الامام الباقر عليه السلام، قدوه و اسوه

اشارة

سرشناسه : مدرسي، محمد تقي، 1945- م.

Mudarrisi, Muhammad Taqi

عنوان و نام پديدآور : الامام الباقر عليه السلام قدوه واسوه/ محمدتقي المدرسي.

مشخصات نشر : تهران:محبان الحسين عليه السلام ،1389.

مشخصات ظاهري : 72 ص.؛11×17 س م.

شابك : 978-964-427-091-8

وضعيت فهرست نويسي : فيپا

يادداشت : عربي

يادداشت : چاپ قبلي : مكتب العلامه المدرسي، 1410ق. = 1369.

موضوع : محمدبن علي (ع)، امام پنجم، 57 - 114ق.

رده بندي كنگره : BP44 /م 4الف 8 1389

رده بندي ديويي : 297/9552

شماره كتابشناسي ملي : 1991221

تمهيد

الحمد لله رب العالمين - وصلي الله علي سيدنا محمد وآله الطاهرين -. في فاتحة الحديث عن الإمام الباقر (ع) ينبغي أن نشير إلي نهجين متنافرين في تقييم حياة الأئمة والنهج القديم بينهما. فهناك فريق يقيِّمون حياة المعصومين عليهم السلام بمقياس السياسة. ومدي دورهم فيها. ويكاد تفسيرهم لعبادات الأئمة، وعلومهم، وأخلاقهم يكون أيضاً بمنظار سياسي. بينما تجد أغلب المؤرخين لحياتهم عليهم السلام يختصرون حياتهم في حدود فردية ضيقة، حتي يفصلونها من السياق الزمني لها. وبين المنهجين حالة وسطي تجعل حياتهم ذات إشعاع فردي يتجاوز حدود الزمان والمكان.. وذات أفق سياسي يتفاعل مع الظرف التاريخي الخاص به.. بلي. الأئمة هم قدوات البشر، ونسبة رجال السياسة إلي سائر الناس نسبة ضئيلة، فلم يكن من المناسب أن يكون كل قدوات البشر في قمة السلطة حتي يكون سلوكهم مناراً لأمثالهم من أصحاب السلطة فقط، بل كان من المعقول أن يكونوا في مختلف المستويات الإجتماعية حتي تتم حجة الله علي خلقه بأنفذ ما يكون بلاغاً وقوةً! ولو كانوا كلهم في قمة السلطة لقال الناس أن مسيرتهم تخص أولي السلطة فحسب فما لنا للدخول في شأن السلاطين. علي أن بعضهم لايزال يحاول التنصل من اتباع الأنبياء والأوصياء والصالحين، بزعم أنهم ليسوا

ببشر.. وبالتالي فهو لايمكنه أن يتبع هداهم، أو يقدر أحدنا أن يتمثل شخصيَّة الملائكة.. إلاّ أن ما نزل بأنبياء الله وأوصياءهم من الضنك والأذي. وما تعرضوا له من السجن والتعذيب والتهجير والخوف وحتي القتل والأسر والتشهير.. كل ذلك دليل كونهم بشراً أمثالنا ميّزوا بالوحي والعزم والإعتصام بحبل الله، وقال ربنا سبحانه: «قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَي إلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ» (الكهف/110) وقال: «قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَي مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَي اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (ابراهيم/11) ولعل هذه الحكمة كانت أيضاً وراء إذن الله سبحانه بتعرض أوليائه لبعض الأذي، لكي لا يرفعهم الناس إلي مستوي الألوهية فيهلكوا، ولكي يرفع الله به درجاتهم عنده. ولكي لايترك الدينَ البسطاءُ من الناس فراراً من الأذي. ونحن إذ نشرع في الاستضاءة بسيرة الإمام الخامس من أئمة أهل البيت عليهم السلام، والعلم السابع من قدوات الأئمة المعصومين عليهم السلام بجوار مقام السيدة زينب في الشام. نسأل الله أن يتم نورنا به ويجعلنا من أشد تابعيه تمسّكاً وأحسنهم عاقبة.. إنه ولي التوفيق..

الميلاد الميمون

اشاره

ولد الإمام الباقر (ع) من والدين علويين هما الإمام السجاد (ع)، وأم عبد الله بنت الإمام الحسن المجتبي (ع)، وكانت ولادته قبل أربع سنوات من واقعة الطف الرهيبة. أي في عام 57 من الهجرة. وكان ذلك الثالث من صفر أو العاشر في رجب، (في ذلك اختلاف بين الرواة). ولم يكن أكبر أبناء أبيه سنّاً، إلاّ أنه كان أولاهم بالإمامة فنصبّه والده لها اتباعا لأمر رسول الله (ص). وقد سأل الزهري والده الإمام السجاد عن ذلك وقال: يا ابن رسول الله

هلا أوصيت إلي أكبر أولادك؟ قال: يا أبا عبد الله ليست الإمامة بالصغر والكبر، هكذا عهد إلينا رسول الله، وهكذا وجدنا مكتوباً في اللَّوح والصحيفة [1] . وكانت أمّه - حسبما قال: الإمام الصادق (ع) - صديقة لم يدرك في آل الحسن مثلها [2] .

النشأة الطيبة

عاش في ظل جده السبط الشهيد عليه السلام أربع سنوات، وصبغت شخصيته الفذة بتلك الصبغة الإلهية التي تجلت في حياة السبط الشهيد، ولا ريب أن مأساة كربلاء الفجيعة تركت طابعها علي نفسية الإمام الباقر (ع) الذي رافق صورها وشاهدها لحظة بلحظة.. لأنه - حسب بعض الرواة - كان ممن حضرها مع سائر ابناء الأسرة الهاشمية. وبعد تلك الفاجعة عاش الإمام (19) سنة و(60) يوماً في ظل والده سيد الساجدين [3] ، حيث كانت حياته الكريمة مثلاً أعلي للصبغة الربانية، وظل شعاع تلك الحياة يضيء درب السالكين إلي الله.. حتي اليوم. ومنذ باكورة حياته المباركة تجلت فيه ملامح الإمامة. وقد جاء في الحديث المأثور عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي قال: كنا عند جابر بن عبد الله فأتاه علي بن الحسين ومعه ابنه محمد وهو صبي، فضمه جابر إليه فقال علي لابنه: قبّل رأس عمك فدنا محمد من جابر فقبل رأسه، فقال جابر: من هذا؟وكان قد كفّ بصره - فقال له علي: هذا ابني محمد فضمه جابر إليه وقال: يا محمد! محمد رسول الله (ص) يقرأ عليك السلام، فقالوا لجابر: كيف ذلك يا ابا عبد الله؟ فقال: كنت مع رسول الله (ص) والحسين في حجره وهو يلاعبه، فقال: يا جابر يولد لابني الحسين ابن يقال له علي إذا كان - يوم القيامة - نادي مناد ليقم سيد العابدين، فيقوم

علي بن الحسين، ويولد لعلي ابن يقال له محمد، يا جابر إن رأيته فاقرأه مني السلام واعلم أن بقاءك بعد رؤيته يسير. فلم يعش (جابر) بعد ذلك إلاّ قليلاً ومات [4] وبعد والده اضطلع بمقام الإمامة العامة.

الإمامة وعلم الأنبياء

عندما آلت شمس بني أمية إلي المغيب وضعفت سلطتهم بفعل الثورات الرسالية المتلاحقة.. وجد الإمام الباقر (ع) فرصة لنشر معارف القرآن التي كانت مستوعبة في الصحيفة التي توارثها أهل البيت (ع) من رسول الله.. في ذلك اليوم كان المجتمع الإسلامي بحاجة إلي معارف القرآن، إنه قد اتسع في كل أفق وأصبح خيمة تشمل شعوباً مختلفة وبقايا حضارات، فعلي أي أساس نقيم هذا المجتمع الجديد.. وماهي قِيَمه التوحيدية وأطر الثقافة العامة وروح قوانينه في مختلف الحقول.. بالأمس نشر الإمام السجاد (ع) راية التوحيد عبر أدعيته وابتهالاته. وصنع بها حياة المجتمع المسلم وبالذات المجتمع الرسالي التابع لخط أهل البيت عليهم السلام. أما اليوم فإن تلك القاعدة التوحيدية الرصينة قد رست، ويأتي الإمام الباقر (ع) ليبني عليها صرح المعارف. ويكمله الإمام الصادق (ع) ببيان المزيد من التفاصيل في الحكمة الإلهية والتفسير والفقه.. ماهي المعارف التي نشرها الإمام الباقر (ع) وكيف استطاع إليها سبيلاً؟ قد يسلك في طريق العلم من التجارب الجزئية صعوداً إلي القواعد العامة. وقد ننطلق من تلك القواعد إلي المفردات الجزئية. وبينما السبيل الأول هو منهج عموم الناس في بلوغ العلم، فإن المنهج الثاني هو سبيل علم الأنبياء وأوصيائهم المتصلين بالوحي، ومن هنا جاء في الحكمة المأثورة: العلم نقطة كثَّرها الجاهلون. والأساس الظاهر لعلم الرسول وخلفائه المعصومين عليهم السلام، هو القرآن المفسر بالحديث النبوي، ولكن الأساس الحقيقي هو نور العقل الذي يتوهج بالإيمان والإلهام في افئدة العارفين بالله..

ذلك العقل الذي أوتي الناس منه قدر ضئيل وأكمله الله لنبيِّه وأوصياء نبيّه. وإن توهج نور العقل عند أبناء البشر. وتجليه في تلك المعارف الأولية التي يعرفها كل شخص، وفي تلك القيم التي يتحاكم الناس إليها فيما بينهم. وفي تلك الإضاءات التي نجدها عند طائفة من الناس دون غيرهم تجعلهم نوابغ وعظماء كبار.. كل ذلك يهدينا إلي معني العلم الكوني الذي يلقيه ربنا في روع الصفوة من أوليائه.. وجاء في الحديث الشريف: “ العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء “. وتري بعض الناس يتشكك في مثل هذا العلم عند الأنبياء والأئمة، والمحدثين من فقهاء الأمة.. يستشهد بقول الله سبحانه: «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَيَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ» (الانعام/59) وقوله: «قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ الله» (النمل/65) حقّاً إذا كان مراد هؤلاء أن الإنسان لايعلم الغيب بصفة ذاتية، فإنه حق لاريب فيه، ولكن: إذا أرادوا أنَّ الله لايقدر علي تعليم الغيب لبعضهم، نقول: بلي هو قادر، أليس كلنا يعرف قدراً من العلم بالمستقبل، فمثلاً أولسنا نعرف أننا نموت وأن الساعة آتية لاريب فيها. وان الله يبعث من في القبور. وأن الشمس تشرق غداً وهي لابدّ غاربة اليوم؟ وعشرات من المعارف المستقبلية التي تشكل أكثر من نصف معلوماتنا وهي أساس العلم، والهدف الأساسي منه؟ والله سبحانه علّم الإنسان مالا يعلم، والوحي جزء من علم الغيب الذي علّمه ربنا لمن ارتضاه من عباده.. وقد قال ربنا سبحانه: «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَي غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَي مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً» (الجن/26-27). وقال: «وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَي الْغَيْبِ وَلكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَاَمِنُوا بِالله

وَرَسُولِهِ وإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ» (آل عمران/179) وقال: «ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» (آل عمران/44) وأخيراً: إن هؤلاء شككوا في “ مدي “ علم الأنبياء والأوصياء، إنهم لم يستوعبوا كيف يمكن لبشر محدود أن يبلغ علم الحقائق من لدن رب العزة، فهم ينطلقون في تكذيب هذا “ المدي “ من العلم من ذات المنطلق الذي كذب الأولون بالنبوة، وهو الجهل بالمقام الذي جعل للإنسان الذي يتوجه إلي الله ويخلص له وجهه، بيد أن هؤلاء “ اضطروا “ إلي الإعتراف بالنبوة، ولما يعرفوا أبعادها فقلصوها إلي أقل قدر ممكن، وحاولوا الكفر بمعاجز الأنبياء وبمقاماتهم الرفيعة أني استطاعوا إلي ذلك سبيلاً، وإذ أعجزتهم الحيلة في ذلك عمدوا إلي الأوصياء فنفوا كرامتهم علي الله، وإمكانية تلقيهم العلم من مصدر الغيب إلهاماً، وإذا أنصفوا أنفسهم وأنصفوا للحق لما وجدوا مانعاً عقلياً من الإعتراف بذلك، بعد أن توافرت أدلة بالغة القوة تهديهم إليه من خلال دراستهم لكلماتهم من دون تعصب أعمي أو أحكام مسبقة. وقد ابتلي الإمام الباقر (ع)، شأنه شأن سائر الأئمة عليهم السلام بنمطين متنافرين من الناس، فبينما زعم بعضهم أنه ليس من البشر وبذلك مرق من الدين بسبب غلوه، نجد كثيراً من الناس لم يعترفوا بمقامه الكريم. من النمط الأول كان المغيرة بن سعيد الذي غلا في الدين وكذب علي الإمام الباقر (ع)، حتي قال عنه الإمام لبعض أصحابه (سليمان اللَّبان): أتدري ما مثل المغيرة بن سعيد: قال قلت: لا. قال: مثله مثل بلعم الذي أوتي الاسم الأعظم الذي قال الله «ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَاَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ».

