الامام الكاظم (علیه السلام) قدوة و أسوة

اشارة

سرشناسه : مدرسي، محمدتقي، - 1945

عنوان و نام پديدآور : الامام الكاظم قدوه و اسوه/ المولف محمدتقي المدرسي

مشخصات نشر : مركز الثقافي الاسلامي، 1406ق. = 1985م = 1365.

مشخصات ظاهري : [95] ص

شابك : بها:15ريال ؛ بها:15ريال

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس

موضوع : موسي بن جعفر (ع)، امام هفتم، ق 183 - 128

رده بندي كنگره : BP46/م 4الف 8

رده بندي ديويي : 297/956

شماره كتابشناسي ملي : م 70-4953

تمهيد

الحمد لله وسلام علي عباده الذين اصطفي، محمد وآله الهداة. في الوقت الذي يشهد العالم بعثاً إسلامياً اصيلاً، ليكون أملاً في أفئدة المحرومين، وخطراً علي كيان الظالمين، يعكف مستكبروا العالم، والظالمون علي دراسة الخطط الكفيلة بصدّ هذا الموج، أو لا أقل من احتوائه، ويهمس شياطينهم في آذانهم أن لا يفسد أمر آخر هذه الأمة إلاّ بما أفسد أوّله، أي بث النواة الطائفية، وإقامة أنظمة التسلط والقهر باسم الدين، وبعث الروح في العصبيات الجاهلية. فإذا بالاقلام المرتزقة تضرب علي وتر الطائفية، وتهاجم مذهب آل البيت، ولا تفتأ تكرر من نغمة: الإرهاب الشيعي، عسي أن تثير أحقاداً أموية دفينة في نفوس بعض المسلمين. وهكذا كان علي الأقلام الشريفة والضمائر النظيفة أن تنهض بواجب المحافظة علي مكاسب الأمة، وتحمي روافد البعث الإسلامي الجديد، من رجس الشياطين ونفثهم ووسوستهم وإعلامهم المضلل. ألا فلننبذ العصبيات الجاهلية، ولندافع عن رسالات الله، وعن رسله العظام (عليهم السلام) وعن رسول الله محمد بن عبد الله (ص)، وعن أهل بيته المظلومين (ع)، وعن الخط الرسالي الأصيل في الأمة. إن الشيطان قد عبّأ قواه وجاءكم بخيله ورجاله وأعدّ لإغوائكم وصدّكم عن السبيل كل مكائده ومصائده، فلنتسلّح بمزيد من الوعي ولنكن علي أشد الحذر، ولنتخذ أقلامنا دروعاً للدفاع عن مقدسات

الأمة، وعن أهل بيت الرسول وعن سبيلهم القويم في مقاومة أنظمة النفاق التي تعود اليوم إلي الظهور. وإنّي أري بوضوح، أن الإهتمام بتراث آل البيت (ع) المتمثل في نهجهم وسيرتهم وشرحهم لمعارف القرآن، وتفسيرهم لسُنة جدهم الرسول (ص) يضمن استمرار الثورة الإسلامية واستقامتها وانتصارها بإذن الله، وإن التهاون بهذا الشأن غلطة كبيرة وخطأ مميت. وفي اليوم الخامس والعشرين من شهر شوال لعالم 1405 ه والذي يصادف ذكري وفاة الإمام الصادق (ع)، أبتدأ في تأليف حلقة جديدة من سلسلة (قدوة وأسوة) تقص حياة نجل الإمام الصادق الإمام موسي بن جعفر (ع) تلك الحياة الحافلة بالعبر والدروس الثورية. وإني أعتبر ذلك مساهمة بسيطة في صدّ مؤامرات المستكبرين ضد خط آل البيت، ومكرهم في احتواء البعث الإسلامي الأصيل. أسأل الله أن يوفقني لإكمال هذه الحلقة وسائر الحلقات، وأن ينفعني به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتي الله بقلب سليم.

الاصل الكريم والمولد المبارك

اشاره

يبدو أن قرية (الأبواء) الواقعة بين المدينة ومكة، كانت تستقطب قوافل الحجاج من آل البيت أكثر من غيرها، لأنها كانت مثوي أم الرسول آمنة بنت وهب. وفي طريقهم إلي المدينة قافلين من حج بيت الله الحرام [1] حطت قافلة الإمام أبي عبد الله الصادق (ع) في هذه القرية، وذلك في اليوم السابع عشر من شهر صفر الخير، عام 128 ه - علي أشهر الروايات -، حيث قدم الإمام المائدة لضيوفه، وجاءه الرسول من عند نسائه تبشره بالوليد المبارك. تقول الرواية التاريخية - المأثورة عن منهال القصّاب قال: (خرجت من مكة وأنا أريد المدينة) فمررت بالأبواء وقد ولد لأبي عبد الله (ع) فسبقته إلي المدينة، ودخل بعدي بيوم فأطعم الناس ثلاثاً، فكنت آكل فيمن يأكل، فما

آكل شيئاً إلي الغد حتي أعود فآكل، فمكثت بذلك ثلاثاً أطعم حتي أرتفق ثم لا أطعم شيئاً إلي الغد). وجاء في حديث مروي عن ابي بصير قال: (كنت مع أبي عبد الله (ع) في السنة التي ولد فيها إبنه موسي (ع)، نزلنا الأبواء وضع لنا أبو عبد الله (ع) الغذاء ولأصحابه وأكثره وأطابه، فبينما نحن نتغدي إذ أتاه رسول حميدة أن الطلق قد ضربني، وقد أمرتني أن لا أسبقك بابنك هذا. فقام أبو عبد الله فرحاً مسروراً، فلم يلبث أن عاد إلينا حاسراً عن ذراعيه ضاحكاً سنّه، فقلنا: أضحك الله سنّك، وأقر عينك، ما صنعت حميدة؟ فقال: وهب الله لي غلاماً وهو خير من برأ الله، ولقد خبرتني عنه بأمر كنت أعلم به منها، قلت: جعلت فداك وما خبّرتك عنه حميدة؟ قال: ذكرت أنه لما وقع من بطنها وقع واضعاً يديه علي الأرض رافعاً رأسه إلي السماء، فأخبرتها أن تلك أمارة رسول الله (ص) وأمارة الإمام من بعده. فقلت: جعلت فداك وما تلك من علامة الإمام؟ فقال: إنه لما كان في الليلة التي علق بجدي فيها، أتي آتٍ جدّ أبي وهو راقد، فأتاه بكأس فيها شربة أرقّ من الماء، وأبيض من اللّبن، وألين من الزبد، وأحلي من الشهد، وأبرد من الثلج، فسقاه إيّاه وأمره بالجماع، فقام فرحاً ومسروراً فجامع فعلق فيها بجدّي، ولما كان في الليلة التي علق فيها بأبي أتي آتٍ جدي فسقاه كما سقي جدّ أبي وأمره بالجماع، فقام فرحاً مسروراً فجامع قعلق بأبي، ولما كان في الليلة التي علق بي فيها، أتي آتٍ أبي فسقاه وأمره كما أمرهم، فقام فرحاً مسروراً فجامع فعلق بي، ولما كان في الليلة التي علق فيها بابني

هذا أتاني آتٍ كما أتي جدّ أبي وجدّي فسقاني كما سقاهم، وأمرني كما أمرهم، فقمت فرحاً مسروراً بعلم الله بما وهب لي، فجامعت فعلق بابني هذا المولود، فدونكم فهو والله صاحبكم من بعدي) [2] . فلما أن عاد الإمام إلي المدينة أطعم الناس ثلاثاً وتباشر الناس بالوليد المبارك.

ابواه

والده: إمام الهدي أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع). والدته: حميدة البربرية التي ربما كانت من الأندلس أو من المغرب، وكانت تلقب ب (حميدة المصفاة). وقد كانت حميدة من فضليات النساء حيث اضطلعت بمهمة نشر الرسالة، وقد روت بعض الأحاديث عن زوجها (ع). فعن ابن سنان، عن سابق بن الوليد، عن المعلّي بن خنيس أن أبا عبد الله (ع) قال: (حميدة مصفّاة من الأدناس، كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتي أُدِّيت إليَّ كرامةً من الله لي والحجة من بعدي) [3] .

صفاته

كانت ملامحه الشخصية (ع) تعبر عن تلك النفس الكبيرة، وتلك المسؤولية العظمي التي كان عليه أدائها. ذلك الهاشمي الكريم أزهر الملامح، مربع القامة، تمام خضر، حالك، كث اللحية، يفيض مطابة وجلالاً. وتكشف ألقابه عن الصفات الرسالية التي تجلّت فيه فهو: الكاظم والصابر والصالح، والأمين. وفعلاً كانت حياته حافلة بتجليات هذه الصفات الفضيلة.

نشأته

خلال عشرين عاماً من عمره الشريف كان والده الإمام أبو عبد الله الصادق (ع) يتعهده بالرعاية، ويشير إلي فضائله ويبين لخاصة أوليائه أنه سيد ولده، وأنه الإمام من بعده. إن الإمامة لابد أن تكون بنص صريح، وقد تواترت النصوص علي الأئمة الإثني عشر من الرسول الأكرم (ص)، وهكذا كان كل إمام يوصي بمن بعده، فلهذا كان الموالون لآل البيت (ع) حريصين علي التأكد من إمامهم يسألون السلف عن الخلف. يروي عبد الرحمن بن الحجاج يقول: دخلت علي جعفر بن محمد في منزله وهو في بيت كذا من دار، في مسجدٍ له وهو يدعو، وعلي يمينه موسي بن جعفر يؤمِّن علي دعائه، فقلت له: جعلني الله فداك قد عرفت انقطاعي إليك، وخدمتي لك، فمن وليّ الأمر بعدك؟ قال: (يا عبد الرحمن إن موسي قد لبس الدرع فاستوت عليه، فقلت له: لا أحتاج بعدها إلي شيء) [4] . وكان الإمام الصادق (ع) يوصي سائر أبنائه بحق ابنه موسي (ع)، فهذا عبد الله بن جعفر أكبر سناً من الإمام موسي يتحدث إليه والده ويقول له: ما يمنعك أن تكون مثل أخيك، فوالله إني لأعرف النور في وجهه، فقال عبد الله: وكيف؟ أليس أبي وأبوه واحداً؟ وأصلي وأصله واحداً؟ فقال له أبو عبد الله: (إنه من نفسي وأنت ابني) [5] . وكانت حياة الإمام موسي (ع)

متميّزة منذ الصبا، ولذلك فقد كانت في ذلك أمارة مقامه العظيم. جاء في حديث مأثور عن صفوان الجمّال وهو من خواصّ الشيعة، سألت أبا عبد الله عن صاحب هذا الأمر، قال: صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب، وأقبل أبو الحسن وهو صغير ومعه بهمة عناق مكية [6] ويقول لها: (اسجدي لربك، فأخذه أبو عبد الله وضمه إليه وقال بأبي أنت وأمي من لا يلهو ولا يلعب) [7] . وهكذا شبّ موسي بن جعفر محبوباً بين إخوته بسبب وصفه المميز، وعملا بوصايا والده بحقه، فكان بين إخوته المتمسّكين بولاية علي بن جعفر، جاء في الحديث المأثور عن محمد بن الوليد قال: (سمعت علي بن جعفر بن محمد الصادق (ع) يقول: سمعت أبا جعفر بن محمد (ع) يقول لجماعة من خاصته وأصحابه: استوصوا بموسي ابني خيراً فإنه أفضل ولدي، ومن أخلّف من بعدي وهو القائم مقامي والحجة لله عزّ وجلّ علي كافة خلقه من بعدي، وكان علي بن جعفر شديد التمسك بأخيه موسي، والإنقطاع إليه، والتوفر علي أخذ معالم الدين منه، وله مسائل مشهورة عنه، وجوابات رواها سماعاً منه، والأخبار فيما ذكرناه أكثر من أن تحصي علي ما بيًّناه ووصفناه) [8] . ولأن عهد الإمام الصادق (ع) مميَّز ببعض الانفراج، وقد انتشرت معارف أهل البيت وأصبح مذهبهم من بين المذاهب الأكثر شيوعاً واتباعاً في العالم الإسلامي، فلقد كان الخوف علي مستقبل الطائفة شديداً، حيث كان يخشي من طمع بعض القيادات في الرئاسة علي الطائفة، وربما انجرف معهم بعض أولاد الإمام الصادق أو أحفاده، لذلك فقد كان تأكيد الإمام علي أن الوصي بعده ابنه موسي شديداً ومستمراً. وهكذا كان فلقد انحرف البعض وزعم أن الوليّ بعد الإمام

الصادق (عليه السلام) ابنه الأكبر إسماعيل، وقالوا بأنه لم يمت علي عهد أبيه إنما غاب عن الأنظار. وكانت الفرقة الإسماعيلية ذات الشوكة التي أسست أكبر حركة ثورية بعد الحركة الرسالية، وبَنت دولة عظيمة في شمال إفريقيا وكانت هذه الحركة وليدة هذا التصور الخاطيء. من هنا أشهد الإمام الصادق (ع) كبار شيعته علي وفاة ابنه وأكد لهم أن الوصي الحق بعده إنما هو موسي (ع). فلقد روي عن زرارة بن أعين أنه قال: (دخلت علي أبي عبد الله (ع) وعن يمينه سيد ولده موسي (ع) وقدّامه مرقد مغطي، فقال لي: يا زرارة جئني بداود الرّقي، وحمران، وأبي بصير، ودخل عليه المفضل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد، حتي صرنا في البيت ثلاثين رجلاً. فلما حشد المجلس قال: يا داود اكشف لي عن وجه اسماعيل، فكشف عن وجهه، فقال ابو عبد الله (ع): يا داود أحيّ هو أم ميت؟ قال داود: يا مولاي هو ميت، فجعل يعرض ذلك علي رجل رجل، حتي أتي علي آخر من في المجلس وكل يقول: هو ميت يا مولاي، فقال: اللهم اشهد ثم أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه. فلما فرغ منه قال للمفضل: يا مفضل أحسر عن وجهه، فحسر عن وجهه فقال: أحيّ هو أم ميت؟ فقال ميت قال: اللهم اشهد عليهم، ثم حمل إلي قبره، فلما وضع في لحده قال: يا مفضل أكشف عن وجهه، وقال للجماعة: أحيّ هو أم ميت؟ قلنا له: ميت فقال: اللهم اشهد، واشهدوا فإنه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور الله بأفواههم ثم أومأ إلي موسي، والله متم نوره ولو كره المشركون، ثم حثوا عليه التراب، ثم أعاد

علينا القول فقال: الميت المكفن المحنط المدفون في هذا اللحد من هو؟ فقلنا: إسماعيل قال: اللهم اشهد، ثم أخذ بيد موسي (ع) وقال: هو حق والحق معه ومنه، إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها) [9] .

