ الساعة آتية لا ريب فيها وإنّ اللَّه يبعث من في القبور، وأقول: إنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية: الصلاة والزكاة، والصوم، والحجّ، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فقال عليّ بن محمّد عليه السلام: «يا أبا القاسم، هذا واللَّهِ دين اللَّه الذي ارتضاه لعباده، فاثبت عليه ثبّتك اللَّه بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة» «(1)».
وقد اكتفينا بهذين النصّين من الإمامين الطاهرين، أحدهما قولي، والآخر إمضائي، وقد أخذوا عقائدهم عن آبائهم الطاهرين.
ص:353
إنّ لمشايخنا الإمامية مؤلّفات شهيرة في بيان عقائد الشيعة ومعارفهم، نختار في المقام رسائل موجزة من المتقدّمين منهم:
صنّف الشيخ الصدوق (306- 381 ه) رسالة موجزة في عقائد الإمامية، قال: اعلم أنّ اعتقادنا في التوحيد: أنّ اللَّه تعالى واحد أحد، ليس كمثله شي ء، قديم، لم يزل، ولا يزال سميعاً بصيراً، عليماً، حكيماً، حيّاً، قيّوماً، عزيزاً، قدّوساً، عالماً، قادراً، غنيّاً، لا يوصف بجوهر ولا جسم ولاصورة ولا عرض- إلى أن قال:- وأنّه تعالى متعال عن جميعصفات خلقه، خارج عن الحدّين: حدّ الإبطال، وحدّ التشبيه، وأنّه تعالى شي ء لا كالأشياء، أحدصمد لم يلد فيورث، ولم يولد فيشارك، ولم يكن له كفواً أحد، ولا ندّ ولا ضدّ، ولا شبه ولاصاحبة، ولا مثل ولا نظير، ولا شريك له، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ولا الأوهام، وهو يدركها، لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو اللطيف الخبير، خالق كلّ شي ء لا إله إلّا هو، له الخلق والأمر تبارك اللَّه ربّ العالمين.
ومن قال بالتشبيه فهو مشرك، ومن نسب إلى الإمامية غير ما وصف في التوحيد فهو كاذب، وكلّ خبر يخالف ما ذكرت في التوحيد فهو موضوع مخترع، وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللَّه فهو باطل، وإن وجد في كتب علمائنا فهو مدلّس... ثمّ إنّه قدّس اللَّه سرّه ذكر الصفات الخبرية في الكتاب العزيز وفسّرها، وبيّن حدّاً خاصّاً لصفات الذات وصفات الأفعال، وما هو معتقد الإماميّة في أفعال العباد، وأنّه بين الجبر والتفويض، كما ذكر عقائدهم في القضاء والقدر، والفطرة، والاستطاعة، إلى غير ذلك من المباحث المهمّة التي تشكّل العمود الفقري للمعارف
ص:354
الإلهية، إلى أن قال:
اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله اللَّه تعالى على نبيّه محمّد هو ما بين الدفّتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس (114) سورة، وعندنا أنّ الضحى والانشراح سورة واحدة، كما أنّ الإيلاف والفيل سورة واحدة. ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب... إلى آخر الرسالة «(1)».
ثمّ إنّ الشيخ المفيد (336- 413 ه) قد شرح تلك الرسالة بكتاب أسماه شرح عقائد الصدوق، أو تصحيح الاعتقاد، ناقش فيها أُستاذه الصدوق في بعض المواضع التي استند فيها الصدوق على روايات غير جامعة للشرائط في باب العقائد «(2)».
وهو ما أملاه الصدوق أيضاً على جماعة في المجلس الثالث والتسعين، وجاء فيه: واجتمع في هذا اليوم إلى الشيخ الفقيه أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه أهل مجلسه والمشايخ، فسألوه أن يملي عليهم وصف دين الإماميّة على الإيجاز والاختصار، فقال: دين الإماميّة هو الإقرار بتوحيد اللَّه تعالى ذكره، ونفي التشبيه عنه، وتنزيهه عمّا لا يليق، والإقرار بأنبياء اللَّه ورسله وحججه
ص:355
وملائكته وكتبه، والإقرار بأنّ محمّداً هو سيّد الأنبياء والمرسلين، وأنّه أفضل منهم ومن جميع الملائكة المقرّبين، وأنّه خاتم النبيّين؛ فلا نبيّ بعده... إلى آخر ما ذكر «(1)».
ألّف السيّد الشريف المرتضى رسالة موجزة في العقائد أسماها جمل العلم والعمل. أورد فيها- رحمه اللَّه- عقائد الشيعة على وجه الإيجاز، نذكر منها ما يرتبط بالتوحيد، وندعو القارئ الكريم إلى مطالعة الرسالة لما فيها من العرض الدقيق لهذه الجوانب:
الأجسام محدثَة لأنّها لم تسبق الحوادث، فلها حكمها في الحدوث، ولابدّ لها من محدِث؛ لحاجة كلّ محدَث في حدوثه إلى محدِث كالصناعة والكتابة.
ولابدّ من كونه (تعالى) قادراً لتعذّر الفعل على من لم يكن قادراً، وتيسّره على من كان كذلك.
ولابدّ من كون محدِثها عالماً؛ لأنّ الإحكام ظاهر في كثير من العالم، والمحكَم لا يقع إلّامن عالم.
ولابدّ من كونه موجوداً؛ لأنّ له تعلّقاً من حيث كان قادراً عالماً، وهذا الضرب من التعلّق لا يصحّ إلّامع الوجود.
ويجب كونه قديماً؛ لانتهاء الحوادث إليه.
ص:356
ويجب كونه حيّاً، وإلّا لم يصحّ كونه قادراً، عالماً، فضلًا عن وجوبه.
ويجب أن يكون مدركاً إذا وجدت المدركات، لاقتضاء كونه حيّاً.
ووجب كونه سميعاً بصيراً؛ لأنّه ممّن يجب أن يدرك المدركات إذا وجدت، وهذه فائدة قولنا: سميع بصير.
ومنصفاته- وإن كانتا عن علّة- كونه تعالى مريداً وكارهاً؛ لأنّه تعالى قد أمر وأخبر ونهى، ولايكون الأمر والخبر أمراً ولا خبراً إلّابالإرادة. والنهي لا يكون نهياً إلّابالكراهة.
ولا يجوز أن يستحقّ هاتين الصفتين لنفسه؛ لوجوب كونه مريداً كارهاً للشي ء الواحد، على الوجه الواحد.
ولا لعلّة قديمة، لما سنبطل به الصفات القديمة.
لا لعلّة محدثة في غير حيّ لافتقار الإرادة إلى تنبيه. ولا لعلّة موجودة في حيّ؛ لوجوب رجوع حكمها إلى ذلك الحيّ. فلم يبق إلّاأن توجد لا في محلّ.
ولا يجوز أن يكون له في نفسهصفة زائدة على ما ذكرناه؛ لأنّه لا حكم لها معقول.
وإثبات ما لا حكم له معقول من الصفات، يفضي إلى الجهالات.
ويجب أن يكون قادراً فيما لم يزل؛ لأنّه لو تجدّد له ذلك لم يكن إلّالقدرة محدثة، ولا يمكن إسناد إحداثها إلّاإليه، فيؤدّي إلى تعلّق كونه قادراً بكونه محدثاً، وكونه محدثاً بكونه قادراً. وثبوت كونه قادراً فيما لم يزل يقتضي أن يكون فيما لم يزل حيّاً موجوداً.
ويجب أن يكون عالماً فيما لم يزل؛ لأنّ تجدّد كونه عالماً يقتضي أن يكون بحدوث علم، والعلم لا يقع إلّاممّن هو عالم.
ووجوب هذه الصفات لم تدلّ على أنّها نفسيّة، وادّعاء وجوبها لمعان قديمة
ص:357
تبطلصفات النفس، ولأنّ الاشتراك في القدم يوجب التماثل والمشاركة في سائر الصفات ولا يجوز خروجه تعالى عن هذه الصفات لاسنادها إلى النفس.
ويجب كونه تعالى غنيّاً غير محتاج؛ لأنّ الحاجة تقتضي أن يكون ممّن ينتفع ويستضرّ، وتؤدّي إلى كونه جسماً.
لايجوز كونه تعالى متّصفاً بصفة الجواهر والأجسام والأعراض لقدمه وحدوث هذه أجمع، ولأنّه فاعل الأجسام، والجسم يتعذّر عليه فعل الجسم.
ولا يجوز عليه تعالى الرؤية؛ لأنّه كان يجب مع ارتفاع الموانع وصحّة أبصارنا أن نراه.
ولمثل ذلك يعلم أنّه لا يُدرك بسائر الحواس.
ويجب أن يكون تعالى واحداً لا ثاني له في القدم؛ لأنّ إثبات ثان يؤدّي إلى إثبات ذاتين لا حكم لهما يزيد على حكم الذات الواحدة، ويؤدّي أيضاً إلى تعذّر الفعل على القادر من غير جهة منع معقول، وإذا بطل قديم ثان بطل قول الثنوية والنصارى والمجوس... إلى آخرها «(1)».
كتب الإمام الشيخ أبو الفتح محمّد بن عليّ الكراجكي الطرابلسي رسالة موجزة في عقائد الإمامية وسمّاها: «البيان عن جمل اعتقاد أهل الإيمان» وممّا جاء فيها:
قال: سألت يا أخي- أسعدك اللَّه بألطافه، وأيّدك بإحسانه وإسعافه- أن
ص:358
أُثبت لك جملًا من اعتقادات الشيعة المؤمنين، وفصولًا في المذهب يكون عليها بناء المسترشدين، لتذاكر نفسك بها، وتجعلها عدّة لطالبها، وأنا أختصر لك القول وأُجمله، وأُقرّب الذكر وأُسهّله وأورده على سنن الفتيا في المقالة، من غير حجّة ولا دلالة، وما توفيقي إلّاباللَّه:
اعلم أنّ الواجب على المكلّف: أن يعتقد حدوث العالم بأسره، وأنّه لم يكن شيئاً قبل وجوده، ويعتقد أنّ اللَّه تعالى هو محدِث جميعه، من أجسامه، وأعراضه، إلّا أفعال العباد الواقعة منهم؛ فإنّهم محدثوها دونه سبحانه.
ويعتقد أنّ اللَّه قديم وحده، لا قديم سواه، وأنّه موجود لم يزل، وباق لا يزال، وأنّه شي ء لا كالأشياء. لا شبيه الموجودات، ولا يجوز عليه ما يجوز على المحدثات، وأنّ لهصفات يستحقّها لنفسه لا لمعان غيره، وهي كونه حيّاً، عالماً، قديماً، باقياً، لا يجوز خروجه عن هذه الصفات إلى ضدّها، يعلم الكائنات قبل كونها، ولا يخفى عليه شي ء منها.
وأنّ لهصفات أفعال، لا يصحّ إضافتها إليه في الحقيقة إلّابعد فعله، وهي ما وصف به نفسه من أنّه خالق، ورازق، ومعط، وراحم، ومالك، ومتكلّم، ونحو ذلك.
وأنّ لهصفات مجازات وهي ما وصف به نفسه، من أنّه يريد ويكره، ويرضى ويغضب.
فإرادته لفعل هي الفعل المراد بعينه، وإرادته لفعل غيره هي الأمر بذلك الفعل، وليس تسميتها بالإرادة حقيقة، وإنّما هو على مجاز اللغة، وغضبه هو وجود عقابه، ورضاه هو وجود ثوابه، وأنّه لا يفتقر إلى مكان، ولا يدرك بشي ء
ص:359
من الحواسّ.
وأنّه منزّه من القبائح، لا يظلم الناس وإن كان قادراً على الظلم؛ لأنّه عالم بقبحه، غنيّ عن فعله، قوله صدق، ووعده حقّ، لا يكلّف خلقه على ما لا يستطاع، ولا يحرمهمصلاحاً لهم فيه الانتفاع، ولا يأمر بما لا يريد، ولا ينهى عمّا يريد. وأنّه خلق الخلق لمصلحتهم، وكلّفهم لأجل منازل منفعتهم، وأزاح في التكليف عللهم، وفعل أصلح الأشياء بهم. وأنّه أقدرهم قبل التكليف، وأوجد لهم العقل والتمييز.
وأنّ القدرة تصلح أن يفعل بها وضدّه بدلًا منه. وأنّ الحق الذي تجب معرفته، يدرك بشيئين، وهما العقل والسمع، وأنّ التكليف العقلي لا ينفكّ عن التكليف السمعي. وأنّ اللَّه تعالى قد أوجد (للناس) في كلّ زمان مسمعاً (لهم) من أنبيائه وحججه بينه وبين الخلق، ينبّههم على طريق الاستدلال في العقليات، ويفقّههم على ما لا يعلمونه إلّابه من السمعيات. وأنّ جميع حجج اللَّه تعالى محيطون علماً بجميع ما يفتقر إليهم فيه العباد. وإنّهم معصومون من الخطأ والزلل عصمة اختيار.
وأنّ اللَّه فضّلهم على خلقه، وجعلهم خلفاءه القائمين بحقّه. وأنّه أظهر على أيديهم المعجزات، تصديقاً لهم فيما ادّعوه من الأنباء والأخبار. وأنّهم- مع ذلك- بأجمعهم عباد مخلوقون، بشر مكلّفون يأكلون ويشربون، ويتناسلون، ويحيون بإحيائه، ويموتون بإماتته، تجوز عليهم الآلام المعترضات، فمنهم من قتل، ومنهم من مات، لا يقدرون على خلق، ولا رزق، ولا يعلمون الغيب إلّاما أعلمهم إله الخلق. وأنّ أقوالهمصدق، وجميع ما أتوا به حق.
وأنّ أفضل الأنبياء أُولو العزم، وهم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى،
ص:360
وعيسى، ومحمّدصلى الله عليه و آله وعليهم، وأنّ محمّد بن عبد اللَّهصلى الله عليه و آله أفضل الأنبياء أجمعين، وخير الأوّلين والآخرين. وأنّه خاتم النبيين، وأنّ آباءه من آدم عليه السلام إلى عبد اللَّه بن عبد المطّلب- رضوان اللَّه عليهم- كانوا جميعاً مؤمنين، وموحّدين للَّه تعالى عارفين، وكذلك أبوطالب- رضوان اللَّه عليه-.
ويعتقد أنّ اللَّه سبحانه شرّف نبيّناصلى الله عليه و آله بباهر الآيات، وقاهر المعجزات، فسبّح في كفّه الحصى، ونبع من بين أصابعه الماء، وغير ذلك ممّا قد تضمّنته الأنباء، وأجمع علىصحّته العلماء، وأتي بالقرآن المبين، الذي بهر به السامعين! وعجز من الإتيان بمثله سائر الملحدين.
وأنّ القرآن كلام ربّ العالمين، وأنّه محدَث ليس بقديم. ويجب أن يعتقد أنّ جميع ما فيه من الآيات الذي يتضمّن ظاهرها تشبيه اللَّه تعالى بخلقه، وأنّه يجبرهم على طاعته أو معصيته، أو يضلّ بعضهم عن طريق هدايته، فإنّ ذلك كلّه لا يجوز حمله على ظاهرها، وأنّ له تأويلًا يلائم ما تشهد به العقول ممّا قدّمنا ذكره فيصفات اللَّه تعالى، وصفات أنبيائه.
فإن عرف المكلّف تأويل هذه الآيات فحسن، وإلّا أجزأ أن يعتقد في الجملة أنّها متشابهات، وأنّ لها تأويلًا ملائماً، يشهد بما تشهد به العقول والآيات المحكمات، وفي القرآن المحكم والمتشابه، والحقيقة والمجاز، والناسخ والمنسوخ، والخاص والعامّ.
ويجب عليه أن يقرّ بملائكة اللَّه أجمعين، وأنّ منهم جبرئيل وميكائيل، وأنّهما من الملائكة الكرام، كالأنبياء بين الأنام، وأنّ جبرئيل هو الروح الأمين الذي نزل بالقرآن على قلب محمّد خاتم النبيّين، وهو الذي كان يأتيه بالوحي من ربّ العالمين.
ويجب الإقرار بأنّ شريعة الإسلام التي أتى بها محمّدصلى الله عليه و آله ناسخة لما خالفها من
ص:361
شرائع الأنبياء المتقدّمين.
وإنّه يجب التمسّك بها والعمل بما تضمّنته من فرائضها، وأنّ ذلك دين اللَّه الثابت الباقي إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها، لا حلال إلّاما أحلّت ولا حرام إلّاما حرّمت، ولا فرض إلّاما فرضت، ولا عبادة إلّاما أوجبت.
وإنّ من انصرف عن الإسلام، وتمسّك بغيره، كافر ضالّ، مخلّد في النار، ولو بذل من الاجتهاد في العبادة غاية المستطاع.
وإنّ من أظهر الإقرار بالشهادتين كان مسلماً، ومنصدّق بقلبه ولم يشكّ في فرض أتى به محمّدصلى الله عليه و آله كان مؤمناً.
ومن الشرائط الواجبة للإيمان، العمل بالفرائض اللازمة، فكلّ مؤمن مسلم، وليس كلّ مسلم مؤمناً.
وقوله تعالى: إنّ الدّينَ عِنْدَ اللَّه الإسْلام «(1)»
إنّما أراد به الإسلام الصحيح التام، الذي يكون المسلم فيه عارفاً، مؤمناً، عالماً بالواجبات، طائعاً.
ويجب أن يعتقد أنّ حجج اللَّه تعالى بعد رسوله الذين هم خلفاؤه، وحفظة شرعه، وأئمّة أُمّته، اثناعشر أهل بيته، أوّلهم أخوه وابن عمّه، وصهره، بعل فاطمة الزهراء ابنته، ووصيّه على أُمّته، عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين، ثمّ الحسن بن عليّ الزكي، ثمّ الحسين بن عليّ الشهيد، ثمّ عليّ بن الحسين زين العابدين، ثمّ محمّد بن عليّ باقر العلوم، ثمّ جعفر بن محمّد الصادق، ثمّ موسى بن جعفر الكاظم، ثمّ عليّ بن موسى الرضا، ثمّ محمّد بن عليّ التقي، ثمّ عليّ بن محمّد المنتجب، ثمّ الحسن بن عليّ الهادى، ثمّ الخلف الصالح بن الحسن المهدي-صلوات اللَّه عليهم أجمعين-.
ص:362
لا إمامة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلّالهم عليهم السلام ولا يجوز الاقتداء في الدين إلّابهم، ولا أخذ معالم الدين إلّاعنهم.
وأنّهم في كمال العلم والعصمة من الآثام نظير الأنبياء عليهم السلام.
وأنّهم أفضل الخلق بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
وأنّ إمامتهم منصوص عليها من قبل اللَّه على اليقين والبيان.
وأنّه سبحانه أظهر على أيديهم الآيات، وأعلمهم كثيراً من الغائبات، والأُمور المستقبلات، ولم يعطهم من ذلك إلّاما قارن وجهاً يعلمه من اللطف والصلاح.
وليسوا عارفين بجميع الضمائر والغائبات على الدوام، ولا يحيطون بالعلم بكلّ ما علمه اللَّه تعالى.
والآيات التي تظهر على أيديهم هي فعل اللَّه دونهم، أكرمهم بها، ولاصنع لهم فيها.
وأنّهم بشر محدَثون، وعباد مصنوعون، لا يخلُقون، ولا يرزُقون، ويأكلون ويشربون، وتكون لهم الأزواج، وتنالهم الآلام والأعلال، ويستضامون، ويَخافون فيتّقون، وأنّ منهم من قتل، ومنهم من قبض.
وأنّ إمام هذا الزمان هو المهدي ابن الحسن الهادي، وأنّه الحجّة على العالمين، وخاتم الأئمّة الطاهرين، لا إمامة لأحد بعد إمامته، ولا دولة بعد دولته، وأنّه غائب عن رعيته، غيبة اضطرار وخوف من أهل الضلال، وللمعلوم عند اللَّه تعالى في ذلك الصلاح.
ويجوز أن يعرّف نفسه في زمن الغيبة لبعض الناس، وأنّ اللَّه عزّ وجلّ سيظهره وقت مشيئته، ويجعل له الأعوان والأصحاب، فيمهّد الدين به، ويطهّر الأرض
ص:363
على يديه، ويهلك أهل الضلال، ويقيم عمود الإسلام، ويصير الدين كلّه للَّه.
وأنّ اللَّه عزّ وجلّ يظهر على يديه عند ظهوره الأعلام، وتأتيه المعجزات بخرق العادات، ويحيي له بعض الأموات، فإذا قام في الناس المدّة المعلومة عند اللَّه سبحانه قبضه إليه، ثمّ لا يمتدّ بعده الزمان، ولا تتّصل الأيام حتّى تكون شرائط الساعة، وإماتة من بقي من الناس، ثمّ يكون المعاد بعد ذلك.
ويعتقد أنّ أفضل الأئمّة عليهم السلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وأنّه لا يجوز أن يسمّى بأمير المؤمنين أحد سواه.
وأنّ بقيّة الأئمّة-صلوات اللَّه عليهم- يقال لهم: الأئمّة، والخلفاء، والأوصياء، والحجج، وإن كانوا في الحقيقة أُمراء المؤمنين؛ فإنّهم لم يمنعوا من هذا الاسم لأجل معناه، لأنّه حاصل لهم على الاستحقاق، وإنّما منعوا من لفظه حشمة لأمير المؤمنين عليه السلام.
وأنّ أفضل الأئمّة بعد أمير المؤمنين، ولده الحسن، ثمّ الحسين، وأفضل الباقين بعد الحسين، إمام الزمان المهدي-صلوات اللَّه عليه- ثمّ بقية الأئمّة بعده على ما جاء به الأثر وثبت في النظر.
وأنّ المهدي عليه السلام هو الذي قال فيه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:
«لو لم يبق من الدنيا إلّايوم واحد، لطوّل اللَّه تعالى ذلك اليوم حتّى يظهر فيه رجل من ولدي يواطئ اسمه اسمي، يملأها عدلًا وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً» «(1)
ص:364
فاسمه يواطئ اسم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وكنيته تواطئ كنيته، غير أنّ النهي قد ورد عن اللفظ، فلا يجوز أن يتجاوز في القول أنّه المهدي، والمنتظر، والقائم بالحق، والخلف الصالح، وإمام الزمان، وحجّة اللَّه على الخلق.
ويجب أن يعتقد أنّ اللَّه فرض معرفة الأئمّة عليهم السلام بأجمعهم، وطاعتهم، وموالاتهم، والاقتداء بهم، والبراءة من أعدائهم وظالميهم... وأنّه لا يتم الإيمان إلّا بموالاة أولياء اللَّه، ومعاداة أعدائه.
ويعتقد أنّ اللَّه يزيد وينقص إذا شاء في الأرزاق والآجال.
وأنّه لم يرزق العبد إلّاما كان حلالًا طيّباً.
ويعتقد أنّ باب التوبة مفتوح لمن طلبها، وهي الندم على ما مضى من المعصية، والعزم على ترك المعاودة إلى مثلها.
وأنّ التوبة ماحية لما قبلها من المعصية التي تاب العبد منها.
وتجوز التوبة من زلّة إذا كان التائب منها مقيماً على زلّةغيرها لا تشبهها، ويكون له الأجر على التوبة، وعليه وزر ما هو مقيم عليه من الزلّة.
وأنّ اللَّه يقبل التوبة بفضله وكرمه، وليس ذلك لوجوب قبولها في العقل قبل الوعد، وإنّما علم بالسمع دون غيره.
ويجب أن يعتقد أنّ اللَّه سبحانه، يميت العباد ويحييهم بعد الممات ليوم المعاد.
وأنّ المحاسبة حقّ والقصاص، وكذلك الجنّة والنار والعقاب.
ص:365
وأنّ مرتكبي المعاصي من العارفين باللَّه ورسوله، والأئمّة الطاهرين، المعتقدين لتحريمها مع ارتكابها، المسوّفين التوبة منها، عصاة فسّاق، وأنّ ذلك لا يسلبهم اسم الإيمان كما لم يسلبهم اسم الإسلام «(1)».
وأنّهم يستحقّون العقاب على معاصيهم، والثواب على معرفتهم باللَّه تعالى، ورسوله، والأئمّة من بعدهصلى الله عليه و آله، وما بعد ذلك من طاعتهم، وأمرهم مردود إلى خالقهم، وإن عفا عنهم فبفضله ورحمته، وإن عاقبهم فبعدله وحكمته، قال اللَّه سبحانه: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّه إمّا يُعَذِّبَهُمْ وَإمّا يَتُوب عَلَيْهِمْ «(2)»
وأنّ عقوبة هؤلاء العصاة إذا شاءها اللَّه تعالى لا تكون مؤبّدة، ولها آخر، يكون بعده دخولهم الجنّة، وليس من جملة من توجّه إليهم الوعيد بالتخليد، والعفو من اللَّه تعالى يرجى للعصاة المؤمنين.
وقد غلطت المعتزلة فسمّت من يرجو العفو مرجئاً، وانّما يجب أن يسمّى راجياً، ولا طريق إلى القطع على العفو، وإنّما هو الرجاء فقط.
ويعتقد أنّ لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله والأئمّة من بعده عليهم السلام شفاعة مقبولة يوم القيامة، ترجى للمؤمنين من مرتكبي الآثام.
ولا يجوز أن يقطع الإنسان على أنّه مشفوع فيه على كلّ حال، ولا سبيل له إلى العلم بحقيقة هذه الحال، وإنّما يجب أن يكون المؤمن واقفاً بين الخوف والرجاء.
ص:366
ويعتقد أنّ المؤمنين الذين مضوا من الدنيا وهم غير عاصين، يؤمر بهم يوم القيامة إلى الجنّة بغير حساب.
وأنّ جميع الكفّار والمشركين، ومن لم تصحّ له الأُصول من المؤمنين يؤمر بهم يوم القيامة إلى الجحيم بغير حساب، وإنّما يحاسب من خلط عملًاصالحاً وآخر سيّئاً، وهم العارفون العصاة.
وأنّ أنبياء اللَّه تعالى وحججه عليهم السلام هم في القيامة المسؤولون للحساب بإذن اللَّه تعالى، وأنّ حجّة أهل كلّ زمان يتولّى أمر رعيّته الذين كانوا في وقته.
وأنّ سيّدنا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله والأئمّة الاثني عشر من بعده عليهم السلام هم أصحاب الأعراف الذين هم لا يدخل الجنّة إلّامن عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلّامن أنكرهم وأنكروه.
وأنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يحاسب أهل وقته وعصره، وكذلك كل إمام بعده.
وأنّ المهدي عليه السلام هو المواقِف لأهل زمانه، والمسائل للذين في وقته.
وأنّ الموازين (التي) توضع في القيامة، هي إقامة العدل في الحساب، والإنصاف في الحكم والمجازاة، وليست في الحقيقة موازين بكفّات وخيوط كما يظنّ العوامّ.
وأنّ الصراط المستقيم في الدنيا دين محمّد وآل محمّد- عليه وعليهم السّلام- وهو في الآخرة طريق الجنان.
وأنّ الأطفال والمجانين والبله من الناس، يتفضّل عليهم في القيامة بأن تكمل عقولهم، ويدخلون الجنان.
وأنّ نعيم أهل الجنّة متّصل أبداً بغير نفاد، وأنّ عذاب المشركين والكفّار متّصل في النار بغير نفاد.
ويجب أن تؤخذ معالم الدين في الغَيبة من أدلّة العقل، وكتاب اللَّه عزّ وجلّ،
ص:367
والأخبار المتواترة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعن الأئمّة عليهم السلام «(1)» وما أجمعت عليه الطائفة الإمامية، وإجماعها حجّة.
فأمّا عند ظهور الإمام عليه السلام فإنّه المفزع عند المشكلات، وهو المنبّه على العقليات، والمعرّف بالسمعيات، كما كان النبيّصلى الله عليه و آله.
ولا يجوز استخراج الأحكام في السمعيات بقياس ولا اجتهاد «(2)».
أمّا العقليات فيدخلها القياس والاجتهاد، ويجب على العاقل مع هذا كلّه ألّا يقنع بالتقليد في الاعتقاد، وأن يسلك طريق التأمّل والاعتبار، ولا يكون نظره لنفسه في دينه أقلّ من نظره لنفسه في دنياه؛ فإنّه في أُمور الدنيا يحتاط ويحترز، ويفكّر ويتأمّل، ويعتبر بذهنه، ويستدلّ بعقله، فيجب أن يكون في أمر دينه على أضعاف هذه الحال، فالغرر في أمر الدين أعظم من الغرر في أمر الدنيا.
فيجب أن لا يعتقد في العقليات إلّاماصحّ عنده حقّه، ولا يسلّم في السمعيات إلّا لمن ثبت لهصدقه.
نسأل اللَّه حسن التوفيق برحمته، وألّا يحرمنا ثواب المجتهدين في طاعته.
ص:368
قد أثبتُّ لك يا أخي- أيّدك اللَّه- ما سألت، اقتصرت وما أطلت.
والذي ذكرت أصل لما تركت، والحمد للَّه وصلواته على سيّدنا محمّد وآله وسلّم «(1)».
الشيخ الطوسي رحمه الله غنيّ عن التعريف، فهو شيخ الطائفة على الإطلاق وكان قد أخذ على يد المفيد والمرتضى، وقد ورد بغداد عام (408 ه) وحضر في أندية دروس أُستاذه المفيد، فلمّا لبّى الأُستاذ دعوة ربّه حضر لدى المرتضى إلى أن اشتغل بالتدريس والإفتاء في عصره وبعده، وله رسائل وكتب كلامية قيّمة مفعمة بالتحقيق، ونحن نورد هنا جانباً مختصراً عمّا دوّنه في عقائد الشيعة في المسائل الآتية:
«المسألة 1» معرفة اللَّه واجبة على كلّ مكلّف، بدليل أنّه منعم فيجب معرفته.
«المسألة 2» اللَّه تعالى موجود، بدليل أنّهصنع العالم، وأعطاه الوجود، وكلّ من كان كذلك فهو موجود.
«المسألة 3» اللَّه تعالى واجب الوجود لذاته، بمعنى أنّه لا يفتقر في وجوده إلى غيره، ولا يجوز عليه العدم، بدليل أنّه لو كان ممكناً لافتقر إلىصانع، كافتقار هذا العالم، وذلك محال على المنعم المعبود.
«المسألة 4» اللَّه تعالى قديم أزلي، بمعنى أنّ وجوده لم يسبقه العدم. باقٍ أبديّ، بمعنى أنّ وجوده لن يلحقه العدم.
«المسألة 5» اللَّه تعالى قادر مختار، بمعنى أنّه إن شاء أن يفعل فعل، وإن شاء أن
ص:369
يترك ترك، بدليل أنّه صنع العالم في وقت دون آخر.
«المسألة 6» اللَّه تعالى قادر على كلّ مقدور، وعالم بكلّ معلوم، بدليل أنّ نسبة جميع المقدورات والمعلومات إلى ذاته المقدسة المنزّهة على السويّة، فاختصاص قدرته تعالى وعلمه ببعض دون بعض ترجيح بلا مرجّح، وهو محال.
«المسألة 7» اللَّه تعالى عالم، بمعنى أنّ الأشياء منكشفة واضحة له، حاضرة عنده غير غائبة عنه، بدليل أنّه تعالى فعل الأفعال المحكمة المتقنة، وكلّ من فعل ذلك فهو عالم بالضرورة.
«المسألة 8» اللَّه تعالى يدرك لا بجارحة، بل بمعنى أنّه يعلم ما يُدرَك بالحواسّ، لأنّه منزّه عن الجسم ولوازمه، بدليل قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ وَهُوَ يُدْرِك الأبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبيرُ «(1)»
فمعنى قوله تعالى: إنَّهُ هُوَ السَّميعُ البَصيرُ «(2)»
أنّه عالم بالمسموعات لا بإذن، وبالمبصرات لا بعين.
«المسألة 9» اللَّه تعالى حيّ، بمعنى أنّه يصحّ منه أن يقدر ويعلم، بدليل أنّه ثبتت له القدرة والعلم وكلّ من ثبتت له ذلك فهو حيّ بالضرورة.
«المسألة 10» اللَّه تعالى متكلّم لا بجارحة، بل بمعني أنّه أوجد الكلام في جرم من الأجرام، أو جسم من الأجسام، لإيصال عظمته إلى الخلق، بدليل قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّه مُوسى تَكْلِيماً «(3)»
ولأنّه قادر، فالكلام ممكن.
«المسألة 11» اللَّه تعالىصادق، بمعنى أنّه لا يقول إلّاالحقّ الواقع، بدليل أنّ كلّ كذب قبيح، واللَّه تعالى منزّه عن القبيح.
«المسألة 12» اللَّه تعالى مريد، بمعنى أنّه رجح الفعل إذا علم المصلحة (يعني أنّه
ص:370
غير مضطر وأنّ إرادته غير واقعة تحت إرادة أُخرى، بل هي الإرادة العليا التي إن رأىصلاحاً فعل، وإن رأى فساداً لم يفعل، باختيار منه تعالى) بدليل أنّه ترك إيجاد بعض الموجودات في وقت دون وقت، مع علمه وقدرته- على كلّ حال- بالسويّة. ولأنّه نهى، وهو يدلّ على الكراهة.
«المسألة 13» أنّه تعالى واحد، بمعنى أنّه لا شريك له في الأُلوهية، بدليل قوله:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «(1)»
ولأنّه لو كان له شريك لوقع التمانع، ففسد النظام، كما قال: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّااللَّه لَفَسَدَتَا «(2)»
.
«المسألة 14» اللَّه تعالى غير مركَّب من شي ء، بدليل أنّه لو كان مركّباً لكان مفتقراً إلى الأجزاء، والمفتقر ممكن.
«المسألة 15» اللَّه تعالى ليس بجسم، ولا عرض، ولا جوهر، بدليل أنّه لو كان أحد هذه الأشياء لكان ممكناً مفتقراً إلىصانع، وهو محال.
«المسألة 16» اللَّه تعالى ليس بمرئي بحاسّة البصر في الدنيا والآخرة، بدليل أنّه تعالى مجرّد، ولأنّ كلّ مرئي لابدّ أن يكون له الجسم والجهة، واللَّه تعالى منزّه عنهما ولأنّه تعالى قال: لَنْ تَرَانِي «(3)»
وقال: لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ «(4)»
.
«المسألة 17» اللَّه تعالى ليس محلًاّ للحوادث، وإلّا لكان حادثاً، وحدوثه محال.
«المسألة 18» اللَّه تعالى لا يتّصف بالحلول، بدليل أنّه يلزم قيام الواجب بالممكن، وذلك محال.
ص:371
«المسألة 19» اللَّه تعالى لا يتّحد بغيره؛ لأنّ الاتّحادصيرورة الشي ء واحداً من غير زيادة ونقصان، وذلك محال، واللَّه لا يتّصف بالمحال.
«المسألة 20» اللَّه تعالى منفيّ عنه المعاني والصفات الزائدة، بمعنى أنّه ليس عالماً بالعلم، ولا قادراً بالقدرة (بل علم كلّه، وقدرة كلّها)، بدليل أنّه لو كان كذلك لزم كونه محلًاّ للحوادث لو كانت حادثة، وتعدّد القدماء لو كانت قديمة، وهما محالان، وأيضاً لزم افتقار الواجب إلىصفاته المغايرة له، فيصير ممكناً، وهو ممتنع.
«المسألة 21» اللَّه تعالى غنيّ، بمعنى أنّه غير محتاج إلى ما عداه، والدليل عليه أنّه واجب الوجود لذاته، فلا يكون مفتقراً.
«المسألة 22» اللَّه تعالى ليس في جهة، ولا مكان، بدليل أنّ كلّ ما في الجهة والمكان مفتقر إليهما، وأيضاً قد ثبت أنّه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، فلا يكون في المكان والجهة.
«المسألة 23» اللَّه تعالى ليس له ولد ولاصاحبة، بدليل أنّه قد ثبت عدم افتقاره إلى غيره، ولأنّ كلّ ما سواه تعالى ممكن، فكيف يصير الممكن واجباً بالذات، ولقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَي ءٌ «(1)»
و: مَثَلَ عِيسى عِندَ اللَّه كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ «(2)»
.
«المسألة 24» اللَّه تعالى عدل حكيم، بمعنى أنّه لا يفعل قبيحاً، ولا يخلّ بالواجب بدليل أنّ فعل القبيح، والإخلال بالواجب نقص عليه، فاللَّه تعالى منزّه عن كلّ قبيح وإخلال بالواجب.
«المسألة 25» الرضا بالقضاء والقدر واجب، وكلّ ما كان أو يكون فهو بالقضاء والقدر ولا يلزم بهما الجبر والظلم؛ لأنّ القدر والقضاء هاهنا بمعنى العلم
ص:372
والبيان، والمعنى أنّه تعالى يعلم كلّ ما هو (كائن أو يكون) «(1)».
«المسألة 26» كلّ ما فعله اللَّه تعالى فهو أصلح، وإلّا لزم العبث، وليس تعالى بعابث؛ لقوله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً «(2)»
.
«المسألة 27» اللّطف على اللَّه واجب؛ لأنّه خَلَق الخلق، وجَعَل فيهم الشهوة، فلو لم يفعل اللطف لزم الإغراء، وذلك قبيح، (واللَّه لا يفعل القبيح) فاللطف هو نصب الأدلّة، وإكمال العقل، وإرسال الرسل في زمانهم، وبعد انقطاعهم إبقاء الإمام؛ لئلّا ينقطع خيط غرضه.
«المسألة 28» نبيّنا محمّد بن عبد اللَّه بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف، رسول اللَّهصلى الله عليه و آله حقّاًصدقاً، بدليل أنّه ادّعى النبوّة وأظهر المعجزات على يده، فثبت أنّه رسول حقّاً، وأكبر المعجزات القرآن الحميد والفرقان المجيد، الفارق بين الحقّ والباطل، باق إلى يوم القيامة، حجّة على كافّة النسمة.
ووجه كونه معجزاً: فرط فصاحته وبلاغته، بحيث ما تمكّن أحد من أهل الفصاحة والبلاغة حيث تُحُدّوا به، أن يأتوا ولو بسورة مصغّرة، أو آية تامّة مثله.
«المسألة 29» كان نبياً على نفسه قبل البعثة، وبعده رسولًا إلى كافة النسمة لأنّه قال: «كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين» وإلّا لزم تفضيل المفضول، وهو قبيح.
«المسألة 30» جميع الأنبياء كانوا معصومين، مطهّرين عن العيوب والذنوب كلّها، وعن السهو والنسيان في الأفعال والأقوال، من أوّل الأعمار إلى اللحد، بدليل أنّهم لو فعلوا المعصية أو يطرأ عليهم السهو لسقط محلُّهم من القلوب، فارتفع الوثوق والاعتماد على أقوالهم وأفعالهم، فتبطل فائدة النبوّة، فما ورد في الكتاب (القرآن) فيهم فهو واجب التأويل.
ص:373
«المسألة 31» يجب أن يكون الأنبياء أعلم وأفضل أهل زمانهم؛ لأنّ تفضيل المفضول قبيح.
«المسألة 32» نبيّنا خاتم النبيين والمرسلين، بمعنى أنّه لا نبيّ بعده إلى يوم القيامة، يقول تعالى: ما كَانَ مُحَمَّداً أَبَا أَحَدٍ مِن رِجَالِكُمْ وَلكِن رَسُولَ اللَّه وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ «(1)»
.
«المسألة 33» نبيّنا أشرف الأنبياء والمرسلين؛ لأنّه ثبتت نبوّته، وأخبر بأفضليته فهو أفضل، لمّا قال لفاطمة عليها السلام: «أبوك خير الأنبياء، وبعلك خير الأوصياء، وأنت سيدة نساء العالمين، وولدك الحسن والحسين عليهما السلام سيّدا شباب أهل الجنّة، وأبوهما خير منهما» «(2)».
«المسألة 34» معراج الرسول بالجسم العنصري علانية، غير منام، حقّ، والأخبار عليه بالتواتر ناطقة،صريحة، فمنكره خارج عن الإسلام، وأنّه مرّ بالأفلاك من أبوابها من دون حاجة إلى الخرق والالتيام، وهذه الشبهة الواهية مدفوعة مسطورة بمحالّها.
«المسألة 35» دين نبيّنا ناسخ للأديان السابقة؛ لأنّ المصالح تتبدّل حسب الزمان والأشخاص كما تتبدّل المعالجات لمريض بحسب تبدّل المزاج والمرض.
«المسألة 36» الإمام بعد نبيّنا عليُّ بن أبي طالب عليه السلام بدليل قولهصلى الله عليه و آله: «يا علي أنت أخي ووارث علمي وأنت الخليفة من بعدي، وأنت قاضي ديني، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبيّ بعدي» «(3)»، وقوله: «سلّموا على عليّ
ص:374
بإمرة المؤمنين، واسمعوا له وأطيعوا له، وتَعَلّموا منه ولا تُعَلّموه» «(1)»، وقوله:
«من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه» «(2)».
«المسألة 37» الأئمّة بعد عليّ عليه السلام أحد عشر من ذرّيته: الأوّل منهم ولده الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ عليّ بن الحسين، ثمّ محمّد بن عليّ، ثمّ جعفر بن محمّد الصادق، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ عليّ بن موسى، ثمّ محمّد بن عليّ، ثمّ عليّ بن محمّد، ثمّ الحسن بن عليّ، ثمّ الخلف الحجّة القائم المهدي الهادي ابن الحسنصاحب الزمان، فكلّهم أئمّة الناس واحد بعد واحد، حقّاً، بدليل أنّ كل إمام منهم نصّ على من بعده نصّاً متواتراً بالخلافة، وقوله: «الحسين إمام، ابن إمام، أخو إمام، أبو الأئمّة التسعة، تاسعهم قائمهم، يملأ الأرض قسطاً وعدلًا كما ملئت ظلماً وجوراً».
«المسألة 38» يجب أن يكون الأئمّة معصومين مطهّرين من الذنوب كلّها،صغيرة وكبيرة عمداً وسهواً، ومن السهو في الأفعال والأقوال، بدليل أنّه لو فعلوا المعصية لسقط محلّهم من القلوب، وارتفع الوثوق، وكيف يهدون بالضالّين المضلّين، ولا معصوم غير الأئمّة الاثني عشر إجماعاً، فثبت إمامتهم.
«المسألة 39» يجب أن يكون الأئمّة أفضل وأعلم، ولو لم يكونوا كذلك للزم تفضيل المفضول، أو الترجيح بلا مرجّح، ولا يحصل الانقياد به، وذلك قبيح عقلًا ونقلًا، وفضل أئمّتنا وعلمهم مشهور، بل أفضليتهم أظهر من الشمس وأبين من الأمس.
«المسألة 40» يجب أن نعتقد أنّ آباء نبيّنا وأئمّتنا مسلمون أبداً، بل أكثرهم كانوا أوصياء، فالأخبار عند أهل البيت على إسلام أبي طالب مقطوعة، وسيرته
ص:375
تدل عليه، ومثله مثل مؤمن آل فرعون.
«المسألة 41» الإمام المهدي المنتظر محمّد بن الحسن قد تولّد في زمان أبيه، وهو غائب حيّ باق إلى بقاء الدنيا؛ لأنّ كلّ زمان لابدّ فيه من إمام معصوم لما انعقد عليه إجماع الأُمّة على أنّه لا يخلو زمان من حجّة ظاهرة مشهورة أو خافية مستورة، ولأنّ اللطف في كلّ زمان واجب، والإمام لطف، فوجوده واجب.
«المسألة 42» لا استبعاد في طول عمره؛ لأنّ غيره من الأُمم السابقة قد عاش ثلاثة آلاف سنة فصاعداً، كشعيب ونوح ولقمان وخضر وعيسى عليهم السلام وإبليس والدجّال، ولأنّ الأمر ممكن، واللَّه قادر على جميع الممكنات.
«المسألة 43» غيبة المهدي لا تكون من قبل نفسه؛ لأنّه معصوم، فلا يخلّ بواجب، ولا من قبل اللَّه تعالى، لأنّه عدل حكيم، فلا يفعل القبيح؛ لأنّ الإخفاء عن الأنظار وحرمان العباد عن الإفادات قبيحان. فغيبته لكثرة العدوّ والكافر، ولقلّة الناصر.
«المسألة 44» لابدّ من ظهور المهدي، بدليل قول النبيصلى الله عليه و آله: «لو لم يبق من الدنيا إلّاساعة واحدة لطوّل اللَّه تلك الساعة حتّى يخرج رجل من ذرّيتي، اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلًا كما ملئت ظلماً وجوراً» «(1)».
ويجب على كلّ مخلوق متابعته.
«المسألة 45» في غيبة الإمام فائدة، كما تنير الشمس تحت السحاب، والمشكاة من وراء الحجاب.
«المسألة 46» إنّ اللَّه يعيد الأجسام الفانية كما هي في الدنيا، ليوصل كلّ حق إلى المستحقين، وذلك أمر ممكن، والأنبياء أخبروا به، لا سيّما القرآن المجيد مشحون به ولا مجال للتأويل، فالاعتقاد بالمعاد الجسماني واجب.
ص:376
«المسألة 47» كلّ ما أخبر به النبيّ أو الإمام فاعتقاده واجب، كإخبارهم عن نبوّة الأنبياء السابقين، والكتب المنزلة، ووجود الملائكة، وأحوال القبر وعذابه وثوابه، وسؤال منكر ونكير، والإحياء فيه، وأحوال القيامة وأهوالها، والنشور، والحساب والميزان، والصراط، وإنطاق الجوارح، ووجود الجنّة والنار، والحوض الذي يسقي منه أمير المؤمنين العطاشى يوم القيامة، وشفاعة النبي والأئمّة لأهل الكبائر من محبّيه، إلى غير ذلك، بدليل أنّه أخبر بذلك المعصومون.
«المسألة 48» التوبة- وهي الندم على القبيح في الماضي، والترك في الحال، والعزم على عدم المعاودة إليه في الاستقبال- واجبة، لدلالة السمع على وجوبها، ولأنّ دفع الضرر واجب عقلًا.
«المسألة 49» الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجبان، بشرط تجويز التأثير والأمن من الضرر «(1)».
1- إنّ هذه الرسائل تدلّ بوضوح لا يقبل الشكّ أنّ جلّ عقائد الشيعة تمتد جذورها الحقيقية في كتاب اللَّه المنزل وسنّة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وما جاء عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام وأنّصورة هذه العقائد كانت تبدو واضحة المعالم ومستوعبة لجميع الجوانب المرتبطة بالمعارف الإلهية.
2- تنبثّ في ثنايا هذه الرسائل آراء خاصّة لمؤلّفيها، ربّما يقع فيها النقاش والجدال والخلاف مع غيرهم من علماء الشيعة، فليس كلّ ما جاء فيها عقيدة
ص:377
لجميع علماء الشيعة ومؤلّفيهم، إلّاأنّ ما يهمّنا من الإشارة إليه هو أنّ هذه الرسائل تمثّل عقائد الشيعة في مجالصفات اللَّه سبحانه وأفعاله، وما يرجع إلى النبوّة والإمامة، والحياة الأُخروية، خصوصاً فيما يرجع إلى الاعتقاد بمقامات الأئمّة وصفاتهم. فمن يريد أن يتعرّف بوضوح على عقائد الشيعة فليرجع إليها.
3- إنّ الإمعان في الأُصول التي جاءت في هذه الكتب والرسائل يعرب عن اتّفاق الشيعة في أكثر مسائلهم العقائدية مع عموم عقائد المسلمين. وإن كانوا يختلفون عنهم في أُصول تختصّ بمجال الإمامة والقيادة بعد الرسول.
وسنحاول في الصفحات اللاحقة أن نستعرض أهمّ الفوارق الجوهرية بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية، والتي لا يمكن أن تكون حدّاً فاصلًا دون التقارب بين هذه المذاهب ونبذ الاختلاف بينها، والذي لن يفيد إلّاأعداء هذا الدين والمتربّصين به، وسنشرع في أوّل بحثنا المقتضب هذا في تحديد الاختلافات التي أشرنا إليها بين الشيعة والمعتزلة، وبين الشيعة والأشاعرة، وذلك لما كانت تؤلّفه هاتان الفرقتان من جبهة واسعة من جمهور المسلمين إبّان تلك العصور السالفة.
إنّ المتأمّل في مجمل عقائد هاتين الفرقتين يمكنه أن يتبيّن بوضوح جوانب الاتفاق والاختلاف فيما بينهما، وهو ما سنحاول أن نشير إليه اختصاراً في نقاط محدّدة واضحة، وإذا كان البعض قد اعتقد جهلًا بأنّ الشيعة قد أخذت عقائدها عن المعتزلة فإنّه يردّ بأكثر من دليل، نحن في غنى عن إيرادها الآن، إلّاأنّه لا ينفى أنّ بين هاتين الطائفتين أُصول مشتركة نذكرها في حينها، وهو ما قد يتّفق مع غير
ص:378
ذلك من فرق المسلمين المختلفة:
1- الشفاعة: أجمع المسلمون كافّة على ثبوت أصل الشفاعة وأنّها تقبل من الرسول الأكرمصلى الله عليه و آله، إلّاأنّهم اختلفوا في تعيين المشفَّع، فقالت الإمامية والأشاعرة:
إنّ النبيّ يشفع لأهل الكبائر بإسقاط العقاب عنهم أو بإخراجهم من النار، وقالت المعتزلة: لا يشفع إلّاللمطيعين، المستحقّين للثواب، وتكون نتيجة الشفاعة ترفيع الدرجة.
2- مرتكب الكبيرة: هو عند الإمامية والأشاعرة مؤمن فاسق، وقالت المعتزلة: بل منزلته بين المنزلتين؛ أي بين الكفر والإيمان.
3- الجنّة والنار: قالت الإمامية والأشاعرة: إنّهما مخلوقتان الآن بدلالة الشرع على ذلك، وأكثر المعتزلة يذهب إلى أنّهما غير موجودتين.
4- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: اتّفق المسلمون على وجوبهما، فقالت الإمامية والأشاعرة: يجبان سمعاً، ولولا النص لم يكن دليل على الوجوب، خلافاً للمعتزلة الذين قالوا: بوجوبهما عقلًا.
5- الإحباط: اتّفقت الإمامية والأشاعرة على بطلان الإحباط، وقالوا: لكلّ عمل حسابه الخاصّ، ولا ترتبط الطاعات بالمعاصي ولا المعاصي بالطاعات، والإحباط يختصّ بذنوب خاصة كالشرك وما يتلوه، بخلاف المعتزلة حيث قالوا:
إنّ المعصية المتأخّرة تسقط الثواب المتقدم، فمن عَبَدَ اللَّه طول عمره ثمّ كذب فهو كمن لم يعبد اللَّه أبداً.
6- الشرع والعقل: تشدّدت المعتزلة في تمسّكهم بالعقل، وتشدّد أهل الظاهر في تمسكهم بظاهر النصّ، وخالفهما الإمامية والأشاعرة، فأعطوا للعقل سهماً فيما له مجال القضاء، نعم أعطت الإمامية للعقل مجالًا أوسع ممّا أعطته الأشاعرة.
وسيوافيك تفصيله عند ذكر اختلاف الإمامية مع الأشاعرة.
ص:379
7- اتفقت الإمامية والأشاعرة على أنّ قبول التوبة بفضل من اللَّه ولا يجب عقلًا إسقاطها للعقاب، وقالت المعتزلة: إنّ التوبة مسقطة للعقاب على وجه الوجوب.
8- اتفقت الإمامية على أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك.
9- اتفقت الإمامية على أنّ الانسان غير مسيّر ولا مفوّض إليه، بل هو في ذلك المجال بين أمرين، بين الجبر والتفويض، وأجمعت المعتزلة على التفويض.
10- اتفقت الإمامية والأشاعرة على أنّه لابدّ في أوّل التكليف وابتدائه من رسول، وخالفت المعتزلة وزعموا أنّ العقول تعمل بمجردها عن السمع.
هذه هي الأُصول التي خالفت الإمامية فيها المعتزلة ووافقت فيها الأشاعرة، وهناك أُصول أُخرى تجد فيها موافقة الإمامية للمعتزلة ومخالفتها للأشاعرة، وإليك بعضها:
هناك أُصول خالفت الإمامية فيها الأشاعرة، مخالفة بالدليل والبرهان وتبعاً لأئمّتهم، ونذكر المهم منها:
1- اتّحاد الصفات الذاتية مع الذات: إنّ للَّه سبحانهصفاتٍ ذاتية كالعلم والقدرة، فهي عند الأشاعرةصفات قديمة مغايرة للذات زائدة عليها، وهي عند الإمامية والمعتزلة متّحدة مع الذات.
2- الصفات الخبرية الواردة في الكتاب والسنّة، كالوجه والأيدي والاستواء وأمثالها، فالشيعة الإمامية يؤوّلونها تأويلًا مقبولًا لا تأويلًا مرفوضاً؛ أي أنّها
ص:380
تأخذ بالمفهوم التصديقي للجملة لا بالمفهوم التصوّري للمفردات، فيقولون: إنّ معنى: بَل يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء «(1)»
معناه: أنّه بري ء من البخل، بل هو باذل وسخيّ، وقادر على البذل. وأمّا الأشاعرة فهم يفسّرونها بالمفهوم التصوّري ويقولون: إنّ للَّه سبحانه يدين، إلّاأنّهم يتهرّبون عن التجسيم والتشبيه بقولهم: بلا كيف.
3- أفعال العباد عند الإماميةصادرة من نفس العباد،صدوراً حقيقياً بلا مجاز أو توسّع، فالإنسان هو الضارب، هو الآكل، هو القاتل، هو المصلّي، هو القارئ وهكذا، وقد قلنا: إنّ استعمال كلمة «الخلق» في أفعال الإنسان استعمال غيرصحيح، فلا يقال: خلقت الأكل والضرب والصوم والصلاة، وإنّما يقال: فعلتها، فالصحيح أن يقال: إنّ الإنسان هو الفاعل لأفعاله بقدرة مكتسبة من اللَّه، وإنّ قدرته المكتسبة هي المؤثّرة بإذن من اللَّه سبحانه.
وأمّا الأشاعرة فذهبوا إلى أنّ أفعال العباد مخلوقة للَّه سبحانه، فليس للإنسان فيهاصنع ولا دور، وليس لقدرته أيّ تأثير في تحقّق الفعل، وأقصى ما عندهم أنّ إرادة الإنسان للعقل تقارن إيجاد اللَّه سبحانه فعله في عالم التكوين والوجود.
إلّا أنّهم وتحاشياً من الذهاب إلى الجبر في تلك الأفعال وبالتالي إقصاء الإنسان عن أفعاله، ومن ثمّ براءته من مسؤوليتها عمدوا إلى ابتداع نظرية الكسب المعقدة فقالوا: إنّ اللَّه هو الخالق والإنسان هو الكاسب، إلّاأنّها نظرية غريبة غير مفهومة، ومليئة بالألغاز التي عجز عن فهمها وإيضاحها حتّى مبتدعوها أنفسهم.
4- إنّ الاستطاعة في الإنسان على فعل من الأفعال تقارنه تارة، وتتقدّم عليه أُخرى؛ فلو أُريد من القدرة العلّة التامّة فهي مقارنة، ولو أُريد العلّة الناقصة فهي
ص:381
متقدّمة، خلافاً للأشاعرة فقد قالوا بالتقارن مطلقاً.
5- رؤية اللَّه بالأبصار في الآخرة: فهي مستحيلة عند الإمامية والمعتزلة، ممكنة عند الأشاعرة.
6- كلامه سبحانه عند الإمامية هو فعله، فهو حادث لا قديم، وهذا خلافاً للأشاعرة: فكلامه عبارة عن الكلام النفسي القائم بذاته، فهو قديم كقدم الذات.
7- التحسين والتقبيح العقليان: ذهبت الإمامية إلى أنّ العقل يدرك حسن بعض الأفعال أو قبحها، بمعنى أنّ نفس الفعل من أي فاعلصدر، سواء أكان الفاعل قديماً أو حادثاً، واجباً أو ممكناً، يتّصف بأحدهما، فيرى مقابلة الإحسان بالإحسان أمراً حسناً، ومقابلته بالإساءة أمراً قبيحاً، ويتلقّاه حكماً مطلقاً سائداً على مرّ الحقب، والأزمان، لا يغيّره شي ء، وهذا خلافاً للأشاعرة؛ فقد عزلوا العقل عن إدراك الحسن والقبيح، وبذلك خالفوا الإمامية والمعتزلة في الفروع المترتّبة عليه.
هذه هي الأُصول التي تخالف فيها الإمامية الأشاعرة، وربّما توافقهم المعتزلة في جميعها أو أكثرها، كلّ ذلك يثبت أنّ للشيعة الإمامية منهجاً كلامياً خاصّاً نابعاً من الكتاب والسنّة، وكلمات العترة الطاهرة والعقل فيما له مجال القضاء، وليست الشيعة متطفّلة في منهجها الكلامي على أيّة من الطائفتين. وأنت إذا وقفت على الكتب الكلامية المؤلّفة في العصور المتقدّمة من عصر فضل بن شاذان (ت 260 ه) إلى عصر شيخنا الطوسي (385- 460 ه) ومن بعده بقليل، تجد منهجاً كلامياً مبرهناً متّزناً واضحاً لا تعقيد فيه ولا غموض، وعلى تلك الأُصول وذلك المنهج درج علماؤهم المتأخّرون في الأجيال التالية، فألّف الشيخ الحلبي (374- 447 ه) «تقريب المعارف» والشيخ سديد الدين الحمصي (ت 600 ه) كتابه «المنقذ من
ص:382
التقليد»، وتوالى بعدهم التأليف على يد الفيلسوف الكبير نصير الدين الطوسي (597- 672 ه) وابن ميثم البحراني (ت 589 ه) في «تقريب المعارف»، وتلميذه العلّامة الحلّي (648- 726 ه) في جملة من المؤلّفات القيّمة. وهكذا... فإنّ كلّ ذلك يكشف عن أنّ الأئمّة طرحوا أُصول العقائد، وغذّوا أصحابهم وتلاميذهم بمعارف سامية، اعتبر الحجر الأساس للمنهج الكلامي الشيعي، وتكامل المنهج من خلال الجدل الكلامي والنقاش العلمي في الظروف المتأخّرة فوصل إلى الذروة والقمّة.
فالناظر في الكتب الكلامية للسيّد الشريف المرتضى ك «الشافي» «(1)» و «الذخيرة» «(2)» يجد منبعاً غنيّاً بالبحوث الكلامية، كما أنّ الناظر في كتب العلّامة الحلّي المختلفة ك «كشف المراد» «(3)» و «نهاية المرام» «(4)» وغيرهما يقف على أفكار سامية أنضجها البحث والنقاش عبر القرون، فبلغت غايتها القصوى.
وقد توالى التأليف في عقائد الشيعة وأُصولهم من العصور الأُولى إلى يومنا هذا، بشكل واسع لا يحصيه إلّامحصي قطرات المطر وحبّات الرمال.
هذا وإنّ الشيعة وإن خالفوا في هذه الأُصول طائفة من الطوائف الإسلامية ووافقوا طوائف أُخرى، ولكن هناك أُصول اتّفق الجميع فيها دون استثناء، وهو ظاهر لمن قرأ ما أثبتناه من الرسائل والكتيبات.
أفما آن للمسلمين أن يتّحدوا في ظلّ هذه الأُصول المؤلّفة لقلوبهم، ويستظلّوا بظلالها، ويتمسّكوا بالعروة الوثقى، ويكون شعارهم: إنّما المؤمنون إخوة
ص:383
فأَصلِحوا بينَ أخويكم ولا يصغوا إلى النعرات المفرّقة، المفترية على الشيعة وأئمّتهم، وليكن شعارنا في التأليف: التحقيق والتأكّد من عقائد الآخرين، ثمّ التدوين.
إذا تعرّفت على الفوارق الموجودة بين الشيعة وبعض طوائف المسلمين، فهلمّ معي إلى الفوارق الجوهرية بينهم وبين سائر الطوائف التيصيّرتهم إلى فرقتين متمايزتين، وأكثرها يرجع إلى مسألة القيادة والخلافة بعد الرسول الأكرمصلى الله عليه و آله، فنأخذ بالبحث عنها على وجه الإجمال.
ص:384
المسألة الأُولى: وجوب تنصيب الإمام على اللَّه سبحانه
تتّفق جميع الفرق الإسلامية على وجوب نصب الإمام، سوى العجاردة من الخوارج، ومنهم حاتم الأصمّ أحد شيوخ المعتزلة (ت 237) «(1)» قد شذّوا عن ذلك، واعتقاد المسلمين بذلك يفترق إلى مذهبين اثنين في ماهيّة هذا الوجوب، فالشيعة يذهبون إلى وجوبه على اللَّه تعالى، وباقي الفرق على الأُمّة؛ فوجوب نصب الإمام لا خلاف فيه بين المسلمين، وإنّما الكلام في تعيين من يجب عليه ذلك.
وليس المراد من وجوبه على اللَّه سبحانه، هو إصدار الحكم من العباد على اللَّه سبحانه، حتّى يقال: إنِ الحُكْمُ إلّاللَّه «(2)»
بل المراد كما ذكرنا غير مرّة: أنّ العقل- حسب التعرّف علىصفاته سبحانه، من كونه حكيماً غير عابث- يكشف عن كون مقتضى الحكمة هو لزوم النصب أو عدمه، وإلّا فالعباد أقصر من أن
ص:385
يكونوا حاكمين على اللَّه سبحانه.
ثمّ إنّ اختلاف المسلمين في كون النصب فرضاً على اللَّه أو على الأُمّة ينجم عن اختلافهم في حقيقة الخلافة والإمامة عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله. فمن ينظر إلى الإمام بوصفه رئيس دولة ليس له وظيفة إلّاتأمين الطرق والسبل، وتوفير الأرزاق، وإجراء الحدود، والجهاد في سبيل اللَّه، إلى غير ذلك ممّا يقوم به رؤساء الدول بأشكالها المختلفة، فقد قال بوجوب نصبه على الأُمّة؛ إذ لا يشترط فيه من المواصفات إلّاالكفاءة والمقدرة على تدبير الأُمور، وهذا ما يمكن أن تقوم به الأُمّة الإسلامية.
وأمّا على القول بأنّ الإمامة استمرار لوظائف الرسالة (لا لنفس الرسالة فإنّ الرسالة والنبوّة مختومتان بالتحاق النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله بالرفيق الأعلى) فمن المتّفق عليه أنّ تعهّد هذا الأمر يتوقّف على توفّرصلاحيات عالية لا ينالها الفرد إلّاإذا حظي بعناية إلهية خاصّة، فيخلف النبيّ في علمه بالأُصول والفروع، وفي سدّ جميع الفراغات الحاصلة بموته، ومن المعلوم أنّ هذا الأمر لا تتعرّف عليه الأُمّة إلّاعن طريق الرسول، ولا يتوفّر وجوده إلّابتربية غيبيَّة وعناية سماوية خاصّة.
وهكذا فلا يخفى أنّ كون القيادة الإسلامية بعد النبيّصلى الله عليه و آله بيد اللَّه أو بيد الأُمّة، أو أنّ التعيين هل هو واجب عليه سبحانه أو عليهم، ينجم عن الاختلاف في تفسير ماهية الخلافة.
فمن جعلها سياسة زمنية وقتية يشغلها فرد من الأُمّة بأحد الطرق، قال في حقّه: «لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه، وترك طاعته في شي ء ممّا يدعو إليه من معاصي اللَّه» «(1)».
ص:386
ومن قال: بأنّ الإمام بعد الرسول أشبه برئيس الدولة أو أحد الحكام، وتنتخبه الأُمّة الإسلامية، قال في حقّه: «ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أُمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة اللَّه فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة. والحجّ والجهاد ماضيان مع أُولي الأمر من المسلمين، برّهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة، ولا يبطلهما شي ء، ولا ينقضهما» «(1)».
وقد درج على هذه الفكرة متكلّمو السنّة ومحدّثوهم، حتّى قال التفتازاني:
«ولا ينعزل الإمام بالفسق، أو بالخروج عن طاعة اللَّه تعالى، والجور (الظلم على عباد اللَّه) لأنّه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمّة والأُمراء بعد الخلفاء الراشدين، والسلف كانوا ينقادون لهم، ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم، ولا يرون الخروج عليهم، ونقل عن كتب الشافعية: أنّ القاضي ينعزل بالفسق بخلاف الإمام، والفرق أنّ في انعزاله ووجوب نصب غيره إثارة الفتنة؛ لما له من الشوكة؛ بخلاف القاضي» «(2)».
أمّا من فسّر الإمامة بأنّها عبارة عن إمرة إلهية واستمرار لوظائف النبوّة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهي، فلا مناص له عن القول بوجوب نصبه على اللَّه سبحانه.
وقد استدلّت الإمامية على وجوب نصب الإمام على اللَّه سبحانه: بأنّ وجود الإمام الذي اختاره اللَّه سبحانه، مقرّب من الطاعات، ومبعد عن المعاصي، وقد
ص:387
أوضحوه في كتبهم الكلامية. والمراد من اللطف المقرّب هنا ما عرفت من أنّ رحلة النبي الأكرم تترك فراغات هائلة بين الأُمّة في مجالي العقيدة والشريعة، كما تترك جدالًا ونزاعاً عنيفاً بين الأُمّة في تعيين الإمام. فالواجب على اللَّه سبحانه من باب اللطف هو سدّ هذه الفراغات بنصب من هوصنو النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله في علمه بالعقيدة والشريعة، وفي العدالة والعصمة، والتدبير والحنكة، وحسم مادة النزاع المشتعل برحلة الرسولصلى الله عليه و آله، ولمّ شعث الأُمّة، وجمعهم على خطّ واحد.
والغريب أنّ المعتزلة الذين يذهبون إلى وجوب اللطف والأصلح على اللَّه سبحانه، يشذّون في هذا المقام عن معتقدهم هذا، مع العلم بأنّ هذا المورد من جزئياته، والذي منعهم عن الالتزام بالقاعدة في المقام بأنّهم لو قالوا بها في هذه المسألة لزمهم أن يقولوا بعدمصحّة خلافة الخلفاء المتقدّمين على عليّ؛ لأنّ قاعدة اللطف تقتضي أن يكون الخليفة منصوصاً عليه من اللَّه سبحانه.
ثمّ إنّك قد تعرّفت على أنّ الرسول الأكرمصلى الله عليه و آله- و بوحي من اللَّه سبحانه- قام بتطبيق القاعدة، ونصب إماماً للأُمّة؛ ليقود أمرهم ويسدّ جميع الفراغات الحاصلة بلحوقه بالرفيق الأعلى، وبذلك حسم مادة النزاع، وقطع الطريق على المشاغبين، ولكنّه- وللأسف- تناست الأُمّة وصيّة الرسولصلى الله عليه و آله وأمره، فانقسموا إلى طوائف وأحزاب، وقامت بينهم المعارك والحروب التي أُريقت فيها الدماء، واستبيحت بسببها الأعراض، وتبدّلت نتيجة لذلك المفاهيم، واختلفت القيم، واستثمر أعداء الدين هذه الاختلافات بين المسلمين فعمدوا إلى زيادة الهوّة بينهم وكرّسوا لذلك أقصى جهودهم حتّى أصبح التقريب فضلًا عن الوحدة أمراً متعسّراً على المفكّرين، نسأل اللَّه سبحانه أن يسدّ تلك الفجوة العميقة بإيقاظ شعور علماء الأُمّة ومصلحيهم في المستقبل القريب إن شاء اللَّه تعالى.
ص:388
المسألة الثانية: عصمة الإمام
تفرّدت الإمامية من بين الفرق الإسلامية بإيجابها عصمة الإمام من الذنب والخطأ، مع اتّفاق غيرهم على عدمها.
قال الشيخ المفيد: إنّ الأئمّة معصومون كعصمة الأنبياء، ولا تجوز عليهمصغيرة إلّاما قدّم ذكر جوازه على الأنبياء، ولا ينسون شيئاً من الأحكام، ولا يدخل في مفهوم العصمة سلب القدرة عن المعاصي، ولا كون المعصوم مضطرّاً إلى فعل الطاعات؛ فإنّ ذلك يستدعي بطلان الثواب والعقاب.
هذه هي عقيدة الإمامية في الإمامة، و قداستدلّوا عليها بوجوه من العقل والسمع.
أمّا العقل فقالوا: إنّ الإمام منفّذ لما جاء به الرسول، وحافظ للشرع، وقائم بمهام الرّسول كلّها، فلو جاز عليه الخطأ والكذب، لا يحصل الغرض من إمامته.
العصمة قوّة تمنعصاحبها من الوقوع في المعصية والخطأ، حيث لا يترك واجباً، ولا يفعل محرّماً، مع قدرته على الترك والفعل، وإلّا لم يستحقّ مدحاً ولا
ص:389
ثواباً، وإن شئت قلت: إنّ المعصوم قد بلغ من التقوى حدّاً لا تتغلّب عليه الشهوات والأهواء، وبلغ من العلم في الشريعة وأحكامها مرتبة لا يخطأ معها أبداً.
وليست العصمة فكرة ابتدعتها الشيعة، وإنّما دلّهم عليها في حقّ العترة الطاهرة كتاب اللَّه وسنّة رسوله، قال سبحانه: إنَّما يُريدُ اللَّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» «(1)»
وليس المراد من الرجس إلّاالرجس المعنوي، وأظهره هو الفسق.
وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «علي مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه كيفما دار» «(2)»
ومن دار معه الحقّ كيفما دار محال أن يعصي أو أن يخطأ، وقولهصلى الله عليه و آله في حقّ العترة:
«إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللَّه وعترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً» «(3)»
فإذا كانت العترة عدل القرآن والقرآن هو كلام اللَّه تعالى، فمن المنطقي أن تكون معصومة كالكتاب، لا يخالف أحدهما الآخر.
وإذا توضّحت الصورة الحقيقية لتبلور عقيدة العصمة عند الشيعة، وإنّ منشأها هو الكتاب والسنّة، فإنّ هذا الوضوح لم يتحسّسه البعض، بل ولم يكلّف نفسه عناء التثبّت من حقيقة مدّعياته وتصوّراته، حيث يقول:
«إنّ عقيدة العصمة تسرّبت إلى الشيعة من الفرس الذين نشأوا على تقديس الحاكم، لهذا أطلق عليها العرب النزعة الكسروية، ولا أعرف أحداً من العرب قال ذلك في حدود اطّلاعي، ولعلّ غالبية الشيعة كانت ترمي من وراء هذه الفكرة إلى تنزيه عليّ من الخطأ حتّى يتضح للملأ عدوان بني أُمية في اغتصاب الخلافة.
ص:390
هذا وفي اليهودية كثير من المذاهب التي تسرَّبت إلى الشيعة» «(1)».
هكذا ودون أيّ دليل وبيّنة متناسياً أنّ جميع المسلمين يذهبون إلى عصمة النبيّصلى الله عليه و آله ولا يختلف في ذلك أحد، فهل إنّ هذه الفكرة تسرّبت إلى أهل السنّة من اليهود؟! أو أنّ المسلمين أرادوا بذلك إيضاح عداوة قريش للنبيّصلى الله عليه و آله؟ أو غير ذلك من التخرصات الباطلة؟!!
لا واللَّه إنّها عقيدة إسلامية واقتبسها القوم من الكتاب والسنّة من دون أخذ من اليهود والفرس، فما ذكره الكاتب تخرُّص بالغيب، بل فرية واضحة.
إنّ الاختلاف في لزوم توصيف الإمام وعدمه، ينشأ من الاختلاف في تفسير الإمامة بعد الرسول وماهيتها وحقيقتها كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، فمن تلقّى الإمامة- بعد الرسول- بأنّها مقام عرفي لتأمين السبل، وتعمير البلاد، وإجراء الحدود، فشأنه شأن سائر الحكّام العرفيّين. وأمّا من رأى الإمامة بأنّها استمرار لتحقيق وظيفة الرسالة، وأنّ الإمام ليس نبيّاً ولا يوحى إليه، لكنّه مكلّف بمل ء الفراغات الحاصلة برحلة النبيّصلى الله عليه و آله، فلا محيص له عن الالتزام بها؛ لأنّ الغاية المنشودة لا تحصل بلا تسديد إلهي كما سيوافيك، نعم إنّ أهل السنّة يتحرَّجون من توصيف الإمام بالعصمة، ويتصوّرون أنّ ذلك يلازم النبوّة، وما هذا إلّاأنّهم لا يفرّقون بين الإمامتين، وأنّ لكلٍّ معطياته. والتفصيل موكول إلى محلّه.
يمكن الاستدلال على لزوم العصمة في الإمام بوجوه متعدّدة نورد أهمها:
الأوّل: إنّ الإمامة إذا كانت استمراراً لوظيفة النبوّة والرسالة، وكان الإمام
ص:391
يملأ جميع الفراغات الحاصلة جرّاء رحلة النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله، فلا مناص من لزوم عصمته، وذلك لأنّ تجويز المعصية يتنافى مع الغاية التي لأجلها نصبه اللَّه سبحانه إماماً للأُمّة؛ فإنّ الغاية هي هداية الأُمّة إلى الطريق المهيع، ولا يحصل ذلك إلّا بالوثوق بقوله، والاطمئنان بصحّة كلامه، فإذا جاز على الإمام الخطأ والنسيان، والمعصية والخلاف، لم يحصل الوثوق بأفعاله وأقواله، وضعفت ثقة الناس به، فتنتفي الغاية من نصبه، وهذا نفس الدليل الذي استدلّ به المتكلّمون على عصمة الأنبياء، والإمام وإن لم يكن رسولًا ولا نبيّاً ولكنّه قائم بوظائفهما.
نعم لو كانت وظيفة الإمام مقتصرة على تأمين السبل وغزو العدو والانتصاف للمظلوم وما أشبه ذلك، لكفى فيه كونه رجلًا عادلًا قائماً بالوظائف الدينية، وأمّا إذا كانت وظيفته أوسع من ذلك- كما هو الحال في مورد النبيّصلى الله عليه و آله- فكون الإمام عادلًا قائماً بالوظائف الدينية، غير كاف في تحقيق الهدف المنشود من نصب الإمام.
فقد كان النبي الأكرمصلى الله عليه و آله يفسّر القرآن الكريم ويشرح مقاصده وأهدافه ويبيّن أسراره، كما كان يجيب على الأسئلة في مجال الموضوعات المستحدثة، وكان يردّ على الشبهات والتشكيكات التي كان يلقيها أعداء الإسلام، وكان يصون الدين من محاولات التحريف والتغيير، وكان يربّي المسلمين ويهذّبهم ويدفعهم نحو التكامل.
فالفراغات الحاصلة من رحلة النبي الأكرمصلى الله عليه و آله لا تسدّ إلّابوجود إنسان مثالي يقوم بتلك الواجبات، وهو فرع كونه معصوماً عن الخطأ والعصيان «(1)».
الثاني: قوله سبحانه: أطِيعُوا اللَّه وأطيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنكُمْ» «(2)».
والاستدلال مبني على دعامتين:
ص:392
1- إنّ اللَّه سبحانه أمر بطاعة أُولي الأمر على وجه الإطلاق؛ أي في جميع الأزمنة والأمكنة، وفي جميع الحالات والخصوصيات، ولم يقيّد وجوب امتثال أوامرهم ونواهيهم بشي ء كما هو مقتضى الآية.
2- إنّ من الأمر البديهي كونه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر والعصيان: ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْر «(1)»
من غير فرق بين أن يقوم به العباد ابتداءً من دون تدخّل أمر آمر أو نهي ناهٍ، أو يقومون به بعدصدور أمر ونهي من أُولي الأمر.
فمقتضى الجمع بين هذين الأمرين (وجوب إطاعة أُولي الأمر على وجه الإطلاق، وحرمة طاعتهم إذا أمروا بالعصيان) أن يتّصف أُولو الأمر الذين وجبت إطاعتهم على وجه الإطلاق، بخصوصية ذاتية وعناية إلهية ربّانية، تصدّهم عن الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة. وليس هذا إلّاعبارة أُخرى عن كونهم معصومين، وإلّا فلو كانوا غير واقعين تحت تلك العناية، لماصحّ الأمر بإطاعتهم على وجه الإطلاق بدون قيد أو شرط. فنستكشف من إطلاق الأمر بالطاعة اشتمال المتعلّق على خصوصية تصدّه عن الأمر بغير الطاعة.
وممّنصرّح بدلالة الآية على العصمة الإمام الرازي في تفسيره، ويطيب لي أن أذكر نصّه حتّى يمعن فيه أبناء جلدته وأتباع طريقته، قال:
إنّ اللَّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر اللَّه بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابدّ وأن يكون معصوماً عن الخطأ؛ إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللَّه بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهيّ عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وأنّه محال، فثبت أنّ اللَّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أنّ كلّ من أمر اللَّه بطاعته على سبيل
ص:393
الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أنّ أُولي الأمر المذكور في هذه الآية لابدّ وأن يكون معصوماً «(1)».