(الاعراف/175) [5] . أما النمط الثاني فهم أغلب الذين لم يحتملوا علم الإمام ومعرفته بما لا يعرفون، وكرامته علي الله، واستجابة الله دعاءه في الأمور!! فهؤلاء لاينكرون فضائل أهل البيت عليهم السلام فقط، بل ويرون أنها من المستحيلات، لماذا؟ لأنهم لما يبلغوا معرفة أنبياء الله وأوليائه عليهم صلوات الله ومعرفة كرامتهم علي الله. ولو كانوا يتفكرون في خلق الإنسان وكيف استخلفه الله في الأرض، وسخر له ما فيها بما آتاه من علم وقدرة، لعرفوا أن من حكمة الله سبحانه أن يفضل بعض الناس علي بعض في العلم، وليهب لمن أطاعه وأخلص له المزيد من المعرفة سواء عبر الوحي كالرسل أو عبر الإلهام، كما فعل بأوصياء الرسل. ثم إن ما أوحي به الله من الكتاب فيه آفاق من العلم لا يبلغها إلاّ من امتحن الله قلبه بالإيمان، لأنه نور الله الذي يشع من مشكاة النبوة. إنه ذكر الله الذي يرتفع من بيوت الأوصياء كما قال سبحانه: «الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ» (النور/35). قال: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله» (النور/36-37). ثم قال: «وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ» (النور/40). هكذا نور الله الذي منح جزءاً بسيطاً منه للإنسان، فإذا به يعرف علما يسخر به كل شيء من حوله، إنه لو سلب منه تري ماذا يبقي له؟ هل يستطيع آنئذٍ أن يعرف شيئاً. فلو اجتمعت البشرية وحاولوا إعادة مجنون إلي رشده. أو شيخ مخرف إلي سابق علم، أو تعليم هرة دروس الرياضيات، هل استطاعوا إلي ذلك سبيلاً؟ كلا.. فلماذا

ينكرون علي الله الذي منح البشر هذا النور أن يكون قادراً علي مضاعفته لخيرة عباده؟ هكذا نعرف أن الوحي والإلهام هما في إطار سنن الله في خلقه، يقبلهما العقل ويطمئن إليهما القلب. وعلم أئمة أهل البيت عليهم السلام لايخرج من دائرة هذه السنن أيضاً، فإما أنَّه مستوحيً من الوحي أو بالإلهام. ويتصل علم الأئمة بالوحي عبر السبل التالية: أولاً: العلم من كتاب الله. بالتدبر فيه وتأويل آياته علي الحقائق والوقائع. أليس في القرآن علم ما كان وما يكون، وفصل ما هو كائن، ومن أولي بكتاب الله ممن أنزل في بيوتهم وزقوا علمه مع اللبن زقاً. وقد كان الأئمة عليهم السلام شديدي الوله بالقرآن، عظيمي الإحترام له، وكانوا يختمونه في كل ثلاثة أيام مرة، وربما في كل يوم، وكانوا يقولون أنهم يستفيدون منه علماً جديداً كلما أعادوا قرائته حتي أنهم استفادوا علم الآفاق من آياته الكريمة، فقد قال الإمام الصادق (ع) - فيما روي عنه -: والله إني - أعلم ما في السماوات وأعلم ما في الأرض وأعلم ما في الدنيا وأعلم ما في الآخرة -. فرأي تغير جماعة - فقال وهو يخاطب بكير بن أعين: يا بكير إني لأعلم ذلك من كتاب الله تعالي إذ يقول: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ» [6] . ثانيا: أحاديث الرسول (ص) والتي توارثوها من آبائهم عبر جدهم الأعلي الإمام أمير المؤمنين، وجدتهم الطاهرة فاطمة الزهراء عليهم االسلام جميعاً. فقد جاء في الحديث المأثور عن الإمام الباقر (ع) أنه قال لجابر بن عبد الله: يا جابر إنّا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنّا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم [7] .

ومعروف أن خزائن علم النبوة كانت قد انتقلت إلي رسول الله. وورثها أهل بيته (ع). ويبدو أنها كانت مكنونة في جفر عظيم. حيث جاء في الحديث المروي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: إن عندي الجفر الأبيض. فلما سأله الرواي وأي شيء فيه؟ قال: زبور داود وتوراة موسي وإنجيل عيسي وصحف إبراهيم والحلال والحرام ومصحف فاطمة، ما أزعم أن فيه قرآناً، وفيه ما يحتاج الناس إلينا، ولا نحتاج إلي أحد، حتي أن فيه الْجُلدة ونصف الْجَلدة وثُلث الْجَلدة وربع الْجَلدة وأَرشُ الخدش، الحديث [8] . وكان في هذا الجفر مجموعة تراث أهل البيت من أحاديث النبي. منها مصحف فاطمة وهو مجموعة أحاديثها التي كتبها الإمام أمير المؤمنين (ع) في صحيفة، وحسب ما جاء في رواية أن فيه ما يكون من حوادث وأسماء من يملك إلي أن تقوم الساعة [9] . كما أن من تراثهم كتاب يسمي بالجامعة، وهو من إملاء رسول الله (ص) وكتابة أمير المؤمنين (ع) طوله سبعون ذراعاً وفيه أحكام الشريعة كلها. هكذا جاء في حديث مروي عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: سمعته يقول وذكَّر ابن بسترمه في مسألة أفتي بها: أين هو من الجامعة إملاء رسول الله بخط علي فيها جميع الحلال والحرام حتي أرش الخدش [10] . وهذا التراث العلمي كان ينتقل من أئمة أهل البيت عليهم السلام من كابر لكابر، ووجوده عند واحد من أبناء الإمام الراحل كان شاهداً علي أنه وصيه. لذلك نقرأ في تاريخ الإمام الباقر (ع) أن والده الإمام السجاد (ع) التفت إلي ولده وهو في مرض الموت وهم يجتمعون عنده، ثم التفت إلي محمد بن علي ابنه. فقال: يا محمد هذا

الصندوق فاذهب به إلي بيتك ثم قال.. أما إنه لم يكن فيه دينار ولا درهم ولكنه كان مملوءاً علماً. ونتساءل: كيف تجتمع أحكام الشريعة كلها في كتاب محدود طوله سبعون ذراعا؟ لعل ذلك الكتاب كان محتوياً علي أصول العلم ومعاقله وضيائه، حيث كان الأئمة عليهم السلام يستلهمون منها سائر أبواب العلم. كما علَّم النبي (ص) الإمام علياً (ع) أبواب العلم جميعاً بهذه الطريقة، حيث جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق (ع): أوصي رسول الله إلي علي بألف كلمة يفتح كل كلمة ألف كلمة [11] . وفي تعبير آخر جاء علي لسان الإمام الباقر (ع) عن جده أمير المؤمنين أنه قال: لقد علمني رسول الله ألف باب يفتح كل باب ألف باب [12] . وهكذا بيَّن الأئمة أن عندهم أصول العلم ومعاقله مما يظهر أنها هي التي في تراثهم من الرسول (ص)، فقد جاء في الحديث المأثور عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: “ إن رسول الله أنال في الناس وأنال وأنال، وإنَّا أهل بيت عندنا معاقل العلم، وأبواب الحكم، وضياء الأمر.. “. وفي حديث مأثور عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: “ إن رسول الله قد أنال في الناس وأنال وأنال، - يشير كذا وكذا - وعندنا أهل البيت أصول العلم وعراه وضياؤه وأواخيه “ [13] .

علم الإلهام

إذا كان العلم نور الله يقذفه في قلب من يشاء فما الذي يمنع عن قذف نور العلم في قلب أوليائه، هكذا كان من مصادر علم الأئمة عليهم السلام الإلهام، والذي ترافقه سكينة تجعلهم يثقون بأنه من عند الله. كذلك روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: إن علمنا غابر ومزبور ونكث في القلب ونقر في الأسماع،

قال: أما الغابر فما تقدم من علمنا، وأما المزبور فما يأتينا، وأما النكث في القلوب فإلهام، وأما النقر في الأسماع فإنه من الملك. وروي زرارة مثل هذا الحديث وأضاف: قلت كيف يعلم أنه كان الملك ولا يخاف من الشيطان إذا كان لايري الشخص قال.. إنه يلقي عليه السكينة فيعلم أنه من الملك، ولو كان من الشيطان اعتراه الفزع. وإن كان الشيطان - يأزره - لايتعرض لصد هذا الأمر [14] . وعلم الإمام الباقر (ع) - كما سائر أئمة الهدي انبعث من هذه الروافد، فلم يكن غريباً، ما أظهر الله علي لسانه من معارف الدين حتي قال الشيخ المفيد (قدس سره). لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين عليهما السلام من علم الدين والآثار والسنّة وعلم القرآن وسيرة وفنون الآداب ما ظهر عنه [15] . من هنا تري عظماء الفقه والحديث يعترفون بالمصدر الإلهي لعلمه الغزير، فقد جاء في كشف الغمة عن الحافظ عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي في كتابه معالم العترة الطاهرة عن الحكم بن عتيبة (وكان من كبار فقهاء عصره) أنه قال في تفسير قوله تعالي: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» (الحجر/75). قال: كان والله محمد بن علي منهم [16] . وحكي عن أبي نعيم في كتابه الحلية أنه سأل رجل ابن عمر عن مسألة فلم يدر ما يجيبه، فقال اذهب إلي ذلك الغلام فسله وأعلمني بما يجيبك، وأشار إلي الباقر (ع) فسأله فأجابه فأنجد ابن عمر فقال: إنهم أهل بيت مفهمون [17] . والتعبير بكلمة مفهمون كان شائعاً في ذلك العصر، وكان يعني أنهم مؤيدون من عند الله يلقي عليهم الرب علماً بالإلهام. ولذلك تري من العلماء من يقصدونه من كل أفق