الامام وعصره

عصر الإمام موسي بن جعفر

لقد كانت مدّة إمامة الكاظم (ع) خمسةً وثلاثين عاماً حيث اضطلع بها منذ أن كان عمره عشرين ربيعاً عام 148 ه إلي أن استشهد عام 183 ه وعمره خمسة وخمسون عاماً. وهكذا عاصر من ملوك بني العباس بقية ملك المنصور، وملك المهدي لمدة (10) سنوات، والهادي لمدة سنة واحدة، وهارون الملقب بالرشيد لمدة (15) عاماً. وكان ملك بني العباس من أقوي ما يكون خلال هذه الفترة حتي سمّي عصر الرشيد بالعصر الذهبي، ولا ريب أن قوة البلاد الإسلامية خلال هذا العصر لا يمكن قياسها بسائر العصور، وفي ذات الوقت كانت الحركة الرسالية قد بلغت من القوة خلال عهد الإمام الكاظم (ع) ما أهّله للقيام بثورة شاملة لولا بعض الأقدار التي منعت اندلاع الثورة، وأخرت نجاحها. وقد بلغ الصراع بين السلطة العباسية والحركة الرسالية الذَّروة في عهد الرشيد، حيث نستوحي من مجموعة نصوص وحوادث تاريخية أن مخطط الثورة كان جاهزاً، وأن السلطة العباسية قد فشلت في احتواء الثورة علي أنها كانت في عصرها الذهبي، ذلك لأن أنصار الحركة الرسالية قد ازدادوا ليس فقط بين الناس بل كان بعض كبار رجالات الدولة يميلون إلي حدٍ ما إلي الحركة الرسالية، ولعل ذلك يفسر لنا محاولة المأمون العباسي خليفة الرشيد، للتقرب إلي البيت العلوي وبالذات إلي الإمام علي بن موسي الرضا (ع) الذي قتل الرشيد والده (ع). والحوادث التي تهدينا إلي تلك الحقيقة هي التالية: هناك بعض الأحاديث التي تدل علي

أنه كان المقدر أن يقوم الإمام السابع بالأمر، وقد اشتهر عند الشيعة أنه القائم من آل محمد (ص) وأنه لا يموت حتي يملأ الله علي يديه الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً. فعن أبي حمزة الثمالي قال: قلت لأبي جعفر (ع) إن علياً (ع) كان يقول: (إلي السبعين بلاء، وكان يقول: بعد البلاء رخاء) وقد مضت السبعون ولم نر رخاءً، فقال أبو جعفر (ع): (يا ثابت إن الله تعالي قد وقّت هذا الأمر في السبعين، فلما قتل الحسين اشتد غضب الله علي أهل الأرض فأخّره إلي أربعين ومائة سنة، فحدثناكم فأذعتم الحديث وكشفتم قناع السرّ، فأخّره الله ولم يجعل له بعد ذلك وقتاً عندنا، ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) قال أبو حمزة: وقلت ذلك لأبي عبد الله (ع) فقال: (قد كان ذلك). وهنالك رواية عن داود الرقّي قال: قلت لأبي الحسن الرضا (ع) جعلت فداك أنه والله ما يلج في صدري من أمرك شيء إلاّ حديث سمعته من ذريج يرويه عن أبي جعفر (ع) قال لي: (ما هو) قال سمعته يقول: (سابعنا قائمنا إن شاء الله). قال: (صدقت وصدق ذريج وصدق أبو جعفر (ع)، فازددت والله شكاً، ثم قال لي: (يا داود بن أبي كلدة! أما والله لولا أن موسي قال للعالم [سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ الله صَابِراً] (الكهف/69) ما سأله عن شيء، وكذلك أبو جعفر (ع) لولا أن قال إن شاء الله لكان كما قال: فقطعت عليه). لقد بدأ الرساليون في ذلك الظرف يتناقلون الكلام، وبلغ الأمر إلي السلطات، إلي درجة أنه شاع وفشي، فاعتقلت مجموعة من الرساليين وسجنت الإمام (ع) وقتلته بعد ذلك [10] . ولقد شاعت فكرة قيام

الإمام السابع إلي درجة أن السلطة استخدمتها كورقة إعلامية ضد الحركة الرسالية، بعد أن دسّت السمّ إلي الإمام وقتلته في غياهب سجون بغداد، كيف؟ إن من المعروف أن القائم لا يموت حتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً، وها هو الإمام السابع قد فارق الحياة، إذاً هو ليس القائم المنتظر. وهكذا حاولت السلطة إبراز التناقض في أقوال الحركة الرسالية، حيث نادي أزلام السلطة علي نعش الإمام الكاظم (ع) ما يلي: هذا موسي بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت، فانظروا إليه فنظروا [11] . والواقع أن (فشل الثورة) أو تأخيرها، واستشهاد الإمام المنتظر لقيادتها، سبّب صدمة عنيفة لبعض أبناء الحركة الرسالية، وكان امتحاناً عسيراً لولا ما ظهر بعدئذ من حكمة ذلك حيث تحول الوضع السياسي لمصلحتهم بعد هارون من دون إراقة الدماء. ولقد استغل بعض أصحاب المصالح الطامعين في الرئاسة أو المال هذه الصدمة عند السذّج من الناس، وطفقوا يقولون أن موسي بن جعفر (ع) لم يمت، وأنه لا يموت حتي يقوم بالأمر. ولقد قاوم الإمام علي بن موسي الرضا (ع) هذا المذهب الفاسد، حتي اضمحل ولم يعد لهم وجود يذكر. فمثلاً جاء في الحديث المأثور عن جعفر بن محمد النوفلي قال: أتيت الرضا (ع) وهو بقنطرة أربق [12] ، فسلمت عليه ثم جلست وقلت: جعلت فداك إن أناساً يزعمون أن أباك حيّ، فقال: كذبوا لعنهم الله، لو كان حياً ما قسم ميراثه ولا نكح نساءه، ولكنه والله ذاق الموت كما ذاقه عليّ بن أبي طالب (ع) [13] . وهكذا كانت المواجهة بين السلطة العباسية والحركة الرسالية قد بلغت الذروة، وكان مخطط الثورة الشاملة جاهزاً لولا إذاعة السرّ ومبادرة السلطة باعتقال

الإمام موسي الكاظم. وقد سردنا نصوصاً وشواهد تاريخية علي ذلك، وهناك المزيد من الشواهد نبينها فيما يلي:

عهد الرشيد: قمة الإرهاب العباسي

بسبب تصاعد المد الرسالي، وازدياد احتمالات سقوط النظام العباسي، مارس هارون الرشيد إرهاباً لا مثيل له في تاريخ المواجهة بين السلطة العباسية وأئمة آل البيت (ع). لقد كانت التقية - والتي تعني العمل السري - علي أشدها في عصر الإمام موسي (ع)، ولعل لقب الإمام الكاظم يشير إلي أن منهج حياته كان التقية، وكظم الغيظ عمّا يصيبه من آلام وضغوط. وسائر ألقابه أيضاً تدل علي ميزة عصره، فقد كان شيعته يكنون عنه ب (العبد الصالح) و (النفس الزكية) و (الصابر) وتنوع كناه يدل أيضاً علي السرّية التي اتسمت بها الحركة في عصره، فهو “ أبو الحسن “ و “ أبو علي “ و “ أبو إبراهيم “ وقيل أيضاً “ أبو إسماعيل “. ولقد بقي سيدنا الإمام موسي (ع) فترة طويلة في سجون آل عباس، وكانت شهادته أيضاً بصورة مأساوية لا يساويها إلاّ شهادة جده أبي عبد الله الحسين (ع)، وذلك يدل علي أن خشيتهم كانت عظيمة من قيامه (ع) ضد ظلمهم وإرهابهم، ذلك لأنه لا أحد من الطغاة كان يفكّر في تكرار غلطة يزيد بن معاوية في قتله لسيد الشهداء (ع) بصورة علنية، إنما كانوا يفضلوا اغتيال أئمة آل البيت للتخلص منهم، وللبراءة من دمائهم عند الجماهير المسلمة الذين كانوا يكّنون لآل بيت رسول الله كل ولاء واحترام. حتي الرشيد الذي استشهد الكاظم (ع) في سجنه، حاول التبرؤ من دمه، والتمويه بانه مات حتف أنفه، أو أن السندي بن شاهك قائد شرطته هو الذي بادر بقتل الإمام دون أمره [14] . ومن هنا نعلم أن السلطة

لم تخاطر بقتل سيد أهل البيت، لو لم تشعر بالخوف علي مركزها. علي أن السلطة قد قتلت - صبراً - الكثير من قيادات البيت العلوي.

محنة البيت العلوي

وهكذا كانت محنة البيت العلوي عظيمة في تلك الحقبة، حيث أنهم رفضوا التسليم لإرهاب النظام، فزجّ بهم في السجون الرهيبة، ومورس في حقهم كل ألوان التعذيب، كما قتل النظام الكثير منهم صبراً. وإن ذلك لدليل علي قوة شوكة المعارضة الرسالية وتهديدها للنظام، كما هو دليل علي مدي احتمال هذا البيت الطاهر للمآسي والمصائب من أجل رسالات الله، ولم يكن عبثاً تأكيد الرسول (ص) علي الإهتمام باهل بيته واعتبارهم ورثته، وجعلهم محور أهل الحق، وإن مثلهم مثل سفينة نوح من ركبها نجي ومن تخلف عنها غرق وهلك. وفي القصة التالية بعض تلك المحن العظيمة التي توالت علي أهل بيت الرسول من أبناء فاطمة وعلي عليهم السلام. عن عبيد الله البزاز النيسابوري - وكان مسناً - قال: كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة، فرحلت إليه في بعض الأيّام، فبلغه خبر قدومي فاستحضرني للوقت وعليّ ثياب السفر لم أغيّرها، وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر. فلمّا دخلت إليه رأيته في بيت يجري فيه الماء فسلمت عليه وجلست، فأتي بطست وإبريق فغسَّل يديه، ثم أمرني فغسلت يدي واحضرت المائدة وذهب عني أنَي صائم وأني في شهر رمضان، ثمّ ذكرت فأمسكت يدي، فقال لي حميد: مالك لا تأكل؟ فقلت أيها الأمير هذا شهر رمضان، ولست بمريض ولا بي علّة توجب الإفطار، ولعلّ الأمير له عذر في ذلك أو علّة توجب الإفطار، فقال: ما بي علّة توجب الإفطار وإنّي لصحيح البدن، ثم دمعت عيناه وبكي. فقلت له بعدما فرغ من طعامه:

ما يبكيك أيّها الأمير؟ فقال: أنفذ إليّ هارون الرشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل أن أجب، فلمّا دخلت عليه رأيت بين يديه شمعة تتقد وسيفاً أخضر مسلولاً وبين يديه خادم واقف، فلما قمت بين يديه رفع رأسه إليَّ فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال، فأطرق ثم أذن لي في الانصراف. فلم ألبث في منزلي حتي عاد الرسول إليَّ وقال: أجب أمير المؤمنين، فقلت في نفسي: أنا والله أخاف أن يكون قد عزم علي قتلي وأنه لما رآني استحيي منّي، فعدت إلي بين يديه فرفع رأسه إليَّ فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد فتبسم ضاحكاً، ثم أذن لي في الانصراف. فلما دخلت منزلي لم ألبث أن عاد الرسول إليَّ فقال: أجب أمير المؤمنين فحضرت بين يديه وهو علي حاله، فرفع رأسه إليَّ فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين، فقلت: بالنفس والمال والأهل والولدل والدين فضحك، ثم قال لي: خذ هذا السيف وامتثل ما يامِّرك به هذا الخادم. قال: فتناول الخادم السيف وناولنيه وجاء بي إلي بيت بابه مغلق ففتحه فإذا به بئر في وسطه، وثلاثة بيوت أبوابها مغلقة، ففتح باب بيت منها فإذا فيه عشرون نفسا عليهم الشعور والذوائب، شيوخ وكهول وشبّان مقيَّدون، فقال لي: إنَّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، وكانوا كلهم علويّة من ولد علي وفاطمة (ع) فجعل يخرج إليَّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه حتي أتيت علي آخرهم، ثم رمي بأجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر. ثم فتح باب بيت آخر فإذا فيه أيضاً عشرون نفسا من العلويّة من ولد علي وفاطمة (ع) مقيدون، فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، فجعل يخرج إليَّ واحداً بعد واحد

فأضرب عنقه ويرمي به في تلك البئر، حتي أتيت علي آخرهم، ثم فتح باب البيت الثالث فإذا فيه مثلهم عشرون نفساً من ولد علي وفاطمة (ع)، مقيدون عليهم الشعور والذوائب فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك أن تقتل هؤلاء أيضاً فجعل يخرج إليَّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه فيرمي به في تلك البئر، حتي أتيت علي تسعة عشر نفساً منهم، وبقي شيخ منهم عليه شعر فقال لي: تبّاً لك يا مشؤوم أي عذر لك يوم القيامة إذا قدمت علي جدنا رسول الله (ص) وقد قتلت من أولاده ستين نفساً، قد ولدهم عليّ وفاطمة (ع)، فارتعشت يدي وارتعدت فرائصي فنظر إليَّ الخادم مغضباً وزبرني، فأتيت علي ذلك الشيخ أيضاً فقتلته ورمي به في تلك البئر، فإذا كان فعلي هذا وقد قتلت ستين نفساً من ولد رسول الله (ص) فما ينفعني صومي وصلاتي وأنا لا أشك أني مخلد في النار [15] .