بيد أنّ الرازي، وبعد أن قادته استدلالاته المنطقية إلى هذه الفكرة الثابتة المؤكّدة لوجوب العصمة بدأ يتهرّب من تبعة هذا الأمر، ولم يستثمر نتائج أفكاره، لا لسبب إلّالأنّها لا توافق مذهبه في تحديد الإمامة، فأخذ يؤوّل الآية ويحملها على غير ما ابتدأه وعمد إلى إثباته، حيث استدرك قائلًا بأنّا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليه، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منه، فإذا كان الأمر كذلك، فالمراد ليس بعضاً من أبعاض الأُمّة، بل المراد هو أهل الحلّ والعقد من الأُمّة.
إلّا أنّ ادّعاءه هذا لا يصمد أمام الحقيقة القويّة التي لا خفاء عليها، وفي دفعه ذلك الأمر مغالطة لا يمكن أن يرتضيها هو نفسه، فإنّه إذا دلّت الآية على عصمة أُولي الأمر فيجب علينا التعرّف عليهم، وادّعاء العجز هروب من الحقيقة، فهل العجز يختص بزمانه أو كان يشمل زمان نزول الآية؟ لا أظنّ أن يقول الرازي بالثاني. فعليه أن يتعرّف على المعصوم في زمان النبيّصلى الله عليه و آله وعصر نزول الآية، وبالتعرّف عليه يعرف معصوم زمانه، حلقة بعد أُخرى، ولا يعقل أن يأمر الوحي الإلهي بإطاعة المعصوم ثمّ لا يقوم بتعريفه حين النزول، فلو آمن الرازي بدلالة الآية على عصمة أُولي الأمر فإنّه من المنطقي والمعقول له أن يؤمن بقيام الوحي الإلهي بتعريفهم بواسطة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله؛ إذ لا معنى أن يأمر اللَّه سبحانه بإطاعة المعصوم، ولا يقوم بتعريفه.
ثمّ إنّ تفسير أُولي الأمر بأهل الحلّ والعقد، تفسير للغامض- حسب نظر
ص:394
الرازي- بما هو أشد غموضاً؛ إذ هو ليس بأوضح من الأوّل، فهل المراد منهم:
العساكر والضبّاط، أو العلماء والمحدّثون، أو الحكام والسياسيون، أو الكلّ؟ وهل اتّفق إجماعهم على شي ء، ولم يخالفهم لفيف من المسلمين؟
إذا كانت العصمة ثابتة للأُمة عند الرازي كما علمت، فهناك من يرى العصمة لجماعة من الأُمّة كالقرّاء والفقهاء والمحدّثين، هذا هو ابن تيمية يقول في ردّه على الشيعة عند قولهم: إنّ وجود الإمام المعصوم لا بدّ منه بعد موت النبيّ يكون حافظاً للشريعة ومبيّناً أحكامها خصوصاً أحكام الموضوعات المتجدّدة، حيث يقول:
إنّ أهل السنّة لا يسلّمون أن يكون الإمام حافظاً للشرع بعد انقطاع الوحي، وذلك لأنّه حاصل للمجموع، والشرع إذا نقله أهل التواتر كان ذلك خيراً من نقل الواحد، فالقرّاء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه، والمحدّثون معصومون في حفظ الأحاديث وتبليغها، والفقهاء معصومون في الكلام والاستدلال «(1)».
وهذا الرأي أغرب من سابقه وأضعف حجّة! فكيف يدّعي العصمة لهذه الطوائف مع أنّهم غارقون في الاختلاف في القراءة والتفسير، والحديث والأثر، والحكم والفتوى، والعقيدة والنظر؟ ولو أغمضنا عن ذلك، فما الدليل على عصمة تلكم الطوائف، خصوصاً على قول البعض بأنّ القول بالعصمة تسرّب من اليهود إلى الأوساط الإسلامية؟
الثالث: قوله سبحانه: وَإِذِ ابْتَلى إِبراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهدِي الظّالِمِينَ» «(2)».
والاستدلال بالآية على عصمة الإمام يتوقّف على تحديد مفهوم الإمامة الواردة في الآية وأنّ المقصود منها غير النبوّة وغير الرسالة، فأمّا الأوّل فهو عبارة
ص:395
عن منصب تحمّل الوحي، وأمّا الثاني فهو عبارة عن منصب إبلاغه إلى الناس.
والإمامة المعطاة للخليل في أُخريات عمره غير هذه وتلك؛ لأنّه كان نبيّاً ورسولًا وقائماً بوظائفهما طيلة سنين حتّى خوطب بهذه الآية، فالمراد من الإمامة في المقام هو منصب القيادة، وتنفيذ الشريعة في المجتمع بقوّة وقدرة، ويعرب عن كون المراد من الإمامة في المقام هو المعنى الثالث قوله سبحانه: أمْ يَحسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّه مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهيمَ الكِتابَ و الحِكْمَةَ و آتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظيماً «(1)».
فالإمامة التي أنعم بها اللَّه سبحانه على الخليل وبعض ذرّيته هي الملك العظيم الوارد في هذه الآية. وعلينا الفحص عن المراد بالملك العظيم؛ إذ عند ذلك يتّضح أنّ مقام الإمامة يلي النبوّة والرسالة، وإنّما هو قيادة حكيمة، وحكومة إلهيّة، يبلغ المجتمع بها إلى السعادة، واللَّه سبحانه يوضّح حقيقة هذا الملك في الآيات التالية:
1- يقول سبحانه- حاكياً قول يوسف عليه السلام-: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأويلِ الأحاديثِ «(2)»
ومن المعلوم أنّ الملك الذي منّ به سبحانه على عبده يوسف ليس هو النبوّة، بل الحاكمية؛ حيث صار أميناً مكيناً في الأرض؛ لقوله:
«وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأويلِ الأحاديثِ» إشارةإلى نبوّته، والملك إشارة إلى سلطته وقدرته.
2- ويقول سبحانه في داود عليه السلام: وَآتاهُ اللَّه المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ «(3)»
ويقول سبحانه: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الخِطَابِ «(4)»
.
3- ويحكي اللَّه تعالى عن سليمان عليه السلام أنّه قال: وَهَبْ لِي مُلْكَاً لا يَنْبَغِي لأِحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ «(5)».
ص:396
والتأمّل في هذه الآيات الكريمة يفسّر لنا حقيقة الإمامة باعتبار الملاحظات التالية:
أ- إنّ إبراهيم طلب الإمامة لذرّيته وقد أجاب سبحانه دعوته في بعضهم.
ب- إنّ مجموعة من ذرّيته، كيوسف وداود وسليمان، نالوا- وراء النبوّة والرسالة- منصب الحكومة والقيادة.
ج- إنّه سبحانه أعطى آل إبراهيم الكتاب، والحكمة، والملك العظيم.
فمن ضمّ هذه الأُمور بعضها إلى بعض، يخرج بهذه النتيجة: أنّ ملاك الإمامة في ذرّية إبراهيم هو قيادتهم وحكمهم في المجتمع، وهذه هي حقيقة الإمامة، غير أنّها ربّما تجتمع مع المقامين الآخرين، كما في الخليل، ويوسف، وداود، وسليمان، وغيرهم، وربّما تنفصل عنهما كما في قوله سبحانه: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إنَّ اللَّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أحَقُ بِالمُلكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إنَّ اللَّه اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسَطَةً فِي العِلْمِ والجسم وَاللَّه يُؤْتي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّه واسِعٌ عَليمٌ «(1)».
والإمامة التي يتبنّاها المسلمون بعد رحلة النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله تتّحد واقعيتها مع هذه الإمامة.
قد تعرّفت على المقصود من جعل إبراهيم عليه السلام إماماً للناس، وأنّ المراد هو القيادة الإلهية وسوق الناس إلى السعادة بقوّة وقدرة ومنعة. بقي الكلام في تفسير الظالم الذي ليس له من الإمامة سهم، فنقول:
ص:397
لمّا خلع سبحانه ثوب الإمامة على خليله، ونصبه إماماً للناس، ودعا إبراهيمُ أن يجعل من ذرّيته إماماً، أُجيب بأنّ الإمامة منصب إلهيّ لا يناله الظالمون؛ لأنّ الإمام هو المطاع بين الناس، المتصرّف في الأموال والنفوس، فيجب أن يكون على الصراط السويّ والظالم المتجاوز عن الحدّ لا يصلح لهذا المنصب.
كما أنّ الظالم الناكث لعهد اللَّه، والناقض لقوانينه وحدوده، على شفا جرف هارٍ، لا يؤتمن عليه ولا تلقى إليه مقاليد الخلافة؛ لأنّه على مقربة من الخيانة والتعدّي، وعلى استعداد لأن يقع أداة للجائرين، فكيف يصحّ في منطق العقل أن يكون إماماً مطاعاً، نافذ القول، مشروع التصرّف، وعلى ذلك؛ فكلّ من ارتكب ظلماً، وتجاوز حدّاً في يوم من أيّام عمره، أو عبدصنماً، أو لاذ إلى وثن- وبالجملة ارتكب ما هو حرام فضلًا عمّا هو شرك وكفر- ينادى من فوق العرش في حقّه: لا يَنالُ عَهدِي الظّالِمِينَ من غير فرق بينصلاح حالهم بعد تلك الفترة، أو البقاء على ما كانوا عليه.
نعم اعترض «الجصّاص» على هذا الاستدلال وقال: «إنّ الآية إنّما تشمل من كان مقيماً على الظلم وأمّا التائب منه فلا يتعلّق به الحكم؛ لأنّ الحكم إذا كان معلّقاً علىصفة، وزالت تلك الصفة، زال الحكم. ألا ترى أنّ قوله: وَلا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا «(1)»
إنّما ينهى عن الركون إليهم ما أقاموا على الظلم، فقوله تعالى: لا يَنالُ عَهدِي الظّالِمِينَ لم ينف به العهد عمّن تاب عن ظلمه؛ لأنّه في هذه الحالة لا يسمّى ظالماً، كما لا يسمّى من تاب من الكفر كافراً» «(2)».
إلّا أنّه يلاحظ عليه: أنّ قوله: «الحكم يدور مدار وجود الموضوع» ليس
ص:398
ضابطاً كلّياً، بل الأحكام على قسمين: قسم كذلك، وآخر يكفي فيه اتّصاف الموضوع بالوصف والعنوان آناً ما، ولحظة خاصّة، وإن انتفى بعد الاتّصاف، فقوله: «الخمر حرام»، أو «في سائمة الغنم زكاة» من قبيل القسم الأوّل، وأمّا قوله: «الزاني يحدّ»، و «السارق يقطع» فالمراد منه أنّ الانسان المتلبّس بالزنا أو السرقة يكون محكوماً بهما وإن زال العنوان وتاب السارق والزاني، ومثله:
«المستطيع يجب عليه الحجّ» فالحكم ثابت، وإن زالت عنه الاستطاعة عن تقصير لا عن قصور.
وعلى ذلك فالمدّعى أنّ: «الظّالمين» في الآية المباركة كالسارق والسارقة والزاني والزانية وغيرها من الموارد المشابهة لها.
نعم المهمّ في المقام إثبات أنّ الموضوع في الآية من قبيل الثاني، وأنّ التلبّس بالظلم- ولو آناً مّا- يسلب عن الإنسانصلاحية الإمامة، وإن تاب من ذنبه، فإنّ الناس بالنسبة إلى الظلم على أقسام أربعة:
1- من كان طيلة عمره ظالماً.
2- من كان طاهراً ونقياً في جميع فترات عمره.
3- من كان ظالماً في بداية عمره، وتائباً في آخره.
4- من كان طاهراً في بداية عمره، وظالماً في آخره.
عند ذلك يجب أن نقف على أنّ إبراهيم عليه السلام، الذي سأل الإمامة لبعض ذرّيته، أيَّ قسم منها أراد؟
إنّ من غير المعقول والبديهي أن يسأل خليل اللَّه تعالى الإمامة لأصحاب القسمين الأوّل والرابع من ذرّيته، لوضوح أنّ الغارق في الظلم من بداية عمره إلى آخره، أو المتّصف به أيام تصدّيه للإمامة، لا يصلح لأن يؤتمن عليها.
ولمّا كان اللَّه تعالى قد نفى امتلاك الإمامة من قبل الظالم وهو ما سبق أن وقع
ص:399
في تسميته أصحاب القسم الثالث، في حين يقابله في القسم الثاني من هو بري ء عن الظلم مطلقاً طيلة عمره، وتتمثّل فيه جميع الصفات المطلوبة والمحدّدة في الآية الكريمة، فلا مناص من الجزم بتعلّقها بالقسم الثاني وحده دون باقي الأقسام.
إنّ الأئمّة معصومون عن العصيان والمخالفة أوّلًا، وعن الخطأ والزلّة في القول ثانياً، وما ذلك إلّالأنّ كل إمام من الأوّل إلى الثاني عشر، قد أحاط إحاطة شاملة كاملة بكلّ ما في هذين الأصلين، بحيث لا يشذّ عن علمهم معنى آية من آي الذكر الحكيم تنزيلًا وتأويلًا، ولا شي ء من سنّة رسول اللَّه قولًا وفعلًا وتقريراً، وكفى بمن أحاط بعلوم الكتاب والسنّة فضلًا وعلماً، ومن هنا كانوا قدوة الناس جميعاً بعد جدّهم الرسولصلى الله عليه و آله باتّفاق الجميع المطلق دليلًا واضحاً على أنّهم هم الأئمّة المعصومون وقادة المسلمين بعد غياب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وحتّى قيام يوم الدين.
وقد أخذ أهل البيت علوم الكتاب والسنّة وفهموها عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله تماماً «(1)» كما أخذها ووعاها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن جبرئيل، وكما وعاها جبرئيل عن اللَّه، ولا فرق أبداً في شى ء إلّابالواسطة.
نعم أخذ عليّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله، وأخذ الحسن عن أبيه، وهكذا كلّ إمام يأخذ عن أبيه، علم يتناقل ضمن هذه السلسلة الطاهرة المعروفة، لم يأخذ أحد منهم عليهم السلام
ص:400
عنصحابي ولا تابعي أبداً، بل أخذ الجميع عنهم، ومنهم انتقلت العلوم إلى الآخرين كما تلقّاها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من لدن حكيم خبير.
قال الإمام الباقر عليه السلام: «لو كنّا نحدّث الناس برأينا وهوانا لهلكنا، ولكن نحدّثهم بأحاديث نكنزها عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم» «(1)».
ص:401
المسألة الثالثة: الإمام المنتظر
إنّ الاعتقاد بالإمام المهدي المنتظر عقيدة مشتركة بين جميع المسلمين، إلّامن أصمّه اللَّه، فكل من كان له إلمام بالحديث يقف على تواتر البشارة عن النبى وآله وأصحابه، بظهور المهدي في آخر الزمان لإزالة الجهل والظلم، ونشر أعلام العلم والعدل، وإعلاء كلمة الحقّ، وإظهار الدين كلّه، ولو كره المشركون، وهو بإذن اللَّه ينجي العالم من ذُلِّ العبودية لغير اللَّه، ويبطل القوانين الكافرة التي سنّتها الأهواء، ويقطع أواصر التعصّبات القومية والعنصرية، ويميت أسباب العداء والبغضاء التيصارت سبباً لاختلاف الأُمّة واضطراب الكلمة، ومصدراً خطيراً لإيقاد نيران الفتن والمنازعات، ويحقق اللَّه بظهوره وعده الذي وعد به المؤمنين بقوله:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضْى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْنَاً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلئِكَ هُمُ
ص:402
الفَاسِقُونَ» «(1)».
قال سبحانه: «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» «(2)».
هذا ما اتّفق عليه المسلمون في الصدر الأوّل والأزمنة اللاحقة، وقد تضافر مضمون قول الرسول الأكرمصلى الله عليه و آله: «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد، لطوّل اللَّه ذلك اليوم حتى يخرج رجل من ولدي، فيملأها عدلًا وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً».
بلى إنّ جميع المسلمين يتفقون أساساً على فكرة قيام المهدي وما سيعم الأرض في عهده من العدل والأمن والخير العميم، وإن كان هناك من اختلاف يذكر في مضمون هذا الأمر العظيم، والحلم المنشود، فإنّه قد لا يتجاوز في أهم نقاطه الحدود الأساسية المرتكز عليها، والتي تتمحور أهمها في تحديد ولادته عليه السلام، فانّ الأكثرية من أهل السنّة يقولون بأنّه سيولد في آخر الزمان، وأمّا الشيعة ولاستنادهم على جملة واسعة من الروايات والأدلّة الصحيحة يذهبون إلى أنّه عليه السلام ولد في «سرّ من رأى» عام 255 ه، وغاب بأمر اللَّه سبحانه سنة وفاة والده الإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام، عام 260 ه، وهو يحيا حياة طبيعية كسائر الناس، غير أنّ الناس يرونه ولا يعرفونه، وسوف يظهره اللَّه سبحانه ليحقّق عدله.
هذا المقدار من الاختلاف لا يجعل العقيدة بالمهدي عقيدة خلافية، ومن أراد أن يقف على عقيدة السنّة والشيعة في مسألة المهدي فعليه أن يرجع إلى الكتب التالية لمحقّقي السنّة ومحدّثيهم:
ص:403
- «صفة المهدي» للحافظ أبي نعيم الإصفهاني.
- «البيان في أخبارصاحب الزمان» للكنجي الشافعي.
- «البرهان في علامات مهدي آخر الزمان» لملّا علي المتقي.
- «العرف الوردي في أخبار المهدي» للحافظ السيوطي.
- «القول المختصر في علامات المهدي المنتظر» لابن حجر.
- «عقد الدرر في أخبار الإمام المنتظر» للشيخ جمال الدين الدمشقي.
من أراد التفصيل فليرجع إلى «منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر» للعلّامة الصافي- دام ظلّه-، وإلى كتاب «المهدي عند أهل السنّة»صدر في مجلّدين وطبع في بيروت.
لعلّ الروايات والأخبار المستفيضة المؤكدة على قضية الإمام المهدي من الوفرة وقوّة الحجية بحيث لا يرقى إليها الشك والنقاش سواء في متونها أو في أسانيدها، وعلى ذلك دأب الماضون وتبعهم اللاحقون، إلّاما أورده ابن خلدون في مقدمته من تضعيفه لهذه الأخبار والتشكيك فيصحّتها، وفي مدى حجيتها، وقد فنّد مقالته محمّدصديق برسالة أسماها «إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون».
قد كتب أخيراً الدكتور عبد الباقي كتاباً قيّماً في الموضوع أسماه «بين يدي الساعة» يشير فيه إلى تضافر الأخبار الواردة في حق المهدي بقوله:
«إنّ المشكلة ليست في حديث أو حديثين أو راو أو راويين، إنّها مجموعة من الأحاديث والأخبار تبلغ الثمانين تقريباً، اجتمع على تناقلها مئات الرواة، وأكثر منصاحب كتابصحيح.
لماذا نردّ كل هذه الكمّية؟ أكلّها فاسدة؟ لوصحّ هذا الحكم لانهار الدين- والعياذ باللَّه- نتيجة تطرّق الشك والظن الفاسد إلى ما عداها من سنّة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.
ثمّ إنّي لا أجد خلافاً حول ظهور المهدي، أو حول حاجة العالم إليه، وإنّما
ص:404
الخلاف حول من هو، حسنى أو حسيني؟ سيكون في آخر الزمان، أو موجود الآن؟
خفي وسيظهر؟ ظهر أو سيظهر؟ ولا عبرة بالمدّعين الكاذبين، فليس لهم اعتبار.
ثمّ إنّي لا أجد مناقشة موضوعية في متن الأحاديث، والذي أجده إنّما هو مناقشة وخلاف حول السند، واتّصاله وعدم اتّصاله، ودرجة رواته، ومن خرّجوه، ومن قالوا فيه.
إذا نظرنا إلى ظهور المهدي نظرة مجرّدة فإنّنا لا نجد حرجاً من قبولها وتصديقها، أو على الأقل عدم رفضها. فإذا ما تؤيّد ذلك بالأدلّة الكثيرة، والأحاديث المتعددة، ورواتها مسلمون مؤتمنون، والكتب التي نقلتها إلينا كتب قيمة، والترمذي من رجال التخريج والحكم، بالإضافة إلى أنّ أحاديث المهدي لها ما يصح أن يكون سنداً لها في البخاري ومسلم، كحديث جابر في مسلم الذي فيه:
«فيقول أميرهم (أي لعيسى): تعالصلّ بنا» «(1)»، وحديث أبي هريرة في البخاري، وفيه: «كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح بن مريم وإمامكم منكم» «(2)»، فلا مانع من أن يكون هذا الأمير، وهذا الإمام هو المهدي.
يضاف إلى هذا انّ كثيراً من السلف- رضي اللَّه عنهم- لم يعارضوا هذا القول، بل جاءت شروحهم وتقريراتهم موافقة لإثبات هذه العقيدة عند المسلمين» «(3)».
ص:405
المسألة الرابعة: التقية
(مفهومها، غايتها، دليلها، حدّها في ضوء الكتاب والسنّة)
التقية من المفاهيم القرآنية التي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم، وفي تلك الآيات إشارات واضحة إلى الموارد التي يلجأ فيها المؤمن إلى استخدام هذا المسلك الشرعي خلال حياته أثناء الظروف العصيبة، ليصون بها نفسه أو من يمتّ إليه بصلة وعرضه وماله، كما استعملها مؤمن آل فرعون لصيانة الكليم عن القتل والتنكيل «(1)» ولاذ بها عمّار عندما أُخذ وأُسِر و هُدِّد بالقتل «(2)» إلى غير ذلك من الموارد الواردة في الكتاب والسنّة، فمن المحتّم علينا أن نتعرّف عليها، مفهوماً وغايةً ودليلًا وحدّاً، حتّى نتجنَّب الإفراط والتفريط في مقام القضاء والتطبيق.
إنّ التقية، اسم ل «اتّقى يتّقي» «(3)» والتاء بدل من الواو، وأصله من الوقاية،
ص:406
ومن ذلك إطلاق التقوى على إطاعة اللَّه؛ لأنّ المطيع يتّخذها وقاية من النار والعذاب. والمراد هو التحفّظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ.
إذا كانت التقيّة هي اتّخاذ الوقاية من الشرّ، فمفهومها في الكتاب والسنّة هو: إظهار الكفر وإبطان الإيمان، أو التظاهر بالباطل وإخفاء الحقّ. وإذا كان هذا مفهومها، فهي تُقابل النفاق، تَقابُل الإيمان والكفر، فإنّ النفاق ضدّها وخلافها، فهو عبارة عن إظهار الإيمان وإبطان الكفر، والتظاهر بالحقّ وإخفاء الباطل، ومع وجود هذا التباين بينهما فلا يصحّ عدّها من فروع النفاق. نعم من فسر النفاق بمطلق مخالفة الظاهر للباطن، وبهصوَّر التقية- الواردة في الكتاب والسنّة- من فروعه، فقد فسّره بمفهوم أوسع ممّا هو عليه في القرآن؛ فإنّه يُعرِّف المنافقين المتظاهرين بالإيمان والمبطنين للكفر بقوله تعالى: إذَا جَاءَكَ المنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه وَاللَّه يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّه يَشْهَدُ إِنَّ آلمنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ «(1)»
فإذا كان هذا حدُّ المنافق فكيف يعمُّ من يستعمل التقية تجاه الكفّار والعصاة؛ فيخفي إيمانه ويظهر الموافقة لغايةصيانة النفس والنفيس، والعرض والمال من التعرّض؟!
ويظهرصدق ذلك إذا وقفنا على ورودها في التشريع الإسلامي، ولو كانت من قسم النفاق، لكان ذلك أمراً بالقبح ويستحيل على الحكيم أن يأمر به: قُلْ إِنَّ اللَّه لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّه مَا لَا تَعْلَمُونَ «(2)».
ص:407
الغاية من التقيّة: هيصيانة النفس والعرض والمال، وذلك في ظروف قاهرة لا يستطيع فيها المؤمن أن يعلن عن موقفه الحقّصريحاً خوفاً من أن يترتّب على ذلك مضارّ وتهلكة من قوى ظالمة غاشمة كلجوء الحكومات الظالمة إلى الإرهاب، والتشريد والنفي، والقتل والتنكيل، ومصادرة الأموال، وسلب الحقوق الحقّة، فلا يكون لصاحب العقيدة الذي يرى نفسه محقّاً محيص عن إبطانها، والتظاهر بما يوافق هوى الحاكم وتوجّهاته حتّى يسلم من الاضطهاد والتنكيل والقتل، إلى أن يُحدِث اللَّه أمراً.
إنّ التقيّة سلاح الضعيف في مقابل القويّ الغاشم، سلاح من يبتلى بمن لا يحترم دمه وعرضه وماله، لا لشي ء إلّالأنّه لا يتّفق معه في بعض المبادئ والأفكار.
إنّما يمارس التقية من يعيش في بيئةصودرت فيها الحرية في القول والعمل، والرأي والعقيدة فلا ينجو المخالف إلّابالصمت والسكوت مرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة وأفكارها، أو قد يلجأ إليها البعض كوسيلة لابدّ منها من أجل إغاثة الملهوف المضطهد والمستضعف الذي لا حول له ولا قوّة، فيتظاهر بالعمل إلى جانب الحكومة الظالمة وصولًا إلى ذلك كما كان عليه مؤمن آل فرعون الذي حكاه سبحانه في الذكر الحكيم.
إنّ أكثر من يَعيبُ التقيّة على مستعملها، يتصوّر أو يصوّر أنّ الغاية منها هو تأليف جماعات سرية هدفها الهدم والتخريب، كما هو المعروف من الباطنيين والأحزاب الإلحادية السرّية، وهو تصوّر خاطئ ذهب إليه أُولئك جهلًا أو عمداً دون أن يرتكزوا في رأيهم هذا على دليل مّا أو حجة مقنعة، فأين ما ذكرناه من هذا الذي يذكره؟ ولو لم تُلجئ الظروف القاهرة والأحكام المتعسّفة هذه الجموع
ص:408
المستضعفة من المؤمنين لما كانوا عمدوا إلى التقية، ولما تحمّلوا عب ء إخفاء معتقداتهم ولدعوا الناس إليها علناً ودون تردّد، إلّاأنّ السيف والنطع سلاح لا تتردّد كلّ الحكومات الفاسدة من التلويح به أمام من يخالفها في معتقداتها وعقائدها.
أين العمل الدفاعي من الأعمال البدائية التي يرتكبها أصحاب الجماعات السرّية للإطاحة بالسلطة وامتطاء ناصية الحكم، فأعمالهم كلّها تخطيطات مدبّرة لغايات ساقطة.
وهؤلاء هم الذين يحملون شعار «الغايات تبرّر الوسائل» فكلّ قبيح عقلي أو ممنوع شرعي يستباح عندهم لغاية الوصول إلى المقاصد المشؤومة.
إنّ القول بالتشابه بين هؤلاء وبين من يتّخذ التقية غطاءً، وسلاحاً دفاعياً ليسلم من شرّ الغير، حتّى لا يُقْتَل ولا يُستأصل، ولا تُنهب داره وماله، إلى أن يُحدث اللَّه أمراً، من قبيل عطف المباين على مثله.
إنّ المسلمين القاطنين في الاتّحاد السوفيتي السابق قد لاقوا من المصائب والمحن ما لا يمكن للعقول أن تحتملها ولا أن تتصوّرها؛ فإنّ الشيوعيّين وطيلة تسلّطهم على المناطق الإسلامية قلبوا لهم ظهر الِمجَنّ، فصادروا أموالهم وأراضيهم، ومساكنهم، ومساجدهم، ومدارسهم، وأحرقوا مكتباتهم، وقتلوا كثيراً منهم قتلًا ذريعاً ووحشياً، فلم ينج منهم إلّامن اتّقاهم بشي ء من التظاهر بالمرونة، وإخفاء المراسم الدينية، والعمل على إقامة الصلاة في البيوت إلى أن نجّاهم اللَّه سبحانه بانحلال تلك القوّة الكافرة، فبرز المسلمون إلى الساحة من جديد، فملكوا أرضهم وديارهم، وأخذوا يستعيدون مجدهم وكرامتهم شيئاً فشيئاً، وما هذا إلّا ثمرة من ثمار التقية المشروعة التي أباحها اللَّه تعالى لعباده بفضله وكرمه سبحانه على المستضعفين.
ص:409
فإذا كان هذا معنى التقية ومفهومها، وكانت هذه غايتها وهدفها، فهو أمر فطري يسوق الإنسان إليه قبل كلّ شي ء عقلُه ولبُّه، وتدعوه إليه فطرته، ولأجل ذلك يستعملها كلّ من ابتُلي بالملوك والساسة الذين لا يحترمون شيئاً سوى رأيهم وفكرتهم ومطامعهم وسلطتهم ولا يتردّدون عن التنكيل بكلّ من يعارضهم في ذلك، من غير فرق بين المسلم- شيعياً كان أم سنيّاً- وغيره، ومن هنا تظهر جدوى التقية وعمق فائدتها.
ولأجل دعم هذا الأصل الحيويّ ندرس دليله من القرآن والسنّة.
شرّعت التقية بنصّ القرآن الكريم حيث وردت جملة من الآيات الكريمة «(1)» سنحاول استعراضها في الصفحات التالية:
قال سبحانه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّه مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلَّامَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلكِن مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِصَدْرَاً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّه وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ «(2)»
ترى أنّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرهاً ومجاراةً للكافرين خوفاً منهم، بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان، وصرّح بذلك لفيف من المفسّرين القدامى والجدد، سنحاول أن نستعرض كلمات البعض منهم تجنّباً عن الإطالة والإسهاب، ولمن يبتغي المزيد فعليه بمراجعة كتب التفسير المختلفة:
ص:410
1- قال الطبرسي: قد نزلت الآية في جماعة أُكرهوا على الكفر، وهم عمّار وأبوه ياسر وأُمّه سميّة، وقُتلَ الأبوان لأنّهما لم يظهرا الكفر ولم ينالا من النبيّ، وأعطاهم عمّار ما أرادوا منه، فأطلقوه، ثمّ أخبر عمّار بذلك رسول اللَّه، وانتشر خبره بين المسلمين، فقال قوم: كفر عمّار، فقال الرسول: «كلّا إنّ عمّاراً مُلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه».
وفي ذلك نزلت الآية السابقة، وكان عمّار يبكي، فجعل رسول اللَّه يمسح عينيه ويقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» «(1)».
2- وقال الزمخشري: روي أنّ أُناساً من أهل مكة فُتِنُوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، وكان فيهم من أُكره وأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان، منهم عمّار بن ياسر وأبواه: ياسر وسميّة، وصهيب وبلال وخباب.
أمّا عمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً... «(2)».
3- وقال الحافظ ابن ماجة: «والإيتاء: معناه الإعطاء أن وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقيّة، والتقيّة في مثل هذه الحال جائزة؛ لقوله تعالى: إلّامَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ» «(3)»
.
4- وقال القرطبي: قال الحسن: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة- ثمّ قال:- أجمع أهل العلم على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشى على نفسه القتل إنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بالكفر، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي «(4)».
ص:411
5- قال الخازن: «التقية لا تكون إلّامع خوف القتل مع سلامة النيّة، قال اللَّه تعالى: إلّامن أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ثمّ هذه التقية رخصة» «(1)».
6- قال الخطيب الشربيني: إلّامن أُكره أي على التلفّظ به «وقلبه مطمئن بالإيمان» فلا شي ء عليه لأنّ محل الإيمان هو القلب» «(2)».
- وقال إسماعيل حقّي: إلّامن أُكره أُجبر على ذلك اللفظ بأمر يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه... لأنّ الكفر اعتقاد، والإكراه على القول دون الاعتقاد، والمعنى: ولكن المكره على الكفر باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان لا تتغيّر عقيدته، وفيه دليل على أنّ الإيمان المنجي المعتبر عند اللَّه، هو التصديق بالقلب» «(3)».
قال سبحانه: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّه فِي شَيْ ءٍ إلَّاأَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرُكُمُ اللَّه نَفْسَهُ وَإِلى اللَّه الْمصيرُ «(4)»
.
وكلمات المفسّرين حول الآية تغنينا عن أيّ توضيح:
1- قال الطبري: إلّاأن تتقوا منهم تقاة: قال أبو العالية: التقيّة باللسان، وليس بالعمل، حُدّثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ قال: أخبرنا عبيد قال:
سمعت الضحّاك يقول في قوله تعالى: إلّاأن تتقوا منهم تقاة قال: التقيّة باللسان من حُمِلَ على أمر يتكلّم به وهو للَّه معصية فتكلّم مخافة على نفسه وقلبه مطمئن
ص:412
بالإيمان فلا إثم عليه، إنّما التقية باللسان «(1)».
2- وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: إلّاأن تتّقوا منهم تقاة: رخّص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة: مخالفة ومعاشرة ظاهرة، والقلب مطمئنّ بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع «(2)».
3- قال الرازي في تفسير قوله تعالى: إلّاأن تتّقوا منهم تقاة: المسألة الرابعة: اعلم: أنّ للتقية أحكاماً كثيرة ونحن نذكر بعضها:
أ: إنّ التقية إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفّار، ويخاف منهم على نفسه، وماله، فيداريهم باللسان، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبّة والموالاة، ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرض في كلّ ما يقول؛ فإنّ للتقيّة تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.
ب: التقية جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقولهصلى الله عليه و آله: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» ولقولهصلى الله عليه و آله: «من قتل دون ماله فهو شهيد» «(3)».
4- وقال النسفي: إلّاأن تتّقوا منهم تقاة إلّاأن تخافوا جهتهم أمراً يجب اتقاؤه، أي ألّايكون للكافر عليك سلطان، فتخافه على نفسك ومالك، فحينئذ يجوز لك إظهار الموالاة وإبطان المعاداة «(4)».
5- وقال الآلوسي: وفي الآية دليل على مشروعية التقية؛ وعرَّفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شرّ الأعداء. والعدوّ قسمان:
ص:413
الأوّل: من كانت عداوته مبنيّة على اختلاف الدين، كالكافر والمسلم.
الثاني: من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية، كالمال والمتاع والملك والإمارة «(1)».
6- وقال جمال الدين القاسمي: ومن هذه الآية: إلّاأن تتقوا منهم تقاة استنبط الأئمّة مشروعية التقية عند الخوف، وقد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه «إيثار الحقّ على الخلق» «(2)».
7- وفسر المراغي قوله تعالى: إلّاأن تتقوا منهم تقاة بقوله: أي ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلّافي حال الخوف من شي ء تتّقونه منهم، فلكم حينئذ أن تتّقوهم بقدر ما يبقى ذلك الشي ء؛ إذ القاعدة الشرعية «إنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح».
وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين، إذاً فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأُولى إمّا بدفع ضرر أو جلب منفعة، وليس لها أن تواليها في شي ء يضرّ المسلمين، ولا تختصّ هذه الموالاة بحال الضعف، بل هي جائزة في كلّ وقت.
وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحقّ، لأجل التوقّي من ضرر يعود من الأعداء إلى النفس، أو العرض، أو المال.
فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك، وقلبه مطمئنّ بالإيمان، لا يكون كافراً بل يُعذر كما فعل عمّار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً وقلبه مطمئنّ بالإيمان وفيه نزلت الآية:
ص:414
مَنْ كَفَرَ بِاللَّه مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلَّامَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان «(1)»
.
هذه الجمل الوافية والعبارات المستفيضة لا تدع لقائل مقالًا إلّاأن يحكم بشرعية التقية بالمعنى الذي عرفته، بل قد لا يجد أحد مفسّراً أو فقيهاً وقف على مفهومها وغايتها يتردّد في الحكم بجوازها، كما أنّك أخي القارئ لا تجد إنساناً واعياً لا يستعملها في ظروف عصيبة، ما لم تترتّب عليها مفسدة عظيمة، كما سيوافيك بيانها عند البحث عن حدودها.
وإنّماالمعارض لجوازها أو المغالط في مشروعيتها، فإنّما يفسّرها بالتقيّة الرائجة بين أصحاب التنظيمات السرّية والمذاهب الهدّامة كالنصيرية والدروز، والباطنية كلّهم، إلّاأنّ المسلمين جميعاً بريئون من هذه التقيّة الهدامة لكلّ فضيلة رابية.
قال تعالى: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّه وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَبّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُصَادِقَاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّه لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ «(2)».
وكانت عاقبة أمره أن: «وَقَاهُ اللَّه سِيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ» «(3)».
وما كان ذلك إلّالأنّه بتقيّته استطاع أن يُنجي نبيّ اللَّه من الموت: «قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ» «(4)».
وهذه الآيات تدلّ على جواز التقيّة لإنقاذ المؤمن من شرّ عدوّه الكافر.
ص:415
إنّ مورد الآيات وإن كان هو اتّقاء المسلم من الكافر، ولكن المورد ليس بمخصّص لحكم الآية فقط، إذ ليس الغرض من تشريع التقيّة عند الابتلاء بالكفّار إلّاصيانة النفس والنفيس من الشرّ، فإذ ابتُلي المسلم بأخيه المسلم الذي يخالفه في بعض الفروع ولا يتردّد الطرف القوي عن إيذاء الطرف الآخر، كأن ينكّل به أو ينهب أمواله أو يقتله، ففي تلك الظروف الحرجة يحكم العقل السليم بصيانة النفس والنفيس عن طريق كتمان العقيدة واستعمال التقية، ولو كان هناك وزر إنّما يتوجّه على من يُتّقى منه لا على المتّقي، فلو سادت الحرّية جميع الفرق الإسلامية، وتحمّلت كلّ فرقة آراء الفرقة الأُخرى بصدر رحب، وفهمت بأنّ ذلك هو قدر اجتهادها، لم يضطرّ أحد من المسلمين إلى استخدام التقيّة، ولساد الوئام مكان النزاع.
وقد فهم ذلك لفيف من العلماء وصرّحوا به، وإليك نصوص بعضهم:
1- يقول الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه: إلّاأن تتّقوا منهم تقاة ظاهر الآية على أنّ التقية إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين، إلّاأنّ مذهب الشافعي- رضي اللَّه عنه-: أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقيّة محاماة عن النفس.
وقال: التقيّة جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقولهصلى الله عليه و آله: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» وقولهصلى الله عليه و آله: «من قتل دون ماله فهو شهيد» «(1)».
2- ينقل جمال الدين القاسمي عن الإمام مرتضى اليماني في كتابه «إيثار الحقّ
ص:416
على الخلق» ما هذا نصه: «وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران: أحدهما: خوف العارفين- مع قلّتهم- من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقيّة عند ذلك بنصّ القرآن، وإجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحقّ، ولا برح المحقّ عدوّاً لأكثر الخلق، وقدصحّ عن أبي هريرة- رضي اللَّه عنه- أنّه قال في ذلك العصر الأوّل: «حفظت من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وعاءين، أمّا أحدهما فبثثته في الناس، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم» «(1)».
3- وقال المراغي في تفسير قوله سبحانه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّه مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلَّامَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَان: ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة، وإلانة الكلام لهم، والتبسّم في وجوههم، وبذل المال لهم؛ لكفّ أذاهم وصيانة العرض منهم، ولا يعدّ هذا من الموالاة المنهيّ عنها، بل هو مشروع، فقد أخرج الطبراني قوله صلى الله عليه و آله: «ما وَقَى المؤمن به عرضَه فهوصدقة» «(2)».
إنّ الشيعة تتّقي الكفار في ظروف خاصة لنفس الغاية التي لأجلها يتّقيهم السنّيّ، غير أنّ الشيعي ولأسباب لا تخفى، يلجأ إلى اتّقاء أخيه المسلم لا قصور في الشيعي، بل في أخيه الذي دفعه إلى ذلك؛ لأنّه يدرك أنّ الفتك والقتل مصيره إذاصرّح بمعتقده الذي هو موافق لأُصول الشرع الإسلامي وعقائده، نعم كان الشيعي وإلى وقت قريب يتحاشى أن يقول: إنّ اللَّه ليس له جهة، أو إنّه تعالى لا يُرى يوم القيامة، وإنّ المرجعية العلمية والسياسية لأهل البيت بعد رحيل النبيّ الأكرم، أو إنّ حكم المتعة غير منسوخ؛ فإنّ الشيعي إذاصرّح بهذه الحقائق- التي استنبطت من الكتاب والسنّة- سوف يُعرّض نفسه ونفيسه للمهالك والمخاطر.
وقد مرّ عليك كلام الرازي وجمال الدين القاسمي والمراغي الصريح في جواز هذا
ص:417
النوع من التقية، فتخصيص التقية بالتقية من الكافر فحسب جمود على ظاهر الآية وسدّ لباب الفهم، ورفض للملاك الذي شُرّعت لأجله التقية، وإعدام لحكم العقل القاضي بحفظ الأهمّ إذا عارض المهمّ.
والتاريخ بين أيدينا يحدّثنا بوضوح عن لجوء جملة معروفة من كبار المسلمين إلى التقية في ظروف عصيبة أوشكت أن تودي بحياتهم وبما يملكون، وخير مثال على ذلك ما أورده الطبري في تاريخه (7: 195- 206) عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة والمحدّثين في زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن قسراً حتّى وإن استلزم ذلك قتل الجميع دون رحمة، ولمّا أبصر أُولئك المحدِّثون حد السيف مشهراً عمدوا إلى مصانعة المأمون في دعواه وأسرّوا معتقدهم فيصدورهم، ولمّا عوتبوا على ما ذهبوا إليه من موافقة المأمون، برّروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حين أُكره على الشرك وقلبه مطمئنّ بالإيمان، والقصّة شهيرة وصريحة في جواز اللجوء إلى التقية التي دأب البعض على التشنيع فيها على الشيعة؛ وكأنّهم هم الذين ابتدعوها من بنات أفكارهم دون أن تكون لها قواعد وأُصول إسلامية ثابتة ومعلومة.
الذي دفع بالشيعة إلى التقية بين إخوانهم وأبناء دينهم إنّما هو الخوف من السلطات الغاشمة، فلو لم يكن هناك في غابر القرون- من عصر الأُمويين ثمّ العباسيين والعثمانيين- أيّ ضغط على الشيعة، ولم تكن بلادهم وعقر دارهم مخضّبة بدمائهم- والتاريخ خير شاهد على ذلك- كان من المعقول أن تنسى الشيعة كلمة التقية، وأن تحذفها من ديوان حياتها، ولكن ياللأسف!! فإنّ كثيراً من إخوانهم
ص:418
كانوا أداة طيّعة بيد الأُمويين والعباسيين الذين كانوا يرون في مذهب الشيعة خطراً على مناصبهم، فكانوا يؤلِّبون العامّة من أهل السنّة على الشيعة يقتلونهم ويضطهدونهم وينكّلون بهم، ولذا ونتيجة لتلك الظروف الصعبة لم يكن للشيعة، بل لكلّ من يملك شيئاً من العقل وسيلة إلّااللجوء إلى التقية أو رفع اليد عن المبادئ المقدّسة التي هي أغلى عنده من نفسه وماله.
والشواهد على ذلك أكثر من أن تُحصى أو أن تعدّ، إلّاأنّا سنستعرض جانباً مختصراً منها: فمن ذلك ما كتبه معاوية بن أبي سفيان باستباحة دماء الشيعة أينما كانوا وكيفما كانوا.
قد مرّ ذكر كتاب معاوية إلى عمّاله في بحث الشيعة في موكب التاريخ فراجع.
ونتيجة لذلك شهدت أوساط الشيعة مجازر بشعة على يد السلطات الغاشمة، فقتل الآلاف منهم، وأمّا من بقي منهم على قيد الحياة فقد تعرّض إلى شتّىصنوف التنكيل والإرهاب والتخويف، والحق يقال إنّ من الأُمور العجيبة أن يبقى لهذه الطائفة باقية رغم كلّ ذلك الظلم الكبير والقتل الذريع، بل العجب العجاب أن تجد هذه الطائفة قد ازدادت قوّة وعدّة، وأقامت دولًا وشيدت حضارات وبرز منها الكثير من العلماء والمفكرين.
فلو كان الأخ السنّي يرى التقية أمراً محرّماً فليعمل على رفع الضغط عن أخيه الشيعي، وأن لا يضيق عليه في الحرّية التي سمح بها الإسلام لأبنائه، وليعذره في عقيدته وعمله كما عذر أُناساً كثيراً خالفوا الكتاب والسنّة وأراقوا الدماء ونهبوا الدور، فكيف بطائفة تدين بدينه وتتّفق معه في كثير من معتقداته؟ وإذا كان معاوية وأبناء بيته والعباسيون كلّهم عنده مجتهدين في بطشهم وإراقة دماء مخالفيهم، فماذا يمنعه عن إعذار الشيعة باعتبارهم مجتهدين؟
ص:419
وإذا كانوا يقولون- وذاك هو العجيب- إنّ الخروج على الإمام عليّ عليه السلام غير مضرّ بعدالة الخارجين والثائرين عليه، وفي مقدّمتهم طلحة والزبير وأُمّ المؤمنين عائشة، وإنّ إثارة الفتن فيصفّين- التي انتهت إلى قتل كثير من الصحابة والتابعين، وإراقة دماء الآلاف من العراقيين والشاميين- لا تنقص شيئاً من ورع المحاربين، وهم بعد ذلك مجتهدون معذورون لهم ثواب من اجتهد وأخطأ، فلم لا يتعامل مع الشيعة ضمن هذا الفهم، ويذهب إلى أنّهم معذورون ومثابون!!
نعم كانت التقية بين الشيعة تزداد تارة وتتضاءل أُخرى، حسب قوّة الضغط وضآلته، فشتّان ما بين عصر المأمون الذي يجيز مادحي أهل البيت، ويكرم العلويين، وبين عصر المتوكّل الذي يقطع لسان ذاكرهم بفضيلة.
فهذا ابن السكّيت أحد أعلام الأدب في زمن المتوكّل، وقد اختاره معلّماً لولديه فسأله يوماً: أيّهما أحبُّ إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ قال ابن السكّيت: واللَّه إنّ قنبر خادم عليّ عليه السلام خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل: سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا ذلك به فمات. وذلك في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة أربع وأربعين ومائتين، وقيل ثلاث وأربعين، وكان عمره ثمانياً وخمسين سنة. ولمّا مات سيَّر المتوكل لولده يوسف عشرة آلاف درهم وقال: هذه دية والدك!! «(1)».
وهذا ابن الرومي الشاعر العبقري يقول في قصيدته التي يرثي بها يحيى بن عمر ابن الحسين بن زيد بن علي:
أكلّ أوانٍ للنبيّ محمّد قتيل زكيّ بالدماء مضرّجُ
بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم لبلواكم عمّا قليل مفرِّجُ
ص:420
أبعد المكنّى بالحسين شهيدكم تضي ء مصابيح السماء فتسرجُ «(1)»
فإذا كان هذا هو حال أبناء الرسول، فما هو حال شيعتهم ومقتفي آثارهم؟!
قال العلّامة الشهرستاني: إنّ التقية شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية. إنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها؛ لأنّها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أية أُمّة أُخرى، فكانت مسلوبة الحريّة في عهد الدولة الأُموية كلّه، وفي عهد العباسيين على طوله، وفي أكثر أيام الدولة العثمانية، ولأجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أيّ قوم، ولمّا كانت الشيعة تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهمّ من الاعتقادات في أُصول الدين، وفي كثير من الأحكام الفقهيّة، والمخالفة تستجلب بالطبع رقابة، وتصدّقه التجارب، لذلك أضحت شيعة الأئمة من آل البيت مضطرة في أكثر الأحيان إلى كتمان ما تختصّ به من عادة أو عقيدة أو فتوى أو كتاب أو غير ذلك، تبتغي بهذا الكتمانصيانة النفس والنفيس، والمحافظة على الوداد والأُخوّة مع سائر إخوانهم المسلمين، لئلا تنشق عصا الطاعة، ولكي لا يحسّ الكفار بوجود اختلاف ما في المجتمع الإسلامي، فيوسع الخلاف بين الأُمّة المحمّدية.
لهذه الغايات النزيهة كانت الشيعة تستعمل التقيّة وتحافظ على وفاقها في الظواهر مع الطوائف الأُخرى، متّبعة في ذلك سيرة الأئمة من آل محمّد وأحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل: «التقية ديني ودين آبائي»، إذ أنّ دين اللَّه يمشي على سنّة التقية لمسلوبي الحرية، دلّت على ذلك آيات من القرآن العظيم «(2)».
روي عنصادق آل البيت عليهم السلام في الأثر الصحيح: «التقية ديني ودين آبائي»
ص:421
و «من لا تقية له لا دين له» وكذلك هي.
لقد كانت التقية شعاراً لآل البيت عليهم السلام دفعاً للضرر عنهم، وعن أتباعهم، وحقناً لدمائهم، واستصلاحاً لحال المسلمين، وجمعاً لكلمتهم، ولمّاً لشعثهم، وما زالت سمة تُعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف والأُمم. وكلّ إنسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه، أو ماله بسبب نشر معتقده، أو التظاهر به لابدّ أن يتكتّم ويتّقي مواضع الخطر. وهذا أمر تقتضيه فطرة العقول.
ومن المعلوم أنّ الإمامية وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن، وصنوف الضيق على حرّياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أيّة طائفة، أو أُمّة أُخرى، فاضطرّوا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية في تعاملهم مع المخالفين لهم، وترك مظاهرتهم، وستر عقائدهم، وأعمالهم المختصّة بهم عنهم، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدنيا.
ولهذا السبب امتازوا بالتقية وعرفوا بها دون سواهم.
وللتقية أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها، بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر، مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهيّة «(1)».
قد تعرّفت على مفهوم التقية وغايتها، ودليلها، وبقي الكلام في تبيين حدودها، فنقول:
عرفت الشيعة بالتقية وأنّهم يتّقون في أقوالهم وأفعالهم، فصار ذلك مبدأ لوهم عالق بأذهان بعض السطحيين والمغالطين، فقالوا: بما أنّ التقية من مبادئ التشيّع
ص:422
فلا يصحّ الاعتماد على كلّ ما يقولون ويكتبون وينشرون؛ إذ من المحتمل جداً أن تكون هذه الكتب دعاياتٍ والواقع عندهم غيرها. هذا ما نسمعه منهم مرّة بعد مرّة، ويكرّره الكاتب الباكستاني «إحسان إلهي ظهير» في كتبه السقيمة التي يتحامل بها على الشيعة.
ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ مجال التقية إنّما هو في حدود القضايا الشخصية الجزئية عند وجود الخوف على النفس والنفيس، فإذا دلّت القرائن على أنّ في إظهار العقيدة أو تطبيق العمل على مذهب أهل البيت- يحتمل أن يدفع بالمؤمن إلى الضرر يصبح هذا المورد من مواردها، ويحكم العقل والشرع بلزوم الاتّقاء حتّى يصون بذلك نفسه ونفيسه عن الخطر. وأمّا الأُمور الكلّية الخارجة عن إطار الخوف فلا تتصوّر فيها التقيّة، والكتب المنتشرة من جانب الشيعة داخلة في هذا النوع الأخير؛ إذ لا خوف هناك حتّى يكتب خلاف ما يعتقد، حيث لم يكن هناك لزوم للكتابة أصلًا في هذه الحال، فله أن يسكت ولا يكتب شيئاً.
فما يدّعيه هؤلاء أنّ هذه الكتب دعايات لا واقعيات ناشئ عن عدم معرفتهم بحقيقة التقيّة عند الشيعة.
والحاصل: أنّ الشيعة إنّما كانت تتّقي في عصر لم تكن لهم دولة تحميهم، ولا قدرة ولا منعة تدفع عنهم الأخطار. وأمّا هذه الأعصار فلا مسوّغ ولا مبرر للتقيّة إلّا في موارد خاصة.
إنّ الشيعة- وكما ذكرنا- لم تلجأ إلى التقية إلّابعد أن اضطرّت إلى ذلك، وهو حقّ لا أعتقد أن يخالفها فيه أحد ينظر إلى الأُمور بلبّه لا بعواطفه، إلّاأنّ من الثوابت الصحيحة بقاء هذه التقيّة- إلّافي حدود ضيّقة- تنحصر في مستوى الفتاوى، ولم تترجم إلّاقليلًا على المستوى العملي، بل كانوا عملياً من أكثر الناس تضحية، وبوسع كلّ باحث أن يرجع إلى مواقف رجال الشيعة مع معاوية وغيره
ص:423
من الحكام الأُمويين، والحكّام العباسيين، أمثال حجر بن عدي، وميثم التمار، ورشيد الهجري، وكميل بن زياد، ومئات غيرهم، وكمواقف العلويين على امتداد التاريخ وثوراتهم المتتالية.
إنّ التقية تنقسم حسب الأحكام الخمسة، فكما أنّها تجب لحفظ النفوس والأعراض والأموال، فإنّها تحرم إذا ترتّب عليها مفسدة أعظم، كهدم الدين وخفاء الحقيقة على الأجيال الآتية، وتسلّط الأعداء على شؤون المسلمين وحرماتهم ومقدّساتهم، ولأجل ذلك ترى أنّ كثيراً من أكابر الشيعة رفضوا التقيّة في بعض الأحيان وقدّموا أنفسهم وأرواحهم أضاحي من أجل الدين، فللتقيّة مواضع معيّنة، كما أنّ للقسم المحرّم منها مواضع خاصّة أيضاً.
إنّ التقية في جوهرها كتم ما يحذر من إظهاره حتّى يزول الخطر، فهي أفضل السبل للخلاص من البطش، ولكن ذلك لا يعني أنّ الشيعي جبان خائر العزيمة، خائف متردّد الخطوات يملأ حناياه الذلّ، كلّا!! إنّ للتقية حدوداً لا تتعدّاها، فكما هي واجبة في حين، هي حرام في حين آخر، فالتقيّة أمام الحاكم الجائر كيزيد بن معاوية مثلًا محرّمة؛ إذ فيها الذلّ والهوان ونسيان المثل والرجوع إلى الوراء، فليست التقيّة في جوازها ومنعها تابعة للقوّة والضعف، وإنّما تحدّدها جوازاً ومنعاً مصالح الإسلام والمسلمين.
إنّ للإمام الخميني- قدّس اللَّه سرّه- كلاماً في المقام ننقله بنصّه حتّى يقف القارئ على أنّ للتقية أحكاماً خاصة وربّما تحرم لمصالح عالية. قال قدس سره:
تحرم التقية في بعض المحرّمات والواجبات التي تمثّل في نظر الشارع والمتشرّعة
ص:424
مكانة بالغة، مثل هدم الكعبة، والمشاهد المشرّفة، والردّ على الإسلام والقرآن والتفسير بما يضرّ المذهب ويطابق الإلحاد وغيرها من عظائم المحرمات، ولا تعمّها أدلّة التقية ولا الاضطرار ولا الإكراه.
وتدلّ على ذلك معتبرة مسعدة بنصدقة وفيها: «فكلّ شي ء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز» «(1)».
ومن هذا الباب ما إذا كان المتّقي ممّن له شأن وأهمية في نظر الخلق، بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرّمات تقيّة أو تركه لبعض الواجبات كذلك مما يعدّ موهناً للمذهب وهاتكاً لحرمه، كما لو أُكره على شرب المسكر والزنا مثلًا؛ فإنّ جواز التقية في مثله متمسكاً بحكومة دليل الرفع «(2)» وأدلّة التقية مشكل، بل ممنوع، وأولى من ذلك كلّه في عدم جواز التقية، وفيه ما لو كان أصل من أُصول الإسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير، كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الأرث والطلاق والصلاة والحجّ وغيرها من أُصول الأحكام فضلًا عن أُصول الدين أو المذهب، فإنّ التقية في مثلها غير جائزة، ضرورة أنّ تشريعها لبقاء المذهب وحفظ الأُصول وجمع شتات المسلمين لإقامة الدين وأُصوله، فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية، وهو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدّمة «(3)».
وهكذا فقد بيّنا للجميع الأبعاد الحقيقية والواقعية للتقية، وخرجنا بالنتائج التالية:
1- إنّ التقية أصل قرآني مدعم بالسنّة النبوية، وقد استعملها في عصر
ص:425
الرسالة من ابتلي بها من الصحابة لصيانة نفسه، فلم يعارضه الرسول، بل أيّده بالنصّ القرآني، كما في قضية عمّار بن ياسر؛ حيث أمرهصلى الله عليه و آله بالعودة إذا عادوا.
2- إنّ التقية بمعنى تأليف جماعات سرّية لغاية التخريب والهدم، مرفوضة عند المسلمين عامّة والشيعة خاصّة، وهو لا يمتّ للتقية المتبنّاة من قبل الشيعة بصلة.
3- إنّ المفسرين في كتبهم التفسيرية عندما تعرّضوا لتفسير الآيات الواردة في التقية اتفقوا على ما ذهبت إليه الشيعة من إباحتها للتقية.
4- إنّ التقية لا تختصّ بالاتقاء من الكافر، بل تعمّ الاتّقاء من المسلم المخالف، الذي يريد السوء والبطش بأخيه.
5- إنّ التقية تنقسم حسب انقسام الأحكام إلى أقسام خمسة، فبينما هي واجبة في موضع، فهي محرمة في موضع آخر.
6- إنّ مجال التقية لا يتجاوز القضايا الشخصية، وهي فيما إذا كان الخوف قائماً، وأمّا إذا ارتفع الخوف والضغط، فلا موضع للتقية لغاية الصيانة.
وفي الختام نقول:
نفترض أنّ التقية جريمة يرتكبها المتّقي لصيانة دمه وعرضه وماله، ولكنّها في الحقيقة ترجع إلى السبب الذي يفرض التقيّة على الشيعي المسلم ويدفعه إلى أن يتظاهر بشي ء من القول والفعل الذي لا يعتقد به، فعلى من يعيب التقية للمسلم المضطهد، أن يفسح له الحرية في مجال الحياة ويتركه بحاله، وأقصى ما يصحّ في منطق العقل، أن يسأله عن دليل عقيدته ومصدر عمله؛ فإن كان على حجّة بيّنة يتبعه، وإن كان على خلافها يعذره في اجتهاده وجهاده العلمي والفكري.
نحن ندعو المسلمين للتأمّل في الدواعي التي دفعت بالشيعة إلى التقية، وأن يعملوا قدر الإمكان على فسح المجال لإخوانهم في الدين؛ فإنّ لكلّ فقيه مسلم رأيه ونظره، وجهده وطاقته.
ص:426
إنّ الشيعة يقتفون أثر أئمة أهل البيت في العقيدة والشريعة، ويرون رأيهم؛ لأنّهم هم الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وأحد الثقلين اللّذين أمر الرسولصلى الله عليه و آله بالتمسك بهما في مجال العقيدة والشريعة، وهذه عقائدهم لا تخفى على أحد، وهي حجّة على الجميع.
نسأل اللَّه سبحانه: أن يصون دماء المسلمين وأعراضهم عن تعرّض أيّ متعرّض، ويوحّدصفوفهم، ويؤلّف بين قلوبهم، ويجمع شملهم، ويجعلهمصفّاً واحداً في وجه الأعداء، إنّه بذلك قدير وبالإجابة جدير.
ص:427
المسألة الخامسة: البداء عند الشيعة الإمامية
إنّ من العقائد الثابتة عند الشيعة الإمامية، هو القول بالبداء، ومن الكلمات الدارجة بين علمائهم أنّ النسخ والبداءصنوان، غير أنّ الأوّل في التشريع، والثاني في التكوين، وقد اشتهرت بالقول به كاشتهارها بالقول بالتقية وجواز متعة النساء. وصار القول بهذه الأُمور الثلاثة من خصائصهم وقد أنكرت عليهم السنّة أشد الإنكار خصوصاً في مسألة البداء، ولكنّهم لو كانوا واقفين على مراد الشيعة من تجويز البداء على اللَّه لتوقّفوا عن الاستنكار، ولأعلنوا الوفاق، وأقول عن جدّ: لو أُتيحت الفرصة لعلماء الفريقين للبحث عن النقاط الخلافية بعيداً عن التعصّب والتشنّج لتجلّى الحقّ بأجلى مظاهره، ولأقرّوا بصحّة مقالة الشيعة، غير أنّ تلك أُمنية لا تتحقّق إلّا في فترات خاصة، وقد سألني أحد علماء أهل السنّة عن حقيقة البداء فأجبته بإجمال ما أُفصّله في هذا المقام، فتعجّب عن إتقان معناه، غير أنّه زعم أنّ ما ذكرته نظرية شخصية لاصلة بها بنظرية الإمامية في البداء، فطلب منّي كتاباً لقدماء علماء الشيعة، فدفعت إليه أوائل المقالات، وشرح عقائد الصدوق لشيخ الأُمّة محمّد بن النعمان المفيد (336- 413 ه) فقرأهما بدقة، وجاء
ص:428
بالكتاب بعد أيام وقال: لو كان معنى البداء هو الذي يذكرهصاحب الكتاب فهو منصميم عقيدة أهل السنّة ولا يخالفون الشيعة في هذا المبدأ أبداً.
ولتوضيح حقيقة البداء نأتي بمقدمات:
الأُولى: اتّفقت الشيعة على أنّه سبحانه عالم بالحوادث كلّها غابرها وحاضرها، ومستقبلها، لا يخفى عليه شي ء في الأرض ولا في السماء، فلا يتصوّر فيه الظهور بعد الخفاء، ولا العلم بعد الجهل، بل الأشياء دقيقها وجليلها، حاضرة لديه، ويدلّ عليه الكتاب والسنّة المروية عن طريق أئمّة أهل البيت- مضافاً إلى البراهين الفلسفية المقرّرة في محلّها-.
أمّا من الكتاب:
فقوله سبحانه: إنَّ اللَّه لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّماءِ «(1)».
وقوله تعالى: وَمَا يَخْفَى عَلى اللَّه مِنْ شَيْ ءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّماءِ «(2)».
وقوله سبحانه: إنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّه كَانَ بِكُلِّ شَي ءٍ عَليماً «(3)»
كيف وهو محيط بالعالم صغيره وكبيره، مادّيّه ومجرّده، والأشياء كلّها قائمة به قياماً قيّوميّاً كقيام المعنى الحرفي بالاسمي والرابطي بالطرفين، ويكفي في توضيح ذلك قوله سبحانه: مَا أَصابَ مِنْ مُصيبَةٍ في الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إلّافِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّه يَسيرٌ «(4)».
ص:429
وقوله سبحانه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إلّاعَلَى اللَّه رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبين «(1)».
وأمّا الأخبار فنكتفي بالقليل منها:
قال الإمام موسى الكاظم عليه السلام: «لم يزل اللَّه عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء، كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء» «(2)».
وقال الإمام عليّ عليه السلام: «كلّ سرّ عندك علانية، وكلّ غيب عندك شهادة» «(3)».
قال عليه السلام: «لا يعزب عنه عدد قطر الماء، ولا نجوم السماء، ولا سوافي الريح في الهواء، ولا دبيب النمل على الصفا، ولا مقيل الذرّ في الليلة الظلماء، يعلم مساقط الأوراق، وخفيّ طرف الأحداق» «(4)».
وقال الصادق عليه السلام في تفسير قوله: يمحوا اللَّه ما يشاءُ ويثبتُ وعندَهُ أُمُّ الكتاب «(5)»
: «فكل أمر يريده اللَّه، فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شي ء يبدو له إلّاوقد كان في علمه، إنّ اللَّه لا يبدو له من جهل» «(6)».
وقال عليه السلام: «من زعم أنّ اللَّه عزّ وجلّ يبدو له من شي ء لم يعلمه أمس؛ فابرأوا منه» «(7)».
إلى غير ذلك من الروايات التي تدلّ على إحاطة علمه بكلّ شي ء قبل خلقه وحينه وبعده، وأنّه لا يخفى عليه شي ء أبداً «(8)».
ص:430
وأمّا العقل فقد دلّ على تنزّهه من وصمة الحدوث والتغيير، وأنّه تقدّست أسماؤه أعلى من أن يقع معرضاً للحوادث والتغييرات، ولأجل ذلك ذهبوا إلى امتناع البداء عليه- بمعنى الظهور بعد الخفاء والعلم بعد الجهل- لاستلزامه كون ذاته محلًاّ للتغيّر والتبدّل، المستلزم للتركيب والحدوث، إلى غير ذلك ممّا يستحيل عليه سبحانه.
فالآيات وكذلك الأحاديث المروية عن أئمّة الشيعة عليهم السلام تشهد على علمه الذي لا يشوبه جهل، وعلى سعته لكلّ شي ء قبل الخلق وبعده، وأنّه يستحيل عليه الظهور بعد الخفاء، والعلم بعد الجهل.
وعليه فمن نسب إلى الشيعة الإمامية ما يستشمّ منه خلاف ما دلّت عليه الآيات والأحاديث فقد افترى كذباً ينشأ من الجهل بعقائد الشيعة، أو التزلّف إلى حكّام العصر الحاقدين عليهم أو التعصّب المقيت.
وبذلك يعلم بطلان ما قاله الرازي في تفسيره عند البحث عن آية المحو والإثبات، حيث يقول: قالت الرافضة: البداء جائز على اللَّه تعالى، وهو أن يعتقد شيئاً ثمّ يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده، وتمسّكوا فيه بقوله: يمحوا اللَّه ما يشاء ويثبت، ثمّ قال: إنّ هذا باطل؛ لأنّ علم اللَّه من لوازم ذاته المخصوصة، وما كان كذلك كان دخول التغيّر والتبدّل فيه باطلًا «(1)».
وما حكاه الرازي عن «الرافضة» كاشف عن جهله بعقيدة الشيعة، وإنّما سمعه عن بعض الكذّابين الأفّاكين الذين يفتعلون الكذب لغايات فاسدة، وقد قبله من دون إمعان ودقّة، مع أنّ موطنه ومسقط رأسه بلدة (ري) التي كانت آنذاك مزدحم الشيعة ومركزهم، وكان الشيخ محمود بن عليّ بن الحسن سديد الدين الحمصي
ص:431
الرازي- علّامة زمانه في الأُصولين- معاصراً ومواطناً للرازي وهو مؤلّف كتاب «المنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد» «(1)»، ولو كان الفخر الرازي رجلًا منصفاً لرجع إليه في تبيين عقائد الشيعة، ولما هجم عليهم بسباب مقذع، وربّما ينقل عنه بعض الكلمات في تفسيره.
وليس الرازي فريداً في التقوُّل في هذا المجال، بل سبقه البلخي (319 ه) في هذه النسبة «(2)»، ونقله الشيخ الأشعري (260- 324 ه) «(3)» ونقله أبو الحسن النوبختي في فرق الشيعة عن بعض فرق الزيدية «(4)».
الثانية: كما دلّت الآيات والأحاديث «(5)» على أنّه سبحانه لم يفرغ من أمر الخلق والإيجاد، والتدبير والتربية، دلّت على أنّ مصير العباد يتغيّر، بحسن أفعالهم وصلاح أعمالهم، من الصدقة والإحسان وصلة الأرحام وبرّ الوالدين، والاستغفار والتوبة وشكر النعمة وأداء حقّها، إلى غير ذلك من الأُمور التي تغيّر المصير وتبدّل القضاء، وتفرّج الهموم والغموم، وتزيد في الأرزاق، والأمطار، والأعمار، والآجال، كما أنّ لمحرَّم الأعمال وسيّئها من قبيل البخل والتقصير، وسوء الخلق، وقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، والطيش، وعدم الإنابة، وكفران النعمة، وما شابهها تأثيراً في تغيير مصيرهم بعكس ذلك من إكثار الهموم، والقلق، ونقصان الأرزاق، والأمطار، والأعمار، والآجال، وما شاكلها.
فليس للإنسان مصير واحد، ومقدّر فارد؛ يصيبه على وجه القطع والبتّ،
ص:432
ويناله، شاء أو لم يشأ، بل المصير أو المقدر يتغيّر ويتبدّل بالأعمال الصالحة والطالحة وشكر النعمة وكفرانها، وبالإيمان والتقوى، والكفر والفسوق. وهذا ممّا لا يمكن- لمن له أدنى علاقة بالكتاب والسنّة- إنكاره أو ادّعاء جهله.
ونحن نأتي في المقام بقليل من كثير ممّا يدل على ذلك من الآيات والروايات.
منها: قوله سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنْينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً «(1)».
ترى أنّه عليه السلام يجعل الاستغفار علّة مؤثّرة في نزول المطر، وكثرة الأموال والبنين، وجريان الأنهار إلى غير ذلك، وأمّا بيان كيفيّة تأثير عمل العبد في الكائنات الطبيعية، فيطلب في محلّه.
وقوله سبحانه: إنَّ اللَّه لا يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ «(2)».
وقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّه لَم يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلَى قَوْمٍ حَتَى يُغَيّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» «(3)».
وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ «(4)».
وقوله سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ
ص:433
لايَحْتَسِبْ «(1)».
وقوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ «(2)»
.
وقوله سبحانه: وَنُوحَاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ «(3)».
وقال تعالى: وَأَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ «(4)».
وقال سبحانه: وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّه مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ «(5)».
وقال تعالى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَنَبذْنَاهُ بِالعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ* وَأَنبَتْنَا عَلَيهِ شَجَرَةً مِن يَقْطِينٍ «(6)».
وقال تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنينَ «(7)».
وقال سبحانه: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنْتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إلَّاقَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إلى حِينٍ «(8)».
وهذه الآيات بالإضافة إلى كثير من الأحاديث- التي سيوافيك بيان نزر
ص:434
منها- تعرب عن أنّ الأعمال الصالحة مؤثّرة في مصير الإنسان، وأنّ الإنسان بعمله يؤثّر في تحديد قدره وتبديل القضاء، وليس هناك مقدّر محتوم فيما يرجع إلى أفعاله الاختيارية حتّى يكون العبد في مقابله مكتوف الأيدي والأرجل.
وأمّا الأحاديث التي تدلّ على هذا المطلب فكثيرة جدّاً مبعثرة في كتب الحديث تحت مواضيع مختلفة مثل الصدقة والاستغفار والدعاء وصلة الرحم، وما أشبه ذلك، وسنذكر فيما يلي نماذج مختلفة من الأحاديث الدالّة على هذه المطالب:
روى الصدوق في الخصال عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أكثر منصدقة السرِّ؛ فإنّها تُطفئ غضب الربِّ جلّ جلاله».
وروى في عيون الأخبار عن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:
«باكروا بالصدقة، فمن باكر بها لم يتخطّاها البلاء».
وروى الشيخ الطوسي في أماليه عن الباقر عليه السلام قال: «قال أميرالمؤمنين عليه السلام:
أفضل ما توسّل به المتوسّلون الإيمان باللَّه، وصدقة السرِّ؛ فإنّها تذهب الخطيئة، وتطفئ غضب الرب، وصنائعُ المعروف؛ فإنّها تدفع ميتة السوء، وتقي مصارع الهوان».
وروى الصدوق في ثواب الأعمال عن الصادق عليه السلام: قال: «الصدقة باليد تدفع ميتة السوء، وتدفع سبعين نوعاً من أنواع البلاء».
إلى غير ذلك من الروايات المتعدّدة والتي يضيق المجال بذكرها، وللمستزيد
ص:435
الرجوع إلى كتاب بحار الأنوار للعلّامة المجلسي ضمن أبواب الزكاة والصدقة وغيرها «(1)».
روى الصدوق في الخصال عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «الاستغفار يزيد في الرزق».
وروى أيضاً عن أمير المؤمنين عليه السلام: «أكثروا الاستغفار؛ تجلبوا الرزق» «(2)».
روى الحميري في قرب الإسناد عن الصادق عليه السلام: «إنّ الدعاء يردّ القضاء، وإنّ المؤمن ليأتي الذنب فيحرم به الرزق» «(3)».
وروى أيضاً عنه عليه السلام: قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «داووا مرضاكم بالصدقة، وادفعوا أبواب البلاء بالدعاء».
وروى الصدوق عن أمير المؤمنين عليه السلام: «ادفعوا أمواج البلاء عنكم بالدعاء قبل ورود البلاء» «(4)».
قد عقد الكليني في الكافي باباً أسماه «إنّ الدعاء يردّ البلاء والقضاء» ومن جملة أحاديث هذا الباب: روي عن حمّاد بن عثمان قال: سمعته يقول: «إنّ الدعاء يردّ القضاء؛ ينقضه كما ينقض السلك وقد أُبرم إبراماً» «(5)».
ص:436
وروى عن أبي الحسن موسى عليه السلام: «عليكم بالدعاء؛ فإنّ الدعاء للَّه والطلب إلى اللَّه يردّ البلاء وقد قدّر وقضى ولم يبق إلّاإمضاؤه، فإذا دعي اللَّه عزّ وجلّ وسئل،صرف البلاءصرفة» «(1)».
وأمّا من طرق العامّة فقد أخرج الحاكم عن ابن عباس- رضي اللَّه عنه- قال:
«لا ينفع الحذر عن القدر، ولكن اللَّه يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر».
قال: وأخرج ابن أبي شيبة في المصنّف، وابن أبي الدنيا في الدعاء عن ابن مسعود- رضي اللَّه عنه- قال: ما دعا عبد بهذه الدعوات إلّاوسّع اللَّه له في معيشته:
«ياذا المنّ ولا يمنّ عليه، ياذا الجلال والإكرام، ياذا الطول، لا إله إلّاأنت ظهر اللّاجين وجار المستجيرين، ومأمن الخائفين، إن كنت كتبتني عندك في أُمّ الكتاب شقياً فامح عنّي اسم الشقاء وأثبتني عندك سعيداً، وإن كنت كتبتني عندك في أُمّ الكتاب محروماً، مقتّراً على رزقي، فامح حرماني، ويسّر رزقي، وأثبتني عندك سعيداً موفّقاً للخير، فإنّك تقول في كتابك الذي أنزلت: يمحوا اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده أُمّ الكتاب «(2)».
وروى أيضاً في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى: يسألُهُ من في السموات ما يقرب من هذا، فلاحظ «(3)».
روى الكليني عن أبي الحسن الرضا قال: «يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين، فيصيّرها اللَّه ثلاثين سنة، ويفعل اللَّه ما يشاء» «(4)».
ص:437
وروى أيضاً عن أبي جعفر قال: «صلة الأرحام تزكّي الأعمال، وتنمي الأموال وتدفع البلوى، وتيسّر الحساب، وتنسئ في الآجال» «(1)».
ومن طرق العامّة وردت روايات متعدّدة في هذا المنحى، نكتفي منها بما رواه السيوطي في الدر المنثور عن عليّ رضى الله عنه: أنّه سأل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عن هذه الآية:
يَمْحُوا اللَّه فقال له: «لأقرّن عينيك بتفسيرها، ولأقرّنَّ عين أُمّتي بعدي بتفسيرها: الصدقة على وجهها، وبرّ الوالدين، واصطناع المعروف يحوّل الشقاء سعادة، ويزيد في العمر، ويقي مصارع السوء».
وكما أنّ للأعمال الصالحة أثراً في المصير وحسن العاقبة، وشمول الرحمة وزيادة العمر وسعة الرزق، كذلك الأعمال الطالحة والسيّئات لها من التأثير المعاكس الذي لا يخفى على أحد في مسيرة حياة الإنسان.
ويدلّ على ذلك من الآيات قوله سبحانه:
وضَرَبَ اللَّه مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرتْ بِأَنْعُمِ اللَّه فَأَذَاقَها اللَّه لِباسَ الجُوعِ والخَوفِ بِمَا كانُوا يَصْنَعُونَ «(2)».
وقال سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّه لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ «(3)».
وقال سبحانه: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الَّثمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ «(4)».
أمّا الروايات في ذلك فحدّث عنها ولاحرج منها ما روي عن أمير المؤمنين
ص:438
عليّ عليه السلام عندما قال في خطبة له: «أعوذ باللَّه من الذنوب التي تعجّل الفناء» فقام إليه عبد اللَّه بن الكوّاء اليشكري، فقال: يا أمير المؤمنين أوَ تكون ذنوب تعجّل الفناء؟
فقال: «نعم ويلك! قطيعة الرحم». وقال أيضاً: «إذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار» «(1)».
وقد وردت في الآثار الوضعية للأعمال روايات يطول الكلام بنقلها. فلاحظ ما ورد في الزنا من أنّ فيه ستّ خصال ثلاث منها في الدنيا وثلاث منها في الآخرة، أمّا التي في الدنيا فيذهب بالبهاء ويعجّل الفناء ويقطع الرزق «(2)».
وأيضاً ما ورد في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مثل ما روي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام من أنّه قال: «لتأمرُنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، أو لتستعملنّ عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم» «(3)».
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «إنّهم لمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربّانيون والأحبار نزلت بهم العقوبات» «(4)».
ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لا تزال أُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء» «(5)» إلى غير ذلك من درر الكلمات التي نقلت عن معادنها.
فقد تحصّل ممّا ذكرنا:
أوّلًا: أنّ علمه سبحانه يعمّ كلّ الأشياء؛ ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
ص:439
وثانياً: أنّه سبحانه كلّ يوم هو في شأن.
وثالثاً: أنّ لأفعال العباد تأثيراً في حسن العاقبة وسوئها، ونزول الرحمة والبركة، أو العقاب والنقمة.
إذا وقفت على هذه المقدّمات الثلاث فاعلم: أنّه يقع الكلام في البداء في مقامين:
1- البداء في مقام الثبوت: أي تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو الطالحة.