بحثاً عن علمه الإلهي حتي روي عن عبد الله بن عطاء أنه قال: ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (ع)، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة مع جلالته في القوم بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه [18] . وقد روي عنه محمد بن سلم ذلك الفقيه المتبحر ثلاثين ألف حديث، أما جابر الجعفي فقد قال: حدثني أبو جعفر سبعين ألف حديث لم أحدث أحداً أبداً [19] . ولأن الظروف السياسية كانت تتسم ببعض الانفراج فلقد تسني للإمام أن يحاجج الكثير من المخالفين له ويعيدهم إلي جادة الصواب، والتاريخ يسجل لنا بعض تلك الاحتجاجات، وننقل شيئاً منها لتكون شاهدة علي ما وراءها من الحجج البالغة. 1- لقد كان عبد الله بن نافع بن الأزرق واحداً من قادة الخوارج الذين كانوا أشد الفرق عداءً للإمام علي (ع) وأهل بيته، وكان يقول: لو أني علمت أن بين قطريها أحداً تبلغني إليه المطايا يخصمني أن علياً قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحلت إليه، فقيل له ولا ولده، فقال أفي ولده عالم فقيل له هذا أول جهلك أو هم يخلون من عالم؟ قال فمن عالمهم اليوم؟ قيل محمد بن علي بن الحسين بن علي، فرحل إليه في صناديد أصحابه حتي أتي المدينة، فاستأذن علي أبي جعفر فقيل له هذا عبد الله بن نافع، قال: وما يصنع بي وهو يبرأ مني ومن أبي طرفي النهار، فقال له أبو بصير الكوفي: جعلت فداك، إن هذا يزعم أنه لو علم أن بين قطريها أحداً تبلغه المطايا إليه يخصمه أن عليّاً قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحل إليه، فقال له

أبو جعفر: أتراه جاءني مناظراً؟. قال: نعم!. قال: يا غلام، اخرجْ فحط رحله، وقل له إذا كان الغد فائتنا، فلما أصبح عبد الله بن نافع غدا في صناديد أصحابه وبعث أبو جعفر إلي جميع أبناء المهاجرين والأنصار فجمعهم، ثم خرج إلي الناس وأقبل عليهم كأنه فلقة قمر فخطب فحمد الله وأثني عليه وصلي علي رسوله (ص) ثم قال: الحمد لله الذي أكرمنا بنبوته واختصنا بولايته، يا معشر أبناء المهاجرين والأنصار من كانت عنده منقبة لعلي بن أبي طالب فليقم وليتحدث، فقام الناس فسردوا تلك المناقب فقال عبد الله أنا أروي لهذه المناقب من هؤلاء، وإنما أحدث علي الكفر بعد تحكيمه الحكمين “ حتي انتهوا إلي حديث خيبر لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرّاراً غير فرار لا يرجع حتي يفتح الله علي يديه “ فقال أبو جعفر (ع) ما تقول في هذا الحديث؟ قال: هو حق لا شك فيه ولكن أحدث الكفر بعد، فقال له أبو جعفر: ثكلتك أمك، أخبرني عن الله عزَّ وجلَّ أحب علي بن أبي طالب يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم، فإن قلت لا كفرت، فقال: قد علم، قال: فأحبه الله علي أن يعمل بطاعته أو علي أن يعمل بمعصيته، فقال: علي أن يعمل بطاعته، فقال له أبو جعفر: فقم مخصوماً، فقام وهو يقول حتي يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، الله أعلم حيث يجعل رسالته [20] . 2- وكان قتادة من أبرز فقهاء البصرة ولكنه كان يتشوق إلي رؤية الإمام الباقر (ع) ومناظرته، حيث كانت المدينة المنورة حاضرة الفقه والتفسير وسائر المعارف الإلهية، ولذلك فقد انتشر علم الإمام

إلي كل الآفاق.. من هنا جاء قتادة إلي المدينة يسأل عن الإمام فلما رآه قال له الإمام: أنت فقيه أهل البصرة؟ قال: نعم، فقال: ويحك يا قتادة إن الله عزّ وجلّ خلق خلقاً فجعلهم حججاً عي خلقه فهم أوتاد في أرضه، قوام بأمره، نجباء في علمه، اصطفاهم قبل خلقه، أظلةً عن يمين عرشه. فسكت قتادة طويلاً ثم قال: أصلحك الله، والله لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدام أحد منهم ما اضطرب قدامك، فقال له أبو جعفر: أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فأنت ثم ونحن أولئك. فقال له قتادة: صدقت والله جعلني الله فداك ماهي بيوت حجارة ولا طين، قال: فأخبرني عن الجبن، فتبسم أبو جعفر وقال: رجعت مسائلك إلي هذا، قال: ضلت عني، فقال: لا بأس به، فقال: إنه ربما جعلت فيه أنفحة الميت، قال: ليس بها بأس إن الأنفحة ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم، إنما تخرج من بين فرث ودم، ثم قال: وإنما الأنفحة بمنزلة دجاجة ميتة أخرجت منها بيضة فهل تأكل تلك البيضة؟ قال قتادة: لا ولا آمر بأكلها فقال له أبو جعفر: ولِمَ؟ قال: لأنها من الميتة، قال له: فإن حضنت تلك البيضة فخرجت منها دجاجة أتأكلها؟ قال: نعم قال: فما حرم عليك البيضة وأحل لك الدجاجة، ثم قال: فكذلك الأنفحة مثل البيضة فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين ولا تسأل عنه إلاّ أن يأتيك من يخبرك عنه [21] . 3- وقد بث

الإمام من علمه بين الناس حتي سمي باقراً، فقد جاء في لسان العرب أنَّه لقب به (أي بالباقر) لأنه بقر العلم، وعرف أهله واستبسط فرعه وتوسع فيه. والتبقر التوسع [22] . وقال ابن حجر في صواعقه المحرقة: سمي بذلك من بقر الأرض أي شقها وأثار مخبآتها ومكامنها، فكذلك هو أظهرَ من مخبأة الكنوز والمعارف، وحقائق الأحكام والحكم، ولطائف مالا يخفي إلاّ علي متطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة، ومن ثم قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه [23] . وقد أفاض الإمام علي المسلمين من علمه عبر تربيته لطائفة عظيمة من الفقهاء والمفسرين وحكماء المعارف الإلهية، من أمثال جابر بن يزيد الجعفي، ومحمد بن مسلم، وأبان بن تغلب، ومحمد بن إسماعيل بن بزيع، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار وآخرين. كما أنه نشر العلم عبر من روي عنه من علماء عصره من أمثال: ابن المبارك، والزهري، والأوزاعي. وأبي حنيفة ومالك والشافعي وزياد بن المنذر الهندي والبطري والبلاذري والسلامي والخطيب وغيرهم [24] . وكان الولاة يجأرون إلي أهل بيت الرحمة كلما دهمتهم داهمة، وبالرغم من الصراع الحاد القائم بين الطرفين لم يدّخر الأئمة عليهم السلام وسعاً في خدمة الإسلام وإنقاذ الأمة من الأخطار المحيطة بهم. من ذلك ما ينقل لنا التاريخ من ورطة وقع فيها الخليفة الأموي عبد الملك حسبما ذكره إبراهيم بن محمد البيهقي في كتابه المحاسن والمساوئ حيث نقل عن الكسائي أنه قال: دخلت علي الرشيد ذات يوم وهو في (إيوانه وبين يديه مال كثير قد تشق عنه البدر شقاً، وأمر بتفريقه في خدم الخاصة وبيده درهم تلوح كتابته وهو يتأمله وكان كثيراً ما يحدثني فقال: هل علمت أول من سن هذه

الكتابة في الذهب والفضة؟ قلت يا سيدي هو عبد الملك بن مروان! قال: فما كان السبب في ذلك؟ قلت: لا علم لي غير أنه أول من أحدث هذه الكتابة! فقال: سأخبرك: كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانيا علي دين ملك الروم وكانت تطرز بالرومية، وكان طرازها أباً وابناً وروحاً قديساً فلم يزل ذلك كذلك وصدر الإسلام كله يمضي علي ما كان عليه إلي أن ملك عبد الملك فتنبه له وكان فطناً، فبينا هو ذات يوم إذ مر به قرطاس فنظر إلي طرازه فأمر أن يترجم إلي العربية ففعل ذلك، فأنكره وقال: ما أغلظ هذا في الدين والإسلام، أن يكون طراز القراطيس بمصر وهي تحمل في الأواني والثياب، فتدور في الآفاق والبلاد وقد طرزت بشرك مثبت عليها، فأمر بالكتاب إلي عبد العزيز بن مروان وكان عامله بمصر بإبطال ذلك الطراز علي ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك، وأن يأمر صنّاع القراطيس بأن يطرزوها بسورة التوحيد و «شَهِدَ الله أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ» (آل عمران/18)، وهذا طراز القراطيس خاصة إلي هذا الوقت لم ينقص ولم يزد ولم يتغير، وكتب إلي عمال الآفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع والحبس الطويل، فلما أثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد وحملت إلي بلاد الروم، أنتشر خبرها ووصل إلي ملكهم، فترجم له ذلك الطراز فأنكره وغلظ عليه واستشاط غضباً فكتب إلي عبد الملك: إن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم، ولم يزل يطرز بطراز الروم إلي أن أبطلته، فإن كان من تقدمَك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت،

وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا، فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلي ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق، حاجة أشكرك عليها وتأمر بقبض الهدية وكانت عظيمة القدر، فلما قرأ عبد الملك كتابه رد الرسول وأعلمه أن لا جواب له ولم يقبل الهدية، فانصرف بها إلي صاحبه فلما وافاه أضعف الهدية ورد الرسول إلي عبد الملك وقال: إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها ولم تجبني عن كتابي، فأضعفت لك الهدية وأنا أرغب إليك في مثل ما رغبت فيه من رد هذا الطراز إلي ما كان عليه أولاً، فقرأ عبد الملك الكتاب ولم يجبه ورد الهدية، فكتب إليه ملك الروم يقتضي أجوبة كتبه ويقول: إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي فتوهمتك استقللت الهدية فأضعفتها فجريت علي سبيلك الأول وقد أضعفتها ثالثة، وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلي ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدنانير والدراهم، فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلاّ ما ينقش في بلادي، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام فينقش عليها من شتم نبيك ما إذا قرأته ارفض جبينك له عرقاً، فأحب أن تقبل هديتي، وترد الطراز إلي ما كان عليه، وتجعل ذلك هدية بررتني بها وتبقي علي الحال بيني وبينك، فلما قرأ عبد الملك الكتاب غلظ عليه وضاقت به الأرض وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام لأني جنيت علي رسول الله (ص) من شتم هذا الكافر ما يبقي غابراً ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب، إذ كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم، فجمع أهل الإسلام

واستشارهم فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به، فقال له روح بن زنباع: إنك لتعلم الرأي والمخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه، قال ويحك من؟ قال: الباقر من أهل بيت النبي (ص) قال: صدقت ولكن أُرتج عليّ الراي فيه فكتب إلي عامله بالمدينة أن أَشْخص إلي محمد بن علي بن الحسين مكّرماً ومتّعه بمائتي ألف درهم لجهازه وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته، وأزح علته في جهازه من يخرج معه من أصحابه، واحتبس الرسول قبله إلي موافاته عليه، فلما وافي أخبره الخبر فقال له الباقر (ع): لا يعظمن هذا عليك فإنه ليس بشيء من جهتين: (احداهما) أن الله عزّ وجلّ لم يكن ليطلق ما تهددك به صاحب الروم في رسول الله (ص). (والأخري) وجود الحيلة فيه، قال: وماهي؟ قال: تدعو في هذه الساعة بصنّاع فيضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها سورة التوحيد وذكر رسول الله (ص)، أحدهما في وجه الدرهم والدينار والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي تضرب فيه تلك الدراهم والدنانير، وتعمد إلي وزن ثلاثين درهماً عدداً من الأصناف الثلاثة التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل وعشرة منها وزن ستة مثاقيل وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعاً واحداً وعشرين مثقالاً فتجزئها من الثلاثين فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلي زيادة ولا نقصان، فتضرب الدراهم علي وزن عشرة والدنانير علي وزن سبعة مثاقيل، وكانت الدراهم في ذلك الوقت إنما هي الكسروية التي يقال لها اليوم البغلية لأن رأس البغل ضربها لعمر بن الخطاب بسكة كسروية في الإسلام مكتوب عليها صورة الملك وتحت