محنة العلماء الرساليين

وكانت محنة العلماء الكبار من الموالين لآل البيت عظيمة أيضاً أو ليسوا شيعة آل محمد (ص)؟ فلابد أن يقتدوا بهم في بلائهم، ومن أعظمهم بلاء محمد بن أبي عمير الأزدي البغدادي وهو في نفس الوقت من أعظمهم شأناً. وكان من أوثق الناس عند الخاصة والعامة، وأنسكهم نسكاً، وأورعهم وأعبدهم، وحكي عن الجاحظ أنه قال: كان أوحد أهل زمانه في الأشياء كلها، وقال أيضاً: وكان وجهاً من وجوه الرافضة، حبس أيام الرشيد ليلي القضاء. وقيل بل ليدلّ علي الشيعة وأصحاب موسي بن جعفر (ع)، وضرب علي ذلك، وكاد يقر لعظيم الألم، فسمع محمد بن يونس بن عبد الرحمن يقول له: إتق الله يا محمد بن أبي عمير فصبر ففرّج الله عنه، وروي الكشي أنه ضرب

مائة وعشرين خشبة أيام هارون، وتولي ضربه السندي بن شاهك، وكان ذلك علي التشيع، وحبس فلم يفرج عنه، حتي أدي من ماله واحداً وعشرين ألف درهم، وروي أن المأمون حبسه حتي ولاه قضاء بعض البلاد، وروي الشيخ المفيد في الاختصاص أنه حبس سبع عشرة سنة، وفي مدة حبسه دفنت أخته كتبه فبقيت مدة أربع سنين، فهلكت الكتب، وقيل أنه تركها في غرفة فسال عليها المطر، لذلك حدّث من حفظه، ومما كان سلف له في أيدي الناس أدرك أيام الكاظم (ع) ولم يحدث عنه، وأيام الرضا والجواد (ع) وحدّث عنهما، ومات سنة 217 [16] .

التسلل إلي النظام

اشاره

ولعل أوضح شواهد القوة عند الحركة الرسالية في عصر الإمام الكاظم (عليه السلام) هو حجم تسلل عناصرها في أجهزة النظام، والذي يدل علي مدي نفوذهم في مجمل المؤسسات الرسمية، ولعلّ رأس النظام كان علي علم وإن بصورة إجمالية بولاء رجاله لآل البيت، لكنه كان عاجزاً عن الانقلاب عليهم لسبب أو لآخر، وقبل أن نورد بعض القصص التاريخية لهذا التسلل، يجدر أن نعلم أن متانة الشبكة التنظيمية التي كانت تتمتع بها الحركة الرسالية التي أوجدت هذا المدي الواسع من العناصر في مختلف أجهزة النظام الحساسة، لتعتبر نموذجاً لما ينبغي أن تكون عليه التنظيمات الرسالية في كل مكان. 1 - يبدو أن بعض رؤساء المحافظات أو حسب تعبيرهم يومئذ (الولاة) كانوا منتمين إلي الحركة، فمثلاً مدينة (الري) وهي طهران الحالية، كانت من الحواضر العامة في ذلك اليوم، ومع ذلك كان واليها واحداً من موالي أهل البيت، كما تذكر الرواية التالية من كتاب قضاء حقوق المؤمنين لأبي علي بن طاهر الصوري بإسناده عن رجل من أهل الري قال: ولّي علينا بعض كتاب يحيي

بن خالد، وكان عليّ بقايا يطالبني بها، وخفت من إلزامي إيّاها خروجاً عن نعمتي، وقيل لي: أنه ينتحل هذا المذهب، فخفت أن أمضي إليه فلا يكون كذلك فأقع فيما لا أحب، فاجتمع رأيي علي أني هربت إلي الله تعالي، وحججت ولقيت مولاي الصابر - يعني موسي بن جعفر (ع) - فشكوت حالي إليه فأصحبني مكتوباً نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم اعلم أن لله تحت عرشه ظِلاً لا يسكنه إلاّ من أسدي إلي أخيه معروفاً أو نفّس عنه كربة، أو أدخل علي قلبه سروراً، وهذا أخوك والسلام. قال: فعدت من الحجّ إلي بلدي، ومضيت إلي الرجل ليلاً، واستأذنت عليه وقلت: رسول الصابر (ع) فخرج إليّ حافياً ماشياً، ففتح لي بابه، وقبّلني وضمني إليه، وجعل يقبّل بين عيني، ويكرّر ذلك كلما سألني عن رؤيته (ع)، وكلما أخبرته بسلامته وصلاح أحواله استبشر وشكر الله، ثمّ أدخلني داره وصدّرني في مجلسه وجلس بين يدي، فأخرجت إليه كتابه (ع) فقبّله قائماً وقرأه ثم استدعي بماله وثيابه، فقاسمني ديناراً ديناراً، ودرهماً درهماً، وثوباً ثوباً، وأعطاني قيمة ما لم يمكن قسمته، وفي كلّ شيء من ذلك يقول: يا أخي هل سررتك؟ فأقول: أي والله، وزدت علي السرور، ثم استدعي العمل فأسقط ما كان باسمي وأعطاني براءة مما يتوجّه عليّ منه، وودّعته، وانصرفت عنه. فقلت: لا أقدر علي مكافأة هذا الرّجل إلاّ بأن أحج في قابل وأدعو له وألقي الصّابر (ع) وأعرّفه فعله، ففعلت ولقيت مولاي الصابر (ع) وجعلت أحدّثه ووجهه يتهلّل فرحاً، فقلت: يا مولاي هل سرّك ذلك؟ فقال: أي والله لقد سرني وسرّ أمير المؤمنين، والله لقد سرّ جدي رسول الله (ص)، ولقد سرّ الله تعالي [17] . 2 - كان

علي بن يقطين وزيراً للخليفة وكان يشرف علي بلاد واسعة وكان من أقرب المستشارين لهارون الرشيد وفي الوقت ذاته كان من الموالين لأهل البيت (ع) [18] وسنذكر بإذن الله بعض الأحاديث التي تبين لنا مواقف علي بن يقطين والتي تكشف أن سياسة التقية أو العمل السري لم تكن سياسة مرحلية مؤقتة، بل كانت بمثابة استراتيجية عمل بعيدة المدي، فلعل أئمة الهدي رأوا أن تمكين رجالهم من مراكز الحكم بصورة أو بأخري، أفضل وسيلة لإصلاح أمر الأمة، ولم يجدوا حاجة إلي التغيير السريع في قمة الهرم السلطوي، وتحمل مسؤوليات الحكم بصورة مباشرة وحتي ولو لم يكن بناء الأمة الحضاري قد بلغ من النصج ما يحتمل نظاماً إلهيّاً، كالذي كان أهل البيت (ع) يريدونه. وبتعبير آخر: إن استراتيجية (التقاطع) مع نظام الحكم وذلك بالسيطرة علي مراكزه الهامة، وشل قدرته من الداخل عن المعارضة ربما كانت الاستراتيجية المثلي لتلك الظروف.

قصة الدراعة

في الوقت الذي كان علي بن يقطين مقرباً إلي الرشيد، كان جواسيسه لا يفتأون يحيطون به وبسائر الوزراء، إذ كان هاجس موالاة وزراءه للإمام الحق موسي بن جعفر (ع) يلاحق الرشيد ليل نهار، إلاّ أن العلم الإلهي الذي كان لأئمة آل البيت (ع) منع الرشيد من إثبات أي شيء بحق علي بن يقطين، كما أن انضباط علي بن يقطين وشدة التزامه بالأوامر القيادية فوّتت علي الرشيد فرصاً كثيرة، ومنها ما ذكرت قصة الدرّاعة التي نبيِّنها فيما يلي: - روي إبراهيم بن الحسن بن راشد، عن ابن يقطين قال: (كنت واقفاً عند هارون الرشيد إذ جاءته هدايا ملك الروم، وكان فيها درّاعة ديباج سوداء منسوجة بالذهب لم أر أحسن منها، فرآني أنظر إليها فوهبها لي، وبعثتها إلي أبي

إبراهيم (ع) ومضت عليها برهة تسعة أشهر وانصرفت يوماً من عند هارون بعد أن تغدّيت بين يديه، فلمّا دخلت داري قام إليّ خادمي الذي يأخذ ثيابي بمنديل علي يده وكتاب لطيف ختمه رطب، فقال: أتاني بهذا رجل الساعة فقال: أوصله إلي مولاك ساعة يدخل، ففضضتُ الكتاب وإذ به كتاب مولاي أبي إبراهيم (ع) وفيه: يا علي هذا وقت حاجتك إلي الدرّاعة وقد بعثت بها إليك، فكشفت طرف المنديل عنها ورأيتها وعرفتها، ودخل عليّ خادم هارون بغير إذن فقال: أجب أمير المؤمنين. قلت: أيًّ شيء حدث؟ قال لا أدري. فركبت ودخلت عليه، وعنده عمر بن بزيع واقفاً بين يديه فقال: ما فعلت بالدرّاعة الّتي وهبتك، قلت: خلع أمير المؤمنين عليّ كثير من دراريع وغيرها فعن أيّها يسألني؟ قال: درّاعة الديباج السوداء الرّومية المذهّبة، فقلت: ما عسي أن أصنع بها ألبسها في أوقات وأصلّي فيها ركعات، وقد كنت دعوت بها عند منصرفي من دار أمير المؤمنين السّاعة لألبسها، فنظر إلي عمر بن بزيع فقال: قل يحُضرها، فأرسلت خادمي جاء بها، فلمّا رآها قال: يا عمر ما ينبغي أن تنقل علي عليّ بعد هذا شيئاً، قال: فأمر لي بخمسين ألف درهم حملت مع الدرّاعة إلي داري، قال عليّ بن يقطين: وكان الساّعي ابن عم لي فسوَّد الله وجهه وكذَّبه والحمد لله) [19] .

سرية الاتصالات

كيف كان يتم الاتصال بين الإمام وبين شيعته المتخفّين من أمثال علي بن يقطين؟ نحن لا نعرف مزيداً من التفاصيل حول طبيعة الاتصالات، إلاّ أن الباحث باستطاعته أن يتعرف علي القضايا من خلال بعض الأخبار المتناثرة، فالخبير الزراعي يتعرف علي طبيعة التربة والماء والهواء والبذر والسماد و. و.. من خلال ثمرة واحدة من شجرة

التفاح مثلاً، وهكذا المؤرخ بإمكانه أن يتعرف علي المزيد من التفاصيل من خلال التفكر في أبعاد حادثة تاريخية تروي. وهكذا الحادثة الثانية تبين أبعاد الاتصالات السرية التي كانت تتم بين أئمة الهدي وشيعتهم. عن محمد بن مسعود، عن الحسين بن شكيب، عن بكر بن صالح، عن إسماعيل بن عباد القصري، عن إسماعيل بن سلام وفلان بن حميد، قالا: (بعث إلينا علي بن يقطين فقال: اشتريا راحلتين، وتجنبا الطريق - ودفع إلينا أموالاً وكتباً - حتي توصلا ما معكما من المال والكتب إلي أبي الحسن موسي (ع) ولا يعلم بكما أحد، قال: فأتينا الكوفة واشترينا راحلتين وتزوّدنا زاداً، وخرجنا نتجنب الطريق، حتي إذا صرنا ببطن الرمة شددنا راحلتنا، ووضعنا لها العلف، وقعدنا نأكل، فبينما نحن كذلك، إذ راكب قد أقبل ومعه شاكري، فلما قرب منَّا فإذا هو أبو الحسن موسي (ع)، فقمنا وسلّمنا عليه، ودفعنا إليه الكتب وما كان معنا، فأخرج من كمّه كتباً فناولنا إيّاها فقال: هذه جوابات كتبكم. قال: فقلنا: إنّ زادنا قد فني فلو أذنت لنا فدخلنا المدينة، فزرنا رسول الله وتزوّدنا زاداً فقال: هاتا ما معكما من الزّاد، فأخرجنا الزّاد إليه فقلّبه بيده فقال: هذا يبلّغكما إلي الكوفة، وأما رسول الله (ص) فقد رأيتماه، إني صليت معهم الفجر، وإنّي أريد ان أصلي معهم الظهر، انصرفا في حفظ الله) [20] .