2- البداء في مقام الإثبات: أي الإخبار عن تحقّق الشي ء علماً بالمقتضي مع خفاء المانع.
إنّ حقيقة البداء أنّه سبحانه- على خلاف ما اعتقده اليهود والنصارى في حقّه من فراغه عن أمر الخلق والتدبير، والإحياء والإماتة، والتوسيع والتقدير في الرزق، والتعمير والتنقيص، إلى غير ذلك ممّا يرجع إلى الكون والإنسان- هو القائم دائماً بالأمر والتدبير، وهو القيّوم على كلِّ شي ء، وكلّ يوم في شأن، وليست يداه مغلولتين، بل يداه مبسوطتان (في كلّ شي ء) يمحو ويثبت حسب مشيئته الحكيمة وإرادته النافذة، فهو المتجلّي في كلّ زمان بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، كالخالقية والرازقية، والإحياء والإماتة، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى.
ومن شعب هذا الأمر، هو أنّه سبحانه: يزيد في الرزق والعمر وينقص منهما، وينزل الرحمة والبركة، كما ينزل البلاء والنقمة، حسب مشيئته الحكيمة، النافذة، ولا تصدر عنه الأُمور جزافاً واعتباطاً، بل حسب ما تقتضيها حال العباد من
ص:440
حسن الأفعال وقبحها، وصالح الأعمال وطالحها. فربّما يكون الإنسان مكتوباً في الأشقياء، ثمّ يمحى فيكتب من السعداء، أو على العكس بسبب ما يقوم به من أعمال.
وبالجملة: فالبداء في عالم الثبوت مخالف لزعم اليهود والنصارى المشار إليه في قوله سبحانه: وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّه مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيِهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبّك طُغْياناً وَكُفْراً «(1)»
، وقد ردَّ سبحانه تلك العقيدة اليهودية الباطلة في هذه الآية كما هو واضح.
ولأجل أنّ يديه سبحانه مبسوطتان، يزيد في الخلق ما يشاء- وفي العمر- وينقص منه، حسب مشيئته الحكيمة قال سبحانه: الحَمْدُ للَّه فَاطِرِ السَّمواتِ والأرْضِ... يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديرٌ «(2)».
قال سبحانه: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلاتَضَعُ إلَّابِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلّافِي كِتابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّه يَسِيرٌ «(3)».
وبناء على ذلك فالبداء بهذا المعنى ممّا يشترك فيه كلّ المسلمين، على مذاهبهم المختلفة، من دون اختصاص بالشيعة، فليس أحد من المسلمين ينكر أنّه سبحانه كلّ يوم هو في شأن، وأنّه جلّ وعلا يبدئ ويعيد، ويحيي ويميت، كما أنّه سبحانه يزيد في الرزق والعمر وينقص، إلى غير ذلك حسب المشيئة الحكيمة والمصالح الكامنة في أفعاله.
ص:441
هذا الأصل- الذي يعدّ من المعارف العليا تجاه ما عرف من اليهود، من سيادة القدر على كلّ شي ء حتى إرادته سبحانه- يستفاد بوضوح من قوله سبحانه:
يمحوا اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده أُمّ الكتاب «(1)»
وهذه الآية هي الأصل في البداء في مقام الثبوت ويكفي في إيضاح دلالتها، نقل كلمات المحقّقين من المفسّرين، حتّى يقف القارئ على أنّ القول بالبداء بالمعنى الصحيح، ممّا اصفقت عليه الأُمّة.
1- روى الطبري (ت 310 ه) في تفسير الآية عن جمع من الصحابة والتابعين أنّهم كانوا يدعون اللَّه سبحانه بتغيير المصير وإخراجهم من الشقاء- إن كتب عليهم- إلى السعادة، مثلًا كان عمر بن الخطاب- رضي اللَّه عنه- يقول وهو يطوف بالكعبة: اللّهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني على الذنبِ [الشقاوة] فامحني وأثبتني في أهل السعادة؛ فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أُمّ الكتاب.
وروى نظير هذا الكلام عن ابن مسعود، وابن عبّاس، وشقيق وأبي وائل «(2)».
روي عن ابن زيد أنّه قال في قوله سبحانه: يمحوا اللَّه ما يشاء بما يُنزِّلُ على الأنبياء، ويُثبت ما يشاء ممّا ينزله إلى الأنبياء وقال: وعنده أُمّ الكتاب لايُغيّر ولايُبدَّل» «(3)».
2- قال الزمخشري (ت 528 ه): يمحوا اللَّه ما يشاء ينسخ ما يستصوب نسخه ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته أو ينزله غير منسوخ «(4)».
3- ذكر الطبرسي (471- 548 ه): لتفسير الآية وجوهاً متقاربة وقال:
ص:442
«الرابع أنّه عامٌّ في كلّ شي ء، فيمحو من الرزق ويزيد فيه، ومن الأجل، ويمحو السعادة والشقاوة ويثبتهما. (روى ذلك) عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وأبي وائل، وقتادة. وأُمّ الكتاب أصل الكتاب الذي أُثبتت فيه الحادثات والكائنات.
وروى أبو قلابَة عن ابن مسعود أنّه كان يقول: اللّهمّ إن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء...» «(1)».
4- قال الرازي (ت 608 ه): إنّ في هذه الآية قولين:
القول الأوّل: إنّها عامة في كلّ شي ء كما يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا: إنّ اللَّه يمحو من الرزق ويزيد فيه، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر وهو مذهب عمر و ابن مسعود، والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرّعون إلى اللَّه تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء. وهذا التأويل رواه جابر عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.
والقول الثاني: إنّ هذه الآية خاصّة في بعض الأشقياء دون البعض.
ثمّ قال: فإن قال قائل: ألستم تزعمون أنّ المقادير سابقة قد جفَّ بها القلم وليس الأمر بأنف، فكيف يستقيم مع هذا المعنى، المحو والإثبات؟
قلنا: ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جفّ به القلم، فلأنّه لايمحو إلّاما سبق في علمه وقضائه محوه «(2)».
5- قال القرطبي (ت 671 ه)- بعد نقل القولين وأنّ المحو والإثبات هل يعمّان جميع الأشياء أو يختصّان ببعضها-: مثل هذا لايدرك بالرأي والاجتهاد، وإنّما يؤخذ توقيفاً، فإنصحَّ فالقول به يجب أن يوقف عنده، وإلّا فتكون الآية عامّة في
ص:443
جميع الأشياء، وهو الأظهر- ثم نقل دعاء عمر بن الخطاب في حال الطواف ودعاء عبداللَّه بن مسعود ثم قال: روي في الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت النبيصلى الله عليه و آله يقول: «مَن سرَّه أن يبسط له في رزقهِ ويُنسَأ له في أثره (أجله) فليصل رحمه» «(1)».
6- قال ابن كثير (ت 774 ه) بعد نقل قسم من الروايات: ومعنى هذه الروايات أنّ الأقدار ينسخ اللَّه ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء، وقد يُستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد عن ثوبان قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إن الرجل ليُحْرَمُ الرزقَ بالذنب يصيبه ولايردّ القَدَرُ إلّابالدعاء، ولايزيد في العمر إلّاالبر» ثم نقل عن ابن عبّاس: «الكتاب كتابان؛ فكتاب يمحو اللَّه منه ما يشاء ويثبت عنده ما يشاء، وعنده أُمّ الكتاب» «(2)».
7- روى السيوطي (ت 911 ه) عن ابن عبّاس في تفسير الآية: هو الرجل يعمل الزمان بطاعة اللَّه، ثم يعود لمعصية اللَّه فيموت على ضلالة، فهو الذي يمحو، والذي يثبت: الرجل يعمل بمعصية اللَّه تعالى وقد سبق له خير حتّى يموت وهو في طاعة اللَّه سبحانه وتعالى. ثمّ نقل ما نقلناه من الدعاء عن جماعة من الصحابة والتابعين «(3)».
8- ذكر الآلوسي (ت 1270 ه) عند تفسير الآية قسماً من الآثار الواردة حولها وقال: أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن عليّ- كرم اللَّه وجهه- أنّه سأل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عن قوله تعالى: يمحوا اللَّه ما يشاء... الآية فقال له عليه الصلاة والسلام: «لأقرّنّ عينك بتفسيرها، ولأقرّنّ عين أُمّتي بعدي بتفسيرها: الصدقة
ص:444
على وجهها، وبرّ الوالدين واصطناع المعروف، محوِّل الشقاء سعادة، ويزيد في العمر، ويقي مصارع السوء» ثم قال: دفع الإشكال عن استلزام ذلك، بتغيّر علم اللَّه سبحانه، ومن شاء فليراجع «(1)».
9- قالصديق حسن خان (ت 1307 ه) في تفسير الآية: وظاهر النظم القرآني العموم في كلّ شي ء ممّا في الكتاب، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوةٍ أو سعادةٍ أو رزقٍ أو عمرٍ أو خيرٍ أو شرّ ويبدّل هذا بهذا، ويجعل هذا مكان هذا. لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون. وإلى هذا ذهب عمر بن الخطّاب وابن مسعود وابن عبّاس وأبو وائل وقتادة والضحّاك وابن جريج وغيرهم... «(2)».
10- قال القاسمي (ت 1332 ه): تمسّك جماعة بظاهر قوله تعالى: يمحوا اللَّه ما يشاء ويثبت فقالوا: إنّها عامَّة في كلّ شي ء كما- يقتضيه ظاهر اللفظ- قالوا يمحو اللَّه من الرزق ويزيد فيه، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر «(3)».
11- قال المراغي (ت 1371 ه) في تفسير الآية: وقد أُثر عن أئمة السلف أقوال لاتناقض بل هي داخلة فيما سلف ثم نقل الأقوال بإجمال «(4)».
وهذه الجمل والكلم الدرّية المضيئة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان والمفسّرين؛ تعرب عن الرأي العام بين المسلمين في مجال إمكان تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة، ومنها الدعاء والسؤال، وأنّه ليس كلّ تقدير حتمياً لايغيّر ولايبدّل، وأنّ للَّه سبحانه لوحين: لوح المحو والإثبات ولوح «أُمّ الكتاب»
ص:445
والذي لايتطرّق التغيير إليه هو الثاني دون الأوّل، وأنّ القول بسيادة القدر على اختيار الإنسان في مجال الطاعة والمعصية؛ قول بالجبر الباطل بالعقل والضرورة ومحكمات الكتاب. ومن جنح إليه لزمه القول بلغوية إرسال الرسل وإنزال الكتب ذلكَ ظَنُّ الَّذينَ كَفروا فَويلٌ لِلَّذينَ كَفروا مِنَ النّار «(1)»
.
وكما أنّه سبحانه يداه مبسوطتان، كذلك العبد مختار في أفعاله لا مسيّر، وحرٌّ في تصرّفاته «(2)» لا مجبور، له أن يغيّر مصيره ومقدَّره بحسن فعله وجودة عمله، ويخرج اسمه من الأشقياء، ويدخله في السعداء، كما أنّ له أن يخرج اسمه من السعداء ويدخله في الأشقياء بسوء عمله.
فاللَّه سبحانه كما يمحو ويثبت في التكوين، فيحيي ويميت، كذلك يمحو مصير العبد ويغيّره حسب ما يغيّر العبد بنفسه (فعله وعمله) لقوله سبحانه: إنَّ اللَّه لا يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» «(3)»
، كل ذلك لأجل أنّ يديه مبسوطتان، وأنّ العبد حرٌّ مختار، قادر على تغيير القضاء، وتبديل القدر، بحسن فعله أو سوئه، كما دلّت عليه الآيات والروايات.
وليس في ذلك أيّ محذور ولا مخالفة للعقل ولا الكتاب والسنّة، بل تغيير القضاء بحسن الفعل وتغيير القدر بسوئه، هو أيضاً من قدره وقضائه وسننه التي لا تبديل لها ولا تغيير، فاللَّه سبحانه إذا قدّر لعبده شيئاً وقضى له بأمر، فلم يقدّره ولم يقضِ به على وجه القطع والبتِّ، بحيث لا يتغيّر ولا يتبدّل، بل قضى به على وجه خاصّ، وهو أنّ القضاء والقدر يجري عليه، ما لم يغيّر العبد حاله، فإذا غيّر
ص:446
حاله بحسن فعله أو سوئه، يتغيّر القضاء ويتبدّل القدر، ويخلف قضاء وقدر آخر مكانهما الأوّل، وكلّ هذه أيضاً قضاء وقدر منه، كما لا يخفى.
وهذا (البداء في الثبوت) أولى من التسمية بالمحو والإثبات، والتغيير والتبديل في الكون وفي مصير الإنسان، غير أنّ المحو والإثبات في الكون بيد اللَّه سبحانه، يتصرّف فيه حسب مشيئته، ولا دخل لإرادة الإنسان وفيصلاح فعله وفساده، وأمّا التغيير في مصير الإنسان فيتوقّف تعلّق المشيئة عليه؛ على كيفية حال العبد وكيفية عمله من حسن أو قبح.
الاعتقاد بالمحو والإثبات، وأنّ العبد قادر على تغيير مصيره بأفعاله وأعماله، لابدّ من أن يبعث الرجاء في قلب من يريد أن يتطهّر، وينمي نواة الخير الكامنة في نفسه. فتشريع البداء، مثل تشريع قبول التوبة، والشفاعة، وتكفير الصغائر بالاجتناب عن الكبائر، كلّها لأجل بعث الرجاء وإيقاد نوره في قلوب العصاة والعتاة، حتّى لا ييأسوا من روح اللَّه، ولا يتولّوا بتصور أنّهم من الأشقياء وأهل النار قدراً، وأنّه لافائدة من السعي والعمل، فلعلم الإنسان أنّه سبحانه لم يجفّ قلمه في لوح المحو والإثبات، وله أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، يسعد من يشاء، ويشقي من يشاء «وليست مشيئته جزافية غير تابعة لضابطة عقلية» لأنّ العبد لو تاب، وعمل بالفرائض، وتمسّك بالعروة الوثقى، فإنّه يخرج من سلك الأشقياء، ويدخل فيصنف السعداء، وبالعكس. وهكذا فإنّ كلّ ما قدّر في حقّه من الموت والمرض والفقر والشقاء يمكن تغييره بالدعاء، والصدقة، وصلة الرحم، وإكرام الوالدين، وغير ذلك، فجميع هذا من باب الرحمة الإلهية لأجل بثّ الأمل في قلب الإنسان، وعلى هذا فالاعتقاد بذلك من ضروريات الكتاب وصريح آياته
ص:447
وأخبار الهداة.
وبهذا يظهر أنّ البداء من المعارف العليا التي اتّفقت عليه كلمة المسلمين، وإن غفل عن معناه الجمهور (ولو عرفوه لأذعنوا له).
وأمّا اليهود- خذلهم اللَّه- فقالوا باستحالة تعلّق المشيئة بغير ما جرى عليه القلم، ولأجل ذلك قالوا: يد اللَّه مغلولة عن القبض والبسط، والأخذ والإعطاء، وبعبارة أُخرى: فإنّهم يذهبون إلى أنّ للإنسان مصيراً واحداً لايمكن تغييره ولا تبديله، وأنّه ينال ما قدّر له من الخير والشر.
ولوصحّ ذلك لبطل الدعاء والتضرّع، ولبطل القول بأنّ للأعمال الصالحة وغير الصالحة ممّا عددناها تأثيراً في تغيير مصير الإنسان.
على ضوء هذا البيان نتمكّن من فهم ما جاء في فضيلة البداء وأهميته في الروايات مثل ما روى زرارة عن أحدهما (الباقر أو الصادق عليهما السلام): «ما عُبد اللَّه عزّ وجلّ بشي ء مثل البداء» «(1)».
وما روي عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «ما عُظِّم اللَّه عزّ وجلّ بمثل البداء» «(2)».
إذ لولا الإقرار بالبداء بهذا المعنى ما عُرف اللَّه حقّ المعرفة، بل ويبدو سبحانه في نظر العبد (بناء على عقيدة بطلان البداء) أنّه مكتوف الأيدي، لا يقدر على تغيير ما قدّره، ولا محو ما أثبته.
ومن الروايات في هذه المعنى ما روي عن الصادق عليه السلام أنّه قال:
«لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا من الكلام فيه» «(3)».
ص:448
وذلك لأنّ الاعتقاد بالبداء نظير الاعتقاد بتأثير التوبة والشفاعة يوجب رجوع العبد عن التمادي في الغيِّ والضلالة، والإنابة إلى الصلاح والهداية.
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم: أنّ المراد من البداء في مقام الإثبات هو وقوع التغير في بعض مظاهر علمه سبحانه؛ فإنّ لعلمه سبحانه مظاهر، منها: ما لا يقبل التغيير، ومنها ما يقبل ذلك.
أمّا الأوّل: فهو المعبّر عنه ب «اللوح المحفوظ» تارة وب «أُمّ الكتاب» أُخرى، قال سبحانه: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «(1)»
. وقوله تعالى: وَإنّهُ في أُمّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَليٌّ حَكِيمٌ «(2)».
وقال سبحانه: مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّافِي كِتابٍ مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّه يَسِيرٌ «(3)».
فاللوح المحفوظ وأُمّ الكتاب يمكن التعبير عنه بأنّه ذلك الكتاب الذي كتب فيه ما يصيب الإنسان طيلة حياته من بلايا وفتن ونعيم وسرور بشكل لا يمكن أن يتطرّق إليها المحو والإثبات قدر شعرة، ولأجل ذلك لو تمكّن الإنسان أن يتّصل به، لوقف على الحوادث على ما هي عليه بلا خطأ ولا تخلّف.
أمّا الثاني: فهو لوح المحو والإثبات الذي أشار إليه سبحانه بقوله: يَمْحُوا اللَّه مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ «(4)»
فالأحكام الثابتة فيه أحكام معلّقة على
ص:449
وجود شرطها أو عدم مانعها، فالتغيّر فيها لأجل إعواز شرطها أو تحقّق مانعها، فمثلًا يمكن أن يكتب فيه الموت نظراً إلى مقتضياته في الوقت المعين المتّصل بالمقتضيات، إلّاأنّه ربّما يمحى ويؤجل ويكتب بدله توفر الصحّة؛ لفقدان شرط التقدير الأوّل أو طروّ مانع من تأثير المقتضي.
فالتقدير الأوّل يفرض لأجل قياس الحادث إلى مقتضيه، كما أنّ التقدير الثاني يتصوّر بالنسبة إلى جميع أجزاء علّته، فإنّ الشي ء إذا قيس إلى مقتضيه- الذي يحتاج الصدور منه إلى وجود شرائط وعدم موانع- يمكن تقدير وجوده، بالنظر إلى مجموع أجزاء علّته التي منها الشرائط وعدم الموانع، ويقدّر عدمه لفرض عدم وجود شرائطه، وتحقّق موانعه.
إذا علمت ذلك فاعلم: أنّه ربّما يتّصل النبيّ أو الوليّ بلوح المحو والإثبات، فيقف على المقتضي من دون أن يقف على شرطه أو مانعه، فيخبر عن وقوع شي ء ما، ولكنّه ربّما لا يتحقّق لأجل عدم تحقّق شرطه أو عدم تحقّق وجود مانعه، وذلك هو البداء في عالم الإثبات.
وإن شئت قلت: إنّ موارد وقوع البداء حسب الإثبات من ثمرات البداء في عالم الثبوت، ولم يرد في الأخبار من هذا القسم من البداء إلّاموارد لا تتجاوز عدد الأصابع «(1)»، نشير إليه بعد الفراغ عمّا ورد في الذكر الحكيم.
- قال سبحانه: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلام حَلِيمٍ* فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنيَّ إنِّي أَرى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذبَحُكَ فَانظر مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّه مِنَ الصَّابِرِينَ «(2)».
ص:450
أخبر إبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل عليه السلام بأنّه رأى في المنام أنّه يذبحه، ورؤيا الأنبياء (كما ورد في الحديث) من أقسام الوحي، فكانت رؤياهصادقة حاكية عن حقيقة ثابتة، وهي أمر اللَّه إبراهيم بذبح ولده، وقد تحقّق ذلك الأمر، أي أمر اللَّه سبحانه به.
ولكن قوله: إِنِّي أَرى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذبَحُكَ يكشف عن أمرين:
أوّلًا: الأمر بذبح الولد أمر تشريعي كما عرفت وقد تحقّق.
ثانياً: الحكاية عن تحقّق ذلك في الواقع الخارجي وأنّ إبراهيم سيمتثل ذلك، والحال أنّه لم يتحقّق لفقدان شرطه وهو عدم النسخ، ويحكي عن كلا الأمرين قوله: وفَدَيناهُ بِذَبْحٍ عظيم.
و عندئذ يطرح هذا السؤال نفسه: بأنّه كيف أخبر خليل الرحمن بشي ء من الملاحم والمغيبات، ثمّ لم يتحقّق؟ والجواب عن هذا السؤال يكمن في الأمر الذي أشرنا إليه سابقاً وهو أنّ إبراهيم عليه السلام وقف على المقتضى فأخبر بالمقتضي، ولكنّه لم يقف على ما هو العلّة التامّة، وليس لعلمه هذا مصدر سوى اتّصاله بلوح المحو والإثبات.
2- وأمّا يونس عليه السلام فإنّه أنذر قومه بأنّهم إن لم يؤمنوا فسوف يصيبهم العذاب إلى ثلاثة أيام وما كان قوله تخرّص أو تخويف، بل كان يخبر عن حقيقة يعلم بها، إلّا أنّ هذا الأمر لم يقع كما هو معروف، وفي هذا إشارة واضحة إلى أنّه عليه السلام وقف على المقتضي ولم يقف على المانع، وهو أنّ القوم سيتوبون عند رؤية العذاب توبةصادقة يعلمها اللَّه تعالى ترفع عنهم العذاب الذي وعدوا به، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:
فَلَوْلا كَانَت قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إلَّاقَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَمَتَّعْناهُمْ إلى حِين «(1)».
ص:451
3- أخبر موسى قومه بأنّه سيغيب عنهم ثلاثين ليلة، كما روي عن ابن عبّاس حيث قال: إنّ موسى قال لقومه: إنّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلف هارون فيكم، فلمّا فصل موسى إلى ربّه زاده اللَّه عشراً، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده اللَّه «(1)».
وإلى هذا الأمر يشير قوله سبحانه: وَوَاعدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسى لأخيهِ هَارونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبيلَ المفسِدِينَ «(2)».
فلا شكّ أنّ موسى أُطلع على الخبر الأوّل ولم يطلع على نسخه، وأنّ التوقيت سيزيد، ولا مصدر لعلمه إلّاالاتّصال بلوح المحو والإثبات.
هذه جملة الأخبار التي تحدَّث بها الذكر الحكيم عن أحداث ووقائع كان النبيّون عليهم السلام قد أخبروا بحتمية وقوعها على حدّ علمهم، إلّاأنّها لم تتحقّق، وعندها لا مناص من تفسيرها بوقوف أنبياء اللَّه تعالى على المقتضي دون العلّة التامّة.
فعندما يظهر عدم التحقّق يطلق عليه البداء، والمراد به أنّه بدا من اللَّه لنبيّه وللناس ما خفي عليهم، على غرار قوله سبحانه: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّه مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ «(3)»
فالبداء إذا نسب إلى اللَّه سبحانه فهو بداء منه، وإذا نسب إلى الناس فهو بداء لهم.
وبعبارة أُخرى: البداء من اللَّه هو إظهار ما خفي على الناس، والبداء من الناس بمعنى ظهور ما خفي لهم، وهذا هو الحقّ الصراح الذي لا يرتاب فيه أحد.
ص:452
وأمّا ما ورد في الروايات، فهو بين خمسة أو أزيد بقليل:
1- إنّ المسيح عليه السلام مرّ بقوم مجلبين «(1)»، فقال: «ما لهؤلاء»؟ قيل يا روح اللَّه فلانة بنت فلانة تهدى إلى فلان في ليلته هذه، فقال: «يجلبون اليوم ويبكون غداً»، فقال قائل منهم: ولم يا رسول اللَّه؟ قال: «لأنّصاحبتهم ميّتة في ليلتها هذه»... فلمّا أصبحوا وجدوها على حالها، ليس بها شي ء، فقالوا: يا روح اللَّه إنّ التي أخبرتنا أمس أنّها ميّتة لم تمُت. فدخل المسيح دارها فقال: «ماصنعت ليلتك هذه»؟ قالت:
لم أصنع شيئاً إلّاوكنت أصنعه فيما مضى، إنّه كان يعترينا سائل في كلّ ليلة جمعة فَنُنيله ما يقوته إلى مثلها. فقال المسيح: «تنحّ عن مجلسك» فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة، عاضّ على ذنبه، فقال عليه السلام: «بماصنعتِ،صُرِفَ عنكِ هذا» «(2)».
2- روي الكليني عن الإمام الصادق عليه السلام انّه قال: «مرّ يهودي بالنبيّ صلى الله عليه و آله فقال:
السام عليك، فقال النبيّصلى الله عليه و آله: عليك. فقال أصحابه: إنّما سلّم عليك بالموت فقال: الموت عليك. فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: وكذلك رددت. ثمّ قال النبيّ صلى الله عليه و آله: إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله.
قال: فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله، ثمّ لم يلبث أن انصرف، فقال له رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: ضعه، فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاضّ على عود، فقال: يا يهودي ما عملت اليوم؟ قال: ما عملت عملًا إلّا حطبي هذا حملته فجئت به وكان معي كعكتان، فأكلت واحدة وتصدّقت
ص:453
بواحدة على مسكين، فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: بها دفع اللَّه عنه، قال: إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان» «(1)».
ولا يمكن لأحدٍ تفسير مضامين الآيات الماضية وهذين الحديثين إلّاعن طريق البداء بالمعنى الذي تعرّفت عليه، وهو اتّصال النبيّ بلوح المحو والإثبات، والوقوف على المقتضي، والإخبار بمقتضاه دون الوقوف على العلّة التامّة.
3- روى الصدوق عن الإمام الباقر عليه السلام: «إنّ اللَّه تعالى عرض على آدم أسماء الأنبياء وأعمارهم، فمرّ بآدم اسم داود النبيّ عليه السلام فإذا عمره في العالم أربعون سنة، فقال آدم: يا ربِّ ما أقل عمر داود وما أكثر عمري، يا ربّ إن أنا زدت داود من عمري ثلاثين سنة، أتثبت ذلك له؟ قال اللَّه: نعم يا آدم، فقال آدم: فإنّي قد زدته من عمري ثلاثين سنة» قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: «فأثبت اللَّه عزّوجلّ لداود في عمره ثلاثين سنة» «(2)».
ترى أنّه سبحانه أثبت شيئاً، ثمّ محاه بدعاء نبيّه، وهذا هو المراد من قوله سبحانه: يمحوا اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده أُمّ الكتاب فلو أخبر نبيّ اللَّه عن عمر داود بأربعين سنة لم يكن كاذباً في إخباره؛ لأنّه وقف على الإثبات الأوّل، ولم يقف على محوه.
4- أوحى اللَّه تعالى إلى نبيّ من أنبيائه أن يخبر أحد ملوك عصره بأنّه تعالى متوفّيه يوم كذا، فما كان من ذلك الملك إلّاأن رفع يديه بالدعاء إلى اللَّه تعالى قائلًا:
ربّ أخّرني حتّى يشبَّ طفلي وأقضي أمري، فأوحى اللَّه عزّوجلّ إلى ذلك النبيّ:
أنِ ائت فلاناً الملك وأخبره أنّي قد زدت في عمره خمس عشرة سنة «(3)».
ص:454
5- روى عمرو بن الحمق، قال: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام حين ضرب على قرنه، فقال لي: «يا عمرو إنّي مفارقكم، ثمّ قال: سنة سبعين فيها بلاء»- قالها ثلاثاً- فقلت: فهل بعد البلاء رخاء؟ فلم يجبني وأُغمي عليه، فبكت أُمّ كلثوم فأفاق... فقلت: بأبي أنت وأُمّي قلتَ: إلى السبعين بلاء، فهل بعد السبعين رخاء؟
قال: «نعم يا عمرو إنّ بعد البلاء رخاء و يمحوا اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده أُمّ الكتاب» «(1)»
.
هذه جملة ما ورد في البداء في مقام الإثبات، وإن شئت قلت في ثمرات البداء في الثبوت، ولا تجد في الأحاديث الشيعية بداء غير ما ذكرنا، ولو عثر المتتبّع على مورد، فهو نظير ما سبق من الموارد، والتحليل في الجميع واحد.
إذا وقفت على ذلك تدرك بوضوح ضعف مقالة الرازي التي يقول فيها: إنّ أئمّة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم، لا يظهر معهما أحد عليهم:
الأوّل: القول بالبداء، فإذا قال: إنّهم سيكون لهم قوّة وشوكة، ثمّ لا يكون الأمر على ما أخبروا، قالوا: بدا للَّه فيه «(2)».
إنّ الذي نقله أئمّة الشيعة هو ما تعرّفت عليه من الروايات، وليس فيها شي ء مما نسبه الرازي إليهم، فقد نقلوا قصّة رسول اللَّه مع اليهودي، وقصة المسيح مع العروس، كما نقلوا قصّة عمر داود وعمر الملك، فهل يجد القارئ المنصف شيئاً مما ذكره الرازي؟!
وأمّا ما رواه عمرو بن الحمق فإنّما هو خبر واحد ذيّل كلامه بالآية قائلًا: بأنّ هذا ليس خبراً قطعياً وأنّه في مظانّ المحو والإثبات.
أفيصحّ لأجل مثله رمي أئمّة الشيعة «بأنّهم وضعوا قاعدتين، وأنّهم كلّما
ص:455
يقولون سيكون لهم قوّة ثمّ لا يكون، قالوا بدا للَّه تعالى فيه»؟!
وقد سبق الرازي في هذا الزعم أبو القاسم البلخي المعتزلي على ما حكاه شيخنا الطوسي في تبيانه «(1)».
ثمّ إنّ إكمال البحث يتوقّف على ذكر أُمور:
إنّ البداء بالمعنى المذكور يجب أن يكون على وجه لا يستلزم تكذيب الأنبياء ووحيهم، وذلك بأن تدلّ قرائن على صحّة الإخبار الأوّل كماصحّ الخبر الثاني، وهو ما نراه واضحاً في قصّة يونس وإبراهيم الخليل، فإنّ القوم قد شاهدوا طلائع العذاب فأذعنوا بصحّة خبر يونس، كما أنّ التفدية بذبح عظيم دلّت علىصحّة إخبار الخليل، وهكذا وجود الأفعى تحت الثياب أو في جوف حطب اليهودي يدلّان علىصحّة إخبار النبيّ الأعظم.
كلّ ذلك يشهد على أنّ الخبر الأوّل كانصحيحاً ومقدّراً، غير أنّ الإنسان يمكن له أن يغيّر مصيره بعمله الصالح أو الطالح كما في غير تلك المقامات.
وبالجملة: يجب أن يكون وقوع البداء مقروناً بما يدلّ علىصحة إخبار النبيّ عليه السلام ولا يكون البداء على وجه يعدّ دليلًا على كذبه، ففي هذه الموارد دلّت القرائن على أنّ المخبر كانصادقاً في خبره.
ص:456
إنّ البداء لا يتحقّق فيما يتعلّق بنظام النبوّة والولاية والخاتمية والملاحم الغيبية التي تعدّ شعاراً للشريعة، فإذا أخبر المسيح بمجي ء نبيّ اسمه أحمد، أو أخبر النبيّ بكونه خاتماً للرسل، أو أنّ الخلافة بعده لوصيّه، أو أنّه يخرج من ولده من يملأ الأرض قسطاً وعدلًا، ونظير ذلك، فلا يتحقّق فيه البداء قطعاً؛ لأنّ احتمال البداء فيه ناقض للحكمة، وموجب لضلال العباد، ولو كان احتمال هذا الباب مفتوحاً في تلك المسائل الأُصولية لما وجب لأحد أن يقتفي النبيّ المبشَّر به، ولا يوالي الوصي المنصوص عليه، ولا يتلقّى دين الإسلام خاتماً، ولا ظهور المهدي أمراً مقضيّاً، بحجّة أنّه يمكن أن يقع فيه البداء. ففتح هذا الباب في المعارف والعقائد والأُصول والسنن الإسلامية مخالف للحكمة وموجب لضلالة الناس، وهذا ما يستحيل على اللَّه سبحانه، وإنّما مصبّ البداء هو القضايا الجزئية أو الشخصيّة، كما هو الحال في الأخبار الماضية.
أنّ إطلاق البداء في هذه الموارد، إنّما هو بالمعنى الذي عرفت، وأنّ حقيقته بداء من اللَّه للناس وإظهار منه، ولو قيل بدا للَّه، فإنّما هو من باب المشاكلة والمجاز، والقرآن ملي ء به، فقد نسب الذكر الحكيم إليه سبحانه المكر وقال: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه واللَّه خَيْرُ الماكِرِينَ «(1)»
وليست المناقشة في التعبير من دأب المحقّقين، فلو كان أهل السنّة لا يروقهم التعبير عن هذا الأصل بلفظ البداء للَّه، فليغيّروا التعبير ويعبّروا عن هذه الحقيقة الناصعة بتعبير يرضيهم.
ولكن الشيعة تبعت النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله في هذا المصطلح، وهو أوّل من استعمل
ص:457
تلك اللفظة في حقّه سبحانه، وما يؤكّد ذلك هو ما رواه البخاري في كتاب النبوّة «قصّة بدء الخليقة» وفيها هذه اللفظة التي يستهجنها البعض ويتّهم الشيعة بابتداعها واختلاقها، فقد روى أبو هريرة:
أنّه سمع من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «أنّ ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا للَّه أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص فقال: أي شي ء أحبّ إليك؟
قال: لون حسن، وجلد حسن، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه فأُعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، فقال: أيّ المال أحبّ إليك؟ قال: الإبل أو قال:
البقر- هو شكّ في ذلك أنّ الأبرص والأقرع قال أحدهما: الإبل وقال الآخر:
البقر- فأُعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك اللَّه لك فيها.
وأتى الأقرع فقال: أيّ شي ء أحبّ إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عنّي هذا، قد قذرني الناس. قال: فمسحه، فذهب، وأُعطي شعراً حسناً، قال: فأيّ المال أحب إليك؟ قال: البقر. قال: فأعطاه بقرة حاملًا، وقال: يبارك لك فيها.
وأتى الأعمى فقال: أيّ شي ء أحبّ إليك؟ قال: يردّ اللَّه إليّ بصري، فأُبصر به الناس، قال: فمسحه فردّ اللَّه إليه بصره. قال: فأيّ المال أحب إليك؟ قال:
الغنم، فأعطاه شاة والداً، فأنتج هذان وولّد هذا، فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من الغنم.
ثمّ إنّه أتى الأبرص فيصورته وهيئته فقال: رجل مسكين تقطّعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلّاباللَّه ثمّ بك. أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيراً أتبلّغ عليه في سفري، فقال له: إنّ الحقوق كثيرة. فقال له: كأنّي أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيراً فأعطاك اللَّه؟
فأجابه: لقد ورثت لكابر عن كابر! فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك اللَّه إلى ما كنت.
وأتى الأقرع فيصورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، فردّ عليه مثلما ردّ
ص:458
عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك اللَّه إلى ما كنت.
وأتى الأعمى فيصورته فقال: رجل مسكين وابن سبيل وتقطّعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلّاباللَّه، ثمّ بك. أسألك بالذي ردّ عليك بصرك شاة أتبلّغ بها في سفرى، فقال: قد كنت أعمى فردّ اللَّه بصري، وفقيراً فقد أغناني، فخذ ما شئت، فو اللَّه لا أجحدك اليوم بشي ء أخذته للَّه، فقال: أمسك مالك فإنّما ابتليتم فقد رضى اللَّه عنك وسخط علىصاحبيك» «(1)».
ص:459
المسألة السادسة: الرجعة في الكتاب والسنّة
إنّ فكرة الرجعة التي تحدّثت عنها بعض الآيات القرآنية والأحاديث المرويّة عن أهل بيت الرسالة ممّا يشنّع بها على الشيعة، فكأنَّ من قال بها رأى رأياً يوجب الخروج عن الدين، غير أنّ هؤلاء نسوا أو تناسوا أنّ أوّل من أبدى نظرية الرجعة هو الخليفة عمر بن الخطّاب، فقد أعلن عندما شاعت رحلة النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله بأنّه ما مات وليعودنّ فيقطعنّ أيدي وأرجل أقوام...
عن أبي هريرة قال: لمّا توفّي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قام عمر بن الخطّاب، فقال: إنّ رجالًا من المنافقين يزعمون أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله توفّي، وإنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله واللَّه ما مات، ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثمّ رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، واللَّه ليرجعنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله كما رجع موسى، فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله مات «(1)»!!
ولا يخفى أنّ كلام الخليفة لو كان كلاماً حقيقياً لابدّ أن يُحمل على أنّ النبيّ ما مات موتاً لا رجوع فيه وإنّما يرجع فيقوم بما أخبر عنه الخليفة، ولو أراد من نفي
ص:460
موته أنّه ما زال حيّاً فهو خلاف رأي جميع الصحابة الذين اتّفقوا على موته صلى الله عليه و آله، ولم يكن موت النبيّصلى الله عليه و آله أمراً يدركه جميع الناس ولا يدركه الخليفة.
إنّ الرجعة بمعنى عود جماعة قليلة إلى الحياة الدنيوية قبل يوم القيامة ثمّ موتهم وحشرهم مجدّداً يوم القيامة ليس شيئاً يضادّ أُصول الإسلام، وليس فيه إنكار لأيّ حكم ضروري، وليس القول برجعتهم إلى الدنيا يلغي بعثهم يوم القيامة، وكيف لا يكون كذلك وقد أخبر سبحانه عن رجوع جماعة إلى الحياة الدنيوية، نظير:
1- إحياء جماعة من بني إسرائيل «(1)».
2- إحياء قتيل بني إسرائيل «(2)».
3- موت أُلوف من الناس وبعثهم من جديد «(3)».
4- بعث عزير بعد مائة عام من موته «(4)».
5- إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام «(5)».
فلو كان الاعتقاد برجوع بعض الناس إلى الدنيا قبل القيامة أمراً محالًا، فما معنى هذه الآيات الصريحة في رجوع جماعة إليها؟
ولو كان الرجوع إلى الدنيا على وجه الإطلاق تناسخاً فكيف تفسّر هذه الآيات؟
إنّ الاعتقاد بالذكر الحكيم يجرّنا إلى القول بأنّه ليس كلّ رجوع إلى الدنيا تناسخاً، وإنّما التناسخ الباطل عبارة عن رجوع الإنسان إلى الدنيا عن طريق
ص:461
النطفة والمرور بمراحل التكوّن البشري من جديد ليصير إنساناً مرّة أُخرى، وأين هذا من الرجعة وعود الروح إلى البدن الكامل من جميع الجهات من دون أن يكون فيها رجوع من القوّة إلى الفعلية، أو دخول روح في بدن آخر، إنساناً كان أو حيواناً؟!
اتّفقت الشيعة على بطلان التناسخ وامتناعه، وقد كتبوا فيه مقالات ورسائل يقف عليها من كان له إلمام بكتبهم وعقائدهم، وقد ذكروا أنّ للتناسخ أنواعاً وأقساماً، غير أنّ الرجوع إلى الدنيا من خلال دخول الروح إلى البدن الذي فارقه عند الموت لا يعدّ تناسخاً، وإنّما هو إحياء للموتى، الذي كان معجزة من معاجز المسيح.
كلّ ذلك يدلّ على أنّه ليس أمام القول بالرجعة عراقيل وموانع، وإنّما هو أمر ممكن لو دلّ عليه الدليل القطعي نأخذ به وإلّا فنتركه في سنبله، والحال أنّ بعض الآيات والروايات تدلّ على أنّه سيتحقّق الرجوع إلى هذه الدنيا قبل يوم القيامة لبعض الناس على وجه الإجمال، وأمّا من هم؟ وفي أيّ وقت يرجعون؟ ولأيّ غرض يعودون إلى الدنيا؟ فليس هنا مقام بيانها، إنّما نكتفي ببيان بعض الآيات الدالّة على وقوعه قبل البعث، وإليك الآيات.
قال سبحانه: وَإذا وَقَعَ القَولُ عَلَيهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرضِ تُكَلّمُهُمْ أنَّ النّاسَ كَانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنونَ* وَيَومَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجَاً مِمَّنْ يُكَذّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ «(1)».
لايشكّ من أمعن النظر في سياق الآيات وما ذكره المفسّرون حولها، في أنّ الآية الأُولى تتعلّق بالحوادث التي تقع قبل يوم القيامة، وعليه تكون الآية الثانية
ص:462
مكمّلة لها، وتدلّ على حشر فوج من كلّ جماعة قبل يوم القيامة، والحال أنّ الحشر في يوم القيامة يتعلّق بالجميع لا بالبعض، يقول سبحانه: وَيَومَ نُسَيّرُ الجِبالَ وَتَرى الأرضَ بارِزةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أحداً «(1)».
أفبعد هذا التصريح يمكن تفسير الآية السابقة بيوم البعث والقيامة؟
وهذه الآية تعرب عن الرجعة التي تعتقد بها الشيعة في حقّ جماعة خاصّة، وأمّا خصوصياتها فلم يحدّث عنها القرآن الكريم، وجاء التفصيل في السنّة.
وقد سأل المأمون العباسي الإمام الرضا عليه السلام عن الرجعة، فأجابه بقوله: «إنّها حقّ قد كانت في الأُمم السالفة ونطق بها القرآن وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يكون في هذه الأُمّة كلّ ما كان في الأُمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة» «(2)».
وأمّا من هم الراجعون؟ وما هو الهدف من إحيائهم؟ فيرجع فيه إلى الكتب المؤلّفة في هذا الموضوع، وإجمال الجواب عن الأوّل: أنّ الراجعين لفيف من المؤمنين ولفيف من الظالمين.
وقال المفيد ناقلًا عن أئمّة أهل البيت: إنّما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم مَن محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً، وأمّا ما سوى هذين فلا رجوع لهم إلى يوم المآب «(3)».
وقال أيضاً في المسائل السروية: والرجعة عندنا تختصّ بمن محض الإيمان، ومحض الكفر دون ما سوى هذين الفريقين «(4)».
وإجمال الجواب عن الثاني ما ذكره السيّد المرتضى، قال: إنّ اللَّه تعالى يعيد عند
ص:463
ظهور المهدي- عجَّل اللَّه تعالى فرجه الشريف- قوماً ممّن كان تقدّم موته من شيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته، ويعيد أيضاً قوماً من أعدائه لينتقم منهم.
1- إنّ الرجعة وإن كانت من مسلّمات عقائد الشيعة، ولكن التشيّع ليس منوطاً بالاعتقاد بها، فمن أنكرها فقد أنكر عقيدة مسلّمة بين أكثر الشيعة، ولكن لم يكن ركناً من أركان التشيّع، ولأجل ذلك نرى أنّ جماعة من الشيعة أوّلوا الأخبار الواردة في الرجعة إلى رجوع الدولة إلى شيعتهم وأخذهم بمجاري الأُمور دون رجوع أعيان الأشخاص، والباعث لهم على هذا التأويل هو عجزهم عن تصحيح القول بها نظراً واستدلالًا، ولكن المحقّقين من الإمامية، أخذوا بظواهرها وبيّنوا عدم لزوم استحالة عقلية على القول بها لعموم قدرة اللَّه على كلّ مقدور، وأجابوا عن الشبه الواردة عليها، وإلى هذا الاختلاف يشير الشيخ المفيد بقوله: واتّفقت الإمامية على رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة وإن كان بينهم في معنى الرجعة اختلاف.
ويشير إلى الاختلاف تلميذه الجليل الشريف المرتضى في المسائل التي وردت عليه من الريّ ومنها حول حقيقة الرجعة، فأجاب: بأنّ الذي تذهب إليه الشيعة الإمامية أنّ اللَّه تعالى يعيد عند ظهور المهدي قوماً ممّن كان تقدّم موته من شيعته، وقوماً من أعدائه، وأنّ قوماً من الشيعة تأوّلوا الرجعة على أنّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى شيعتهم، من دون رجوع الأشخاص، وإحياء الأموات «(1)».
ص:464
2- كيف يجتمع إعادة الظالمين مع قوله سبحانه: وحَرامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ «(1)»
فإنّ هذه الآية تنفي رجوعهم بتاتاً، وحشر لفيف من الظالمين يخالفها.
والإجابة عن السؤال واضحة؛ فإنّ الآية مختصّة بالظالمين الذين أُهلكوا في هذه الدنيا ورأوا جزاء عملهم فيها، فالآية تحكم بأنّهم لا يرجعون، وأمّا الظالمون الذين رحلوا عن الدنيا بلا مؤاخذة فترجع طائفة منهم ليروا جزاء عملهم فيها ثمّ يردّون إلى أشدّ العذاب في الآخرة، فالآية تنفي رجوع طائفة من الظالمين الذين ماتوا حتف الأنف.
3- إنّ الظاهر من قوله تعالى: حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعلّي أعْمَلُصالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلّا إنّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلها ومِنْ ورائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَومِ يُبْعَثُونَ «(2)»
هو نفي الرجوع إلى الدنيا بعد مجي ء الموت لأيّ أحد.
والإجابة عنها واضحة؛ فإنّ الآية كسائر السنن الإلهية الواردة في حقّ الإنسان؛ فهي تفيد أنّ الموت بطبعه ليس بعده رجوع، وهذا لا ينافي رجوع البعض استثناءً ولمصالح عليا، كما مرّت الآيات الواردة في هذا المضمار.
أضف إلى ذلك أنّ عود بعض الظالمين إلى الدنيا- على القول بالرجعة- إنّما هو لأجل عقابهم والانتقام منهم، وأين هذا من طلب هؤلاء الكفّار الرجوع لأجل تصحيح عملهم والقيام بما تركوه من الصالحات، وردّ هذا الفرع من الرجوع لا يكون دليلًا على نفي النوع الأوّل منه.
ص:465
المسألة السابعة: زواج المتعة
وممّا يشنع به على الشيعة: قولهم بجواز نكاح المتعة، ويعدّون القول بتشريعه أو بعدم نسخه مخالفاً للكتاب والسنّة. ورغم أنّ المسألة فرعية فقهية لا يناسب البحث عنها في كتب تاريخ العقائد، إلّاأنّه لما كانت من شعائر فقه الشيعة، آثرنا أن نبحث عنها في إطار الكتاب والسنّة، على وجه الإجمال، حتّى يقف القارئ على أنّ القول بأصل تشريعها وعدم نسخها ممّا يثبته الكتاب والسنّة، وأنّ القول بعدم تشريعها بتاتاً أو ادّعاء نسخها يضادّهما. وسيوافيك أنّ لفيفاً من الصحابة والتابعين كانوا يفتون بجوازها وعدم نسخها، وإنّما منع عنها عمر بن الخطاب لحافز نفسي أو اجتهاد شخصي لا دليل عليه وليس حجّة على الآخرين. وقد أبدى بنظيره في متعة الحجّ في زمن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.
فأمّا زواج المتعة: فهو عبارة عن تزويج المرأة الحرّة الكاملة نفسها إذا لم يكن بينها وبين الزوج مانع- من نسب أو سبب أو رضاع أو إحصان أو عدّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية- بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضا والاتّفاق، فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق. ويجب عليه مع الدخول بها- إذا لم تكن يائسة- أن
ص:466
تعتد عدّة الطلاق إذا كانت ممّن تحيض وإلّا فبخمسة وأربعين يوماً «(1)».
وولد المتعة- ذكراً كان أو أُنثى- يلحق بالأب ولا يدعى إلّابه، وله من الإرث ما أوصانا اللَّه سبحانه به في كتابه العزيز. كما يرث من الأُمّ، وتشمله جميع العمومات الواردة في الآباء والأبناء والأُمّهات، وكذا العمومات الواردة في الأُخوة والأخوات والأعمام والعمّات.
وبالجملة: المتمتّع بها زوجة حقيقة، وولدها ولد حقيقة. ولا فرق بين الزواجين: الدائم والمنقطع إلّاأنّه لا توارث هنا ما بين الزوجين، ولا قسمة ولا نفقة لها. كما أنّ له العزل عنها. وهذه الفوارق الجزئية فوارق في الأحكام لا في الماهية؛ لأنّ الماهية واحدة غير أنّ أحدهما مؤقّت والآخر دائم، وأنّ الأوّل ينتهي بانتهاء الوقت والآخر ينتهي بالطلاق أو الفسخ.
وقد أجمع أهل القبلة على أنّه سبحانه شرّع هذا النكاح فيصدر الإسلام، ولا يشكّ أحد في أصل مشروعيّته، وانّما وقع الكلام في نسخه أو بقاء مشروعيته.
والأصل في مشروعيته قوله سبحانه: وحلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ وأنْ تَجْمَعُوا بينَ الاختَينِ إلَّاما قَدْ سَلَفَ إنَّ اللَّه كانَ غَفُوراً رَحيماً* والُمحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلّاما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّه عَلَيكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذَلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيرَ مُسافِحينَ فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَريضةً ولا جُناحَ عَلَيكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعدِ الفَريضَةِ إنَّ اللَّه كانَ عَليماً حَكيماً «(2)».
ص:467
الآية ناظرة إلى نكاح المتعة وذلك لوجوه:
إنّ هذه السورة؛ أي سورة النساء، تكفّلت ببيان أكثر ما يرجع إلى النساء من الأحكام والحقوق، فذكرت جميع أقسام النكاح في أوائل السورة على نظام خاص، أمّا الدائم فقد أشار إليه سبحانه بقوله: وإِنْ خِفْتُمْ ألَّا تُقْسِطُوا في اليَتامى فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ ورُباعَ وإنْ خِفْتُمْ ألَّا تَعدِلُوا فَواحِدَةً... «(1)».
وأمّا أحكام المهر فقد جاءت في الآية التالية: وآتُوا النّساءَصَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَي ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَريئاً «(2)».
وأمّا نكاح الإماء فقد جاء في قوله سبحانه: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أنْ يَنْكِحَ الُمحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِن مّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ واللَّه أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ ولا مُتّخِذاتِ أخْدانٍ... «(3)».
فقوله سبحانه: مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيمانُكُمْ إشارة إلى نكاح السيّد لأمته، الذي جاء في قوله سبحانه أيضاً: إلّاعلَى أَزْواجِهِمْ أوْ مَا مَلكَتْ أيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ... «(4)».
وقوله سبحانه: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ إشارة إلى الزواج من أمة الغير.
فإلى هنا تمّ بيان جميع أقسام النكاح فلم يبق إلّانكاح المتعة، وهو الذي جاء في
ص:468
الآية السابقة، وحمل قوله سبحانه: فما استمتعتم على الزواج الدائم، وحمل قوله: فآتوهنّ أُجورهُنّ على المهور والصدقات يوجب التكرار بلا وجه، فالناظر في السورة يرى أنّ آياتها تكفّلت ببيان أقسام الزواج على نظام خاصّ ولا يتحقّق ذلك إلّابحمل الآية على نكاح المتعة كما هو ظاهرها أيضاً.
إنّ تعليق دفع الأُجرة على الاستمتاع في قوله سبحانه: فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يناسب نكاح المتعة الذي هو زواج مؤقّت لا النكاح الدائم، فإنّ المهر هنا يجب بمجرّد العقد ولا يتنجّز وجوب دفع الكلّ إلّابالمسّ، وأمّا المتعارف فيختلف حسب اختلاف العادات العرفية، فربّما يؤخذ قبل العقد وأُخرى يترك إلى أن يرث أحدهما الآخر.
ذكرت أُمّة كبيرة من أهل الحديث نزولها فيها، وينتهي نقل هؤلاء إلى أمثال ابن عبّاس، وأُبي بن كعب، وعبد اللَّه بن مسعود، وجابر بن عبد اللَّه الأنصاري، وحبيب بن أبي ثابت، وسعيد بن جبير، إلى غير ذلك من رجال الحديث الذين لا يمكن اتهامهم بالوضع والجعل.
وقد ذكر نزولها من المفسّرين والمحدّثين:
إمام الحنابلة أحمد بن حنبل في مسنده «(1)».
وأبو جعفر الطبري في تفسيره «(2)».
وأبو بكر الجصّاص الحنفي في أحكام القرآن «(3)».
ص:469
وأبو بكر البيهقي في السنن الكبرى «(1)».
ومحمود بن عمر الزمخشري في الكشاف «(2)».
وأبو بكر بن سعدون القرطبي في تفسير جامع أحكام القرآن «(3)».
وفخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب «(4)».
إلى غير ذلك من المحدّثين والمفسّرين الذين جاءوا بعد ذلك إلى عصرنا هذا، ولا نطيل الكلام بذكرهم.
وليس لأحد أن يتّهم هؤلاء الأعلام بذكر ما لا يتّقون به. وبملاحظة هذه القرائن لا يكاد يشكّ في ورودها في نكاح المتعة.
ونزيد الوضوح بياناً بقوله سبحانه: وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيرَ مُسافِحين.
أنّ قوله سبحانه: أن تبتغوا مفعول له لفعل مقدّر، أي بيّن لكم ما يحلّ ممّا يحرم لأجل أن تبتغوا بأموالكم، وأمّا مفعول قوله: تبتغوا فيعلم من القرينة وهو النساء؛ أي طلبكم النساء؛ أي بيّن الحلال والحرام لغاية ابتغائكم النساء من طريق الحلال لا الحرام.
وقوله سبحانه: محصنين وهو من الإحصان بمعنى العفّة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، وقوله سبحانه: غير مسافحين هو جمع مسافح بمعنى الزاني مأخوذ من السفح بمعنىصبّ الماء، والمراد هنا هو الزاني بشهادة قوله سبحانه في الآية المتأخّرة في نكاح الإماء: وآتوهُنَّ أُجُورهنَّ بالمعروف
ص:470
محصنات غير مسافحات أي عفائف غير زانيات.
ومعنى الآية: أنّ اللَّه تبارك وتعالى شرّع لكم نكاح ما وراء المحرّمات لأجل أن تبتغوا بأموالكم ما يحصنكم ويصون عفّتكم ويصدّكم عن الزنا، وهذا المناط موجود في جميع الأقسام، النكاح الدائم، والمؤقّت، والزواج بأمة الغير المذكورة في هذه السورة من أوّلها إلى الآية 25.
هذا هو الذي يفهمه كلّ انسان من ظواهر الآيات غير أنّ من لا يروقه الأخذ بظاهر الآية: فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أُجورهنّ لرواسب نفسية أو بيئية حاول أن يطبق معنى الآية على العقد الدائم، وذكر في المورد شبهات ضعيفة لا تصمد أمام النقاش نجملها بما يلي:
أنّ الهدف من تشريع النكاح هو تكوين الأُسرة وإيجاد النسل، وهو يختصّ بالنكاح الدائم دون المنقطع الذي لا يترتّب عليه إلّاإرضاء القوّة الشهوية وصبّ الماء وسفحه.
ويجاب عنها: بأنّه خلط بين الموضوع والفائدة المترتّبة عليه، وما ذكر إنّما هو من قبيل الحكمة، وليس الحكم دائراً مدارها، لضرورة أنّ النكاحصحيح وإن لم يكن هناك ذلك الغرض، كزواج العقيم واليائسة والصغيرة. بل أغلب المتزوّجين في سن الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلّاقضاء الوطر واستيفاء الشهوة من طريقها المشروع، ولا يخطر ببالهم طلب النسل أصلًا وإن حصل لهم قهراً، ولا يقدح ذلك فيصحّة زواجهم.
ومن العجب حصر فائدة المتعة في قضاء الوطر، مع أنّها كالدائم قد يقصد منها
ص:471
النسل والخدمة وتدبير المنزل وتربية الأولاد والإرضاع والحضانة.
ونسأل المانعين الذين يتلقّون نكاح المتعة، مخالفاً للحكمة، التي من أجلها شرّع النكاح، نسألهم عن الزوجين اللّذين يتزوّجان نكاح دوام، ولكن ينويان الفراق بالطلاق بعد شهرين، فهل هذا نكاحصحيح أو لا؟ لا أظن أنّ فقيهاً من فقهاء الإسلام يمنع ذلك إلّاإذا أفتى بغير دليل ولا برهان، وبهذا الشكل يتعيّن الجزم بصحّة هذا النكاح، فأيّ فرق يكون حينئذ بين المتعة وهذا النكاح الدائم سوى أنّ المدّة مذكورة في الأوّل دون الثاني؟
يقولصاحب المنار: إنّ تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة بنيّة الطلاق، وإن كان الفقهاء يقولون إنّ عقد النكاح يكونصحيحاً إذا نوى الزوج التوقيت، ولم يشترطه فيصيغة العقد، ولكن كتمانه إيّاه يعدّ خداعاً وغشّاً وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت «(1)».
أقول: نحن نفترض أنّ الزوجين رضيا بالتوقيت لبّاً، حتّى لا يكون هناك خداع وغشّ، فهوصحيح بلا إشكال.
إنّ تسويغ النكاح المؤقّت ينافي ما تقرّر في القرآن كقوله عزّ وجلّ فيصفة المؤمنين: والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إلّاعَلَى أزواجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ مَلُومينَ* فَمَنِ ابْتَغْى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُون «(2)».
والمراد من الآية: أنّ من ابتغى وراء ذلك، هم المتجاوزون ما أحلّه اللَّه لهم إلى ما حرّمه عليهم. والمرأة المتمتّع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي عليها بالمعروف.
ص:472
إلّا أ نّه يرد عليها: أنّها دعوة بلا دليل. فإنّها زوجة ولها أحكام، وعدم وجود النفقة والقسمة لا يخرجانها عن الزوجيّة، فإنّ الناشزة زوجة ليست لها النفقة وحقّ القسمة، ومثلها الصغيرة. والعجب أن يستدلّ بعدم وجود الأحكام على نفي الماهية، فإنّ الزوجيّة رابطة بين الزوجين تترتّب عليها جملة من الأحكام وربّما تختص بعض الأحكام ببعض الأقسام.
إنّ المتمتّع في النكاح المؤقّت لا يقصد الإحصان دون المسافحة، بل يكون قصده مسافحة، فإن كان هناك نوع مّا من إحصان نفسه ومنعها من التنقّل في دِمنِ الزنا، فإنّه لا يكون فيه شي ء مّا من إحصان المرأة التي تؤجر نفسها كلّ طائفة من الزمن لرجل فتكون كما قيل:
كرة حُذِفْت بصوالجة فتلقّفها رجل رجل «(1)»
ويرد على هذه الشبهة: أنّه من أين وقف على أنّ الإحصان في النكاح المؤقّت يختصّ بالرجل دون المرأة، فإنّا إذا افترضنا كون العقد شرعياً، فكلّ واحد من الطرفين يُحصن نفسه من هذا الطريق، وإلّا فلا محيص عن التنقّل في دمن الزنا.
والذي يصون الفتاة عن البغي أحد الأُمور الثلاثة:
1- النكاح الدائم.
2- النكاح المؤقّت بالشروط الماضية.
3- كبت الشهوة الجنسية.
فالأوّل ربّما يكون غير ميسور خصوصاً للطالب والطالبة اللّذين يعيشان بمنح ورواتب مختصرة يجريها عليهما الوالدان أو الحكومة، وكبت الشهوة الجنسية أمر شاقّ لا يتحمّله إلّاالأمثل فالأمثل من الشباب والمثلى من النساء؛ وهم قليلون،
ص:473
فلم يبق إلّاالطريق الثاني، فيحصنان نفسهما عن التنقّل في بيوت الدعارة.
إنّ الدين الإسلامي هو الدين الخاتم، ونبيّه خاتم الأنبياء، وكتابه خاتم الكتب، وشريعته خاتمة الشرائع، فلابدّ أن يضع لكلّ مشكلة اجتماعية حلولًا شرعية، يصون بها كرامة المؤمن والمؤمنة، وما المشكلة الجنسية عند الرجل والمرأة إلّاإحدى هذه النواحي التي لا يمكن للدين الإسلامي أن يهملها، وعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه:
ماذا يفعل هؤلاء الطلبة والطالبات الذين لا يستطيعون القيام بالنكاح الدائم، وتمنعهم كرامتهم ودينهم عن التنقّل في بيوت الدعارة والفساد، والحياة الماديّة بجمالها تؤجّج نار الشهوة في نفوسهم؟ فمن المستحيل عادة أن يصون نفسه أحد إلّا من عصمه اللَّه، فلم يبق طريق إلّازواج المتعة، الذي يشكّل الحلّ الأنجع لتلافي الوقوع في الزنا، وتبقى كلمة الإمام علي بن أبي طالب ترنّ في الآذان محذّرة من تفاقم هذا الأمر عند إهمال العلاج الذي وصفه المشرّع الحكيم له، حيث قال عليه السلام:
«لولا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلّاشقيّ أو شقيّة».
وأمّا تشبيه المتعة بما جاء في الشعر فهو يعرب عن جهل الرجل بحقيقة نكاح المتعة وحدودها، فإنّ ما جاء فيه هي المتعة الدورية التي ينسبها الرجل «(1)» وغيره إلى الشيعة، وهم براء من هذا الإفك؛ إذ يجب على المتمتّع بها بعد انتهاء المدّة الاعتداد على ما ذكرنا، فكيف يمكن أن تؤجّر نفسها كلّ طائفة من الزمن لرجل؟! سبحان اللَّه! ما أجرأهم على الكذب على الشيعة والفرية عليهم، وما مضمون الشعر إلّاجسارة على الوحي والتشريع الإلهي، وقد اتّفقت كلمة المحدّثين والمفسّرين على التشريع، وأنّه لو كان هناك نهي أو نسخ فإنّما هو بعد التشريع والعمل.
ص:474
الشبهة الرابعة: إنّ الآية منسوخة بالسنّة، واختلفوا في زمن نسخها إلى أقوال شتّى:
1- أُبيحت ثمّ نهي عنها عام خيبر.
2- ما أُحلّت إلّافي عمرة القضاء.
3- كانت مباحة ونهي عنها في عام الفتح.
4- أُبيحت عام أوطاس ثمّ نهي عنها «(1)».
وهذه الأقوال تنفي الثقة بوقوع النسخ، كما أنّ نسخ القرآن بأخبار الآحاد ممنوع جدّاً، وقدصحّ عن عمران بن الحصين انّه قال: «إنّ اللَّه أنزل المتعة وما نسخها بآية أُخرى، وأمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالمتعة وما نهانا عنها، ثمّ قال رجل برأيه»، يريد به عمر بن الخطّاب.
إنّ الخليفة الثاني لم يدّع النسخ وإنّما أسند التحريف إلى نفسه، ولو كان هناك ناسخ من اللَّه عزّ وجلّ أو من رسوله، لأسند التحريم إليهما، وقد استفاض قول عمر وهو على المنبر: متعتان كانتا على عهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وأنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء.
بل نقل متكلّم الأشاعرة في شرحه على شرح التجريد أنّه قال: أيّها الناس ثلاث كنّ على عهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وأنا أنهى عنهنّ، وأُحرمهنّ، وأُعاقب عليهنّ:
متعة النساء، ومتعة الحج، وحيّ على خير العمل «(2)».
وقد روي عن ابن عبّاس- وهو من المصرّحين بحلّية المتعة وإباحتها- في ردّه على من حاجّه بنهي أبي بكر وعمر لها، حيث قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة
ص:475
من السماء، أقول: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
حتّى أنّ ابن عمر لمّا سئل عنها، أفتى بالإباحة، فعارضوه بقول أبيه، فقال لهم:
أمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أحقّ أن يتّبع أم أمر عمر؟
كلّ ذلك يعرب عن أنّه لم يكن هناك نسخ ولا نهي نبوي، وإنّما كان تحريماً من جانب الخليفة، وهو في حدّ ذاته يعتبر اجتهاداً قبالة النصّ الواضح، وهو ما انفكّ يعلن جملة من الصحابة رفضهم له وعدم إذعانهم لأمره، وإذا كان الخليفة قد اجتهد لأسباب رآها وأفتى على أساسها، فكان الأولى بمن لحقوه أن يتنبّهوا لهذا الأمر لا أن يسرفوا في تسويغه دون حجّة ولا دليل.
ذكرنا أنّ مجموعاً من وجوه الصحابة والتابعين أنكروا هذا التحريم ولم يقرّوا به، ومنهم:
1- عليّ أمير المؤمنين، فيما أخرجه الطبري بالإسناد إليه أنّه قال: «لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّاشقيّ» «(1)».
2- عبد اللَّه بن عمر، أخرج الإمام أحمد من حديث عبد اللَّه بن عمر، قال- وقد سئل عن متعة النساء-: واللَّه ما كنّا على عهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله زانين ولا مسافحين، ثمّ قال: واللَّه لقد سمعت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقول: «ليكوننّ قبل يوم القيامة المسيح الدجّال وكذّابون ثلاثون وأكثر» «(2)».
3- عبد اللَّه بن مسعود، روى البخاري عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: كنّا نغزو
ص:476
مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وليس لنا شي ء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثمّ رخّص لنا أن تنكح المرأة بالثوب إلى أجل معيّن، ثمّ قرأ علينا: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أَحَلَّ اللَّه لَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّه لا يُحِبُّ المُعْتَدينَ» «(1)». «(2)»
4- عمران بن حصين، أخرج البخاري فيصحيحه عنه، قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللَّه، ففعلناها مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، ولم ينزل قرآن يحرّمها، ولم ينه عنها حتّى مات. قال رجل برأيه ما شاء «(3)».
أخرج أحمد في مسنده عن أبي رجاء عن عمران بن حصين، قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللَّه وعملنا بها مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فلم تنزل آية تمنعها، ولم ينه عنها النبيّ صلى الله عليه و آله حتّى مات «(4)».
5- كما أنّ الخليفة العباسي المأمون أوشك أن ينادي في أيام حكمه، بتحليل المتعة إلّاأنّه توقّف خوفاً من الفتنة وتفرّق المسلمين. قال ابن خلّكان، نقلًا عن محمّد بن منصور: قال: كنّا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء: بكّرا غداً إليه فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا، وإلّا فاسكتا إلى أن أدخل، قال: فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ:
متعتان كانتا على عهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وعلى عهد أبي بكر- رضي اللَّه عنه- وأنا أنهى عنهما، ومن أنت يا جعل حتّى تنهى عمّا فعله رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وأبو بكر- رضي اللَّه عنه-؟! فأومأ أبو العيناء إلى محمّد بن منصور وقال: رجل يقول: من عمر بن الخطاب، نكلّمه نحن؟ فأمسكنا، فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا، فقال
ص:477
المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيّراً؟ فقال: هو غمّ يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام، قال: وما حدث فيه؟ قال: النداء بتحليل الزنا، قال: الزنا؟! قال: نعم، المتعة زنا، قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب اللَّه عزّ وجلّ، وحديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، قال اللَّه تعالى: قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ إلى قوله: والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُون* إلَّاعَلَى أَزْواجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ ملومين* فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذَلِكَ فَأُوْلئِكَ هُمُ العادُونَ «(1)»
يا أمير المؤمنين زوج المتعة ملك يمين؟
قال: لا، قال: فهي الزوجة التي عند اللَّه ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟
قال: لا، قال: فقدصار متجاوز هذين من العادين «(2)».
أقول: هل عزب عن ابن أكثم- وقد كان ممّن يكنّ العداء لآل البيت- أنّ المتعة داخلة في قوله سبحانه: إلّاعلى أزواجهم وانّ عدم الوراثة تخصيص في الحكم، وهو لا ينافى ثبوتها، وكم لها من نظير، فالكافرة لا ترث الزوج المسلم، وبالعكس، كما أنّ القاتلة لا ترث وهكذا العكس، وأمّا الولد فيلحق قطعاً، ونفي اللحوق ناشئ إمّا من الجهل بحكمها أو التجاهل به.
وما أقبح كلامه حيث فسّر المتعة بالزنا وقد أصفقت الأُمّة على تحليلها في عصر الرسولصلى الله عليه و آله والخليفة الأوّل، أفيحسب ابن أكثم أنّ الرسول صلى الله عليه و آله حلّل الزنا ولو مدَّة قصيرة؟!
وهناك روايات مأثورة عن الخليفة نفسه، تعرب عن أنّ التحريم كان منصميم رأيه، من دون استناد إلى آية أو رواية.
ص:478
فقد روى مسلم فيصحيحه: عن ابن أبي نضرة قال: كان ابن عبّاس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها، فذكر ذلك لجابر، فقال: على يدي دار الحديث: تمتّعنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلمّا قام عمر قال: إنّ اللَّه كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء، فأتمّوا الحجّ والعمرة وأبتّوا نكاح هذه النساء، فلئِن أُوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلّارجمته بالحجارة «(1)».
وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي نضرة قال: قلت لجابر: إنّ ابن الزبير ينهى عن المتعة، وانّ ابن عبّاس يأمر بها، فقال لي: على يدي جرى الحديث: تمتّعنا مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ومع أبي بكر، فلمّا ولّي عمر خطب الناس فقال: إنّ القرآن هو القرآن، وإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هو الرسول، وإنّهما متعتان كانتا عَلى عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إحداهما متعة الحج والأُخرى متعة النساء «(2)».
وهذه المأثورات تعرب جملة من الملاحظات نجملها بملاحظتين اثنتين:
أوّلًا: أنّ المتعة كانت باقية على الحلّ إلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وبقيت لوقت في أيامه حتى نهى عنها ومنع.
وثانياً: أنّه باجتهاده قام بتحريم ما أحلّه الكتاب والسنّة، ومن المعلوم أنّ اجتهاده- لوصحّت تسميته بالاجتهاد- حجّة على نفسه لا على غيره.
وفي الختام نقول:
إنّ الجهل بفقه الشيعة أدّى بكثير من الكتّاب إلى التقوّل على الشيعة، وخصوصاً في مسألة المتعة التي نحن فيصدد الحديث عنها، بجملة منكرة من الآراء والأحكام تدلّ على جهل مطبق أو خبث سريرة لا يدمغ، ومن هذه الأقوال: إنّ من أحكام المتعة عند الشيعة أنّه لا نصيب للولد من ميراث أبيه، وأنّ
ص:479
المتمتَّع بها لا عدّة لها، وانّها تستطيع أن تنتقل من رجل إلى رجل إن شاءت. ومن أجل هذا استقبحوا المتعة واستنكروها وشنَّعوا على من أباحها.
وقد خفي الواقع على هؤلاء، وانّ المتعة عند الشيعة كالزواج الدائم لا تتم إلّا بالعقد الدالّ على قصد الزواجصراحة، وانّ المتمتَّع بها يجب أن تكون خالية من جميع الموانع، وانّ ولدها كالولد من الدائمة من وجوب التوارث، والإنفاق وسائر الحقوق الماديّة، وانّ عليها أن تعتدّ بعد انتهاء الأجل مع الدخول بها، وإذا مات زوجها وهي في عصمته اعتدّت كالدائمة من غير تفاوت، إلى غير ذلك من الآثار «(1)».
على أنّ الأمر الذي ينبغي الالتفات إليه وإدراكه بوضوح، أنّ الشيعة ورغم إدراكهم وإيمانهم بحلّية زواج المتعة وعدم تحريمه- وهو ما يعلنون عنهصراحة ودون تردد- إلّاأنّهم لا يلجأون إلى هذا الزواج إلّافي حدود ضيّقة وخاصّة، وليس كما يصوّره ويتصوره البعض من كونه ظاهرة متفشية في مجتمعهم وبشكل مستهجن ممجوج.
ص:480
المسألة الثامنة: متعة الحجّ
إنّ الكاتب المصري أحمد أمين، يصف الخليفة عمر بن الخطاب بأنّه كان ممّن يأخذ بروح القانون لا بلفظه «(1)». وهو يريد بذلك تفسير ما شوهدت منه في بعض الموارد المخالفة للنصوص، ولوصحّ ما ذكره في بعضها؛ فإنّ البعض الآخر غيرصحيح. ونحن نرى أنّه كان ممّن يجتهد تجاه النصّ، ويأخذ بالرأي، مكان الأخذ بالدليل.
إنّ العاطفة الدينية هي الّتي دفعت الكاتب المصري إلى ذلك التفسير، ولو أنّه تأمّل فيما سبق من تنفيذ طلاق الثلاث، وما يأتي منه في هذه المسألة من تحريم حجّ التمتّع، وحصره في القِران والإفراد، يقف على أنّه كان ممّن يقدّم المصلحة المزعومة على الذكر الحكيم وتنصيص النبيّ الأكرم، وإنّه ما نهى عن متعة الحجّ وما هدّد بفاعلها إلّاأنّه كان يكره أن يغتسل الحاجّ تحت الأراك ثمّ يفيض منه إلى الحجّ ورأسه يقطر ماءً؛ لأنّ التحلّل من محظورات الإحرام بين العمرة والحجّ، من لوازم ذاك النوع من الحجّ، وهو ممّا كان لا يروقه.
ص:481
وإن كنت في شكّ فاقرأ ما نتلوه عليك:
اتّفق الفقهاء على أنّ أنواع الحجّ ثلاثة: تمتّع، وقران، وإفراد.
والمقصود من الأوّل، هو إحرام الشخص بالحجّ في أشهره (شوال وذي القعدة وذي الحجّة). والإتيان بأعمالها، والتحلّل من محظورات الإحرام بالفراغ منها، ثمّ الإحرام بالحجّ من مكّة والإتيان بأعماله من الوقوف بعرفات والإفاضة إلى المشعر و...
ويصحّ هذا النوع من الحجّ ممّن كان آفاقياً، أي من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ويبتعد بيته عن مكّة بمقدار يجوز فيه تقصير الصلاة. وعند الإماميّة من نأى عن مكّة (48) ميلًا من كلّ جانب وهو لا يتجاوز عن (16) فرسخاً.
وأمّا القسمان الآخران، فالقِران عند أهل السنّة هو الإحرام بالحجّ والعمرة معاً ويقول: لبّيك اللّهمّ بحجّ وعمرة، فيأتي بأعمال الحجّ أولًا ثمّ العمرة بإحرام واحد؛ وهو القِران الحقيقي.
وهناك قسم يسمّى بالقِران الحكمي؛ وهو أن يدخل إحرام الحجّ في إحرام العمرة، ثمّ يجمع بين أعمالها. وذلك بأن يحرم بالعمرة أولًا، وقبل أن يطوف لها؛ إمّا أربعة أشواط، أو قبل أن يشرع فيه يحرم للحجّ، على اختلاف بين الحنفية والشافعية، وهل يكتفي بطواف وسعي واحد، أو لكلٍّ طوافه وسعيه؟ فيه اختلاف.
وأمّا الإفراد، فهو أن يُحرم بالحجّ من ميقاتِ بلده، وبعد الفراغ من أعماله، يُحرِم بالعمرة. والقِران والإفراد، يشترك فيهما جميع الناس ولا يختصّ بغير الآفاقي.
هذا لدى أهل السنّة، وأمّا الإماميّة، فالقران والإفراد واجب على من لم يكن بين مكّة وبيته (48) ميلًا، وأمّا النائي عن هذا الحد، فواجبه هو حجّ التمتع.
والقِران والإفراد، ليسا أمرين متغايرين عندهم، بل يتمتّع كلّ منهما بإحرام
ص:482
للحجّ وإحرام للعمرة، غير أنّ الإحرام في الأوّل يقترن بسوق الهدي دون الثاني، وعلى ذلك لا يجوز عندهم الإتيان بالحجّ والعمرة بإحرام واحد، ولا إدخال إحرام الحجّ في إحرام العمرة، كما في القران الحكمي «(1)».
والأصل حجّ التمتع، كما في قوله سبحانه: فَإذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ الَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فِصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ «(2)»
.
وتفسير الآية: أنّ من تمتّع بسبب الإتيان بالعمرة بما يحرم على المحرم، كالطيب والمخيط والنساء ومتوجّهاً إلى الحجّ ف عليه ما استيسر من الهدي من البدنة أو البقرة أو الشاة. ثمّ بيّن كيفية الصيام وقال: ثلاثة أيّام في الحجّ متواليات و سبعة إذا رجعتم إلى أوطانكم تلك عشرة كاملة وذلك أي التمتّع بالعمرة إلى الحجّ فرض على من لم يكن أهله باعتبار موطنه ومسكنه حاضري المسجد الحرام أي لم يكن من أهل مكّة وقراها واتّقوا اللَّهَ فيما أُمرتم به ونهيتم عنه في أمر الحجّ واعلموا أنّ اللَّه شديد العقاب.
والآيةصريحة في جواز التمتّع بمحظورات الإحرام بعد الإتيان بأعمال العمرة، وقبل التوجّه إلى الحجّ، ولم يدّع أحد كونها منسوخة بآية، أو قول أو فعل، بل أكّد النبيّ الأكرم تشريعه بعمله.