الكرسي مكتوب بالفارسية (نوش خر) أي كل هنيئاً، وكان وزن الدرهم منها قبل الإسلام مثقالاً والدراهم التي كان وزن العشرة منها وزن ستة مثاقيل والعشرة وزن خمسة مثاقيل هي السميرية الخفاف والثقال ونقشها نقش فارس. ففعل عبد الملك ذلك وأمره محمد بن علي بن الحسين أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام، وأن يتقدم إلي الناس في التعامل بها وأن يتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكك من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تبطل وترد إلي مواضع العمل حتي تعاد إلي السكك الإسلامية، ففعل عبد الملك ذلك ورد رسول ملك الروم إليه يعلمه بذلك، ويقول: إن الله عزّ وجلّ مانعك مما قدرت أن تفعله وقد أقدمت إلي عمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا وبإبطال السكك والطراز الرومية، فقيل لملك الروم إفعل ما كنت تهددت به ملك العرب فقال: إنما اردت أن أغيظه بما كتبت إليه لأني كنت قادراً عليه والمال وغيره برسوم الروم فأما الآن فلا أفعل لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام وممتنع من الذي قال. وثبت ما اشار به محمد بن علي بن الحسين إلي اليوم ثم رمي يعني الرشيد بالدرهم إلي بعض الخدم [25] . إن العلم الإلهي الذي حباه به الرب بما أخلص له في الطاعة، واجتهد في سبيله بالدعاء والعمل، إنه كان وراء إرشاده إلي السبيل الأفضل لمواجهة تهديد ملك الروم. وهذا العلم كان يميز الإمام الحق عمن ادعوا هذا المقام بغير حق، سواء الولاة الظالمون أو العلويون الذين نازعوا الأئمة حقهم. وهكذا نجد في تاريخ أهل البيت عليهم السلام كيف كان يقول شيعتهم عليهم بما لديهم من علم الدين والعلم بالحقائق الخفية بإذن الله، وبالتوسم بنور الله وبتأييد ملائكة

الله. وفيما يلي ننقل بعض الأحاديث التي تزيدنا معرفة بمقام الإمامة عموماً وبدرجات الإمام الباقر (ع) بالذات. فقد روي الحلبي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: دخل الناس علي أبي (الإمام الباقر) وقالوا: ما حد الإمام؟ قال: حده عظيم، إذا دخلتم عليه فوقروه وعظموه وآمنوا بما جاء به من شيء، وعليه أن يهديكم، وفيه خصلة إذا دخلتم عليه لم يقدر أحد أن يملأ عينه منه إجلالاً وهيبةً، لأن رسول الله (ص) كذلك كان، وكذلك يكون الإمام، قالوا: فيعرف شيعته؟ قال: نعم ساعة يراهم، قالوا: فنحن لك شيعة؟ قال: نعم كلكم قالوا: أخبرنا بعلامة ذلك قال: أخبركم باسماءكم وأسماء آبائكم وقبائلكم؟ قالوا: أخبرنا، فأخبرهم، قالوا: صدقت، (قال:) وأخبركم عما أردتم أن تسألوا عنه في قوله تعالي: «كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ» (ابراهيم/24) نحن نعطي شيعتنا من نشاء من علمنا، ثم قال: يقنعكم؟ قالوا: في دون هذا نقنع [26] . وينقل عبد الله بن معاوية الجعفري قصته مع والي المدينة، الذي بعث عبره برسالة تهديد إلي الإمام الباقر (ع)، فلم يأبه بها الإمام لأن الله أطلعه علي أنه معزول قريبا، يقول سأحدثكم بما سمعته أذناي ورأته عيناي من أبي جعفر (ع) أنه كان علي المدينة رجل من آل مروان وأنه أرسل إليّ يوماً فأتيته وماعنده أحد من الناس، فقال: يا معاوية إنما دعوتك لثقتي بك، وإني قد علمت أنه لايبلغ عني غيرك، فأحببت أن تلقي عمَّيْك محمد بن علي وزيد بن الحسين (ع) وتقول لهما: يقول لكما الأمير لتكفان عما يبلغني عنكما، أو لتنكران، فخرجت متوجهاً إلي ابي جعفر فاستقبلته متوجهاً إلي المسجد فلما دنوت منه تبسم ضاحكاً فقال: بعث إليك هذا الطاغية ودعاك وقال:

القَ عمَّيك فقل لهما كذا؟ قال: أخبرني ابو جعفر بمقالته كأنه كان حاضراً، ثم قال: يا ابن عم قد كفينا أمره بعد غد، فإنه معزول ومنفي إلي بلاد مصر والله ما أنا بساحر ولا كاهن، ولكني أتيت وحدثت، قال: فوالله ما أتي عليه اليوم الثاني حتي ورد عليه عزله ونفيه إلي مصر وولي المدينة غيره [27] . أما أبو بصير الذي كان من خواص الإمام فإنه يروي قصته مع الإمام وكيف كان (ع) يراقبه ويؤدبه يقول: كنت أقرئ امرأة القرآن بالكوفة فمازحتها بشيء، فلما دخلت علي أبي جعفر عاتبني وقال: من ارتكب الذنب في الخلاء لم يعبأ الله به، أي شيء قلت للمرأة؟ فغطيت وجهي حياءً وتبت فقال أبو جعفر: لا تعد [28] . ويروي أبو بصير أيضاً كيف أخبر الإمام عن ملك بني العباس قبل سنين من توليهم السلطة فيقول: كنت مع الباقر في مسجد رسول الله (ص) قاعداً حدْثان ما مات علي بن الحسين (ع) إذ دخل الدوانيقي وداود بن سليمان قبل أن أفضي الملك إلي ولد العباس، وما قعد إلي الباقر إلاّ داود فقال الباقر (ع): ما منع الدوانيقي أن يأتي؟ قال: فيه جفاء، قال الباقر (ع): تذهب الأيام حتي يلي أمر هذا الخلق ويطأ أعناق الرجال، ويملك شرقها وغربها بطول عمره فيها حتي يجمع من كنوز الأموال مالم يجتمع لأحد قبله، فقام داود وأخبر الدوانيقي بذلك فأقبل إليه الدوانيقي وقال: ما منعني من الجلوس إليك إجلالك فما الذي خبرني به داود؟ فقال: هو كائن، قال: وملكنا قبل ملككم؟ قال: نعم، قال: يملك بعدي أحد من ولدي؟ قال: نعم، قال: فمدة بني أمية أكثر أم مدتنا؟ قال: مدتكم أطول وليتلقفن هذا الملك

صبيانكم ويلعبون كما يلعبون بالكرة، هذا ما عهده إليّ أبي، فلما ملك الدوانيقي تعجب من قول الباقر (ع) [29] .

خصال الإمام

لا يختار الله عبداً لمقام الإمامة. ويجعله حجة بالغة علي خلقه إلاّ إذا اكتملت فيه الخصال الجيدة. وكان مثلاً لما أقر به سبحانه في كتابه من خشية الله وتوقيره. وتعظيمه وتجليله. وإخلاص العبودية له والتي تتجلي في جملة أقواله وأفعاله. فلا يقول إلاّ صواباً ولا يعمل إلاّ رشداً. وإذا كنا ننقل بعض خصال الإمام الباقر (ع) الحميدة، أو خصال أحد المعصومين عليهم السلام، فلكي نأتي بالشواهد الواضحة التي تدلنا علي أمثالها، وليس لأننا نريد أن تختصر كل حياة الإمام فيها. أو نحصي فضائله وخصاله الحميدة، كلا.. لأننا نعرف سلفاً أن حياتهم كانت صورة واقعية عن القرآن الكريم، بيد أن ما بلغنا منها لم يكن مستوعباً لجوانب حياتهم، لأن جانباً منها انبهر به المؤرخون فأكثروا فيه الحديث واكتفوا بقياس سائر الجوانب عليه، فمثلاً ذكروا من حياة الإمام السجاد جانب العبادة، ولم يتحدثوا كثيراً عن جانب العلم، بينما عكسوا الأمر فيما يتصل بحياة الإمام الباقر (ع). وهكذا نكتفي ببعض الإشراقات التي وصلت إلينا من حياة الإمام ونترك للقارئ أن يقيس سائر أبعاد حياته عليها. “ قال: ابن شهراشوب في المناقب “: كان أصدق الناس لهجة وأحسنهم بهجة وأبذلهم مهجة، وكان أقل أهل بيته مالاً وأعظمهم مؤونة، وكان يتصدق كل جمعة بدينار، وكان يقول الصدقة يوم الجمعة تضاعف لفضل يوم الجمعة علي غيره من الأيام، وكان إذا أحزنه أمر جمع النساء والصبيان ثم دعا فأمنوا، وكان كثير الذكر، كان يمشي وإنه ليذكر الله ويأكل الطعام وإنه ليذكر الله، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله عن ذكر الله،

وكان يجمع ولده فيأمرهم بالذكر حتي تطلع الشمس، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منهم ومن كان لا يقرأ منهم أمره بالذكر، ويأتي قول المفيد: وكان ظاهر الجود في الخاصة والعامة مشهور الكرم في الكافة، معروفاً بالتفضل والإحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله، ويأتي عن سليمان بن دمدم أنه عليه السلام كان يجيز بالخمسمائة درهم إلي الستمائة إلي الألف، وكان لا يمل من صلة إخوانه وقاصديه ومؤمليه وراجيه، وكان إذا ضحك قال: اللهم لا تمقتني. وقال الأبي في كتاب نثر الدرر: كان إذا رأي مبتلي أخفي الاستعاذة، وكان لايسمع من داره يا سائل بورك فيك ولا يا سائل خذ هذا وكان يقول: سموهم بأحسن أسمائهم [30] . وحينما يذكر أبو نعيم في كتابه الحلية الإمام يصفه بهذا النعت: الحاضر الذاكر الخاشع الصابر أبو جعفر محمد بن علي الباقر [31] . وكان من شدة خشوعه ما يذكره (أفلح) مولي أبي جعفر أنه قال: خرجت مع محمد بن علي حاجّاً فلما دخل المسجد نظر إلي البيت فبكي حتي علا صوته، فقلت: بأبي أنت وأمي إن الناس ينظرون إليك فلو رفعت بصوتك قليلاً [32] فقال لي: ويحك يا أفلح ولم لا أبكي لعل الله تعالي أن ينظر إليّ منه برحمة فأفوز بها عنده غداً، قال (أفلح) ثم طاف بالبيت ثم جاء حتي ركع عند المقام فرفع رأسه من سجوده فإذا موضع سجوده مبتل من كثرة دموع عينه ويضيف أفلح قائلاً: كان إذا ضحك قال: اللهم لا تمقتني [33] . ويقول نجلُه الإمام الصادق (ع) وهو يصف تبتل والده إلي الله: كان أبي كثير الذكر، لقد كنت أمشي معه وإنه يذكر الله، وآكل معه الطعام وإنه ليذكر الله، ولقد كان

يحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله. وكنت أري لسانه لازقاً بحنكه يقول: لا الله إلاّ الله، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتي تطلع الشمس، ويأمر بالقرآن من كان يقرأ منا ومن كان لايقرأ منا أمره بالذكر [34] . ويقول الإمام الصادق (ع): إني كنت أمهد لأبي فراشه فأنتظره حتي يأتي، فإذا أوي إلي فراشه ونام قمت إلي فراشي. وإنه أبطأ عليّ ذات ليلة فأتيت المسجد في طلبه وذلك بعدما هدأ الناس، فإذا هو في المسجد ساجد، وليس في المسجد غيره وسمعت حنينه وهو يقول: سبحانك اللهم أنت ربي حقاً حقاً، سجدت لك تعبداً ورقاً، اللهم إن عملي ضعيف فضاعفه لي، اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك، وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم [35] . وكان (ع) شديد الحب لكتاب ربه، عظيم الاهتمام به والتأثر بآياته، حتي أن أبان بن ميمون القداح قال: قال لي أبو جعفر (ع): إقرأ. قلت: من أي شيء أقرا؟. قال: من السورة التاسعة؟ قال: فجمعت ارتمسها فقال: اقرأ من سورة يونس فقال.. قرأت «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَي وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ» (يونس/26) قال: حسبك، قال: قال رسول الله (ص): إنِّي لأَعجبُ كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن [36] . وكان يستلهم من كتاب ربه معارف الدين حتي أنه يدعو الرواة أن يسألوه عن مصدر أقوالهم من القرآن، هكذا يروي أبو الجارود قال: قال أبو جعفر (ع): إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عن كتاب الله. ثم قال: حتي حديثه أن الله نهي عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال: فقالوا يابن رسول الله وأين هذا من كتاب الله؟ فقال: إن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: «لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ

مِن نَجْوَاهُمْ» (النساء/114) وقال: «وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً» (النساء/5) وقال: «لاَ تَسْاَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» (المائدة/101) [37] . وإذا سأل عن حاله استغل السؤال لتذكير نفسه والسائل بالله، فقد روي أنه قيل لمحمد بن علي الباقر (ع) كيف أصبحت: قال: “ أصبحنا غرقي في النعمة، موتورين بالذنوب، يتحبب إلينا إلهنا بالنعم، ونتمقت إليه بالمعاصي، ونحن نفتقر إليه وهو غني عنّا “ [38] . وكان (ع) شديد التسليم لأمر الله فقد روي بعض أصحابه أنه قال: كان قوم أتوا أبا جعفر (ع): فوافَوا صبياً له مريضاً، فرأوا منه اهتماماً وغماً، وجعل لا يقر (قال) فقالوا: والله لإن أصابه بشيء إنا نتخوف أن نري منه ما نكره، قال فما لبثوا أن سمعوا الصياح عليه، فإذا هو قد خرج عليهم منبسط الوجه في غير الحال التي كان عليها، فقالوا له: جعلنا الله فداك لقد كنا نخاف مما نري منك أن لو وقع ان نري منك ما يغمنا، فقال لهم: إنا لنحب أن نعافي في من نحب، فإذا جاء أمر الله سلمنا فيما يحب [39] . وكان (ع) لا يلويه عن العمل الصالح شيء. وفي ذلك رواية طريفة ينقلها بعض أصحابه حيث يقول: - حضر أبو جعفر (ع) جنازة رجل من قريش وأنا معه، وكان فيها عطاء فصرخت صارخة فقال عطاء: لتسكتن أو لنرجعن، قال: فلم تسكت فرجع عطاء قال: فقلت لأبي جعفر (ع) إن عطاء قد يرجع، قال: ولِمَ؟ قلت: صرخت هذه الصارخة فقال لها: لتسكتن أو لنرجعن؟ فلم تسكت فرجع، “ فقال: إمضِ بنا فلو أنا إذا رأينا من الباطل مع الحق تركنا له الحق لم نقضِ حق مسلم،

قال: فلما صلي علي الجنازة قال وليها لأبي جعفر: إرجع مأجوراً رحمك الله فإنك لا تقوي علي المشي، فأبي أن يرجع، قال فقلت له: قد اذن لك في الرجوع ولي حاجة أريد أن أسالك عنها، فقال: إمضِ فليس بإذنه مشينا ولا بإذنه نرجع، إنما هو فضل وأجر طلبناه فبقدر ما يتبع الجنازة الرجل يؤجر علي ذلك [40] . أما معاشرته لإخوانه فقد كانت غاية في الأدب، فمثلاً يحكي أبو عبيدة عن آداب عشرته في السفر فيقول: كنت زميل أبي جعفر (ع) وكنت أبدأ بالركوب ثم يركب هو “ فإذا استوينا سلّم وسأل مسألة رجل لا عهد له بصاحبه، وصافح، قال: وكان إذا أنزل نزل قبلي، فإذا استويت أنا وهو علي الأرض سلم وسأل مسألة من لا عهد له بصاحبه، فقلت يابن رسول الله إنك تفعل شيئاً ما يفعله من قبلنا، وإن فعل مرة لكثير، فقال: أما علمت ما في المصافحة، إن المؤمنين يلتقيان فيصافح أحدهما صاحبه فما تزال الذنوب تتحات عنهما كما يتحات الورق عن الشجر والله ينظر إليهما حتي يفترقان [41] . وكان في تعامله مع الناس برّاً عفيفاً، وكان يعفو عن السيئة أني استطاع إلي ذلك سبيلاً، وكان لذلك أطيب الأثر في نفوس الناس، فقد قال له نصراني يوماً: أنت بقر قال: لا أنا باقر قال: أنت ابن الطباخة (يريد تعييره بها) قال: تلك حرفتها، قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذية؟ قال: إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك، فانبهر النصراني بأخلاقه، ودعاه ذلك إلي الإسلام علي يديه [42] . وقد كان تعامله مع المستضعفين يتميز بالشفقة والرفق، وقد روي عن نجله الإمام الصادق (ع) أنه قال: إذا

استكملتم ما ملكت أيمانكم في شيء فيشق عليهم فاعملوا معهم فيه، قال: وإن كان أبي (الإمام الباقر عليه السلام) ليأمرهم فيقول كما أنتم، فيأتي فينظر، فإن كان ثقيلاً قال باسم الله ثم عمل معهم، وإن كان خفيفاً تنحي عنهم [43] . وربما كان عمله في إصلاح حقله ومزرعته لهذه الجهة، حيث كان الأئمة (ع) يرون الكدح والكد أمراً محبوباً يقربهم إلي الله. في ذلك يروي أبو عبد الله الصادق أن محمد بن المكدر كان يقول: ما كنت أري أن مثل علي بن الحسين يدع خلفاً لفضل علي بن الحسين حتي رأيت ابنه محمد بن علي، فأردت أن اعظه فوعظني، فقال له أصحابه: بأي شيء يعظك؟ قال: خرجت إلي بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمد بن علي وكان رجلاً بديناً وهو متّكٍ علي غلامين له أسودين أو موليين، فقلت في نفسي: شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة علي هذه الحال في طلب الدنيا، أشهد لأعظنه، فدنوت منه فسلمت عليه، فسلَّم عليَّ ببهر وقد تصبب عرقاً، فقلت أصلحك الله يا شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة علي هذه الحال في طلب الدنيا، لو جاءك الموت وأنت علي هذه الحال؟ قال: فخلي عن الغلامين من يده، ثم تساند وقال: لو جاءني والله الموت وأنا في هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله تعالي أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا علي معصية من معاصي الله، فقلت: يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني [44] . وكان يمكن الإمام أن يستخدم عبيده في أمر إصلاح أرضه، إلاّ أنه أحب أن يراه الله كاداً في سبيل إعاشة عياله. ونختم

حديثنا عن عِشرة الإمام بحديث يرويه الإمام الصادق (ع) يقول: أعتق أبو جعفر من غلمانه عند موته شرارهم وأمسك خيارهم. فقلت: يا أبته تعتق هؤلاء وتمسك هؤلاء؟ فقال: إنهم قد أصابوا مني حزناً فيكون هذا بهذا [45] . هكذا ضرب الإمام أروع الأمثلة في الخصال الحميدة والآداب الرفيعة، ولا ريب أن الرواة لم ينقلوا لنا إلاّ نزراً يسيراً من جوانب حياته التي تفيض بالحكمة والرشاد.. فسلام الله عليه أبداً وصلاته عليه دائماً سرمداً.

الامام وعصره

من خلال مراجعة سريعة لعصر الإمام الباقر (ع) نعرف أن هدوءاً غاضباً كان يسوده قبل أن تهدر العاصفة الثائرة، التي أطاحت بالحكم الأموي بعد وفاة الإمام الباقر (ع)، وحملت إلي الساحة النظام العباسي في عهد الإمام الصادق (ع). ومن خلال الشواهد التي نستوحيها من قصص حياته (ع) نتلمس ملامح ذلك العصر.. وكيف أن إرهاصات العاصفة كانت ظاهرة هنا وهناك. أولاً: الشاهد الأول ظاهرة عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي الذي قاد ثورةً إصلاحية من قمة هرم فمع النجاح الجزئي الذي كسبه هذا الخليفة. إلاّ أنه لم ينجح لسببين: الأول: لأنه جاء متأخراً جّداً إذ أن الفرق الإسلامية التي تبنت معارضة الحكم الأموي كانت راسخة الجذور في الأمة.. ولم تكن تنخدع بهذه اللعبة السياسية. وفي طليعتها شيعة أهل البيت عليهم السلام، الذين كان وعيهم بالسياسة إلي درجة لم يكن بإمكان ابن عبد العزيز أو عبد الله المأمون أن يؤثرا فيهم، وذلك بفضل ثقافتهم القرآنية. وتوعية الائمة بحقائق الإسلام. ومن أبرزها أن الحكم ليس بالوراثة أو القوة، وانما هو بأمر الدين، فها هو الإمام الباقر (ع) يقول لأصحابه أن أهل السماء يلعنون عمر بن عبد العزيز - وذلك حتي قبل توليه السلطة -

لنستمع إلي الحديث التالي: روي أبو بصير قال: كنت مع الباقر في المسجد إذ دخل عمر بن عبد العزيز، وعليه ثوبان ممصران متكئاً علي مولي له، فقال: لَيَلِيَنَّ هذا الغلام فيظهر العدل، ويعيش أربع سنين ثم يموت فيبكي عليه أهل الارض ويلعنه أهل السماء، قال: يجلس في مجلس لا حق له فيه، ثم ملك وأظهر العدل جهده [46] . هكذا يعتبره الإمام ملعوناً لأنه قد جلس في مقام الخلافة الذي لا يحق له الجلوس فيه أبداً. صحيح أن ابن عبد العزيز أعاد فدكاً إلي البيت العلوي، وكانت فدك رمزاً لظلامة أهل البيت، وكان ردها دليلاً عند الناس علي صدق مذهبهم. إلاّ إن الأئمة لم يعبأوا بذلك ولم يعتبروه كافياً لحسن سلوك النظام، لأن النظام كان اساسه باطلاً، وكانت حركة الأئمة تستهدف إصلاح المجتمع من جذوره كما يفعل الأنبياء (ع). والحديث التالي يكشف عن طريقة تفكير طليعة الأمة فيما يتعلق بنظام عمر بن عبد العزيز، دعنا نستمع إليه. فقد روي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلي عامله بخراسان أن أوفد إليّ من علماء بلادك مائة رجل أسألهم عن سيرتك، فجمعهم عامله وقال لهم ذلك، فاعتذروا وقالوا إن لنا عيالاً وأشغالاً لا يمكننا مفارقته، وعدله لا يقتضي إجبارنا، ولكن قد أجمعنا علي رجل منا يكون عوضنا عنده، ولساننا لديه، فقوله قولنا، ورأيه رأينا فأوفد به العامل إليه، فلما دخل عليه سلم وجلس، فقال له: أخل لي المجلس، فقال له: ولم ذلك؟ وأنت لا تخلو أن تقول حقاً فيصدقوك، أو تقول باطلاً فيكذبوك فقال له: ليس من أجلي اريد خلو المجلس، ولكن من أجلك، فإني أخاف أن يدور بيننا كلام تكره سماعه. فأمر بإخراج أهل المجلس ثم