التقية حتي في كيفية الوضوء

وفشلت محاولات الوشاة ورجال مباحث النظام في كشف حقيقة علي بن يقطين، فقام الرشيد بنفسه بعملية التجسس عليه، فكانت عاقبته الفشل أيضاً كما في الخبر التالي: - روي محمد بن إسماعيل، عن محمد بن الفضل قال: (اختلفت الرواية بين أصحابنا في مسح الرجلين في الوضوء هو من الأصابع إلي الكعبين؟ أم

من الكعبين إلي الأصابع؟ فكتب علي بن يقطين إلي أبي الحسن موسي (ع) أن أصحابنا قد اختلفوا في مسح الرجلين، فإن رأيت أن تكتب إليّ بخطك ما يكون عملي عليه فعلت إن شاء الله، فكتب إليه أبو الحسن (ع): فهمتُ ما ذكرتَ من الاختلاف في الوضوء والذي آمرك به في ذلك فأن تتمضمض ثلاثاً وتستنشق ثلاثاً، وتغسل وجهك ثلاثاً، وتخلل شعرلحيتك وتمسح رأسك كله، وتمسح ظاهر أذنيك. وباطنها، وتغسل رجليك إلي الكعبين ثلاثاً ولا تخالف ذلك إلي غيره. فلما وصل الكتاب إلي عليّ بن يقطين تعجب بما رسم فيه، ممّا أجمع العصابة علي خلافه، ثم قال: مولاي أعلم بما قال وأنا ممتثل أمره، وكان يعمل في وضوئه علي هذا الحدّ، ويخالف ما عليه جميع الشيعة امتثالاً لأمر أبي الحسن (ع)، وسعي بعليّ بن يقطين إلي الرشيد، وقيل له: إنه رافضي مخالف لك. فقال الرشيد لبعض خاصّته: قد كثر عندي القول في عليّ بن يقطين والقذف له بخلافنا وميله إلي الرفض ولست أري في خدمته لي تقصيراً، وقد امتحنته مراراً فما ظَهَرْتُ منه علي ما يُقذف به، وأحبّ أن استبرئ أمره من حيث لا يشعر بذلك فيتحرز منّي. فقيل له: إنّ الرّافضة يا أمير المؤمنين تخالف الجماعة في الوضوء فتخفّفه ولا تري غسل الرّجلين فامتحنه يا أمير المؤمنين من حيث لا يعلم، بالوقوف علي وضوئه، فقال: أجل إنّ هذا الوجه يظهر به أمره، ثم تركه مدّة وناطه بشيء من الشغل في الدّار، حتّي دخل وقت الصلاة، وكان علي بن يقطين يخلو في حجرة في الدار لوضوئه وصلاته، فلمّا دخل وقت الصلاة وقف الرّشيد من وراء حائط الحجرة بحيث يري عليّ بن يقطين، ولا يراه هو، فدعا

بالماء للوضوء، فتمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وخلّل شعر لحيته، وغسل يديه إلي المرفقين ثلاثاً، ومسح رأسه وأذنيه، وغسل رجليه والرشيد ينظر إليه. فلما رأه وقد فعل ذلك ولم يملك نفسه حتّي أشرف عليه بحيث يراه، ثمّ ناداه: كذب يا علي بن يقطين من زعم أنّك من الرافضة، وصلحت حاله عنده، وورد عليه كتاب أبي الحسن (ع): ابتداءً من الآن يا علي بن يقطين فتوضّأ كما أمر الله، واغسل وجهك مرة فريضة، وأخري إسباغاً، واغسل يديك من المرفقين كذلك وامسح مقدم رأسك وظاهر قدميك بنداوة وضوئك، فقد زال ما كان يخاف عليك والسلام) [21] . 3 - كان المسيّب نائب رئيس شرطة النظام سندي بن شاهك، وكان موكلاً بسجن الإمام (ع)، وكان يوالي الإمام (ع) كما يظهر من بعض التواريخ، وكان يتصل بالشيعة ويأمرهم بما يوصيه الإمام، والواقع أن كثير ممن سجن الإمام عندهم قالوا بولايته لما شاهدوا منه من المعاجز، فهذا بشّار مولي السندي بن شاهك يقول: (كنت من أشد الناس بغضاً لآل أبي طالب (ع)، فدعاني السندي بن شاهك يوماً فقال لي: يا بشار إنّي أريد أن أئتمنك علي ما ائتمنني عليه هارون، قلت: إذن لا أبقي فيه غاية، فقال: هذا موسي بن جعفر قد دفعه إلّي وقد وكّلتك بحفظه، فجعله في دار دون حرمه ووكّلني عليه، فكنت أقفل عليه عدّة أقفال، فإذا مضيت في حاجة وكّلت امرأتي بالباب فلا تفارقه حتّي أرجع. قال بشّار: فحوّل الله ما كان في قلبي من البغض حبّاً، قال: فدعاني (ع) يوماً فقال: يا بشّار امضِ إلي سجن القنطرة فادع لي هند بن الحجاج وقل له: أبو الحسن يأمرك بالمصير إليه، فإنّه سينهرك ويصيح عليك،

فإذا فعل ذلك، فقل له: أنا قد قلت لك وابلغت رسالته، فإن شئت فافعل ما أمرني، وإن شئت فلا تفعل، واتركه وانصرف، قال: ففعلت ما أمرني وأقفلت الأبواب كما كنت أقفل وأقعدت امرأتي علي الباب وقلت لها: لا تبرحي حتّي آتيك. وقصدت إلي سجن القنطرة فدخلت إلي هند بن الحجّاج، فقلت: أبو الحسن يأمرك بالمصير إليه، قال: فصاح عليّ وانتهرني فقلت له: أنا قد أبلغتك وقلت لك، فإن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل، وانصرفت وتركته وجئت إلي أبي الحسن (ع) فوجدت امرأتي قاعدة علي الباب والأبواب مغلقة، فلم أزل أفتح واحداً منها حتي انتهيت إليه فوجدته وأعلمته الخبر، فقال: نعم قد جائني وانصرف، فخرجت إلي امرأتي فقلت لها: جاء أحد بعدي فدخل هذا الباب؟ فقالت: لا والله ما فارقت الباب ولا فتحت الأقفال حتي جئت) [22] .

معاجز الإمام وعلمه

معاجز الإمام الكاظم

هناك فرق كبير بين فكرة الغلو المرفوضة عند المسلمين بشدة، وبين الإعتقاد بكرامة أولياء الله، واستجابة الله دعائهم، ونظرهم بنور الله إلي الحقائق. ذلك أن فكرة الغلو تسمو بالشخص إلي درجة الألوهية وتري أن الرب سبحانه وتعالي يحل في عباده، حتي يصبح العبد هو الرب بروحه، وتكون قدراته آنئذٍ ذاتية. بينما الإعتقاد بالإعجاز لدي أولياء الله يعكس التوحيد الخالص حيث يرفض أي تحول ذاتي في شخص النبي أو الإمام أو الولي، إنما يعني تفضيل الله لعباده المخلصين، وإكرامهم بالعلم أو القدرة. وفي الوقت الذي نجد الآيات القرآنية تقدس الله وتسبّحه وتذكرنا باستحالة حلوله في شيء أو شخص وتندد بعقائد الشرك، في ذات الوقت تذْكر لنا معاجز الأنبياء (ع) التي دلّت علي كرامتهم عند الله، حيث أجري الله علي أيديهم تلك المعاجز فيقول الله سبحانه في شأن

عيسي ابن مريم (ع): [وَرَسُولاً إِلَي بَنِي إِسْرَآئِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِاَيَةٍ مِن رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَاَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله وَاُبْرِئُ اْلأَكْمَهَ وَاْلأبْرَصَ وَاُحْيِي الْمَوْتَي بِإِذْنِ الله وَاُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] (آل عمران/49) إن تكرار كلمة (بإذن الله) يدلل علي أن تلك المعاجز لا تعني حلولاً إلهياً في شخص عيسي ليجعله ابناً لله سبحانه وتعالي عما يقوله المشركون، بل علي أن الله يهب لعبده ما يشاء وكيف يشاء ومتي يشاء. وهكذا كانت عقيدة المسلمين في الأئمة (ع) والأولياء بأن الله قد أكرمهم بالعلم والقدرة، وهذا من صميم عقيدة التوحيد، أوليس الله بقادر علي أن يكفي عبده وينصره ويطلعه علي غيبه إذا ارتضاه؟ ولِمَ لا يفعل الرب بعبده المطيع له المخلص في العبادة مثل ذلك؟ أوليس الله يحب التوّابين ويحب المتطّهرين ويحب المتوكّلين، ويحب من يطيعه، ويجزي من يعبده، ويجزي المتصدقين، ويجزي المحسنين، ويكرم المتقين، ويسلّم ويصلي علي عباده الصابرين؟ كما نقرأ في أكثر سور القرآن الكريم. إن من لا يعتقد بالتأييد الإلهي لعباده الصالحين وفي طليعتهم الأئمة المعصومين (ع)، ويثير الشكوك حول معاجزهم، يكاد يكفر بروح القرآن وباطنه ومحتواه وأعظم معانيه. إن لبّ رسالات الله هو الإعتقاد بأن الله مهيمن علي عرش القدرة، ويفعل ما يشاء وأنه لا يفعل إلاّ بحكمة بالغة، وخلاصة الحكمة جزاء من أحسن وعقاب من أساء، فإذا كان سواء عنده من أحسن ومن أساء وكان لا ينصر عباده المؤمنين ولا يخذل الكفار والمنافقين، فما هي فائدة الإيمان بقدرته وحكمته و. و.. وهكذا كان الإمام موسي بن جعفر حليف القرآن، وأعبد الناس للرب في

عصره، وأعظم المطيعين للخالق، كان له من المعاجز والكرامات ما اعترف بها المسلمون جميعاً، ولا يسعنا أن نذكر فيما يلي إلاّ قليلاً منها [23] . 1 - لقد أنقذ الله سبحانه عبده الصالح موسي بن جعفر (ع) من طغاة عصره بفضل توكله عليه وتبتله إليه، وكذلك ينجي الله المؤمنين. جاء في الحديث عن عبيد الله بن صالح قال: حدثني حاجب الفضل بن الربيع عن الفضل بن ربيع قال: كنت ذات ليلة في فراشي مع بعض جواريّ فلما كان في نصف الليل سمعت حركة باب المقصورة فراعني ذلك فقالت الجارية: لعل هذا من الريح، فلم يمض إلاّ يسير حتي رأيت باب البيت الذي كنت فيه قد فتح، وإذا مسرور الكبير قد دخل عليّ فقال لي: أجب الأمير، ولم يسلّم عليّ. فيئست من نفسي وقلت: هذا مسرور، دخل إليّ بلا إذن ولم يسلم، ما هو إلاّ القتل، وكنت جنباً فلم أجسر أن أسأله إنظاري حتي أغتسل، فقالت لي الجارية: لما رأت تحيّري وتبلّدي: ثق بالله عزّ وجلّ وانهض، فنهضت، ولبست ثيابي، وخرجت معه حتي أتيت الدار، فسلمت علي أمير المؤمنين وهو في مرقده فرد عليَّ السلام فسقطت فقال: تداخلك رعب.؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فتركني ساعة حتي سكنت ثم قال لي: صر إلي حبسنا فأخرج موسي بن جعفر بن محمد وادفع إليه ثلاثين ألف درهم، واخلع عليه خمس خلع، واحمله علي ثلاث مراكب، وخيره بين المقام معنا أو الرحيل عنا إلي أيّ بلد أراد وأحب. فقلت: يا أمير المؤمنين تأمر بإطلاق موسي بن جعفر؟ قال: نعم فكرّرت ذلك عليه ثلاث مرات، فقال لي: نعم ويلك أتريد ان أنكث العهد؟ فقلت: يا أمير المؤمنين وما العهد؟ قال:

بينا أنا في مرقدي هذا إذ ساورني أسود ما رأيت من السودان أعظم منه فقعد علي صدري وقبض علي حلقي وقال لي: حبست موسي بن جعفر ظالماً له؟ فقلت: فأنا أطلقه وأهب له، وأخلع عليه، فأخذ عليّ عهد الله عزّ وجلّ وميثاقه، وقام عن صدري، وقد كادت نفسي تخرج. فخرجت من عنده ووافيت موسي بن جعفر (ع) وهو في حبسه، فرأيته قائماّ يصلي فجلست حتي سلم، ثم أبلغته سلام أمير المؤمنين، وأعلمته بالذي أمرني به في أمره، وأني قد أحضرت ما وصله به، قال: إن كنت أمرت بشيء غير هذا فافعله؟ فقلت: لا وحق جدّك رسول الله ما أمرت إلاّ بهذا، فقال: لا حاجة لي في الخلع والحملان والمال إذ كانت فيه حقوق الأمة فقلت: ناشدتك بالله أن لا ترده فيغتاظ، فقال: إعمل به ما أحببت، وأخذت بيده (ع) وأخرجته من السجن. ثم قلت له: يابن رسول الله أخبرني بالسبب الذي نلت به هذه الكرامة من هذا الرجل، فقد وجب حقي عليك لبشارتي إياك، ولما أجراه الله عزّ وجلّ علي يدي من هذا الأمر، فقال (ع): رأيت النبي (ص) ليلة الأربعاء في النوم فقال لي: يا موسي أنت محبوس مظلوم؟ فقلت: نعم يا رسول الله محبوس مظلوم، فكرر عليً ذلك ثلاثاً ثم قال: [وإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَي حِينٍ] (الانبياءِ/111) أصبح غداً صائماً وأتبعه بصيام الخميس والجمعة، فإذا كان وقت الإفطار فصلّ اثنتي عشر ركعة تقرأ في كلّ ركعة الحمد واثنتي عشرة مرة قل هو الله أحد، فإذا صلّيت منها أربع ركعات فاسجد ثم قل: يا سابق الفوت يا سامع كلّ صوت يا محيي العظام وهي رميم بعد الموت، أسألك باسمك العظيم الأعظم

أن تصلي علي محمد عبدك ورسولك وعلي أهل بيته الطيبين الطاهرين وأن تعجل لي الفرج مما أنا فيه “ ففعلت فكان الذي رأيت [24] . 2 - وقد دعا سيدنا الكاظم (ع) لإنقاذ بعض المؤمنين من شيعته من ظلم الطاغية ن فاستجاب الله دعاءه حيث جاء في التاريخ عن صالح بن واقد الطبري قال: دخلت علي موسي بن جعفر فقال: يا صالح إنه يدعوك الطاغية يعني هارون فيحبسك في محبسه ويسألك عني فقل إني لا أعرفه، فإذا صرت إلي محبسه فقل من أردت أن تخرجه فأخرجه بإذن الله تعالي، فدعاني هارون من طبرستان فقال: ما فعل موسي بن جعفر فقد بلغني أنه كان عندك؟ فقلت: ما يدريني من موسي بن جعفر؟ أنت يا أمير المؤمنين أعرف به وبمكانه، فقال: اذهبوا به إلي الحبس، فوالله إني لفي بعض اللّيالي قاعد وأهل الحبس نيام إذ أنا به يقول: يا صالح، قلت: لبيك قال: صرت إلي ههنا؟ فقلت: نعم يا سيدي، قال: قم فاخرج واتبعني، فقمت وخرجت، فلما صرنا إلي بعض الطريق قال: صالح يا رسول الله محبوس مظلوم فكرر عليّ ذلك ثلاثاً، ثم قال: السلطان سلطاننا كرامة من الله أعطاناها، قلت: يا سيدي فأين أحتجز من هذا الطاغية؟ قال: عليك ببلادك فارجع إليها فإنه لن يصل إليك، قال صالح: فرجعت إلي طبرستان، فوالله ما سأل ولا أدري أحبسني أم لا [25] . 3 - وكان يؤدب شيعته علي التقوي، ويعطيه الرب نوراً يعلم به خباياهم، فقد جاء في الحديث عن عبد الله بن القاسم بن الحارث البطل، عن مرازم قال: (دخلت المدينة فرأيت جارية في الدار التي نزلتها فعجبتني فأردت أن أتمتع منها فأبت أن تزوجني نفسها،

فجئت بعد العتمة فقرعت الباب فكانت هي التي فتحت لي، فوضعت يدي علي صدرها فبادرتني حتي دخلت، فلما أصبحت دخلت علي أبي الحسن (ع) فقال: يا مرازم ليس من شيعتنا من خلا ثم لم يرع قلبه) [26] . 4 - وينتفع بعلمه الإلهي في سبيل تربية شيعته علي الانضباط، باعتباره ضرورة قصوي في سائر حقول الحياة، وبالذات حقل الجهاد، جاء في الآثار: عن محمد بن الحسين بن علي عن حسان الواسطي، عن موسي بن بكر قال: (دفع إليّ أبو الحسن الأول (ع) رقعة فيها حوائج وقال لي: إعمل بما فيها، فوضعتها تحت المصلّي، وتوانيت عنها، فمررت فإذا الرقعة في يده، فسألني عن الرقعة فقلت: في البيت، فقال: يا موسي إذا أمرتك بالشيء فاعمله وإلاّ غضبت عليك [27] . 5 - وربما اقتضي الأمر الإعجاز بهدف تأديب الشيعة علي التواضع للحق، والإبتعاد عن الكبر والتعالي للارتفاع بهم إلي مستوي (حزب الله) الذين لا يتمايزون عن بعضهم بما يملكون من مال أو علم أو منصب، دعنا نقرأ معاً قصة علي بن يقطين، وهو وزير في سلطان الطغاة، وبحكم منصبه ربما أخذه الغرور وتعالي علي سائر المؤمنين، لننظر كيف يؤدبه الإمام، ويستخدم قدرته الإلهية لتربية روح التقوي فيه. عن محمد بن علي الصوفي قال: (استأذن إبراهيم الجمّال رضي الله عنه علي أبي الحسن علي بن يقطين الوزير فحجبه، فحج علي بن يقطين في تلك السَّنة فاستأذن بالمدينة علي مولانا موسي بن جعفر فحجبه، فرآه ثاني يومه فقال علي بن يقطين: سيدي ما ذنبي؟ فقال: حجبتك لأنك حجبت أخاك إبراهيم الجمال، وقد أبي الله أن يشكر سعيك أو يغفر لك حجب إبراهيم الجمّال، فقلت: يا سيدي ومولاي من لي

بإبراهيم الجمّال في هذا الوقت وأنا بالمدينة وهو بالكوفة؟ فقال: إذا كان الليل فامض إلي البقيع وحدك من غير أن يعلم بك أحد من أصحابك وغلمانك واركب نجيباً هناك مسرجاً، قال: فوافي البقيع وركب النجيب ولم يلبث أن أناخه علي باب إبراهيم الجمّال بالكوفة، فقرع الباب وقال: أنا علي بن يقطين. فقال إبراهيم الجمّال من داخل الدار: وما يعمل علي بن يقطين الوزير ببابي؟! فقال علي بن يقطين: يا هذا إن أمري عظيم، وآلي عليه أن يأذن له، فلما دخل قال: يا إبراهيم إن المولي (ع) أبي أن يقبلني أو تغفر لي، فقال: يغفر الله لك فآلي علي بن يقطين علي إبراهيم الجمّال أن يطأ خده فامتنع ابراهيم من ذلك، فآلي عليه ثانياً ففعل، فلم يزل ابراهيم يطأ خده، وعلي بن يقطين يقول: اللهم اشهد، ثم انصرف وركب النجيب وأناخه من ليلته بباب المولي موسي بن جعفر (ع) بالمدينة، فأذن له ودخل عليه فقبله) [28] . 6 - باعتباره قائد المسلمين، وخليفة رسول الله (ص) الذي تحلّي بمكارم الخلق المحمدي، فإنه كان رحيماً بالمؤمنين عزيزاً عليه ما عندتم. وكثيراً ما كان ينظر بنور الله فيري الضر الّذي قد يلحق بهم فيبادر برفعه عنهم بطريقة أو باخري حتي ولو كان من النوع الفردي أو الجزئي، دعنا نقرأ معاً القصة التالية: عن إبراهيم بن عبد الحميد قال: (كتب إليّ أبو الحسن (ع) - قال عثمان بن عيسي وكنت حاضراً بالمدينة -: تحوّل عن منزلك، فاغتمَّ بذلك، وكان منزله منزلاً وسطاً بين المسجد والسوق، فلم يتحوّل، فعاد إليه الرسول: تحوّل عن منزلك، فبقي، ثم عاد إليه الثالثة: تحوّل عن منزلك، فذهب وطلب منزلاً وكنت في المسجد، ولم يجيء

إلي المسجد إلاّ عتمة فقلت له: ما خلّفك؟ فقال: ما تدري ما أصابني اليوم؟ قلت: لا، قال: ذهبت أستقي الماء من البر لأتوضأ فخرج الدلو مملوءاً خرءاً وقد عجّنا خبزنا بذلك الماء، فطرحنا خبزنا وغسلنا ثيابنا، فشغلني عن المجيء، ونقلت متاعي إلي البيت الذي أكتريته، فليس بالمنزل إلاّ الجارية، الساعة أنصرف وآخذ بيدها، فقلت: بارك الله لك، ثم افترقنا، فلمّا كان سحراً خرجنا إلي المسجد فقال: ما ترون ما حدث في هذه الليلة؟ قلت: لا “ قال: سقط والله منزلي، السفلي والعليا) [29] . هكذا قدم الإمام نصيحته لشيعته في مسألة حياتية جزئية ولكنها هامة بالنسبة إلي الفرد المؤمن صاحب المسألة، وفي واقعة أخري نجد الإمام ينصح الفرد في مسألة تجارية تبدو هي الأخري جزئية ولكنها تكشف عن حقيقة الإهتمام بامور المسلمين، والواقعة رويت هكذا: عن الحسن بن علي بن النعمان، عن عثمان بن عيسي قال: (أبو الحسن (ع) لإبراهيم بن عبد الحميد، ولقيه سحراً وإبراهيم ذاهب إلي قبا، وأبو الحسن (ع) داخل إلي المدينة فقال: يا إبراهيم فقلت: لبيك، قال: إلي أين؟ قلت: إلي قبا، فقال: في أي شيء؟ فقلت: إنَّا كنا نشتري في كل سنة هذا التمر فأردت أن آتي رجلا من الأنصار فأشتري منه من الثمار، فقال: وقد أمنتم الجراد، ثم دخل ومضيت أنا فأخبرت أبا العز، فقال: لا والله لا أشتري العام نخلة، فما مرت بنا خامسة، حتي بعث الله جراداً فأكل عامة مافي النخل) [30] .

علم الإمامة

إن قاعدة الرسالات الإلهية قائمة علي أساس الإيمان بالغيب، وأبرز مظاهر الغيب هو العلم به من قبل عباد الله المقربين، أوليس ذات الكتاب الذي يوحي إلي النبي - أيّ نبي - ويؤمر الناس

باتباعه من الغيب؟ كيف علّم الله رسوله النبي الأمي كل تلك الرسالة العظيمة وذلك الكتاب الكريم، الذي تحدّي العالمين أن يأتوا بمثل بعض سوره أو آياته. إننا نقرأ في الكتاب حجة عيسي ابن مريم علي قومه أن ينبئهم بما يدّخرون في بيوتهم. وهكذا يكون علم الإمام الإلهي الذي تجاوز حدود علم الناس دليلاً علي أنه مؤيد بالله، وأنه الإمام، والحجة علي الناس أجمعين. كيف يكون هذا العلم؟ هل يكون عبر توارث الحديث عن رسول الله عن جبرائيل عن الله، أم عبر نكت في القلوب ونقرٍ في الأسماع، أو عبر عمود من نور ينظر إليه الإمام متي شاء الله أن يعلم شيئاً فيعلم، أم بنزول الروح - وهو أعظم من الملائكة - عليه ليلة القدر؟! الصحيح أن كل ذلك وربما غير ذلك مما لا نعلم من سبل العلم الإلهي يكون طريق علم الإمام، ولم نكلف نحن بمعرفة تفاصيل ذلك، إنما يكفينا أن الإمام يعلم - بإذن الله - بما يجهله الناس، وبذلك يفضّل عليهم، ولا بدّ أن يكون مطاعاً فيهم بإذن الله. جاء في حديث شريف عن أبي عبد الله الصادق (ع): “ فال قلت: أخبرني عن علم عالمكم؟ قال: وراثة من رسول الله (ص) ومن علي بن أبي طالب (ع)، فقلت: إنَّا نتحدث أنه يقذف في قلبه أو ينكث في إذنه، فقال: أو ذاك “ [31] . أي لعله يكون ذلك. والإمام الكاظم نطق بعلم الرسالة في كافة الحقول، ويكفيك وصيته لهشام التي تعتبر خلاصة حكم الأنبياء، وزبدة رؤي الرسالات، وما نذكره فيما يلي رشح من بحر علمه الزاخر: 1 - روي أن إسحاق بن عمار قال: (لما حبس هارون أبا الحسن موسي (ع) دخل

عليه أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، صاحبا أبي حنيفة فقال أحدهما للآخر: نحن علي أحد الأمرين، إما أن نساويه أو نشكله، فجلسا بين يديه، فجاء رجل كان موكلاً من قبل السندي بن شاهك، فقال: إن نوبتي قد انقضت وأنا علي الإنصراف فإن كان لك حاجة أمرتني حتي آتيك بها في الوقت الذي تخلفني النوبة؟ فقال: مالي حاجة، فلما أن خرج قال لأبي يوسف: (ما أعجب هذا يسألني أن أكلفه حاجة من حوائجي ليرجع وهو ميت في هذه الليلة). فقاما فقال أحدهما للآخر: إنا جئنا لنسأله عن الفرض والسنَّة وهو الآن جاء بشيء آخر كأنه من علم الغيب. ثم بعثا برجل مع الرجل فقالا: إذهب حتي تلزمه وتنظر ما يكون من أمره في هذه الليلة وتأتينا بخبره من الغد، فمضي الرجل فنام في مسجد في باب داره، فلما أصبح سمع الواعية ورأي الناس يدخلون داره فقال: ما هذا؟ قالوا قد مات فلان في هذه الليلة فجأة من غير علة، فانصرف إلي أبي يوسف ومحمد واخبرهما الخبر، فأتيا أبا الحسن (ع) فقالا: قد علمنا أنك أدركت العلم في الحلال والحرام فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل بك أنه يموت في هذه الليلة؟ قال: (من الباب الذي أخبر بعلمه رسول الله (ص) علي بن أبي طالب (ع)). فلمّا ردّ عليهما هذا بقيا لا يحيران جواباً) [32] . هكذا أوتي الإمام موسي بن جعفر (ع) علم المنايا كما أوتي ذلك من قبل أنبياء الله وأوليائه الكرام. 2 - وكذلك أوتي علم منطق الناس بإذن الله تعالي، فقد جاء في الحديث عن ابن أبي حمزة قال: (كنت عند أبي الحسن موسي (ع) إذ دخل عليه ثلاثون مملوكاً من الحبشة