روى أهل السير والتاريخ: أنّ رسول اللَّه خرج في العام العاشر من الهجرة إلى الحجّ لخمس ليال بقين من ذي القعدة، وقالت عائشة: لا يُذكَر ولا يَذكُر النّاسُ إلّا
ص:483
الحجّ حتّى إذا كان بسرف وقد ساق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله معه الهدي، وأشراف من أشراف الناس، أمر الناس أن يحلّوا بعمرة إلّامن ساق الهدي- إلى أن قالت:- ودخل رسول اللَّه مكة فحلّ كلّ من كان لا هدي معه، وحلّت نساؤُه بعمرة- إلى أن قال:- لمّا أمر رسول اللَّه نساءه أن يحلُلن بعمرة قلن: فما يمنعك يا رسول اللَّه أن تحلّ معنا؟ فقال: إنّي أهديتُ ولبّوت فلا أُحلّ حتّى أنحَرَ هديي.
إنّ رسول اللَّه كان بعث علياً رضى الله عنه إلى نجران فلقيه بمكّة وقد أحرم فدخل على فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فوجدها قد حلَّتْ وتهيّأت فقال: ما لك يا بنت رسول اللَّه؟ قالت: أمرنا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن نحلّ بعمرة فحللنا، ثمّ أتى رسول اللَّه، فلمّا فرغ من الخبر عن سفره قال له رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: انطلق فطف بالبيت وحلّ كما حلّ أصحابك، قال: يا رسول اللَّه إنّي أهللتُ كما أهللتَ فقال: ارجع فاحلل كما حلّ أصحابُك، قال: يا رسول اللَّه إنّي قلت حين أحرمت: اللّهمّ إنّي أُهلُّ بما أهلَّ به نبيُّك وعبدُك ورسولُكصلى الله عليه و آله قال: فهل معك من هدي؟! قال: لا. فأشركه رسول اللَّه في هديه وثبتَ على إحرامه مع رسول اللَّه حتّى فرغا من الحجّ، ونحر رسول اللَّه الهدي عنهما «(1)».
هذا هو الذكر الحكيم المدعم بالسنّة وإجماع الأُمّة، ومع ذلك نرى أنّ بعض الصحابة لا يروقه متعة الحجّ لا في عصر الرسالة ولا بعده بل يفتي بتحريمها! وإليك البيان:
1- روى أبو داود أنّ النبيّ أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة، يطوفوا ثمّ يُقصِّروا ويُحلِّوا إلّامن كان معه الهدي فقالوا: أننطلق إلى منى وذكورنا تقطر؟ فبلغ ذلك رسول اللَّه فقال: «لو أنّي استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أنّ
ص:484
معي الهدي لأحللت» «(1)»
2- روى مالك، عن محمد بن عبد اللَّه أنّه سمع سعد بن أبي وقاص والضحّاك ابن قيس عام حجّ معاوية بن أبي سفيان وممّا يذكران أن الّتمتّع بالعمرة إلى الحجّ.
فقال الضحّاك بن قيس: لا يفعل ذلك إلّامن جهل أمر اللَّه عزّوجلّ. فقال سعد:
بئس ما قلت يا ابن أخي، فقال الضحّاك: إنّ عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك، فقال سعد: قدصنعها رسول اللَّه وصنعناها معه «(2)».
3- وروي عن عبد اللَّه بن عمر أنّه قال: واللَّه لئن أعتمر قبل الحجّ وأهدي أحبّ إليّ من أن أعتمر بعد الحجّ في ذي الحجّة «(3)».
4- روى الترمذي عن سالم بن عبد اللَّه أنّه سمع رجلًا من أهل الشام وهو يسأل عبد اللَّه بن عمر عن التمتّع بالعمرة إلى الحجّ. فقال عبد اللَّه بن عمر: هي حلال، فقال الشاميّ: إنّ أباك قد نهى عنها! فقال عبد اللَّه بن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أأمرُ أبي نتّبع أم أمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله؟ فقال الرجل: بل أمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فقال: لقدصنعها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله «(4)».
5- روى مسلم عن أبي نضرة قال: كان ابن عبّاس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها، قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد اللَّه فقال: على يديّ دار الحديث وتمتّعنا مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فلمّا قام عمر قال: إنّ اللَّه كان يُحلّ لرسوله ما شاء، بما شاء، وإنّ القرآن قد نزل منازلهُ، فأتمّوا الحجّ والعمرة للَّه كما أمركم اللَّه- إلى أن قال في الحديث:- فافصلوا حجّكم من عمرتكم، فإنّه أتمّ لحجّكم وأتمّ لعمرتكم «(5)».
ص:485
ومن العجب أنّ الزرقاني يقوم بتصويب فتوى الخليفة ويعلّق على الرواية ويقول: الإتمام في قوله سبحانه: فَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ يقتضي استمرارَ الإحرام إلى فراغ الحجّ ومنع التحلّل، والمتمتّع متحلّل ويستمتع بما كان محظوراً عليه «(1)».
يلاحظ عليه أولًا: لوصحّ ما ذكره من التفسير تلزم المعارضة بينصدر الآية، أعني قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ وبين ذيلها الدّالّ على جواز التمتّع بين الإحرامين بقوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةَ الَى الْحَجِّ وهو كما ترى.
وثانياً: أنّ الإتمام يهدف إلى فعل كلّ من الحجّ والعمرة تماماً، بمعنى: إذا شرعتم في فعلِ كلّ فأتمّوه، مثل قوله: وَاذ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ «(2)»
وقوله سبحانه: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ الَى اللَّيْلِ «(3)»
، لا إلى الاستمرار.
وثالثاً: إذا كان التفسير تبريراً لنهي الخليفة؛ فهو في الوقت نفسه تخطئة للنبيّ الأكرم؛ حيث أمر أصحابه وأهل بيته بالتحلّل، وإنّما هو لم يتحلّل لسوقه الهدي.
نعم أراد الخليفة من قوله: «فافصلوا حجّكم من عمرتكم»، هو الإتيان بالعمرة في غير أشهر الحجّ. روى الجصّاص عن ابن عمر أنّ عمر قال: أن تُفرّقوا بين الحجّ والعمرة؛ فتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج، أتمّ لحجّ أحدكم «(4)».
6- روى الإمام أحمد عن أبي نضرة عن جابر قال: متعتان كانتا على عهد النبيّ، فنهانا عنها عمر رضى الله عنه فانتهينا «(5)».
ص:486
7- روى ابن حزم في المحلّى بسنده قال: قال عمر بن الخطاب: متعتان كانتا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم وأنا أنهى عنهما وأضرب عليهما- ثمّ قال:- هذا لفظ أيوب، وفي رواية خالد: أنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحجّ «(1)».
8- لم يكن نهي الخليفة عن متعة الحجّ مستنداً إلى دليل شرعي وانّما نهى عنه لما كرهه أن يظلّوا معرّسين بهنّ في الأراك، ثمّ يروحون بالحجّ تقطر رؤوسهم «(2)».
وهذا هو الّذي نوّهنا عنه فيصدر البحث: أنّ الخليفة ومن لفّ لفّه، كانوا يقدّمون المصالح المزعومة على النصوص الشرعية مهما تضافرت وتواترت.
ثمّ إنّ المتأخّرين أرادوا حفظ كرامة الخليفة، فحرّفوا الكلم عن مواضعه وأوّلوا نهي الخليفة بوجهين:
1- قالوا: إنّ ما حرّمه وأوعد عليه، غير هذا، وإنّما هو أن يحرم الرجل بالحجّ حتّى إذا دخل مكّة فسخ الحجّ إلى العمرة، ثمّ حَلّ وأقام حلالًا حتّى يهلّ بالحجّ يوم التروية «(3)».
وهذا- كما ترى- لا يوافق ما مرّ من النصوص، خصوصاً ما نقلناه من المناظرة بين سعد والضحّاك بن قيس منصحيح مسلم. ومن يقف على النصوص الكثيرة، والمناظرة الدائرة بين النبيّ وأصحابه، وبين الصحابة أنفسهم يطمئنّ إنّما نهى عن حجّ التمتع.
وقد روى البخاري عن مروان بن الحكم قال: شهدتُ عثمانَ وعليّاً- رضي اللَّه عنهما- وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلمّا رأى عليٌّ (النهي) أهلّ بهما:
ص:487
لبّيك بعمرة وحجّة قال: ما كنت لأدع سنّة النبيّصلى الله عليه و آله لقول أحد «(1)».
2- إنّ نهي الخليفة عن متعة الحجّ لاختصاص إباحة المتعة بالصحابة في عمرتهم مع رسول اللَّه فحسب.
ويكفينا في الردّ عليه قول ابن قيّم الجوزية: «إنّ تلكم الآثار الدالّة على الاختصاص بالصحابة بين باطل لا يصحّ، عمّن نُسب إليه البتّة، وبينصحيح عن قائل غير معصوم لا يعارض به نصوص المشرِّع المعصوم، ففيصحيحة الشيخين وغيرهما عن سراقة بن مالك قال: مُتعتُنا هذه يا رسول اللَّه ألعامنا هذا أم للأبد؟
قال: «لا بل للأبد» «(2)»
.
قال العيني في قوله سبحانه: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ الَى الْحَجِّ: أجمع المسلمون على إباحة التمتّع في جميع الأعصار، وأمّا السنّة فحديث سراقة: المتعة لنا خاصّة أم هي للأبد؟ قال: «بل للأبد»، وحديث جابر المذكور فيصحيح مسلم فيصفة الحجّ نحو هذا. ومعناه أنّ أهل الجاهلية كانوا لا يجيزون التمتّع، ولا يرون العمرة في أشهر الحجّ، فبيّن النبيّصلى الله عليه و سلم أنّ اللَّه قد شرّع العمرة في أشهر الحج وجوّز المتعة إلى يوم القيامة «(3)».
ص:488
المسألة التاسعة: مسح الأرجل في الوضوء
اختلف المسلمون في غسل الرجلين ومسحهما، فذهب الأئمّة الأربعة إلى أنّ الواجب هو الغسل وحده، وقالت الشيعة الإمامية: إنّه المسح، وقال داود بن علي والناصر للحقّ من الزيدية: يجب الجمع بينهما، وهوصريح الطبري في تفسيره:
ونقل عن الحسن البصري: أنّه مخيّر بينهما «(1)».
وممّا يثير العجب اختلاف المسلمين في هذه المسألة، مع أنّهم رأوا وضوء رسول اللَّهصلى الله عليه و آله كلّ يوم وليلة في موطنه ومهجره، وفي حضره وسفره، ومع ذلك اختلفوا في أشدّ المسائل ابتلاءً، وهذا يعرب عن أنّ الاجتهاد لعب في هذه المسألة دوراً عظيماً، فجعل أوضح المسائل أبهمها.
إنّ الذكر الحكيم تكفّل ببيان المسألة وما أبقى فيها إبهاماً وإعضالًا، ومثل ذلك بيّنه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، ومن هنا فلابدّ من الجزم بأنّ المسلمين كانوا قد اتّفقوا على فعل واحد، وإلّا فما كان هذا الأمر بخفي، وكان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقوم بتوضيحه، إذن فلا محيص من القول بأنّ الحاضرين في عصر النزول فهموا من الآية معنىً واحداً:
ص:489
إمّا المسح أو الغسل، ولم يتردّدوا في حكم الرجلين أبداً. ولو خفي حكم هذه المسألة بعد رحلة الرسولصلى الله عليه و آله على الأجيال الآتية فلا غرو في أنّ يخفى على المسلمين حكم أكثر المسائل.
وليس فيها شى ء أوثق من كتاب اللَّه فعلينا دراسة ما جاء فيه، قال سبحانه:
يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلى المَرافِقِ وامْسَحُوا بِرؤوسِكُمْ وَأرْجُلَكُمْ إِلى الكَعْبَيْن «(1)»
وقد اختلف القرّاء في قراءة: وأرجلكم إلى الكعبين فمنهم من قرأ بالفتح، ومنهم من قرأ بالكسر إلّا أنّه من البعيد أن تكون كلّ من القراءتين موصولة إلى النبىّ صلى الله عليه و آله فإنّ تجويزهما يضفي على الآية إبهاماً وإعضالًا، ويجعل الآية لغزاً، والقرآن كتاب الهداية والإرشاد، وتلك الغاية تطلب لنفسها الوضوح وجلاء البيان، خصوصاً فيما يتعلّق بالأعمال والأحكام التي يبتلي بها عامّة المسلمين، ولا تقاس بالمعارف والعقائد التي يختصّ الإمعان فيها بالأمثل فالأمثل.
وعلى كلّ تقدير فممّن حقّق مفاد الآية وبيّنها الإمام الرازي في تفسيره، ننقل كلامه بتلخيص:
قال: حجّة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله:
وأرجلكم وهما:
الأوّل: قرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم- في رواية أبي بكر عنه- بالجرّ.
ص:490
الثاني: قرأ نافع وابن عامر وعاصم- في رواية حفص عنه- بالنصب.
أمّا القراءة بالجرّ فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس فكما وجب المسح في الرأس، فكذلك في الأرجل.
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون الجرّ على الجوار؟ كما في قوله: «جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ» وقوله: «كَبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مَزَمّلٍ».
قيل: هذا باطل من وجوه:
1- إنّ الكسر على الجوار معدود من اللحن الذي قد يتحمّل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام اللَّه يجب تنزيهه عنه.
2- إنّ الكسر على الجوار انّما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله: «جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ» فإنّ «الخَرِب» لا يكون نعتاً للضبّ بل للجحر، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل.
3- إنّ الكسر بالجوار إنّما يكون بدون حرف العطف وأمّا مع حرف العطف فلم تتكلّم به العرب.
وأمّا القراءة بالنصب فهي أيضاً توجب المسح، وذلك لأنّ «برؤوسكم» في قوله: «فامسحوا برؤوسكم» في محل النصب «(1)» بامسحوا لأنّه المفعول به، ولكنّها مجرورة لفظاً بالباء، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس، وجاز الجرّ عطفاً على الظاهر.
نزيد بياناً انّه على قراءة النصب يتعيّن العطف على محلّ برؤوسكم، ولا يجوز العطف على ظاهر أيديكم لاستلزامه الفصل بين العاطف والمعطوف عليه بجملة
ص:491
أجنبية وهو غير جائز في المفرد، فضلًا عن الجملة.
هذا هو الذي يعرفه المتدبّر في الذكر الحكيم، ولا يسوغ لمسلم أن يعدل عن القرآن إلى غيره، فإذا كان هو المهيمن على جميع الكتب السماوية، فأولى أن يكون مهيمناً على ما في أيدي الناس من الحقّ والباطل، والمأثورات التي الحديث فيها ذو شجون. مع كونها متضاربة في المقام، فلو ورد فيها الأمر بالغسل، فقد جاء فيها الأمر بالمسح، رواه الطبري عن الصحابة والتابعين نشير إليه على وجه الإجمال.
1- ابن عباس، قال: الوضوء غسلتان ومسحتان.
2- كان أنس إذا مسح قدميه بلّهما، ولمّا خطب الحجّاج وقال: ليس شى ء من ابن آدم أقرب إلى خبثه في قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما، قال أنس:صدق اللَّه وكذب الحجّاج، قال اللَّه: وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما.
3- عكرمة، قال: ليس على الرجلين غسل، وإنّما نزل فيهما المسح.
4- الشعبي قال: نزل جبرئيل بالمسح وقال: ألا ترى أنّ التيمّم أن يمسح ما كان غسلًا ويلغى ما كان مسحاً.
5- عامر: أُمر أن يمسح في التيمّم ما أُمر أن يغسل بالوضوء، وأُبطل ما أُمر أن يمسح في الوضوء؛ الرأس والرجلان. وقيل له: إنّ أُناساً يقولون: إنّ جبرئيل نزل بغسل الرجلين فقال: نزل جبرئيل بالمسح.
6- قتادة في تفسير الآية: افترض اللَّه غسلتين ومسحتين.
7- الأعمش: قرأ «وأرجلكم» مخفوضة اللام.
8- علقمة: قرأ «أرجلكم» مخفوضة اللام.
9- الضحاك: قرأ «وأرجلكم» بالكسر.
ص:492
10- مجاهد: مثل ما تقدّم «(1)».
وهؤلاء من أعلام التابعين وفيهم الصحابيان: ابن عبّاس وأنس وقد أصفقوا على المسح وقراءة الجرّ الصريحة في تقديم المسح على الغسل، وجمهور أهل السنّة يحتجّون بأقوالهم في مجالات مختلفة، فلماذا أُعرض عنهم في هذا المجال المهمّ والحسّاس في عبادة المسلم.
إنّ القول بالمسح هو المنصوص عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام وهم يسندون المسح إلى النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله، ويحكون وضوءه به، قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: «ألا أحكي لكم وضوء رسول اللَّهصلى الله عليه و آله»؟ ثمّ أخذ كفّاً من الماء فصبّها على وجهه... إلى أن قال: ثمّ مسح رأسه وقدميه.
وفي رواية أُخرى: ثمّ مسح ببقيّة ما بقي في يديه رأسه ورجليه ولم يعدهما في الإناء «(2)».
وفي ضوء هذه الروايات والمأثورات اتّفقت الشيعة الإمامية على أنّ الوضوء غسلتان ومسحتان، وإلى ذلك يشير السيّد بحر العلوم في منظومته الموسومة بالدرة النجفيّة:
إن الوضوء غسلتان عندنا ومسحتان والكتاب معنا
فالغسل للوجه ولليدينِ والمسح للرأس وللرجلينِ
وبعد وضوح دلالة الآية، وإجماع أئمّة أهل البيت على المسح، واستناداً إلى جملة الأدلّة الواضحة التي ذكرنا بعضاً منها، فانّ القول بما يخالفها يبدو ضعيفاً ولا يصمد أمام النقاش، إلّاأنّا سنحاول أن نورد الوجوه التي استدلّ بها القائلون بالغسل ليتبين للقارئ الكريم مدى ضعف حجّيتها:
ص:493
1- إنّ الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب المصير إليه، ويكون غسل الأرجل يقوم مقام مسحها «(1)».
إلّا أنّه يلاحظ عليه: أنّ أخبار الغسل معارضة بأخبار المسح، وليس شي ء أوثق من كتاب اللَّه، فلو دلّ على لزوم المسح لا يبقى مجال لترجيحه على روايات المسح. والقرآن هو المهيمن على الكتب والمأثورات، والمعارض منها للكتاب لا يقام له وزن.
وأعجب من ذلك قوله: إنّ الغسل مشتمل على المسح، مع أنّهما حقيقتان مختلفتان، فالغسل إمرار الماء على المغسول، والمسح إمرار اليد على الممسوح «(2)» وهما حقيقتان مختلفتان لغة وعرفاً وشرعاً، ولو حاول الاحتياط لوجب الجمع بين المسح والغسل، لا الاكتفاء بالغسل.
2- ما روي عن علي عليه السلام من أنّه كان يقضي بين الناس فقال: «وأرجلكم هذا من المقدّم والمؤخّر في الكلام فكأنّه سبحانه قال: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق واغسلوا أرجلكم وامسحوا برؤوسكم» «(3)».
لكنّه يرد بأنّ أئمّة أهل البيت كالباقر والصادق عليهما السلام أدرى بما في البيت، وهما اتّفقا على المسح، وهل يمكن الاتّفاق على المسح مع اعتقاد كبيرهم بالغسل؟! إنّ
ص:494
المؤكّد هو أنّ هذه الرواية موضوعة عن لسان الإمام ليثيروا الشكّ بين أتباعه وشيعته. ولا نعلّق على احتمال التقديم والتأخير شيئاً، سوى أنّه يجعل معنى الآية شيئاً مبهماً في المورد الذي يطلب فيه الوضوح؛ إذ هي المرجع للقروي والبدوي، وللحاضر عصر النزول، والغائب عنه، فيجب أن يكون على نسق ينتقل منه إلى المراد، ثمّ إنّه أيّ ضرورة اقتضت هذا التقدّيم والتأخير، مع إنّه كان من الممكن ذكر الأرجل بعد الأيدي من دون تأخير؟ ولو كان الدافع إلى التأخير هو بيان الترتيب، وإنّ غسل الأرجل بعد مسح الرأس، فكان من الممكن أن يُذكر فعله ويقال:
فامسَحُوا بِرُؤُوسِكُم واغْسلوا أرجلكم إلى الكعبين. كلّ ذلك يعرب عن أنّ هذه محاولات فاشلة لتصحيح الاجتهاد تجاه النصّ، وما عليه أئمّة أهل البيت من الاتّفاق على المسح.
3- ما روي عن ابن عمر في الصحيحين قال: تخلّف عنّا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في سفره، فأدركنا وقد أرهقنا العصر، وجعلنا نتوضّأ ونمسح على أرجلنا، قال:
فنادى بأعلىصوته: «ويل للأعقاب من النار»- مرتين أو ثلاثاً- «(1)».
ويردّ هذا الاستدلال: أنّ هذه الرواية على تعيّن المسح أدلّ من دلالتها على غسل الرجلين؛ فإنّهاصريحة في أنّ الصحابة يمسحون، وهذا دليل على أنّ المعروف عندهم هو المسح، وما ذكره البخاري من أنّ الإنكار عليهم كان بسبب المسح لا بسبب الاقتصار على بعض الرجل، اجتهاد منه، وهو حجّة عليه لا على غيره، فكيف يمكن أن يخفى على ابن عمر حكم الرجلين حتّى يمسح رجليه عدّة سنين إلى أن ينكر عليه النبيّ المسح؟!
على أنّ للرواية معنى آخر تؤيّده بعض المأثورات، فقد روي: أنّ قوماً من أجلاف العرب، كانوا يبولون وهم قيام، فيتشرشر البول على أعقابهم وأرجلهم
ص:495
فلا يغسلونها ويدخلون المسجد للصلاة، وكان ذلك سبباً لذلك الوعيد «(1)» ويؤيّد ذلك ما يوصف به بعض الأعراب بقولهم: بوّال على عقبيه، وعلى فرض كون المراد ما ذكره البخاري، فلا تقاوم الرواية نصّ الكتاب.
4- روى ابن ماجة القزويني عن أبي إسحاق عن أبي حيّة، قال: رأيت عليّاً توضّأ فغسل قدميه إلى الكعبين ثمّ قال: «أردت أن أُريكم طهور نبيّكم» «(2)».
إلّا أنّه يلاحظ عليه: أنّ أبا حيّة مجهول لا يعرف، ونقله عنه أبو إسحاق الذي شاخ ونسي واختلط وترك الناس روايته «(3)» أضف إليه أنّه يعارض ما رواه عنه أهل بيته، وأئمّة أهل بيته، خصوصاً من لازمه في حياته وهو ابن عبّاس كما مرّ.
5- قالصاحب المنار: وأقوى الحجج اللفظية على الإمامية جعل الكعبين غاية طهارة الرجلين، وهذا لا يحصل إلّاباستيعابهما بالماء؛ لأنّ الكعبين هما العظمان الناتئان في جانبي الرجل.
وهذا القول يلاحظ عليه: أنّا نفترض أنّ المراد من الكعبين هو ما ذكره، لكنّا نسأله: لماذا لا تحصل تلك الغاية إلّاباستيعابها بالماء؟ مع أنّه يمكن تحصيل تلك الغاية بمسحهما بالنداوة المتبقية في اليد، والاختبار سهل، فها نحن من الذين يمسحون الأرجل إلى العظمين الناتئين بنداوة اليد، ولا نرى في العمل إعضالًا وعسراً.
6- وقال: إنّ الإمامية يمسحون ظاهر القدم إلى معقد الشراك عند المفصل بين الساق والقدم، ويقولون هو الكعب، ففي الرجل كعب واحد على رأيهم، فلوصحّ
ص:496
هذا لقال: إلى الكعاب كما قال في اليدين: «إلى المرافق» «(1)».
أقول: إنّ المشهور بين الإمامية هو تفسير الكعب بقبّة القدم التي هي معقد الشراك، وهناك من يذهب إلى أنّ المراد هو المفصل بين الساق والقدم، وذهب قليل منهم إلى أنّ المراد هما العظمان الناتئان في جانبي الرجل. وعلى كلّ تقدير، يصحّ إطلاق الكعبين، وإن كان حدّ المسح هو معقد الشراك أو المفصل، فيكون المعنى: فامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين منكم إذ لا شك أنّ كلّ مكلّف يملك كعبين في رجليه.
أضف إلى ذلك: أنّه لوصحّ التفسير بما ذكره فإنّه يجب أن يوسّع الممسوح ويحدّد بالعظمين الناتئين لا أن يبدّل المسح بالغسل، وكأنّه تخيّل أنّ المسح بالنداوة المتبقّية في اليد لا يتحقّق بها، وأنّ اليد تجفّ قبل الوصول إليهما.
ولعمري أنّ هذه اجتهادات واهية، وتخرّصات لا قيمة لها في مقابل الذكر الحكيم.
7- آخر ما عندصاحب المنار في توجيه غسل الأرجل هو التمسّك بالمصالح، حيث قال: لا يعقل لإيجاب مسح ظاهر القدم باليد المبلّلة بالماء حكمة، بل هو خلاف حكمة الوضوء؛ لأنّ طروء الرطوبة القليلة على العضو الذي عليه غبار أو وسخ يزيده وساخة، وينال اليد الماسحة حظّ من هذه الوساخة.
وهذا القول يردّه: أنّ ما ذكره استحسان لا يُعرَّج عليه مع وجود النصّ، فلا شكّ أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح الواقعية ولا يجب علينا أن نقف عليها، فأيّ مصلحة في المسح على الرأس ولو بمقدار إصبع أو إصبعين حتّى قال الشافعي:
إذا مسح الرجل بإصبع واحدة أو بعض إصبع أو باطن كفه، أو أمر مَن يمسح له أجزأه ذلك؟!
ص:497
وهناك كلمة قيّمة للإمام شرف الدين الموسوي نأتي بنصّها، قال- رحمه اللَّه-:
نحن نؤمن بأنّ الشارع المقدّس لاحظ عباده في كلّ ما كلّفهم به من أحكامه الشرعية، فلم يأمرهم إلّابما فيه مصلحتهم، ولم ينههم إلّاعمّا فيه مفسدة لهم، لكنّه مع ذلك لم يجعل شيئاً من مدارك تلك الأحكام منوطاً من حيث المصالح والمفاسد بآراء العباد، بل تعبّدهم بأدلّة قويّة عيّنها لهم، فلم يجعل لهم مندوحة عنها إلى ما سواها. وأوّل تلك الأدلّة الحكيمة كتاب اللَّه عزّ وجلّ، وقد حكم بمسح الرؤوس والأرجل في الوضوء، فلا مندوحة عن البخوع لحكمه، أمّا نقاء الأرجل من الدنس فلابدّ من إحرازه قبل المسح عليها عملًا بأدلّة خاصّة دلّت على اشتراط الطهارة في أعضاء الوضوء قبل الشروع فيه «(1)». ولعلّ غسل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رجليه- المدّعى في أخبار الغسل- إنّما كان من هذا الباب، ولعلّه كان من باب التبرّد، أو كان من باب المبالغة في النظافة بعد الفراغ من الوضوء. واللَّه أعلم «(2)».
ص:498
المسألة العاشرة: السجود على الأرض
لعلّ من أوضح مظاهر العبودية والانقياد والتذلّل من قبل المخلوق لخالقه، هو السجود، وبه يؤكّد المؤمن عبوديته المؤكّدة للَّه تعالى، ومن هنا فانّ البارئ عزّ اسمه يقدّر لعبده هذا التصاغر وهذه الطاعة؛ فيضفي على الساجد فيض لطفه وعظيم إحسانه، لذا روي في بعض المأثورات: «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده».
ولمّا كانت الصلاة من بين العبادات معراجاً يتميّز بها المؤمن عن الكافر، وكان السجود ركناً من أركانها، فليس هناك أوضح في إعلان التذلّل للَّه تعالى من السجود على التراب والرمل والحجر والحصى، لما فيه من تذلّل أوضح وأبين من السجود على الحصر والبواري، فضلًا عن السجود على الألبسة الفاخرة والفرش الوثيرة والذهب والفضّة، وإن كان الكلّ سجوداً، إلّاأنّ العبودية تتجلّى في الأوّل بما لا تتجلّى في غيره.
والإمامية ملتزمة بالسجدة على الأرض في حضرهم وسفرهم، ولا يعدلون عنها إلّاإلى ما أُنبت منها من الحصر والبواري بشرط أن لا يؤكل ولا يلبس، ولا
ص:499
يرون السجود على غيرهماصحيحاً في حال الصلاة أخذاً بالسنّة المتواترة عن النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله وأهل بيته وصحبه. وسيظهر- في ثنايا البحث- أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت، كانت هي السنّة بين الصحابة، وأنّ العدول عنها حدث في الأزمنة المتأخّرة، ولأجل توضيح المقام نقدّم أُموراً:
اتّفق المسلمون على وجوب السجود في الصلاة في كلّ ركعة مرّتين، ولم يختلفوا في المسجود له؛ فإنّه هو اللَّه سبحانه الذي له يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً «(1)» وشعار كلّ مسلم قوله سبحانه: لا تَسجُدُوا لِلشَّمسِ ولا للقَمَرِ واسجُدُوا للَّه الَّذي خَلَقَهُنَّ «(2)»
وإنّما اختلفوا في شروط المسجود عليه- أعني: ما يضع الساجد جبهته عليه- فالشيعة الإمامية تشترط على أن يكون المسجود عليه أرضاً أو ما ينبت منها غير مأكول ولا ملبوس كالحصر والبواري، وما أشبه ذلك. وخالفهم في ذلك غيرهم من المذاهب، وإليك نقل الآراء:
قال الشيخ الطوسي وهو يبيّن آراء الفقهاء: لا يجوز السجود إلّاعلى الأرض أو ما أنبتته الأرض ممّا لا يؤكل ولا يلبس من قطن أو كتّان مع الاختيار. وخالف جميع الفقهاء في ذلك وأجازوا السجود على القطن والكتان والشعر والصوف وغير ذلك- إلى أن قال-: لا يجوز السجود على شي ء هو حامل له ككور العمامة، وطرف الرداء، وكمّ القميص، وبه قال الشافعي، وروي ذلك عن عليّ- عليه الصلاة
ص:500
والسلام- وابن عمر، وعبادة بن الصامت، ومالك، وأحمد بن حنبل.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا سجد على ما هو حامل له كالثياب التي عليه أجزأه.
وإن سجد على ما لا ينفصل منه مثل أن يفترش يده ويسجد عليها أجزأه لكنّه مكروه، وروي ذلك عن الحسن البصري «(1)».
وقال العلّامة الحلّي- وهو يبيّن آراء الفقهاء فيما يسجد عليه-: لا يجوز السجود على ما ليس بأرض ولا من نباتها كالجلود والصوف عند علمائنا أجمع، وأطبق الجمهور على الجواز.
وقد اقتفت الشيعة في ذلك أئمتهم الذين هم أعدال الكتاب وقرناؤه في حديث الثقلين، ونحن نكتفي هنا بإيراد جانب ممّا روي في هذا الجانب:
روى الصدوق بإسناده عن هشام بن الحكم أنّه قال لأبي عبد اللَّه عليه السلام: أخبرني عمّا يجوز السجود عليه، وعمّا لا يجوز قال: «السجود لا يجوز إلّاعلى الأرض، أو على ما أنبتت الأرض إلّاما أُكل أو لبس». فقال له: جعلت فداك ما العلّة في ذلك؟
قال: «لأنّ السجود خضوع للَّه عزّ وجلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل ويلبس؛ لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده في عبادة اللَّه عزّ وجلّ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها» «(2)».
فلا عتب على الشيعة إذا التزموا بالسجود على الأرض أو ما أنبتته؛ إذا لم يكن
ص:501
مأكولًا ولا ملبوساً اقتداءً بأئمّتهم، على أنّ ما رواه أهل السنّة في المقام، يدعم نظريّة الشيعة، وسيظهر لك فيما سيأتي من سرد الأحاديث من طرقهم، ويتّضح أنّ السنّة كانت هي السجود على الأرض، ثمّ جاءت الرخصة في الحصر والبواري فقط، ولم يثبت الترخيص الآخر بل ثبت المنع عنه كما سيوافيك.
كثيراً ما يتصوّر أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت منها بدعة، ويتخيّل الحجر المسجود عليه وثناً، وهؤلاء هم الذين لا يفرّقون بين المسجود له، والمسجود عليه، ويزعمون أنّ الحجر أو التربة الموضوعة أمام المصلّي وثناً يعبده المصلّي بوضع الجبهة عليه. ولكن لا عتب على الشيعة إذا قصر فهم المخالف، ولم يفرّق بين الأمرين، وزعم المسجود عليه مسجوداً له، وقاس أمر الموحّد بأمر المشرك بحجّة المشاركة في الظاهر، فأخذ بالصور والظواهر، مع أنّ الملاك هو الأخذ بالبواطن والضمائر، فالوثن عند الوثني معبود ومسجود له يضعه أمامه ويركع ويسجد له، ولكن الموحّد الذي يريد أن يصلّي في إظهار العبودية إلى نهاية مراتبها، يخضع للَّه سبحانه ويسجد له، ويضع جبهته ووجهه على التراب والحجر والرمال والحصى، مظهراً بذلك مساواته معها عند التقييم قائلًا: أين التراب وربّ الأرباب.
نعم؛ الساجد على التربة غير عابد لها، بل يتذلّل إلى ربّه بالسجود عليها، ومن توهّم عكس ذلك فهو من البلاهة بمكان، وسيؤدّي إلى إرباك كلّ المصلين والحكم بإشراكهم، فمن يسجد على الفرش والقماش وغيره لابدّ أن يكون عابداً لها على هذا المنوال، فيا للعجب العجاب!!
ص:502
إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وصحبه كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض مدّة لا يستهان بها، متحمّلين شدّة الرمضاء، وغبار التراب، ورطوبة الطين، طيلة أعوام. ولم يسجد أحد يوم ذاك على الثوب وكور العمامة، بل ولا على الحصر والبواري والخمر، وأقصى ما كان عندهم لرفع الأذى عن الجبهة، هو تبريد الحصى بأكفّهم ثمّ السجود عليها، وقد شكا بعضهم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من شدّة الحرّ، فلم يجبه؛ إذ لم يكن له أن يبدل الأمر الإلهي من تلقاء نفسه، إلى أن وردت الرخصة بالسجود على الخمر والحصر، فوسع الأمر للمسلمين لكن في إطار محدود، وعلى ضوء هذا فقد مرّت في ذلك الوقت على المسلمين مرحلتان لا غير:
1- ما كان الواجب فيها على المسلمين السجود على الأرض بأنواعها المختلفة من التراب والرمل والحصى والطين، ولم تكن هناك أيّة رخصة.
2- المرحلة التي ورد فيها الرخصة بالسجود على نبات الأرض من الحصى والبواري والخمر، تسهيلًا للأمر، ورفعاً للحرج والمشقّة، ولم تكن هناك أيّة مرحلة أُخرى توسع الأمر للمسلمين أكثر من ذلك كما يدّعيه البعض، وإليك البيان:
1- روى الفريقان عن النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله أنّه قال: «وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» «(1)».
ص:503
والمتبادر من الحديث أنّ كلّ جزء من الأرض مسجد وطهور يُسجد عليه ويُقصد للتيمّم، وعلى ذلك فالأرض تقصد للجهتين: للسجود تارةً، وللتيمّم أُخرى.
وأمّا تفسير الرواية بأنّ العبادة والسجود للَّه سبحانه لا يختصّ بمكان دون مكان، بل الأرض كلّها مسجد للمسلمين بخلاف غيرهم؛ حيث خصّوا العبادة بالبِيَع والكنائس، فهذا المعنى ليس مغايراً لما ذكرناه؛ فإنّه إذا كانت الأرض على وجه الإطلاق مسجداً للمصلّي فيكون لازمه كون الأرض كلّهاصالحة للعبادة، فما ذكر معنى التزامي لما ذكرناه، ويعرب عن كونه المراد ذكر «طهوراً» بعد «مسجداً» وجعلهما مفعولين ل «جُعلت» والنتيجة هو توصيف الأرض بوصفين: كونها مسجداً، وكونها طهوراً، وهذا هو الذي فهمه الجصّاص وقال: إنّ ماجعله من الأرض مسجداً هو الذي جعله طهوراً «(1)».
ومثله غيره من شرّاح الحديث.
تبريد الحصى للسجود عليها:
2- عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري، قال: كنت أُصلّي مع النبيّصلى الله عليه و آله الظهر، فآخذ قبضة من الحصى، فأجعلها في كفّي ثمّ أُحوّلها إلى الكفّ الأُخرى حتّى تبرد ثمّ أضعها لجبيني، حتّى أسجد عليها من شدّة الحرّ «(2)».
وعلّق عليه البيهقي بقوله: قال الشيخ: ولو جاز السجود على ثوب متّصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى بالكفّ ووضعها للسجود «(3)».
ونقول: ولوكان السجود على مطلق الثياب سواء كان متصلًا أم منفصلًا جائزاً
ص:504
لكان أسهل من تبريد الحصى، ولأمكن حمل منديل أو ما شابه للسجود عليه.
3- روى أنس قال: كنّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في شدّة الحرّ فيأخذ أحدنا الحصباء في يده، فإذا برد وضعه وسجد عليه «(1)».
4- عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله شدّة الرمضاء في جباهنا وأكفّنا، فلم يشكّنا «(2)».
قال ابن الأثير في معنى الحديث: إنّهم لمّا شكوا إليه ما يجدون من ذلك لم يفسح لهم أن يسجدوا على طرف ثيابهم «(3)».
هذه المأثورات تعرب عن أنّ السنّة في الصلاة كانت جارية على السجود على الأرض فقط، حتّى أنّ الرسولصلى الله عليه و آله لم يفسح للمسلمين العدول عنها إلى الثياب المتّصلة أو المنفصلة، وهوصلى الله عليه و آله مع كونه بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً أوجب عليهم مسّ جباههم الأرض، وإن آذتهم شدّة الحرّ.
والذي يعرب عن التزام المسلمين بالسجود على الأرض، وعن إصرار النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله بوضع الجبهة عليها لا على الثياب المتّصلة ككور العمامة أو المنفصلة كالمناديل والسجاجيد، ما روي من حديث الأمر بالتتريب في غير واحد من الروايات.
الأمر بالتتريب:
5- عن خالد الجهني: قال: رأى النبيّصلى الله عليه و آلهصهيباً يسجد كأنّه يتّقي التراب فقال له: «ترّب وجهك ياصهيب» «(4)».
ص:505
6- والظاهر أنّصهيباً كان يتّقي عن التتريب بالسجود على الثوب المتّصل والمنفصل، ولا أقلّ بالسجود على الحصر والبواري والأحجار الصافية، وعلى كلّ تقدير؛ فالحديث شاهد على أفضليّة السجود على التراب في مقابل السجود على الحصى؛ لما دلّ من جواز السجدة على الحصى في مقابل السجود على غير الأرض.
7- روت أُمّ سلمة- رضي اللَّه عنها-: رأى النبيصلى الله عليه و آله غلاماً لنا يقال له أفلح ينفخ إذا سجد، فقال: «يا أفلح ترّب» «(1)».
8- وفي رواية: «يا رباح ترّب وجهك» «(2)».
9- روى أبوصالح قال: دخلت على أُمّ سلمة، فدخل عليها ابن أخ لها فصلّى في بيتها ركعتين، فلمّا سجد نفخ التراب، فقالت أُمّ سلمة: ابن أخي لا تنفخ؛ فإنّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول لغلام له يقال له يسار- ونفخ-: «ترّب وجهك للَّه» «(3)».
الأمر بحسر العمامة عن الجبهة:
10- روي: أنّ النبيصلى الله عليه و آله كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته «(4)».
11- روي عن عليّ أمير المؤمنين أنّه قال: «إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن وجهه»، يعني حتّى لا يسجد على كور العمامة «(5)».
12- روي عنصالح بن حيوان السبائي: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رأى رجلًا يسجد بجنبه وقد اعتمّ على جبهته فحسر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عن جبهته «(6)».
ص:506
13- عن عياض بن عبد اللَّه القرشي: رأى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله رجلًا يسجد على كور عمامته فأومأ بيده: «ارفع عمامتك» وأومأ إلى جبهته «(1)».
هذه الروايات تكشف عن أنّه لم يكن للمسلمين يوم ذاك تكليف إلّاالسجود على الأرض، ولم يكن هناك أيّ رخصة سوى تبريد الحصى، ولو كان هناك ترخيص لما فعلوا ذلك، ولما أمر النبيّصلى الله عليه و آله بالتتريب، وحسر العمامة عن الجبهة.
هذه الأحاديث والمأثورات المبثوثة في الصحاح والمسانيد وسائر كتب الحديث تعرب عن التزام النبيصلى الله عليه و آله وأصحابه بالسجود على الأرض بأنواعها، وأنّهم كانوا لا يعدلون عنه، وإنصعب الأمر واشتدّ الحرّ، لكن هناك نصوصاً تعرب عن ترخيص النبيصلى الله عليه و آله- بإيحاء من اللَّه سبحانه إليه- السجود على ما أنبتت الأرض، فسهّل لهم بذلك أمر السجود، ورفع عنهم الإصر والمشقّة في الحرّ والبرد، وفيما إذا كانت الأرض مبتلّة، وإليك تلك النصوص:
1- عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يصلّي على الخمرة «(2)».
2- عن ابن عباس: كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يصلّي على الخمرة، وفي لفظ: وكان النبيّ صلى الله عليه و آله يصلّي على الخمرة «(3)».
3- عن عائشة: كان النبيّ صلى الله عليه و آله يصلّي على الخمرة «(4)».
4- عن أُمّ سلمة: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصلّي على الخمرة «(5)».
ص:507
5- عن ميمونة: ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصلّي على الخمرة فيسجد «(1)».
6- عن أُمّ سليم قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصلّي على الخمرة «(2)».
7- عن عبد اللَّه بن عمر: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصلّي على الخمر «(3)».
قد عرفت المرحلتين الماضيتين، ولو كان هناك مرحلة ثالثة فإنّما مرحلة جواز السجود على غير الأرض وما ينبت منها لعذر وضرورة. ويبدو أنّ هذا الترخيص جاء متأخّراً عن المرحلتين لما عرفت أنّ النبيّصلى الله عليه و آله لم يُجب شكوى الأصحاب من شدّة الحرّ والرمضاء، وراح هو وأصحابه يسجدون على الأرض متحمّلين الحرّ والأذى، ولكنّ الباري عزّ اسمه رخّص لرفع الحرج السجود على الثياب لعذر وضرورة، وإليك ما ورد في هذا المقام.
1- عن أنس بن مالك: كنّا إذاصلّينا مع النبيّصلى الله عليه و آله فلم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض، طرح ثوبه ثمّ سجد عليه.
2- وفيصحيح البخاري: كنّا نصلّي مع النبيّصلى الله عليه و آله فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض بسط ثوبه.
3- وفي لفظ ثالث: كنّا إذاصلّينا مع النبيّصلى الله عليه و آله فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ مكان السجود «(4)».
وهذه الرواية التي نقلها أصحاب الصحاح والمسانيد تكشف حقيقة بعض ما روي في ذلك المجال الظاهر في جواز السجود على الثياب في حالة الاختيار أيضاً.
ص:508
وذلك لأنّ رواية أنس نصّ في اختصاص الجواز على حالة الضرورة، فتكون قرينة على المراد من هذه المطلقات، وإليك بعض ما روي في هذا المجال:
1- عبداللَّه بن محرز عن أبي هريرة: كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يصلّي على كور عمامته «(1)».
إنّ هذه الرواية مع أنّها معارضة لما مرّ من نهي النبيّصلى الله عليه و آله عن السجود عليه، محمولة على العذر والضرورة، وقدصرّح بذلك الشيخ البيهقي في سننه، حيث قال:
قال الشيخ: «وأمّا ما روي في ذلك عن النبيّصلى الله عليه و آله من السجود على كور العمامة فلا يثبت شي ء من ذلك، وأصحّ ما روي في ذلك قول الحسن البصري حكاية عن أصحاب النبيّصلى الله عليه و آله «(2)».
وقد روي عن ابن راشد قال: «رأيت مكحولًا يسجد على عمامته فقلت: لما تسجد عليها؟ قال أتّقي البرد على أسناني» «(3)».
2- ما روي عن أنس: «كنّا نصلّي مع النبيّصلى الله عليه و آله فيسجد أحدنا على ثوبه» «(4)».
والرواية محمولة علىصورة العذر بقرينة ما رويناه عنه، وبما رواه عنه البخاري: «كنّا نصلّي مع النبيّ صلى الله عليه و آله في شدّة الحرّ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه» «(5)».
ويؤيّده ما رواه النسائي أيضاً: «كنّا إذاصلّينا خلف النبيّصلى الله عليه و آله بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ» «(6)».
وهناك روايات قاصرة الدلالة حيث لا تدلّ إلّاعلى أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله صلّى على
ص:509
الفرو. وأمّا أنّه سجد عليه فلا دلالة لها عليه.
3- عن المغيرة بن شعبة: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصلّي على الحصير والفرو المدبوغة «(1)».
والرواية مع كونها ضعيفة بيونس بن الحرث، ليست ظاهرة في السجود عليه.
ولا ملازمة بين الصلاة على الفرو والسجدة عليه، ولعلّهصلى الله عليه و آله وضع جبهته على الأرض أو ما ينبت منها. وعلى فرض الملازمة لا تقاوم هي وما في معناها ما سردناه من الروايات في المرحلتين الماضيتين.
إنّ المتأمّل في الروايات يجد وبدون لبس أنّ قضيّة السجود في الصلاة مرّت بمرحلتين أو ثلاث مراحل؛ ففي المرحلة الأُولى كان الفرض السجود على الأرض ولم يرخّص للمسلمين السجود على غيرها، وفي الثانية جاء الترخيص فيما تنبته الأرض، وليست وراء هاتين المرحلتين مرحلة أُخرى إلّاجواز السجود على الثياب لعذر وضرورة، فما يظهر من بعض الروايات من جواز السجود على الفرو وأمثاله مطلقاً فمحمولة على الضرورة، أو لا دلالة لها على السجود عليها، بل غايتها الصلاة عليها.
ومن هنا فإنّ ما يظهر بوضوح أنّ ما التزمت به الشيعة هو عين ما جاءت به السنّة النبويّة، ولم تنحرف عنه قيد أُنملة، ولعلّ الفقهاء هم أدرى بذلك من غيرهم، لأنّهم الأُمناء على الرسالة والأدلّاء في طريق الشريعة، ونحن ندعو إلى برهة من التأمّل لإحقاق الحقّ وتجاوز البدع.
ص:510
بقي هنا سؤال يطرحه كثيراً إخواننا أهل السنّة حول سبب اتّخاذ الشيعة تربة طاهرة في السفر والحضر والسجود عليها دون غيرها. وربّما يتخيّل البسطاء- كما ذكرنا سابقاً- أنّ الشيعة يسجدون لها لا عليها، ويعبدون الحجر والتربة، وذلك لأنّ هؤلاء المساكين لا يفرّقون بين السجود على التربة، والسجود لها.
وعلى أيّ تقدير فالإجابة عنها واضحة، فإنّ المستحسن عند الشيعة هو اتّخاذ تربة طاهرة طيّبة ليتيقن من طهارتها، من أيّ أرض أُخذت، ومن أيّصقع من أرجاء العالم كانت، وهي كلّها في ذلك سواء.
وليس هذا الالتزام إلّامثل التزام المصلّي بطهارة جسده وملبسه ومصلّاه، وأمّا سرّ الالتزام في اتّخاذ التربة هو أنّ الثقة بطهارة كلّ أرض يحلّ بها، ويتّخذها مسجداً، لا تتأتّى له في كلّ موضع من المواضع التي يرتادها المسلم في حلّه وترحاله، بل وأنّى له ذلك وهذه الأماكن ترتادها أصناف مختلفة من البشر، مسلمين كانوا أم غيرهم، ملتزمين بأُصول الطهارة أم غير ذلك، وفي ذلك محنة كبيرة تواجه المسلم فيصلاته لا يجد مناصاً من أن يتّخذ لنفسه تربة طاهرة يطمئنّ بها وبطهارتها يسجد عليها لدىصلاته حذراً من السجدة على الرجاسة والنجاسة، والأوساخ التي لا يتقرّب بها إلى اللَّه قطّ ولا تجوّز السنّة السجود عليها ولا يقبله العقل السليم، خصوصاً بعد ورود التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلّي ولباسه والنهي عن الصلاة في مواطن منها:
1- المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، والحمّام، ومعاطن الإبل، بل والأمر بتطهير المساجد وتطييبها «(1)».
وهذه القاعدة كانت ثابتة عند السلف الصالح وإن غفل التاريخ عن نقلها، فقد
ص:511
روي: أنّ التابعي الفقيه مسروق بن الأجدع (ت 62 ه) كان يصحب في أسفاره لبنة من المدينة يسجد عليها. كما أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه المصنّف، باب من كان حمل في السفينة شيئاً يسجد عليه. فأخرج بإسنادين أنّ مسروقاً كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها «(1)».
إلى هنا تبيّن أنّ التزام الشيعة باتّخاذ التربة مسجداً ليس إلّاتسهيل الأمر للمصلّي في سفره وحضره خوفاً من أن لا يجد أرضاً طاهرة أو حصيراً طاهراً فيصعب الأمر عليه، وهذا كادّخار المسلم تربة طاهرة لغاية التيمّم عليها.
وأمّا السرّ في التزام الشيعة استحباباً بالسجود على التربة الحسينية، فإنّ من الأغراض العالية والمقاصد السامية منها، أن يتذكّر المصلّي حين يضع جبهته على تلك التربة، تضحية ذلك الإمام بنفسه وأهل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ ومقارعة الجور والفساد.
ولمّا كان السجود أعظم أركان الصلاة، وفي الحديث «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده» فيناسب أن يتذكّر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية، أُولئك الذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحقّ، وارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى، ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع، وتحتقر هذه الدنيا الزائفة، وزخارفها الزائلة، ولعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود عليها يخرق الحجب السبع كما في الخبر، فيكون حينئذ في السجود سرّ الصعود والعروج من التراب إلى ربّ الأرباب «(2)».
وقال العلّامة الأميني: نحن نتّخذ من تربة كربلاء قطعاً لمعاً، وأقراصاً نسجد عليها كما كان فقيه السلف مسروق بن الأجدع يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنوّرة يسجد عليها، والرجل تلميذ الخلافة الراشدة، فقيه المدينة، ومعلّم السنّة
ص:512
بها، وحاشاه من البدعة. فليس في ذلك أيّ حزازة وتعسّف أو شي ء يضادّ نداء القرآن الكريم أو يخالف سنّة اللَّه وسنّة رسوله صلى الله عليه و آله أو خروج من حكم العقل والاعتبار.
وليس اتّخاذ تربة كربلاء مسجداً لدى الشيعة من الفرض المحتّم، ولا من واجب الشرع والدين، ولا ممّا ألزمه المذهب، ولا يفرق أيّ أحد منهم منذ أوّل يومها بينها وبين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السجود عليها خلاف ما يزعمه الجاهل بهم وبآرائهم، وإن هو عندهم إلّااستحسان عقلي ليس إلّا، واختياراً لما هو الأولى بالسجود لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسب كما سمعت، وكثير من رجال المذهب يتّخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء ممّا يصحّ السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو خمرة مثله ويسجدون عليه فيصلواتهم «(1)».
هذا إلمام إجمالي بهذه المسألة الفقهية والتفصيل موكول إلى محلّه، وقد أغنانا عن ذلك ما سطّره أعلام العصر وأكابره، وأخص بالذكر منهم.
1- المصلح الكبير الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (1295- 1373 ه) في كتابه «الأرض والتربة الحسينية».
2- العلّامة الكبير الشيخ عبدالحسين الأميني مؤلّف الغدير (1320- 1390 ه) فقد دوّن رسالة في هذا الموضوع طبعت في آخر كتابه «سيرتنا وسنّتنا».
3- السجود على الأرض للعلّامة الشيخ عليّ الأحمدي- دام عزّه- فقد أجاد في التتبّع والتحقيق.
وما ذكرنا في هذه المسألة اقتباس من أنوار علومهم. رحم اللَّه الماضين من علمائنا وحفظ اللَّه الباقين منهم.
ص:513
المسألة الحاديةعشرة: عدالة الصحابة كلّهم
صحابة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله هم المسلمون الأوائل الذين رأوا النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله وتشرّفوا بكرامة الصحبة، وتحمّلوا جانباً مهمّاً في عملية نشر الدعوة الإسلامية، وبذل جمع منهم النفس والنفيس في نشر الإسلام، حتّى امتدّ إلى أقاصي المعمورة فأقاموا أُسسه، وشادوا بنيانه، ورفعوا قواعده بجهادهم المتواصل، وبلغوا ذروة المجد باستسهال المصاعب، فلولا بريق سيوفهم، وقوّة سواعدهم، وخوضهم عباب المنايا، لما قام للدين عمود، ولا اخضرّ له عود.
ولمّا كان الكتاب والسنّة هما المصدرين الرئيسيين عند المسلمين جميعاً، والشيعة منهم، وبهدي نورهما يسترشد في استشراف الحقائق الثابتة التي لا غبار عليها، فإنّ التأمل في هذين المصدرين الغدقين يبيّن مدى فضل أُولئك ومنزلتهم في الإسلام.
ولعلّ المتأمل في الكتاب والسنّة يجد مدى ما يحفى به الصحابة الصادقون من ثناء وتكريم، ومن تلا آيات الذكر الحكيم حول المهاجرين والذين اتّبعوهم بإحسان، لا يملك نفسه إلّاأن يغبط منزلتهم وعلوّ شأنهم، بل ويتمنّى منصميم
ص:514
قلبه أن يكون أحدهم ويدرك شأنهم، ومن استمع للآيات النازلة في الذين بايعوا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله تحت الشجرة أو أصحاب سورة الفتح «(1)» فلا بد أن تفيض عيناه دمعاً ويرتعش قلبه شوقاً نحو تلك الثلّة المؤمنة التيصدقت ما عاهدت اللَّه عليه ورسوله صلى الله عليه و آله.
فإذا كان هذا حال الصحابة في الذكر الحكيم فكيف يتجرّأ مسلم على تكفير الصحابة ورميهم بالردّة والزندقة أو تفسيقهم جميعاً؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
وكيف يستطيع أن يصوّر دعوة النبيّصلى الله عليه و آله ضئيلة الفائدة أو يتّهمه بعدم النجاح في هداية قومه وإرشاد أُمّته، وأنّه لم يؤمن به إلّاشرذمة قليلة لا يتجاوزون عدد الأصابع، وأنّ ما سواهم كانوا بين منافق ستر كفره بالتظاهر بالإيمان، أو مرتدّ على عقبيه القهقرى بعد رحلة النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله.
كيف يجوز لمسلم أن يصف دعوته ويقول: إنّه لم يهتد ولم يثبت على الإسلام بعد مرور (23) عاماً من الدعوة إلّاثلاثة أو سبعة أو عشرة. إنّ هذا ليس إلّاهراء وكذب رخيص لا تقبله العقول.
والأنكى من ذلك كلّه أن يُرمى الشيعة بهذا التقوّل الممجوج، وأن تجد من يصدّق ذلك ويرتّب على أساسه مواقف وآراء، وإنّا نسأل أُولئك عن هذا فنقول لهم: أيّ شيعي واع ادّعى ذلك؟ ومتى قال؟ وأين ذكره؟ إنّ الشيعة بريئة من هذه التخرّصات، وما هذه الحكايات السقيمة إلّاجزءاً من الدعايات الفارغة ضدّ الشيعة والتي أثارها الأمويّون في أعصارهم، ليسقطوا الشيعة من عيون المسلمين، وتلقّفتها أقلام المستأجرين لتمزيق الوحدة الإسلامية، وفصم عرى الأُخوّة.
وترى تلك الفرية في هذه الأيام في كتيّب نشره الكاتب أبو الحسن الندوي أسماه
ص:515
ب «صورتان متعارضتان». وهو يجترّ ذلك مرّة بعد أُخرى، وما يريد من ذلك إلّا زيادة الأُمّة فرقة وتمزيقاً.
نعم وردت روايات في ذلك، ولكنّها لا تكون مصدراً للعقيدة، ولا تتّخذ مقياساً لها؛ لأنّها روايات آحاد لا تفيد علماً في مجال العقائد، وستوافيك دراسة متونها وأسانيدها.
إنّا لو أحصينا المهتدين في عصر الرسولصلى الله عليه و آله من بني هاشم لتجاوز عددهم العشرات، بدءاً من عمّه أبي طالب ومروراً بصفيّة عمّته، وفاطمة بنت أسد، وبحمزة والعبّاس وجعفر وعقيل وطالب وعبيدة بن الحارث «شهيد بدر» وأبي سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وجعدة بن أبي هبيرة وأولادهم وزوجاتهم، وانتهاءً بعليّ عليه السلام وأولاده وبناته وزوجته فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين.
أمّا الذين استشهدوا في عهد النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله فهم يتجاوزون المئات، ولا يشكّ أيّ مسلم في أنّهم كانوا مثال المؤمنين الصادقين الذين حوّلهم الإسلام وأثّر فيهم، فضربوا في حياتهم أروع الأمثلة في الإيمان والتوحيد والتضحية بالغالي والنفيس، خدمة للمبدأ و العقيدة. ولعلّ الاستعراض المتعجّل لمجموع تلك الأسماء لا يملك إلّا أن يجزم بصحّة ما ذهبنا إليه من القول بمكانة أُولئك الصحابة ابتداءً بآل ياسر الذين كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول لهم وهو يسمع أنينهم تحت سياط التعذيب: «صبراً آل ياسر إنّ موعدكم الجنّة» «(1)»، و مروراً بمن توفّي في مهجر الحبشة وشهداء بدر وأُحد، وقد استشهد في معركة أُحد سبعونصحابياً كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يزورهم ويسلّم عليهم، ثمّ شهداء سائر المعارك والغزوات، حتّى قال النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله في حقّ سعد بن معاذ شهيد غزوة الخندق: «اهتزّ العرش لموته»، وشهداء بئر معونة والتي يتراوح عدد الشهداء فيها بين (40) حسب رواية أنس بن مالك و (70)
ص:516
حسب رواية غيره، إلى غير ذلك من الأصحاب الصادقين الأجلّاء الذين:
صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبديلًا «(1)»
، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّه وَنِعْمَ الوَكيلُ «(2)»
، للفُقَراءِ المُهاجِرينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّه وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّه وَرَسولَهُ... والَّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ والإيمان مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيهِمْ ولا يَجِدُونَ فيصُدُورهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ «(3)»
.
أو ليست هذه الآيات تثبت نجاح النبيّ صلى الله عليه و آله في دعوته، وأنّه اجتمع حوله رجالصالحون ومخلصون، فكيف يمكن رمي مسلم يتلو الذكر الحكيم ليل نهار باعتقاده بخيبة النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله في دعوته وتهالكه في هداية أُمّته. إنّ الموقف الصحيح من الصحابة هو ما جاء في كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
«أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحقّ؟ أين عمّار؟ وأين ابن التّيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنيّة وأُبرد برؤوسهم إلى الفجرة؟ أوّه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه وتدبّروا الفرض فأقاموه. أحيوا السنّة وأماتوا البدعة، دُعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه» «(4)».
وليس ما جاء في هذه الخطبة فريداً في كلامه، فقد وصف أصحاب
ص:517
رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يومصفّين، يوم فرض عليه الصلح بقوله:
«ولقد كنّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلّاإيماناً وتسليماً، ومضياً على اللقم، وصبراً على مضض الألم، وجدّاً في جهاد العدوّ، ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما أيّهما يسقيصاحبه كأس المنون، فمرّة لنا من عدوّنا، ومرّة لعدوّنا منّا. فلمّا رأى اللَّه صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت، وأنزل علينا النصر، حتّى استقرّ الإسلام ملقياً جرانه ومتبوّئاً أوطانه، ولعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود، ولا اخضرّ للإيمان عود» «(1)».
هذه كلمة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قائد الشيعة وإمامهم، أفهل يجوز لمن يؤمن بإمامته أن يكفّر جميعصحابة النبيّصلى الله عليه و آله أو يفسّقهم أو ينسبهم إلى الزندقة والإلحاد أو الارتداد، من دون أن يقسّمهم إلى أقسام، ويصنّفهم أصنافاً ويذكر تقاسيم القرآن والسنّة في حقّهم!! كلّا وألف كلّا.
وهذا هو الإمام عليّ بن الحسين يذكر في بعض أدعيتهصحابة النبيّصلى الله عليه و آله ويقول: «اللّهمّ وأصحاب محمّدصلى الله عليه و آله خاصّة الذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجّة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوّته، وانتصروا به، ومن كانوا منطوين على محبّته، يرجون تجارة لن تبور في مودّته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلّقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظلّ قرابته، فلا تنس لهم اللّهمّ ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك، وبما حاشوا الخلق عليك
ص:518
وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه، ومن كثرت في إعزاز دينك من مظلومهم.
اللّهمّ وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا...» «(1)».
فإذا كان الحال كذلك، واتّفق الشيعي والسنّي على إطراء الذكر الحكيم للصحابة والثناء عليهم، فما هو موضع الخلاف بين الطائفتين كي يعدّ ذلك من أعظم الخلاف بينهما؟
إنّ موضع الخلاف ليس إلّافي نقطة واحدة، وهي أنّ أهل السنّة يقولون بأنّ كلّ من رأى النبيّصلى الله عليه و آله وعاشره ولو يوماً أو يومين فهو محكوم بالعدالة منذ اللقاء إلى يوم أُدرج في كفنه، ولوصدر منه قتل أو نهب أو زنا أو غير ذلك، محتجّين بما نسب إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «أصحابي كالنجوم، بأيّهم اقتديتم اهتديتم» وفي ذلك خلل كبير أعاذ اللَّه المسلمين منه، فالتاريخ بين أيدينا، وصفحاته خير شاهد على ما نقول، ونحن لا نقول كما قال الحسن البصري: «طهّر اللَّه سيوفنا عن دمائهم، فلنطهّر ألسنتنا»، لأنّا لا نظنّ أنّ الحسن البصري يعتقد بما قال بل إنّه تدرّع بهذه الكلمة وصان بها نفسه عن هجمات الأمويين الذين كانوا يروّجون عدالة الصحابة في جميع الأزمنة، بل يلبسونهم ثوب العصمة، إلى حدّ كان القدح بالصحابي أشدّ من القدح برسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فنفي العصمة عن النبيّصلى الله عليه و آله واتّهامه بالذنب قبل بعثه وبعده كان أمراً سهلًا يطرح بصورة عقيدة معقولة ولا يؤاخذ القائل به، وأمّا من نسبصغيرة أو كبيرة إلىصحابي فأهون ما يواجهونه به هو الاستتابة وإلّا فالقتل...
فإذا كان هذا هو محلّ النزاع- أي عدالة الكل بلا استثناء أو تصنيفهم إلى
ص:519
مؤمن أو فاسق، ومثالي أو عادي، إلى زاهد أو متوغّل في حبّ الدنيا، إلى عالم بالشريعة وعامل بها أو جاهل لا يعرف منها إلّاشيئاً طفيفاً- فيجب تحليل المسألة على ضوء الكتاب والسنّة، مجرّدين عن كلّ رأي مسبق، لا يقودنا في ذلك إلّا الدليل الصحيح والحجّة الثابتة، ولأجل إماطة الستر عن وجه الحقيقة نذكر أُموراً:
1- إنّ القرآن الكريم يصنّف الصحابة إلى أصناف مختلفة؛ فهو يتكلّم عن السابقين الأوّلين، والمبايعين تحت الشجرة، والمهاجرين المهجّرين عن ديارهم وأموالهم، وأصحاب الفتح، إلى غير ذلك من الأصناف المثالية، الذين يثني عليهم ويذكرهم بالفضل والفضيلة، وفي مقابل ذلك يذكر أصنافاً أُخر يجب أن لا تغيب عن أذهاننا وتلك الأصناف هي التالية:
1- المنافقون المعروفون «(1)».
2- المنافقون المتستّرون الذين لا يعرفهم النبيّصلى الله عليه و آله «(2)».
3- ضعفاء الإيمان ومرضى القلوب «(3)».
4- السمّاعون لأهل الفتنة «(4)».
5- المسلمون الذين خلطوا عملًاصالحاً وآخر سيئاً «(5)».
ص:520
6- المشرفون على الارتداد عندما دارت عليهم الدوائر «(1)».
7- الفاسق أو الفسّاق الذين لا يصدق قولهم ولا فعلهم «(2)».
8- المسلمون الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم «(3)».
9- المؤلّفة قلوبهم الذين يظهرون الإسلام ويتآلفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم «(4)».
10- المولّون أمام الكفّار «(5)».
هذه الأصناف إذا انضمّت إلى الأصناف المتقدّمة، فإنّها تعرب عن أنّصحابة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله لم يكونوا على نمط واحد، بل كانوا مختلفين من حيث قوّة الإيمان وضعفه، والقيام بالوظائف والتخلّي عنها، فيجب إخضاعهم لميزان العدالة الذي توزن به أفعال جميع الناس، وعندئذ يتحقّق أنّ الصحبة لا تعطي لصاحبها منقبة إلّا إذا كان أهلًا لها، وتوضّح بجلاء أنّ محاولة المساواة في الفضل بين جميع الصحابة أمر فيه مجافاةصريحة للحقّ وكلمة الصدق، وهذا ما ذهبت إليه الشيعة، وهو نفس النتيجة التي يخرج بها الإنسان المتدبّر للقرآن الكريم.
2- إنّ الآيات التي تناولت المهاجرين والأنصار وغيرهم بالمدح والثناء، لا تدلّ على أكثر من أنّهم كانوا حين نزول القرآن مُثلًا للفضل والفضيلة، ولكن الأُمور إنّما تعتبر بخواتيمها، فيحكم عليهم- بعد نزول الآيات- بالصلاح والفلاح إذا بقوا على ما كانوا عليه من الصفات، وأمّا لو ثبت عن طريق السنّة أو التاريخ الصحيح أنّهصدر عن بعضهم ما لا تحمد عاقبته، فحينئذ لا مندوحة لنا إلّاالحكم
ص:521
بذلك، ولا يعد مثل ذلك معارضاً للقرآن الكريم؛ لأنّه ناظر إلى أحوالهم في ظروف خاصّة، لا في جميع فصول حياتهم، فليس علينا رفع اليد عن السنّة والتاريخ الصحيح بحجّة أنّ القرآن الكريم مدحهم، وأنّ اللَّه تعالى كان في وقت مّا راضياً عنهم، لما عرفت من أنّ المقياس القاطع للقضاء هو دراسة جميع أحوالهم وإخضاعها للقرآن والسنّة، فكم من مؤمن زلّت قدمه في الحياة، فعاد منافقاً، أو مرتدّاً، وكم من ضالّ شملته العناية الإلهية، فبصر الطريق وصار رجلًا إلهياً.
وبالجملة: فمن ثبت عن طريق الدليل الصحيح انحرافه وزيغه عن الصراط المستقيم وشوب إيمانه بالظلم والعيث والفساد، فيؤخذ بما هو الثابت في ذينك المصدرين، وأمّا من لم يثبت زيغه فلا نتكلّم في حقّه بشي ء سوى ما أمر اللَّه به سبحانه من طلب الرحمة لهم حيث قال: رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإخوانِنا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالإيمانِ «(1)».
3- ومن سوء الحظ أنّ شرذمة قليلة من الصحابة زلّت أقدامهم وانحرفوا عن الطريق، فلا تمس دراسة أحوال هؤلاء القليلين، وتبيين مواقفهم، وانحرافهم عن الطريق المستقيم بكرامة الباقين، ولعلّ عدد المنحرفين (غير المنافقين) لا يتجاوز العشرة إلّابقليل.
أفيسوغ في ميزان العدل رمي الشيعة بأنّهم يكفّرون الصحابة ويفسّقونهم بحجّة أنّهم يدرسون حياة عدّة قليلة منهم ويذكرون مساوئ أعمالهم، وما يؤاخذ عليهم على ضوء الكتاب والسنّة والتاريخ الصحيح.
وما نسب إلى الحسن البصري فهو أولى بالإعراض عنه، إذ لو كانت النجاة في ترك ذكرهم، فلماذا اهتمّ ببيان أفعالهم وصفاتهم التاريخ المؤلّف بيد السلف الصالح
ص:522
الذين كانوا يحترمون الصحابة مثلما يحترمهم الخلف؟ فلو كان الحقّ ترك التكلّم فيهم وإعذارهم بالاجتهاد، فلماذا وصف النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله بعضهم بالارتداد، كما رواه البخاري وغيره؟ «(1)».
وإذا دار الأمر بين كون القرآن أو النبيّ صلى الله عليه و آله أُسوة، أو الكلمة المأثورة عن الحسن البصري، فالأوّل هو المتعيّن، ويضرب بالثاني عرض الجدار.
بقيت هنا كلمة وهي: إذا كان موقف الشيعة وأئمّتهم من الصحابة ما ذكر آنفاً، فما معنى ما رواه أبو عمرو الكشّي من أنّه ارتدّ الناس بعد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله إلّاثلاثة؟ إذ لوصحّ ما ذكر، وجب الالتزام بأنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله لم ينجح في دعوته، ولم يتخرّج من مدرسته إلّاقلائل لا يعتدّ بهم في مقابل ما ضحّى به من النفس والنفيس.
والإجابة على هذا السؤال واضحة لمن تفحّص عنها سنداً ومتناً؛ فإنّ ما رواه لا يتجاوز السبع روايات؛ وهي بين ضعيف لا يعوّل عليه، وموثّق- حسب اصطلاح علماء الإمامية في تصنيف الأحاديث- وصحيح قابلين للتأويل، ولا يدلّان على الارتداد عن الدين، والخروج عن الإسلام بل يرميان إلى أمر آخر.
أمّا الضعيف فهو ما رواه الكشّي عن حمدويه وإبراهيم ابني نصير قال: حدّثنا محمّد بن عثمان، عن حنّان بن سدير، عن أبيه، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كان الناس أهل الردّة بعد النبيّصلى الله عليه و آله إلّاثلاثة...» «(2)».
وكفى في ضعفها وجود محمّد بن عثمان في سندها؛ وهو من المجاهيل.
ص:523
ما رواه أيضاً عن عليّ بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «ارتدّ الناس إلّاثلاثة نفر: سلمان، وأبو ذر، والمقداد» «(1)».
وكفى في ضعفها أنّ الكشّي من أعلام القرن الرابع الهجري القمري، فلا يصحّ أن يروي عن عليّ بن الحكم، سواء أكان المراد منه الأنباري الراوي عن ابن عميرة المتوفّى عام (217 ه) أو كان المراد الزبيري الذي عدّه الشيخ من أصحاب الرضا عليه السلام المتوفّى عام 203 ه.
وما نقله أيضاً عن حمدويه بن نصير قال: حدّثني محمّد بن عيسى ومحمّد بن مسعود قال: حدّثنا جبرئيل بن أحمد قال: حدثنا محمّد بن عيسى، عن النضر بن سويد، عن محمّد بن البشير، عمّن حدثه قال: «ما بقي أحد إلّاوقد جال جولة إلّا المقداد بن الأسود؛ فإنّ قلبه كان مثل زبر الحديد» «(2)».
والرواية ضعيفة بجبرئيل بن أحمد؛ فإنّه مجهول كما أنّها مرسلة في آخرها.
وأمّا الروايات الباقية فالموثّق عبارة عمّا ورد في سنده عليّ بن الحسن الفضال، والثلاثة الباقيةصحيحة، ومن أراد الوقوف على أسنادها ومتونها فليرجع إلى رجال الكشّي «(3)».
ومع ذلك كلّه فإنّ هذه الروايات لا يحتجّ بها أبداً لجهات عديدة نشير إلى بعض منها:
1- كيف يمكن أن يقال إنّه ارتدّ الناس بعد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ولم يبق إلّاثلاثة تمسّكوا بولاية عليّ ولم يعدلوا عنها، مع أنّ ابن قتيبة والطبري رويا أنّ جماعة من
ص:524
بني هاشم وغيرهم تحصَّنوا في بيت علي معترضين على ما آل إليه أمر السقيفة، ولم يتركوا بيت الإمام إلّابعد التهديد والوعيد وإضرام النار أمام البيت. وهذا يدلّ على أنّه كان هناك جماعة مخلصون بقوا أوفياء لما تعهّدوا به في حياة النبيّصلى الله عليه و آله، وإليك نصّ التاريخ: قال ابن قتيبة:
إنّ بني هاشم اجتمعت عند بيعة الأنصار إلى عليّ بن أبي طالب، ومعهم الزبير ابن العوّام- رضي اللَّه عنه- «(1)».
وقال في موضع آخر: إنّ أبا بكر- رضي اللَّه عنه- تفقّد قوماً تخلَّفوا عن بيعته عند عليّ- كرّم اللَّه وجهه- فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم وهم في دار عليّ، فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها، فقيل له: يا أبا حفص إنّ فيها فاطمة، فقال: وإن... «(2)».
روى الطبري: قال: أتى عمر بن الخطاب منزل عليّ وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال: واللَّه لأُحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة، فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه «(3)».
وقال ابن واضح الأخباري: وتخلّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع عليّ بن أبي طالب، منهم: العبّاس بن عبد المطلب، والفضل بن العبّاس، والزبير بن العوّام بن العاص، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبوذر الغفاري، وعمّار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأُبي بن كعب. فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة فقال: ما الرأي؟ قالوا: الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب فتجعل له في
ص:525
هذا الأمر نصيباً... «(1)».
كلّ ذلك يشهد على أنّه كان هناك أُمّة بقوا على ما كانوا عليه، في عصر الرسول الأعظمصلى الله عليه و آله، ولم يغترّوا بانثيال الأكثرية إلى غير من كان الحقّ يدور مداره. وكيف يمكن ادّعاء الردّة لعامة الصحابة إلّاالقليل.
2- كيف يمكن أن يقال: ارتدّ الناس إلّاثلاثة مع أنّ الصدوق- رضي اللَّه عنه- ذكر عدّة من المنكرين للخلافة في أوائل الأمر وقد بلغ عددهم اثنا عشر رجلًا من المهاجرين والأنصار وهم: خالد بن سعيد بن العاص، والمقداد بن الأسود، وأُبي ابن كعب، وعمّار بن ياسر، وأبوذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وعبد اللَّه بن مسعود، وبريدة الأسلمي، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وسهل بن حنيف، وأبو أيّوب الأنصاري، وأبو هيثم بن التيهان وغيرهم.
ثمّ ذكر اعتراضاتهم على مسألة الخلافة واحداً بعد واحد «(2)».
3- إنّ وجود الاضطراب والاختلاف في عدد من استثناهم الإمام يورث الشكّ فيصحّتها، ففي بعضها «إلّا ثلاثة» وفي البعض الآخر «إلّا سبعة» وفي ثالث «إلّا ستة» فإنّ التعارض وإن كان يمكن رفعه بالحمل على اختلافهم في درجات الإيمان غير أنّه على كلّ تقدير يوهن الرواية.
4- كيف يمكن إنكار إيمان أعلام من الصحابة مع اتّفاق كلمة الشيعة والسنّة على علوّ شأنهم، أمثال: بلال الحبشي، وحجر بن عدي، وأُويس القرني، ومالك ابن نويرة المقتول ظلماً على يد خالد بن الوليد، والعبّاس بن عبد المطلب وابنه حبر الأُمّة وعشرات من أمثالهم، وقد عرفت أسماء المتخلّفين عن بيعة أبي بكر في كلام اليعقوبي، أضف إلى ذلك أنّ رجال البيت الهاشمي كانوا على خطّ الإمام ولم يتخلّفوا
ص:526
عنه، وإنّما غمدوا سيوفهم اقتداءً بالإمام لمصلحة عالية ذكرها في بعض كلماته «(1)».
وأقصى ما يمكن أن يقال في حقّ هذه الروايات هو أنّه ليس المراد من الارتداد الكفر والضلال والرجوع إلى الجاهلية، وإنّما المراد عدم الوفاء بالعهد الذي أُخذ منهم في غير واحد من المواقف وأهمّها غدير خم. ويؤيّد ذلك:
ما رواه وهب بن حفص، عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام: «جاء المهاجرون والأنصار وغيرهم بعد ذلك «(2)» إلى عليّ عليه السلام فقالوا له: أنت واللَّه أمير المؤمنين وأنت واللَّه أحقّ الناس وأولاهم بالنبيّصلى الله عليه و آله هلمّ يدك نبايعك فواللَّه لنموتنّ قدامك.
فقال عليّ عليه السلام: إن كنتمصادقين فاغدوا غداً عليّ محلّقين. فحلق أمير المؤمنين وحلق سلمان وحلق المقداد وحلق أبو ذر ولم يحلق غيرهم «(3)».
وهذه الرواية قرينة واضحة على أنّ المراد هو نصرة الإمام عليه السلام لأخذ الحق المغتصب، فيكون المراد من الردّة هو عدم القتال معه.
وممّا يؤيّد ذلك أيضاً الرواية التي جاء فيها أنّ قلب المقداد بن الأسود كزبر الحديد، فهي وإن كانت ضعيفة السند لكنّ فيها إشعاراً على ذلك؛ لأنّ وصف قلب المقداد إشارة إلى إرادته القويّة وثباته في سبيل استرداد الخلافة.