قال له: قل! فقال: أخبرني عن هذا الأمر من أين صار إليك؟ فسكت طويلاً فقال له: ألا تقول؟ فقال: لا، فقال: ولم؟ فقال له: إن قلت بنص من الله ورسوله كنت كاذباً، وأن قلت بإجماع المسلمين، قلت فنحن أهل بلاد المشرق ولم نعلم بذلك، ولم نجمع عليه، وإن قلت بالميراث من آبائي، قلت بنو أبيك كثير فلِمَ تفردت به دونهم؟ فقال له: الحمد لله علي اعترافك علي نفسك بالحق لغيرك، أفأرجع إلي بلادي؟ فقال: لا فوالله إنك لواعظ قط فقل ما عندك بعد ذلك فقال له: رأيت أن من تقدمني ظلم وغشم وجار واستأثر بفيء المسلمين، وعلمت من نفسي أني لا استحل ذلك، وأن المؤمنين لا شيء يكون أنقص وأخف عليهم فوليت، فقال له: أخبرني لولم تل هذا الأمر ووليه غيرك، وفعل ما فعل من كان قبله، أكان يلزمك من إثمه شيء؟ فقال: لا، فقال له: فأراك قد شريت راحة غيرك بتعبك، وسلامته بخطرك فقال له: إنك لواعظ قط، فقام ليخرج ثم قال له: والله لقد هلك أولنا بأولكم وأوسطنا بأوسطكم، وسيهلك آخرنا بآخركم، والله المستعان عليكم، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وموقف الإمام من عمر بن عبد العزيز كان انتهاز الفرصة المؤاتية لتبليغ الرسالة ونصيحة الولاة، ويصحح ما يمكن تصحيحه من أوضاع الأمة دون الإعتراف بشرعية النظام بالجملة، وفيما يلي نقرأ حديثاً يصف دخول الإمام عليه ونصيحته له: “ يروي هشام بن معاذ ويقول: كنت جليساً لعمر بن عبد العزيز حيث دخل المدينة، فأمر مناديه فنادي من كانت له مظلمة أو ظلامة فليأت الباب، فأتي محمد بن علي يعني الباقر (ع) فدخل إليه مولاه مزاحم فقال: إن محمد بن علي بالباب، فقال له: أدخله يا

مزاحم، قال: فدخل وعمر يمسح عينيه من الدموع فقال له محمد بن علي: ما أبكاك يا عمر؟ فقال هشام: أبكاني كذا وكذا يا ابن رسول الله، فقال محمد بن علي (ع): يا عمر إنما الدنيا سوق من الأسواق منها خرج قوم بما ينفعهم، ومنها خرجوا بما يضرهم، وكم من قوم قد غرتهم بمثل الذي أصبحنا فيه، حتي أتاهم الموت فاستوعبوا، فخرجوا من الدنيا ملومين لما لم يأخذوا لما أحبوا من الآخرة عدة، ولا مما كرهوا جنة، قسم ما جمعوا من لا يحمدهم، وصاروا إلي من لا يعذرهم، فنحن والله محقوقون، إن ننظر إلي تلك الأعمال التي كنا نغبطهم بها، فنوافقهم فيها، وننظر إلي تلك الأعمال التي كنا نتخوف عليهم منها، فنكف عنها. فاتق الله واجعل في قلبك اثنتين، تنظر الذي تحب أن يكون معك إذا قدمت علي ربك فقدِّمه بين يديك، وتنظر الذي تكرهه أن يكون معك إذا قدمت علي ربك فابتغ به البدل، ولا تذهبن إلي سلعة قد بارت علي من كان قبلك، ترجو أن تجوز عنك، واتق الله يا عمر وافتح الأبواب وسهِّل الحجاب، وانصر المظلوم ورد المظالم. ثم قال: ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان بالله، فجثا عمر علي ركبتيه وقال: إيه يا أهل النبوة فقال: نعم يا عمر من إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له، فدعا عمر بدواة وقرطاس وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما رد عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي (ع) فدك. ثانياً: يبدو أن بني أمية كانوا يتجنبون قتل أبناء علي (ع) بصورة ظاهرة، للآثار السلبية التي خلفتها عليهم

واقعة الطف، وكان الأئمة بدورهم لا يجدون الظروف مؤاتية للقيام بنهضة دموية. والقصة التالية التي يذكرها الرواة تشهد بذلك، فبعد أن نازع زيد بن الحسن الإمام الباقر في ميراث رسول الله استنجد بالخليفة الأموي (عبد الملك بن مروان) ودخل عليه وقال له: أتيتك من عند ساحر كذاب لا يحل لك تركه. فكتب عبد الملك كتاباً إلي واليه علي المدينة أن يبعث إليه محمد بن علي مقيداً، وقال لزيد: أرأيتك إن وليتك قتله قتلته؟ قال: نعم. ولكن عامله علي المدينة استدرك الأمر وكتب إلي الخليفة: إن الرجل الذي أردته لا يوجد اليوم علي وجه الأرض أعف منه ولا أزهد ولا أورع منه، وإنه ليقرأ في محرابه فيجتمع الطير والسباع تعجباً لصوته، وإن قراءته وكتبه مزامير داود، وإنه من أعلم الناس، وارق الناس، وأشد الناس اجتهاداً وعبادةً، وأضاف في كتابه: وكرهت لأمير المؤمنين التعرض له، فإن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم.. وهكذا تراجع عبد الملك مما بدر منه. وبعد أن اكتشف كذب زيد بن الحسن أخذه وقيَّده وهيَّأه، وقال له: لولا أني أريد أن لا أبتلي بدم أحد منكم لقتلتك. ثم كتب إلي الإمام الباقر (ع) بعثت إليك بابن عمك فأحسن أدبه [47] . من هذه القصة نعرف أن ملوك بني أمية كانوا يتجنبون ما أمكنهم قتل أولاد علي (ع) بصورة ظاهرة. ثالثاً: كانت المعارضة العلنية لحكم بني أمية أصبحت معروفة، ويروي التاريخ بعض النماذج منها ونذكر فيما يلي اثنين منها: 1- يحكي الديلمي قصة طريفة في كتابه إعلام الدين يقول: قال رجل لعبد الملك بن مروان أُناظرك وأنا آمن، قال: نعم، فقال: أخبرني عن هذا الأمر الذي صار إليك أبنص من الله

ورسوله؟ قال: لا، قال: اجتمعت الأمة فترضّوا بك؟ قال: لا، فقال: فكانت لك بيعة في أعناقهم فرضوا بها؟ قال: لا، قال: فاختارك أهل الشوري؟ قال: لا، قال: أفليس قد قهرتهم علي أمرهم، واستأثرت بغيثهم، دونهم؟ قال: بلي، قال: فبأي شيء سُميت أمير المؤمنين؟ ولم يؤمرك الله ورسوله ولا المسلمون، قال له أخرج عن بلادي وإلاّ قتلتك، قال: ليس هذا جواب أهل العدل والإنصاف، ثم خرج عنه [48] . 2- وقصة أخري ينقلها الشيخ الطوسي في أماليه عن الشيخ المفيد عن الثمالي قال: حدثني من حضر عبد الملك بن مروان وهو يخطب الناس بمكة، فلما صار إلي موضع العظة من خطبته، قام إليه رجل فقال له: مهلاً مهلاً، إنكم تأمرون ولا تأتمرون، وتنهون ولاتنتهون، وتعظون ولا تتعظون، أفاقتداء بسيرتكم أم طاعة لأمركم؟ فإن قلتم اقتداءً بسيرتنا فكيف يقتدي بسيرة الظالمين، وما الحجة في اتباع المجرمين الذين اتخذوا مال الله دولاً، وجعلوا عباد الله خولاً، وإن قلتم أطيعوا أمرنا، واقبلوا نصحنا، فكيف ينصح غيره من لم ينصح نفسه؟ أم كيف تجب طاعة من لم تثبت له عدالة؟ وإن قلتم خذوا الحكمة من حيث وجدتموها، واقبلوا العظة ممن سمعتموها، فلعل فينا من هو أفصح بصنوف العظات وأعرف بوجوه اللغات منكم، فتزحزحوا عنها وأطلقوا أقفالها وخلّوا سبيلها، ينتدب لها الذين شردتهم في البلاد، ونقلتموهم عن مستقرهم إلي كل واد، فوالله ما قلدناكم أزمة أمورنا، وحكمناكم في أموالنا وابداننا وأدياننا، لتسيروا فينا بسيرة الجبارين، غير أنا بصراء بأنفسنا لاستيفاء المدة وبلوغ الغاية وتمام المحنة، ولكل قائم منكم يوم لا يعدوه، وكتاب لابدّ أن يتلوه، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، قال: فقام إليه

بعض أصحابه المسالح، فقبض عليه، وكان آخر عهدنا به، ولا ندري ما كانت حاله [49] . رابعاً: خروج الإمام إلي الشام. إن حادثة استدعاء هشام بن عبد الملك الإمام الباقر (ع) من المدينة إلي الشام، تكشف عن طبيعة علاقة الإمام بالسلطة السياسية، وما كان يعانيه منها، وكيف كان يتحداها، ونحن إذ نثبت نصّاً تاريخياً فيها ندع للقارئ فرصة التأمل فيها، علي أن النصوص مختلفة في تفاصيل هذه الواقعة وإنما نذكر أكثرها تفصيلاً بإذن الله. وقد حج هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين، وكان قد حج في تلك السنة محمد بن علي الباقر وابنه جعفر بن محمد عليهما السلام. وقال الإمام الصادق (ع): الحمد لله الذي بعث محمداً بالحق نبياً وأكرمنا به فنحن صفوة الله علي خلقه وخيرته من عباده وخلفاؤه، فالسعيد من اتبعنا والشقي من عادانا وخالفنا. ثم قال: فأخبر مسلمة أخاه بما سمع، فلم يعرض لنا حتي انصرف إلي دمشق وانصرفنا إلي المدينة، فأنفذ بريداً إلي عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه، فأشخصنا، فلما وردنا مدينة دمشق حجبنا ثلاثاً، ثم أذن لنا في اليوم الرابع فدخلنا، وإذا قد قعد علي سرير الملك، وجنده وخاصته وقوف علي أرجلهم سماطان متسلحان، وقد نصب البرجاس حذاه وأشياخ قومه يرمون، فلما دخلنا وأبي أمامي وأنا خلفه، فنادي أبي وقال: يا محمد إرم مع أشياخ قومك الغرض. فقال له: إني قد كبرت عن الرمي فهل رأيت أن تعفيني. فقال: وحق من أعزنا بدينه ونبيه محمد (ص) لا أعفيك، ثم أومأ إلي شيخ من بني أمية أن اعطه قوسك، فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ ثم تناول منه سهماً، فوضعه في كبد القوس، ثم انتزع ورمي وسط

الغرض فنصبه فيه، ثم رمي فيه الثانية فشق فواق سهمه إلي نصله ثم تابع الرمي حتي شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض، وهشام يضطرب في مجلسه فلم يتمالك إلاّ أن قال: أجدت يا أبا جعفر وأنت أرمي العرب والعجم، هلاّ زعمت أنك كبرت عن الرمي، ثم أدركته ندامة علي ما قال. وكان هشام لم يكن كنّي أحداً قبل أبي ولا بعده في خلافته، فهمَّ به وأطرق إلي الأرض إطراقة يتروي فيها. وأنا وأبي واقفان حذاه مواجهين له، فلما طال وقوفنا غضب أبي فهم به، وكان أبي (ع) إذا غضب نظر إلي السماء نظر غضبان يري الناظر الغضب في وجهه، فلما نظر هشام إلي ذلك من أبي. قال له: إلي يا محمد! فصعد أبي إلي السرير، وأنا أتبعه، فلما دنا من هشام، قام إليه واعتنقه وأقعده عن يمينه، ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي، ثم أقبل علي أبي بوجهه. فقال له: يا محمد لاتزال العرب والعجم تسودها قريش مادام فيهم مثلك، لله درك، من علمك هذا الرمي؟ وفي كم تعلمته؟ فقال أبي: قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه فتعاطيته أيام حداثتي ثم تركته، فلما اراد أمير المؤمنين مني ذلك عدت فيه. فقال له: ما رأيت مثل هذا الرَّمي قط مُذْ عقلت، وما ظننت أن في الأرض أحداً يرمي مثل هذا الرمي أيرمي جعفر مثل رميك؟ فقال: إنا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما الله علي نبيه (ص) في قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً» (المائدة/3) والأرض لا تخلو ممن يكمل هذه الأمور التي يقصر غيرنا عنها. قال: فلما سمع ذلك من أبي انقلبت عينه اليمني فاحولت واحمر وجهه، وكان