اشتروا له، فتكلم غلام منهم فكان جميلاً بكلام فأجابه موسي (ع) بلغته، فتعجب الغلام وتعجبوا جميعاً وظنوا أنه لا يفهم كلامهم، فقال له موسي: إني لأدفع إليك مالاً فادفع إلي كل منهم ثلاثين درهماً، فخرجوا وبعضهم يقول لبعض: إنه أفصح منا بلغاتنا، وهذه نعمة من الله علينا. قال علي بن أبي حمزة: فلما خرجوا قلت: يابن رسول الله رأيتك تكلم هؤلاء الحبشيين بلغاتهم؟! قال: نعم، قال: وأمرت ذلك الغلام من بينهم بشيء دونهم؟ قال: نعم أمرته أن يستوصي بأصحابه خيراً، وأن يعطي كل واحد منهم في كل شهر ثلاثين درهماً، لأنه لما تكلم كان أعلمهم فإنه من أبناء ملوكهم، فجعلته عليهم وأوصيته بما يحتاجون إليه، وهو مع هذا غلام صدق، ثم قال: لعلك عجبت من كلامي إياهم بالحبشة؟ قلت: إي والله قال: (لا تعجب فما خفي عليك من امري أعجب وأعجب، وما الذي سمعته مني إلاّ كطائر أخذ بمنقاره من البحر قطرة، أفتري هذا الذي يأخذه بمنقاره ينقص من البحر؟! والإمام بمنزلة البحر لا ينفذ ما عنده وعجائبه أكثر من عجائب البحر) [33] . 3 - وجاء في حديث آخر يرويه علي بن حمزة قال: (أرسلني أبو الحسن (ع) إلي رجل قدّامه طبق يبيع بفلس فلس وقال: أعطه هذه الثمانية عشر درهماً وقل له: يقول لك أبو الحسن: انتفع بهذه الدراهم فإنها تكفيك حتي تموت، فلما أعطيته بكي، فقلت: وما يبكيك؟ قال: ولم لا أبكي وقد نعيت إليّ نفسي، فقلت: وما عند الله خير مما أنت فيه، فسكت وقال: من أنت يا عبد الله؟ فقلت علي بن أبي حمزة، قال: والله لهكذا قال لي سيدي ومولاي أني باعث إليك مع علي بن أبي حمزة برسالتي،

قال علي: فلبثت نحواً من عشرين ليلة ثم أتيت إليه وهو مريض فقلت: أوصني بما أحببت أنفذه من مالي، قال: إذا أنا متّ فزوج ابنتي من رجل دين، ثم بع داري وادفع ثمنها إلي أبي الحسن، واشهد لي بالغسل والدفن والصلاة. قال: فلما دفنته زوّجت ابنته من رجل مؤمن وبعت داره وأتيت بثمنها إلي أبي الحسن (ع) فزكاه وترحم عليه وقال: رد هذه الدراهم فادفعها إلي ابنته) [34] . 4 - وإذا كان علم الأئمة من الله، فإن الله سبحانه لا يعجزه شيء في السماوات والأرض، وقد تقضي حكمته أن يجعل علمه عند صبي في المهد، كما فعل بالمسيح عيسي ابن مريم ويحيي بن زكريا (ع)، وهكذا أظهر قدرته في شخص الإمام الكاظم (ع) حيث جاء في حديث شريف مأثور عن عيسي شلقان قال: (دخلت علي أبي عبد الله (ع) وأنا أريد أن أسأله عن أبي الخطاب فقال لي مبتدئاً من قبل أن أجلس: ما منعك أن تلقي ابني موسي فتسأله عن جميع ما تريد؟ قال عيسي: فذهبت إلي العبد الصالح (ع) وهو قاعد في الكتّاب وعلي شفتيه أثر المداد فقال لي مبتدئاً: يا عيسي إن الله أخذ ميثاق النبيين علي النبوة فلم يتحوّلوا عنها، وأخذ ميثاق الوصيين علي الوصية فلم يتحولوا عنها أبداً، وإن قوماً إيمانهم عارية، وإن أبا الخطاب ممن أعير الإيمان فسلبه الله إياه، فضممته إليّ وقبلت ما بين عينيه وقلت: ذرية بعضها من بعض. ثم رجعت إلي الصادق (ع) فقال: ما صنعت؟ قلت: أتيته فأخبرني مبتدئاً من غير أن أسأله عن جميع ما اردت، فعلمت عند ذلك أنه صاحب هذا الأمر، فقال: يا عيسي إن ابني هذا الذي رأيت لو سألته

عما بين دفتي المصحف، لأجابك فيه بعلم ثم اخرجه ذلك اليوم من الكتاب) [35] . 5 - حينما يسقط الحجاب بين الرب وعبده، وحينما يبلغ الصفاء الروحي والمعرفة الإلهية القمة، فإن الدنيا تاتي مطيعة للعبد الصالح، كما قال الله في الحديث القدسي: “ عبدي، أطعني تكن مِثلي (أو مَثَلي) أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون “. هكذا يروي لنا شقيق البلخي جانباً من الكرامة التي خصها الله تعالي لإمامنا السابع موسي بن جعفر (ع) فيقول: (خرجت حاجّاً في سنة تسع وأربعين ومائة، فنزلت القادسية فبينا أنا أنظر إلي الناس في زينتهم وكثرتهم، فنظرت إلي فتي حسن الوجه شديد السمرة ضعيف، فوق ثيابه ثوب من صوف مشتمل بشملة، في رجليه نعلان وقد جلس منفرداً، فقلت في نفسي: هذا الفتي من الصوفية يريد أن يكون كلا علي الناس في طريقهم، والله لأمضين إليه ولأوبخنَّه، فدنوت فلما رآني مقبلاً قال: يا شقيق: [اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ] (الحُجُرات/12) ثم تركني ومضي، فقلت في نفسي إن هذا الأمر عظيم قد تكلم بما في نفسي ونطق بإسمي، وما هذا إلاّ عبد صالح لألحقنَّه ولأسألنه أن يحللني، فأسرعت في أثره فلم ألحقه وغاب عن عيني، فلما نزلنا واقصة وإذا به يصلّ وأعضاؤه تضطرب، ودموعه تجري فقلت: هذا صاحبي أمضي إليه وأستحلّه. فصبرت حتي جلس، وأقبلت نحوه فلما رآني مقبلاً قال: يا شقيق اتلُ: [وإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَي] (طه/82) ثم تركني ومضي، فقلت: إن هذا الفتي لّمِنَ الأبدال، لقد تكلّم علي سرّي مرتين، فلما نزلنا زُبالة إذا بالفتي قائم علي البئر وبيده ركوة يريد أن يسقي ماءً، فسقطت الركوة من يده في

البئر وانا أنظر إليه، فرأيته قد رمق السماء وسمعته يقول: أنت ربي إذ ظمئت إلي الماء وقوتي إذا أردت الطعاما “ اللهم سيدي مالي غيرها فلا تعدمنيها “. قال شقيق: فوالله لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤها فمد يده وأخذ الركوة وملأها ماءً، فتوضأ وصلي أربع ركعات، ثم مال إلي كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحركه ويشرب، فأقبلت إليه وسلّمت عليه، فرد عليّ السلام فقلت: أطعمني من فضل ما أنعم الله عليك، فقال: يا شقيق لم تزل نعمة الله علينا ظاهرة وباطنة فاحسن ظنك بربك، ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكّر، فوالله ما شربت ألذّ منه ولا أطيب ريحاً فشبعت ورويت وأقمت أياماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً. ثم لم أره حتي دخلنا مكة، فرأيته ليلة إلي جنب قبة الشراب في نصف الليل قائما يصلي بخشوع وأنين وبكاء، فلم يزل كذلك حتي ذهب الليل، فلما رأي الفجر جلس في مصلاه يسبّح، ثم قام فصلّي الغداة وطاف بالبيت أسبوعاً وخرج فتبعته، وإذا له غاشية وموال وهو علي خلاف ما رأيته في الطريق، ودار به الناس من حوله يسلّمون عليه، فقلت لبعض من رأيته بقرب منه: من هذا الفتي؟ فقال: هذا موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) فقلت: قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلاّ لمثل هذا السيد، ولقد نظم بعض المتقدّمين واقعة شقيق معه في أبيات طويلة اقتصرت علي ذكر بعضها فقال: سل شقيق البلخي عنه وما عا ين منه وما الذي كان أبصرْ قال لما حججت عاينت شخصاً شاحب اللون ناحل الجسم أسمرْ سائراً وحده وليس له زا د فمازلت

دائما اتفكرْ وتوهمت أنه يسأل الناسّ ولم أدر أنه الحج الأكبر ثم عاينته ونحن نزول دون فيدٍ عَلي الكثيب الأحمر يضع الرمل في الإناء ويشرب هْ فناديته وعقلي محير أسقني شربة فناولني من هُ فعاينته سويقاً وسكّر فسألت الحجيج من يك هذا؟ قيل هذا الإمام موسي بن جعفر [36] .

خلقه وفضائله

خلقه وفضائله

اشاره

إنما جعل الله أنبياءه وحملة رسالاته من البشر، لكي تتم الحجة علي الناس فيقتدوا بهم، ولو كانوا ملائكة لكان الناس يقولون مالنا والملائكة، أوليسوا من جنس آخر؟ بلي وإن الإنسان مفطور علي حب الفضيلة، وإذا تجسدت في شخص ازداد لها حباً، ودفعته دواعي الخير في ذاته إلي اتباعه، والسعي لكي يكون مثله. إنك لو ألقيت علي شخص محاضرة مفصّلة عن فضيلة الإحسان فإنه لا يندفع بقدر ما لو حكيت له قصة رجل محسن. إن مكارم أخلاق الأئمة من أهل البيت (ع) أفضل منهاج تربوي، وإنهم - بحق - أسمي قدوات الخير والفضيلة، وإن سيرة حياتهم الحافلة بالمكرمات أقوي حجة علي سلامة نهجهم في التربية وسلامة خطتهم في الحياة، وإن أفكارهم التي تناقلتها الرواة هي التفسير الصحيح للقرآن الحق، أوليسوا من البشر؟ إذاً كيف بلغوا هذا الشأن من العظمة، ألم يبلغوه بتطبيق هذه الأفكار التي رويت عنهم؟ بلي، أولسنا نحن أيضاً نريد العظمة؟ إذاً دعنا نقرأ تلك الأفكار ونتفاعل معها. والواقع أن التاريخ لم يحفظ لنا من سيرة الأئمة إلاّ قليلاً، لأنهم كانوا محاصرين إعلامياً من قبل سلطات الجور حتي أن رواية فضيلة لهم كانت تكلِّف في بعض العصور حياة الراوي، وكان علي الشاعر دعبل أن يحمل علي كتفه خشبة إعدامه لمدة ربع قرن، ويهيم علي وجهه في القفار لأنه كان يمدح أهل البيت. ومع

ذلك فإن ما تبقّي من فضائلهم يعتبر دورة تربوية كاملة لمكارم الأخلاق. ولأن عاش إمامنا الكاظم (ع) في أشد أيام الصراع وأصعب أوقات التقيّة وسرّية العمل، فإن اختراق قصصه لحصار السلطات يعتبر معجزة، وعلينا أن نستدل بما وصلتنا من قصصه وهي قليلة علي ما لم تصل إلينا وهي الأكثر.