و ظنّي أنّ هذه الرواياتصدرت من الغلاة والحشوية دعماًلأمر الولاية وتغابناً في الإخلاص، غافلين عن أنّها تضادّ القرآن الكريم، وما روي عن أمير المؤمنين وحفيده سيّد الساجدين، من الثناء والمدح لعدّة من الصحابة. وهناك كلام قيّم للعلّامة السيد محسن الأمين العاملي نذكر نصّه وهو يمثّل عقيدة الشيعة فقال:
وقالت الشيعة: حكم الصحابة في العدالة حكم غيرهم، ولا يتحتّم الحكم بها
ص:527
بمجرّد الصحبة؛ وهي لقاء النبي صلى الله عليه و آله مؤمناً به ومات على الإسلام. وإنّ ذلك ليس كافياً في ثبوت العدالة بعد الاتّفاق على عدم العصمة المانعة منصدور الذنب، فمن علمنا عدالته حكمنا بها وقبلنا روايته، ولزمنا له من التعظيم والتوقير، بسبب شرف الصحبة ونصرة الإسلام والجهاد في سبيل اللَّه ما هو أهله، ومن علمنا منه خلاف ذلك لم تقبل روايته، أمثال مروان بن الحكم، والمغيرة بن شعبة، والوليد بن عقبة، وبسر بن أرطاة وبعض بني أُميّة وأعوانهم، ومن جهلنا حاله في العدالة توقّفنا في قبول روايته.
وممّا يمكن أن يذكر في المقام أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله توفّي ومن رآه وسمع عنه يتجاوز مائة ألف إنسان من رجل وامرأة على ما حكاه ابن حجر في الإصابة عن أبي زرعة الرازي: «وقيل ماتصلى الله عليه و آله عن مائة وأربعة عشر ألفصحابي» ومن الممتنع عادة أن يكون هذا العدد في كثرته وتفرّق أهوائه وكون النفوس البشرية مطبوعة على حبّ الشهوات كلّهم قد حصلت لهم ملكة التقوى المانعة عنصدور الكبائر، والإصرار على الصغائر بمجرّد رؤية النبيّصلى الله عليه و آله والإيمان به، ونحن نعلم أنّ منهم من أسلم طوعاً ورغبة في الإسلام، ومنهم من أسلم خوفاً وكرهاً، ومنهم المؤلّفة قلوبهم، وما كانت هذه الأُمّة إلّاكغيرها من الأُمم التي جبلت على حبّ الشهوات وخلقت فيها الطبائع القائدة إلى ذلك إن لم يردع رادع والكل من بني آدم، وقدصحّ عنهصلى الله عليه و آله أنّه قال: «لتسلكنّ سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة حتّى لو دخل أحدهم جحر ضب لدخلتموه». ولو منعت رؤية النبيّصلى الله عليه و آله من وقوع الذنب لمنعت من الارتداد الذي حصل من جماعة منهم كعبد اللَّه بن جحش، وعبيد اللَّه بن خطل، وربيعة بن أُمية بن خلف، والأشعث بن قيس «(1)» وغيرهم. هذا مع ما شوهد
ص:528
منصدور أُمور من بعضهم لاتتّفق مع العدالة، كالخروج على أئمّة العدل، وشقّ عصا المسلمين، وقتل النفوس المحترمة، وسلب الأموال المعصومة، والسبّ والشتم وحرب المسلمين وغشهم، وإلقاح الفتن، والرغبة في الدنيا، والتزاحم على الإمارة والرئاسة وغير ذلك ممّا تكفّلت به كتب الآثار والتواريخ وملأ الخافقين.
وأعمال مروان بن الحكم في خلافة عثمان معلومة مشهورة، وكذلك بسر بن أرطاة والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة، وكلّهم من الصحابة «(1)».
وحصيلة البحث: أنّ موضع الاختلاف، ومصبّ النزاع ليس إلّاكون عدالة الصحابة قضية كلّية أو جزئيّة؟ فالسنّة على الأُولى، والشيعة على الثانية، وأمّا ما سواها من سبّ الصحابة ولعنهم، أو ارتدادهم عن الدين بعد رحلة الرسول، أو عدم حجّية رواياتهم على وجه الإطلاق، فإنّها تُهمٌ أُموية ناصبية، اتُّهم بها شيعة آل محمّدصلى الله عليه و آله وهم براء منها. ونعم الحكم اللَّه. فالشيعة يعطون لكلّ ذي حقّ حقّه، فيأخذون معالم دينهم عن ثقات الصحابة، ولا يتكلّمون في حقّ من لم يتعرّفوا على حاله، ويحكمون على القسم الثالث على ضوء الكتاب والسنّة.
إنّ هناك رجالًا من السلف لا يسوغ لمنصف يمتلك مقياساً شرعياً سليماً أن يذهب إلى جواز حبّهم أو الترحّم عليهم؛ لأنّ في ذلك خروجاًصارخاً عن أبسط المقاييس والموازين الشرعية، ومن هؤلاء:
1- معاوية بن أبي سفيان- ويكفي في حقّه إيراد ما ذكره الجاحظ في رسالته في بني أُمية والآثام التي اقترفوها-: استوى معاوية على الملك، واستبدَّ على بقيّة أهل الشورى، وعلى جماعة المسلمين من المهاجرين والأنصار في العام الذي سمّوه عام الجماعة، وما كان عام جماعة، بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة، والعام الذي
ص:529
تحوّلت فيه الإمامة ملكاً كسروياً، والخلافة غصباً قيصرياً، ثمّ ما زالت معاصيه من جنس ما حكيناه، وعلى منازل ما رتّبناه، حتّى ردّ قضية رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ردّاً مكشوفاً وجحد حكمه جحداً ظاهراً «(1)»، فخرج بذلك من حكم الفجّار إلى حكم الكفّار.
أو ليس قتل حجر بن عدي، وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر، وبيعة يزيد الخليع، والاستئثار بالفي ء، واختيار الولاة على الهوى، وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة، من جنس الأحكام المنصوصة والشرائع المشهورة، والسنن المنصوبة، وسواء جحد الكتاب، وردّ السنّة إذا كانت في شهرة الكتاب وظهوره، إلّا أنّ أحدهما أعظم وعقاب الآخرة عليه أشدّ «(2)».
وقد أربت نابتة عصرنا ومبدعة دهرنا فقالت: لا تسبّوه؛ فإنّ لهصحبة، وسبّ معاوية بدعة، ومن بغضه فقد خالف السنّة، فزعمت أنّ من السنّة ترك البراءة ممّن جحد السنّة «(3)».
2- عمرو بن العاص، الذي ألَّب على عثمان وسرّ بقتله، ثم اجتمع مع معاوية يطالب بدمه عليّ بن أبي طالب عليه السلام الذي كان من أشدّ المدافعين عنه، وأعطفهم عليه يوم أمر طلحة بمنع الماء عنه وتعجيل قتله. كلّ ذلك كان من ابن العاص حبّاً بخراج مصر، لا بعثمان ولا بمعاوية أيضاً، والعجب أنّ الرسول صلى الله عليه و آله تنبّأ بذلك وصرّح بأنّهما لا يجتمعان إلّاعلى غدر «(4)».
3- يزيد الخليع المستهتر خليفة معاوية الذي ولّي ثلاث سنين بعده، فقتل في
ص:530
الأُولى الإمام الحسين عليه السلام، وفي الثانية أغار على المدينة وقتل من الصحابة والتابعين ما لا يحصى وأباح أعراضهم، وفي الثالثة رمي الكعبة «(1)»، وكفى في كفره وإلحاده جهره بقول ابن الزبعرى:
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزلْ
4- مروان بن الحكم، الذي كان من أشدّ الناس بغضاً لأهل البيت. قال ابن حجر: ومن أشدّ الناس بغضاً لأهل البيت مروان بن الحكم.
روى الحاكم: أنّ عبد الرحمن بن عوف- رضي اللَّه عنه- قال: كان لا يولد لأحد بالمدينة ولد إلّاأُتي به النبيّصلى الله عليه و آله، فأُدخل عليه مروان بن الحكم، فقال: «هو الوزغ بن الوزغ، الملعون بن الملعون» «(2)».
5- الوليد بن عقبة شارب الخمر، والزائد في الفريضة «(3)».
6- وعبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح الذي أهدر النبيّ دمه «(4)».
7- الوليد بن يزيد بن عبد الملك، الذي يخاطب كتاب اللَّه العزيز بعد أن ألقاه ورماه بالسهام بقوله:
تهدّدني بجبار عنيد فها أنا ذاك جبّار عنيد
إذا ما جئت ربّك يوم حشر فقل يا ربّ مزّقني الوليد «(5)»
ويقول السيوطي: إنّ الوليد هذا كان فاسقاً خميراً لوّاطاً، راود أخاه سليمان
ص:531
عن نفسه، ونكح زوجات أبيه «(1)».
هؤلاء وأضرابهم هم الذين تتبرّأ الشيعة منهم وتحكم عليهم بما حكم اللَّه به عليهم. أفيصحّ تكفير الشيعة وتفسيقهم لأجل سبّ هؤلاء والتبرّي منهم؟! إنّ أعمال هؤلاء يندى لها جبين الإنسانية ولا يمكن أن تغضي عنها، فياللَّه!! أمن الإنصاف أن تتّهم الشيعة بالانحراف والخروج عن الدين لأنّها تدين هؤلاء وتلعنهم، واللَّه تعالى لعن أقواماً كثيرين في كتابه الحكيم وكذلك رسولهصلى الله عليه و آله؟ ولعلّ أعمال أُولئك لو وزنت بأعمال هؤلاء لما رجحت عليها.
ص:532
المسألة الثانية عشرة: في عالمية رسالة النبيصلى الله عليه و آله وخاتميّتها
تمتاز الشريعة الإسلامية بنقطتين رئيستين:
الأُولى: عالميّتها وشموليّتها.
الثانية: كونها خاتمة الشرائع.
أمّا الأُولى: فمعناها أنّ دعوتَها عالمية لا تنحصر بإقليم معيّن، وهي من أبرز الملامح التي يستهدفها القرآن في دعوته ورسالته.
يقول سبحانه: تباركَ الَّذي نزَّلَ الفُرقانَ على عَبدِه ليكونَ للعالمينَ نَذيراً «(1)».
ويقول أيضاً: و ما أرسلناك إلّا كافّةً للنّاسِ بَشيراً ونَذيراً ولكنَّ أكثر النّاسِ لا يَعلَمون «(2)»
.
وقال سبحانه: قُلْ يا أيُّها النّاسُ إنِّي رَسولُ اللَّهِ إلَيكُمْ جَميعاً... «(3)»
ص:533
لقد بعثَ الرسولُ الأعظمصلى الله عليه و آله سفراءَه إلى أنحاء المعمورة لنشر دعوته فيها وبيد كلّ واحد منهم كتاب يعبِّر عن عالميّة دعوته، فقد بعثَ إلى قيصر الروم، وكسرى فارس، وعظيم القبط، وملك الحبشة، والحارث بن أبي شمر الغسّاني ملك تخوم الشام، وحوزة بن عليّ الحنفي ملك اليمامة، وغيرهم من ملوك العرب وشيوخ القبائل والأساقفة، والمرازبة، والعمّال، وهذه المواثيق أوضح دليل على أنّ رسالته عالمية لا تحدُّ بحدّ، بل تجعل الأرض كلها ساحة لإشاعة دينه وتطبيق شريعته.
هذا والبراهين على عالمية دعوته كثيرة لا مجال لذكرها.
نعم ربما قد تظهر بعض المغالطات من النصارى القدامى في هذه النقطة؛ حيث حاولوا تحجيم أمر الرسالة وتخصيصها بمكان وعنصر خاصَّين، وليست شبهاتهم قابلة للذكر.
كيف وبيانات القرآن وخطاباته للبشر كافة ومواثيق الرسول ودعواته المتجاوزة حدود الجزيرة العربية، واجتياح جيوش المسلمين ورجالهم أرض غير العرب، واستقرار الأُمّة الإسلامية في أكثر مناطق المعمورة بل معظمها يومذاك، أبطلت هذه المغالطات وجعلتها في مدحرة البطلان، ولذلك نعود إلى الملمح الثاني من ملامح الشريعة الإسلامية، في بحثنا وهو خاتميتها؛ وهي تعني:
أنّها آخر الشرائع، وأنّ المبعوث بها هو خاتم الأنبياء؛ فشريعته خاتمة الشرائع، وهذا ما نحاول دراسته في هذه الرسالة، ونستدلّ عليه عن طريق الكتاب والسنّة ونحلّل الإشكالات المثارة حوله كل ذلك في ضمن فصولٍ.
ص:534
اتّفقت الأُمّة الإسلامية- عن بكرة أبيها- على أنّ نبيّهم محمداًصلى الله عليه و آله خاتم النبيّين، وأنّ دينه خاتم الأديان، وكتابه خاتم الكتب والصحف، فهوصلى الله عليه و آله آخر السفراء الإلهيين، أُوصد به باب الرسالة والنبوة، وختمت به رسالة السماء إلى الأرض.
لقد اتّفق المسلمون كافّة على أنّ دين نبيّهم دين اللَّه الأبدي، وكتابه كتاب اللَّه الخالد ودستوره الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقد أنهى اللَّه إليه كلّ تشريع وأودع فيه أُصول كلّ رقي، وأناط به كلّ سعادة ورخاء، فاكتملت بدينه وكتابه الشرائع السماوية التي هي رسالة السماء إلى الأرض.
توضيحه: أنّ الشريعة الإلهية الحقّة التي أنزلها اللَّه تعالى إلى أوّل سفرائه لا تفترق جوهراً عمّا أنزله على آخرهم، بل كانت الشريعة السماوية في بدء أمرها نواة قابلة للنموّ والنشوء؛ فأخذت تنمو وتستكمل عبر القرون والأجيال؛ حسب تطور الزمان وتكامل الأُمم، وتسرّب الحصافة إلى عقولهم، وتسلّل الحضارة إلى حياتهم.
ويفصح عمّا ذكرنا قوله سبحانه: شرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بهِ نُوحاً... «(1)»
فقد وصّى نبينا محمداً بما وصّى به نوحاً، من توحيده سبحانه وتنزيهه عن الشرك، والدعوة إلى مكارم الأخلاق والتنديد بالجرائم الخلقية، والقضاء على أسبابها، إلى غير ذلك ممّا تجده في صحف الأوّلين والآخرين.
وتتجلّى تلك الحقيقة الناصعة؛ أي وحدة الشرائع السماوية من مختلف الآيات
ص:535
في شتّى المواضع، قال سبحانه: إنَّ الدِّين عِندَ اللَّهِ الإسلامُ ومَا اختلَفَ الَّذينَ أُتُوا الكِتابَ إلّامِنْ بَعدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغياً بَينَهُمْ «(1)»
وظاهر الآية يعطي أنّ الدين عند اللَّه- لم يزل ولن يزال- هو الإسلام في طول القرون والأجيال، ويعاضدها قوله تعالى: ومَنْ يَبتَغِ غَيرَ الإسلامِ دِيناً فَلَنْ يُقبَلَ مِنهُ «(2)»
. وقال سبحانه في مورد آخر مخطّئاً مزعمة اليهود والنصارى في رَمي بطل التوحيد إبراهيم باليهودية والنصرانية قال: ما كانَ إبراهيمُ يَهودياً ولا نَصرانياً ولكنْ كانَ حَنيفاً مُسلِماً وما كانَ منَ المُشرِكينَ «(3)»
.
فحقيقة الشرائع السماوية في جميع الأدوار والأجيال كانت أمراً واحداً وهو التسليم لفرائضه وعزائمه وحده جلّ وعلا.
ولأجل ذلك كتب الرسول إلى قيصر عندما دعاه إلى الإسلام، قوله سبحانه:
قُلْ يا أهلَ الكِتابِ تَعالَوْا إلى كلمةٍ سَواءٍ بَيننا وبَينَكُمْ ألّا نَعبُدَ إلّااللَّهَ ولا نُشرِكَ بهِ شَيئاً ولا يتَّخِذَ بَعضُنا بَعضاً أرباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فإنْ تَولَّوْا فَقولُوا اشهَدُوا بأنّا مُسلِمُون «(4)»
.
وقد أمر سبحانه في آية أُخرى رسوله بدعوة معشر اليهود أو الناس جميعاً إلى اتّباع ملّة إبراهيم قال سبحانه: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهيمَ حَنيفاً وما كانَ منَ المُشرِكين «(5)»
.
وصرّح سبحانه بأنّ كلّ نبيّ جاء عقب نبيّ آخر، كانَ يصرِّح بأنّه مصدِّق بوجود النبيّ المتقدّم عليه وكتابه ودينه، فالمسيح مصدّق لما بين يديه من التوراة
ص:536
ومحمّدصلى الله عليه و آله مصدّق لما بين يديه من الكتب وكتابه مهيمن عليه، كما قال سبحانه:
وَقفَّينا عَلى آثارِهمْ بِعِيسَى ابنِ مَريمَ مُصدِّقاً لِما بَينَ يَديهِ منَ التَّوراة «(1)»
، وأنْزَلْنا إليكَ الكتابَ بِالحقِّ مُصدِّقاً لِما بَينَ يَدَيهِ منَ الكتابِ ومُهَيمناً عَليهِ «(2)».
وهذه النصوص كلّها تعبّر عن وحدة أُصول الشرائع وجذورها ولبابها.
وعلى هذا فرسالة السماء إلى الأرض، رسالة واحدة في الحقيقة مقولة بالتشكيك، متكاملة عبر القرون جاء بها الرسل طوال الأجيال وكلّهم يحملون إلى المجتمع البشري رسالة واحدة؛ لتصعد بهم إلى مدارج الكمال، وتهديهم إلى معالم الهداية ومكارم الأخلاق.
نعم كان البشر في بدايات حياتهم يعيشون في غاية البساطة والسذاجة، فما كانت لهم دولة تسوسهم، ولا مجتمع يخدمهم، ولا ذرائع تربطهم، وكانت أواصر الوحدة ووشائج الارتباط بينهم ضعيفة جداً، فلأجل ذاك القصور في العقل، وقلّة التقدم، وضعف الرقي، كانت تعاليم أنبيائهم، والأحكام المشروعة لهم طفيفة في غاية البساطة، فلما أخذت الإنسانية بالتقدّم والرقي، وكثرت المسائل يوماً فيوماً، اتّسع نطاق الشريعة واكتملت الأحكام تلو هذه الأحوال والتطوّرات.
فهذه الشرائع (مع اختلافها في بعض الفروع والأحكام نظراً إلى الأحوال الأُممية والشؤون الجغرافية) لا تختلف في أُصولها ولبابها، بل كلّها تهدف إلى أمر واحد، وتسوق المجتمع إلى هدف مفرد، والاختلاف إنّما هو في الشريعة والمنهاج لا في المقاصد والغايات كما قال سبحانه: لِكلٍّ جَعلْنا مِنكُم شِرعةً ومِنهاجاً ولَوْ
ص:537
شاءَ اللَّهُ لَجعلَكُمْ أُمّةً واحدةً ولكنْ لِيبلُوَكُمْ في ما آتاكُمْ فَاستَبِقُوا الخَيراتِ «(1)»
.
وقال سبحانه: ثُمَّ جَعلناكَ عَلى شَريعةٍ مِنَ الأمرِ فاتَّبِعْها ولا تَتَّبِعْ أهْواءَ الَّذينَ لا يَعلَمون «(2)»
.
وخلاصة القول: إنّ السنن مختلفة، فللتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، ولكن الدين هو الأُصول والعقائد والأحكام التي تساير الفطرة الإنسانية ولا تخالفها واحدة منها.
وهاتان الآيتان لا تهدفان إلى اختلاف الشرائع في جميع موادّها، ومواردها اختلافاً كلّياً بحيث تكون النسبة بينها نسبة التباين، كيف وهو سبحانه يأمر نبيَّه بالاقتداء بهدى أنبيائه السالفين ويقول: أُولئكَ الَّذينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «(3)»
.
نعم جاءت الرسل تترى، وتواصلت حلقات النبوّة في الأدوار الماضية إلى أن بعث اللَّه آخر سفرائه فأتمّ نعمته وأكمل به دينه، فأصبح المجتمع البشري في ظلّ دينه الكامل، وكتابه الجامع، غنياً عن تواصل الرسالة وتعاقب النبوّة، وأصبح البشر غير محتاجين إلى إرسال أيّ رسول بعده؛ إذ جاء الرسول بأكمل الشرائع وأتقنها وأجمعها للحقوق وبكلّ ما يحتاج إليه البشر في أدوار حياتهم وأنواع تطوراتهم، وفي الوقت نفسه فيها مرونة تتمشى مع جميع الأزمنة والأجيال، من دون أن تمسّ جوهرَ الرسالة الأصلي بتحوير وتحريف. وإليك أدلّة خاتميته من الكتاب أولًا، والسنّة ثانياً، أمّا الكتاب ففيه نصوص:
ص:538
قوله سبحانه: ما كانَ محمدٌ أبا أحدٍ مِنْ رجالِكُمْ ولكنْ رَسولَ اللَّهِ وخاتَمَ النبيّينَ وكانَ اللَّهُ بِكلِّ شَي ءٍ عَليماً «(1)»
.
توضيح الآية: تبنّى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله زيداً قبل عصر الرسالة، وكانت العرب يُنزِّلون الأدعياء منزلة الأبناء في أحكام الزواج والميراث، فأراد اللَّه سبحانه أن ينْسخ تلك السنّة الجاهلية، فأمر رسوله أن يتزوّج زينب زوجة زيدٍ بعد مفارقته لها، فلمّا تزوّجها رسول اللَّه أوجد ذلك ضجّة بين المنافقين والمتوغّلين في النزعات الجاهلية والمنساقين وراءها، فردّ اللَّه سبحانه مزاعمهم بقوله ما كانَ محمدٌ أبا أحدٍ مِنْ رجالِكُمْ من الذين لم يلدهم ومنهم زيد ولكن رَسولَ اللَّهِ وهو لايترك ما أمره اللَّه به وخاتَمَ النبيّينَ وآخرهم خُتِمت به النبوّة، فلا نبيّ بعده، ولا شريعة بعد شريعته، فنبوّته أبدية، وشريعته باقية إلى يوم الدين.
الخاتم وما يراد منه:
لقد قرئ لفظ الخاتم بوجهين:
الأوّل: بفتح التاء وعليه قراءة عاصم، ويكون بمعنى الطابع الذي تختم به الرسائل والمواثيق، فكان النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله بالنسبة إلى باب النبوة كالطابع؛ ختم به باب النبوة، وأُوصِدَ وأُغْلِقَ فلا يفتح أبداً.
الثاني: بكسر التاء وعليه يكون اسم فاعل؛ أي الذي يختم باب النبوّة، وعلى كلتا القراءتين فالآيةصريحة على أنّ باب النبوة أو بعث الأنبياء خُتم بمجي ء النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله.
قال أبو محمد الدميري:
ص:539
والخاتِم الفاعلُ قُل بالكسر وما به يُختم فتحاً يجري
وأنت إذا راجعت التفاسير المؤلّفة منذ العصور الأُولى إلى يومنا هذا ترى أنّ عامّة المفسّرين يفسّرونها بما ذكرنا ويصرحون بأنّ وصفه صلّى اللَّه عليه وآله وتشبيهه بالخاتم (بالفتح) لأنّه كان الرسم الدائر بين العرب هو ختم الرسالات بخاتمهم الذي بين أصابعهم، فكانت خواتيمهم طوابعهم، فكأنَّ النبيّ الأكرم بين الأنبياء هو الخاتم ختم به باب النبوّات، ولك أن تستلهم هذا المعنى من الآيات الكثيرة التي وردت فيها مادة تلك الكلمة، فترى أنّ جميعها يفيد هذا المعنى، كالآيات التالية:
1- قال سبحانه: يُسقَونَ مِنْ رَحيقٍ مَختُوم «(1)»
أي مختوم بابه بشي ء مثل الشمع وغيره دليلًا على خلوصه.
2- وقال سبحانه: خِتامُهُ مِسكٌ وفي ذلك فَلْيتنافَسِ المُتنافِسُونَ «(2)»
أي آخر شربه تفوح منه رائحة المسك.
3- وقال سبحانه: اليومَ نَختِمُ عَلى أفواهِهِمْ وتُكلِّمنا أيدِيهِمْ «(3)»
أي يطبع على أفواههم فتوصدُ، وتَتكلَّم أيديهم.
إلى غير ذلك من الآيات التي وردت فيها مادّة تلك الكلمة، والكلّ يهدف إلى الانتهاء والانقطاع. وفي مورد الآية.. انتهاء النبوّة وانقطاعها.
قوله سبحانه: تَباركَ الَّذي نَزَّلَ الفُرقانَ على عَبدِهِ ليكونَ
ص:540
لِلعالَمينَ نَذيراً «(1)»
.
والآيةصريحة في أنّ الغاية من تنزيل القرآن على عبده (النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله) كون القرآن نذيراً للعالمين من بدء نزوله إلى يوم يبعثون، من غير فرق بين تفسيرها بالإنس والجنّ أو الناس أجمعهم، وإن كان الثاني هو المتعيّن، فإنّ العالمين في الذكر الحكيم جاء بهذا المعنى.
قال سبحانه حاكياً عن لسان لوط: قالَ إنَّ هؤلاءِ ضَيفي فلا تَفْضَحونِ* واتَّقوا اللَّهَ ولا تُخزونِ* قالوا أوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالَمين «(2)»
.
فإنّ المراد من العالمين في كلامهم هم الناس؛ إذ لا معنى لأن ينهونه عن استضافة الجن والملائكة، ونظيره قوله سبحانه حاكياً عن لسان لوط: أتأتونَ الذُّكرانَ مِنَ العالَمين «(3)»
فالمراد من العالمين في كلتا الآيتين هم الناس.
وبذلك يعلم قوّة ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام من أنّ العالمين عنى به الناس وجعل كلّ واحد عالماً، ولا يعدل عن ذلك الظاهر إلّابقرينة، وبما أنّه لا قرينة على العدول من الظاهر فيكون معنى قوله: ليكونَ لِلعالَمينَ نَذيراً أي نذيراً للناس أجمعهم من يوم نزوله إلى يوم يبعثون.
قوله سبحانه: إنَّ الَّذينَ كَفروا بالذِّكرِ لما جاءَهُمْ وإنَّهُ لَكتابٌ عزيزٌ* لا يأتِيهِ الباطِلُ مِنْ بينِ يَديهِ ولا مِنْ خَلفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميدٍ «(4)»
.
وجه الدلالة على الخاتمية، أنّ المراد من الذكر هو القرآن بقرينة قوله سبحانه:
ص:541
ذلكَ نتلُوه عليكَ منَ الآياتِ والذِّكرِ الحَكيمِ «(1)»
.
والضمير في لا يأتيه يرجع إلى الذكر ومفاد الآية أنّ الباطل لا يتطرّق إليه ولا يجد إليه سبيلًا من أيّ جهة من الجهات؛ فلا يأتيه الباطل بأيّةصورة متصوّرة، ودونكصوره.
1- لا يأتيه الباطل: أي لا ينقص منه شي ء ولا يزيد عليه شي ء.
2- لا يأتيه الباطل: أي لا يأتيه كتاب يبطله وينسخه وأن يجعله سُدى فهو حقّ ثابت لا يبدّل ولا يغيّر ولا يترك.
3- لا يأتيه الباطل: لا يتطرق الباطل في إخباره عمّا مضى ولا في إخباره بما يجي ء، فكلّها تطابق الواقع.
وحاصل الآية أنّ القرآن حقّ لا يداخله الباطل إلى يوم القيامة، فإذا كان حقّاً مطلقاً مصوناً عن تسلّل البطلان إليه ومتّبعاً للناس إلى يوم القيامة يجب عند ذلك دوام رسالته وثبات نبوّته وخاتمية شريعته.
وبتعبير آخر أنّ الشريعة الجديدة إمّا أن تكون عين الشريعة الإسلامية الحقّة أو غيرها، فعلى الأول لا حاجة إلى الثانية، وعلى الثاني: فإمّا أن تكون الثانية حقّة كالأُولى؛ فيلزم كون المتناقضين حقاً، أو أن تكون الأُولى حقّاً دون الأُخرى؛ وهذا هو المطلوب، وشريعة الرسول الأعظم جزءٌ من الكتاب الحقّ الذي لا يدانيه الباطل، وسنّته المحكمة التي لا تصدر إلّابإيحاء منه كما قال تعالى: وما يَنطِقُ عَنِ الهَوى* إنْ هُوَ إلّاوَحيٌ يُوحى* عَلَّمَهُ شَديدُ القُوى «(2)»
فالآيةصريحة في نفي أيّ تشريع بعد القرآن وأيّة شريعة بعد الإسلام، فتدلّ بالملازمة على عدم النبوّة التشريعية بعد نبوته.
ص:542
قوله سبحانه: قُلْ أيُّ شَي ءٍ أكبرُ شهادةً قُلِ اللَّهُ شَهيدٌ بَيني وبينَكُمْ وَأُوحيَ إليَّ هذا القُرآنُ لأُنذرَكُمْ بهِ ومَنْ بَلَغ... «(1)»
.
وظاهر الآية: أنّ الغاية من نزول القرآن تحذير من بلغه إلى يوم القيامة وبذلك يُفسّر قوله سبحانه في آية أُخرى: وكذلكَ أوحينا إليكَ قُرآناً عَربياً لِتُنذِرَ أُمَّ القُرى ومَنْ حَولَها... «(2)»
.
فإنّ المراد ومَن حولها جميع أقطار المعمورة، وعلى فرض انصرافها عن هذا المعنى العامّ فلا مفهوم للآية بعد ورود قوله سبحانه: لأُنذركُمْ بهِ ومَنْ بَلَغ.
قوله سبحانه: وما أرسلناكَ إلّاكافةً للنّاسِ بَشيراً ونذيراً ولكنَّ أكثرَ النّاسِ لا يعلَمون «(3)»
.
والمتبادر من الآية كون كافّة حالًا من الناس قُدّمتْ على ذيها وتقدير الآية وما أرسلناك إلّاللناس كافّة بشيراً ونذيراً.
وإليك محصّل الآيات الخمس:
أمّا الأُولى فهو: أنّ باب الإخبار عن السماء الذي كان هو النبوّة قد أُوصد، وبإيصاده تكون النبوّة مختومة، وبختمها تكون الشريعة المحمدية أبديّة؛ لأنّ تجديد الشريعة فرع فتح باب النبوّة، فإذا كان التنبّؤ بإخبار السماء مغلقاً؛ فلا يمكن الإخبار عن السماء بوجه من الوجوه، ومنها نسخ الشريعة.
وأمّا الآيات الأربع الباقية فهيصريحة ببقاء الشريعة الإسلامية بعموميتها،
ص:543
فمجموع الآيات يركِّز على أمر واحد: غلق باب النبوة وأبدية الشريعة الإسلامية.
هذه هي النصوص، ومع ذلك ففي القرآن إشارات إلى الخاتمية بعناوين أُخرى نشير إلى بعض منها:
الأُولى: أفغيرَ اللَّهِ أبتغي حَكَماً وهوَ الَّذي أنزلَ إلَيكُمُ الكتابَ مُفَصَّلًا والَّذينَ آتَيناهُمُ الكتابَ يَعَلمونَ أنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالحقِّ فَلا تكونَنَّ مِنَ المُمْتَرينَ* وتَمَّتْ كَلِمةُ ربِّكَصِدْقاً وَعدْلًا لا مُبدِّلَ لِكلماتِهِ وهوَ السَّميعُ العَليمُ «(1)»
.
إنّ دلالة قوله سبحانه: وتمّت كلمةُ رَبِّك... على إيصاد باب الوحي إلى يوم القيامة واضحة بعد الوقوف على معنى الكلمة؛ فإنّ المراد منها الدعوة الإسلامية، أو القرآن الكريم وما فيه من شرائع وأحكام، والشاهد عليها الآية المتقدمة حيث قال سبحانه: وهوَ الَّذي أنزلَ إلَيكُمُ الكتابَ مُفَصَّلًا والَّذينَ آتَيناهُمُ الكتابَ يَعَلمونَ أنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالحقِّ «(2)»
فالمراد من قوله أنزلَ إلَيكُمُ الكتابَ هو القرآن النازل على العالمين، ثمّ يقول: بأنّ الذين آتيناهم الكتاب من قبل كاليهود والنصارى إذا تخلّصوا من الهوى يعلمون أنّ القرآن وحي إلهي كالتوراة والإنجيل، وأنّه منزّلٌ من اللَّه سبحانه بالحقّ، فلا يصحّ لأيّ منصف أن يتردّد في كونه نازلًا منه إلى هداية الناس.
ثمّ يقول في الآية التالية: وتمّت كلمةُ ربِّكَ بظهور الدعوة المحمدية، ونزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب، وصارت مستقرة في محلّها بعدما كانت تسير دهراً طويلًا في مدارج التدرّج بنبوّة بعد نبوّة وشريعة بعد شريعة «(3)».
ص:544
وهذه الكلمة الإلهية- أعني: الدعوة الإلهية المستوحاة في القرآن الكريم-صدق لا يشوبه كذب وما فيه من الأحكام من الأمر والنهي، عدل لا يخالطه ظلم، ولأجل تلك التمامية لاتتبدّل كلماته وأحكامه من بعد «(1)».
هذه نظرة إلى القرآن حول الخاتمية ومن أراد التفصيل والتحقيق فليراجع التفاسير، وكما أنّ الكتاب الحكيم اهتمّ بالخاتمية، فهكذا اهتمت بها السنّة النبوية وروايات العترة الطاهرة ولو حاولنا أن نذكر ما وقفنا عليه في ذلك المجال من المآثر لطال وقوفنا مع القرّاء، ولذلك نقتصر على اثنتي عشرة رواية مع أنّ المأثور يتجاوز المائة.
ص:545
لقد حصحص الحقّ بما أوردناه من النصوص القرآنية وانكشف الريب عن مُحيّا الواقع؛ فلم تبق لمجادلٍ شبهة في أنّ الرسول في الذكر الحكيم خاتم النبيين وشريعته خاتمة الشرائع وكتابَه خاتم الكتب.
وقد وردت الخاتمية على لسان النبيّ الأكرم، نذكر منها ما يأتي:
1- خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من المدينة إلى غزوة تبوك وخرج الناس معه فقال علي عليه السلام: «أخرج معك؟» فقال: «لا»، فبكى عليّ فقال له رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبيّ بعدي- أو ليس بعدي نبيّ- ولا ينبغي أن أذهب إلّاوأنت خليفتي».
والحديث على لسان المحدّثين حديث المنزلة؛ لأنّ النبيّ نزّل فيه نفسه منزلة موسى ونزّل عليّاًمكان هارون، أخرجه البخاري في صحيحه في غزوةتبوك، ومسلم فيصحيحه في باب فضائل علي عليه السلام، وابن ماجة في سننه في باب فضائل أصحاب النبيّ، والحاكم في مستدركه في مناقب عليّ عليه السلام و إمام الحنابلة في مسنده بطرق كثيرة «(1)».
ووضوح دلالة الحديث على الخاتمية بمكان أغنانا عن البحث حولها.
2- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «مَثَلي ومَثل الأنبياء كمَثل رجلٍ بنى داراً فأتمّها وأكملها إلّاموضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجّبون منها ويقولون، لولا موضع هذه اللّبنة» قال رسول اللَّه: «فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء».
أخرجه البخاري ومسلم والترمذي «(2)».
ص:546
3- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لي خمسة أسماء: أنا محمّد، وأحمد، أنا الماحي يمحو اللَّه بي الكفر، وأنا الحاشر، يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي» «(1)»
.
4- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيّين ولا فخر، وأنا أوّل شافع ومشفّع ولا فخر» «(2)»
.
5- قال النبيّ صلى الله عليه و آله: «يا عليّ أخصمك بالنبوّة؛ فلا نبوّة بعدي وتخصم الناس بسبع ولا يجاحدك فيها أحد من قريش، أنت أوّلهم إيماناً باللَّه» «(3)»
.
6- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إنّ الرسالة والنبوّة قد انقطعت ولا رسولَ بعدي ولا نبيّ» قال: فشقّ ذلك على الناس فقال: «ولكن المبشّرات» فقالوا: يا رسول اللَّه وما المبشّرات؟ فقال: «رؤيا المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة» «(4)»
.
7- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أُرسلتُ إلى الناس كافّة وبي خُتم النبيّون» «(5)»
.
8- قال النبيّصلى الله عليه و آله: «كنت أوّل الناس في الخلق، وآخرهم في البعث» «(6)»
.
9- استأذن العباس بن عبد المطّلب النبيّ في الهجرة فقال له: «يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه؛ فإنّ اللَّه تعالى يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوّة» ثمّ هاجر إلى النبيّ وشهد معه فتح مكّة وانقطعت الهجرة «(7)».
10- قالصلى الله عليه و آله: «يكون في أُمتي ثلاثون كذّاباً؛ كلّهم يزعم أنّه نبيّ وأنا خاتم
ص:547
النبيين؛ لا نبيّ بعدي» «(1)»
.
11- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «فُضِّلتُ بستٍّ: أُعطيتُ جوامعَ الكلم، ونُصِرتُ بالرعب، وأُحلّت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأُرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيّون» «(2)»
.
12- روى الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام عن النبيّصلى الله عليه و آله أنه قال: «قال النبيّصلى الله عليه و آله: يا أيّها الناس إنّه لا نبيّ بعدي، ولا سنّة بعد سنّتي، فمن ادّعى ذلك فدعواه وبدعته في النار فاقتلوه ومن تبعه؛ فإنّه في النار» «(3)»
.
قد روي عن النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله أحاديث أُخر في مجال كونه خاتماً إلّاأنّ ذكر الجميع غير ميسور لنا، وأُردف البحث بما روي عن عترته الطاهرة عليهم السلام في هذا المجال، وأقتصر على القليل من الكثير؛ فإنّ المروي عنه في ذلك المجال متوفّر جداً.
1- قال الإمام عليّ عليه السلام: «إلى أن بَعثَ اللَّه محمداًصلى الله عليه و آله لإنجاز عدته، وإتمام نبوته، مأخوذاً على النبيين ميثاقه، مشهورة سماتُه، كريماً ميلادُه» «(4)»
.
2- قال الإمام عليّ عليه السلام: «اجعل شريفصلواتك، ونامي بركاتك، على محمّدصلى الله عليه و آله عبدك ورسولك الخاتم لما سبق» «(5)».
3- وقال عليه السلام: «أرسله على حين فترة من الرسل، وتنازع من الألسن، فقفا به الرسلَ وختَم به الوحي» «(6)».
ص:548
4- قال عليه السلام وهو يلي غسل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وتجهيزه: «بأبي أنت وأُمّي لقد انقطع بموتك مالم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والأنباءوأخبار السماء، خصّصت حتّىصِرتَ مسلّياً عمّن سواك، وعمّمتَ حتّىصار الناس فيك سواء» «(1)»
. هذا وقد روي عن غير الإمام علي عليه السلام من العترة الطاهرة ونذكر منهم ما يأتي:
5- عن فاطمة الزهراء عليها السلام قالت: «لمّا حملتُ بالحسن وولدته جاء النبيّ ثم هبط جبرئيل فقال: يا محمّد، العليّ الأعلى يقرؤك السلام ويقول: عليٌّ مِنك بمنزلة هارون من موسى، ولا نبيّ بعدك، سَمّ ابنك هذا باسم ابن هارون» «(2)»
.
6- وروي عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام قال: «جاء نفر إلى رسول اللَّه فقالوا: يا محمّد إنّك الذي تزعم أنّك رسول اللَّه، وأنّك الذي يوحى إليك كما أوحى اللَّه إلى موسى بن عمران؟ فسكت النبيّ ساعة ثم قال: أنا سيّد ولد آدم ولا فخر، وأنا خاتم النبيّين، وإمام المتّقين، ورسول ربّ العالمين» «(3)»
.
7- روي عن الحسين بن عليّ عليهما السلام أنّه قال لرسول اللَّه: «فأخبرني يا رسول اللَّه هل يكون بعدك نبيّ؟ فقال: لا، أنا خاتم النبيّين، لكن يكون بعدي أئمة قوّامون بالقسط، بعدد نقباء بني إسرائيل» «(4)»
.
8- وقال الإمام السجّاد عليه السلام في بعض أدعيته: «صلّ على محمّد خاتم النبيّين، وسيّد المرسلين، وأهل بيته الطيّبين الطاهرين، وأعذْنا وأهالينا وإخواننا وجميع المؤمنين والمؤمنات ممّا استعذنا منه» «(5)»
.
9- وقال الإمام الباقر في حديث: «وقد ختم اللَّه بكتابكم الكُتبَ وختم
ص:549
بنبيّكم الأنبياءَ» «(1)»
.
10- وقال الإمام الصادق عليه السلام: «فكلّ نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه حتّى جاء محمّدصلى الله عليه و آله فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» «(2)»
.
11- وقال عليه السلام: «بعث اللَّه سبحانه أنبياءَه ورسلَه ونبيَّه محمداً، فأفضل الدين معرفة الرسل وولايتِهم، وأخبرك أنّ اللَّه أحلّ حلالًا وحرّم حراماً إلى يوم القيامة» «(3)».
12- روى زرارة قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الحرام والحلال فقال:
«حلال محمّد حلال أبداً إلى يوم القيامة لايكون غيره ولا يجي ء غيره» «(4)»
.
13- وقال الإمام موسى الكاظم عليه السلام: «إذا وقفت على قبر رسول اللَّه فقل أشهد أن لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له وأشهد أنّك خاتم النبيّين» «(5)»
.
14- وقال الإمام الرضا عليه السلام في سؤال من سأله: ما بال القرآن، لا يزداد عند النشر والدراسة إلّاغضاضة؟ قال: «لأنّ اللَّه لم ينزّله لزمان دون زمان ولا لناسٍ دون ناس، فهو في كلّ زمانٍ جديد، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة» «(6)»
.
هذه أربعة عشر حديثاً عن العترة الطاهرة، ولو أردنا أن نذكر ما وقفنا عليه لطال بنا المقام، غير أنّ المهم طرح أسئلة حول الخاتمية وتحليلها بإيجاز.
ص:550
هناك أسئلة حول الخاتمية تثار بين آن وآخر، وهي بين سؤال قرآني وفلسفي وفقهي، ونكتفي من الأوّل بواحد من الأسئلة.
إنّ القرآن الكريم ينصّ على أنّ المؤمنين باللَّه وباليوم الآخر من جميع الشرائع سينالون ثواب اللَّه، وأنّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ومعنى ذلك أنّ جميع الشرائع السماوية تُحفَظ إلى جانب الإسلام، وأنّ أتباعها ناجون شأنُهم شأن من اعترف بالإسلام وصار تحت لوائه تماماً، وعلى ضوء هذا، فكيف تكون الشريعة الإسلامية واقعة في آخر مسلسل الشرائع السماوية؟ وكيف تكون رسالته خاتمة الشرائع؟ وإليك ما يدل على ذلك حسب نظر السائل:
1- قال سبحانه: إنَّ الَّذينَ آمَنوا والَّذينَ هادُوا والنّصارى والصّابئينَ مَنْ آمنَ باللَّهِ واليومِ الآخرِ وعَمِلَصالحاً فَلهُمْ أجرُهُمْ عندَ رَبِّهِمْ ولا خَوفٌ عَليهِمْ ولا هُمْ يَحزَنُونَ «(1)»
.
2- إنَّ الَّذينَ آمَنوا والَّذينَ هادُوا والصّابئونَ والنّصارى مَنْ آمنَ باللَّهِ واليومِ الآخِرِ وعَمِلَصالحاً فَلا خَوفٌ عَلَيهِمْ ولا هُمْ يَحزَنُونَ «(2)»
.
3- إنَّ الَّذينَ آمَنوا والَّذينَ هادُوا والصّابئينَ والنّصارى والمجوسَ والَّذينَ أشرَكوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَينهُمْ يومَ القيامةِ إنّ اللَّه على كلِّ شَي ءٍ شَهيد «(3)»
ص:551
إنّ استنتاج بقاء شرعية الشرائع السماوية من هذه الآيات مبنيّ على غضّ النظر عمّا تهدف إليه الآيات، وذلك أنّ الآيات بصدد ردّ مزاعم ثلاثة كانت اليهود تتبناها، لا بصدد بيان بقاء شرائعهم بعد بعثة الرسول الأكرمصلى الله عليه و آله. وهي:
1- فكرة «الشعب المختار»!
كانت اليهود والنصارى يستولون على المسلمين بل العالم بادّعائهم فكرة «الشعب المختار» بل إنّ كل واحدة من هاتين الطائفتين: اليهود والنصارى، كانت تدّعي أنّها أرقى أنواع البشر، وكانت اليهود أكثرهم تمسّكاً بهذا الزعم وقد نقل عنهم سبحانه قولهم:
وقالَتِ اليَهودُ والنّصارى نحنُ أبناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعذِّبُكُمْ بِذُنُوبكُمْ بَلْ أنتُمْ بَشَرٌ مِمَّن خَلَق... «(1)»
واللَّه سبحانه يردّ هذا الزعم بكلّ قوة عندما يقول:
فَلِمَ يُعذِّبُكُمْ بِذُنُوبكُمْ، وقد بلغت أنانية اليهود واستعلاؤهم الزائف حدّاً بالغاً وكأنّهم قد أخذوا على اللَّه عهداً بأن يستخلصهم ويختارهم، حيث قالوا: وقالُوا لَنْ تَمسَّنا النّارُ إلّاأياماً مَعدُودَةً «(2)»
.
2- الانتماء إلى اليهودية والنصرانية مفتاح الجنة!
قد كانت اليهود والنصارى تبثّان وراء فكرة: «الشعب المختار»، فكرة أُخرى، وهي: أنّ الجنة نصيب كل من ينتسب إلى بني إسرائيل أو يُسمّى مسيحياً ليس إلّا، وكأنَّ الأسماء والانتساب مفاتيح للجنة، قال سبحانه ناقلًا عنهم: وقالُوا لَنْ يَدخُلَ الجنَّةَ إلّامَنْ كانَ هُوداً أو نَصارى «(3)»
ص:552
ولكنّ القرآن يردّ عليهم ويقول: تِلكَ أمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرهانَكُمْ إنْ كُنتُمْصادِقينَ* بَلى مَنْ أسلَمَ وَجهَهُ للَّهِ وهوَ مُحسنٌ فَلهُ أجرُهُ عندَ ربِّهِ ولا خوفٌ عَلَيهم ولا هُمْ يحزَنُون «(1)»
فإنّ قوله سبحانه: بَلى مَنْ أسلَمَ يعني الإيمان الخالص وقوله: وهوَ مُحسنٌ يعني العمل وفق ذلك الإيمان، وكلتا الجملتين تدلّان على أنّ السبيل الوحيد إلى النجاة يوم القيامة هو الإيمان والعمل لا الانتساب إلى اليهودية والنصرانية، فليست المسألة مسألة أسماء، وإنّما هي مسألة إيمانصادق وعمل صالح.
3- الهداية في اعتناق اليهودية والنصرانية!
وهذا الزعم غير الزعم الثاني، ففي الثاني كانوا يقتصرون في النجاة بالانتماء إلى الأسماء، وفي الأخير يتصوّرون أنّ الهداية الحقيقية تنحصر في الاعتناق باليهودية والنصرانية وقالُوا كونُوا هُوداً أو نَصارى تَهتَدوا «(2)»
والقرآن الكريم يردّ هذه الفكرة كما سبق، ويقول إنّ الهداية الحقيقية تنحصر في الاقتداء بملّة إبراهيم واعتناق مذهبه في التّوحيد الخالص الذي أمر الأنبياء بإشاعته بين أُممهم، قال سبحانه: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبراهيمَ حَنيفاً وما كانَ مِنَ المُشركين «(3)»
وفي آية أُخرى ما كانَ إبراهيمُ يَهوديّاً ولا نَصرانيّاً ولكنْ كانَ حَنيفاً مُسلماً وما كانَ مِنَ المُشركين «(4)»
.
نستخلص من كلّ هذه الآيات أنّ اليهودَ والمسيحيّين وبخاصة القدامى منهم
ص:553
كانوا يحاولون- بهذه الأفكار الواهية- التفوّق على البشر، والتمرّد على تعاليم اللَّه، والتخلّص بصورة خاصّة من الانضواء تحت لواء الإسلام، مرة بافتعال أُكذوبة «الشعب المختار» الذي لا ينبغي أن يخضع لأيّ تكليف، ومرّة أُخرى بافتعال خرافة «الأسماء والانتساب» وادّعاء النجاة بسبب ذلك، والحصول على مغفرة اللَّه وجنّته وثوابه، ومرّة ثالثة بتخصيص «الهداية» وحصرها في الانتساب إلى إحدى الطائفتين بينما نجد أنّه كلّما مرّ القرآن على ذكر هذه المزاعم الخرافية أعلن بكلّصراحة وتأكيد: أنّه لافرق بين إنسان وآخر إلّابتقوى اللَّه؛ فإنّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم.
وأمّا النجاة والجنّة فمن نصيب من يؤمن باللَّه، ويعمل بأوامره دونما نقصان لاغير، وهو بهذا يقصد تفنيد مزاعم اليهود والنصارى الجوفاء.
بهذا البحث حول الآيات الثلاث (المذكورة في مطلع البحث) نكشف بطلان الرأي القائل بأن الإسلام أقرّ- في هذه الآيات- مبدأ «الوفاق الإسلامي المسيحي واليهودي» تمهيداً لإنكار عالمية الرسالة الإسلامية وخاتميتها، بينما نجد أنّ غاية ما يتوخّاه القرآن- في هذه الآيات- إنما هو فقط نسف وإبطال عقيدة اليهود والنصارى، وليعلن مكانه بأنّ النجاة إنما هي بالإيمان الصادق والعمل الصالح.
فلا استعلاء ولا تفوّق لطائفة على غيرها من البشر مطلقاً، كما أنّ هذا التشبّث الفارغ بالأسماء والدعاوى ليس إلّامن نتائج العناد والاستكبار عن الحقّ.
فليست الأسماء ولا الانتساب هي التي تنجي أحداً في العالم الآخر، وإنّما هو الإيمان والعمل الصالح، وهذا الباب مفتوح في وجه كلّ إنسان يهودياً كان أو نصرانياً، مجوسياً أو غيرهم.
ويوضّح المراد من هذه الآية قوله سبحانه: وَلو أنّ أهلَ الكِتابِ آمَنوا واتَّقَوا لَكفَّرنا عَنهمْ سَيِّئاتِهِمْ ولأدخلناهُمْ جَنّاتِ النَّعيم «(1)»
ص:554
فتصرّح الآية بانفتاح هذا الباب بمصراعيه في وجه البشر كافّة من غير فرق بين جماعة دون جماعة، حتّى أنّ أهل الكتاب لو آمنوا بما آمن به المسلمون لقبلنا إيمانهم وكفّرنا عنهم سيئاتهم.
هذا هو كل ما كان يريد القرآن بيانه من خلال هذه الآيات، وليس أيّ شي ء آخر.
إذن فلا دلالة لهذه الآيات الثلاث على إقرار الإسلام لشرعيّة الشرائع بعد ظهوره... وإنّما تدلّ على أنّ القرآن يحاول بها إبطال بعض المزاعم.
هذا كله حول السؤال القرآني، وهناك أسئلة أُخرى جديرة بالذكر والتحليل، وإليك بيانها:
إنّ الشريعة الإسلامية شريعة متكاملة الأركان؛ فلا شريعة بعدها، ومع الاعتراف بذلك يطرح هذا السؤال:
إنّ الأنبياء كانوا على قسمين: منهم من كانصاحب شريعة، ومنهم من كان مبلّغاً لشريعة مَن قبله من الأنبياء، كأكثر أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يبلِّغون شريعة موسى بين أقوامهم.
فهب أنّه ختم باب النبوّة التشريعية لكون الشريعة الإسلامية متكاملة، فلماذا ختم باب النبوّة التبليغية؟
والجواب عنه، غنى الأُمة الإسلامية عن هذا النوع من النبوّة، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: أنّ النبيّ الأكرم ترك بين الأُمّة الكتابَ والعترة وعرّفهما إليها، وقال: لن تضلّ الأُمّة مادامت متمسّكة بهما.
فإذا كانت الهداية تكمن في التمسّك بهما فالأُمّة الإسلامية في غنى عن المهمّة
ص:555
التبليغية؛ إذ مهمّتها موجَدة بالتمسّك بهما فالعترة الطاهرة مشاعل الحقّ، ومنارات التوحيد، أغنت الأمة، علومُهم وتوجيهاتُهم عن بعث نبيّ يبلّغ رسالات اللَّه، وهذا إجمال الكلام في أئمة أهل البيت عليهم السلام والتفصيل موكول إلى محلّه.
الوجه الثاني: أنّ علماء الأُمّة المأمورين بالتبليغ بعد التفقّه أغنوا الأُمّة عن أيّ نبوّة تبليغية، قال سبحانه: فَلَولا نفَر مِنْ كُلِّ فِرقةٍ مِنهُمْ طائفةٌ لِيتفقَّهوا في الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَومَهُمْ إذا رَجَعوا إلَيهم لَعلَّهم يَحذَرون «(1)»
وقال سبحانه:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمّةٌ يَدعونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بالمَعرُوفِ وَينهَونَ عَنِ المُنكَرِ «(2)»
.
الجواب: إنّ الفتوحات الغيبية من المكاشفات والمشاهدات الروحية لم توصد بابها، وإنّما أُوصد باب خاصّ وهو باب النبوّة الذي يحمل الوحي التشريعي أو التبليغي.
قال سبحانه: سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنفسهِم حتّى يتبيَّنَ لَهُمْ أنّهُ الحقُّ أوَلَمْ يَكفِ بِربِّكَ أنَّهُ على كُلِّ شي ءٍ شَهيد «(3)»
.
فالفتوحات الباطنية من المكاشفات والإلقاءات في الروع غير مسدودة بنصّ الكتاب العزيز قال سبحانه: يا أيُّها الذينَ آمَنوا إن تَتَّقوا اللَّه يجعلْ لَكُمْ فُرقانا «(4)»
أي يجعل في قلوبكم نوراً تفرِّقون به بين الحقِّ والباطل
ص:556
وتميِّزون به بين الصحيح والزائف لا بالبرهنة والاستدلال، بل بالشهود والمكاشفة، قال سبحانه: يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا اتَّقوا اللَّهَ وآمِنوا برسولهِ يُؤْتِكُمْ كِفلَينِ مِنْ رَحمتهِ ويَجعلْ لَكُمْ نُوراً تَمشونَ بهِ ويَغفرْ لَكُمْ واللَّهُ غَفورٌ رَحيم «(1)»
.
وهناك آيات وروايات تدلّ بوضوح على انفتاح هذا الباب في وجه الإنسان، نكتفي بما ذكرناه.
كلّما تكاملت جوانب الحضارة وتشابكت، وتعدّدت ألوانها، واجه المجتمع أوضاعاً وأحداثاً جديدة وطرحت عليه مشاكل طارئة لا عهد للأزمنة السابقة بها، إذن فحاجة المجتمع إلى قوانين وتشريعات جديدة لا تزال تتزايد كلّ يوم تبعاً لذلك، وما جاء به الرسول لا يجاوز قوانين محدودة، فكيف تفي النصوص المحدودة بالحوادث الطارئة غير المتناهية؟
الجواب: إنّ خلود التشريع وبقاءه في جميع الأجيال ومسايرته للحضارات الإنسانية، واستغناءه عن كلّ تشريع سواه، يتوقّف على وجود أمرين فيه:
الأول: أن يكون التشريع ذا مادّة حيوية خلّاقة للتفاصيل بحيث يقدر معها علماء الأُمّة والأخصّائيون منهم على استنباط كلّ حكم يحتاج إليه المجتمع البشري في كلّ عصر من الأعصار.
الثاني: أن ينظر إلى الكون والمجتمع بسعة وانطلاق، مع مرونة خاصة تماشي جميع الأزمنة والأجيال، وتساير الحضارات الإنسانية المتعاقبة، وقد أحرز التشريع الإسلامي كِلا الأمرين، أمّا الأوّل فقد أحرزه بتنفيذ أُمور:
ص:557
الف- الاعتراف بحجّية العقل في مجالات خاصّة:
إنّ من سمات التشريع الإسلامي التي يمتاز بها عن سائر التشريعات هي إدخال العقل في دائرة التشريع، والاعتراف بحجّيّته في الموارد التي يصلح له التدخّل والقضاء فيها، فالعقل أحد الحجج الشرعيّة، وفي مصافّ المصادر الأُخرى للتشريع، وقد فتح هذا الاعتراف للتشريع الإسلامي سعةً وانطلاقاً وشمولًا لما يتجدّد من الأحداث، ولما يطرأ من الأوضاع الاجتماعية الجديدة.
إنّ الملازمة بين حُكمي العقل والشرع (إنّه كلّما حكمَ بِه العقلُ حكمَ بِه الشرع) ترفع كثيراً من المشاكل التي لم يرد فيها نصّ، فللعقل دور كبير في استنباط كثير من الأحداث التي يصلح للعقل القضاء فيها، ويقدر على إدراك حكم الشرع من حكم نفس العقل، وذلك في الموارد التالية:
1- القول بالملازمة بين وجوب المقدّمة وذيها.
2- القول بالملازمة بين حرمة الشي ء ومقدمته.
3- الحكم بالبراءة عند عدم النصّ.
4- الحكم بالامتثال القطعي عند العلم الإجمالي.
5- الحكم بالملازمة بين الحرمة وفساد العبادة.
6- الحكم بالملازمة بين تعلّق النهي بنفس المعاملة وفسادها.
7- الحكم بالإجزاء عند الامتثال وفق الأمر الاضطراري.
8- الحكم بالإجزاء عند الامتثال وفق الأمر الظاهري.
9- استكشاف الأمر الشرعي بالأهم عند التزاحم.
10- استكشاف بطلان الصلاة عند اجتماع الأمر والنهي بتقديمه على الآمر.
إلى غير ذلك من الأحكام التي تعدّ من ثمرات القول بالتحسين والتقبيح العقليين، فمن عزل العقل عن الحكم في ذلك المجال، فقد قصرت فكرته عن تقديم
ص:558
أيّ حلّ لهذه الأحكام وما ذكرناه نماذج لما للعقل من دور، وإلّا فالأحكام المستنبطة من العقل في مجالات مختلفة أكثر من ذلك.
ب- إنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد عند العدلية:
إنّ من أمعن في الكتاب والسنّة يقف على أنّ التشريع الإسلامي تابع لملاكات؛ فلا واجب إلّالمصلحة في فعله ولا حرام إلّالمفسدة في اقترافه، ويشهد بذلك كتاب اللَّه في موارد:
يقول سبحانه: إنّما يُريدُ الشَّيطانُ أن يُوقِعَ بَينكُمُ العَداوةَ والبَغضاءَ في الخمرِ والمَيسِرِ ويَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكرِ اللَّهِ وعنِ الصَّلاةِ فَهلْ أنتم مُنتَهون «(1)»
فالآية تعلّل حرمة الخبيثين باستتباعهما العداوة والبغضاء وصدّهما عن ذكر اللَّه، يقول سبحانه:... وأقِمِ الصَّلاةَ إنّ الصَّلاةَ تَنهى عَنِ الفَحشاءِ والمُنكَرِ... «(2)»
.
إلى غير ذلك من الآيات التي تصرّح بملاكات الأحكام.
وقد تضافرت النصوص عن أئمة أهل البيت عليهم السلام على أنّ الأحكام الشرعية تخضع لملاكات، قال الإمام الطاهر عليّ بن موسى الرضا عليه السلام: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يبح أكلًا ولا شرباً إلّالما فيه المنفعة والصلاح، ولم يحرّم إلّاما فيه الضرر والتلف والفساد» «(3)»
.
وقال عليه السلام في الدم: «إنّه يسي ء الخلق، ويورث القسوة للقلب، وقلّة الرأفة والرحمة، ولايؤمن أن يقتل ولده ووالده» «(4)»
.
وهذا باقر العلوم وإمامها عليه السلام يقول: «إنّ مدمن الخمر كعابد وثن، ويورثه
ص:559
الارتعاش، ويهدم مروّته، ويحمله إلى التجسّر على المحارم من سفك الدماء، وركوب الزنا» «(1)»
.
وغيرها من النصوص المتضافرة عن أئمة الدين «(2)».
فإذا كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في الموضوع، فالغاية المتوخّاة من تشريعها إنّما هي الوصول إليها، أو التحرّز عنها، وبما أنّ المصالح والمفاسد ليست على وزان واحد، بل رُبّ واجب يسوغ في طريق إحرازه اقتراف بعض المحارم، لاشتماله على مصلحة كبيرة لا يجوز تركها أصلًا، ورُبّ حرام ذي مفسدة كبيرة، لا يجوز اقترافه، وإن استلزم ترك الواجب أو الواجبات.
ولأجل ذلك فقد عقد الفقهاء باباً خاصاً لتزاحم الأحكام وتصادمها في بعض الموارد، فيقدّمون الأهم على المهم والأكثر مصلحة على الأقل منها، والأعظم مفسدة على الأحقر منها، وهكذا... ويتوصلون في تمييز الأهم عن المهم، بالطرق والأمارات التي تورث الاطمئنان، وباب التزاحم في علم الأُصول غير التعارض فيه، ولكلٍّ أحكام.
وقد أعان فتح هذا الباب على حلّ كثير من المشاكل الاجتماعية التي ربّما يتوهّم الجاهل أنّها تعرقل خطى المسلمين في معترك الحياة، وأنّها من المعضلات التي لاتنحلّ أبداً، ولنأتي على ذلك بمثال وهو:
إنّه قد أصبح تشريح بدن الإنسان في المختبرات من الضروريات الحيوية التي يتوقّف عليه نظام الطبّ الحديث، فلا يتسنّى تعلّم الطبّ إلّابالتشريح والاطّلاع على خفايا الأمراض والأدوية.
غير أنّ هذه المصلحة، تصادمها مسألة احترام الإنسان حيّاً وميتاً، إلى حدّ
ص:560
أوجب الشارع الإسراع في تغسيله وتكفينه وتجهيزه للدفن، ولا يجوز نبش قبره إذا دفن، ولا يجوز التمثيل به وتقطيع أعضائه، بل هو من المحرّمات الكبيرة التي لم يجوّزها الشارع حتّى بالنسبة إلى الكلب العقور، غير أنّ عناية الشارع بالصحّة العامة وتقدّم العلوم جعلته يسوّغ اقتراف هذا العمل لتلك الغاية، مقدّماً بدن الكافر على المسلم والمسلم غير المعروف على المعروف منه، وهكذا...
ج- التشريع الإسلامي ذو مادة حيوية:
إنّ التشريع الإسلامي في مختلف الأبواب مشتمل على أُصول وقواعد عامّة تفي باستنباط آلاف من الفروع التي يحتاج إليها المجتمع البشري على امتداد القرون والأجيال.
أخرج الكليني عن عمر بن قيس، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: سمعته يقول:
«إنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلّاأنزله في كتابه وبيّنه لرسوله، وجعل لكلّ شي ء حدّاً، وجعل عليه دليلًا يدلّ عليه، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً».
روى الكليني عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّه قال: «ما من شي ء إلّاوفيه كتاب أو سنّة» «(1)»
.
وقال الإمام الطاهر موسى الكاظم عليه السلام عندما سأله عن وجود كلّ شي ء في كتاب اللَّه وسنّة نبيه قال مجيباً: «بل كلّ شي ء في كتاب اللَّه وسنّة نبيّه» «(2)»
.
نعم تتجلّى حيوية مادة التشريع إذا أخذنا بسنّة رسول اللَّه المرويّة عن طريق أئمة أهل البيت؛ فقد حفظوا سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عندما كانت كتابة الحديث أمراً
ص:561
معرضاً عنه، ولذلك صارت أدلّة الفقه الإسلامي متوسّعة كافلة لاستنباط الأحكام، وبذلك أغنوا الأُمة الإسلامية عن مقاييس ظنّية كالقياس والاستقراء، وما لا دليل عليه من الكتاب والسنّة على وجه القطع واليقين.
إنّ الاكتفاء بما ورد عن النبيّ عن طريق الصحابة وعدم الرجوع إلى ما رواه أئمة أهل البيت عن جدّهم متسلسلًا كابر عن كابر لخسارة عظمى، فعلى المشغوف بتجديد حياة الإسلام وإغنائه عن أيّ تشريع غربيّ وشرقيّ وتجسيد الخاتمية في مجال التشريع أن يجتاز الحدود التي ضربها الأُمويون ومَن لفّ لفّهم بين الناس وأئمة أهل البيت عليهم السلام فعند ذلك ستنفتح آفاق من حديث الرسول ممّا يحتار اللبّ به، ويثير الحسرة لما فات الأُمّة من التنوّر بنورهم في القرون الماضية.
د- تشريع الاجتهاد وعدم غلق بابه:
وممّا أضفى على التشريع الإسلامي خلوداً وغضاضة وشمولية وإغناءً عن موائد الأجانب، فتح باب الاجتهاد فيما تحتاج إليه الأُمّة في حياتها الفردية والاجتماعية، ومن أقفله في الأدوار السابقة قطع الأُمّة الإسلامية عن مواكبة التطوّر والحضارة، ومِن ثَمَّ جعل التشريع الإسلامي ناقصاً غير كامل لما تحتاج إليه الامّة، وأمّا لزوم فتحه فهو أنّ الأُمّة الإسلامية في زمن تتوالى فيه الاختراعات والصناعات، وتتجدّد الأحداث التي لم يكن لها مثيل في عصر النبيّ ولا بعده، فهم أمام أحد أُمور:
1- بذل الوسع في استنباط أحكام الموضوعات الحديثة من الأُصول والقواعد الإسلامية.
2- اتّباع المبادئ الغربية من غير نظر إلى مقاصد الشريعة.
3- الوقوف من غير إعطاء حكم.
ومن المعلوم بطلان الثاني والثالث فيتعيّن الأوّل.
ص:562
نعم، لم يزل هذا الباب مفتوحاً عند الشيعة بعد رحيلصاحب الرسالة إلى يومنا هذا، وبذلك أنقذوا الشريعة من الانطماس وأغنوا الأُمّة الإسلامية عن التطلّع إلى موائد الغربيين.
وبما أنّ الاجتهاد الحرّ، والخروج عن قيد المذاهبصار واضح اللزوم نقتصر على هذا المقدار.
ه- حقوق الحاكم الإسلامي أو ولاية الفقيه:
من الأسباب الباعثة على بقاء الدين وكونه مادّة حيويةصالحة لحلّ المشاكل والمعضلات الطارئة، كون الحاكم الإسلامي بعد النبيّ والأئمة ممثّلًا لقيادتهم الحكيمة في أُمور الدين والدنيا، التي من شأنها أن توجّه المجتمع البشري إلى أرقى المستويات الحضارية، فقد فتحت لمثل هذا الحاكم الصلاحيات المؤدّية إلى حقّ التصرّف في كلّ ما يراه ذا مصلحة للأُمّة في إطار القوانين العامّة؛ لأنّه يتمتّع بمثل ما يتمتّع به النبيّ والإمام من النفوذ المطلق إلّاما كان من خصائص النبيّ والأئمة.
وبما أنّ المحقّقين أسهبوا الكلام في معنى ولاية الفقيه اقتصرنا على هذا المقدار.
لقد سبق الحديث عن أنّ استغناء التشريع الإسلامي عن كلّ تشريع سواه رهن أمرين:
الأول: إنّه ذو مادة حيوية خلّاقة للتفاصيل بحيث يقدر على الإجابة ببيان حكم جميع الأحداث التالية والطارئة.
الثاني: النظر إلى الكون والمجتمع بسعة وانطلاق مع مرونة خاصة تماشي جميع الأزمنة والأجيال، وقد مرّ الكلام في الأمر الأوّل وإليك الكلام حول الأمر الثاني.
إنّ الذي فتح للتشريع الإسلامي خلوداً وغناءً عن سائر التشريعات هو
ص:563
مرونة أحكامه التي تماشي جميع الأزمنة والحضارات، وقد تمثّلت هذه المرونة بأُمور:
الأول: كونه جامعاً بين الدعوة إلى المادّة والروح
إذا غالت المسيحية في التوجّه إلى الناحية الروحية، فدعت إلى الرهبانية والتعزّب، وغالت اليهودية في الدعوة إلى ملاذّ الحياة والانكباب على المادّة حتّى نسيت كلّ قيمة روحية، فالإسلام دعا إلى المادّية والمعنوية على وجه يطابق الفطرة الإنسانية، وجعل الفطرة مقياساً للحلال والحرام، وشرع للإنسان ما يسعده في الدنيا والآخرة على ما هو مفصّل في محله.
الثاني: النظر إلى المعاني لا إلى الظواهر
الإسلام ينظر إلى المعاني والحقائق لا الظواهر والقشور، فيأمر بالأخذ باللبّ لا بالقشر، وهذا هو السرّ في خاتمية الدين الإسلامي وتمشّيه مع تطوّر الحياة، ولا يتوهّم من ذلك جواز التدخّل في التشريع بحجّة الأخذ باللبّ دون القشر؛ فإنّ الكبريات الواردة في الكتاب والسنّة كلّها لبّ، وأمّا القشر فإنّما يرجع إلى التخطيط والتجسيد.
وسيوافيك عند الإجابة على السؤال الخامس أنّ الإسلام دعا الإنسان إلى الملبس والمسكن وإشاعة العلم والتربية، وهذا هو اللبّ، وأمّا الأشكال والأنماط لهذا التشريع فمتروك إلى مقتضيات العصور.
إنّ الذي يهتمّ به التشريع كون البيت مُقاماً على أرض غير مغصوبة ومن مال حلال بحيث يتمكّن المسلم من إقامة فرائضه فيه وحفظ كيانه، وقد أناط شكل البيت وهندسته إلى مقتضيات الظروف والمصالح؛ وكذا الملابس ووسائل التعليم ابتداءً من الحفر على الصخر والجدران والكتابة على الجلود والقراطيس، إلى
ص:564
ابتكار وسائل ألكترونية متطوّرة لإنجاز الغرض، فمن أراد الحفاظ على الصور، فقد عرقل الأُمّة الإسلاميّة عن التقدّم وأثار مشاكل في تطبيق الشريعة في الأزمنة الحاضرة.
الثالث: الأحكام التي لها دور التحديد
من الأسباب الموجبة لمرونة هذا الدين وانطباقه على جميع الحضارات الإنسانية تشريعه القوانين الخاصّة التي لها دور التحديد والرقابة بالنسبة إلى عامّة تشريعاته وقد اصطلح عليها الفقهاء بالأدلّة الحاكمة؛ لأجل حكومتها وتقدّمها على كلّ حكم ثبت لموضوع بما هو هو، فهذه القوانين الحاكمة، تعطي لهذا الدين مرونة يماشي لبّها كلّ حضارة إنسانية، مثلًا قوله سبحانه: وما جعلَ عَليكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ... «(1)»
حاكم على كلّ تشريع استلزم العمل به حرجاً، لا يتحمّل عادة للمكلّف فهو مرفوع في الظروف الحرجة، ومثله قولهصلى الله عليه و آله: «لا ضرر ولا ضرار» فكلّ حكم استتبع العمل به ضرراً شديداً، فهو مرفوع في تلك الشرائط، وقس عليهما غيرهما من القوانين الحاكمة.
نعم تشخيص الحاكم عن المحكوم، ومايرجع إلى العمل بالحاكم من الشرائط، يحتاج إلى الدقّة والإمعان والتفقّه والاجتهاد، ورأْينا أنّ الموضوع يحتاج إلى التبسّط أكثر من هذا، فإلى مجال آخر أيّها القارئ الكريم.
إنّ مقتضى كون الإسلام ديناً خاتماً، ثبات قوانينه وتشريعاته، ومن المعلوم أنّ المجتمع الإنساني لم يزل في تطوّرٍ وتغيّرٍ، فعند ذلك يُطْرح السؤال التالي:
كيف يمكن للقانون الثابت معالجة متطلّبات المجتمع المتغيّر؟ فإنّ من لوازم
ص:565
التغيّر والتطوّر، تغييرُ ما تسُود عليه من قوانين وتشريعات؟
هذا هو السؤال الذي يُطرح بين آن وآخر، والإجابة عنه تتوقّف على بيان ما هو الثابت من حياة الإنسان عن متغيّرها، وأنّ للثابت من جانب حياته تشريعاً ثابتاً، وللجانب المتغيّر منها تشريعاً متغيّراً فالتشريع الثابت لما هو الثابت والمتغيّر لما هو المتغيّر، وإليك البيان:
الجانب الثابت من حياة الإنسان:
1- إنّ للحياة الإنسانية جانبين: متغيّر وثابت، فالثابت منها عبارة عن الغرائز الثابتة والروحيات الخالدة التي لا تتغيّر ولا تتبدّل مادام الإنسان إنساناً ولا يتسرّب التغيّر إليها.
فالإنسان الاجتماعي بماهو موجود ذو غرائز يحتاج لحفظ حياته وبقاء نفسه إلى العيش الاجتماعي والحياة العائلية، وهذان الأمران من أُسُس حياة الإنسان لا تفتأ تقوم عليهما حياته منذ وجوده إلى يومنا هذا.
فإذا كان التشريع الموضوع منسجماً ومتطلبات الغرائز، ومعدِّلًا إيّاها عن الإفراط والتفريط ومرتكزاً على العدل والاعتدال، فذلك التشريع يكون خالداً في ظلّ خلود الغرائز.
2- إنّ التفاوت بين الرجل والمرأة أمر لا ينكر؛ فهما موجودان مختلفان اختلافاً عضوياً وروحياً رغم كلّ الدعايات السخيفة المنكرة لذلك الاختلاف، ولكلّ من الرجل والمرأة متطلّب وفق تركيبه، فإذا كان التشريع متجاوباً مع التركيب والفطرة، يكون خالداً حسب خلود الفطرة والتركيب.
3- الروابط العائلية كعلاقة الأب بولده وبالعكس، علاقات طبيعية مبنية على الفطرة، فالأحكام الموضوعية وفق هذه الروابط من التوارث ولزوم التكريم ثابتة لا تتغير بتغير الزمان.
ص:566
إنّ السؤال مبنيّ على أنّ الإنسان بفطرته وتركيبه يقع في مهبِّ التغيّر والتطوّر؛ فلا يبقى منه شي ء عبْر القرون، فكأنّ الإنسان الحالي غير الإنسان الغابر، مع أنّها فكرة باطلة، فلو كان هناك تغيّر فإنّما يعود هذا إلى غير الجانب الثابت من حياته.
4- إنّ في حياة الإنسان قضايا أخلاقية ثابتة عبر الزمان لا يتسرَّب إليها التغيير ككون الظلم قبيحاً والعدل حسناً، وجزاء الإحسان بالإحسان حسناً وبالسيّئ قبيحاً، والعمل بالميثاق حسناً ونقضه قبيحاً، إلى غيرها من القضايا الأخلاقية الثابتة في حياة الإنسان. سواء قلنا بأنّها أحكام فطرية نابعة من الخلقة أو قلنا إنّ هناك عوامل عبر التاريخ رسخت هذه المفاهيم في ذهن الإنسان؛ فإنّ الاختلاف في جذور تلك المُثُل لا يضرّ بما نحن بصدده؛ لأنّها على كلّ تقدير ثابتة في حياة الإنسان، والتشريع الموضوع وفقها يتمتّع بالثبات.
إنّ هناك موضوعات في الحياة الإنسانية لم تزل ذات مصالح ومفاسد أبدية، فما دام الإنسان إنساناً فالخمر يزيل عقله والميسر ينبت العداوة في المجتمع، والإباحة الجنسية تفسد النسل والحرث مدى الدهور والأجيال، فبما أنّ هذه القضايا قضايا ثابتة في حياته، فالتشريع على وفقها يكون ثابتاً وفق ثباتها.
فهذه نماذج من الجانب الثابت من حياة الإنسان تناولناها لإيقاف القارئ على أنّ التغيّر في حياة الإنسان ليس أمراً كلّياً ولا يتسرَّبُ إلى أعماق حياته، وإنّما التغيّر يرجع إلىصور من حياته فالتغيّر- كما سيوافيك بيانه- إنّما يكون مثلًا في المواصلات، وفي التكتيك الحربي، وفي طراز البناء وأشكاله، وفي معالجة الأمراض وغيرها، فأين مثل هذا التغيّر من حرمة الظلم، ووجوب العدل، ولزوم أداء الأمانات، ودفع الغرامات، ولزوم الوفاء بالعهد والأيمان، وتكريم ذوي الحقوق إلى غير ذلك من القوانين الثابتة الموضوعة على غرار الفطرة مبنياً على الجانب الثابت من حياته فهو يحتلّ مكان التشريع الدائم.