ذلك علامة غضبه إذا غضب، ثم أطرق هنيئة ثم رفع رأسه. فقال لأبي: ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد؟ فقال أبي: نحن كذلك ولكن الله جل ثناءه اختصنا من مكنون سره وخالص علمه بما لم يخص أحداً به غيرنا. فقال: أليس الله جل ثناؤه بعث محمداً (ص) من شجرة عبد مناف إلي الناس كافة، أبيضها وأسودها وأحمرها من أين ورثتم ما ليس لغيركم؟ ورسول الله (ص) مبعثوث إلي الناس كافة وذلك قول الله تبارك وتعالي: «وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ» (آل عمران/180) إلي آخر الآية فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمد نبي ولا أنتم أنبياء؟ فقال: من قوله تبارك وتعالي لنبيِّه (ص): «لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ» (القيامة/16) الذي لم يحرك به لسانه لغيرنا أمره الله أن يخصنا به من دون غيرنا، فلذلك كان ناجي أخاه عليأً من دون أصحابه فأنزل الله بذلك قرآناً في قوله: «وَتَعِيَهَآ اُذُنٌ وَاعِيَةٌ» (الحاقة/12) فقال رسول الله (ص) لأصحابه: سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي، فلذلك قال علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بالكوفة: علَّمني رسول الله (ص) ألف باب من العلم ففتح لكل باب ألف باب، خصَّه رسول الله (ص) من مكنون سره بما يخص أمير المؤمنين أكرم الخلق عليه، فكما خص الله نبيه (ص) خص نبيه (ص) أخاه علياً من مكنون سره بما لم يخص به أحداً من قومه، حتي صار إلينا فتوارثنا من دون أهلنا. فقال هشام بن عبد الملك: إن علياً كان يدعي علم الغيب والله لم يطلع علي غيبه أحداً، فمن أين ادعي ذلك؟ فقال أبي: إن الله جل ذكره أنزل علي نبيّه (ص) كتاباً بيَّن فيه ما كان

وما يكون إلي يوم القيامة في قوله تعالي: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» (النحل/89) وفي قوله: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ» (الانعام/38) وأوحي الله إلي نبيه (ص) أن لايبقي في غيبه وسره ومكنون علمه شيئاً إلاّ يناجي به عليّاً، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده، ويتولي غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه، وقال لأصحابه: حرام علي أصحابي وأهلي أن ينظروا إلي عورتي غير أخي علي، فإنه مني وأنا منه، له مالي وعليه ما عليَّ، وهو قاضي ديني ومنجز وعدي. ثم قال لأصحابه: علي بن أبي طالب يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلاّ عند علي (ع)، ولذلك قال رسول الله (ص) لأصحابه: أقضاكم علي أي هو قاضيكم وقال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر، يشهد له عمر ويجحده غيره. فأطرق هشام طويلاً ثم رفع رأسه فقال: سل حاجتك. فقال: خلفت عيالي وأهلي مستوحشين لخروجي. فقال: قد آنس الله وحشتهم برجوعوك إليهم ولا تقم، سر من يومك. فاعتنقه أبي ودعا له وفعلت أنا كفعل أبي، ثم نهض ونهضت معه وخرجنا إلي بابه، وإذا بميدان ببابه وفي آخر الميدان أناس قعود عددهم كثير، قال أبي: من هؤلاء؟ فقال الحجاب هؤلاء القسيسون والرهبان وهذا عالم لهم يقعد إليهم في كل سنة يوماً واحداً يستفتونه فيفتيهم. فلف أبي عند ذلك رأسه بفاضل ردائه وفعلت أنا مثل فعل أبي، فأقبل نحوهم حتي قعد نحوهم وقعدت وراء أبي، ورفع ذلك الخبر إلي هشام، فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظر ما يصنع أبي، فأقبل وأقبل عداد من المسلمين فأحاطوا بنا، وأقبل عالم النصاري وقد

شد حاجبيه بحريرة صفراء حتي توسطنا، فقام إليه جميع القسيسين والرهبان مسلمين عليه، فجاؤوا به إلي صدر المجلس فقعد فيه، وأحاط به أصحابه وأبي وأنا بينهم، فأدار نظره ثم قال لأبي: أمنّا أم من هذه الأمة المرحومة؟ فقال ابي: بل من هذه الأمة المرحومة. فقال: من أيهم أنت من علمائها أم من جهالها؟ فقال له أبي: لست من جهالها، فاضطرب اضطراباً شديداً ثم قال له: أسألك؟ فقال له أبي: سل، فقال: من أين ادعيتم أن أهل الجنة يطعمون ويشربون ولا يُحدِثون ولا يبولون؟ وما الدليل فيما تدعونه من شاهد لا يجهل؟ فقال له أبي: دليل ما ندّعي من شاهد لا يجهل، الجنين في بطن أمه يطعم ولا يحدث. قال: فاضطرب النصراني اضطراباً شديداً، ثم قال: هلاّ زعمت أنك لست من علمائها؟ فقال له أبي: ولا من جهالها، وأصحاب هشام يسمعون ذلك. فقال لأبي: أسألك عن مسألة أخري فقال له أبي: سل. فقال: من أين ادعيتم أن فاكهة الجنة أبداً غضة طرية موجودة غير معدومة عند جميع أهل الجنة؟ وما الدليل عليه من شاهد لا يجهل؟ فقال له أبي: دليل ما ندَّعي أن ترابنا أبداً يكون غضاً طرياً موجوداً غير معدوم عند جميع أهل الدنيا لا ينقطع، فاضطرب اضطراباً شديداً، ثم قال: هلاّ زعمت أنك لست من علمائها؟ فقال له أبي: ولا من جهالها. فقال له: أسألك عن مسألة؟ فقال: سل، فقال: أخبرني عن ساعة لا من ساعات الليل ولا من ساعات النهار؟ فقال له أبي: هي الساعة التي بين طلوع الفجر إلي طلوع الشمس يهدأ فيها المبتلي، ويرقد فيها الساهر، ويفيق المغمي عليه، جعلها الله في الدنيا رغبة للراغبين وفي الآخرة للعاملين لها دليلاً واضحاً

وحجة بالغة علي الجاحدين المتكبرين التَّاركين لها. قال: فصاح النصراني صيحة ثم قال: بقيت مسألة واحدة والله لأسألك عن مسألة لاتهدي إلي الجواب عنها أبداً. قال له أبي: سل فإنك حانث في يمينك. فقال: أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد وماتا في يوم واحد عمر أحدهما خمسون سنة وعمر الآخر مائة وخمسون سنة في دار الدنيا؟ فقال له أبي: ذلك عزيز وعزيرة ولدا في يوم واحد، فلما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين عاماً، مرّ عزيز علي حماره راكباً علي قرية بأنطاكية وهي خاوية علي عروشها «قَالَ أَنَّي يُحْيِي هذِهِ الله بَعْدَ مَوْتِهَا» (البقرة/259) وقد كان اصطفاه وهداه فلما قال ذلك القول غضب الله عليه فأماته الله مائة عام سخطاً عليه بما قال، ثم بعثه علي حماره بعينه وطعامه وشرابه وعاد إلي داره، وعزيرة أخوه لا يعرفه فاستضافه فأضافه وبعث إليه ولد عزيرة وولد ولده وقد شاخوا وعزير شاب في سن خمس وعشرين سنة، فلم يزل يذكر أخاه وولده وقد شاخوا وهم يذكرون ما يذكرهم ويقولون: ما أعلمك بأمر قد مضت عيه السنون والشهور، ويقول له عزيرة وهو شيخ كبير ابن مائة وخمسة وعشرين سنة: ما رأيت شاباً في سن خمسة وعشرين سنة أعلم بما كان بيني وبين أخي عزير أيام شبابي منك! فمن أهل السماء أنت؟ أم من أهل الأرض؟ فقال: يا عزيرة أنا عزير سخط الله عليّ بقول قلته بعد أن اصطفاني وهداني فأماتني مائة سنة ثم بعثني لتزداد بذلك يقيناً، إن الله علي كل شيء قدير، وها هو هذا حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت به من عندكم أعاده الله تعالي كما كان، فعندها أيقنوا فأعاشه الله بينهم خمسة وعشرين سنة، ثم قبضه

الله وأخاه في يوم واحد. فنهض عالم النصاري عند ذلك قائماً وقاموا - النصاري - علي أرجلهم فقال لهم عالمهم: جئتموني بأعلم مني واقعدتموه معكم حتي هتكني وفضحني وأعلم المسلمين بأن لهم من أحاط بعلومنا وعنده ما ليس عندنا، لا والله لا كلمتكم من رأسي كلمة واحدة، ولا قعدت لكم إن عشت سنة. فتفرقوا وأبي قاعد مكانه وأنا معه، ورفع ذلك الخبر إلي هشام. فلما تفرق الناس نهض أبي وانصرف إلي المنزل الذي كنا فيه، فوافانا رسول هشام بالجائزة وأمرنا أن ننصرف إلي المدينة من ساعتنا ولا نجلس، لأن الناس ماجوا وخاضوا فيما دار بين أبي وبين عالم النصاري، فركبنا دوابنا منصرفين وقد سبقنا بريد من عند هشام إلي عامل مدين علي طريقنا إلي المدينة أن ابنَي أبي تراب الساحرين: محمد بن علي وجعفر بن محمد الكذابين - بل هو الكذاب لعنه الله - فيما يظهران من الإسلام وردّا عليَّ، ولما صرفتهما إلي المدينة مالا إلي القسيسين والرهبان من كفار النصاري وأظهرا لهما دينهما ومرقا من الإسلام إلي الكفر دين النصاري وتقربا إليهم بالنصرانية، فكرهت أن أنكل بهما لقرابتهما، فإذا قرأت كتابي هذا فناد في الناس: برئت الذمة ممن يشاريهما أو يبايعهما أو يصافحهما أو يسلم عليهما فإنهما قد ارتدا عن الإسلام، ورأي أمير المؤمنين أن يقتلهما ودوابهما وغلمانهما ومن معهما شر قتلة، قال: فورد البريد إلي مدينة مدين. فلما شارفنا مدينة مدين قدم أبي غلمانه ليرتادوا لنا منزلاً، ويشروا لدوابنا علفاً، ولنا طعاماً، فلما قرب غلماننا من باب المدينة أغلقوا الباب في وجوهنا وشتمونا وذكروا علي بن أبي طالب صلوات الله عليه فقالوا: لا نزول لكم عندنا ولا شراء ولا بيع يا كفار يا