عبادته وزهده

من أبرز سمات القيادات الرسالية الزهد، والتقشف والإجتهاد في التبتل إلي الله تعالي، وقد كان عصر الإمام الكاظم (ع) معروفاً بالعصر الذهبي، وكانت بيوت السلطة العباسية تفيض بالثروات الطائلة، وتشهد حفلات المجون، كالتي نقرأ بعضها في قصص ألف ليلة وليلة، وفي ذات الوقت ينقل إبراهيم بن عبد الحميد ويقول: (دخلت علي أبي الحسن الأول (ع) في بيته الذي كان يصلي فيه فإذا ليس في البيت شيء إلاّ حضفة [37] وسيف معلق ومصحف) [38] . وكان (ع) يسعي إلي بيت الله الحرام ماشياً لشدة تواضعه لله، واجتهاده في العبادة، وإذا عرفنا المسافة بين المدينة ومكة التي تقارب (400) كليو متر وطبيعة الصحراء في أرض الحجاز، عرفنا مدي تحمل الإمام للصعاب في سبيل الله. يقول علي بن جعفر (ع): (خرجنا مع أخي موسي بن جعفر (ع) في أربع عُمَرٍ يمشي فيها إلي مكة بعياله وأهله، واحدة منهن مشي فيها ستة وعشرين يوماً، وأخري خمسة وعشرين يوماً، وأخري أربعة وعشرين يوماً، وأخري واحداً وعشرين يوماً) [39] . أما شدة اجتهاده في الصلاة وهي قرة عين المؤمنين وملتقي الحبيب مع الحبيب فيقول عنها الحديث التالي: “ روي أنه كان يصلي نوافل الليل، ويصلها بصلاة الصبح، ثم يعقب حتي تطلع الشمس، ويخر لله ساجداً فلا يرفع رأسه من السجدة والتحميد حتي يقرب زوال الشمس، وكان يدعو كثيراً فيقول: اللهم إني

أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب، ويكرر ذلك، وكان من دعائه (ع) عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك، وكان يبكي من خشية الله حتي تخضلّ لحيته بالدموع، وكان أوصل الناس لأهله ورحمه، وكان يفتقد فقراء المدينة “ [40] . والواقع أن اجتهاد الإمام في عبادة ربه والتبتل إليه بالصلوات والأدعية، هو السبب الذي بعثه الله به مقاما محموداً. وهو الذي أعطاه قدرة تحمل أعباء الرسالة التي نهض بها وضحّي بما لديه في سبيل تبليغها، وكانت صلواته أعظم مؤنس له في ظلِّ ظُلم الطغاة، فهذا أحمد بن عبد الله ينقل عن أبيه فيقول: (دخلت علي الفضل بن الربيع وهو علي سطح فقال لي: إشرف علي هذا البيت وانظر ما تري؟ فقلت: ثوباً مطروحا فقال: أنظر حسناً فتأملت فقلت: رجل ساجد، فقال لي: تعرفه؟ هو موسي بن جعفر أتفَّقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلاّ علي هذه الحالة، إنه يصلي الفجر فيعقب إلي أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة، فلا يزال ساجداً حتي تزول الشمس، وقد وكّل من يترصّد أوقات الصلاة، فإذا أخبره وثب يصلّي من غير تجديد وضوء، وهو دأبه فإذا صلّي العتمة أفطر، ثم يجدد الوضوء ثم يسجد فلا يزال يصلي في جوف الليل حتي يطلع الفجر، وقال بعض عيونه: كنت أسمعه كثيراً يقول في دعائه: “ اللهم إنك تعلم أنني كنت أسألك أن تفرِّغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد “ [41] . أما قراءته للقرآن، فيحدثنا عنها حفص ويقول: (ما رأيت أحداّ أشد خوفاً علي نفسه من موسي بن جعفر (ع) ولا أرجي للناس منه، وكانت قراءته حزناً، فإذا قرأ فكأنه يخاطب إنساناً [42] . لقد علّمه

القرآن الكريم أسمي القيم، ومن أبرزها الإشفاق علي نفسه، والسعي الدائب لتزكيتها وخلاصها من غضب الرب، وإصلاحها لتكون موضع محبة الخالق ورضوانه. بينما كان يرجو للناس كل خير، ولم يكن رجاؤه مجرداً عن العمل، بل كان (ع) يتقرب إلي الله بالإحسان إلي الناس، فقد كان يتفقد فقراء أهل البيت فيحمل إليهم في الليل العين والورق وغير ذلك، فيوصله إليهم وهم لا يعلمون من أي جهة هو) [43] .

جوده وكرمه

بالتوكل علي الله واليقين يعظم ثواب المحسنين عنده، والثقة بأنه الرزاق ذو القوة المتين. يعطي المؤمن عطاءً لا يخشي الفقر، وأئمة الهدي هم المثل الأسمي في الكرم والجود، فهذا الإمام موسي بن جعفر (ع) مع ما كان يعيشه من ظروف قاسية، اشتهر بهذه الصفة في الآفاق. جاء في التاريخ رواية مأثورة عن محمد بن عبد الله البكري، قال: (قدمت المدينة أطلب ديناً فأعياني، فقلت لو ذهبت إلي أبي الحسن (ع) فشكوت إليه، فأتيته بنقمي في ضيعته، فخرج إليّ ومعه غلام ومعه منسف فيه قديد مجزع، ليس معه غيره، فأكل فأكلت معه، ثم سألني عن حاجتي فذكرت له قصَّتي، فدخل ولم يقم إلاّ يسيراً حتي خرج إليّ فقال لغلامه: إذهب ثم مدّ يده إليّ فناولني صرة فيها ثلاثمائة دينار، ثم قام فولي فقمت فركبت دابّتي وانصرفت) [44] . وروي عن أبي الفرج في مقاتل الطالبيين عن يحيي بن الحسن قال: (كان موسي بن جعفر (ع) إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرة دنانير، وكانت صراره ما بين الثلاثمائة إلي المائتين دينار، فكانت صرار موسي مثلاً) [45] . وجاء في حكاية تاريخية طريفة أن المنصور العباسي تقدم إلي موسي بن جعفر (ع) بالجلوس للتهنئة في يوم

النيروز، وقبض ما يحمل إليه فقال (ع): “ إني قد فتشت الأخبار عن جدي رسول الله (ص) فلم أجد لهذا العيد خبراً، وإنه سنة للفرس ومحاها الإسلام، ومعاذ الله أن نحيي ما محاه الإسلام “. فقال المنصور: إنما نفعل هذا سياسة للجند، فسألتك بالله العظيم إلاّ جلست، فجلس ودخلت عليه الملوك والأمراء والأجناد يهنئونه، ويحملون إليه الهدايا والتحف، وعلي رأسه خادم المنصور يحصي ما يحمل، فدخل في آخر الناس رجل شيخ كبير السن فقال له: يا ابن بنت رسول الله إني رجل صعلوك لا مال لي أتحفك ولكن أتحفك بثلاثة أبيات قالها جدّي في جدّك الحسين بن علي (ع): عجبت لمصقول علاك فرنده يوم الهياج وقد علاك غبار ولأسهم نفذتك دون حرائر يدعون جدك والدموع غزار ألا تغضغضت السَّهام وعاقها عن جسمك الإجلال والإكبار قال: قُبلت هديتك، إجلس بارك الله فيك، ورفع رأسه إلي الخادم وقال: إمضي إلي أمير المؤمنين وعرّفه بهذا المال وما يصنع به، فمضي الخادم وعاد وهو يقول: كلّها هبة منّي له، يفعل به ما أراد، فقال موسي للشيخ: إقبض جميع هذا المال فهو هبة مني لك) [46] . وكان يلقي بكرمه عدوه فإذا به يصبح ولياً حميماً، فهذا شخص من أولاد الخليفة الثاني كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسي (ع) ويسبه إذا رآه، ويشتم عليّاً، فقال له بعض حاشيته يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم، وسأل عن العمري فذكر أنه يزرع ناحية من نواحي المدينة، فركب إليه، فوجده في مزرعة له، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري لا توطيء زرعنا، فتوطأه (ع) بالحمار حتي وصل إليه ونزل وجلس عنده، وباسطه وضاحكه، وقال له: كم غرمت علي

زرعك هذا؟ قال: مائة دينار، قال: فكم ترجو أن تصيب؟ قال: لست أعلم الغيب، قال له: إنما قلت كم ترجو أن يجيئك فيه؟ قال: أرجو أن يجيء مائتا دينار. قال: فأخرج له أبو الحسن (ع) صرة فيها ثلاثمائة دينار، وقال هذا زرعك علي حاله، والله يرزقك فيه ما ترجو، قال: فقام العمري فقبل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه أبو الحسن وانصرف، قال: وراح إلي المسجد فوجد العمري جالساً فلما نظر إليه قال: الله أعلم حيث يجعل رسالاته قال: فوثب أصحابه إليه فقالوا له: ما قضيتك؟ قد كنت تقول غير هذا، قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسن (ع) فخاصموه وخاصمهم، فلما رجع أبو الحسن إلي داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري: إيَّما كان خيراً ما أردتم أم ما أردت؟ إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكُفيت به شره [47] .

علمه

سبق الحديث عن علم الإمام ونعود هنا لنثبت رواية طريفة في علمه، حيث ينقل عن محمد بن النعمان المعروف بأبي حنيفة إمام المذهب أنه قال: (رأيت موسي بن جعفر وهو صغير السن في دهليز أبيه، فقلت: أين يحدث الغريب منكم إذا أراد ذلك؟ فنظر إليّ ثم قال: يتواري خلف الجدار ويتوقَّي عن أعين الجار، ويتجنب شطوط الأنهار ومساقط الثمار، وأفنية الدور والطرق النافذة، والمساجد، ولا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ويرفع ويضع ذلك حيث شاء. قال: فلما سمعت هذا القول منه، نبل في عيني، وعظم في قلبي فقلت له: جعلت فداك ممن المعصية؟ فنظر إليّ ثم قال: إجلس حتي أخبرك، فجلست فقال: إن المعصية لابد أن تكون من العبد أو من ربه أو منهما جميعاً،

فإن كانت من الله تعالي فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله، وان كانت منهما فهو شريكه، والقوي أولي بإنصاف عبده الضعيف، وإن كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر، وإليه توجه النهي، وله حق الثواب والعقاب، ووجبت الجنة والنار فقلت: [ذريةً بعضها من بعض] (آل عمران / 34). وروي عنه الخطيب في تاريخ بغداد، والسمعاني في الرسالة القومية، وأبو صالح أحمد المؤذن في الأربعين، وابو عبد الله بن بطة في الإبانة، والثعلبي في الكشف والبيان، وكان أحمد بن حنبل مع انحرافه عن أهل البيت (ع) لما روي عنه قال: حدثني موسي بن جعفر قال: حدثني أبي جعفر بن محمد وهكذا إلي النبي (ص) ثم قال أحمد: (وهذا إسناد لو قُرِأ علي المجنون أفاق).

شجاعته واستقامته

لقد حمل الإمام أعباء رسالات الأنبياء بذات العزيمة العظيمة التي كانت للنبيين (ع). لقد تحدي كل طغيان الإستكبار، وكل تراكمات الفساد بثقة مطلقة برب العالمين. حينما يأتيه الفضل بن الربيع ويقول له: استعد للعقوبة يا أبا إبراهيم رحمك الله فقال (ع): “ أليس معي من يملك الدنيا والآخرة ولن يقدر اليوم علي سوء بي إن شاء الله “: وحينما يدخل علي هارون الرشيد ذلك الطاغية الذي كان يخاطب مرة السحاب ويفتخر بسعة سلطانه، فيقول: شرِّقي غرِّبي فأنّي ذهبت فخراجك إليّ. يقول له هارون: ما هذه الدار؟ فقال الإمام: هذه دار الفاسقين، قال الله تعالي: [سَاَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الاَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ لاَيُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً] (الاعراف/146) فقال له هارون: فدار من هي؟ قال: “ هي لشيعتنا فترة، ولغيرهم فتنة

“. قال: فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟ فقال: “ أخذت منه عامرة ولا يأخذها إلاّ معمورة “. قال فأين شيعتك، فقرأ أبو الحسن (ع): [لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّي تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ] (البَيِّنةِ/1) قال: فقال له: فنحن كفّار؟ قال: لا.. ولكن كما قال الله: [الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ الله كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ] (اِبراهيم/28) فغضب عند ذلك وغلّظ عليه [48] . ومن المعتقل حيث تحيط به جلاوزة السلطات المجرمون، كتب رسالة إلي الرّشيد جاء فيها: “ إنه لن ينقضيَ عنّي يوم من البلاء إلاّ انقض عنك معه يوم من الرضاء، حتي نقضي جميعاً إلي يوم ليس له إنقضاء يخسر فيه المبطلون “ [49] .