ص:567
الجانب المتغيّر في الحياة الإنسانية:
إنّ للإنسان جانباً آخر في حياته لا يزال يتغيّر من حال إلى حال، فمثل هذا يتطلّب تشريعات متغيّرة حسب تغيّره وتبدّله، ومن حسن الحظّ أنّه ليس في الإسلام الخاتم تشريعٌ ثابتٌ لهذا الجانب من الحياة مظاهر حياته وقشورها لا جوهرها، ولذلك لم يتدخّل فيه الإسلام تدخُّلًا مباشراً، بل ترك أمرها للمجتمع الإسلامي في ظلّ إطارٍ خاص. وسوَّغ للمجتمع البشري إدارة شؤون حياته في مجال العمران والبناء وتطور وسائل الحياة المختلفة في مجال الثقافة والدفاع والاقتصاد في ظلّ إطارٍ عام الذي يتجاوب مع التغيّر والتطوّر.
فترك للإنسان مجالًا متحرّكاً يختار به أيّ نوع من الألبسة والبناء والمعدّات والوسائل المختلفة ضمن شروط معلومة في الفقه الإسلامي، ولأجل هذه المرونة في الإنسان نرى أنّه يتجاوب مع جميع الحضارات الإنسانية، وما هذا إلّالأنّه لم يتدخّل في الجزئيات المتغيّرة إلّابوضع إطار خاصّ لا يمنع حرّيته ولا يزاحم التغيّر، وهنا كلمة قيّمة للشيخ الرئيس ابن سينا نذكرها، قال:
«يجب أن يفوّض كثير من الأحوال خصوصاً في المعاملات إلى الاجتهاد؛ فإنّ للأوقات أحكاماً لا يمكن أن تنضبط، وأمّا ضبط المدينة بعد ذلك بمعرفة ترتيب الحفظة ومعرفة الدخل والخرج وإعداد أهب الأسلحة والحقوق والثغور وغير ذلك فينبغي أن يكون ذلك إلى السائس من حيث هو خليفة، ولا تفرض فيها أحكام جزئية؛ فإنّ في فرضها فساداً؛ لأنّها تتغيّر مع تغيّر الأوقات، وفرض الكليّات فيها مع تمام الاحتراز غير ممكن، فيجب أن يجعل ذلك إلى أهل المشورة» «(1)».
نعم إنّ عنوان مقتضى الزمانصار رمزاً لكلّ من أراد أن يتحرّر من القيم
ص:568
الأخلاقية، ويعيش متحلّلًا من كلّ قيد وحدّ، خالعاً كلّ عذار.
وهؤلاء حيثما رأوا الإباحة الجنسيّة، واختلاط الرجال والنساء، واتّخاذ الملاهي بأنواعها وشرب المسكر، واللعب بالميسر، واقتراف المعاصي وأخذ الربا وغير ذلك ممّا حرّمته الشريعة الإسلامية، لم يجدوا مبرِّراً لاقترافها إلّابالتمسّك بمقتضيات الزمان وجبر التاريخ.
وهذا أبرز دليل على أنّ التمسّك به غطاء للتحرّر من القيود الشرعية والأخلاقية، وإلّا فلو كان المقصود من تطبيق الحياة على مقتضيات الزمان، هو ترفيع الثقافة الإنسانية، والاستفادة من أحدث الأجهزة في المجالات كافّة؛ فهذا ممّا لا يرفضه الإسلام، وليس له فيه قانون يعرقل خطى الترقّي وحدوده بإطار عام، وهو عبارة أن لا يزاحم سعادة الإنسان، وأن لا يكون فيه ضرر على روحه وجسمه، والقيم التي بها يمتاز عن الحيوان.
نماذج من الأحكام المتغيرة حسب تغير الظروف:
وها نحن نأتي في المقام بنماذج من الأحكام المتغيرة بتغيّر الظروف وراء ماذكرناه في مجال الصناعة والمسكن والملبس بشرط أن لا يزاحم المثل والقيم.
في مجال العلاقات الدولية الدبلوماسية:
يجب على الدولة الإسلامية أن تراعي مصالح الإسلام والمسلمين، فهذا أصل ثابت وقاعدة عامّة، وأمّا كيفية تلك الرعاية، فتختلف باختلاف الظروف الزمانية والمكانية، فتارة تقتضي المصلحة السلام والمهادنة والصلح مع العدوّ، وأُخرى تقتضي ضدّ ذلك.
وهكذا تختلف المقرّرات والأحكام الخاصّة في هذا المجال، باختلاف الظروف،
ص:569
ولكنّها لا تخرج عن نطاق القانون العام الذي هو رعاية مصالح المسلمين، كقوله سبحانه:
ولَنْ يَجعلَ اللَّهُ للكافرينَ عَلى المُؤمِنينَ سَبيلًا «(1)»
، وقوله سبحانه:
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ في الدِّينِ وَلَمْ يُخرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أنْ تَبَرُّوهُمْ وتُقسِطُوا إلَيهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحبُّ المُقسِطينَ* إنَّما يَنهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ قاتَلُوكُمْ في الدِّينِ وَ أخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وظاهَروا على إخراجِكُمْ أنْ تَوَلَّوهُمْ وَمنْ يَتولَّهُمْ فَأُولئك هُمُ الظّالِمونَ «(2)»
.
في العلاقات الدولية التجارية:
قد تقتضي المصلحة عقدَ اتفاقيات اقتصاديّة وإنشاء شركات تجارية، أو مؤسّساتصناعية، مشتركة بين المسلمين وغيرهم، وقد تقتضي المصلحة غير ذلك. ومن هذا الباب حكم الإمام المغفور له المجدِّد السيد الشيرازي بتحريم التدخين ليمنع من تنفيذ الاتفاقية الاقتصادية التي عقدت في زمانه بين إيران وإنجلترا؛ إذ كانت مُجحِفة بحقوق الشعب الإيراني المسلم؛ لأنّها خوّلت لإنجلترا حقّ احتكار التنباك الإيراني.
في مجال الدفاع عن حريم الإسلام:
الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده من الأعداء، قانون ثابت لا يتغيّر، فالمقصد الأسنى لمشرِّع الإسلام، إنّما هوصيانة سيادته عن خطر أعدائه وأضرارهم، ولأجل ذلك أوجب عليهم تحصيل قوّة ضاربة ضدّ
ص:570
الأعداء، وإعداد جيش عارم جرّار تجاه الأعداء كما يقول سبحانه: وأعِدُّوا لَهُمْ مَا استَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ «(1)»
فهذا هو الأصل الثابت في الإسلام الذي يؤيّده العقل والفطرة أمّا كيفية الدفاع وتكتيكه ونوع السلاح، أو لزوم الخدمة العسكرية وعدمه، فكلّها موكولة إلى مقتضيات الزمان، تتغيّر بتغيّره، ولكن في إطار القوانين العامة فليس هناك في الإسلام أصل ثابت، حتّى مسألة لزوم التجنيد العمومي، الذي أصبح من الأُمور الأصلية في غالب البلاد.
وما نرى في الكتب الفقهية من تبويب باب، أو وضع كتاب خاص، لأحكام السبق والرماية، وغيرها من أنواع الفروسية التي كانت متعارفة في الأزمنة الغابرة ونقل أحاديث في ذلك الباب عن الرسول الأكرمصلى الله عليه و آله وأئمة الإسلام، فليست أحكامها أصلية ثابتة في الإسلام، دعا إليها الشارع بصورة أساسية ثابتة، بل كانت هي نوع تطبيق لذلك الحكم، والغرض منه تحصيل القوة الكافية، تجاهَ العدو في تلكم العصور، وأمّا الأحكام التي ينبغي أنْ تطبّق في العصر الحاضر فإنّه تفرضها مقتضيات العصر نفسه.
فعلى الحاكم الإسلامي تقوية جيشه وقواته المسلّحة بالطرق التي يقدر معها علىصيانة الإسلام ومعتنقيه عن الخطر، ويصدّ كلّ مؤامرة عليه من جانب الأعداء حسب إمكانيات الوقت.
والمقنِّن الذي يتوخّى ثباتَ قانونه ودوامه وسيادة نظامه الذي جاء به، لا يجب عليه التعرّض إلى تفاصيل الأُمور وجزئيّاتها، بل الذي يجب عليه هو وضع الكليات والأُصول ليساير قانونه جميعَ الأزمنة بأشكالها وصورها المختلفة، ولو سلك غير هذا السبيل لصار حظّه من البقاء قليلًا جداً.
ص:571
في نشر العلم والمعارف والثقافة:
نشر العلم والثقافة، واستكمال المعارف التي تَضمنُ سيادةَ المجتمع ماديّاً ومعنويّاً، يعتبر من الفرائض الإسلامية، أمّا تحقيق ذلك وتعيين نوعه ونوع وسائله فلا يتحدّد بحدّ خاص، بل يوكل إلى نظر الحاكم الإسلامي واللجان المقررة لذلك من جانبه حسب الإمكانيات الراهنة في ضوء القوانين الثابتة.
وبالجملة: فقد ألزم الإسلام رُعاة المسلمين وولاة الأمر نشرَ العلم بين أبناء الإنسان، واجتثاث مادّة الجهل من بينهم، ومكافحة أيّ لون من الأُميّة، وأمّا نوع العلم وخصوصياته، فكلّ ذلك موكول إلى نظر الحاكم الإسلامي وهو أعلم بحوائج عصره.
فربّ علم لم يكن لازماً؛ لعدم الحاجة إليه في العصور السابقة، ولكنّه أصبح اليوم في الرعيل الأوّل من العلوم اللازمة التي فيهاصلاح المجتمع كالاقتصاد والسياسة.
في مجال إقامة النظام:
حفظ النظام وتأمين السبل والطرق، وتنظيم الأُمور الداخلية ورفع مستوى الاقتصاد و... من الضرورات، فيتبع فيه وأمثاله مقتضيات الظروف، وليس فيه للإسلام حكم خاصّ يتّبع، بل الذي يتوخّاه الإسلام هو الوصول إلى هذه الغايات، وتحقيقها بالوسائل الممكنة، دون تحديد وتعيين لنوع هذه الوسائل، وإنّما ذلك متروك إلى إمكانيات الزمان الذي يعيش فيه البشر، وكلّها في ضوء القوانين العامّة.
في مجال المبادلات المالية:
قد جاء الإسلام بأصل ثابت في مجال الأموال وهو قوله سبحانه: ولا تَأْكُلُوا
ص:572
أموالَكُمْ بَينكُمْ بِالباطل «(1)»
وقد فرّع الفقهاء على هذا الأصل شرطاً فيصحّة عقد البيع أو المعاملة فقالوا: يشترط فيصحّة المعاملة وجود فائدة مشروعة، وإلّا فلا تصحّ المعاملة ومن هنا حرّموا بيع «الدم» وشراءه.
إلّا أنّ تحريم بيع الدم أو شراءه ليس حكماً ثابتاً في الإسلام بل الحكم الثابت هو حرمة أكل المال بالباطل، وكانت حرمة الدم في الزمان السابقصورة إجرائية لما أفادته الآية من حرمة أكل المال بالباطل ومصداقاً لها في ذلك الزمان، فالحكم يدور مدار وجود الفائدة (التي تخرج المعاملة عن أن تكون أكلًا للمال بالباطل) وعدم تحقّق الفائدة، فلو ترتّبت فائدة معقولة على بيع الدم أو شرائه فسوف يتبدّل حكم الحرمة إلى الحلّيّة، والحكم الثابت هنا هو قوله تعالى: ولا تَأْكُلُوا أموالَكُمْ بَينكُمْ بِالباطل.
وفي هذا المضمار ورد أنّ عليّاً عليه السلام سئل عن قول الرسولصلى الله عليه و آله: «غيّروا الشيب ولا تشبّهوا باليهود؟» فقال: عليه السلام: «إنّما قالصلى الله عليه و آله ذلك والدِّينُ قَلّ، فأمّا الآن فقد اتّسع نطاقه، وضرب بِجِرانِهِ «(2)» فالمرء وما اختار» «(3)»
ص:573
اتّفقت الشيعة- قاطبة- تبعاً للكتاب والسنّة على أنّ نبيّ الإسلام، هو النبيّ الخاتم، وكتابه خاتم الكتب، ورسالته خاتمة الرسالات، وقد أُوصِد برحيله باب الوحي، وأُقفل بموته باب التشريع؛ فلا وحي ولا تشريع بعد ذهابه، وقد وقفت على كلام الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام عند تغسيل النبيّصلى الله عليه و آله وتجهيزه فلا نعيد «(1)».
غير أنّ هناك شبهات ضئيلة في المقام تطرح من جانب أُناس لا عرفان لهم بمذهب الشيعة ولا تعرّفَ لهم عليه من كثب، وقد تلقّوها من المستشرقين أو من البعداء عن البيئات الشيعية.
وهذه الأسئلة تجمعها الأُمور التالية.
1- كيف تقولون بالخاتمية وإيصاد باب الوحي والتشريع وأنتم تعملون بكتاب عليّ عليه السلام؟
2- كيف تقولون بذلك، وعندكم مصحف باسم مصحف فاطمة؟ وهل كان عند بنت المصطفىصلى الله عليه و آله قرآن غير القرآن الموجود عند المسلمين؟
3- كيف تقولون ذلك وأنتم تعتمدون على روايات مروية عن الأئمة الاثني عشر بصورة موقوفة غير متّصلة إلى النبيّ الأكرم؟ وهل الأئمة الاثنا عشر ممّن يوحى إليهم؟
إنّ هذه الأسئلة ربّما تنطلي على الجاهل غير العارف بمعتقدات الشيعة فيرميهم بما هم براء منه، ولأجل رفع الغطاء نأخذ كلَّ واحد بالدراسة بوجه موجز.
ص:574
إنّ السؤال الأوّل يرجع إلى كتاب عليّ وماهيّته؟ وهل هو أحاديث رسول اللَّهصلى الله عليه و آله التي دوّنها الإمام دون غيره؟ وإليك التفصيل:
كانت لمدرسة أئمة أهل البيت عناية خاصة بضبط وتدوين كلّ ما أُثِر عن النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله من قول وفعل؛ لأنّهصلى الله عليه و آله لا يصدر في مجال التشريع والتعليم إلّاعن الوحي قال سبحانه: ومايَنطِقُ عنِ الهَوى* إن هوَ إلّاوَحيٌ يُوحى «(1)»
وكانصلى الله عليه و آله على علم قاطع بأنّه سوف ينتقل إلى بارئه، وأنّ الأُمّة الإسلامية سوف تحتاج إلى كلماته وأقواله، وأفعاله وأعماله ولا تبقى خالدة إلّابالضبط والتدوين.
إنّ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام كان وليدَ البيت النبويّ وكان مع الرسول الأعظمصلى الله عليه و آله منذ نعومة أظفاره إلى رحيل رسول اللَّه عن الدنيا، وهو عليه السلام يصف حياته فيصباه وما بعده ويقول: «ولقد كنتُ أتّبعُه (يعني: رسول اللَّه) اتِّباع الفصيل أثر أُمّه، يرفعُ لي في كلّ يومٍ من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بِحِراءَ فأراه ولا يراه غيري. ولم يجتمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة» «(2)»
.
كان ربيبه عليّ عليه السلام يلازمه ليلًا ونهاراً، سفراً وحضراً، في موطِنه ومهجَره، لم يفارقه في غزوة إلّاغزوة تبوك، وقد أقامه رسول اللَّه مقامه في المدينة ليكون عيناً للمسلمين على المنافقين، وصاعقة على المتمرّدين إذا حاولوا المؤامرة، أو إيذاء من بقي من المسلمين من الشيوخ والأطفال، إلى أن دخل العام الحادي عشر للهجرة وقد قرب أجله وارتحالهصلى الله عليه و آله ومرض وكان عليّ هو الممرّض له، وقُبض ورأسه
ص:575
لَعلى صدره عليه السلام.
إنّ علياً عليه السلام يشرح ذلك الموقف ويقول: «ولقد قُبِضَ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وإنّ رأسه لَعلَىصدري- إلى أن يقول- ولقد ولّيتُ غسلَه صلى الله عليه و آله والملائكة أعواني، فضجّت الدار والأفنية، ملأ يهبط، وملأ يعرُج وما فارقَتْ سمعي هينمة «(1)»
منهم، يصلّون عليه. حتّى واريناه في ضريحه. فَمَن ذَا أحقُّ به منّي حيّاً وميِّتاً؟» «(2)»
.
كلّ ذلك يعرف عن لواذ الإمام واختصاصه بالنبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله والتجائه إليه.
وقد اختصّ الإمام بهذا المقام من بين الصحابة ولم يشاركه غيره، وبذلكصار باب علم النبيّ «(3)» والحاكم الروحي على الإطلاق حتّى عصر الخلفاء ولا يشكّ في ذلك من فتح عينيه على سيرة الخلفاء وتاريخ المسلمين.
ولمثل هذا النوع من التلاحم يصف عليّ عليه السلام حاله مع النبيّ ويقول: «إنّي إذا كنت سألته أنبأني، وإذا سكتُّ ابتدأني» «(4)»
.
كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يأمر عليّاً عليه السلام أن يكتب كلّ ما يملي عليه، فقال عليه السلام مرّة لرسول اللَّه:
«يا نبيّ اللَّه أتخاف عليَّ النسيان؟» قال: «لستُ أخاف عليك النسيان، وقد دعوت اللَّه أن يحفظك ولا ينسيك، ولكن اكتب لشركائك» قال «قلت: ومن شركائي يا نبيّ اللَّه؟» قال: «الأئمة من ولدك» «(5)»
.
وكان من جملة ما أملاه عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكتب عليّ عليه السلام بخطّه، كتاب طوله
ص:576
سبعون ذراعاً في عرض الأديم، وهذا هو المعروف بكتاب عليٍّ أوصحيفته، اشتهر أمره بين الشيعة وأئمتهم، وفيها ما يحتاج إليه الناس في مجال الأحكام إلى يوم القيامة، وكانت الأئمة بعد الإمام يصدرون عنه ويروُونَ عنه، ويستشهدون في مواقع خاصّة به، وليس كتابه سوى أحاديث أملاها النبيّ، وكَتبها الوصيّ وورثها أبناؤه كابر عن كابر، ونقلوا عنه شيئاً كثيراً، وبذلكصار الإمام هو المدوِّن الرسمي للحديث النبويّ، وإن كان بعض الصحابة «(1)» شاركه في ضبط الحديث النبوي، لكنصحائفهم وكتبهم أُحرقت- ويا للأسف- في عصر الخلفاء لمصالح هم أعرف بها، وبذلك خسر المسلمون والسنّة النبوية خسارة كبرى لاتستقال، وبالتاليصار الحديث النبوي مرتعاً لوضع الوضّاعين والكذّابين يلصقون به ما شاءوا من الإسرائليات والمسيحيات والمجوسيات، لكن بقي كتاب الإمام غضّاً طريّاً مصوناً من الشرّ، يرثه إمام بعد إمام.
ولأجل إيقاف القارئ على واقع الأمر، نذكر مواصفات الكتاب وميزاته، وشيئاً من نصوصه، حتّى يتبيّن أنّ كتاب عليّ عليه السلام لم يكن إلّاجامعاً حديثياً، وكان تدويناً مبكراً للسنّة النبوية المطهرة:
أ- روى: بكر بن كرب الصيرفي قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: «إنّ عندنا ما لا نحتاج معه إلى الناس، وإنّ الناس ليحتاجون إلينا، وإنّ عندنا كتاباً إملاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وخطّ عليّ عليه السلام،صحيفة فيها كلّ حلال وحرام» «(2)»
.
ب- روى فضيل بن يسار قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: «يا فضيل! عندنا كتاب عليّ سبعون ذراعاً، ما على الأرض شي ء يحتاج إليه إلّاوهو فيه حتّى
ص:577
أرش الخدش» «(1)»
.
ج- روى أبو بصير- في حديث- عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «يا أبا محمّد! وإنّ عندنا الجامعة، وما يُدريهم ما الجامعة؟» قال قلتُ: جعلتُ فداك، وما الجامعة؟
قال: «صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وإملائه من فِلق فيه، وخطّ عليّ عليه السلام بيمينه، فيها كلّ حلال وحرام، وكلّ شي ء يحتاج إليه الناس حتّى الأرش في الخدش» «(2)»
.
د- روى أيضاً عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سمعته يقول- وذكر ابنَ شبرمة- «أين هو من الجامعة؛ إملاء رسول اللَّه وخطّه عليّ بيده، فيها جميع الحلال والحرام حتّى أرش الخدش» «(3)»
.
إلى غير ذلك من الروايات الحاكية لخصوصيات الكتاب وميزاته الذي رواه أصحاب المعاجم من محدّثي الشيعة، فتسمية أئمة أهل البيت تارة بكتاب عليّ، وأُخرى بالجامعة، وثالثة بصحيفة عليّ، والكتاب، يعرب عن عنايةالإمام بضبطأحاديث الرسول صلى الله عليه و آله، كما يعرب عن عناية سيّد الثقلين، بكتابة حديثه، ليبقى على مرّ العصور والقرون، لا يعتريه الوضع والدسُّ.
وفي العصر الذي كان الناس يروون عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: لا تكتبوا عنّي!! ومن كتب عنّي غير القرآن فليمحه «(4)» وإنّ فريقاً من الصحابة استأذنوا النبيّ صلى الله عليه و آله أن يكتبوا عنه فلم يأذنهم «(5)»!
وفي العصر الذي كانت مدرسة الخلفاء تروّج تقليل الرواية عن الرسول،
ص:578
وكلّما يبعث الخليفة عمر بن الخطاب والياً إلى قطرٍ أو بلدٍ يوصيه في جملة ما يوصيه بقوله: «جرّدوا القرآن، وأقلّوا الرواية عن محمّد وأنا شريككم!!» «(1)» وربّما يعيب إفشاء الحديث عنه صلى الله عليه و آله ويقول مخاطباً لأبي ذر، وعبد اللَّه بن مسعود، وأبي الدرداء «وما هذا الحديث الذي تفشون عن محمد؟» «(2)».
ففي تلك العصور الحرجة، نرى أئمة أهل البيت يحتفظون بكتاب عليّ، ويعتمدون عليه في نقل الحلال والحرام، وبه يردّون ما كان يصدر من الفتيا الشاذّة عن الكتاب والسنّة ولا يقيمون للمنع عن الكتابة والرواية وزناً ولا قيمة، ولنذكر نماذج من روايات كتاب عليّ ليعلم موقفه منصيانة السنّة من الضياع:
1- روى أبو بصير عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: كنت عنده فدعا بالجامعة فنظر فيها أبو جعفر عليه السلام فإذا فيها: «المرأة تموت وتترك زوجَها ليس لها وارث غيره قال: فله المال كلّه» «(3)»
.
2- روى أبو بصير المرادي قال: سألت أبا عبد اللَّه عن شي ء من الفرائض، فقال: «ألا أُخرِج لك كتاب عليّ عليه السلام»- إلى أن قال:- فأخرجه فإذا كتاب جليل وإذا فيه: «رجل مات وترك عمّه وخاله فقال: للعمّ الثلثان، وللخال الثلث» «(4)»
.
3- روى عبد الملك بن أعين قال: دعا أبو جعفر بكتاب عليّ فجاء به جعفر مثل فخذ الرجل مطويّاً، فإذا فيه: «إنّ النساء ليس لهنّ من عقار الرجل- إذا هو توفّي عنها- شي ءٌ فقال أبو جعفر عليه السلام: هذا واللَّه خطّ عليّ بيده، وإملاء رسول اللَّه» «(5)»
ص:579
4- روى محمّد بن مسلم الثقفي: قال: أقرأني أبو جعفر كتاب الفرائض التي هي إملاء رسول اللَّه وخطّ علي فإذا فيها: «إنّ السهام لا تعول» «(1)»
.
5- روى عذافر الصيرفي قال: كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر عليه السلام فجعل يسأله وكان أبو جعفر عليه السلام له مكرماً، فاختلفا في شي ء، فقال أبو جعفر:
«يا بُنيّ قُم فأخرِج كتابَ عليّ» فأخرج كتاباً مدرّجاً عظيماً وفتحه وجعل ينظر حتّى أخرج المسألة فقال أبو جعفر عليه السلام: «هذا خطّ عليّ عليه السلام، وإملاء رسول اللَّهصلى الله عليه و آله» «(2)»
.
وهذه الروايات تكشف عن أنّ كتاب الفرائض الذي ذكر لعليّ عليه السلام كان جزءاً من كتابه الكبير.
6- روى ابن بكير قال: سأل زرارة أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الصلاة في الثعالب والسنجاب وغيره من الوبر فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إنّ الصلاة في وبر كلّ شي ء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وألبانه وكلّ شي ء منه فاسدة، لا تقبل تلك الصلاة حتّى تصلّي في غيره ممّا أحل اللَّه أكله» ثمّ قال: «يا زرارة هذا عن رسول اللَّه» «(3)»
.
وقد اقتصرنا على هذا المقدار ليعلم أنّ الكتاب أقدم جامع حديثي، أملاه النبيّ وكتبه الإمام عليّ، وكان الكتاب موجوداً بين أئمة أهل البيت يرثه كابر عن كابر، يصدرون عنه في الإفتاء وشاهده غير واحد من أصحابهم، والكتاب وإن لم يكن موجوداً بشخصه بيننا، لكن روى أصحاب الجوامع الحديثية كالكليني، والصدوق والطوسي قسماً كبيراً منه، وفرّقوا أحاديثه على أبواب كتبهم على
ص:580
الترتيب المألوف، وقد جمعها العلّامة الحجّة الشيخ علي الأحمدي في موسوعته «مكاتيب الرسول» «(1)».
نعم بقي هنا سؤال:
هل هذا الكتاب، نفس الصحيفة التي كانت في قراب سيفه أو غيره؟
الجواب: قد ذكر غير واحد من المحدّثين انّه كانت لعليّ في قراب سيفهصحيفة، لكن الخصوصيات التي ذكرت للكتاب في الروايات تدلّ مائة بالمائة على أنّه غير الصحيفة التي كان يجعلها في قراب سيفه، وكيف وقراب السيف لا يسع إلّاصحائفصغار، مهما لفَّت وأُدرِجت فأين هي من المواصفات التي وقفت عليها من أنّه كتاب طوله سبعون ذراعاً، أو طولها سبعون ذراعاً في عرض الأديم، أو مثل فخذ الفالج «(2)» أو أخرج أبو جعفر كتاباً مدرّجاً عظيماً، أو كتاباً جليلًا أو هو مثل فخذ الرجل مطوياً، إلى غير ذلك ممّا مرّ ذكرها.
نعم روى أبو جحيفة، قال: سألت علياً رضى الله عنه: هل كان عندكم من النبيّ صلى الله عليه و آله شي ء سوى القرآن؟ قال: «والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، إلّاأن يوتي اللَّه عبداً فهماً في القرآن، وما في الصحيفة»، قلت: وما الصحيفة؟ قال: «العقل وفِكاك الأسير، ولايقتل مؤمن بكافر» «(3)».
إنّ هذه الرواية مهماصحّت ونقلها أئمة الحديث، لا تقابل ما نقلناه عن أئمة أهل البيت حول كتاب عليّ، ومواصفاته، ومشاهدة جمّ غفير لهذا الكتاب، وقد نقلنا النزر اليسير من الكثير، وهذا الحديث وما شابهه في التعبير وضع لنفي ما عند عليّ من ودائع النبوة وعلوم النبيّصلى الله عليه و آله، والذي يعرب عن ذلك، الإصرار على أنّه ليس
ص:581
عند عليّ سوى كتاب اللَّه أو الصحيفة الموجودة في قراب سيفه، فقد رووها بالعبارات التالية:
أ- «ما كتبنا عن النبيّ إلّاالقرآن وما في هذه الصحيفة».
ب- «من زعم أنّ عندنا شيئاً نقرأه إلّاكتاب اللَّه أو هذه الصحيفة فقد كذب».
ج- «ما خصّنا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بشي ء لم يخصّ به الناس إلّاما في قراب سيفي هذا».
د- «ما عهد إليَّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله شيئاً خاصّاً دون الناس إلّاشي ء سمعته، وهو فيصحيفة قراب سيفي...» «(1)»
.
إلى غير ذلك من التعابير الهادفة إلى نفي علمه بشي ء إلّابالكتاب والصحيفة الصغيرة.
نحن نغضّ الطرف عمّا ذكرنا، فلوصحّ ما في هذه الرواية، فما معنى قولهصلى الله عليه و آله لعليّ: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها»؟ وقد نقله كثير من الحفاظ والمحدّثين، فهذا شمس الدين المالكي يذكره في شعره بقوله:
وقال رسول اللَّه إنّي مدينة من العلم وهو الباب والبابَ فاقصدِ
وقد رواه من الحفاظ والأئمة ما يناهز مائة وثلاثة وأربعين شخصاً «(2)» وقد ذكروا حول الحديث كلمات تعرب عن مفاد الحديث.
قال الحافظ أبو عبد اللَّه محمد بن يوسف الكنجي الشافعي (ت 658 ه): قال العلماء من الصحابة والتابعين وأهل بيته بتفضيل عليّ عليه السلام وزيادة علمه وغزارته،
ص:582
وحدّة فهمه، ووفور حكمته، وحسن قضاياه، وصحّة فتواه، وقد كان أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من علماء الصحابة يشاورونه في الأحكام ويأخذون بقوله في النقض والإبرام، اعترافاً منهم بعلمه، ووفور فضله، وبرصانة عقله، وصحّة حكمه، وليس هذا الحديث في حقّه بكثير؛ لأنّ رتبته عند اللَّه وعند رسوله وعند المؤمنين أجلّ وأعلى من ذلك «(1)».
وقال فضل بن روزبهان في ضمن ردّه على حجاج العلّامة بأعلمية أمير المؤمنين بحديثي: «أقضاكم عليّ»، و «أنا مدينة العلم»، من طريق الترمذي، قال ما هذا نصّه: وأمّا ما ذكره المصنّف من علم عليّ فلا شكّ في أنّه من علماء الأُمّة، والناس محتاجون إليه فيه، وكيف لا؛ وهو وصيّ النبيّ في إبلاغ العلم وودائع حقائق المعارف؟ فلا نزاع لأحد فيه، وما ذكره منصحيح الترمذيصحيح «(2)».
وقال المناوي في فيض القدير تفسيراً لقولهصلى الله عليه و آله: «عليّ عيبة علمي»: أي مظنّة استفصاحي وخاصّتي وموضع سرّي، ومعدن نفائسي. والعيبة: ما يحرز الرجل فيه نفائسه قال ابن دريد: وهذا من كلامه الموجز الذي لم يسبق ضرب المثل بشي ء أراده اختصاصه بأُموره الباطنة التي لا يطّلع عليها أحد غيره، وذلك غاية في مدح عليّ «(3)».
وأخرج الطبراني عن ابن عبّاس أنّه قال: كنّا نتحدّث معاشر أصحاب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أنّ النبيّصلى الله عليه و آله عهد إلى عليّ سبعين، لم يعهدها إلى غيره «(4)».
ورواه القندوزي في ينابيعه ثمانين عهداً مكان سبعين «(5)».
ص:583
فقد خرجنا بالنتائج التالية:
1- إنّ كتاب عليّ من إملاء رسول اللَّه وخطّ عليّ.
2- إن الكتاب أوّل جامع حديثيّ قام بكتابته عليّ عليه السلام لتدوين السنّة وصيانتها من الضياع.
3- كانت في قرابة سيف عليّ عليه السلامصحيفة، ولكن لم تكن هي الشي ء الوحيد عند عليّ، وإنّ كتاب عليّ- حسب ما مرّ من المواصفات- غير تلك الصحيفة.
4- إذا كان عليّ هو باب علم النبيّ، والحاكم الروحيّ في عصر الخلفاء وما بعده؛ فيلزم أن يكون عنده ودائع النبوّة، وجميع ماتحتاج إليه الأُمّة في مجال الأحكام.
لا شكّ أنّه كان عند فاطمة مصحف، حسبما تضافرت عليه الروايات، ولكن المصحف ليس اسماً مختصّاً بالقرآن، حتى تختص بنت المصطفى بقرآن خاصّ، وإنّما كان كتاباً فيه الملاحم والأخبار.
المصحف: من أصحف، بمعنى ما جعل فيه الصحف، وإنّما سمي المصحف مصحفاً؛ لأنّه جعل جامعاً للصحف المكتوبة بين الدفتين.
ولم يكن ذلك اللفظ علماً للقرآن في عصر نزوله، وإنّماصار علماً له بعد رحيل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال السيوطي: روى ابن أشتة في كتاب المصاحف أنّه لمّا جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر: التمسوا له اسماً، فقال بعضهم: السِّفْر، وقال بعضهم: المصحف؛ فانّ الحبشة يسمّونه المصحف قال: وكان أبو بكر أوّل من جمع
ص:584
كتاب اللَّه وسمّاه المصحف «(1)».
وأمّا ما هو واقع هذا الكتاب؟ فقد كشفت عنه الروايات المتضافرة عن أئمة أهل البيت، وقد جمع قسماً كبيراً منها العلّامة الشيخ مصطفى قصير العاملي في دراسته كتاب عليّ ومصحف فاطمة.
وإليك بعضها:
1- روى أبو عبيدة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «... إنّ فاطمة مكثت بعد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله خمسة وسبعين يوماً، و كان دخلها حزن شديد على أبيها، وكان جبرئيل عليه السلام يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها، ويطيب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريّتها، وكان عليّ عليه السلام يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة» «(2)».
2- روى أبو حمزة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «مصحف فاطمة مافيه شي ء من كتاب اللَّه، وإنّما هو شي ء أُلقي إليها بعد موت أبيهاصلوات اللَّه عليهما» «(3)».
والعجب أنّ الدسّ الإعلامي قد اتّخذ لفظ «مصحف فاطمة» ذريعة لاتّهام الشيعة بأنّ عندهم قرآناً يسمى «مصحف فاطمة»، وقد سعى غير واحد من دعاة التفرقة إلى نشر تلك الفكرة الخاطئة بين المسلمين، ولكن خاب سعيهم؛ فإنّ للحقّ دولة، وللباطل جولة.
ولعلّ القارئ يسأل نفسه عن كون فاطمة محدَّثة تحدّثها الملائكة، كما ورد في الرواية السابقة، غير أنّ فاطمة عليها السلام لا تقلّ شأناً عن مريم البتول، ولا عن امرأة الخليل، قال سبحانه: وإذْ قالَتِ الملائكةُ يا مريمُ إنَّ اللَّهَ اصطَفاكِ وطَهَّركِ
ص:585
واصطَفاكِ على نساءِ العالَمين «(1)»
إلى غير ذلك من الآيات الواردة في سورتي آل عمران، ومريم.
وهذه امرأة إبراهيم تسمع كلام الملك، يقول سبحانه: ولَقدْ جاءتْ رُسلُنا إبراهيمَ بالبُشرى.. وامرأتُهُ قائمةٌ فضَحِكَتْ فَبشَّرناها بإسحقَ ومن وراءِ إسحقَ يَعقوب* قالَتْ يا ويلتَى أألِدُ وأنا عَجوزٌ وهذا بَعْلي شَيخاً إنّ هذا لَشي ءٌ عَجيب* قالُوا أتَعجَبينَ مِنْ أمرِ اللَّهِ رحمتُ اللَّهِ وبركاتُهُ عَليكُمْ أهلَ البَيتِ إنَّهُ حَميدٌ مَجيدٌ «(2)»
.
فإذا كانت مريم وامرأة الخليل محدّثتين، ففاطمة سيدة نساء العالمين أولى بأن تكون محدّثة.
هذا هو السؤال الثالث من الأسئلة الثلاثة المطروحة حول الخاتمية لدى الشيعة فنقول:
إنّ لعلوم أئمة أهل البيت مصادر مختلفة، ونشير إلى أُصولها تاركين البحث في فروعها:
1- النقل عن آبائهم عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله
إنّهم عليهم السلام كثيراً ما يروون الحديث عن آبائهم عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله معنعناً، من دون أن يتوسّط بين الأسانيد شخص بين آبائهم وأجدادهم.
فمثلًا لمّا ترك عليّ بن موسى الرضا نيسابور عازماً إلى مرو، اجتمعت حوله مجموعة كبيرة من المحدّثين وطلبوا منه أن يحدّثهم بحديث عن جدّهصلى الله عليه و آله، فقال:
ص:586
«حدّثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدّثني أبي جعفر الصادق، قال: حدّثني أبي أبو جعفر الباقر، قال: حدّثني أبي عليّ بن الحسين، قال: حدّثني أبي الحسين بن عليّ، قال: حدّثني أبي عليّ بن أبي طالب، قال: حدّثني رسول اللَّه عن جبرئيل عليه السلام عن اللَّه قال: لا إله إلّااللَّه حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي» «(1)»
.
إنّ هذا النوع من الأحاديث متوفّر في الجوامع الحديثية للشيعة؛ فلو قام باحث بجمع هذا النوع الذي يروي فيه كابر عن كابر والإمام بعد الإمام لبلغ موسوعة كبيرة.
وهذا هو هشام بن سلمان، وحمّاد بن عثمان، وغيرهما من أصحاب الإمام الصادق، قالوا: سمعنا أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السلام، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وحديث رسول اللَّه قول اللَّه عزوجل «(2)».
2- النقل عن كتاب عليّ
إنّ أئمة أهل البيت كانوا يستندون إلى كتاب عليّ ويحتجّون به، فكان الكتاب أحد مصادر علومهم التي يصدرون عنها، وقد وقفت على قسم قليل منها فيما تقدّم.
3- الإلهام أو تحديث الملائكة
إنّ أئمة أهل البيت حسب النصوص محدّثون؛ تحدّثهم الملائكة، كما كانت
ص:587
تحدّث مريم البتول وامرأة الخليل، فما كان يخبرون به من الملاحم أو يجيبون عن الأسئلة فالكلّ ممّا كان يلقى في روعهم.
وهذا النوع من المصدر وإن كان ثقيلًا على من لم يعرف مقاماتهم، إلّاأنّه صحيح لمن درس حياتهم، ووقف على أحوالهم. ولأجل إيقاف القارئ على أنّ (المحدَّث) أمر ممّا اتّفق عليه الأعلام نبحث عنه على وجه الإيجاز:
المحدَّث- بصيغة المفعول-: مَن تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ولا رؤيةصورة، أو يلهم له ويلقى في روعه شي ء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى، أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره.
المحدّث بهذا المعنى ممن اتفق عليه الفريقان: الشيعة والسنّة، ولو كان هناك خلاف فإنّما هو في مصداقه.
وقبل ذلك نجد المحدّث في الأُمم السالفة؛ فهذاصاحب موسى كان محدّثاً، فقد أخبره عن مصير السفينة والغلام والجدار على وجه جاء في سورة الكهف «(1)» فهو لم يكن نبيّاً، ولكنّه كان عارفاً بما سيحدث، وقد عرفه بإحدى الطرق المذكورة.
وهذه مريم البتول، كانت الملائكة تكلّمها وتحدّثها ولم تكن نبيّة، قال سبحانه:
وإذْ قالَتِ الملائكةُ يا مريمُ إنَّ اللَّهَ اصطَفاكِ وطَهَّركِ واصطَفاكِ على نساءِ العالَمين «(2)»
.
وقال سبحانه: إذ قالَتِ الملائكةُ يا مريمُ إنّ اللَّهَ يبشِّرُكِ بِكَلِمةٍ منهُ اسمُهُ
ص:588
المسيحُ عِيسى ابنُ مريمَ وَجيهاً في الدُّنيا والآخرةِ ومِنَ المُقرَّبِينَ «(1)»
.
وهذه أُمّ موسى يلقى في روعها ويوحى إليها ولم تكن نبيّة، قال سبحانه:
وأوحينا إلى أُمّ موسى أنْ أرضِعيهِ فإذا خِفتِ عَليهِ فَألقيهِ في اليَمِّ ولا تخافي ولاتَحزني إنّا رادُّوهُ إلَيكِ وجاعِلوهُ مِنَ المُرسَلين «(2)»
.
وأمّا السنّة النبوية ففيها تصريح بأنّ في الأُمّة الإسلامية- نظير الأُمم السالفة- رجالًا يكلّمون من دون أن يكونوا أنبياء؛ وإليك بعض هذه النصوص:
1- أخرج البخاري فيصحيحه عن أبي هريرة قال: قال النبيّ: «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فعمر بن الخطاب» «(3)»
.
2- أخرج البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً «أنّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأُمم محدّثون، إن كان في أُمّتي هذه منهم فإنّه عمر بن الخطاب» «(4)»
.
قال القسطلاني في شرح الحديث: يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوّة.
وقال الخطّابي: يلقى الشي ء في روعه فكأنّه قد حُدّث به، يظنّ فيصيب، ويخطر الشي ء بباله فيكون. وهي منزلة رفيعة من منازل الأولياء «(5)».
3- أخرج مسلم فيصحيحه عن عائشة عن النبيّصلى الله عليه و آله: «قد كان في الأُمم قبلكم مُحدّثون فإن يكن في أُمّتي منهم أحد فإنّ عمر بن الخطّاب منهم»، قال ابن وهب: تفسير «محدّثون» ملهَمون.
قال النووي في شرحصحيح مسلم: اختلف العلماء في تفسير المراد
ص:589
ب «محدَّثون» فقال ابن وهب: ملهَمون، وقيل: مصيبون إذا ظنّوا، فكأنّهم حدّثوا بشي ء فظنّوه، وقيل تكلّمهم الملائكة، وجاء في رواية «مكلَّمون» وقال البخاري:
يجري الصواب على ألسنتهم، وفيه كرامات الأولياء «(1)». ومن راجع شروح الصحيحين يجد نظير هذه الكلمات بوفرة؛ والرأي السائد في تفسير المحدّث هو تكليم الملائكة أو الإلقاء في الروع. هذا ما لدى السنّة.
روايات الشيعة حول المحدَّث
وأمّا الشيعة، فعندهم أخبار عن أئمتهم تصرّح بأنّهم محدّثون وفي الوقت نفسه ليسوا بأنبياء، فقد روى الكليني في باب الفرق بين الرسول والنبيّ والمحدّث أحاديث أربعة:
قال: «المحدّث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة». وفي رواية أُخرى:
سألته عن الإمام ما منزلته؟ قال: «يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك».
إلى غير ذلك من الروايات المصرّحة بأنّ الأئمة الاثني عشر محدَّثون «(2)».
روى الصفّار في بصائر الدرجات عن بريد: قلت لأبي جعفر وأبي عبد اللَّه عليهما السلام: ما منزلتكم بمن تُشَبَّهون ممّن مضى؟
فقال: «كصاحب موسى وذي القرنين كانا عالمين ولم يكونا نبيّين» «(3)»
.
هذا ما لدى الفريقين. وبذلك يُعْلَم أنّ الإخبار عن الغيب بإذن من اللَّه سبحانه لايلازم كون المخبر نبياً، وأنّ تَكَلُّم الملائكة مع إنسان لا يصلح دليلًا على كونه مبعوثاً من اللَّه سبحانه للنبوّة.
ص:590
ولو اعتمدت الشيعة على علم الأئمة فلكونهم وارثين لعلم النبيّ، ووارثين لما عند عليّ من الكتب التي كتبها بإملاء من رسول اللَّه، أو محدَّثين تلقى في روعهم الإجابات على الأسئلة، فلا يدلّ على أنّهم أنبياء، ومن نسبهم إلى تلك الفرية الشائنة بحجة إخبارهم عن الملاحم، فقد ضلّ عن سواء السبيل، ولم يفرّق بين النبوّة والرسالة والتحدّث.
ص:591
ص:592
قال اللَّه تعالى:
لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. الأنعام/ 103
وقال تعالى وتقدّس:
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلكِنِ أُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسىصَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ. الأعراف/ 143
ص:593
سمات العقيدة الإسلاميّة
إنّ للعقيدة الإسلاميّة سمات نذكر منها ما يأتي:
للعقيدة الإسلاميةصفات متعدّدة، منها: سهولة فهمِها وتعلّمها؛ لأنّها عقيدة شاملة لا تختص بالفلاسفة والمتكلّمين والمفكِّرين، إلّاأنّ ذلك لا يعني سذاجتها وابتذالها وعدم خضوعها للبراهين العقلية، بل يعني أنّها في متانتها ورصانتها وخضوعها للبراهين والأدلّة، بعيدة عن الألغاز والإبهامات، فلو فُسّرت وبُيّنت لفهمها عامّة الناس حسب مستوياتهم، فهي بهذه الصفة تخالف ما تتبنّاه نصرانية اليوم والأمس، التي أحاطت بها إبهامات في العقيدة وألغاز في الدين، بحيث لم يتيسّر لأحد حتّى الآن حلُّ مشاكلها وألغازها، فالمسلم مثلًا إذا سئل عن عقيدته في التوحيد، وعنصفات اللَّه تعالى يقول: هُوَ اللَّهُ أَحَد* اللَّهُ الصَمَد* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
ص:594
كُفُواً أَحَدٌ «(1)»
.
وقد جاء في الأثر أنّ جماعة من أهل الكتاب سألوا النبيّصلى الله عليه و آله وقالوا: انسب لنا ربّك، فنزلت سورة التوحيد «(2)».
فالعقيدة الإسلامية في هذا المجال واضحة المفاهيم، جليّة المعالم، لا يكسوها إبهام ولا يسترها لغز، فيخرج المسلم في مقام الوصف وتبيين العقيدة مرفوع الرأس، فللعقيدة براهينها الواضحة التي يمكن أن يقف عليها كل من درسها.
وأمّا لو سُئل النصراني عن ذلك، فإنه يتلعثم في بيان عقيدته، فتارةً يقول: إنّه واحد وفي الوقت نفسه ثلاثة، ثمّ يضيف أنه لا منافاة بين كون الشي ء واحداً وكثيراً.
ومن المعلوم أنّ هذه العقيدة بهذا الإبهام والإجمال لا تقبلها الطباع السليمة؛ إذ كيف تُذْعِن بأنه سبحانه واحد لا نظير له ولا مثيل ولا ندّ، ولكنه مع ذلك له أنداد ثلاثة وأمثال متعدّدة، فهذه العقيدة يناقض أوّلها آخرَها ويردّ آخرُها أوّلها، فهو سبحانه إمّا واحد لا نظير له وإمّا كثير له أمثال.
وقِس على ذلك سائر المواضيع في العقيدة الإسلامية وقابِلْها مع ما تقول سائر الشرائع فيها، ترى تلك الصفة بنفسها في العقيدة الإسلامية، ونقيضها في غيرها.
إنّ من العوامل التي ساعدت على سرعة انتشار الإسلام في مختلف الحضارات وتغلغله بين الأوساط، اتّصافه بسهولة العقيدة ويُسر التكليف.
يقول الأُستاذ الشيخ محمّد محمّد المدني:
يقول اللَّه عزّ وجلّ في حثّ العباد على التفكّر في خلقه وآثاره وما له من تصريف وتدبير: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
ص:595
لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ «(1)»، قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ «(2)»، فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقِ «(3)»، أُنْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنَعِهِ «(4)»، فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا «(5)»، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا «(6)»، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ «(7)»
.
ويقول اللَّه عزّ وجلّ في وصف نفسه وإعلام المخلوقين بأنّه فوق ما يعقلون أو يدركون: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ «(8)»، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «(9)»، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْواً أَحَدٌ «(10)»، وَجَعَلُوا للَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنِّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ* بَدِيعُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُصَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٍ* ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٍ* لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ «(11)»
ص:596
فالقرآن الكريم لم يأت لنا أبداً بشي ء يُفصِحُ عن ذات اللَّه تعالى من حيث الحقيقة والكُنْه، وإنّما هو يُلفِتُ دائماً إلى آثار اللَّه في الخلق والتصريف «(1)».
وهناك أمرٌ ثانٍ نلفت إليه نظر القارئ، وهو الفرق الواضح بين العقيدة والأحكام الشرعية العملية؛ فإنّ المطلوب في الأُولى هو الاعتقاد الجازم، ومن المعلوم أنّ الإذعان بشي ء متوقّف على ثبوت مقدّمات بديهية أو نظرية منتهية إليه حتّى يستتبعها اليقين والإذعان، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية؛ فإنّ المطلوب فيها هو العمل وتطبيقها في مجالات الحياة، ولا تتوقّف على القطع بصدورها عن الشارع، وهذا الفرق بين العقائد والأحكام يجرّنا إلى التأكّد منصحّة الدليل وإتقانه أو ضعفه وبطلانه في مجال العقائد أكثر من الأحكام، ولذلك نرى أئمة الفقه يعملون بأخبار الآحاد في مجال الأحكام والفروع العملية ولا يشترطون إفادتها القطعَ أو اليقينَ، وهذا بخلاف العقائد التي يُفترض فيها اطمئنان القلب ورسوخ الفكرة في القلب والنفس، فيرفضون خبر الآحاد في ذلك المجال ويشترطون تواتر النص أو استفاضته إلى حدٍّ يورث العلم.
وهناك أمر ثالث وراء هذين الأمرين، وهو أنه لا يمكن لأيّ باحث إسلامي أن يرفض العقل ويكتفي بالنص إذا أراد أن يعتمد الأُسلوب العلمي في مجال
ص:597
العقيدة؛ لأنّ الأخذ بالنصّ متوقّف على ثبوت أُصول موضوعية مسبقة تتبنّى نبوّة الرسول الأكرم وحجيّة قوله، فما لم يثبت أنّ للعالمصانعاً حكيماً، قد بعث الأنبياء والرسل بالمعجزات والبيّنات لهداية الناس، لا تثبت نبوّة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله وحجيّة كلامه في مجال العقيدة، ولا يمكن أن نعتمد على النصوص وسنّة الرسول في إثبات الصانع ونبوّة رسوله.
وهذا هو الذي يفرض علينا أن نستجيب للعقل، باعتباره العمود الفقري للعقائد الّتي يبنى عليهاصَرح النبوّة المحمديّةصلى الله عليه و آله، ولذلك نرى أنّ الكتاب العزيز يثبت هذا الأصل من الأُصول بدلالة العقل وإرشاده، فيستدلّ على أُصول التوحيد بمنطق العقل، ويتكلّم باسم العقل ويقول: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ «(1)»
، فيستدل على توحيده ونفي الآلهة المتعدّدة بقضية شرطية؛ وهي ترتّب الفساد في حالة تعدّد الآلهة.
ويقول سبحانه: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ «(2)»
.
ويقول سبحانه: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا «(3)»
.
فالآيات الثلاث على اختلافها في الإجمال والتفصيل تستبطن برهاناً مشرقاً خالداً على جبين الدهر.
ويقول سبحانه: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ «(4)»
فيعتمد على
ص:598
الفطرة في إبطال وجود الممكن وتحقّقه بلا علّة وصانع.
كما نرى أتقن البراهين وأوضحها في إبطال ربوبيّة الأجرام السماوية من خلال محاجّة إبراهيم الخليل عليه السلام مع عبدتها، فيستدلّ بالأُفول على بطلان ربوبيتها ضمن آيات، قال سبحانه: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَلْيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ «(1)»
.
فقد بلغ الخليل النهاية في مجال المعرفة على وجهٍ رأى ملكوت السماوات والأرض، فأراه سبحانه ملكوتهما، أي كونهما قائمين باللَّه سبحانه، وما ذلك إلّا ليكون موقناً ومذعناً لأُصول التوحيد، وما أراه ملكوت السماوات والأرض إلّا بإلهامه البرهانَ الدامغ الّذي أثبت به بطلان ربوبيّة الكوكب والقمر والشمس، وانتهى في آخره إلى أنّه لا إله إلّاهو، وقال بعد ذكر البراهين: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ «(2)»
.
فهذه الآيات ونظائرها تكشف عن أصل موضوعي في الشريعة الإسلامية وهو أنّ الغاية من طرح الأُصول العقائدية هي الإذعان بها والوصول إلى اليقين، لا التعبّد بها دون يقين، وهذا يفرض علينا أن نفتح مسامعنا لنداء العقل ودعوته، خصوصاً في الأُصول الأوّلية الّتي تُبنى عليها نبوّة النبيّ الأكرم؛ فمن حاول تعطيل العقل وإبعاده عن ساحة البحث مكتفياً بالنصّ، فقد لعب بورق خاسر؛ إذ إنّ
ص:599
بديهة العقل تحكم أنّ الاكتفاء بالسمع في عامّة الأُصول مستلزم للدور، وتوقّفصحّة الدليل على ثبوت المدّعى وبالعكس.
إنّ رفض العقل في مجال البرهنة على العقيدة- من قبل بعض الفرق طبعاً-صار سبباً لتغلغل عنصر الخرافة في عقائد كثير من الطوائف الإسلامية، وفي ظلّ هذا الأصل؛ أي إبعاد العقل، دخلت أخبار التجسيم والتشبيه في الصحاح والمسانيد عن طريق الأحبار والرهبان الّذين تظاهروا بالإسلام، وأبطنوا اليهودية والنصرانية، وخدعوا عقول المسلمين، فحشروا عقائدهم الخرافية بين المحدّثين والسُّذَّج من الناس اغتراراً بإسلامهم وصدق لهجتهم.
إنّ من مواهبه سبحانه أنّه أنار مصباح العقل في كلّ قرن وزمان ليكون حصناً أمام نفوذ الخرافات والأوهام، وليميّز به الإنسان الحقَّ عن الباطل فيما له فيه حقّ القضاء، إلّاأنّ هذا لا يعني أنّ المرجع الوحيد في العقيدة هو العقل دون الشرع، وإنّما يهدف إلى أنّ اللبنات الأوّلية لصرح العقيدة الإسلامية تجب أن تكون خاضعة للبرهان، ولا تناقض حكم العقل.
وعندما تثبت الأُصول الموضوعية في مجال العقيدة وتثبت في ظلها نبوّة النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله، يكون كلّ ما جاء به النبيصلى الله عليه و آله حجّة في العقائد والأحكام، لكن بشرط الاطمئنان بصدورها عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله.
وقد خرجنا في هذه المقدّمة الموجزة بثلاث نتائج:
الأُولى: أنّ العقيدة الإسلامية عقيدة سهلة يمكن اعتناقها بيُسر دون تكلّف.
الثانية: أنّ المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب، وهذا لا يحصل إلّا بعد ثبوت المقدّمات المنتهية إليه، وليس من شأن أخبار الآحاد خلق اليقين والإذعان ما لم يثبتصدورها عن مصدر الوحي على وجه القطع واليقين، بخلاف الأحكام؛ فإنّ المطلوب فيها هو العمل تعبّداً.
ص:600
الثالثة: أنّ الأُصول التي يبنى عليها ثبوت النبوّة تثبت بالعقل دون الشرع.
ففي ضوء هذه النتائج الثلاث ندرس فكرة رؤية اللَّه تعالى يوم القيامة التي أحدثت ضجّة في الآونة الأخيرة، وستقف على حقيقة الأمر بإذنه سبحانه.
ص:601
حقيقة التجسيم والتشبيه والجهة والرؤية
لمّا انتشر الإسلام في الجزيرة العربية، ودخل الناس في الإسلام زرافاتٍ ووحدانا، لم يجد اليهود والنصارى الموجودون فيها محيصاً إلّاالاستسلام؛ فدخلوا فيه متظاهرين به، غير معتقدين غالباً إلّامن شملتهم العناية الإلهية منهم وكانوا قليلين، ولكن الأغلبية الساحقة منهم خصوصاً الأحبار والرهبان بقوا على ما كانوا عليه من العقائد السابقة.
وبما أنّهم كانوا من أهل الكتاب عارفين بما في العهدين من القصص والحكايات والأُصول والعقائد، عمَدوا إلى نشرها بين المسلمين بخداع خاصّ، وبطريقة تعليميّة، ولمّا كانت السذاجة تغلب على عامّة المسلمين لذا تلقّوهم كعلماء ربانيين، يحملون العلم، فأخذوا ما يلقونه إليهم بقلبٍ واعٍ ونيّةصادقة، وبالتالي نشر هؤلاء في هذا الجوّ المساعد كلّ ما عندهم من القصص الانحرافية والعقائد الباطلة، خصوصاً فيما يرجع إلى التجسيم والتشبيه وتصغير شأن الأنبياء في أنظار المسلمين، بإسناد المعاصي الموبقة إليهم، والتركيز على القدر وسيادته في الكون على كلّ شي ء، حتى على إرادة اللَّه سبحانه ومشيئته.
ص:602
ولم تكن رؤية اللَّه بأقلّ مما سبق في تركيزهم عليها.
فما ترى في كتب الحديث قديماً وحديثاً من الأخبار الكثيرة حول التجسيم، والتشبيه، والقدر السالب للاختيار والرؤية ونسبة المعاصي إلى الأنبياء، فكلّ ذلك من آفات المستسلمة من اليهود والنصارى. وقد عدّها المسلمون حقائق ثابتة وقصصاًصادقة فتلقّوها بقبول حسن ونشرها السلف بين الخلف، ودام الأمر على ذلك.
وأهمّ العوامل التي فسحت المجال للأحبار والرهبان لنشر ما في العهدين بين المسلمين، النهي عن تدوين حديث الرسولصلى الله عليه و آله ونشره ونقله والتحدّث به طيلة أكثر من مائة سنة، فأوجد الفراغ الّذي خلفه هذا العمل أرضية مناسبة لظهور بدع يهودية ونصرانية وسخافات مسيحية وأساطير يهودية، خصوصاً من قبل الكهنة والرهبان.
فقد كان التحدّث بحديث الرسولصلى الله عليه و آله أمراً مكروهاً، بل محظوراً من قبل الخلفاء إلى عصر عمر بن عبد العزيز (61- 101 ه)، بل إلى عصر المنصور العباسي (143 ه)، ولكن كان المجال للتحدّث بالأساطير من قبل هؤلاء أمراً مسموحاً به؛ فهذا هو تميم بن أوس الداري من رواة الأساطير، وقد أسلم سنة تسع للهجرة، وهو أول من قصّ بين المسلمين، واستأذن عمر أن يقصّ على الناس قائماً، فأذن له، وكان يسكن المدينة ثمّ انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان «(1)». فسمحت الظروف لمثل هذا الكتابيّ أن يتحدّث بما تعلّم في حياته السابقة ولكن منع من أراد التحدّث بحديث الرسول، لذا كان المجال خصباً لنشر الأساطير والعقائد الخرافية.
يقول الشهرستاني: وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام أحاديثَ
ص:603
متعددة في مسائل التجسيم والتشبيه وكلها مستمدّة من التوراة «(1)».
وهذا هو المقدسي يتكلّم عن وجود هذه العقائد بين عرب الجاهلية، يقول:
وكان فيهم من كلّ ملّة ودين، وكانت الزندقة والتعطيل في قريش، والمزدكية والمجوسية في تميم، واليهودية والنصرانية في غسان، وعبادة الأوثان في سائرهم «(2)».
ويقول ابن خلدون: إنّ العرب لم يكونوا أهلَ كتاب ولا علم، وإنّما غلبت عليهم البداوة والأُميّة، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شي ء ممّا تتوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكوَّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنّما يسألون عنه أهلَ الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى، مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه وعبد اللَّه بن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وتساهلَ المفسّرون في مثل ذلك وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات، وأصلها كلّها كما قلنا من التوراة أو ممّا كانوا يفترون «(3)».
ولو أردنا أن ننقل كلمات المحقّقين حول الخسارة التي أحدثها اليهود والنصارى لطال بنا الكلام وطال مقالنا مع القرّاء.
ومن أكابر أحبار اليهود الذين تظاهروا بالإسلام كعب الأحبار؛ حيث خدع عقولَ المسلمين وحتى الخلفاء والمترجمين عنه من علماء الرجال، فقد أسلم في زمن أبي بكر، وقدِمَ من اليمن في خلافة عمر، فانخدع به الصحابة وغيرهم.
قال الذهبي: العلّامة الحبر!! الذي كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبيّ، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر (رض)، وجالس أصحاب محمّد، فكان يحدّثهم عن
ص:604
الكتب الإسرائيلية ويحفظ عجائب- إلى أن قال:- حدّث عنه أبو هريرة ومعاوية وابن عباس، وذلك من قبيل رواية الصحابي عن تابعي، وهو نادر عزيز، وحدّث عنه أيضاً أسلم مولى عمر وتبيع الحميري ابن امرأة كعب، وروى عنه عدّة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلًا، وقع له رواية في سنن أبي داود والترمذي والنسائي «(1)». وعرّفه الذهبي أيضاً في بعض كتبه بأنه من أوعية العلم «(2)».
وقد وجد الحبر الماكر جوّاً ملائماً لنشر الأساطير والقصص الوهمية، وبذلك بثّ سمومه القاتلة بين الصحابة والتابعين، وقد تبعوه وهم يحسبون أنهم يحسنونصنعاً.
وقد تنبّه إلى جسامة الخسارة التي أحدثها ذلك الحبر لفيف من القدماء، منهم ابن كثير في تفسيره، حيث إنّه بعدما أورد طائفة من الأخبار في قصة ملكة سبأ مع سليمان، قال: والأقرب في مثل هذه السياقات أنّها متلقاة عن أهل الكتاب ممّا وجد فيصحفهم، كروايات كعب ووهب- سامحهما اللَّه تعالى!- فيما نقلاه إلى هذه الأُمّة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب ممّا كان وما لم يكن، وممّا حُرِّف وبُدِّل ونسخ، وقد أغنانا اللَّه سبحانه عن ذلك بما هو أصحّ منه وأنفع وأوضح وأبلغ «(3)».
والّذي يدلّ على عمق مكره وخداعه لعقول المسلمين أنه ربّما ينقل شيئاً من العهدين، وفي الوقت ذاته نرى أنّ بعض الصحابة الّذين تتلمذوا على يديه وأخذوا منه ينسب نفس ما نقله إلى الرسول! والذي يبرّر ذلك العمل حسن ظنّهم وثقتهم به، فحسبوا المنقول أمراً واقعياً، فنسبوه إلى النبيّ زاعمين أ نّه إذا كان كعب
ص:605
الأحبار عالماً به فالنبيّ أولى بالعلم منه.
وإن كنت في شكٍّ من ذلك فاقرأ نصّين في موضوع واحد أحدهما للإمام الطبري في تأريخه ينقله عن كعب الأحبار في حشر الشمس والقمر يوم القيامة، والآخر للإمام ابن كثيرصاحب التفسير ينقله عن أبي هريرة عن النبيّ الأكرم، ومضمون الحديث ينادي بأعلىصوته بأ نّه موضوع مجعول على لسان الوحي، نشره الحبر الخادع وقبله الساذج من المسلمين.
1- قال الطبري: عن عكرمة، قال: بينا ابن عباس ذات يوم جالس إذ جاءه رجل فقال: يابن عباس سمعت العجب من كعب الحبر يذكر في الشمس والقمر، قال: وكان متكئاً فاحتفز ثمّ قال: وما ذاك؟ قال: زعم يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنّهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم، قال عكرمة: فطارت من ابن عباس شفة ووقعت أُخرى غضباً، ثمّ قال: كذب كعب، كذب كعب، كذب كعب، ثلاث مرّات، بل هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام، اللَّه أجلّ وأكرم من أن يعذّب على طاعته، ألم تسمع قول اللَّه تبارك وتعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ «(1)»
، إنّما يعني دؤوبهما في الطاعة، فكيف يعذّب عبدين يُثني عليهما أنّهما دائبان في طاعته؟ قاتلَ اللَّه هذا الحبر وقبّح حبريّته، ما أجرأه على اللَّه وأعظم فريته على هذين العبدين المطيعين للَّه!! قال: ثمّ استرجع مراراً «(2)».
2- قال ابن كثير: روى البزار، عن عبد العزيز بن المختار، قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن في هذا المسجد- مسجد الكوفة- وجاء الحسن فجلس إليه فحدّث، قال: حدّثنا أبو هريرة أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم قال: «إنّ الشمس والقمر ثوران في النار عقيران يوم القيامة» فقال الحسن: وما ذنبهما؟ فقال: أُحدّثك عن
ص:606
رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وتقول- أحسبه قال-: وما ذنبهما؟! ثمّ قال: لا يروى عن أبي هريرة إلّا من هذا الوجه «(1)».
ولمّا كان إسلام كعب الأحبار بعد رحيل الرسول، لذلك تعذّر عليه إسناد ما رواه من أساطير إلى النبيّ الأكرم، ولو أنّه أدرك شيئاً من حياته صلى الله عليه و آله وإن كان قليلًا لنسب تلك الأساطير إليه، ولكن حالت المشيئة الإلهية دون أمانيه الباطلة، ولكنّ أبا هريرة لماصحب النبيّ واستحسن الظنّ بكعب الأحبار، وكان أُستاذه في الأساطير نسب الرواية إلى النبيّصلى الله عليه و آله.
هذا نموذج قدمته إلى القرّاء لكي يقفوا على دور الأحبار والرهبان في نشر البدع اليهودية والنصرانية بين المسلمين، وأن لا يحسنوا الظنّ بمجرّد النقل من دون التأكّد منصحته.
هذا غيض من فيض وقليل من كثير ممّا لعب به مستسلمة اليهود والنصارى في أحاديثنا وأُصولنا، ولولا أنّه سبحانه قيّض في كلّ آنٍ رجالًا مصلحين كافحوا هذه الخرافات وأيقظوا المسلمين من السبات، لذهبت هذه الأساطير بروعة الإسلام وصفائه وجلاله.
إنّ المتفحّص فيما نقل عن ذلك الحبر يقف على أنّه كان يركز على فكرتين يهوديّتين: الأُولى فكرة التجسيم، والثانية رؤية اللَّه تعالى.
يقول عن الفكرة الأُولى: إنّ اللَّه تعالى نظر إلى الأرض فقال: إنّي واطئ على بعضك، فاستعلت إليه الجبال، وتضعضعت له الصخرة، فشكر لها ذلك، فوضع
ص:607
عليها قدمه فقال: هذا مقامي ومحشر خلقي، وهذه جنّتي وهذه ناري، وهذا موضع ميزاني، وأنا ديّان الدين «(1)».
ففي هذه الكلمة الصادرة عن هذا الحبر تصريح على تجسيمه تعالى أوّلًا، وتركيز على أنّ الجنة والنار والميزان ستكون على هذه الأرض، ومركز سلطانها سيكون على الصخرة، وهذا منصميم الدين اليهودي المحرّف.
كما أنّه ركّز على الرؤية، حيث أشاع فكرة التقسيم، فقال: إنّ اللَّه تعالى قسّم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمّدصلى الله عليه و سلم «(2)»، وعنه انتشرت هذه الفكرة؛ أي فكرة التقسيم بين المسلمين.
ومن أعظم الدواهي أنّ الرجل تزلّف إلى الخلفاء في خلافة عمر وعثمان، وروى كثيراً من القصص الخرافية، وبعدما توفّي عثمان تزلّف إلى معاوية ونشر في عهده ما يؤيد به ملكه ودولته، ومن كلماته في حقّ الدولة الأُموية: مولد النبي بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام! «(3)» وبذلك أضفى على الدولة الأُمويةصبغة شرعية وجعل ملكهم وسلطتهم امتداداً لملك النبيّ وسلطته.
إذا كان كعب الأحبار وزملاؤه يحملون فكرة الرؤية، فلا غروَ ولا عجب في أنّهم اتّبعوا في نشر الفكرة ما في العهد القديم، وإليك بعض ما ورد فيه من تصريح برؤية الرب:
ص:608
1- وقال (الرب): لا تقدر أن ترى وجهي؛ لأنّ الإنسان لا يراني ويعيش.
وقال الرب: هو ذا عندي مكان فتقفُ على الصخرة، ويكون من اجتاز مجدي أنّي أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتّى اجتاز ثمّ أرفعُ يدي فتنظر ورائي، وأما وجهي فلا يرى «(1)».
وعلى هذا فالربّ يُرى قفاه ولا يُرى وجهه!
2- رأيت السيّد جالساً على كرسيّ عال.. فقلت: ويل لي؛ لأنّ عينيّ قد رأتا الملك ربّ الجنود «(2)».
والمقصود من السيد هو اللَّه جلّ ذكره.
3- كنت أرى أنه وضعتْ عروش، وجلس القديم الأيام، لباسه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه لهيب نار «(3)».
4- أما أنا فبالبرّ أنظر وجهك «(4)».
5- فقال منوح لامرأته: نموت موتاً لأننا قد رأينا اللَّه «(5)».
6- فغضب الربّ على سليمان، لأنّ قلبه مال عن الربّ، إله إسرائيل الّذي تراءى له مرّتين «(6)».
7- وقد رأيت الرب جالساً على كرسيّه، وكلّ جند البحار وقوف لديه «(7)».
8- كان في سنة الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر، وأنا بين
ص:609
المسبيّين عند نهر خابور، أنّ السماوات انفتحت فرأيت رؤى اللَّه- إلى أن قال:- هذا منظر شبه مجد الربّ، ولما رأيته خررت على وجهي وسمعتصوت متكلّم «(1)».
إنّ فكرة الرؤية تسرّبت إلى المسلمين من المتظاهرين بالإسلام، كالأحبار والرهبان، وصار ذلك سبباً لجرأة طوائف من المسلمين على جعلها في ضمن العقيدة الإسلامية، بحيث يُكفَّر منكرها أحياناً أو يفسَّق، ولماصارت تلك العقيدة راسخة في القرنين الثاني والثالث بين المسلمين، عاد المتكلّمون الّذين تربوا بين أحضانهم للبرهنة والاستدلال على تلك الفكرة من الكتاب أولًا والسنة ثانياً، ولولا رسوخها بينهم لما تحمّلوا عب ء الاستدلال وجهد البرهنة، وسوف يوافيك أنّ الكتاب يردّ فكرة الرؤية ويستعظم أمرها وينكرها بشدّة، وما استدلّ به على جواز الرؤية من الكتاب فلا يمتّ إلى الموضوع بصلة.
إنّ مسألة رؤية اللَّه تعالى قد طرحت علىصعيد البحث والجدال في القرن الثاني، عندما حيكت العقائد على نسق الأحاديث، ووردت فيها رؤيته سبحانه يوم القيامة، فلأجل ذلك عدّت من العقائد الإسلامية، حتّى أنّ الإمام الأشعري عندما تاب عن الاعتزال ولحق بأهل الحديث رقى يوم الجمعة كرسيّاً ونادى بأعلىصوته: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه نفسي، أنا فلان بن فلان كنت قلت بخلق القرآن، وأنّ اللَّه لا يُرى بالأبصار، وانّ أفعال الشرّ أنا أفعلها، وإنّي تائب مقلع معتقد للردّ على المعتزلة «(2)».
وقال في الإبانة: وندين بأنّ اللَّه تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، كما جاءت الروايات عن رسول اللَّه «(3)».
ص:610
وقال في كتابه الآخر: بسم اللَّه، إن قال قائل: لم قلتم إنّ رؤية اللَّه بالأبصار جائزة من باب القياس؟ قيل له: قلنا ذلك؛ لأنّ ما لا يجوز أن يوصف به تعالى ويستحيل عليه لا يلزم في القول بجواز الرؤية «(1)».
وهذا النص يعرب عن أنّ الرؤية كانت في ذلك العصر وفي عصر الإمام أحمد جزءاً من العقائد الإسلامية، ولذلك لا تجد كتاباً كلامياً إلّاويذكر رؤية اللَّه تبارك وتعالى في الآخرة، ويقرّرها جزءاً من العقائد الإسلامية، حتّى أنّ الإمام الغزالي مع ما أُوتي من مواهب كبيرة وكان من المصرّين على التنزيه- فوق ما يوجد في كتب الأشاعرة- لم يستطع أن يخرج عن إطار العقيدة، وقال: العلم بأنّه تعالى- مع كونه منزّهاً عن الصورة والمقدار، مقدّساً عن الجهات والأنظار- يُرى بالأعين والأبصار «(2)».
ثمّ إنّهم اختلفوا في الدليل على الرؤية؛ ففرقة منهم اعتمدوا على الأدلة العقلية دون السمعية، كسيف الدين الآمدي أحد مشايخ الأشاعرة في القرن السابع (551-/ 631 ه) يقول: لسنا نعتمد في هذه المسألة على غير المسلك العقلي؛ إذ ما سواه لا يخرج عن المظاهر السمعية، وهي ممّا يتقاصر عن إفادة القطع واليقين، فلا يذكر إلّاعلى سبيل التقريب» «(3)».
وفرقة أُخرى كالرازي وغيره قالوا: العمدة في جواز الرؤية ووقوعها هو جواز السمع، وعليه الشيخ الشهرستاني في نهاية الإقدام «(4)».
ص:611
محل النزاع بين الأشاعرة ومن قبلهم الحنابلة وأصحاب الحديث، وبين غيرهم من أهل التنزيه، هو رؤية اللَّه سبحانه بالأبصار التي هي نعمة من نعم اللَّه سبحانه وطريق إلى وقوف الإنسان على الخارج.
يقول سبحانه: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ «(1)»
فالمُثبتُ للرؤية والنافي لها يركّزُ على موضوع واحد هو الرؤية بالأبصار، وأنّ الخارج عن هذا الموضوع خارج عن إطار العقيدة.
وبذلك يظهر أنّ الرؤية بغير الأبصار تأويل للعقيدة التي أصرّ عليها أصحاب أحمد، بل الملتحق به الإمام الأشعري، ولا يمتّ إلى موضوع البحث بصلة، فقد نقل عن ضرار وحفص الفرد: إنّ اللَّه لا يرى بالأبصار، ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسّة سادسة غير حواسنا فندركه بها «(2)».
يقول ابن حزم: إنّ الرؤية السعيدة ليست بالقوة الموضوعة بالعين، بل بقوّة أُخرى موهوبة من اللَّه «(3)».
إلى غير ذلك من الكلمات التي حرّفت النقطة الرئيسية في البحث، ومعتقد أهل الحديث الأشاعرة، ونحن نركّز في البحث على الرؤية بالأبصار، وأمّا الرؤية بغيرها فخارجة عن مجاله.
فإذا كانت الحنابلة والأشاعرة مصرّين على جواز الرؤية، فأئمة أهل البيت
ص:612
ومن تبعهم من الإمامية والمعتزلة والزيدية قائلون بامتناعها في الدنيا والآخرة.
فالبيت الأُموي والمنتمون إليه من أهل الحديث كانوا من دعاة التجسيم والتشبيه والجبر وإثبات الجهة، والرؤية للَّه سبحانه، وأما الإمام أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب عليه السلام وبيته الطاهر وشيعتهم فكانوا من دعاة التنزيه والاختيار، ومن الرافضين لهذه البدع المستوردة من اليهود بحماس.
وقد نجم في ظلّ العراك الفكري بين العلويين والأُمويين منهجان في مجال المعارف كلّ يحمل شعاراً، فشيعة الإمام وأهل بيته يحملون شعار التنزيه والاختيار، والأُمويون وشيعتهم يحملون شعار التشبيه والجبر، وقد اشتهر منذ قرون، القول بأنّ: التنزيه والاختيار علويان، والتشبيه والجبر أُمويان.
فصارت النتيجة في النهاية أنّ كلّ محدّث مُتزلّف إلى البيت الأُموي يحشّد أخبار التجسيم والجبر، بلا مبالاة واكتراث، لكن الواعين من أُمّة محمّد الموالين لأهل بيته كانوا يتجنّبون نقل تلك الآثار.
قال الرازي في تفسير قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ «(1)»
: احتجّ علماء التوحيد قديماً وحديثاً بهذه الآية على نفي كونه جسماً مركباً من الأعضاء والأجزاء، حاصلًا في المكان والجهة؛ فقالوا:
لو كان جسماً لكان مثلًا لسائر الأجسام، فيلزم حصول الأمثال والأشباه، وذلك باطل بصريح قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ- إلى أن قال:
واعلم أنّ محمّد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سمّاه بالتوحيد، وهو في الحقيقة كتاب الشرك، واعترض عليها، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات؛ لأنّه كان رجلًا مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقص العقل، فقال: نحن نثبت للَّه وجهاً ونقول: إنّ لوجه ربّنا من النور
ص:613
والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كلّ شي ء أدركه بصره، ووجه ربّنا منفي عنه الهلاك والفناء، ونقول: إنّ لبني آدم وجوهاً كتب اللَّه عليها الهلاك والفناء، ونفى عنها الجلال والاكرام، غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء، ولو كان مجرّد إثبات الوجه للَّه يقتضي التشبيه لكان من قال: «إنّ لبني آدم وجوهاً وللخنازير والقردة والكلاب وجوهاً»، قد شبّه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب. ثمّ قال: ولا شكّ أنّه اعتقاد الجهمية؛ لأنّه لو قيل له:
وجهك يشبه وجه الخنازير والقردة لغضب ولشافهه بالسوء، فعلمنا أنّه لا يلزم من إثبات الوجه واليدين للَّه إثبات التشبيه بين اللَّه وبين خلقه.
إلى أن قال: وأقول هذا المسكين الجاهل إنّما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنّه لم يعرف حقيقة المثلين، وعلماء التوحيد حقّقوا الكلام في المثلين ثمّ فرعوا عليه الاستدلال بهذه الآية «(1)».
وليس ابن خزيمة أوّل أو آخر محدّث تأثّر بهذه البدع، بل كانت الفكرة تتغلغل بين أكثر أهل الحديث الذين منهم:
1- عثمان بن سعيد بن خالد بن سعيد التميمي الدارمي السجستاني (280 ه)صاحب المسند وصاحب النقض، يقول فيه: إنّ اللَّه فوق عرشه وسماواته.
2- حشيش بن أصرم (253 ه) مؤلف كتاب الاستقامة، يعرّفه الذهبي: بأنّه يردّ فيه على أهل البدع، ويريد به أهل التنزيه الذين يرفضون أخبار التشبيه.