مشركين يا مرتدين يا كذابين يا شر الخلائق أجمعين، فوقف غلماننا علي الباب حتي انتهينا إليهم فكلمهم أبي وليَّن لهم القول وقال لهم: اتقوا الله ولا تغلظوا فلسنا كما بلغكم ولا نحن كما تقولون فاسمعونا، فقال لهم: فهبنا كما تقولون افتحوا لنا الباب وشارونا كما تشارون وتبايعون اليهود والنصاري والمجوس، فقالوا: أنتم شر من اليهود والنصاري والمجوس لأن هؤلاء يؤدون الجزية وأنتم ما تؤدون، فقال لهم أبي: فافتحوا لنا الباب وأنزلونا وخذوا منا الجزية كما تأخذون منهم، فقالوا: لا نفتح ولا كرامة لكم حتي تموتوا علي ظهور دوابكم جياعاً نياعاً او تموت دوابكم تحتكم، فوعظهم أبي فازدادوا عتواً ونشوزاً، قال: فثني أبي رجله عن سرجه ثم قال لي: مكانك يا جعفر لا تبرح، ثم صعد الجبل المطل علي مدينة مدين وأهل مدين ينظرون إليه ما يصنع، فلما صار في أعلاه استقبل بوجهه المدينة وجسده، ثم وضع إصبعيه في أذنيه ثم نادي بأعلي صوته «وإِلَي مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» (هود/84-86) نحن والله بقية الله في أرضه، فأمر الله ريحاً سوداء مظلمة فهبت واحتملت صوت أبي فطرحته في أسماع الرجال والصبيان والنساء، فما بقي أحد من الرجال والنساء والصبيان إلاّ صعد السطوح، وأبي مشرف عليهم، وصعد فيمن صعد شيخ من أهل مدين كبير السن، فنظر إلي أبي علي الجبل، فنادي باعلي صوته: اتقوا الله يا أهل مدين فإنه قد

وقف الذي وقف فيه شعيب (ع) حين دعا علي قومه، فإن أنتم لم تفتحوا له الباب ولم تنزلوه جاءكم من الله العذاب. فإني أخاف عليكم وقد أعذر من أنذر، ففزعوا وفتحوا الباب وأنزلونا، وكُتب بجميع ذلك إلي هشام فارتحلنا في اليوم الثاني، فكتب هشام إلي عامل مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيقتله رحمة الله عليه وصلواته، وكتب إلي عامل مدينة الرسول أن يحتال في سم أبي في طعام أو شراب، فمضي هشام ولم يتهيأ له في أبي من ذلك شيء [50] .

وفاته

بعد ثمانية عشر عاماً تصدي خلالها للإمامة الإسلامية، استجاب لنداء ربه الحق، فلبَّاه راضياً مرضياً، وقد قضي من عمره المبارك سبعاً وخمسين ربيعاً. في غرة رجب من عام 114 للهجرة كان أهل بيته يحفّون به وكان السم الذي دس غليه من خلال سرج امتطاه قد انتشر في جسده فالتفت إلي نجله ووصيه الإمام الصادق (ع) وقال: سمعت علي بن الحسين ناداني من وراء الجدران يا محمد تعال عجل، وقال: يا بني هذا الليلة التي وعدتها وقد كان وضوءه قريباً، قال: أريقوه أريقوه فظن بعضهم أنه يقول: من الخمس فقال يا بني أرقه فأرقناه فإذا فيه فأرة. وأوصي ابنه الإمام جعفر بن محمد بأن يكفّنه في ثلاثة أثواب، أحدها رداء له جدة كان يصلي فيه يوم الجمعة، وثوب آخر وقميص، وأوصي أن يشق له القبر شقاً، واضاف فإن قيل لكم أن رسول الله لحد له فقد صدقوا. وأوصي أن يرفع أربع أصابع، وأن يرش بالماء، وأن يوقف من أمواله قدراً لكي تندبه النوادب بمني عشر سنين أيام المني. ولما توفي ضجت المدينة المنورة. ويروي عن الإمام الصادق (ع): أن رجلاً كان علي بعد

أميال من المدينة فرأي في منامه أنه قيل له: انطلق فصل علي أبي جعفر: فإن الملائكة تغسله، فجاء الرجل فوجد أبا جعفر قد توفي. وبعد تجهيزه دفن في البقيع عند قبر والده الإمام زين العابدين وعم أبيه الإمام الحسن المجتبي [51] . فسلام الله عليه يوم ولد ويوم مات مسموماً ويوم يبعث حيّاً. كلماته المضيئة: لقد فاضت بكلماته المضيئة كتب المعارف، أولم يكن باقر العلم في أهل بيت الرسالة؟ ولكننا نقتبس منها قبسات لعل الله ينور بها قلوبنا ويبصرنا حقائق أنفسنا ويهدينا إلي الصراط القويم. تعال نستمع معاً إلي وصيته الرشيدة التي ألقاها إلي جابر بن يزيد الجعفي: “ أوصيك بخمس: إن ظُلمت فلا تظلم، وإن خانوك فلا تخن، وإن كذبت فلا تغضب، وإن مدحت فلا تفرح، وإن ذممت فلا تجزع، وفكر فيما قيل فيك فإن عرفت من نفسك ما قيل فيك فسقوطك من عين الله جل وعز عند غضبك من الحق أعظم عليك مصيبة مما خفت من سقوطك من أعين الناس، وإن كنت علي خلاف ما قيل فيك فثواب اكتسبته من غير أن تتعب بدنك، واعلم أنك لا تكون لنا ولياً حتي لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا أنك رجل سوء لم يحزنك ذلك، ولو قالوا أنك رجل صالح لم يسرك ذلك، ولكن أعرض نفسك علي كتاب الله فإن كنت سالكاً سبيله زاهداً في تزهيده، راغباً في ترغيبه، خائفاً من تخويفه، فاثبت وأبشر فإنه لايضرك ما قيل فيك، وإن كنت مبايناً للقرآن فما الذي يغرك من نفسك، إن المؤمن معني بمجاهدة نفسه ليغلبها علي هواها، فمرة يقيم أودها ويخالف هواها في محبة الله، ومرة تصرعه نفسه فيتبع هواها، فينعشه الله فينتعش ويقيل الله عثرته

فيتذكر، ويفزع إلي التوبة والمخافة فيزداد بصيرة ومعرفة لما زيد فيه من الخوف وذلك بأن الله يقول: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَآئِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فإِذَا هُم مُبْصِرُونَ» (الاعراف/201)، يا جابر استكثر لنفسك من الله قليل الرزق تخلّصاً إلي الشكر واستقلل من نفسك كثير الطاعة لله ازراء علي النفس وتعرّضاً للعفو، وادفع عن نفسك حاضر الشر بحاضر العلم، واستعمل حاضر العلم بخالص العمل، وتحرز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدة التيقظ، واستجلب شدة التيقظ بصدق الخوف وتَوقّ مجازفة الهوي بدلالة العقل، وقف عند غلبة الهوي باسترشاد العلم، واستبق خالص الأعمال ليوم الجزاء، وادفع عظيم الحرص بإيثار القناعة، واستجلب حلاوة الزهادة بقصر الأمل، واقطع أسباب الطمع ببرد اليأس، وسد سبيل العجب بمعرفة النفس، وتخلص إلي راحة النفس بصحة التفويض، وتعرض لرقة القب بكثرة الذكر في الخلوات، واستجلب نور القلب بدوام الحزن، وتحرز من إبليس بالخوف الصادق، وإياك والرجاء الكاذب فإنه يوقعك في الخوف الصادق، وإياك والتسويف فإنه بحر يغرق فيه الهلكي، وإياك والغفلة ففيها تكون قساوة القلب، وإياك والتواني فيما لا عذر لك فيه فإليه يلجأ النادمون، واسترجع سالف الذنوب بشدة الندم وكثرة الاستغفار، وتعرض للرحمة وعفو الله بخالص الدعاء والمناجاة في الظلم، واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر واطلب بقاء العز بإماتة الطمع، وارفع ذلك الطمع بعز اليأس، واستجلب عز اليأس ببعد الهمة، وتزود من الدنيا بقصر الأمل وبادر بانتهاز البغية عند إمكان الفرصة، وإياك والثقة بغير المأمون، واعلم أنه لا علم كطلب السلامة، ولا عقل كمخالفة الهوي، ولا فقر كفقر القلب، ولا غني كغني النفس، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك، ولا نعمة كالعافية ولا عافية كمساعدة التوفيق، ولا شرف كبعد الهمة، ولا زهد كقصر

الأمل، ولا عدل كالإنصاف، ولا جور كموافقة الهوي، ولا طاعة كأداء الفرائض، ولا مصيبة كعدم العقل، ولا معصية كاستهانتك بالذنب، ورضاك بالحالة التي أنت عليها، ولا فضيلة كالجهاد، ولا جهاد كمجاهدة الهوي، ولا قوة كرد الغضب، ولا ذل كذل الطمع، وإياك والتفريط عند إمكان الفرصة، فإنه ميدان يجري لأهله بالخسران. وقال (ع): خذوا الكلمة الطيبة ممن قالها وإن لم يعمل بها، فإن الله يقول: «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله» (الزمر/18)، ويحك يا مغرور ألا تحمد من تعطيه فانياً ويعطيك باقياً، درهم يفني بعشرة تبقي إلي سبعمائة ضعف مضاعفة، إنما أنت لص من لصوص الذنوب كلما عرضت لك شهوة أو ارتكاب ذنب سارعت إليه وأقدمت بجهلك عليه فارتكبته كأنّك لست بعين الله أو كأن الله ليس لك بالمرصاد، يا طالب الجنة ما أطول نومك وأكل مطيتك وأوهي همتك فللّه أنت من طالب ومطلوب، ويا هارباً من النار ما أحث مطيتك إليها، وما أكسبك لما يوقعك فيها [52] .

پاورقي

[1] المصدر: (ص 332).

[2] بحار الأنوار: (ج 46، ص 215).

[3] المصدر: (ص 217).

[4] المصدر: (ص 227).

[5] بحار الأنوار: (ج 46، ص 332).

[6] بحار الأنوار: (ج 26، ص 28).

[7] المصدر: (ص 28).

[8] المصدر: (ص 37).

[9] المصدر: (ص 37). [

[10] المصدر: (ص 18).

[11] بحار الأنوار: (ج 46، ص 229).

[12] بحار الأنوار: (ج 26، ص 29).

[13] المصدر: (ص 31) والأواخي جمع أوخية وهي ما يشد به الدابة أي ما يحفظ به العلم.

[14] المصدر: (ص 60).

[15] في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر: (ص 7).

[16] المصدر: (ص 6).

[17] المصدر.

[18] المصدر.

[19] المصدر.

[20] المصدر: (ص 9).

[21] المصدر: (ص 10 / 11).

[22] المصدر: (ص 40).

[23] المصدر.

[24] المصدر: (ص 17).

[25]

المصدر: (13 - 16).

[26] بحار الأنوار: (ج 46، ص 244).

[27] المصدر: (ص 246).

[28] المصدر: (ص 247).

[29] المصدر: (ص 249).

[30] في رحاب أئمة أهل البيت سيرة الباقر: (ص 6).

[31] بحار الأنوار: (ج 46، ص 289) نقلاً عن حلية الأولياء: (ج 3 ص 180).

[32] الظاهر خفضت والله العالم.

[33] المصدر: (ص 290).

[34] المصدر: (ص 297).

[35] المصدر: (ص 301).

[36] المصدر: (ص 303).

[37] المصدر: (ص 303).

[38] المصدر: (ص 304).

[39] المصدر: (ص 301).

[40] المصدر: (ص 301).

[41] المصدر: (ص 302).

[42] المصدر: (ص 289).

[43] المصدر: (ص 303).

[44] المصدر: (ص 287).

[45] المصدر: (ص 300).

[46] المصدر: (ص 251).

[47] المصدر باختصار: (ص 329 - 331).

[48] المصدر: (ص 335).

[49] المصدر: (ص 337).

[50] موسوعة بحار الأنوار: (ص 306 - 313) نقلاً عن دلائل الإمامة تصنيف محمد بن جرير الطبري الإمامي.

[51] هناك بعض الإختلافات في تفاصيل وفاته وسني عمره وما نقلناه استعرناه من جملة روايات تجدها في بحار الأنوار: (ج 46، ص 112 - 220).

[52] في رحاب أهل البيت سيرة الامام الباقر (ع): (ص 21 - 22).

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.