محنته وشهادته

بعد محنة أبي عبد الله الحسين (ع)، وأكثر من سائر أئمة الهدي من أهل بيت الرسول، كانت محنة أبي إبراهيم موسي بن جعفر (ع) شديدة وأليمة. لقد كان الرّشيد يترصده ولا يقدر عليه، ولعله كان يخشي من بعث جيش إليه خوف انقلابه وتحوله إلي صفِّه، وكانت السرّية التي عمل بها الرساليون تجعل السلطات لا تثق بأقرب الناس إليهم، فهذا علي بن يقطين وزير الرّشيد، وذاك وزيره الآخر جعفر بن محمد بن الأشعث شيعيان، كما كان من بين قيادات جيشه، وأبرز ولاته علي الأمصار من يخفي ولائه لآل البيت (ع)، فلذلك قرر الذهاب بنفسه إلي المدينة، لإلقاء القبض عليه، وأخذ معه قوّاته الخاصة، بالإضافة إلي جيش من الشعراء، وعلماء السلاطين، والمستشارين و. و. كما أنه حمل معه الملايين مما سرقه من المحرومين، فقسّمها بين الناس لشراء سكوتهم. وخص منهم رؤساء القبائل ووجوه وأعيان المعارضة. هكذا ذهب الرّشيد إلي المدينة ليلقي القبض علي أعظم معارضي سلطانه الغاصب،

لننظر ما فعل: أولاّ: جلس عدة أيام يستقبل الناس ويأمر لهم بالصِّلات السخية، حتي أشبع بطون المعارضين، ممن كانت معارضتهم للسلطة لأسباب شخصية ومصالح خاصة. ثانياً: بعث في البلد من يبث الدعايات ضد أعداء السلطان، وأغري الشعراء وعملاء السلطة من أدعياء الدين بمدح السلطان وإصدار الفتاوي بحرمة محاربته. ثالثاً: استعرض قوّته لأهل المدينة لكي لا يفكر أحد بمقاومته في هذا الوقت بالذات. رابعاً: وحينما أكمل استعداده قام شخصياً بتطبيق البند الأخير من خطته الإرهابية، فدخل مسجد رسول الله، ربما في وقت يجتمع الناس لأداء الفريضة، ولا يتخلف عنهم - بالطبع - الإمام موسي بن جعفر (ع). ثم تقدم إلي قبر الرسول وسلم عليه: وقال: السلام عليك يا رسول الله، يا ابن عم. وكان هدفه إثبات شرعية خلافته لرسول الله، لتكون سبباً وجيهاً لاعتقال الإمام (ع)، ولكن الإمام فوّت عليه هذه الفرصة، وشق الصفوف حتي تقدمها وتوجه إلي القبر الشريف وقال في ذهول الجميع: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا جدّاه. فلإن كان رسول الله ابن عمك يا سلطان الجور، وإنّك تدّعي شرعية سلطتك بانتمائك النسبي لرسول الله (ص)، فإنه أقرب إليّ، فهو جدي وأنا أحقَّ بخلافته منك. ولكن الرّشيد استدرك الموقف وقال وهو يبرّر عزمه علي اعتقال الإمام بالقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إني أعتذر إليك من أمر عزمت عليه، وإني أريد أن آخذ موسي بن جعفر فأحبسه، لأني قد خشيت أن يلقي بين أمتك حرباً تسفك فيها دماؤهم. فلما كان اليوم التالي أرسل إليه الفضل بن الربيع وهو قائم يصلي في مقام رسول الله، فأمر بالقبض عليه وحبسه [50] . وأخرج من داره بغلان عليهما قبتان مغطاتان هو في أحدهما،

ووجّه مع كل واحدة منهما خيلاً فأخذ بواحدة علي طريق البصرة، والأخري علي طريق الكوفة، ليعمي علي الناس امره، وكان الإمام في القبة التي مضت علي البصرة، وأمر الرسول أن يسلم إلي عيسي بن جعفر بن المنصور، وكان والياً يومئذ علي البصرة فمضي به فحبسه عنده سنة. ثم كتب إلي الرّشيد أن خذه منّي، وسلّمه إلي من شئت، وإلاّ خلّيت سبيله، فقد اجتهدت بأن أجد عليه حجة، فما أقدر علي ذلك، حتي أني لأتسمّع عليه إذا دعا لعله يدعو عليّ أو عليك فما أسمعه يدعو إلاّ لنفسه، يسأله الرحمة والمغفرة، فوجّه من تسلمه منه، وحبسه عند الفضل بن الربيع ببغداد، فبقي عنده مدة طويلة، وأراده الرّشيد علي شيء من أمره فأبي، فكتب بتسليمه إلي الفضل بن يحيي، فتسلّمه منه وأراد ذلك منه فلم يفعل، وبلغه أنه عنده في رفاهية وسعة، وهو حينئذ بالرقة. فأنفذ مسروراً الخادم إلي بغداد علي البريد، وامره أن يدخل من فوره إلي موسي بن جعفر (ع) فيعرف خبره، فإن كان الأمر علي ما بلغه أوصل كتاباً منه إلي العباس بن محمد وأمره بامتثاله، وأوصل منه كتاباً آخر إلي السندي بن شاهك يأمره بطاعة العباس [51] . وتمضي الرواية التاريخية لتقول: وبلغ يحيي بن خالد فركب إلي الرّشيد ودخل من غير الباب الذي يدخل الناس منه، حتي جاءه من خلفه وهو لا يشعر، ثم قال: التفت إليّ يا أمير المؤمنين فأصغي إليه فزعاً، فقال له: إن الفضل حدث وأنا أكفيك ما تريد، فانطلق وجهه وسرّ وأقبل علي الناس فقال: إن الفضل كان عصاني في شيء فلعنته وقد تاب وأناب إلي طاعتي فتولوه، فقالوا له: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت وقد

توليناه. ثم خرج يحيي بن خالد بنفسه علي البريد حتي أتي بغداد فماج الناس وأرجفوا بكل شيء، فأظهر أنه ورد لتعديل السواد، والنظر في أمر العمّال وتشاغل ببعض ذلك، ودعا السندي فأمره فيه بامره، فامتثله وسأل موسي (ع) السندي عند وفاته أن يحضره مولي له ينزل عند دار العبّاس بن محمد في أصحاب القصب ليغسله، ففعل ذلك، قال: وسألته أن يأذن لي أن أكفّنه فأبي وقال: (إنا أهل البيت مهور نسائنا وحجّ صرورتنا، وأكفان موتانا من طاهر أموالنا، وعندي كفني). فلما مات أدخل عليه الفقهاء ووجوه أهل بغداد وفيهم الهيثم بن عدي وغيره فنظروا إليه ولا أثر به، وشهدوا علي ذلك وأخرج فوضع علي الجسر ببغداد، ونودي: هذا موسي بن جعفر قد مات فانظروا إليه، فجعل الناس يتفرّسون في وجهه وهو (ع) ميت. قال: وحدّثني رجل من بعض الطالبيّين أنه نودي عليه: هذا موسي بن جعفر الذي تَزعم الرافضة أنه لا يموت، فانظروا إليه، فنظروا إليه. قالوا: وحمل فدفن في مقابر قريش، فوقع قبره، إلي جانب رجل من النوفلِّيين يقال له عيسي بن عبد الله [52] . وتنقل الروايات التاريخية: أن الإمام (ع) كان يتصل بشيعته وأهل دعوته من السجون التي يتناقل فيها، ويأمرهم بأمره، كما انه كان يجيب عن مسائلهم السياسية، والفقهية. وقد نتساءل: كيف كان (ع) يتصل بهم، لعله بطرق غيبية، ولكن أحاديث كثيرة تبيّن لنا أن أكثر من سجن عندهم الإمام (ع) قالوا بإمامته، بالرغم من أن السلطة كانت تختار سجّانه من بين أغلظ الناس وأكثرهم ولاءً لها، لما كانوا يرونه فيه من شدة الإجتهاد في العبادة، وغزارة العلم ومكارم الأخلاق، ولما كانوا يرونه منه من كرامات. وفي كتاب الأنوار قال العامري:

إن هارون الرشيد أنفذ إلي موسي بن جعفر جارية خصيفة، لها جمال ووضاءة لتخدمه في السجن، فقال قل له: [بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ] (النَّمْل/36). لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها، قال: فاستطار هارون غضباً وقال: إرجع إليه وقل له: ليس برضاك حبسناك ولا برضاك أخذناك، واترك الجارية عنده وانصرف، قال: فمضي ورجع، ثم قام هارون عن مجلسه وأنفذ الخادم إليه ليستفحص عن حالها فرآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها تقول: قدوس سبحانك سبحانك. فقال هارون: سحرها والله موسي بن جعفر بسحره، عليّ بها، فأتي بها وهي ترعد شاخصة نحو السماء بصرها فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني الشأن البديع، إنّي كنت عنده واقفة وهو قائم يصلي ليله ونهاره، فلما انصرف عن صلاته بوجهه وهو يسبح الله ويقدّسه قلت: يا سيدي هل لك حاجة أعطيكها؟ قال: وما حاجتي إليك؟ قلت: إني أدخلت عليك لحوائجك قال: فما بال هؤلاء؟ قالت: فالتفت فإذا روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري، ولا أولها من آخرها، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج، وعليها وصفاء ووصائف لم أرَ مثل وجوههم حسناً، ولا مثل لباسهم لباساً، عليهم الحرير الأخضر، والأكاليل والدرّ والياقوت، وفي أيديهم الأباريق والمناديل ومن كل الطعام، فخررت ساجدة حتي أقامني هذا الخادم فرأيت نفسي حيث كنت. قال: فقال هارون: يا خبيثة لعلك سجدت فنمت فرأيت هذا في منامك؟ قالت: لا والله يا سيدي إلاّ قبل سجودي رأيت فسجدت من أجل ذلك، فقال الرّشيد: إقبض هذه الخبيثة إليك، فلا يسمع هذا منها أحد، فأقبلت في الصلاة، فإذا قيل لها في ذلك قالت: هكذا رأيت العبد الصالح (ع)، فسئلت عن قولها قالت: إني لما عاينت من الأمر نادتني الجواري يا

فلانة ابعدي عن العبد الصالح، حتي ندخل عليه فنحن له دونك، فما زالت كذلك حتي ماتت، وذلك قبل موت موسي بأيام يسيرة. هذه هي كرامة الإمام (ع) علي الله، وتلك هي عاقبة الرّشيد الظَّالم الطَّاغي. نسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا ممن يتولي أوليائه، ويتبرأ من أعدائه، ويسير علي نهجهم أئمة الهدي من آل محمد (صلي الله عليه وعليهم اجمعين) والحمد لله رب العالمين.

پاورقي

[1] راجع موسوعة بحار الأنوار: (ج 48، ص 4) وأيضاً كتاب المحاسن للبرقي: (ج 2، ص 418).

[2] موسوعة البحار: (ج 48، ص 2).

[3] المصدر: (ص 6) نقلاً عن الكافي: (ج 1، ص 477).

[4] المصدر: (ص 181 ج 48).

[5] المصدر.

[6] البهمة الواحدة من الضأن، والعناق الأنثي من أولاد المعز ما لم يتم لها سنة.

[7] المصدر.

[8] المصدر. (ص 20).

[9] المصدر: (ص 21).

[10] بحار الأنوار: (ج 48، ص 291).

[11] مقاتل الطالبيين: (ص 505).

[12] من نواحي رامهرمز في خوزستان إيران.

[13] موسوعة البحار: (ج48، ص 260).

[14] المصدر: (ص 226 - 227).

[15] المصدر: (ص 176، 178).

[16] المصدر: (ص 179) الهامش عن شرح مشيخة الفقيه: (ص 56 - 57).

[17] المصدر: (ص 174).

[18] علي بن يقطين بن موسي البغدادي مسكناً، والكوفي أصلاً، مولي بني أسد يكني أبا الحسن، من وجوه هذه الطائفة، جليل القدر، وقد ضمن له الإمام الكاظم (ع) الجنة وأن لا تمسه النار، وفي الكشي أحاديث دلت علي عظم شانه وجلالة قدره، وأنه كان يحمل إلي الإمام الكاظم (ع) أموالاً طائلة، فربما حمل مائة ألف إلي ثلاثمائة ألف، وكان علي يبعث في كل سنة من يحج عنه حتي أحصي له في بعض السنين مائة وخمسين أو ثلاثمائة ملبي، وكان يعطي بعضهم عشرة آلاف وبعضهم عشرين ألف،

مثل الكاهلي وعبد الرحمن بن الحجاج وغيرهما، ويعطي أدناهم ألف درهم، له كتب رواها عنه أبنه الحسن وأحمد بن هلال مات سنة 182 في أيام حياة أبي الحسن الكاظم ببغداد، وأبو الحسن في سجن هارون وقد بقي فيه أربع سنين. " باقتضاب عن شرح مشيخة الفقيه: (ص47) عنه هامش كتاب البحار: (ص 178، ج 48) ".

[19] المصدر: (ص 59 - 60).

[20] المصدر: (ص 35). ويبدو ان الامام امرهم بالانصراف من زيارة النبي (ص) والاكتفاء بزيارة خليفته زيارة مباشرة، وذلك حين قال: اما رسول الله فقد رأيتماه.

[21] المصدر: (ص 38 - 39).

[22] المصدر: (ص 241).

[23] العلاّمة المجلسي خصص في موسوعته بحار الأنوار الجزء 48 جزءاً مفصلاً (من ص 29 - 100) حول بعض معاجزه.

[24] المصدر: (ص 213 - 215).

[25] المصدر: (ص 66).

[26] المصدر: (ص 45).

[27] المصدر: (ص 44).

[28] المصدر / (ص 85).

[29] المصدر: (ص 45 - 46).

[30] المصدر: (ص 46 - الرقم 30).

[31] بحار الانوار: (ج 2، ص 174).

[32] المصدر: (ص 64، 65).

[33] المصدر: (ص 70) (93/).

[34] المصدر: (ص 76).

[35] المصدر: (ص 58).

[36] المصدر: (ص 80 - 82).

[37] الحضفة: الحيكة تعمل من الخوص للتمر، وأيضاً يقال للثوب الغليظ جداً.

[38] المصدر: (ص 100).

[39] المصدر.

[40] المصدر: (ص 102).

[41] المصدر: (ص 107، 108).

[42] المصدر: (ص 111).

[43] المصدر: (ص 108).

[44] المصدر: (ص 102).

[45] مقاتل الطالبيين (ص 104).

[46] المصدر: (ص 108).

[47] المصدر: (ج 56، ص 102 - 103).

[48] البحار: ج 56 (ص 223).

[49] المصدر: (ص 148).

[50] المصدر: (ص 213).

[51] المصدر: (ص 233).

[52] المصدر: (ص 234) نقلاً عن كتاب الغيبة للطوسي: (ص 22).

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.