3- أحمد بن محمّد بن الأزهر بن حريث السجستاني السجزي (312 ه) نقل الذهبيّ في ميزان الاعتدال عن السلمي قال: سألت الدار قطني عن الأزهري، فقال: هو أحمد بن محمّد بن الأزهر بن حريث، سجستانيّ منكر الحديث، لكن
ص:614
بلغني أنّ ابن خزيمة حسن الرأي فيه، وكفى بهذا فخراً «(1)».
يلاحظ عليه: أ نّه كفى بهذا ضعفاً؛ لأنّ ابن خزيمة هذا رئيس المجسّمة والمشبّهة، ومنه يعلم حال السجستاني «(2)».
4- محمّد بن إسحاق بن خزيمة، ولد عام 311 ه وقد ألّف «التوحيد وإثباتصفات الربّ»، وكتابه هذا مصدر المشبّهة والمجسّمة في العصور الأخيرة، وقد اهتمّت به الحنابلة، وخصوصاً الوهابية، فقاموا بنشره على نطاق واسع، وسيأتي الحديث عنه.
5- عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل (213 ه- 290 ه) يروي أحاديث أبيه (الإمام أحمد بن حنبل)، وكتابه «السنة» المطبوع لأوّل مرّة بالمطبعة السلفية ومكتبتها عام 1349 ه، وهو كتاب مشحون بروايات التجسيم والتشبيه، يروي فيه ضحك الربّ، وتكلّمه، وإصبعه، ويده، ورجله، وذراعيه، وصدره، وغير ذلك ممّا سيمرّ عليك بعضه.
وهذه الكتب الحديثية الطافحة بالإسرائيليات والمسيحيات جرّت الويل على الأُمّة وخدع بها المغفّلون من الحنابلة والحشوية وهم يظنّون أنّهم يحسنونصنعاً.
من يرجع إلى خطب الإمام علي عليه السلام في التوحيد وما أُثِر عن العترة الطاهرة يقف على أنّ مذهبهم في ذلك هو امتناع الرؤية، وأنّه سبحانه لا تدركه أوهام القلوب، فكيف بأبصار العيون؟ وإليك نزراً يسيراً ممّا ورد في هذا الباب:
ص:615
1- قال الإمام علي عليه السلام في خطبة الأشباح: «الأوّل الذي لم يكن له قبل فيكون شي ء قبله، والآخر الّذي ليس له بعد فيكون شي ء بعده، والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه» «(1)»
2- وقد سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام:
«أَفأعبد ما لا أرى؟» فقال: و كيف تراه؟ فقال: «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملابس، بعيد منها غير مباين» «(2)».
3- وقال عليه السلام: «الحمد للَّه الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر» «(3)»
.
إلى غير ذلك من خطبه عليه السلام الطافحة بتقديسه وتنزيهه عن إحاطة القلوب والأبصار به «(4)».
وأمّا المروي عن سائر أئمة أهل البيت عليهم السلام فقد عقد ثقة الإسلام الكليني في كتابه «الكافي» باباً خاصاً للموضوع روى فيه ثمانِيَ روايات «(5)»، كما عقد الصدوق في كتاب التوحيد باباً لذلك روى فيه إحدى وعشرين رواية، يرجع قسم منها إلى نفي الرؤية الحسيّة البصريّة، و قسم منها يثبت رؤية معنوية قلبية سنشير إليه في محلّه «(6)».
ثمّ إنّ للإمام الطاهر عليّ بن موسى الرضا احتجاجاً في المقام على مقال المحدّث أبي قرّة، حيث ذكر الحديث الموروث عن الحبر الماكر «كعب الأحبار»: من أنّه
ص:616
سبحانه قسم الرؤية والكلام بين نبيّين، كما تقدّم.
فقال أبو قرة: فإنّا روينا: أنّ اللَّه قسّم الرؤية والكلام بين نبيين، فقسّم لموسى عليه السلام الكلام، ولمحمّدصلى الله عليه و آله الرؤية.
فقال أبو الحسن عليه السلام: فمن المبلِّغ عن اللَّه إلى الثقلين الجنّ والإنس أنّه لا تُدركه الأبصار ولا يحيطون به علماً وليس كمثله شي ء، أليس محمّدصلى الله عليه و آله؟ قال: بلى.
قال أبو الحسن عليه السلام: فكيف يجي ء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند اللَّه، وأنّه يدعوهم إلى اللَّه بأمر اللَّه، ويقول: إنّه لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علماً وليس كمثله شي ء، ثمّ يقول: أنا رأيته بعينيّ وأحطتُ به علماً وهو علىصورة البشر، أما تستحيون؟ أما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا، أن يكون أتى عن اللَّه بأمر ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر؟!
فقال أبو قرة: إنّه يقول: وَلَقَدْ رَآهُ نزلةً أُخْرَى «(1)»فقال أبو الحسن عليه السلام: إنّ بعد هذه الآية ما يدلّ على ما رأى حيث قال: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى «(2)»
يقول: ما كذب فؤاد محمّدصلى الله عليه و آله ما رأت عيناه ثمّ أخبر بما رأت عيناه فقال: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى «(3)»
فآيات اللَّه غير اللَّه، وقال:
وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً «(4)»
فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة.
فقال أبو قرّة: فتكذّب بالرواية؟
فقال أبو الحسن عليه السلام: إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذّبتها، وما أجمع المسلمون عليه أنّه لا يحاط به علماً، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شي ء «(5)».
ص:617
الرؤية في منطق العلم والعقل
إنّ الرؤية في منطق العلم والعقل لا تتحقّق إلّاإذا كان الشي ء مقابلًا أو حالّاً في المقابل من غير فرق بين تفسيرها حسبَ رأي القدماء أو حسب العلم الحديث، فإنّ القدماء كانوا يفسّرون الرؤية على النحو التالي:
خروج الشعاع من العين وسقوطه على الأشياء ثمّ انعكاسه عنها ورجوعه إلى العين لكي تتحقّق الرؤية.
ولكن العلم الحديث كشف بطلان هذا التفسير وقال: إنّهاصدور الأشعة من الأشياء ودخولها إلى العين عن طريق عدستها وسقوطها على شبكيّة العين فتتحقّق الرؤية.
وعلى كلّ تقدير فالضرورة قاضية على أنّ الإبصار بالعين متوقّف على حصول المقابلة بين العين والمرئي أو حكم المقابلة، كما في رؤية الصور في المرآة.
وهذا أمر تحكم به الضرورة، وإنكاره مكابرة واضحة، فإذا كانت ماهيّة الرؤية هي ما ذكرناه فلا يمكن تحقّقها فيما إذا تنزّه الشي ء عن المقابلة أو الحلول في المقابل.
ص:618
وبعبارة واضحة: أنّ العقل والنقل اتّفقا على كونه سبحانه ليس بجسم ولا جسماني ولا في جهة، والرؤية فرع كون الشي ء في جهة خاصة، وما شأنه هذا يتعلّق بالمحسوس لا بالمجرّد.
ثمّ إنّ الرازي أراد الخدش في هذا الأمر البديهي ولكنّه رجع خائباً، اعترض على هذا الاستدلال بوجهين:
الأوّل: أنّ ادّعاء الضرورة والبداهة على امتناع رؤية الموجود المنزّه عن المكان والجهة أمر باطل؛ لأنّه لو كان بديهياً لكان متّفقاً عليه بين العقلاء، وهذا غير متّفق عليه بينهم؛ فلا يكون بديهياً، ولذلك لو عرضنا قضيّة أنّ الواحد نصف الاثنين لا يختلف فيه اثنان، وليست القضيّة الأُولى في البداهة في قوّة القضيّة الثانية «(1)».
يلاحظ عليه: بأنّه خفي على الرازي بأنّ للبداهة مراتب مختلفة، فكون نور القمر مستفاداً من الشمس قضيّة بديهية، ولكن أينَ هذه البداهة من بداهة قولنا:
الواحد نصف الإثنين؟
أضف إلى ذلك أنّ العقلاء متّفقون على لزوم المقابلة أو حكمها على تحقّق الرؤية، وإنّما خالف فيه أمثال من خالف القضايا البديهية كالسفسطائيّين؛ حيث ارتابوا في وجودهم وعلومهم وأفعالهم مع أنّهم كانوا يُعدّون من الطبقات العليا في المجتمع اليوناني.
الثاني: أنّ المقابلة شرط في رؤية الشاهد، فلمَ قلتم إنّه في الغائب كذلك؟
وتحقيقه هو أنّ ذات اللَّه تعالى مخالفة بالحقيقة والماهية لهذه الحوادث، والمختلفات في الماهية لا يجب استواؤها في اللوازم، فلم يلزم من كون الادراك واجباً في الشاهد عن حضور هذه الشرائط، كونه واجباً في الغائب عند
ص:619
حضورها «(1)». هذا كلامه في كتاب الأربعين.
ويقول في تفسيره: ألم تعلموا أنّ ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات، ولا يلزم من ثبوت حكم في شي ء ثبوت مثل ذلك الحكم فيما يخالفه، والعجب أنّ القائلين بالامتناع يدّعون الفطنة والكياسة ولم يتنبّه أحد لهذا السؤال، ولم يخطر بباله ركاكة هذا الكلام «(2)».
يلاحظ عليه: أنّ الرازي غفل عن أنّ الرؤية من الأُمور الإضافية القائمة بالرائي والمرئي، فالتقابل من لوازم الرؤية بما هي هي، فاختلاف المرئي في الماهيات كاختلاف الرائي في كونه حيواناً أو إنساناً لا مدخليّة له في هذا الموضوع، فافتراض نفس الرؤية وتعلّقها بالشي ء وغضّ النظر عن الرائي وخصوصيات المرئي يجرّنا إلى القول: بأنّ الرؤية رهن التقابل أو حكمه، وذلك لأنّ الموضوع لحكم العقل من لزوم المقابلة في الرؤية هو نفسها بما هي هي، والموضوع متحقّق في الشاهد والغائب، والمادّي والمجرّد، فاحتمال انتقاض الحكم باختلاف المرئي يناقض ما حكم به بأنّ الرؤية بما هي هي لا تنفكّ عن التقابل، فإنّه أشبه بقول القائل: إنّ نتيجة 2+/ 2/ 4، لكن إذا كان المعدود مادّياً لا مجرّداً، ويردّ بأنّ الموضوع نفس اجتماع العددين وهو متحقّق في كلتا الصورتين.
ثمّ ماذا يقصد (الرازي) من الغائب؟ هل يقصد الموجود المجرّد عن المادّة ولوازمها؟ فبداهة العقل تحكم بأنّ المنزّه عن الجسم والجسمانية والجهة والمكان لا يتصوّر أنْ يقع طرفاً للمقابلة، وإنْ أراد منه الغائب عن الأبصار مع احتمال كونه جسماً أو ذا جهة، فذلك إبطال للعقيدة الإسلامية الغرّاء التي تبنّتها الأشاعرة وكذلك الرازي نفسه في غير واحد من كتبه الكلامية وفي غير موضع في تفسيره.
ص:620
ولقائل أن يسأل الرازي: أنّه لو وقعت الرؤية على ذاته سبحانه فهل تقع على كلِّه أو بعضه؟ فلو وقعت على الكلّ تكون ذاته محاطة لا محيطة؛ وهذا باطل بالضرورة، ولو وقعت على الجزء تكون ذاته ذات جزء مركب.
وممّا ذكرنا يتبيّن ركاكة ما استدلّ به الرازي على كلامه.
إنّ مفكّري الأشاعرة الّذين لهم أقدام راسخة في المسائل العقليّة لمّا وقعوا في تناقض من جرّاء هذا الدليل ذهبوا إلى الجمع بين الرؤية والتنزيه، وإليك بيان ذلك:
هذا العنوان هو الّذي يجده القارئ في كتب الأشاعرة، وربما يعبّر عنه خصومهم بالبلكفة، ومعناه أنّ اللَّه تعالى يرى بلا كيف وأنّ المؤمنين في الجنّة يرونه بلا كيف، أي منزّهاً عن المقابلة والجهة والمكان.
يلاحظ عليه: أنّ تمنّي الرؤية بلا مقابلة ولا جهة ولا مكان، أشبه برسم أسد بلا رأس ولا ذنب على جسم بطل، فالرؤية الّتي لا يكون المرئي فيها مقابلًا للرائي ولا متحقّقاً في مكان ولا متحيّزاً في جهة كيف تكون رؤيته بالعيون والأبصار.
والحقّ أنّ اعتماد الأشاعرة على أهل الحديث في قولهم «بلا كيف» مهزلة لا يُعتمد عليها؛ فإنّ الكيفية ربّما تكون من مقوّمات الشي ء، ولولاها لما كان له أثر، فمثلًا عندما يقولون: إنّ للَّه يداً ورجلًا وعيناً وسمعاً بلا كيف ويصرّحون بوجود واقعيات هذه الصفات حسب معانيها اللغوية لكن بلا كيفية، فإنّه يلاحظ عليه، بأنّ اليد في اللغة العربيّة وضعت للجارحة حسبما لها من الكيفية؛ فإثبات اليد للَّه
ص:621
بالمعنى اللغوي مع حذف الكيفية، يكون مساوياً لنفي معناه اللغوي، ويكون راجعاً إلى تفسيره بالمعاني المجازية التي تفرّون منها فرار المزكوم من المسك، ومثله القدم والوجه.
وبعبارة أُخرى: أنّ الحنابلة والأشاعرة يصرّون على أنّ الصفات الخبرية، كاليد والرجل والقدم والوجه في الكتاب والسنّة؛ يجب أن تُفسّر بنفس معانيها اللغوية، ولا يجوز لنا حملها على معانيها المجازية، كالقدرة في اليد مثلًا، ولما رأوا أنّ ذلك يلازم التجسيم التجأوا إلى قولهم «يد بلا كيف» ولكنّهم خفي عنهم أنّ الكيفية في اليد والوجه وغيرهما مقوّمة لمفاهيمها، فنفي الكيفية يساوق نفي المعنى اللغوي، فكيف يمكن الجمع بين المعنى اللغوي والحمل عليه بلا كيف؟!
ومنه يعلم حال الرؤية بالبصر والعين؛ فإنّ التقابل مقوّم لمفهومها، فإثباتها بلا كيف يلازم نفي أصل الرؤية، وقد عرفت أنّ الكلام في النظر بالبصر والرؤية بالعين، لا الرؤية بالقلب أو في النوم.
وقد أوضحنا حال الصفات الخبرية في بحوثنا الكلاميّة «(1)».
إنّ بعض المثقّفين الجُدد لمّا أدركوا بعقولهم أنّ الرؤية لا تنفكّ عن الجهة التجأوا إلى القول بأنّ كلّ شي ء في الآخرة غيره في الدنيا، ولعلّ الرؤية تتحقّق في الآخرة بلا هذا اللّازم السلبي.
لكن هذا الكلام رجمٌ بالغيب؛ لأنّه إنْ أراد من المغايرة بأنّ الآخرة ظرف للتكامل وأنّ الأشياء توجد في الآخرة بأكمل الوجوه وأمثلها، فهذا لا مناقشة فيه، يقول سبحانه: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ
ص:622
قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً «(1)»
ولكن إنْ أراد أنّ القضايا العقلية البديهية تتبدّل في الآخرة إلى نقيضها فهذا يوجب انهيار النُّظم الكلامية والفلسفيّة والأساليب العلميّة التي يعتمد عليها المفكّرون من أتباع الشرائع وغيرهم؛ إذ معنى ذلك أنّ النتائج المثبتة في جدول الضرب سوف تتبدّل في الآخرة إلى ما يباينها فتكون نتيجة ضرب 2* 2/ 5 أو 10 أو 000 وأنّ قولنا: كلّ ممكن يحتاج إلى علّة يتبدّل في الآخرة إلى أنّ الممكن غنيّ عن العلّة.
فعند ذلك لا يستقرّ حجر على حجر وتنهار جميع المناهج الفكرية، ويصير الإنسان سفسطائياً مائة بالمائة.
إنّ أساتذة الجامعات الإسلامية في الرياض ومكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة بدلًا من أنْ يُجهدوا أنفسهم في فهم المعارف، ويتجرّدوا في مقام التحليل عن الآراء المسبقة، نراهم يقدّمون لطلبة الجامعات وخرّيجيها دعماً مالياً وفكرياً لمواصلة البحوث حول الرؤية في محاولة لإثباتها وإثبات الجهة للَّه تعالى، وإليك نموذجاً من ذلك:
يقول الدكتور أحمد بن محمّد خريج جامعة أُمّ القرى: إنّ إثبات رؤية حقيقيّة بالعيان من غير مقابلة أو جهة، مكابرة عقليّة؛ لأنّ الجهة من لوازم الرؤية، وإثبات اللزوم ونفي اللّازم مغالطة ظاهرة.
ومع هذا الاعتراف تخلّص عن الالتزام بإثبات الجهة للَّه بقوله:
إنّ إثباتصفة العلوّ للَّه تبارك وتعالى ورد في الكتاب والسنّة في مواضع كثيرة جداً، فلا حرج في إثبات رؤية اللَّه تعالى من هذا العلوّ الثابت له تبارك وتعالى،
ص:623
ولا يقدح هذا في التنزيه؛ لأنّ مَن أثبتَ هذا أعلم البشر بما يستحقّ اللَّه تعالى منصفات الكلمات.
أمّا لفظ الجهة فهو من الألفاظ المجملة التي لم يرِد نفيها ولا إثباتها بالنصّ فتأخذ حكم مثل هذه الألفاظ «(1)».
ويلاحظ على هذا الكلام ما يلي:
أوّلًا: كيف ادّعى أنّ الكتاب والسنّة أثبتا العلوّ للَّه الّذي هو مساوق للجهة؛ فإن أراد قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ «(2)»
فقد حُقّقَ في محلّه بأنّ استواءه على العرش كناية عن استيلائه على السماوات والأرض وعدم عجزه عن التدبير. وأين هو من إثبات العلوّ للَّه، وقد أوضحنا مفادَ هذه الآيات في أسفارنا الكلاميّة «(3)».
وإنْ أراد ما جمعه ابن خزيمة وأضرابه من حشويات المجسّمة والمشبّهة، فكلّها بدع يهودية أو مجوسية تسرّبت إلى المسلمين ويرفضها القرآن الكريم، وروايات أئمة أهل البيت عليهم السلام.
ثانياً: إذا افترضناصحّة كونه موجوداً في جهة عالية ينظر إلى السماوات والأرض فكيف يكون محيطاً بكلّ شي ء وموجوداً مع كلّ شي ء، فإذا كان هذا معنى التنزيه فسلامٌ على التجسيم.
ونِعْمَ ما قال شاعر المعرّة:
فيا موت زر إنّ الحياة ذميمةٌ ويا نفسُ جُدّي إنّ دهرك هازلُ
ص:624
فالّذي تستهدفه رسالات السماء يتلخّص في توحيده سبحانه، وأنّه واحد لا نظير له ولا مثيل أوّلًا، وتنزيهه سبحانه عن مشابهة الممكنات والموجودات ثانياً.
غير أنّ أصحاب الحديث بعد رحيل الرسول توغّلوا في وحل حبائل الشرك والتجسيم وأبطلوا كلتا النتيجتين؛ فقالوا بقدم القرآن وعدم حدوثه، وأثبتوا بذلك مثلًا للَّه في الأزلية وكونه قديماً كقدمه سبحانه.
وأثبتوا للَّه سبحانه العلوّ والجهة اغتراراً ببعض الظواهر والأحاديث المستوردة، فأبطلوا بذلك تنزيهه- سبحانه- وتعاليه عن مشابهة المخلوقات.
فخالفوا رسالات السماء في موردين أصيلين:
التوحيد: بالقول بقدم القرآن.
التنزيه: بإثبات الجهة والرؤية.
فكانوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غزلها مِنْ بَعْدِ قوّةٍ أَنْكَاثاً «(1)»
ص:625
إنّ الذكر الحكيم يصف اللَّه سبحانه بصفات تهدف جميعها إلى تنزيهه عن الجسم والجسمانية، وأنّه ليس له مثل ولا نظير، ولا ندّ ولا كف ء، وأنّه محيط بكلّ شي ء، ولا يحيطه شي ء، إلى غير ذلك من الصفات المنزِّهة الّتي يقف عليها الباحث إذا جمع الآيات الواردة في هذا المجال، وبدورنا نشير إلى بعض منها:
قال سبحانه:
1- فَاطِرُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «(1)»
.
2- قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «(2)»
.
3- هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ «(3)»
ص:626
4- هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ «(1)»
.
5- هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَاإلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ «(2)»
.
6- هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «(3)»
.
7- مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَما كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ «(4)»
.
8- أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ «(5)»
.
9- اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَاتَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ «(6)»
.
10- لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ «(7)»
ص:627
وحصيلة هذه الآيات أنّه لا يوجد في صفحة الوجود له مثل، وهو أحدٌ لا كُف ء له، لم يلد ولم يولد، بل هو أزليّ.
فبما أنّه أزليّ الوجود، فوجوده قبل كلّ شي ء أي لا وجود قبله.
وبما أنّه أبديّ الوجود، فهو آخرُ كلّ شي ء؛ إذْ لا وجود بعده.
وبما أنّه خالقُ السماوات والأرض فالكون قائم بوجوده، فهو باطنُ كلّ شي ء، كما أنّ النظام البديع دليل على وجوده، فهو ظاهر كلّ شي ء، لا يحويه مكان؛ لأنّه خالق السماوات والأرض وخالق الكون والمكان، فكان قبل أنْ يكون أيّ مكان.
وبما أنّ العالم دقيقه وجليله فقير محتاج إليه قائم به، فهو مع الأشياء معيّة قيّوميّة لا معيّة مكانيّة، ومع الإنسان أينما كان.
فلا يكون من نجوى ثلاثةٍ إلّاهو رابعهم ولا خمسةٍ إلّاهو سادسُهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلّاهو معهم أينما كانوا، وذلك مقتضى كونه قيّوماً وما سواه قائماً به، ولا يمكن للقيّوم الغيبوبة عمّا قام به.
وفي النهاية هو محيط بكلّ شي ء لا يحيطه شي ء، فقد أحاط كُرسيُّه السماوات والأرض، فالجميع محاط وهو محيط، ومن كان بهذه المنزلة لا تُدرِكه الأبصار الصغيرة الضعيفة ولا يقع في أُفقها، ولكنّه لكونه محيطاً يُدركُ الأبصار.
هذهصفاته سبحانه في القرآن ذكرناها بإيجاز، وأوردناها بلا تفسير.
وقد علمت أنّ من سمات العقيدة الإسلامية كونها عقيدة سهلة لا إبهام فيها ولا لغز، فلو وجدنا شيئاً في السنّة أو غيرها ما يصطدم بهذه الصفات فيحكم عليه بالتأويل إنصحّ السند، أو بالضرب عرض الجدار إن لم يصح.
فمن تلا هذه الآيات وتدبّر فيها يحكم بأنّه سبحانه فوق أنْ يقع في وهم الإنسان وفكره ومجال بصره وعينه، وعند ذلك لو قيل له: إنّه جاء في الأثر: إنّكم سترون
ص:628
ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا (البدر) لا تُضامون في رؤيته «(1)».
فسيجد أنّ هذا الكلام يناقض ما تلا من الآيات أو استمع إليها، وسيشكّك ويقول: إذا كان الخالقُ البارئُ الّذي هو ليس بجسم ولا جسماني، لا يحويه مكان ومحيط بالسماوات والأرض، فكيف يرى يوم القيامة كالبدر في جهة خاصّة وناحية عالية مع أنّه كان ولا علوّ ولا جهة، بل هو خالقهما، وأين هذه الرؤية من وصفه سبحانه بأنّه لا يحويه مكان ولا يقع في جهة وهو محيط بكلّ شي ء؟!
ولا يكون هذا التناقض بين الوصفين بأقلّ من التناقض الموجود في العقيدة النصرانيّة من أنّه سبحانه واحد وفي الوقت نفسه ثلاثة.
وكلّما حاول القائل بالرؤية الجمع بين العقيدتين، لا يستطيع أنْ يرفع التعارض والاصطدام بين المعرفتين في أنظار المخاطبين بهذه الآيات والرواية، ومن جرّد نفسه عن المجادلات الكلاميّة والمحاولات الفكريّة للجمع بين المعرفتين يرى التعريفين متصادمين، فأين القول بأنّه سبحانه بعيد عن الحسّ والمحسوسات منزّه عن الجهة والمكان محيط بعوالم الوجود، وفي نفس الوقت تنزله سبحانه منزلة الحسّ والمحسوسات، واقعاً بمرأى ومنظر من الإنسان، يراه ويبصره كما يبصر البدر، ويشاهده في أُفق عال.
وقد عرفت في التمهيد أنّ السهولة في العقيدة والخلوّ من الألغاز هو من سمات العقيدة الإسلاميّة؛ فالجمع بين المعرفتين كجمع النصارى بين كونه واحداً وثلاثة.
*** هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه كلّما طرح مسألة الرؤية في القرآن الكريم فإنّما يطرحها ليؤكّد عجز الإنسان عن نيلها، ويعتبر سؤالها وتَمنّيها
ص:629
من الإنسان أمراً فظيعاً وقبيحاً وتطلُّعاً إلى ما هو دونه.
1- قال سبحانه: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ «(1)»
.
2- وقال سبحانه: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّل عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنَا مُوسى سُلْطَاناً مُبِيناً «(2)»
.
3- وقال سبحانه: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلكِنْ أُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسىصَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ «(3)»
.
4- وقال سبحانه: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا، فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ «(4)»
.
فالمتدبّر في هذه الآيات يقضي بأنّ القرآن الكريم يستعظم الرؤية ويستفظع سؤالها ويقبّحه، ويعدّ الإنسان قاصراً عن أنْ ينالها على وجه ينزل العذاب
ص:630
عند سؤالها.
فلو كانت الرؤية أمراً ممكناً ولو في وقتٍ آخر، لكان عليه سبحانه أن يتلطّف عليهم بأنّكم سترونه في الحياة الآخرة لا في الحياة الدنيا، ولكنّا نرى أنّه سبحانه يقابلهم بنزول الصاعقة فيقتلهم ثمّ يحييهم بدعاء موسى، كما أنّ موسى لمّا طلب الرؤية وأُجيب بالمنع تاب إلى اللَّه سبحانه وقال: أنا أوّل المؤمنين بأنّك لا تُرى.
فالإمعان بما ورد فيها من عتاب وتنديد، بل وإماتة وإنزال عذاب، يدلّ بوضوح على أنّ الرؤية فوق قابليّة الإنسان، وطلبه لها أشبه بالتطلّع إلى أمر محال، فعند ذلك لو قيل للمتدبّر في الآيات إنّه روى قيس بن أبي حازم أنّه حدّثه جرير وقال: خرج علينا رسول اللَّه ليلة البدر فقال: «إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته» «(1)»
، يجد الحديث مناقضاً لما ورد في هذه الآيات ويشكّ أنّه كيفصار الأمر الممتنع أمراً ممكناً، والإنسان غير المؤهّل للرؤية مؤهّلًا لها.
إنّ هنا محاولتين للتخلّص من التضادّ الموجود بين الآيات، وخبر قيس بن أبي حازم الدالّ على وقوع الرؤية في الآخرة:
إنّ تعارض الآيات والرواية من قبيل تعارض المطلق والمقيد، فلا مانع من الجمع بينهما بحمل الأُولى على الحياة الحاضرة، والثانية على الحياة الآخرة «(2)».
ص:631
يلاحظ عليه: بأنّ الجمع بين الآيات والرواية على نحو ما ذكر أشبه بمحاولة الفقيه إذا فوجئ بروايتين تكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، فيجمع بينهما بحمل المطلق على المقيد.
ولوصحّ ما ذكر فإنّما هو في المسائل الفرعيّة لا العقائدية، وليست الآيات الواردة فيها كالمطلق، والحديث كالمقيد، بل هي بصدد بيان العقيدة الإسلامية على أنّه سبحانه فوق أن تناله الرؤية، وانّ من تمنّاها فإنّما يتمنّى أمراً محالًا.
والدافع إلى هذا الجمع إنّما هو تزمّتهم بالروايات وتلقّيهمصحيح البخاري وغيرهصحيحاً على الإطلاق لا يقبل النقاش والنقد، فلم يكن لهم محيص من معاملة الروايات والآيات معاملة الإطلاق والتقييد، ولأجل ذلك فكلّما تليت هذه الآيات للقائلين بالجواز يجيبون بأنّ الجميع يعود إلى هذه الدنيا، ولاصلة له بالآخرة، ولكنّهم غافلون عن أنّ الآيات تهدف في تنديدها وتوبيخها إلى ملاحظة طلب نفس الرؤية بما هي هي، بغضِّ النظر عن الدنيا والآخرة، ولاصلة لها بظرف السؤال، فحمل تلك الآيات على ظرف خاص تلاعب بالكتاب العزيز وتقديم للسنّة على القرآن، واعتماد على الظنّ دون القطع واليقين.
وأيمن اللَّه لو لم يكن في الصحاح حديث قيس بن أبي حازم وغيره لما كان لديهم أيّ وازع لتأويل الآيات.
لقد تصدّى أبو الحسن الأشعري للإجابة عن الآيات الأخيرة، وزعم أنّ الاستعظام إنّما كان لطلبهم الرؤية تعنّتاً وعناداً، قال:
إنّ بني إسرائيل سألوا رؤية اللَّه عزّ وجلّ على طريق الإنكار لنبوّة موسى وترك الإيمان به حتّى يروا اللَّه لأنّهم قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً
ص:632
فلمّا سألوه الرؤية على طريق ترك الإيمان بموسى عليه السلام حتّى يريهم اللَّه من غير أن تكون الرؤية مستحيلة عليه، كما استعظم اللَّه سؤال أهل الكتاب أنْ ينزّل عليهم كتاباً من السماء من غير أنْ يكون ذلك مستحيلًا، ولكن لأنّهم أبوا أنْ يؤمنوا بنبيّ اللَّه حتّى يُنزّل عليهم من السماء كتاباً» «(1)».
يلاحظ عليه أوّلًا: أنّ ما ذكره من أنّ الاستعظام لأجل كون طلبهم كان عن عنادٍ وتعنّتٍ لا لطلب معجزة زائدة، لوصحّ فإنّما يصحّ في غير هذه الآيات، أعني في قوله سبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً «(2)»
، لا فيما تلوناه من الآيات، فإنّ الظاهر منها أنّ الاستعظام والاستفظاع راجعان إلى نفس السؤال بشهادة قوله: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ «(3)»
، والذي يوضح ذلك أنّ التوبيخ والتنديد راجعان إلى نفس السؤال- مع غضّ النظر عن سبب السؤال، وهل هو لغاية زيادة العلم أو للعتوّ؟- أُمور:
1- أ نّه سبحانه سمّى سؤالهم ظلماً وتعدّياً عن الحدّ.
2- أنّ موسى سمّى سؤالَهم سؤالًا سفهيّاً.
3- عندما طلب موسى الرؤية أُجيب بالخيبة والحرمان، ولم يكن سؤاله عن عناد واستكبار، ولو كانت الخيبة مختصّة بالدنيا، كان عليه سبحانه الرجوع إليه بالعطف والحنان بأنّها غير ممكنة في هذه الدار وسوف تراني في الآخرة.
وثانياً: أنّه سبحانه وإنْ جمع في آية سورة النساء «(4)»، بين نزول الكتاب من
ص:633
السماء عليهم، ورؤية اللَّه جهرةً، لكن كون الأوّل أمراً ممكناً لا يكون دليلًا على كون الثاني مثله؛ وذلك لأنّ وجه الشبه بين الأمرين ليس الإمكان أو الاستحالة حتّى يكونا مشاركين فيهما، بل هو طلب أمر عظيم، وشي ء ليسوا مستأهلين له، فلا يكون إمكان الأوّل دليلًا على إمكان الثاني.
على أنّ قوله سبحانه: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ يشير إلى الفرق بين الطلبين مع المشاركة في أمر الاستعظام؛ وهو استحالة الثاني دون الأوّل، ولذا سمّاه أكبر.
وبذلك تقف على ضعف ما ذكره الرازي في تفسيره؛ لكونه مأخوذاً من كلام إمامه الأشعري.
كما أنّه نقل كلام أبي الحسين المعتزلي في كتاب التصفّح وناقشه بوجه غير تامّ «(1)».
ص:634
دراسة أدلّة النافين
قد عرفت تعبير الكتاب عن الرؤية إجمالًا، وأنّه يعدّ طلب الرؤية وسؤالها أمراً فظيعاً، قبيحاً، موجباً لنزول الصاعقة والعذاب، والآيات السالفة وضّحت موقف الكتاب من هذه المسألة لكن على وجه الإجمال، غير أنّا إذا استنطقنا ما سبق من الآيات، نقف على قضاء الكتاب في أمر الرؤية على وجه التفصيل.
وقد عقدنا هذا الفصل لدراسة بعض ما سبق وتحليله.
قال سبحانه: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٍ* لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ «(1)»
والاستدلال بالآية يتوقّف على البحث في مرحلتين:
ص:635
الدرك في اللغة اللحوق والوصول وليس بمعنى الرؤية، ولو أُريد منه الرؤية فإنّما هو باعتبار قرينيّة المتعلّق.
قال ابن فارس: الدرك له أصلٌ واحد (أي معنى واحد) وهو لحوق الشي ء بالشي ء ووصوله إليه، يقال: أدركت الشي ء أُدركه إدراكاً، ويقال: أدرك الغلام والجارية إذا بلغا، وتدارك القوم: لحق آخرُهم أوّلهم، فأمّا قوله تعالى: بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ «(1)»
فهو من هذا، لأن علمهم أدركهم في الآخرة حين لم ينفعهم «(2)».
وقال ابن منظور مثله، وأضاف: ففي الحديث «أعوذ بك من درك الشقاء» أي لحوقه، يقال: مشيتُ حتى أدركتهُ، وعشتُ حتى أدركتُه، وأدركتُه ببصري أي رأيته «(3)».
إذا كان الدرك بمعنى اللحوق والوصول فله مصاديق كثيرة، فالإدراك بالبصر التحاق من الرائي بالمرئي بالبصر، والإدراك بالمشي، كما في قول ابن منظور:
مشيت حتّى أدركته، التحاق الماشي بالمتقدّم بالمشي، وهكذا غيره.
فإذا قال سبحانه: لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يتعيّن ذلك المعنى الكلي (اللحوق والوصول) بالرؤية، ويكون معنى الجملة أنه سبحانه تفرّد بهذا الوصف وتعالى عن الرؤية دون غيره.
ص:636
أنه سبحانه لما قال: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ ربما يتبادر إلى بعض الأذهان أ نّه إذاصار وكيلًا على كلّ شي ء، يكون جسماً قائماً بتدبير الأُمور الجسمانية، لكن يدفعه بأنه سبحانه مع كونه وكيلًا على كلّ شي ء لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ.
وعندما يتبادر من ذلك الوصف إلى بعض الأذهان أنه إذا تعالى عن تعلّق الأبصار فقد خرج عن حيطة الأشياء الخارجية وبطل الربط الوجودي الّذي هو مناط الإدراك والعلم بينه وبين مخلوقاته، يدفعه قوله: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ثم تعليله بقوله: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ و «اللطيف» هو الرقيق النافذ في الشي ء و «الخبير» من له الخبرة الكاملة؛ فإذا كان تعالى محيطاً بكلّ شي ء؛ لرقّته ونفوذه في الأشياء، كان شاهداً على كلّ شي ء، لا يفقده ظاهر كلّ شي ء وباطنه، ومع ذلك فهو عالم بظواهر الأشياء وبواطنها من غير أن يشغله شي ء عن شي ء أو يحتجب عنه شي ء بشي ء.
وبعبارة أُخرى أن الأشياء في مقام التصوّر على أصناف:
1- ما يَرى ويُرى كالإنسان.
2- ما لا يَرى ولا يُرى كالأعراض النسبية مثل الأُبوّة والبنوّة.
3- ما يُرى ولا يَرى كالجمادات.
4- ما يَرى ولا يُرى وهذا القسم تفرّد به خالق جميع الموجودات بأنّه يَرى ولا يُرى، والآية بصدد مدحه وثنائه بأنّه جمعَ بين الأمرين يَرى ولا يُرى لا بالشقّ الأوّل وحده نظير قوله سبحانه: فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ «(1)»
ودلالة الآية على أنّه سبحانه لا يُرى بالأبصار بمكان من الوضوح غير أن للرازي ومن لفّ لفّه تشكيكات نأتي بها مع تحليلها:
ص:637
الشبهة الأُولى:
أنّ الآية في مقام المدح؛ فإذا كان الشي ء في نفسه تمتنع رؤيته فلا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشي ء، أمّا إذا كان في نفسه جائز الرؤية ثم إنّه قدر على حَجب الأبصار عن رؤيته وعن إدراكه، كانت هذه القدرة الكاملة دالّة على المدح والعظمة، فثبت أن هذه الآية دالّة على أنّه جائز الرؤية حسب ذاته «(1)».
إنّ هذا التشكيك يحطّ من مقام الرازي، فهو أكثر عقلية من هذا التشكيك، وذلك لأنّه زعم أن المدح بالجملة الأُولى، أعني قوله سبحانه: لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وغفل عن أنّ المدح بمجموع الجزأين المذكورين في الآية، بمعنى أنّه سبحانه لعلوّ منزلته لا يُدرَك وفي الوقت نفسه يُدرِك غيره، وهذا ظاهر لمن تأمّل في الآية ونظيرها قوله سبحانه: يُطعِم ولا يُطعَم فهل يرضى الرازي بأنّه سبحانه يمكن له الأكل والطعم؟
الشبهة الثانية:
إنّ لفظ الأبصارصيغةُ جمعٍ دخل عليها الألف واللام فهو يفيد الاستغراق، فقوله: لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ بمعنى لا تراه جميع الأبصار، وهذا يفيدُ سلبَ العموم ولا يفيد عمومَ السلب «(2)».
يلاحظ عليه: أنّ المتبادر في المقام كما في نظائره هو عموم السلب أي لا يدركه أحد من ذوي الأبصار، نظير قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ «(3)»
وقوله سبحانه: فَإِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْكَافِرِينَ «(4)»
وقوله سبحانه: وَاللَّهُ لَا
ص:638
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ «(1)»
يقول الإمام عليّ عليه السلام: «الحمد للَّه الذي لا يبلُغُ مدحتهُ القائلون، ولا يُحصي نعماءه العادّون، ولا يؤدّي حقّه المجتهدون، الذي لا يُدركه بُعد الهِمم، ولا ينالُه غوصُ الفِطَن» «(2)»
.
فهل يحتمل الرازي في هذه الآيات والجمل سلب العموم وأنّه سبحانه لا يحبّ جميع المعتدين والكافرين والظالمين، ولكن يحبّ بعضَ المعتدين والكافرين والظالمين، أو أنّ بعض القائلين يبلغون مدحته ويحصون نعماءه.
وهذا دليل على أنّ الموقف المسبق للرازي هو الّذي دفعه لدراسة القرآن لأجل دعمه، وهو آفة الفهم الصحيح من الكتاب.
الشبهة الثالثة: الإدراك هو الإحاطة
إن هذه الشبهة ذكرها ابن حزم في فِصَله، والرازي في مفاتيح الغيب وابن قيّم في كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح «(3)»، وقد أسهبوا الكلام في تطوير الشبهة، ولا يسع المقام لنقل عباراتهم كلها، وإنّما نشير إلى المهم من كلماتهم.
وبما أن الأساس لكلام هؤلاء هو ابن حزم الظاهري نذكر نصّ كلامه أوّلًا.
قال: إنّ الإدراك في اللغة يفيد معنى زائداً عن النظر، وهو بمعنى الإحاطة، وليس هذا المعنى في النظر والرؤية، فالإدراك (الإحاطة) منتفٍ عن اللَّه تعالى على كلّ حال في الدنيا والآخرة، والدليل على ذلك قوله سبحانه: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي
ص:639
سَيَهْدِينِ «(1)»
، ففرّق اللَّه عزّ وجلّ بين الإدراك والرؤية فرقاً جليّاً؛ لأنّه تعالى أثبت الرؤية بقوله: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ، وأخبر تعالى بأنّه رأى بعضهم بعضاً فصحّت منهم الرؤية لبني إسرائيل، ولكن نفى اللَّه الإدراك بقول موسى عليه السلام لهم:
كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ، فأخبر تعالى أنّه رأى أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركوهم، ولا شكّ في أنّ ما نفاه اللَّه تعالى غير الّذي أثبته، فالإدراك غير الرؤية والحجّة لقولنا قول اللَّه تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إلى رَبِّها ناظِرَة «(2)» «(3)»
.
يلاحظ عليه: أنّ الشبهة تعرب عن أنّصاحبها لم يقف على كيفية الاستدلال بالآية على نفي الرؤية، فزعم أنّ أساسه هو كون الإدراك في اللغة بمعنى الرؤية، فردّ عليه بأنّه ليس بمعنى الرؤية، بشهادة أنّه سبحانه جمع في الآية بين إثبات الرؤية ونفي الدرك، ولكنّه غفل عن أنّ مبدأ الاستدلال ليس ذلك، وقد قلنا سابقاً: إنّ الإدراك في اللغة بمعنى اللحوق والوصول وليس بمعنى الرؤية ابتداءً، وإنما يتعيّن في النظر والرؤية حسب المتعلّق، ولأجل ذلك لو جرّد عن المتعلّق- كما في الآية- لا يكون بمعنى الرؤية، ولذلك جمع فيها بين الرؤية ونفي الدرك؛ لأنّ الدرك هناك بحكم عدم ذكر المتعلّق كالبصر، بمعنى اللحوق والوصول، فقد وقع الترائي بين الفريقين، ورأى فرعون وأصحابه بني إسرائيل، ولكن لم يدركوهم أي لم يلحقوهم.
وعلى ضوء ذلك إذا جرّد عن المتعلّق مثل البصر والسمع يكون بمعنى اللحوق، وإذا اقترن بمتعلّق مثل البصر يتعيّن في النظر والرؤية، لكن على وجه الإطلاق من غير تقيّد بالإحاطة.
ص:640
فبطل قوله: بأنّ الادراك يدلّ على معنى زائد على النظر وهو الإحاطة، بل الإدراك مجرّداً عن القرينة لا يدلّ على الرؤية أبداً، ومع اقتران القرينة ووجود المتعلّق يدلّ على الرؤية والنظر على وجه الإطلاق من غير نظر إلى الفرد الخاص من الرؤية.
وبذلك يظهر أن ما أطنب به الرازي في كلامه لا يرجع إلى شي ء، حيث قال: لا نسلّم أنّ إدراك البصر عبارة عن الرؤية، بل هو بمعنى الإحاطة، فالمرئي إذا كان له حدّ ونهاية وأدركه البصر بجميع حدوده وجوانبه ونهاياتهصار كأنّ ذلك الإبصار إحاطة به فسمّى هذه الرؤية إدراكاً، أمّا إذا لم يحط البصر بجوانب المرئي لم تسمّ تلك الرؤية إدراكاً، فالحاصل أنّ الرؤية جنس تحتها نوعان: رؤية مع الإحاطة، ورؤية لا مع الإحاطة، والرؤية مع الإحاطة هي المسماة بالإدراك؛ فنفي الإدراك يفيد نفيَ نوع واحد من نوعي الرؤية، ونفي النوع لا يوجب نفي الجنس، فلم يلزم من نفي الإدراك عن اللَّه تعالى نفي الرؤية عنه.
ثمّ قال: فهذا وجه حسن مقبول في الاعتراض على كلام الخصم «(1)».
ويلاحظ عليه بأنّ ما ذكره الرازي كان افتراءً على اللغة للحفاظ على المذهب، وهذا أشبه بتفسير القرآن بالرأي، ولولا أنّ الرازي من أتباع المذهب الأشعري لما تجرّأ بذلك التصرّف.
ونحن بدورنا نسأله: ما الدليل على أنّ الادراك إذا اقترن بالبصر يكون بمعنى الإدراك الإحاطي، مع أنّنا نجد خلافه في الأمثلة التالية، نقول: أدركت طعمهُ أو ريحهُ أوصوتهُ، فهل هذه بمعنى أحطنا إحاطة تامّة به، أو أنه بمعنى مجرّد الدرك بالأدوات المذكورة من غير اختصاص بصورة الإحاطة؟ مثل قولهم أدرك الرسول، فهل هو بمعنى الإحاطة بحياته، أو يراد منه إدراكه مرّة أو مرّتين؟ ولم
ص:641
يفسّره أحد من أصحاب المعاجم بما ذكره الرازي.
وحاصل الكلام: أنّ اللفظة إذا اقترنت ببعض أدوات الإدراك كالبصر والسمع يحمل المعنى الكلّي، أي اللحوق والوصول- على الرؤية والسماع- سواء كان الإدراك على وجه الإحاطة أو لا، وأما إذا تجرّدت اللفظة عن القرينة تكون بمعنى نفس اللحوق، قال سبحانه: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ «(1)»
ومعنى الآية: حَتَّى إِذَا لَحِقَهُ الْغَرَقَ ورأى نفسه غائصاً في الماء استسلم وقال: آمَنْتُ ....
وقال سبحانه: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَاتَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى «(2)»
، أي لا تخاف لحوق فرعون وجيشه بك وبمن معك من بني إسرائيل.
وقال سبحانه: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ «(3)»
فأثبت الرؤية ونفى الدرك، وما ذلك إلّالأنّ الإدراك إذا جُرّد عن المتعلّق لا يكون بمعنى الرؤية بتاتاً، بل بمعنى اللحوق.
نعم إذا اقترن بالبصر يكون متمحّضاً في الرؤية من غير فرق بين نوعٍ ونوع، وتخصيصه بالنوع الإحاطي- لأجل دعم المذهب- افتراءٌ على اللغة.
ص:642
قال سبحانه: يَوْمَئِذٍ لَاتَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا* يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً «(1)»
.
إنّ الآية تتركّب من جزأين:
الأوّل: قوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ.
الثاني: قوله: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً.
والضمير المجرور في قوله: بِهِ يعود إلى اللَّه سبحانه.
اللَّه يحيطُ بهم لأنّه يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ويكون معادلًا لقوله:
وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ولكنّهم لَايُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً. ويساوي قوله: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ.
وأمّا كيفية الاستدلال فبيانُها أنّ الرؤية سواء أوَقعت على جميع الذات أم على جزئها، فهي نوع إحاطةٍ علميّة من البشر به سبحانه، وقد قال: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً.
ولكن الرازي لأجل التهرّب من دلالة الآية على امتناع رؤيته سبحانه قال:
بأنّ الضمير المجرور يعود إلى قوله: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ أي لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم، واللَّه سبحانه محيطٌ بما بينَ أيديهم وما خلفَهم.
أقول: إنّ الآية تحكي عن إحاطته العلمية سبحانه يوم القيامة بشهادةِ ما قبلَها: يَوْمَئِذٍ لَاتَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا، وعندئذٍ
ص:643
يكون المراد من الموصول في قوله سبحانه: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِم هو الحياة الأُخروية الحاضرة، وقوله سبحانه: وَمَا خَلْفَهُمْ هو الحياة الدنيوية الواقعة خلف الحياة الأُخروية، وحينئذٍ لو رجع الضمير في قوله: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً إلى الموصولين يكون مفادُ الآية عدم إحاطة البشر بما يجري في النشأتين، وهو أمر واضح لا حاجة إلى التركيز عليه، وهذا بخلاف ما إذا رجع إلى «اللَّه»؛ فستكون الآية بصدد التنزيه، ويكون المقصود أنّ اللَّه يحيط بهم علماً وهؤلاء لا يحيطون كذلك، على غرار سائر الآيات.
ص:644
قال سبحانه: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلكِن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسىصَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ «(1)»
. لقد استدلّ- بهذه الآية- كلٌّ من النافي والمثبت، رُغْم أنْ ليس لها إلّامدلول واحد، فكان بين القولين تناقض واضح.
ومردّ ذلك إلى أنّ أحد المستدلّين لم يتجرّد عن هواه حينما استدلّ بالآية، وإنّما ينظر إليها ليحتجّ بها على ما يتبنّاه، وهذا من قبيل التفسير بالرأي الّذي نهى النبيّصلى الله عليه و آله عنه بالخبر المتواتر، وبالتالي قلّ من نظر إليها بموضوعية خالية عن كلّ رأي مسبق.
لا شكّ أنّنا إذا عرضنا الآية على عربيصميم لم يتأثّر ذهنه بالمناقشات الكلامية الدائرة بين النافين والمثبتين، وطلبنا منه أنْ يبيّن الإطار العام للآية ومفادهاومنحاها، وهل هي بصدد بيان امتناع الرؤية أو جوازها؟ فسيجيب بصفاء ذهنه بأنّ الإطار العام لها هو تعاليه سبحانه عن الرؤية، وأنّ سؤاله أمر عظيم فظيع لا يُمحى أثره إلّابالتوبة، فسيكون فهم ذلك العربي حجّة علينا لا يجوز لنا العدول عنها، والقرآن نزل بلسانٍ عربيّ مبين ولم ينزل بلسان المتكلّمين أو المجادلين.
كما أنّنا إذا أردنا أن نُفسّر مفاد الآية تفسيراًصناعياً؛ فلا شكّ أنه يدلّ أيضاً على تعاليه عنها، وذلك لوجوه:
ص:645
1- الإجابة بالنفي المؤبد:
لمّا سأل موسى رؤية اللَّه تبارك وتعالى أُجيب ب لَنْ تَرَانِي، والمتبادر من هذه الجملة أي قوله: لَنْ تَرَانِي هو النفي الأبديّ الدالّ على عدم تحقُّقها أبداً.
والدليل على ذلك هو تتبّع موارد استعمال كلمة «لن» في الذكر الحكيم، فلا تراها متخلّفة عن ذلك ولو في مورد واحد:
1- قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ «(1)»
.
2- إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «(2)»
.
3- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «(3)»
.
4- سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «(4)»
.
5- وَلَنْ تَرَضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ «(5)»
.
6- فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً «(6)»
.
إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ «لن» تفيد التأبيد.
وربّما نوقش في دلالة لَنْ على التأبيد مناقشة ناشئة عن عدم الوقوف الصحيح على مقصود النحاة من قولهم «لن» موضوعة للتأبيد، ولتوضيح مرامهم
ص:646
نذكر أمرين ثمّ نعرض المناقشة عليهما:
1- إنّ المراد من التأبيد ليس كونُ المنفي ممتنعاً بالذات، بل كونه غير واقع، وكم فرق بين نفي الوقوع ونفي الإمكان، نعم ربّما يكون عدم الوقوع مستنداً إلى الاستحالة الذاتية.
2- إنّ المراد من التأبيد هو النفي القاطع، وهذا قد يكون غير محدّد بشي ء وربّما يكون محدّداً بظرفٍ خاص، فيكون معنى التأبيد بقاء النفي بحاله مادام الظرف باقياً.
إذا عرفت الأمرين تقف على وهن ما نقله الرازي عن الواحدي من أنّه قال:
ما نُقل عن أهل اللغة أنّ كلمة «لن» للتأبيد دعوى باطلة، والدليل على فساده قوله تعالى في حقّ اليهود: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ «(1)»
قال: وذلك لأنّهم يتمنّون الموت يوم القيامة بعد دخولهم النار، قال سبحانه: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ «(2)»
فإنّ المراد من لِيَقْضِ عَلَيْنَا هو القضاء بالموت «(3)».
ووجه الضعف ما عرفت من أنّ التأبيد على قسمين: غير محدّد، ومحدّد بإطار خاصّ، ومن المعلوم أنّ قوله سبحانه: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ ناظر إلى التأبيد في الإطار الّذي اتّخذه المتكلّم ظرفاً لكلامه وهو الحياة الدنيا، فالمجرمون ما داموا في الحياة الدنيا لا يتمنّون الموت أبداً، لعلمهم بأنّ اللَّه سبحانه بعد موتهم يُقدّمهم للحساب والجزاء، ولأجل ذلك لا يتمنّونه أبداً قطّ.
وأمّا تمنّيهم الموت بعد ورودهم العذاب الأليم فليس داخلًا في مفهوم الآية
ص:647
الأُولى حتى يُعدّ التمنّي مناقضاً للتأبيد.
ومن ذلك يظهر وهن كلام آخر وهو: أنه ربّما يقال: إنّ «لن» لا تدلّ على الدوام والاستمرار بشهادة قوله: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِصَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً «(1)»
إذ لو كانت لَنْ تفيد تأبيد النفي لوقع التعارض بينها وبين كلمة الْيَوْمَ لأنّ اليوم محدّد معيّن، وتأبيد النفي غير محدّد ولا معيّن، ومثله قوله سبحانه على لسان ولد يعقوب: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي «(2)»
حيث حدّد بقاءه في الأرض بصدور الإذن من أبيه «(3)».
وجه الوهن: أنّ التأبيد في كلام النحاة ليس مساوياً للمعدوم المطلق، بل المقصود هو النفي القاطع الّذي لا يشق، والنفي القاطع الّذي لا يكسر ولا يشقّ على قسمين:
تارةً يكون الكلام غير محدّد بظرف خاص ولا تدلّ عليه قرينة حالية ولا مقالية فعندئذٍ يساوق التأبيدَ المعدوم المطلق.
وأُخرى يكون الكلام محدّداً بزمان حسب القرائن اللفظية والمثالية، فيكون التأبيد محدّداً بهذا الظرف أيضاً، ومعنى قول مريم: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً «(4)»
هو النفي القاطع في هذا الإطار، ولا ينافي تكلّمها بعد هذا اليوم.
والحاصل: أنّ ما أُثير من الإشكال في المقام ناشئ من عدم الإمعان فيما ذكرنا من الأمرين؛ فتارةً حسبوا أنّ المراد من التأبيد هو الاستحالة فأوردوا بأنّه ربّما يكون المدخول أمراً ممكناً كما في قوله: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً «(5)»
، وأُخرى
ص:648
حسبوا أنّ التأبيد يلازم النفي والمعدوم المطلق، فناقشوا في الآيات الماضية الّتي لم يكن النفي فيها نفياً مطلقاً، ولو أنّهم وقفوا على ما ذكرنا من الأمرين لسكتوا عن هذه الاعتراضات.
وبما أنّه سبحانه لم يتّخذ لنفي رؤيته ظرفاً خاصاً، فسيكون مدلوله عدم تحقّق الرؤية أبداً لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة.
والحاصل: أنّ الآيةصريحة في عدم احتمال الطبيعة البشرية لذلك الأمر الجلل، ولذلك أمره أنْ ينظر إلى الجبل عند تجلّيه، فلما اندكّ الجبل خرّ موسى مغشيّاً عليه من الذُّعْرِ، ولو كان عدم الرؤية مختصاً بالحياة الدنيا لما احتاج إلى هذا التفصيل، بل كان في وسعه سبحانه أن يقول: لا تراني في الدنيا ولكن تراني في الآخرة؛ فاصبر حتّى يأتيك وقته، والإنسان مهما بلغ كمالًا في الآخرة فهو لا يخرج عن طبيعته التي خُلق عليها، وقد بيّن سبحانه أنّه خلق ضعيفاً.
2- تعليق الرؤية على أمر غير واقع:
علّق سبحانه الرؤية على استقرار الجبل وبقائه على الحالة التي كان عليها عند التجلّي، وعدم تحوّله إلى ذرّات ترابيةصغار بعده، والمفروض أنه لم يبقَ على حالته السابقة، وبطلت هويّته، وصارت تراباً مدكوكاً، فإذا انتفى المعلّق عليه (بقاء الجبل على حالته) ينتفي المعلّق، وهذا النوع من التعليق في كلامهم، طريقة معروفة حيث يعلِّقون وجود الشي ء على ما يعلم عدم وقوعه وتحقّقه، واللَّه سبحانه بما أنّه يعلم أنّ الجبل لا يستقر في مكانه- بعد التجلّي- فعلّق الرؤية على استقراره؛ لكي يستدلّ بانتفائه على انتفائه، قال سبحانه: وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ «(1)»
ص:649
والحاصل: أنّ المعلّق عليه هو وجودُ الاستقرار بِغَضّ النظرِ عن كونهِ أمراً ممكناً أو مستحيلًا، والمفروض أنّه لا يستقرّ، فبانتفائه ينتفي ما علّق عليه وهو الرؤية.
وبالإمعان فيما ذكر تستغني عن جلّ ما ذكره المتكلّمون من المعتزلة والأشاعرة حول المعلّق عليه «(1)».
ولإراءة نموذج من كلامهم نأتي بما ذكره الرازي، قال: إنّه تعالى علّق رؤيته على أمر جائز، والمعلّق على الجائز جائز، فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة بدليل قوله: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي «(2)»
واستقرار الجبل أمرٌ جائزُ الوجود في نفسه، فثبت أنه تعالى علّق رؤيته على جائز الوجود في نفسه... «(3)».
ويلاحظ على كلامه أنّ المعلّق عليه ليس إمكانُ الاستقرار وكونه أمراً ممكناً مقابل كونه أمراً مُحالًا عليه حتّى يكون أمراً حاصلًا ويلزم منه وجود المعلّق، أعني الرؤية، مع أنّ المفروض عدمها، بل المعلّق عليه بقاء الجبل على ما كان عليه؛ إذ لو كان المعلّق عليه إمكان الاستقرار يلزم نقض الغرض وتحقّق الرؤية لموسى عليه السلام بل المعلّق عليه هو بقاء الجبل على حالته الّتي كان عليها حين التكلّم، والمفروض أنّه لم يبقَ عليها، بل دُكَّ وصار تراباً مستوياً بالأرض، فبانتفائه انتفى المعلَّق، أعني:
الرؤية.
3- تنزيهه سبحانه بعد الإفاقة عن الرؤية:
تذكر الآية أنّ موسى لما أفاق فأوّلُ ما تكلّم به هو تسبيحه سبحانه وتنزيهه
ص:650
وقال: سُبْحَانَكَ وذلك لأنّ الرؤية لا تنفكّ عن الجهة والجسمية وغيرهما من النقائص، فنزّه سبحانه عنها، فطلبها نوع تصديق لها.
ومن مصاديق التفسير بالرأي ما ربّما يقال: إنّ المراد- من التنزيه هنا- هو تنزيه اللَّه وتعظيمه وإجلاله عن أنْ يتحمّل رؤيته مَنْ كتب عليه الفناء، حتى لا يتعارض مع ما ورد من إثبات الرؤية عن اللَّه ورسوله في دار الآخرة، وليست الرؤية من النقائص على ما يدّعيه نفاتها، فهي ليست نقصاً في المخلوق، بل هي كمال، وكلّ كمال اتّصف به المخلوق وأمكن أنْ يتّصف به الخالق فالخالق أولى «(1)».
يلاحظ عليه: بأنّه من أين وقف على اختصاص النفي بمن كتب عليه الفناء، مع إطلاق الآية، ولماذا لا يجعل الموضوع لعدم تحمّلها الوجود الإمكاني القاصر المحفوظ في كلتا الدارين.
وما ذكره في آخر كلامه من أنّ كلّ كمال اتّصف به المخلوق وأمكن أن يتّصف به الخالق فالخالق أولى بهصحيح من حيث الضابطة والقانون، لكنّه باطل من حيث التطبيق على المورد؛ فإنّ ما يوصف به المخلوق على قسمين: فمنه ما يكون كمالًا له ككونه عالماً قادراً حيّاً سميعاً بصيراً، فاللَّه أولى بأن يوصف به، ومنه ما لا يكون كمالًا له ككونه مرئياً للغير، فلا يوصف به سبحانه، ولو افترضنا كونه كمالًا للأوّل، لكنّه يكون موجباً للنقص في الثاني لاستلزامه التجسيم والتشبيه والجهة والحاجة إلى المكان، تعالى اللَّه عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
وكان الأولى للكاتب وأشباهه أن لا يخوضوا في غمار هذه المسائل التي تحتاج إلى قدر كبير من التفكّر والعناية الخاصّة.
إذا لم تستطع أمراً فدعهُ وجاوِزْهُ إلى ما تستطيعُ
4- توبته لأجل طلب الرؤية:
إنّ موسى عليه السلام بعدما أفاق، أخذ بالتنزيه أولًا، والتوبة والإنابة إلى ربّه ثانياً، وظاهر الآية أنه تاب من سؤاله، كما أنّ الظاهر من قوله: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أنّه أوّل المصدّقين بأنه لا يرى بتاتاً.
وللباقّلاني (ت 403 ه) أحد دعاة مذهب الإمام الأشعري كلامٌ في تفسير التوبة، أشبه بالتفسير بالرأي، قال:
يحتمل أنّ موسى تاب لأجل أنّه ذكر ذنوباً له قد قدّم التوبة منها، فجدّد التوبة عند ذكرها لهول ما رأى، أو تاب من ترك استئذانه منه سبحانه في هذه المسألة العظيمة «(2)».
لكن كلّ ما ذكره وجوه لا يتحمّلها ظاهر الآية، وإنّما تورّط فيها لأجل دعم المذهب، وهذا هو الذي ندّد به النبيّ الأكرم قائلًا: «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار» «(3)»
، ومثله قول الرازي في تفسير قوله: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنّه لا يراك أحدٌ في الدنيا، أو أوّل المؤمنين بأنّه لا يجوز السؤال منك إلّابإذنك «(4)».
قد تقدّم أنّ الآية استدلّ بها النافون والمثبتون، وقد تعرّفت على استدلال النافين، وليس استدلال المثبتين للرؤية استدلالًا علمياً، وإنّما يرجع محصّل
ص:651
ص:652
كلامهم إلى إبداء شبهتين هما:
إنّ الآية دالّة على أنّ موسى عليه السلام سأل الرؤية، ولا شكّ في كون موسى عليه السلام عارفاً بما يجب ويجوز ويمتنع على اللَّه تعالى، فلو كانت الرؤية ممتنعة على اللَّه تعالى لما سألها، وحيث سألها علمنا أنّ الرؤية جائزة على اللَّه تعالى «(1)».
والاستدلال بطلب موسى إنّما يكون متقناً إذا تبيّن أنه عليه السلام طلبها باختيار ومن غير ضغط من قومه، فعندئذٍ يصلح للتمسّك به ظاهراً، وأنّى للمستدلّ إثبات ذلك، مع أنّ القرائن تشهد على أنّه سأل الرؤية على لسان قومه حيث كانوا مصرّين على ذلك على وجه يأتي بيانه، وتوضيحه يتوقّف على بيان أُمور:
1- أنّه سبحانه ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية أولًا «(2)».
2- أنّه سبحانه أتْبعها بذكر قصة العجل وما دار بين موسى وأخيه وقومه ثانياً «(3)».
3- ثمّ نقل اختيار موسى من قومه سبعين رجلًا لميقاته سبحانه وقال:
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةَ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ «(4)»
.
والإجابة الحاسمة تتوقّف على توضيح أمر آخر وهو: هل كان سؤال موسى
ص:653
الرؤية مستقلًا عن طلب القوم الرؤية، أم لاصلة له بطلبهم؟ من غير فرق بين القول بوقوع الطلبين في زمان واحد أو زمانين، بل المهم، وجود الصلة بين السؤالين، وكون الثاني من توابع السؤال الأوّل.
والظاهر بل المقطوع به هو الأوّل، ويدلّ على ذلك أمران:
الأوّل: سياق الآيات ليس دليلًا قطعياً
إنّ ذهاب موسى بقومه إلى الميقات كان قبل تحقُّق قصّة العجل، لقوله سبحانه: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذلِكَ «(1)»
، فإنّ تخلّل لفظة «ثم» حاك عن تأخّرها عن الذهاب، ومع ذلك كلّه فقد جاء ذكر ذهابهم إلى الميقات في سورة الأعراف بعد ذكر قصة العجل، وهذا لو دلّ على شي ء فإنّما يدلّ على أنّ السياق ليس دليلًا قطعياً لا يجوز مخالفته، فكما جاز تأخير المتقدّم وجوداً في مقام البيان فكذلك يجوز تكرار ما جاء في أثناء القصة في آخره لنكتة سنوافيك بها.
فما نقله الرازي عن بعضهم من أنّهم خرجوا إلى الميقات ليتوبوا عن عبادة العجل فقالوا في الميقات: أَعْطِنَا مَا لَمْ تُعطِهِ أَحَداً قَبْلنَا... «(2)» ليس بشي ء، وقد عرفت تصريح الآية على تقدّم سؤالهم الرؤية على عبادته.
الثاني: استقلال السؤالين غير معقول
إنّ لاحتمال استقلال السؤالينصورتين:
الاولى: أن يتقدّم موسى بسؤال اللَّه الرؤية لنفسه ثمّ يَحدث ما حدث، من
ص:654
خرورهصعقاً وإفاقته وإنابته، ثمّ إنّه بعدما سار بقومه إلى الميقات سأله قومه أن يُرِي اللَّه لهم جهرة، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون.
الثانية: عكس الصورة الأُولى؛ بأن يسير موسى بقومه إلى الميقات ثمّ يسألونه رؤية اللَّه جهرة فيحدث ما حدث ثمّ هو في يوم آخر أو بعد تلك الواقعة يسأل الرؤية لنفسه فيُخاطب بقوله: لَنْ تَرَانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ «(1)»
.
إنّ العقل يحكم بامتناع كلتا الصورتين عادة حسب الموازين العادية.
أمّا الأُولى، فلو كان موسى متقدّماً في السؤال وسمع من اللَّه ما خاطبه به بقوله لَنْ تَرَانِي كان عليه أن يذكّر قومه بعواقبِ السؤال، وأنّه سألها ربّه ففوجئ بالغشيان، مع أنّه لم يذكرهم بشي ء مما جرى عليه حين طلبهم، ولو ذكّرهم لما سكت عنه الوحي.
أمّا الثانية: فهو كذلك؛ لأنّه لو كان قد تقدّم سؤال قومه الرؤية وقد شاهد موسى ما شاهد حيث اعتبر عملهم سفهياً فلا يصحّ في منطق العقل أن يطلب الكليم ذلك لنفسه بعد ذلك مستقلًا.
وكل ذلك يؤكد عدم وجود ميقاتين ولا لقاءين ولا سؤالين مستقلّين، وإنّما كان هناك ميقات واحد ولقاء واحد وسؤالان بينهما ترتّب وصلة، والدافع إلى السؤال الثاني هو نفس الدافع إلى السؤال الأوّل، وعندئذٍ لا يدلّ سؤال موسى الرؤية على كونها أمراً ممكناً لاندفاعه إلى السؤال من قبل قومه.
وتوضيح ذلك: أنّ الكليم لمّا أخبر قومه بأنّ اللَّه كلّمه وقرّبه وناجاه، قال قومه: لن نؤمن بك حتى نسمع كلامه كما سمعتَ، فاختار منهم سبعين رجلًا لميقاته وسأله سبحانه أن يكلِّمه، فلمّا كلّمه اللَّه وسمع القوم كلامه قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظلمهم، وإلى هذه الواقعة تشير
ص:655
الآيات التالية:
1- وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ «(1)»
.
2- وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ «(2)»
.
3- يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ «(3)»
.
4- وَاخْتَارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ «(4)»
.
إلى هذه اللحظة الحساسة لم يتكلّم موسى عليه السلام حول الرؤية ولم ينبس بها ببنت شفة ولم يطلب شيئاً، وإنّما طلب منه سبحانه أن يحييهم حتى يدفع عن نفسه اعتراض قومه إذا رجع إليهم، وهو القائل: قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ.
فلو كان هناك سؤال فإنّما كان بعد هذه المرحلة وبعد إصابة الصاعقة السائلين، وعودتهم إلى الحياة بدعاء موسى، وعندئذٍ نتساءل هل يصح للكليم أن يطلب السؤال لنفسه وقد رأى بأُمّ عينيه ما رأى؟ كلا، وكيف يصحّ له أن يسأله وقد
ص:656
وصف السؤال بالسفاهة، فلم يبق هناك إلّااحتمال آخر؛ وهو أ نّه بعدما عاد قومه إلى الحياة أصرّوا على موسى وألحّوا عليه أن يسأل الرؤية لنفسه لا لهم، حتّى تحلّ رؤيته للَّه مكان رؤيتهم، فيؤمنوا به بعد إخباره بالرؤية «(1)»، وهذا هو المعقول والمرتقب من قوم موسى الّذين عرفوا بالعناد واللجاج، وبما أنّ موسى لم يُقْدِم على السؤال إلّابإصرارٍ منهم لكي يسكتهم، لذلك لم يتوجّه إلى الكليم أيُّ تَبِعة ولا مؤاخذة، بل خوطب بقوله: لَنْ تَرَانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي «(2)»
.
وللإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام هنا كلام حول سؤال موسى:
قال عليّ بن محمّد بن الجهم: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى عليهما السلام، فقال له المأمون: يا ابن رسول اللَّه أليس من قولك: أنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له: فما معنى قول اللَّه عزّ وجلّ: وَلَمَّا جَاءَ مُوسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي كيف يجوز أن يكون كليم اللَّه موسى بن عمران عليه السلام لا يعلم أنّ اللَّه- تعالى ذكره- لا تجوز عليه الرؤية حتّى يسأله هذا السؤال؟
فقال الرضا عليه السلام: «إنّ كليم اللَّه موسى بن عمران عليه السلام علم أنّ اللَّه تعالى عن أن يُرى بالأبصار، ولكنّه لما كلّمه اللَّه عزّ وجلّ وقرّبه نجيّاً، رجع إلى قومه فأخبرهم أنّ اللَّه عزّ وجلّ كلّمه وقرّبه وناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتّى نسمع كلامه كما سمعت، وكان القوم سبعمائة ألف رجل، فاختار منهم سبعين ألفاً، ثمّ اختار منهم سبعة آلاف ثمّ اختار منهم سبعمائة ثمّ اختار منهم سبعين رجلًا لميقات ربّه، فخرج بهم إلى طور سَيناءَ، فأقامهم في سفح الجبل، وصعد
ص:657
موسى عليه السلام إلى الطور وسأل اللَّه تبارك وتعالى أن يكلّمه ويسمعهم كلامه، فكلّمه اللَّه تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام؛ لأنّ اللَّه عزّ وجلّ أحدَثَه في الشجرة، ثمّ جعله منبعثاً منها حتّى سمعوه من جميع الوجوه، فقالوا: لن نؤمن لك بأنّ هذا الّذي سمعناه كلامُ اللَّه حتّى نرى اللَّه جهرةً، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث اللَّه عزّ وجلّ عليهمصاعقةً فأخذتهم بظلمهم فماتوا، فقال موسى: يا ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعتُ إليهم وقالوا: إنّك ذهبت بهم فقتلتهم؛ لأنّك لم تكنصادقاً فيما ادّعيت من مناجاة اللَّه إيّاك؟ فأحياهم اللَّه وبعثهم معه، فقالوا: إنّك لو سألت اللَّه أن يريك أن تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حقّ معرفته، فقال موسى عليه السلام: يا قوم إنّ اللَّه لا يُرى بالأبصار ولا كيفية له، وإنّما يعرف بآياته ويعلم بأعلامه، فقالوا: لن نؤمن لك حتّى تسأله، فقال موسى عليه السلام: يا ربّ إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحى اللَّه جلّ جلاله إليه: يا موسى اسألني ما سألوك فلن أُؤاخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسى عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكِ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ (بآية من آياته) جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسىصَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ (يقول: رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي) وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ منهم بأنّك لا تُرى».
فقال المأمون: للَّه درّك يا أبا الحسن، والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة «(1)».
وللزمخشري في المقام تفسير رائع قال: ما كان طلب الرؤية إلّاليبكت هؤلاء
ص:658
الّذين دعاهم سفهاء وضُلّالًا وتبرّأ من فعلهم، وذلك أنّهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحقّ، فلجّوا وتمادوا في لجاجهم، وقالوا لابدّ، ولن نؤمن حتّى نرى اللَّه جهرةً، فأراد أن يسمعوا النصّ من عند اللَّه باستحالة ذلك وهو قوله: لَنْ تَرَانِي ليتيقّنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة، فلذلك قال:
رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ «(1)»
.
وعلى كلّ تقدير فما ذكرهصاحب الكشّاف قريب ممّا ذكرناه، وكلا البيانين يشتركان في أنّ السؤال لم يكن بدافعٍ من نفس موسى، بل بضغط من قومه.
ولكن الرازي ناقش في هذه المقالة وقال:
ظاهر الحال يقتضي أنْ تكون هذه القصة مغايرة للقصة المتقدّمة؛ لأنّ الألْيَق بالفصاحة إتمام الكلام في القصّة الأُولى في وضع واحد ثمّ الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها، فأمّا ذكر بعض القصة (سؤال موسى الرؤية) ثمّ الانتقال منها إلى قصة أُخرى (اتّخاذ العجل ربّاً) ثمّ الانتقال منها بعد تمامها إلى بقيّة الكلام في القصة الأُولى (سؤال قوم موسى) يوجب نوعاً من الخَبْط والاضطراب، والأَولىصون كلام اللَّه تعالى عنه «(2)».
والجواب: أنّه سبحانه أخذ ببيان قصة مواعدة موسى ثلاثين ليلة من الآية 142 وختمها في الآية 155، فالمجموع قصة واحدة كسبيكة واحدة، ولكن سبب العود إلى ما ذكر في أثناء القصة في آخرها هو إبراز العناية بسؤال الرؤية باعتباره مسألة مهمّة في حياة بني إسرائيل.
فقد اتّضح ممّا ذكرنا عدم دلالة الآية على إمكان رؤيته سبحانه بطلب موسى.
ص:659
إنّ تجلّيه سبحانه للجبل هو رؤية الجبل له، فلمّا رآه (سبحانه) اندكّت أجزاؤه، فإذا كان الأمرُ كذلك ثبت أنه تعالى جائز الرؤية، وأقصى ما في الباب أنْ يقال:
الجماد جماد، والجماد يمتنع أن يَرى شيئاً، إلّاأن نقول لا يمتنع أن يقال: إنّه تعالى خلق في ذلك الجبل الحياة والعقل والفهم ثمّ خلق فيه الرؤية متعلّقة بذات اللَّه «(1)».
لكن يلاحظ على هذا الكلام: أنّ ما ذكره من رؤية الجبال للَّه تعالى مع افتراضه الحياة والعقل والفهم للجبل شي ء نسجه فكره، وليس في الآية أيّ دليل عليه، والحافز إلى هذه الفكرة هو الدفاع عن الموقف المسبق والعقيدة التي وَرِثها، وظاهر الآية أنّه سبحانه تجلّى للجبل وهو لم يتحمّل تجلّيه لا أنّه رآه وشاهده.
وأمّا التجلّي، فكما يحتمل أن يكون بالذات كذلك يحتمل أن يكون بالفعل، فمن لم يتحمّل تجلّيه بفعله وقدرته فالأولى أن لا يتحمّل تجلّيه بذاته، وعندئذٍ فمن المحتمل جداً أن يكون تجلّيه بآثاره وقدرته وأفعاله، فعند ذلك لا يدلّ أنّ تجلّيه للجبل كان بذاته.
أضِفْ إلى ذلك أنّ أقصى ما تُعطيه الآية هو الإشعار بذلك، لذا لا يمكن التمسك به وطرح الدلائل القاطعة عقلًا ونقلًا على امتناع رؤيته.
إلى هنا تمّ ما أردناه من دلالة الذكر الحكيم على امتناع الرؤية، وقد استنطقنا الآيات السالفة بوجه تفصيلي، وتعرّفت فيه على موقفه من الرؤية بالعيون والأبصار.
ص:660
دراسة أدلة المثبتين
استدلّ القائلون بجواز الرؤية بآيات متعدّدة والمهم فيها هو الآية الآتية، أعني قوله سبحانه: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ* وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ* وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ* وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ* تَظنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ «(1)»
يقول الشارح القوشجي في شرحه لتجريد الاعتقاد: إنّ النظر إذا كان بمعنى الانتظار يستعمل بغيرصلة ويُقال انتظرته، وإذا كان بمعنى التفكّر يستعمل بلفظة «في»، وإذا كان بمعنى الرأفة يستعمل بلفظة «اللام»، وإذا كان بمعنى الرؤية استعمل بلفظة «إلى»، فيحمل على الرؤية «(2)».
أقول: لقد طال الجدال حول ما هو المقصود من النظر في الآية، بين مثبتي الرؤية ونافيها، ولو أتينا بأقوالهم لطال بنا المقام، فإنّ المثبتين يُركّزون على أنّ
ص:661
الناظرة بمعنى الرؤية، كما أنّ نافيها يفسّرونها بمعنى الانتظار، مع أنّ تسليم كونه بمعنى الرؤية غير مؤثّر في إثبات مدّعيها كما سيظهر، والحقّ عدم دلالتها على جواز رؤية اللَّه بتاتاً، وذلك لأمرين:
الأول: أنّه سبحانه استخدم كلمة «وجوه» لا «عيون»، فقسم الوجوه إلى قسمين: وجوه ناضرة، ووجوه باسرة، ونسب النظر إلى الوجوه لا العيون، فلو كان المراد هو الرؤية لكان المتعيّن استخدام العيون بدل الوجوه، والعجب أنّ المستدلّ غفل عن هذه النكتة التي تحدّد معنى الآية وتخرجها عن الإبهام والتردّد بين المعنيين، وأنت لا تجد في الأدب العربي القديم ولا الحديث مورداً نسب فيه النظر إلى الوجوه وأُريد منه الرؤية بالعيون والأبصار، بل كلما أُريد منه الرؤية نُسب إليهما.
الثاني: لا نشكّ أنّ «الناظرة» في قوله إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ بمعنى الرائية، ونحن نوافق المثبتين بأنّ النظر إذا استعمل مع «إلى» يكون بمعنى الرؤية، لكن الّذي يجب أن نُلفت إليه نظر المستدلّ هو أنّه ربما يكون المعنى اللغوي ذريعة لتفهيم معنى كنائي، ويكون هو المقصود بالأصالة لا المدلول اللغوي، فلو قلنا: زيد كثير الرماد، فالجملة مستعملة في معناها اللغوي، ولكن كثرة الرماد مراد استعماليّ لا جِدّيّ، والمراد الجِدّي هو ما اتّخذ المعنى الاستعمالي وسيلة لإفهامه للمخاطب، والمراد هنا هو جوده وسخاؤه وكثرة إطعامه، فإذا قال الرجل: زيد كثير الرماد، فلا نقول: إنّ القائل أخبرنا عن كثرة الرماد في بيت زيد الذي يعدّ أوساخاً ملوثة لبيته، فيكون قد ذمّه دون أن يمدحه، بل يجب علينا أن نقول: بأنّه أخبر عن جوده وسخائه، والعبرة في النسبة المراد الجدي لا الاستعمالي، وهذه هي القاعدة الكلية في تفسير كلمات الفصحاء والبلغاء.
والآن سنوضح مفاد الآية ونبيّن ماهو المراد الاستعمالي والجدي فيها، وذلك
ص:662
لا يعلم إلّابرفع إبهام الآية بمقابلها، فنقول: إنّ هناك ست آيات تقابلها ثلاث، وهي كالآتي:
1- كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةِ يقابلها: وَتَذَرُونَ الْآخِرَة.
2- وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ يقابلها: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ.
3- إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ يقابلها: تَظنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ.
فلا شك أنّ الآيات الأربع الاول واضحة لا خفاء فيها، وإنّما الإبهام وموضع النقاش هو الشقّ الأوّل من التقابل الثالث، فهل المراد منه جدّاً هو الرؤية، أو أنّها كناية عن انتظار الرحمة؟ والّذي يعيّن أحد المعنيين هو الشقّ الثاني من التقابل الثالث، أعني: تَظنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ فهوصريح في أنّ أصحاب الوجوه الباسرة ينتظرون العذاب الكاسر لظهرهم، ويظنّون نزوله. وهذا الظن لا ينفكّ عن الانتظار، فكلّ ظانّ لنزول العذاب منتظر، فيكون قرينة على أنّ أصحاب الوجوه المشرقة ينظرون إلى ربّهم، أي يرجون رحمته، وهذا ليس تصرّفاً في الآيات ولا تأويلًا لها، وإنّما هو رفع الإبهام عن الآية بالآية المقابلة لها، وترى ذلك التقابل والانسجام في آيات أُخرى، غير أنّ الجميع سبيكة واحدة.
1- وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ يقابلها: ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ «(1)»
.
2- وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ يقابلها: تَرْهَقُهَا قَترَةٌ «(2)»
.
فإنّ قوله: ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ قائم مقام قوله: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ فيرفع إبهام الثاني بالأوّل.
3- وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ يقابلها: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ* تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً «(3)»
ص:663
4- وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ يقابلها: لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ* فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ «(1)»
.
أُنظر إلى الانسجام البديع، والتّقابل الواضح بينهما، والهدف الواحد، حيث الجميع بصدد تصنيف الوجوه يوم القيامة، إلى ناضر ومسفر، وإلى ناعم وباسر، وإلى أسود (غبرة) وخاشع.
أمّا جزاء الصنف الأوّل فهو الرحمة والغفران، وتحكيه الجمل التالية:
إلى ربّها ناظرة ضاحكة مستبشرة في جنةٍ عالية.
وأمّا جزاء الصنف الثاني فهو العذاب والابتعاد عن الرحمة، وتحكيه الجمل التالية:
تظنّ أن يفعل بها فاقرة ترهقها قترة، تصلى ناراً حامية.
أفبعْدَ هذا البيان يبقى شكّ في أنّ المراد من إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ هو انتظار الرحمة!! والقائل بالرؤية يتمسّك بهذه الآية، ويغضّ النظر عمّا حولها من الآيات، ومن المعلوم أنّ هذا من قبيل محاولة إثبات المدّعى بالآية، لا محاولة الوقوف على مفادها.
ويدلّ على ذلك أنّ كثيراً ما تستخدم العرب النظر بالوجوه في انتظار الرحمة أو العذاب، وإليك بعض ما ورد في ذلك:
وجوهٌ بها ليلُ الحجازِ على الهوى إلى ملكٍ كهفِ الخلائقِ ناظرَهْ
وجوهٌ ناظرات يومَ بدرٍ إلى الرحمنِ يأتي بالفلاحِ
فلا نشكّ أنّ قوله: وجوهٌ ناظرات بمعنى رائيات، ولكن النظر إلى الرحمن هو كناية عن انتظار النصر والفتح.
إنّي إليك لما وعدتَ لناظرٌ نظرَ الفقيرِ إلى الغني الموسرِ
فلا ريب أنّ اللفظين في الشعر وإن كانا بمعنى الرؤية، ولكن نظر الفقير إلى الغني ليس بمعنى النظر بالعين، بل الصبر والانتظار حتّى يعينه.
قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ «1»
، والمراد من قوله: لَايَنْظُرْ إِلَيْهِمْ هو طردهم عن ساحته وعدم شمول رحمته لهم وعدم تعطّفه عليهم، لا عدم مشاهدته إيّاهم؛ لأنّ رؤيته وعدمها ليس أمراً مطلوباً لهم حتى يهدّدوا بعدم نظره سبحانه إليهم، بل الذي ينفعهم هو وصول رحمته إليهم، والّذي يصحّ تهديدهم به هو عدم شمول لطفه لهم، فيكون المراد عدم تعطّفه إليهم، على أنّ تفسير قوله لَايَنْظُرْ إِلَيْهِمْ ب «لا يراهم» يستلزم الكفر، فإنّه سبحانه يرى الجميع وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ.
والحاصل: أنّ النظر إذا أُسند إلى العيون يكون المعنى بالمراد الاستعمالي والجدّي هو الرؤية على أقسامها، وإذا أُسند إلى الشخص كالفقير أو إلى الوجوه فيراد به الرؤية استعمالًا والانتظار جدّاً.
ثمّ إنّ لصاحب الكشاف هنا كلمةً جيدة، حيث يقول بهذا الصدد: يقال: «أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي» يريد معنى التوقّع والرجاء، ومن هذا القبيل قوله:
وإذا نظرت إليك من ملك والبحر دونك زدتني نِعَما
وقال: سمعت سروية مستجدية بمكّة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول: عُيينتي نويظرة إلى اللَّه وإليكم، تقصد راجية ومتوقّعة لإحسانهم إليها، كما هو معنى قولهم: أنا أنظر إلى اللَّه ثمّ إليك، وأتوقّع فضل اللَّه ثمّ فضلك «(2)».
ص:664
ص:665
خمس آيات على مائدة التفسير
اتّفق المحقّقون على أنّه لا يُستدلُّ بآية على عقيدة إسلامية إلّاإذا كانت الآية واضحة الدلالة جليّة المرمى؛ لما عرفت من أنّ المطلوب في باب العقائد هو الاعتقاد، وهو متوقّف على الإذعان، ولا يحصل إلّاإذا كان هناك سبب قطعي له.
وعلى ذلك الأصل، كان المرتقب من أصحاب القول بالرؤية التمسّك بما له ظهور على مدّعاهُم ولو كان ذلك الظهور بدائياً أو زائلًا حين التمعّن به، ولكن من المؤسف أنّنا نراهم يتمسّكون بما لا دلالة له على مدّعاهم، بل لاصلة بينه وبين القول بالرؤية، وعلى ذلك سنتناول في هذا الفصل هذا القسم من الآيات.
قَالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ «(1)»
ص:666
قال الرازي: اعلم أنّ موسى عليه السلام لمّا طلب الرؤية ومنعهُ اللَّه منها، عدّد اللَّهُ عليه وجوه نِعَمه العظيمة الّتي له عليه، وأمره أن يشتغلَ بذكرها كأنّه قال: إن كنتُ قد منعتُك الرؤية فقد أعطيتُك من النِعم كذا وكذا، فلا يضيقُصدرُك بسبب منع الرؤية، وانظر إلى سائر أنواع النعم الّتي خصصتُك بها، واشتغِل بشكرها، والمقصود تسلية موسى عليه السلام عن منع الرؤية، وهذا أيضاً أحد ما يدلُّ على أنّ الرؤية جائزةٌ على اللَّه تعالى؛ إذ لو كانت ممتنعة في نفسها لما كان إلى ذكر هذا القدر حاجة «(1)».
وقد تبعه إسماعيل البرسوي فقال في تفسير قوله وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ: أن اشكُر يبلغك إلى ما سألتَ من الرؤية؛ لأنّ الشكر يستدعي الزيادة، لقوله تعالى:
لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «(2)»
والزيادة هي الرؤية لقوله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيَادَةٌ «(3)»
، وقال عليه الصّلاة والسلام: «الزيادةُ هي الرؤية، والحسنى هي الجنّة» «(4)»
.
ومن المثبتين للرؤية من يستحسن مواقفَ المستدلّين بهذه الآية ويقول: إنّ الاستدلال بهذه الآية على الجواز قويّ؛ لأنّ اللَّه تعالى عدّد لموسى عليه السلام هذه النعم التي أنعم اللَّهُ بها عليه لما منعه من حصولٍ جائزٍ طلبه منه، فذكر ما ذكر تسليةً له، ولو منعه من ممتنع لكان بخطاب آخر، وذلك مثلُ خطابه تعالى لنوح: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ* قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ
ص:667
مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُصَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ «(1)»
.
وقوله تعالى لإبراهيم عليه السلام حين قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحيي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «(2)»
، والفرق بين خطاب اللَّه لموسى عليه السلام وبين خطابه لنوح وإبراهيم عليه السلام ظاهر «(3)».
وقد نقلنا كلام هؤلاء بالتفصيل ليقف القارئ على كيفية تمسّكهم بما لا دلالة له على مطلوبهم، والشاهد على ذلك أنّا لو عرضنا الآية على أيّ عربيّ مخاطب بالقرآن لا ينتقلُ ذهنه إلى ما يدّعون، ويرى أنّ إثبات الرؤية بها تحميل للنظرية على الآية وليس تفسيراً لها، وإليك نقاط الضعف في كلماتهم:
أمّا الرازي، فمن أين يدّعي أنّ الآية في مقام مواساة موسى لئلّا يضيقصدره بسبب منع الرؤية؟ لو لم نقل إنّ الآية وردت على خلاف ما يدّعيه، فإنّما وردت في مورد الامتنان على موسى وموعظة له أنْ يكتفي بما اصطفاه اللَّه به من رسالاته، وكلامه، ويشكره ولا يزيد عليه.
هذا هو الظاهر من الآية، ولا وجه لحمل الآية على كونها بصدد المواساة بعدماصدر من موسى في الآية المتقدّمة عليها قوله: سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ* قال يا موسى إنّي اصطفيتك على الناس.. «(4)»
فمقتضى ماصدر من موسى من تنزيهٍ وتوبةٍ وإيمانٍ بأنّه لا يُرى هو موعظته بالاكتفاء بما أُوتي ولا يزيد عليه، لا أن يعتذر سبحانه إليه ويواسيه بحرمانه رؤيته.
وأمّا ما ذكرهصاحب روح البيان فعجيب جدّاً؛ فإنّ استدلاله يتوقّف على أنّ المراد من «زيادة» في قوله سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ هو الرؤية؛
ص:668
وهذا أوّل الكلام، وسيوافيك أنّ المراد منها هي الزيادة على الاستحقاق، فانتظر حتّى يأتيك البيان.
وأمّا ما ذكره الدكتور تأييداً لما ذكره الرازي فَضَعْفُه واضح؛ لأنّ الآية ليست بصدد مواساته، وأمّا اختلاف الخطاب بينها وبين ما ورد في طلب نوح، هو أنّ طلب موسى لَمّا كان نتيجة ضغطٍ من قومه دون طلب نوح،صار الاختلاف في مبدأ الطلبين سبباً لاختلاف الخطابين، فخوطب نوح بخطاب عتابي دون موسى عليهما السلام، وإنْ كان العتاب على ترك الأَولى.
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ وَأُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ «(1)»
.
فقد فسّرت الحسنى بالجنّة، والزيادة بالنظر إلى وجه اللَّه الكريم، فقد روى مسلم فيصحيحه عنصهيب عن النبيّ قال: «إذا أُدخل أهل الجنّة قال اللَّه تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم، فيقولون: ألم تُبيِّض وجوهنا؟ ألم تُدخِلنا الجنّة وتُنْجِنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئاً أحبّ إليهم من التنظّر إلى ربّهم عزّ وجلّ».
وفي رواية ثمّ تلا: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيَادَةٌ «(2)»
.
إنّ القرآن الكريم كتاب عربي مبين وهو تبيان لكلّ شي ء، كما هو مقتضى قوله سبحانه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «(3)»
، وحاشا أن يكون تبياناً
ص:669
لكلّ شي ء ولا يكون تبياناً لنفسه، وسياق الآية يدلّ على أنّ المراد من الزيادة هو الزيادة على الاستحقاق، فقد جعل سبحانه الجزاء حقّاً للعامل- لكن بفضله وكرمه- وقال: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ «(1)»
، ثمّ جعل المضاعف منه حقّاً للعامل أيضاً، وهذا أيضاً بكرمه وفضله، وقال: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا «(2)»
. وبالنظر إلى هذه الآيات يتجلّى مفاد قوله سبحانه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى استحقاقاً للجزاء والمثوبة الحسنى وَزِيَادَةٌ على قدر الاستحقاق، قال سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «(3)»
.
وبغضّ النظر عمّا ذكرنا من تفسير الزيادةِ على الاستحقاق فإنّ ما بعدَ الآية قرينة واضحة على أنّ المراد من «زيادة» هو الزيادة على الاستحقاق، ومفاد الآيتين هو تعلّق مشيئته سبحانه على جزاء المحسنين بأكثر من الاستحقاق وجزاء المسيئين بقدر جرائمهم، قال سبحانه بعد هذه الآية: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ «(4)»
.
أفبعد هذا السياق الرافع للإبهام يصحُّ لكاتب عربي واعٍ أنْ يستدلّ بالآية على الرؤية!!
وبذلك يظهر عدم دلالة ما يشابه هذه الآية مدلولًا على مدّعاهم، قال
ص:670
سبحانه: أُدْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ* لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ «(1)»
فإنّ المراد أحد المعنيين، إمّا زيادة على ما يشاؤونه ما لم يخطر ببالهم ولم تبلغه أمانيُّهم، أو الزيادة على مقدار استحقاقهم من الثواب بأعمالهم.
أمّا مارواه مسلم فسيوافيك القضاء الحقّ عند البحث عن الرؤية في الروايات، وأنّ الآحاد في باب العقائد غير مفيدة، خصوصاً إذا كانت مضادّة للبرهان.
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً «(2)»
.
قال الرازي: فإنّ إحدى القراءات في هذه الآية في «ملكاً» بفتح الميم وكسر اللّام، وأجمع المسلمون على أنّ ذلك المَلِك ليس إلّااللَّه تعالى، وعندي أنّ التمسّك بهذه الآية أقوى من التمسّك بغيرها «(3)».
و قال الآلوسي عند تفسيرها: و قيل هو النظر إلى اللَّه عزّوجلّ، و قيل غير ذلك «(4)».
و يلاحظ على كلامه: أنّ المسائل العقائدية يستدلّ عليها بالأدلّة القطعية لا بالقراءات الشاذّة الّتي لا يحتجُّ بها على الحكم الشرعي فضلًا عن العقيدة، وسياق الآية يدلّ على أنه هو المُلْك- بضمّ الميم وسكون اللّام- وكأنّه سبحانه يقول: وإذا رميت ببصرك الجنّة رأيت نعيماً لا يوصف ومُلْكاً كبيراً لا يقدّر قدره.
والآية نظير قوله: فَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً «(5)»
ص:671
1- فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًاصَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «(1)»
.
2- وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ «(2)»
.
3- تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً «(3)»
.
4- وَقَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ «(4)»
.
وجه الاستدلال: أنّ الآيات تنسب اللقاء إلى اللَّه تعالى، ومقتضى الأخذ بالظاهر هو تحقّق اللقاء بالمشاهدة والمعاينة.
لكنّ هذا الاستدلال يلاحظ عليه: أنّ اللقاء كما أُضيف في هذه الآيات إليه سبحانه، كذلك أُضيف إلى غيره سبحانه في سائر الآيات، فتارةً أُضيف إلى لفظ الآخرة، قال سبحانه: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ «(5)»
وقال: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ «(6)»
، وأُخرى إلى لفظ «اليوم» قال سبحانه: يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ
ص:672
هذَا «(1)»
وقال سبحانه: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا «(2)»
.
وعلى ذلك يكون المراد من الجميع هو لقاء الناس يوم الجزاء، بمعنى حضور الناس في يوم القيامة للمحاسبة والمجازاة، إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ، وإنّما سُمِّي هذا بلقاء الرب أو لقاء اللَّه لما تعلّقت مشيئته على مجازاة المحسنين والمسيئين في ذلك اليوم، فبما أنّه سبحانه يجزي المحسن والمسي ء في ذلك اليوم فكأنّهم يلقونه سبحانه فيه لا قبله.
وفي نفس الآيات الّتي استدلّ بها على ذلك قرينة واضحة على أنَّ المراد من الآيات هو الحضور يوم القيامة؛ وهي أنّه سبحانه يأمر من يرجو لقاء الربّ بالعمل الصالح ويقول: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًاصَالِحاً «(3)»
، أي فليستعدّ لذلك اليوم بالعمل الصالح، كما أنّه في آية أُخرى يأمر بتقديم شي ء لهذا اليوم ويقول: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ «(4)»
، وذلك لأنّ مقتضى العلم بالحشر في ذلك اليوم والمحاسبة والمجازاة هو تقديم الأعمال الصالحة.
والذي يدلّ على أنّ المراد من اللقاء ليس هو الرؤية، أنّ الرؤية تختصّ بالمؤمنين ولا تعمّ الكافرين، مع أنّه سبحانه يُعمِّم اللقاء بالمؤمن والكافر فيقول:
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ «(5)»
فلو كان المراد من لقاء اللَّه هو مشاهدته ورؤيته فيلزم أن يكون المنافق مشاهداً له، فلم تبق أيّ فضيلة للمؤمنين، مع أنّ القائلين بالرؤية يُزمِّرون بأنّ الرؤية فضيلة وزيادة تختصّ بالمؤمنين.
ص:673
ولما ضاق الخناق على بعضهم قال بوجود رؤيتين: إحداهما عامّة للمؤمن والكافر؛ وهي الرؤية يوم القيامة، والأُخرى خاصّة بالمؤمنين؛ وهي الرؤية في الجنّة «(1)». وهو كما ترى؛ فإنّ ظرف الرؤية للمؤمنين في رواية أبي هريرة هو يوم القيامة كما سيوافيك، وفيه يرى المؤمنون خالقهم علىصورته الواقعيّة.
وفي الختام نقول: إنّ منزلة آيات اللقاء هي منزلة آيات الرجوع إلى اللَّه، قال سبحانه: إِنَّا للَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ «(2)»
ولم نر سلفيّاً أو أشعريّاً يستدلّ بها على رؤية اللَّه سبحانه، مع أنّ وزان الجميع واحد.
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ* كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمحْجُوبُونَ* ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ* ثُمَّ يُقَالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ «(3)»
.
هذه الآية استدلّ بها غيرُ واحد من القائلين بالرؤية.
قال الآلوسي: لا يرونه تعالى وهو حاضرٌ ناظرٌ لهم بخلاف المؤمنين؛ فالحجاب مجاز عن عدم الرؤية؛ لأنّ المحجوب لا يرى ما حُجِبَ؛ إذْ الحَجْب:
المنع، والكلام على حذف مضاف، أي عن رؤية ربّهم الممنوعة؛ فلا يرونه سبحانه، واحتجّ بالآية مالك على رؤية المؤمنين له تعالى من جهة دليل الخطاب، وإلّا فلو حجب الكلّ لما أَغنى هذا التّخصيص، وقال الشافعي: لمّا حجب سبحانه قوماً بالسُّخْط دلّ على أنّ قوماً يرونه بالرّضا، وقال أنس بن مالك: لمّا حجب عزّ وجلّ أعداءه سبحانه فلم يروه تجلّى جلّ شأنه لأوليائه حتّى
ص:674
رأوه عزّ وجلّ «(1)».
ويلاحظ على هذا الكلام: أنّ الآية بصدد تهديد المجرمين وإنذارهم، وهذا لا يحصل إلّابتحذيرهم وحرمانهم من رحمته، وتعذيبهم في جحيمه، وأمّا تهديدهم بأنّهم سيحرمون عن رؤيته تبارك وتعالى فلا يكون مؤثّراً فيمن غلبت على قلبه آثار المعاصي والمآثم فلا يفكر يوماً باللَّه ولا برؤيته، وعلى ذلك، فالمراد أنّ هؤلاء محجوبون يوم القيامة عن رحمته وإحسانه وكرمه، وبعدما مُنِعوا من الثواب والكرامة يكون مصير هؤلاء إلى الجحيم، ولذلك رتّب على خيبتهم وحرمانهم قوله: إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ.
هذه هي الآيات الّتي وقعت ذريعة للاستدلال على العقيدة المستوردة من الأحبار والرهبان إلى المسلمين، فزعم المحدّثون والمغترّون كونها عقيدة إسلامية، فحشروا الآيات للبرهنة عليها سواء كانت بها دلالة أم لا.
ولو كان المستدلّون متجرّدين عن عقائدهم لفهموا أنّ هذه الآيات نزلت لبيان مفاهيم أخلاقية واجتماعية وسوق المجتمع إلى العمل الصالح وعدم التورّط في المعاصي، وأين هي من الدلالة على أصل كلامهم حول الرؤية؟!
إنّ اللَّه سبحانه ذكر نعم الجنّة الكثيرة ومقامات المؤمنين، ولو كانت الرؤية من أماثل نعمه سبحانه فلماذا لم يذكرها بوضوح كسائر النعم؟
ص:675
رؤية اللَّه في الأحاديث النبويّة
قد تعرّفت على موقف الكتاب من رؤيته سبحانه، وأنه كلّما يذكر الرؤية وسؤالها وطلبها كان يستعظم ذلك ويستفظعه إجمالًا، وعندما يطرحها تفصيلًا يعدّها أمراً محالًا، كما عرفت أنّ ما تمسّك به القائلون بجواز الرؤية من الآيات لا يدلّ على ما يدّعون.
بقي الكلام في الروايات الواردة حول الرؤية في الصحاح والمسانيد، ودلالتها على المطلوب واضحة كما ستوافيك، لكنّ الكلام في حجّية الروايات الّتي تعارض الذكر الحكيم وتباينه؛ فإذا كان الكتاب العزيز مهيمناً على سائر الكتب فلماذا لا يكون مهيمناً على السنن المرويّة عن الرسولصلى الله عليه و آله، الّتي دوّنت بعد مضي (143) سنة من رحيلهصلى الله عليه و آله ولم تُصَن عن دسّ الأحبار والرهبان، قال سبحانه: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ «(1)»
وقال تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ
ص:676
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ «(1)»
.
ولا يعني ذلك، حذف السنّة من الشريعة ورفع شعار حسبنا كتاب اللَّه، بل يعني التأكّد منصحّتها ثمّ التمسّك بها في مقام العمل.
إليك ما ورد في الصحاح حول الرؤية:
أ- روى البخاري في باب «الصراط جسر جهنّم» بسنده عن أبي هريرة قال:
قال أُناس: يا رسول اللَّه هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال: «هل تضارّون في الشمس ليس دونها سحاب؟» قالوا: لا يا رسول اللَّه، قال: «هل تُضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟» قالوا: لا يا رسول اللَّه، قال: «فإنّكم ترونه يوم القيامة، كذلك يجمع اللَّه الناس فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتّبعه، فيتّبع من كان يعبد الشمس، ويتّبع من كان يعبد القمر، ويتّبع من كان يعبد الطواغيت، وتبقى هذه الأُمّة فيها منافقوها، فيأتيهم اللَّه في غير الصورة الّتي يعرفون، فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: نعوذ باللَّه منك، هذا مكاننا حتّى يأتينا ربّنا فإذا أتانا ربّنا عرفناه، فيأتيهم اللَّه في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربّنا فيتّبعونه ويضرب جسر جهنم...» إلى أن يقول: «ويبقى رجلٌ مُقْبل بوجهه على النار فيقول: يا ربّ قد قَشَبَني ريحها، وأحرقني ذكاوها، فاصرف وجهي عن النار، فلا يزال يدعو اللَّه فيقول: لعلّك إن أعطيتُك أن تسألني غيره، فيقول: لا وعزّتك لا أسألك غيره، فيصرف وجهه عن النار، ثمّ يقول بعد ذلك: يا ربّ قرّبني إلى باب الجنّة، فيقول: أليس قد زعمت أن
ص:677
لا تسألني غيره؟ ويلك ابن آدم ما أغدرك! فلا يزال يدعو فيقول: لعلّي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره، فيقول: لا وعزّتك لا أسألك غيره، فيعطي اللَّه من عهود ومواثيق أنْ لا يسأله غيره، فيقرّبه إلى باب الجنّة، فإذا رأى ما فيها سكت ما شاء اللَّه أن يسكت، ثمّ يقول: ربّي أدخلني الجنّة، ثمّ يقول: أوَليسَ قد زعمت أنْ لا تسألني غيره؟ ويلك يابن آدم ما أغدرك! فيقول: يا ربّ لا تجعلني أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتّى يضحك (اللَّه)، فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها...» الحديث «(1)».
ورواه مسلم فيصحيحه عن أبي هريرة، مع اختلاف يسير «(2)».
ورواه أيضاً عن أبي سعيد الخدري باختلاف غير يسير في المتن وفيه: «حتّى إذا لم يبق إلّامن كان يعبد اللَّه تعالى من برّ وفاجر أتاهم ربُّ العالمين سبحانه وتعالى في أدنىصورة من الّتي رأوه فيها، قال: فما تنتظرون تتبع كلّ أُمّة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربّنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنّا إليهم ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: نعوذ باللَّه منك، لا نشرك باللَّه شيئاً، مرّتين أو ثلاثاً، حتى أنّ بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد للَّه من تلقاء نفسه، إلّاأذن اللَّه له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتّقاءً ورياءً إلّا جعل اللَّه ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه...» الحديث «(3)».
وقد نقل الحديث في مواضع من الصحيحين بتلخيص، ورواه أحمد في مسنده «(4)».
ص:678
إنّ هذا الحديث مهما كثرت رواته وتعدّدت نقلته لا يصحّ الركون إليه في منطق الشرع والعقل بوجوه:
أوّلًا: أنّه خبر واحد لا يفيد شيئاً في باب الأُصول والعقائد، وإن كان مفيداً في باب الفروع والأحكام؛ إذ المطلوب في الفروع هو الفعل والعمل، وهو أمر ميسور سواء أذعن العامل بكونه مطابقاً للواقع أو لا، بل يكفي قيام الحجّة على لزوم تطبيق العمل عليه، ولكن المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب ونفي الريب والشك عن وجه الشي ء، وهو لا يحصل من خبر الواحد ولا من خبر الإثنين، إلّاإذا بلغ حدّاً يورث العلم والإذعان؛ وهو غير حاصل بنقل شخص أو شخصين.
ثانياً: أنّ الحديث مخالف للقرآن، حيث يثبت للَّه صفات الجسم ولوازم الجسمانية كما سيوافيك بيانه عن السيّد الجليل شرف الدين رحمه الله.
ثالثاً: ماذا يريد الراوي من قوله: «فيأتي اللَّه في غير الصورة الّتي يعرفون، فيقول: أنا ربُّكم»؟ فكأنّ للَّه سبحانهصوراً متعدّدة يعرفون بعضها وينكرون البعض الآخر!! وما ندري متى عرفوا الّتي عرفوها، فهل كان ذلك منهم في الدنيا، أو كان في البرزخ، أو في الآخرة؟؟!
رابعاً: ماذا يريد الراوي من قوله: «فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد للَّه من تلقاء نفسه...»؟ فإنّ معناه أنّ المؤمنين والمنافقين يعرفونه سبحانه بساقه، فكانت هي الآية الدالة عليه.
خامساً: كفى في ضعف الحديث ما علّق عليه العلّامة السيد شرف الدين رحمه الله حيث قال: إنّ الحديث ظاهر في أنّ للَّه تعالى جسماً ذاصورة مركبة تعرض عليها الحوادث من التحوّل والتغير، وأنّه سبحانه ذو حركة وانتقال، يأتي هذه الأُمّة يوم
ص:679
حشرها، وفيها مؤمنوها ومنافقوها، فيرونه بأجمعهم ماثلًا لهم فيصورةٍ غير الصورة الّتي كانوا يعرفونها من ذي قبل، فيقول لهم: أنا ربكم، فينكرونه متعوّذين باللَّه منه، ثمّ يأتيهم مرّة ثانية في الصورة التي يعرفون، فيقول لهم: أنا ربّكم، فيقول المؤمنون والمنافقون جميعاً: نعم أنت ربّنا، وإنّما عرفوه بالساق إذ كشف لهم عنها، فكانت هي آيته الدالّة عليه، فيتسنّى حينئذٍ السجودُ للمؤمنين منهم دون المنافقين، وحين يرفعون رؤوسهم يرون اللَّه ماثلًا فوقهم بصورته الّتي يعرفون لا يُمارونَ فيه، كما كانوا في الدنيا لا يُمارون في الشمس والقمر، ماثلين فوقهم بجرميهما النيّرين ليس دونهما سحاب، وإذا به بعد هذا يضحك الربّ ويعجب من غير معجب، كما هو يأتي ويذهب، إلى آخر ما اشتمل عليه الحديثان ممّا لا يجوز على اللَّه تعالى، ولا على رسوله، بإجماع أهل التنزيه من أشاعرة وغيرهم، فلا حول ولا قوّة إلّاباللَّه العليّ العظيم «(1)».
*** ب- روى البخاري في كتاب الصلاة، باب مواقيت الصلاة وفضيلتها، عن قيس (ابن أبي حازم) عن جرير قال: كنّا عند النبيّصلى الله عليه و آله فنظر إلى القمر ليلة- يعني البدر- فقال: «إنّكم ترون ربّكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أنْ لا تغلبوا علىصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثمّ قرأ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ» «(2)»
.
وحديث قيس بن أبي حازم- مع كونه معارضاً للكتاب- ضعيف سنداًوإن رواه
ص:680
الشيخان، ويكفي فيه وقوع قيس بن أبي حازم في سنده الّذي ترجمه ابن عبد البرّ وقال: قيس بن أبي حازم الأحمسي جاهلي إسلامي لم ير النبيصلى الله عليه و آله في عهده، وصدق إلى مصدِّقه وهو من كبار التابعين مات سنة ثمان أو سبع وتسعين وكان عثمانياً «(1)».
وقال الذهبي: قيس بن أبي حازم عن أبي بكر وعمر ثقة حجة كاد أنْ يكونصحابياً، وثّقه ابن معين والناس، وقال عليّ بن عبد اللَّه بن يحيى بن سعيد: منكر الحديث ثمّ سمّى له أحاديث استنكرها، وقال يعقوب الدوسي: تكلّم فيه أصحابنا فمنهم من حمل عليه، وقال: له مناكير، فالّذين أطروه عدّوها غرائب، وقيل: كان يحمل على عليّ رضى الله عنه، إلى أن قال: والمشهور أنّه كان يقدّم عثمان، وقال إسماعيل:
كان ثَبِتاً، قال: وقد كبر حتّى جاوز المائة وخَرِف «(2)».
وقد تقدّم أنّ العدل والتنزيه علويان، كما أنّ الجبر والتشبيه أُمويان، وهل يصحّ في ميزان النصفة الأخذ برواية رجل عثمانيّ الهوى، معرضاً عن الإمام علي عليه السلام، وعاش حتى خَرِف؟ أو أنّ الواجب ضربها عرض الحائط.
إنّ أهل البيت أحد الثقلين «(3)
ص:681
بأقوالهم وأفعالهم، وحينما نراجع ما روي عنهم ودوّنه الأثبات من المحدّثين كالشيخ الصدوق (306-/ 381 ه) في كتاب التوحيد، نجد مرويّاتهم المسندة إلى آبائهم عن عليّ عن النبيّ، تعارض ما رواه قيس بن أبي حازم، وإليك نماذج من أحاديثهم:
أ- روى الصدوق عن عبد اللَّه بن سنان عن أبيه قال: حضرت أبا جعفر (محمّد الباقر) عليه السلام فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له: يا أبا جعفر أيّ شي ء تَعبد؟
قال: «اللَّه»، قال: رأيته؟ قال: «لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يُعرف بالقياس، ولا يُدرك بالحواس، ولا يُشبه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك اللَّه لا إله إلّاهو»، قال: فخرج الرجل وهو يقول: اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته «(1)».
ب- روى الصدوق أيضاً عن أبي الحسن الموصلي، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال:
جاء حبر إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟
فقال: «ويلك! ما كنت أعبد رباً لم أره»، وقال: كيف رأيته؟ قال: «ويلك! لا تُدركه العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان» «(2)»
.
ج- أخرج الصدوق أيضاً عن عبد اللَّه بن سنان، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «إنّ اللَّه عظيم، رفيع، لا يقدر العباد علىصفته، ولا يبلغُون كنهَ عظمته، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، ولا يوصف بكيف ولا أين
ص:682
ولا حيث، فكيف أصفه بكيف وهو الّذي كيَّف الكيف حتّىصار كيفاً، فعرفت الكيّف بما كيف لنا من الكيف؛ أم كيف أصفهُ بأينٍ وهو الذي أيَّن الأينَ حتّىصار أيناً، فعرفت الأينَ بما أيّن لنا من الأيْن، أم كيف أصفه بحيث وهو الذي حيّث الحيث حتّىصار حيثاً، فعرفت الحيث بما حيّثَ لنا من الحيث، فاللَّه تبارك وتعالى داخل في كلّ مكان، وخارج من كلّ شي ء، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار لا إله إلّاهو العليّ العظيم وهو اللطيف الخبير» «(1)»
.
د- أخرج الصدوق أيضاً عن إبراهيم بن أبي محمود قال: قال عليّ بن موسى عليهما السلام في قول اللَّه عزّ وجلّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ «(2)»
:
«يعني مشرِقة تنتظر ثواب ربّها» «(3)».
*** إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ «(4)»
ص:683
الرؤية القلبيّة
كان المرتقب من أئمة الحديث والكلام الإشارة إلى قسم آخر من الرؤية الّذي لا يتوقّف على الأعين والأبصار، ينالُها الأمثل فالأمثل من المؤمنين، قال سبحانه:
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَينَ الْيَقِين «(1)»
، فمن علم عين اليقين يرى لهيب الجحيم من هذه النشأة لا بعين مادية ولا بصر جسماني، إنّما هي رؤية أخبر عنها الكتاب، ولا تتوقّف على الجهة والمقابلة، ولا التجسيم والمشابهة، وليس المراد من الرؤية في الآية العلمَ القطعيّ؛ فإنّ العلم إن كان قطعياً غير الرؤية، قال سبحانه: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ «(2)»
.
قال العلّامة الطباطبائي: إنّه تعالى يُثبت في كلامه قسماً من الرؤية والمشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسّية؛ وهي نوع شعور في الإنسان، يشعر بالشي ء بنفسه من غير استعمال آلة حسية أو فكرية، وفي ضوء ذلك إنّ للإنسان
ص:684
شعوراً بربّه غير ما يعتقد بوجوده من طريق الفكر واستخدام الدليل، بل يجده وجداناً من غير أن يحجبه عنه حاجب ولا يجرّه إلى الغفلة عنه اشتغاله بنفسه ومعاصيه الّتي اكتسبها، والذي يتجلّى من كلامه سبحانه أنّ هذا العلم المسمّى بالرؤية واللقاء يتمّ للصالحين من عباد اللَّه يوم القيامة، فهناك مواطن التشرّف بهذا التشريف، وأمّا في هذه الدنيا والإنسان مشتغل ببدنه ومنغمر في غمرات حوائجه الطبيعية وهو سالك لطريق اللقاء فهو بعدُ في طريق هذا العلم لم يتمّ له حتّى يلقى ربّه، قال تعالى: يَأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ «(1)»
.
فهذا هو العلم الضروري الخاصّ الّذي أثبته اللَّه تعالى لنفسه وسمّاه رؤية ولقاء، ولا يهمّنا البحث عن أ نّها على نحو الحقيقة أو المجاز، والقرآن أوّل كاشف عن هذه الحقيقة على هذا الوجه البديع، فالكتب السماوية السابقة- على ما بأيدينا- ساكتة عن إثبات هذا النوع من العلم باللَّه، والأبحاث المأثورة عن الفلاسفة الباحثين تخلو عن هذه المسائل؛ فإنّ العلم الحضوري عندهم كان منحصراً في علم الشي ء بنفسه حتّى يكشف عنه في الإسلام، فللقرآن المنّة في تنقيح المعارف الإلهية «(2)».
هذا التفسير للرؤية القلبية ممّا أفاده أُستاذُنا العلّامة الطباطبائي رحمه الله، ولكن ربّما يفسّر بالعلم القطعي الضروري الّذي لا يتردّد إليه الريب، كما سننقله عن الشيخ الصدوق توضيحاً للروايات الصادرة عن أئمة أهل البيت حول الرؤية القلبية، فإليك ما روي عنهم-صلوات اللَّه عليهم-:
ص:685
إنّ في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام تصريحاً بصحّة الرؤية القلبية، واللائح منها زيادة اليقين بظهور عظمته وقدرته، وإليك البيان:
1- أخرج الصدوق عن يعقوب بن إسحاق، قال: كتبت إلى أبي محمّد (الحسن العسكري) عليه السلام أسأله كيف يعبد ربّه وهو لا يراه؟ فوقّع عليه السلام: «يا أبا يوسف جلّ سيدي ومولاي والمنعم عليّ وعلى آبائي أن يُرى»، قال: وسألته هل رأى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ربّه؟ فوقّع عليه السلام: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحبّ» «(1)»
.
2- أخرج الصدوق عن ابن أبي نصر (البزنطي) عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: «قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: لمّا أُسري بي إلى السماء بلغ بي جبرئيل مكاناً لم يطأه جبرئيل قطُّ، فكُشِف لي، فأراني اللَّهُ عزّ وجلّ من نور عظمته ما أُحبّ» «(2)»
.
وفي ضوء ذلك فالرؤية القلبية شهود نور عظمته في النشأتين، وهو غير ما نقلناه عن العلّامة الطباطبائي.
3- أخرج الصدوق عن عبيد بن زرارة عن أبيه قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام:
جعلت فداك الغشية الّتي كانت تصيب رسول اللَّه إذا نزل عليه الوحي، فقال: «ذاك إذا لم يكن بينه وبين اللَّه أحد، ذاك إذا تجلّى اللَّه له»، قال: ثمّ قال: «تلك النبوّة يا زرارة» وأقبل يتخشّع «(3)».
4- أخرج الصدوق عن محمّد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن عليه السلام:
ص:686
هل رأى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ربّه عزّ وجلّ، فقال: «رآه بقلبه، أما سمعت اللَّه عزّ وجلّ يقول: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأى «(1)»
، أي لم يره بالبصر «(2)» ولكن رآه بالفؤاد».
5- أخرج الصدوق عن أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في جواب سؤال شخص عن رؤية اللَّه يوم القيامة، فقال في ذيل الجواب: «وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى اللَّه عمّا يصفه المشبّهون والملحدون» «(3)».
ثمّ إنّ للمحدّث الأكبر الشيخ الصدوق، كلاماً في الرؤية القلبية، وحكى أنّ محدّثين كبيرين من محدّثي الشيعة هما: أحمد بن محمّد بن عيسى القمي (المتوفّى بعد سنة 280 ه)، ومحمّد بن أحمد بن يحيى روياها في جامعهما ولكن لم ينقلها في كتاب التوحيد، يقول:
والأخبار التي رُويت في هذا المعنى وأخرجها مشايخنا- رضي اللَّه عنهم- في مصنّفاتهم عنديصحيحة، وأنا تركت إيرادها في هذا الباب خشيةَ أنْ يقرأها جاهلٌ بمعانيها، فيكذب بها، فيكفر باللَّه عزّ وجلّ وهو لا يعلم «(4)».
ثمّ إنّ شيخنا الصدوق فسّر الرؤية القلبية بما يلي:
ومعنى الرؤية الواردة في الأخبار: العلم، وذلك أنّ الدنيا دار شكوك وارتياب وخطرات، فإذا كان يومُ القيامة كُشف للعباد من آيات اللَّه وأُموره في ثوابه
ص:687
وعقابه، ما يزول به الشكوك، وتُعلم حقيقة قدرة اللَّه عزّ وجلّ، وتصديقُ ذلك في كتاب اللَّه عزّ وجلّ: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد «(1)»
فمعنى ما روى في الحديث أنه عزّ وجلّ يرى أي يعلم عِلماً يقينياً كقوله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ «(2)»
وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ «(3)»
وقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ «(4)»
وأشباه ذلك من رؤية القلب وليست من رؤية العين «(5)».
*** هذه مسألة رؤية اللَّه، وهذه أقوال الأُمّة فيها، وهذا خلافهم الممتدّ من العصور الأُولى إلى عصرنا هذا، وهي مسألة كلامية اختلفت فيها أنظار الباحثين ولكلٍّ دليله وبرهانه، والنافي للرؤية ينفي لاستلزامها إثبات التجسيم والتشبيه، مضافاً إلى تضافر الآيات على نفيها بدلالات مختلفة، والمثبت إنّما يُثبتها اغتراراً ببعض الظواهر والروايات الواردة في الصحاح.
ولكن ليس لكلّ من الطائفتين تكفير الأُخرى؛ لأنّ النافي يستند إلى أدلّة مشرقة تقنع كلّ من نظر إليها بلا نظر مسبق، وقول المثبت وإن كان يستلزم الجهة والتجسيم، لكنّه يقول بها مع التبرّي عن تواليها، متحصناً بقوله: «بلا كيف»، فتكون المسألة مسألة كلامية كسائر المسائل الكلامية.
ص:688
غير أنّ مفتي السعودية عبد العزيز بن باز غالى في الموضوع، وذلك في الفتوى الصادرة في 8/ 1407 ه المرقمة 717/ 2 جواباً على سؤال وجّهه عبد اللَّه بن عبد الرحمن يتعلّق بجواز الاقتداء والائتمام بمن لا يعتقد بمسألة الرؤية في يوم القيامة، فأفتى: بأن من ينكر رؤية اللَّه سبحانه وتعالى في الآخرة لا يصلّى خلفه، وهو كافر عند أهل السنة والجماعة، وأضاف أنه قد بحث هذا الموضوع مع مفتي الإباضية في عُمان الشيخ أحمد الخليلي، فاعترف بأنّه لا يؤمن برؤية اللَّه في الآخرة، ويعتقد أنّ القرآن مخلوق، واستدلّ لذلك بما ذكره ابن قيّم الجوزية في كتابه «حادي الأرواح»:
ذكر الطبري وغيره أنه قيل لمالك: إنّ قوماً يزعمون أنّ اللَّه لا يُرى يوم القيامة، فقال مالك رحمه الله: السيفَ السيفَ!
وقال أبو حاتم الرازي: قال أبوصالح كاتب الليث: أملى عليّ عبد العزيز بن سلمة الماجشون رسالة عمّا جحدت الجهمية فقال: لم يزل يملي لهم الشيطان حتّى جحدوا قول اللَّه تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ «(1)»
.
وذكر ابن أبي حاتم عن الأوزاعي أنه قال: إنّي لأرجو أنْ يحجب اللَّه عزّ وجلّ جهماً وأصحابه عن أفضل ثوابه، الّذي وعده أولياءه حين يقول: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ.
إلى أن نُقل عن أحمد بن حنبل وقيل له في رجل يحدّث بحديث عن رجل عن أبي العواطف أنّ اللَّه لا يُرى في الآخرة فقال: لعن اللَّه من يحدّث بهذا الحديث اليوم، ثمّ قال: أَخْزى اللَّه هذا.
ص:689
وقال أبو بكر المروزي: من زعم أنّ اللَّه لا يُرى في الآخرة فقد كفر، وقال: من لم يؤمن بالرؤية فهو جهمي، والجهمي كافر، وقال إبراهيم بن زياد الصائغ: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الرؤيةُ من كذب بها فهو زنديق، وقال: من زعم أنّ اللَّه لا يُرى فقد كفر باللَّه، وكذّب بالقرآن، وردّ على اللَّه أمره، يستتاب فإن تاب وإلّا قُتل...
1- إنّ هذه الفتوى لا تصدر عمّن يجمع بين الرواية والدراية، وإنّما متفرّعة على القول بأنّ اللَّه مستقرّ على عرشه فوق السموات، وأنّه ينزل في آخر كلّ ليلة نزول الخطيب من درجات منبره «(1)»، وأنّ العرش تحته سبحانه يَئِطّ أَطيط الرحل تحت الراكب «(2)»، ويفتخر بتلك العقيدة ابن زفيل في قصيدته النونية ويقول:
بل عطّلوا منه السموات العُلى والعرشُ أخلَوهُ من الرحمنِ «(3)»
ومثل تلك العقيدة تنتج أنّ اللَّه تعالى يُرى كالبدر يوم القيامة، والرؤية لا تنفكّ عن الجهة والمكان، تعالى عن ذلك كلّه.
2- إنّ النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله كان يقبل إسلام من شهد بوحدانيّته سبحانه ورسالة النبيّصلى الله عليه و آله، ولم يُرَ أنّ النبيّ الأكرم يأخذ الإقرار بما وراء ذلك، مثل رؤية اللَّه وما شابهه، وهذا هو البخاري يروي فيصحيحه: أنّ الإسلام بني على خمس، وليس فيه شي ء من الإقرار بالرؤية، وهل النبيّ ترك ما هو مقوّم الإيمان والإسلام؟!
ص:690
3- إنّ الرؤية مسألة اجتهادية تضاربت فيها أقوال الباحثين من المتكلّمين والمفسّرين، وكلّ طائفة تمسّكت بلفيف من الآيات؛ فتمسّك المثبتُ بقوله سبحانه:
إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وتمسّك النافي بقوله سبحانه: لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ «(1)»
.
فكيف يكون إنكارُ النافي ردّاً للقرآن، ولا يكون إثبات المثبت ردّاً له؟ وإذا جاز التأويل لطائفة لما يكون مخالفاً لعقيدته، فكيف لا يسوّغ لطائفة أُخرى؟
وليست رؤية اللَّه يوم القيامة من الأُمور الضرورية الّتي يلازم إنكارها إنكار الرسالة ولا إنكار القرآن، بل كلّ طائفة تقبل برحابةصدر المصدرين الرئيسيين- أعني: الكتاب والسنّة- ولكن تناقش في دلالتهما على ما تدّعيه الطائفة الأُخرى، أو تناقش سند الرواية وتقول: إنّ القولَ بالرؤية عقيدة موروثة من اليهود والنصارى أعداء الدين، وقد دسّوا هذه الروايات بين أحاديث المسلمين، فلم يزل مسلمة اليهود والنصارى يتحيّنون الفرص لتفريق كلمة المسلمين وتشويه تعاليم هذا الدين، حتى تذرّعوا بعد وفاة النبيّ بشتّى الوسائل إلى بذر بذور الفساد، فأدخلوا في الدين الحنيف ما نسجته أوهام الأحبار والرهبان.
4- أنّ الاعتقاد بشي ء من الأُمور من الظواهر الروحيّة لا تنشأ جذوره في النفس إلّابعد تحقّق مبادئ ومقدّمات توجد العقيدة، فما معنى قول من يقول في مقابل المنكر للرؤية: السيفَ السيفَ، بدل أنْ يقول: الدراسةَ الدراسةَ، الحوارَ الحوارَ.
أليس شعار «السيفَ السيفَ» ينمُّ عن طبيعة عدوانيّة قاسية، ونفسية خالية من الرحمة والسماحة؟! وأنا أُجلّ إمام دار الهجرة عن هذه الكلمة.
ص:691
5- إنّ مفتي الديار النجدية لم يعتمد إلّاعلى نقول وفتاوى ذكرها ابن قيّم الجوزية في كتابه «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» دون أنْ يرجع إلى تفسير الآيات واحدة واحدة، أو يناقش المسألة في ضوء السنّة.
فما أرخص مهمّة الإفتاء ومؤهّلات المفتي في الديار؛ حيث يكتفي في تكفير نصف الأُمّة بالرجوع إلى كتاب ابن قيّم الجوزية فقط.
وفي الختام، أنّ ما نقله عن ابن قيّم الجوزية يعرب عن جهله المطبق في مسألة الرؤية؛ فإنّ نفي الرؤية شعار أئمة أهل البيت، وشعار الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام في خطبه وكلماته قبل أن يولد جهم وأذنابه، ولأجل ذلك اشتهر: «العدل والتنزيه علويّان، والجبر والتشبيه أُمويّان».
ص:692
لقد تجلّت الحقيقة بأجلى مظاهرها، وهي أصفى من أنْ تُكدِّرصفوها الشُّبه، ومن قرأ مباحث هذا الفصل بإمعان وتأمُّل وقف على أنّ الحقّ مع النافين للرؤية، وأنّه ليس للمثبتين دليل لا عقليّ ولا نقليّ.
أمّا العقل: فهو مخالف للقول بالرؤية، فلا يجتمع التنزيه من الجهة مع القول بالرؤية، كما لا تنفكّ الإحاطة بالربّ بعضاً أو كلًّا عن القول بها.
وأمّا النقل: فليس إلّامَظاهر بدائية تزول بعد التأمّل.
غير أنّ هناك مطالب متفرّقة لا يجمعها فصل واحد نشير إليها، منفصلة عمّا مضى من البحث:
الأوّل: أنّ أكثر من طرح مسألة الرؤية فإنّما بحث عنها بدافع روحي، وهو إثبات عقيدته والتركيز على نحلة طائفته، ولذلك ربّما انتهى البحث والدراسة عند بعضهم إلى الخروج عن الأدب الإسلامي.
وهذا هو العلّامة الزمخشري يُشبّه في شعره أهل الحديث والحنابلة القائلين بالرؤية فيقول:
ص:693
جَماعةٌ سمُّوا هواهم سنةً وجماعةٌ حمر لعمري مؤكفة
قد شبّهوه بخَلْقِهِ وتخوّفوا شنعَ الورى وتستّروا بالبَلْكَفَة «(1)»
إنّ ما ذكره في البيت الثاني وإن كان حقّاً فإنّ القول بالرؤية لا ينفكّ عن التجسيم والتشبيه، والقول بأنّه جسم بلا كيف أو أنّه يُرى بلا كيف مهزلة لا قيمة لها، لما عرفت من أنّ الكيفيّة محقّقة لمفهوم الرؤية بالبصر، كما أنّها محقّقة لمفهوم اليد والرِّجل، فاليد بالمعنى اللغوي بلا كيفية أشبه بأسد لا رأس له ولا بطن ولا ذنب.
ولكن البيت الأوّل لا يناسب أدب الزمخشري الذي تربّى في أحضان الإسلام والمسلمين وخالط القرآن جسمه وروحه.
ولمّا أثار هذا الشعر حفيظة الأشاعرة وأهل الحديث قابلوه بمثل ما قال، فقد قال أحمد بن المنير الإسكندري في حاشية على الكشّاف باسم الانتصاف:
وجماعة كفروا برؤية ربّهم حقّاً ووَعْدُ اللَّه ما لن يُخلفَه
وتلقَّبُوا عدليّةً قُلنا أجل عَدَلوا بربّهمُ فحسبُهُم سَفَه
وتلقَّبوا الناجينَ كلَّا إنّهُم إنْ لم يكونُوا في لَظى فَعَلى شَفَه
إنّ البادي وإن كان أظلم ولكنّهما كليهما خرجا عن مقتضى الأدب الإسلاميّ؛ فالمسلم مادام له حجّة على عقيدته ولم يكن مقصّراً في سلوكها لا يُحكم عليه بشي ء من الكفر والفسق ولا العقاب ولا العذاب.
وقد نصره تاج الدين السبكي بقوله:
عجباً لقوم ظالمين تلقّبوا بالعدل ما فيهم لعمري معرفه
قد جاءهم من حيث لا يدرونه تعطيل ذات اللَّه مع نفي الصفه
ص:694
وتلقّبوا عدلية قلنا نعم عدلوا بربّهم فحسبهم سفه «(1)»
فيا للَّه! ماذا يعني تاجُ الدين السبكي بقوله: تعطيل الذات مع نفي الصفة؟ فإنّ أحداً من المسلمين لا يعطل الذات عن الوصف بالعلم والقدرة والحياة والسمع، نعم إن عنى من تعطيل الذات نفي وصفه سبحانه بالأوصاف الخبرية بمعانيها اللغوية، كاليد والرجل والنزول ووضع القدم في الجحيم؛ فإنّ هذا ليس تعطيلًا، بل مرجعه إلى التنزيه مع عدم التعطيل بجعلها كناية عن المعاني الأُخَر، تبعاً لأُسلوب الفصحاء والبلغاء والذكر الحكيم، كلام فصيح وبليغ، ليس فوقه شي ء؛ فلا يعدّ مثل ذلك تعطيلًا، نعم، من يحاول وصفه سبحانه بهذه الصفات بمعانيها اللغوية، ويقول: إنّ للَّه تبارك وتعالى يداً ورجلًا ونزولًا وحركةً بالمعنى الحقيقي ولكن لا تُعرَف كيفيتُها، يحاول الجمع بين المتضادّين؛ فإنّ مقتضى الحمل على المعاني اللغوية سيادة تلك المعاني على موردها، ومقتضى نفي الكيفية نفي معانيها اللغوية، فكيف يعدّون أنفسهم من المثبتين وأهل التنزيه من المعطلة.
ولا يقاس ذلك بوصفه سبحانه بالعلم والقدرة مع عدم العلم بالكيفية؛ لأنّ الكيفية فيهما ليست مقوّمة لواقعهما، فالعلم بمعنى انكشاف الواقع، وأمّا كونه عَرَضاً أو جوهراً حالًّا أو محلًّا فليست مقوّمة لمفهومه حتّى يرجع نفي الكيفية إلى نفي واقع العلم، وهذا بخلاف اليد؛ فإنّها بلا كيفية ليست يداً لغة.
وأظنّ أنّه لو انعقد مؤتمر علميّ في جوٍّ هادئ واستعدّت الطائفتان للتأمُّل في براهين النافين والمثبتين لقلّ الخلاف وتقاربت الطائفتان.
نعم، إنّ خلافاً دام قروناً لا ينتهي بأُسبوع أو شهر أو بعقد مؤتمر أو مؤتمرين ولكن الرجاء تقريب الخطى وعدم تكفير إحدى الطائفتين للطائفة الأُخرى.
ص:695
أوَليس الأولى لنا ألّا نُقسّم رحمة ربّنا وعذابه وجحيمه بيننا كما قسّمه الإسكندري في تعليقته على الكشّاف، ونتركه إلى اللَّه سبحانه فهو أعلم بمن هو في لظى أو شفة منها، أو قريب من الجنّة: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ «(1)»
.
*** الثاني: أنّ أكثر الباحثين في الرؤية يبحثون في مفهوم الرؤية لغةً، ويحشدون كلمات أهل اللغة من القدامى والجدد، كما أنّهم يبحثون في واقع الرؤية علمياً، وهل هي بسقوط الشعاع من العين على الأشياء أو بالعكس، مع أنّا في غنى عن هذه المباحث، إذْ ليس البحث في المقام عن لغة الرؤية ولا في واقعها العلمي، وإنّما البحث في أمر اختلفت فيه كلمة الأُمّة، ألا وهو رؤية اللَّه تعالى بالعين في الآخرة، وليس البحث في هذا الإطار متوقّفاً على دراسة مفهوم الرؤية وواقعها، وليس مفهومها أمراً مبهماً حتّى نستمدّ في تفسيرها من كتب اللغة.
وإن شئت قلت: إنّ البحث كلامي مركّز على إمكان رؤية اللَّه بالعين في الآخرة وعدمه.
نعم، من أراد الاستدلال على الجواز ببعض الأحاديث الماضية من أنّكم سترون ربّكم يوم القيامة... وشككنا في معنى الرؤية، كان البحث عن مفهومها أمراًصحيحاً، وقد سبق منّا أنّ محلّ النزاع هو إمكان الرؤية بالعين الّتي نرى بها الأشياء في الدنيا، وأمّا الرؤية بحاسّة سادسة أو بالقلب أو بالرؤيا فليس مطروحاً في المقام، ولذلك استغنينا عن نقل كلمات أصحاب المعاجم كالعين للخليل،
ص:696
والجمهرة لابن دُريد، والمقاييس لابن فارس، واللسان لابن منظور، والقاموس للفيروز آبادي وغيرهم.
*** الثالث: لقد أخذنا على عاتقنا التمسّك بالأدب الإسلامي في الدراسة والتحليل، ولكن ربّ حديثٍ يسمعه الإنسان من آخر ربّما يجرُّه إلى القسوة أو التجرّؤ على المقابل، وبدوري لما كنت أتفحّص الكتب والتفاسير حولَ المسألة رأيت أُموراً من بعض المثبتين أشبه بالمهزلة، مع أنّ القائل يُعدّ من المفسّرين الكبار ويُكال له بصاع كبير، وإن كنت في ريب ممّا قلنا فاستمع إلى قول الآلوسي:
قال: روى الدار قطني وغيره عن أنس من قولهصلى الله عليه و آله: «رأيت ربّي في أحسنصورة»، ومن الناس من حملها على الرؤية المنامية، وإذاصحّ هذا الحمل فأنا وللَّه الحمد قد رأيتُ ربّي مناماً ثلاث مرّات، وكانت المرّة الثالثة عام 1246 ه رأيته جلّ شأنه وله من النور ما له متوجّهاً جهة المشرق وكلّمني بكلمات أُنسيتُها حين استيقظت، ورأيت مرّة في منام طويل كأنّي في الجنّة بين يديه تعالى وبيني وبينه ستر حبيك بلؤلؤ مختلف ألوانه، فأمر سبحانه أن يذهب بي إلى مقام عيسى عليه السلام ثمّ إلى مقام محمّدصلى الله عليه و آله فذهب بي إليها، فرأيت ما رأيت وللَّه تعالى الفضل والمنّة «(1)».
نحن لا نعلّق على كلامه بشي ء سوى أنّها إمّا كانت أضغاث أحلام ليس لها شي ء من الحقيقة ولا شي ء من الواقع، أو أنّها كانتصور تفكير الرجل في يومه ونهاره حول تلك المسألة العقائدية، فانعكس ما هو مخزون في نفسه علىصفحات ذهنه في المنام.
ص:697
أما آنَ للواعين من الأُمّة أن يُنزّهوا كتبهم من هذه الخرافات حتّى لا يتّخذها المادّي الغاشم ذريعة للسخرية والتهكّم على الدين وأهله.
*** الرابع: أنّ المثبتين للرؤية يركّزون على الروايات المثبتة حسب ادّعائهم، ولكنّهم لا يركّزون على الروايات النافية؛ فإنّ هذه الروايات من غير فرق بين المثبتة والنافية وإن كانت روايات آحاد لا تفيد علماً في مجال العقائد، ولكن مقتضى الانصاف الاستدلال بالرواية المخالفة أيضاً، وإليك بعض ما ورد في هذا المضمار:
1- روى البخاري في تفسير قوله: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ عن عبد اللَّه بن قيس أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «جنّتان من فضّة آنيتهما، وجنّتان من ذهب آنيتهما وما فيها، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلّارداء الكبرياء على وجهه في جنّة عدن» «(1)»
.
2- روى مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: هل رأيت ربّك؟ قال:
«نور أنا أراه؟» «(2)»
.
ودلالة الحديث على إنكار الرؤية واضحة، فإنّ الرسول ينكر الرؤية بأنّه سبحانه ليس نوراً حتى أراه.
نعم، رواه مسلم بصورة أُخرى أيضاً، روى عن عبد اللَّه بن شقيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لسألته، فقال: عن أيّ شي ء كنت تسأله؟ قال:
كنتُ أسأله هل رأيت ربّك؟ قال أبو ذر: قد سألت فقال: «رأيتُ نوراً» «(3)»
.
ولعلّ المراد ما رأيت سبحانه وإنّما رأيت حجابه كما في الحديث التالي:
ص:698
3- روى مسلم عن أبي موسى قال: قام فينا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بخمس كلمات فقال: «إنّ اللَّه عزّ وجلّ لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفّض القسط ويرفعه، يُرفعُ إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعملُ النهار قبل عمل الليل، حجابه النور».
وفي رواية أبي بكر:... النار لو كشفها لأَحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلفه «(1)».
4- روى الطبري في تفسير قوله سبحانه حاكياً على لسان موسى عن ابن عباس قال: يقول: إنّا أوّل من يؤمن أنّه لا يراك شي ء من خلقك «(2)»
.
نعم، من لا يروقه قول ابن عباس من الرواة، نقله وذيّله بقوله: يعني في الدنيا، وهذا تأويل للرواية منه.
5- روى الطبري في تفسير قوله: لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ عن قتادة أنّه قال: لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ... وهو أعظم من أن تدركه الأبصار «(3)».
6- روى مسروق قال: قلت لعائشة: يا أُمّ المؤمنين هل رأى محمّد ربّه، فقالت: سبحان اللَّه لقد وقف شعري ممّا قلت!! ثمّ قرأت: لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ «(4)»
.
7- روى الشعبي قال: قالت عائشة: من قال: إنّ أحداً رأى ربّه فقد أعظم الفِرية على اللَّه، قال اللَّه: لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ «(5)»
.
وأضاف الطبري وقال: قال قائل هذه المقالة: معنى الإدراك في هذا الموضع هو الرؤية، وأنكروا أن يكون اللَّه ليُرى بالأبصار في الدنيا والآخرة «(6)».
ويظهر من الطبري أنّ القائلين بالرؤية حاولوا منذ زمن قديم تأويل لفظ
ص:699
الإدراك في الآية بالإحاطة.
فقد نُقل عن عطية العوفي أنّهم ينظرون إلى اللَّه، لا تحيط أبصارُهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم فذلك قوله: لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ «(1)»
.
وأنا أُجلّ عطيّة العوفي تلميذ ابن عباس وجابر بن عبد اللَّه الأنصاري عن هذا التفسير الّذي لا يوجد له أصل في اللغة، وهذه هي الكلمة الدارجة بين أهل الرجال في أصحاب الرسول، يقولون: أدركَ رسول اللَّه أو لم يُدركه، فلا يُراد من الأوّل أنّه واكب حياته منذ بعثتهِ حتّى رحيله، بل يراد منه أنّه رآه مرّة أو مرّتين، أو أياماً قلائل، وربّما يقال: إنّه أدرك رسول اللَّه وهوصبيّ فيعدّونه من الصحابة.
*** الخامس: أنّ للإمام عبده وتلميذهصاحب المنار كلمات حول الرؤية، قد حاولا بإخلاص جمع كلمة المسلمين في هذه المسألة، فمن أراد فليرجع إلى تفسيره «(2)»، وله كلام في تفسير قولهصلى الله عليه و آله: «لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»، قال: والمعنى أنّ النور العظيم هو الحجاب الذي يحول بينه وبين خلقه، وهو بقوّته وعظمته ملتهب كالنار، ولذلك رأى موسى عليه السلام عند ابتداء الوحي ناراً في شجرة توجه همّهُ كلّه إليها، فنودي الوحيُ من ورائها، وفي التوراة أنّ الجبل كان في وقت تكليم الربّ لموسى عليه السلام وإيتائه الألواح مغطّى بالسحاب.
ورأى النبيّ الخاتم الأعظمصلى الله عليه و آله ليلة المعراج نوراً من غير نار، وربّما كان هذا أعلى، ولكنّه كان حجاباً دون الرؤية أيضاً، فقد سأله أبو ذر رضى الله عنه وقال: هل رأيت ربك؟ فقال: «نوره، إنّي أراه؟» وفي رواية أُخرى: «رأيت نوراً» ومعناهما معاً
ص:700
رأيت نوراً منعني من رؤيته، لا أنّه تعالى نور، وأنّه لذلك لا يُرى، وهذا يتلاقى ويتّفق مع قوله: «حجابه نور» ولذلك جعلنا أحاديث النور شاهداً واحداً في موضوعنا، وهي تدلّ على عدم رؤية ذات اللَّه عزّ وجلّ وامتناعها «(1)».
السادس: إنّ القائلين بالرؤية على فرقتين: فرقة تعتمد على الأدلّة العقلية دون السمعية، وفرقة أُخرى على العكس.
فمن الأُولى سيف الدين الآمدي (551-/ 631 ه) يقول: لسنا نعتمد في هذه المسألة على غير المسلك العقلي؛ إذ ما سواه لا يخرج عن الظواهر السمعيّة؛ وهي ممّا يتقاصر عن إفادة القطع واليقين، فلا يذكر إلّاعلى سبيل التقريب «(2)».
ومن الثانية الرازي في غير واحد من كتبه فقال: إنّ العمدة في جواز الرؤية ووقوعها هو السمع، وعليه الشهرستاني في نهاية الاقدام «(3)».
والحقّ أنّ من حاول إثبات الرؤية بالدليل العقلي فقد حرم عن نيل مرامه؛ فإنّ الأدلّة العقلية التي أقامتها الأشاعرة في غاية الوهن؛ فإنّهم استدلّوا على الجواز بوجهين: أحدهما يرجع إلى الجانب السلبي، وأنّه لا يترتّب على القول بالرؤية شي ء محال، والآخر يرجع إلى الجانب الإيجابي وهو أنّ مصحّح الرؤية في الأشياء هو الوجود، وهو مشترك بين الخالق والمخلوق «(4)».
أظنّ أنّ كلّ من له أدنى معرفة بالمسائل العقلية يدرك ضعف الاستدلال؛ إذ كيف لا يترتّب على الرؤية بالعين تشبيه وتجسيم، مع أنّ الرؤية بالمعنى الحقيقي لا تنفكّ عن الجهة للمرئي، مضافاً إلى أنّ واقع الرؤية عبارة عن انعكاس الأشعة
ص:701
على الأشياء، فإثبات الرؤية بلا هذه اللوازم نفي لموضوعها، وأوضح ضعفاً ما ذكره من أنّ المجوِّز للرؤية هو الوجود، وهو مشترك بين الواجب والممكن؛ إذ المجوّز ليس الوجود بلا قيد، بشهادة أنّ النفسيّات كالحسد والبخل والعشق والفرح لا تُرى بالعين، ورؤيتها بغيرها كحضورها عند النفس خارج عن محطّ البحث، بل المصحّح هو الوجود الواقع في إطار الجهة، وطرفاً للإضافة بين العين، وطرفاً للإضافة بين البصر والمبصر، ومثل ذلك يساوي الوجود الإمكاني المادّي.
ولضعف هذا النوع من الاستدلال نرى أنّ الشريف الجرجاني بعدما أطال البحث حول البرهان العقلي قال: إنّ التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذّر، فلنذهب إلى ما ذهب إليه الشيخ أبو منصور الماتريدي من التمسّك بالظواهر النقلية «(1)».
*** السابع: أنّ المنكرين للرؤية يفسّرون قوله سبحانه: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ «(2)»
بالانتظار، وكلامهم حقّ في الجملة، لكنّ أغلب من يذكر هذا التفسير لا يفرّق بين المعنى بالمراد الاستعمالي والمعنى بالمراد الجدّي.
وقد عرفت أنّ المعنى بالمراد الاستعمالي غير المعنى بالمراد الجدّي، فقد أُريد من الجملة حسب الاستعمال الرؤية وأُريد منها الانتظار جدّاً، فمثلًا تقول: إنّي أنظر إلى اللَّه ثمّ إليك، فالمعنى الابتدائي هو الرؤية، ولكن المعنى الجدّي هو الانتظار.
وهناك خلط آخر في كلامهم، حيث لا يفرّقون بين النظر المستعمل المتعدّي ب «إلى» والمتعدّي بنفسه، فلذلك يستدلّون على أنّ الناظر في الآية بمعنى الانتظار
ص:702
بقوله تعالى: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّاصَيْحَةً وَاحِدَةً «(1)»
وقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ «(2)»
وقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ «(3)»
مع أنّ الاستشهاد في غير محلّه؛ لأنّ كون اللفظة بمعنى الانتظار فيما إذا تعدّت بنفسها غير منكر، وإنّما البحث فيما إذا كانت متعدية ب «إلى»، فعلى ذلك يجب التركيز في إثبات كونها بمعنى الانتظار على الآيات والأشعار الّتي استعملت وتعدّت ب «إلى» وأُريد بها الانتظار.
*** الثامن: يقع بعض السطحيين في تفسير المقطع الأوّل من آيات سورة «النجم» في خطأين: خطأ في إثبات الجهة للَّه سبحانه، وخطأ في إثبات الرؤية للنبي، وإليك الآيات، ثمّ الإشارة إلى مواضع الاشتباه، أعني قوله سبحانه:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّصَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى* وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى* ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى* فَأَوْحى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى* مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأى* أَفَتُمارُونَهُ عَلَى مَا يَرى* وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى* عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى* لَقَدْ رَأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى «(4)»
.
إنّ الجمل التالية: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى إلى قوله: فَأَوْحى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى يؤكّد على شدّة اقتراب النبيّ من جبرئيل، أي على بُعد ما بين القوسين أو
ص:703
أدنى، وهو تعبير عن منتهى القرب.
والضمائر كلُّها إلّاالمجرور في إِلَى عَبْدِهِ ترجع إلى جبرئيل الّذي كُنّي عنه بشديد القوى، وأين هو من قربهصلى الله عليه و آله منه سبحانه.
ومن التفسير الخاطئ هو إرجاع الضمير في قوله ثمّ دنا فتدلّى إلى النبيّ، وتفسير الآية بقرب النبي من اللَّه على أقرب ما يمكن، وبالتالي تصوّر انّ للَّه جهةً وقرباً وبعداً، وبذلك يتّضح خطأ مَنْ فسّر الآية على نحو أثبت للَّه جهة وقرباً.
إنّ المرئي في قوله: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأى حسب الآيات المتقدّمة هو الأُفق الأعلى، والدنوّ والتدلّي والوحي، وحسب الآية اللّاحقة هو آيات الربّ حيث قال: لَقَدْ رَأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى «(1)»
ومن تلك الآيات هو جبرئيل الّذي هو شديد القوى، وأين الآية من الدلالة على رؤية النبيّ ربَّه.
ومن التفسير الخاطئ جعل المرئي في قوله: مَا رَأى هو الربّ، ومن حسن الحظّ أنّ السنّة أيضاً تفسّر الآية برؤية جبرئيل.
عن مسروق قال: «كنت متّكئاً عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة! ثلاث من تكلّم بواحدة منهنّ فقد أعظم على اللَّه الفِرية، قلت: ما هُنّ؟ قالت: من زعم أنّ محمّداًصلى الله عليه و آله رأى ربّه فقد أعظم على اللَّه الفرية، قال: وكنت متّكئاً فجلست، فقلت:
يا أُمّ المؤمنين أنظريني ولا تعجليني! ألم يقل اللَّه عزّ وجلّ: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ «(2)»
و وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى «(3)»
؟ فقالت: أنا أوّل هذه الأُمّة سأل عن ذلك رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فقال: «إنّما هو جبرئيل لم أره علىصورته الّتي خُلق عليها غير هاتين المرّتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عِظَمُ خلقه ما بين السماء إلى الأرض،
ص:704
فقالت: أوَلَمْ تسمع أنّ اللَّه يقول: لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ «(1)»
؟ أوَلم تسمع أنّ اللَّه يقول: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّه إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِل رَسُولًا فَيُوحِي بِإذْنهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ «(2)»
؟ قالت: ومن زعم أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كتم شيئاً من كتاب اللَّه فقد أعظم على اللَّه الفرية واللَّه يقول: يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ «(3)»
قالت: ومن زعم أنّه يُخبر بما يكون في غد فقد أعظم على اللَّه الفرية واللَّه يقول: قُلْ لَايَعْلَمُ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهَ «(4)» «(5)»
.
*** التاسع: أنّ للشيخ الجصّاص الحنفي (ت 370 ه) كلاماً رائعاً في تفسير قوله سبحانه: لَاتُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وقد فسّر الروايات الدالّة على الرؤية بالعلم الضروري الّذي لا يشوبه شبهة، ولا تُعرض فيه الشكوك، ولأجل إيقاف القارئ على كلام ذلك المفسّر الكبير الّذي هو من السلف الصالح نذكر نصّ كلامه:
قوله تعالى: لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ يقال: إنّ الإدراك أصله اللحوق، نحو قولك: أدرك زمان المنصور، وأدرك أبا حنيفة، وأدرك الطعام، أي لحق حال النُّضْج، وأدرك الزرع والثمرة، وأدرك الغلامُ إذا لحق حال الرجال، وإدراك البصر للشي ء لحوقه له برؤيته إيّاه، لأنّه لا خلاف بين أهل اللغة إنْ قال القائل أدركت ببصري شخصاً معناه: رأيته ببصري، ولا يجوز أن يكون
ص:705
الإدراك الإحاطة؛ لأنّ البيت محيط بما فيه وليس مدركاً له، فقوله تعالى:
لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ معناه: لا تراه الأبصار، وهذا مدح ينفي رؤية الأبصار كقوله تعالى: لَاتَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ «(1)»
وما تمدح اللَّه بنفيه عن نفسه فإنّ إثبات ضدّه ذَمّ ونَقْص فغير جائز إثبات نقيضه بحال، كما لو بطل استحقاق الصفة بلا تأخذه سِنَة ولا نوم لم يبطل إلّاإلىصفة نقص، فلمّا تمدح بنفي رؤية البصر عنه لم يجز إثبات ضدّه ونقيضه بحال؛ إذكان فيه إثباتصفة نقص.
ولا يجوز أنْ يكون مخصوصاً بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ «(2)»
لأنّ النظر محتمل لمعان، منه انتظار الثواب كما روي عن جماعة من السلف، فلمّا كان ذلك محتملًا للتأويل لم يجز الاعتراض عليه بما لا مساغ للتأويل فيه، والأخبار المرويّة في الرؤية إنّما المراد بها العلم لوصحّت، وهو علم الضرورة الّذي لا تشوبه شبهة ولا تعرض فيه الشكوك؛ لأنّ الرؤية بمعنى العلم مشهورة في اللغة «(3)».
*** العاشر: أنّ من كتبَ حول الرؤية من إخواننا أهل السنة- من غير فرق بين النافي والمثبت- فقد دقّ كلّ باب، ورجع إلى كلّصحابي وتابعي، ومتكلّم وفيلسوف، ولكن لم يدقّ باب أئمة أهل البيت عليهم السلام، وفي مقدّمتهم الإمام علي عليه السلام باب علم النبيّ وأقضى الأُمّة وأحدُ الثقلين اللّذين تركهما النبيّصلى الله عليه و آله لهداية الأُمّة، فقد طفحت خطبه التوحيدية بتنزيهه سبحانه عن رائحة التجسيم وشوب الجهة
ص:706
وإمكان الرؤية، فبلّغ رسالات اللَّه الّتي تعلّمها في أحضان النبيّصلى الله عليه و آله بأبلغ بيان.
وإذا ذَهَبتْ العدلية كالمعتزلة والإمامية إلى امتناع الرؤية فمنه أخذوا ومن منهجة تعلّموا، فبلغوا الغاية في التنزيه حسب إرشاداته، كماصرّح بذلك غير واحد من أئمة العدلية، وقد ذكرنا بعض خطبه فيما مضى، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى خطبه عليه السلام في نهج البلاغة، وإلى كلمات أبنائه الطاهرين في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق.
تمّ بيد مؤلّفه أحقر عباد اللَّه
جعفر السبحاني في مدينة قم المشرّفة
من شهور عام 1412 ه
وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين
ص:707
الفهارس الفنّية
2- فهرس الأمكنة
3- فهرس المصادر
4- فهرس المحتويات
ص:708
ص:709
معاونية شؤون التعليم والبحوث الإسلامية في الحجّ
ولما بلغ معاوية موت الحسن عليه السلام سجد وسجد من حوله وكبّر وكبّروا معه.
اصلاح پاروقى «(1)» أقول: لقد تواترت النصوص الصحيحة والأخبار المروية من طريق أهل