اعلام الهداية الامام محمد بن علي الباقر علیهما السلام

اشارة

المؤلف: لجنة التأليف
الكمية: 5000 نسخة
الطبعة: الاولي\par طبع في سنة: 1422\par المطبعة: ليلي

مقدمة التأليف

بسم الله الرحمن الرحيم أهل البيت في القرآن الكريم (إنّمـا يـريـد الله ليذهـب عـنكـم الرّجس أهـل البيت ويطهّـركـم تطهيـراً). الأحزاب: 33 / 33 أهل البيت في الُسنّة النبويّة (إنّـي تـارك فيكـم الثقليـن كتاب الله وعترتي أهـل بيتـي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا) «الصحاح والمسانيد»

المقدمة

الحمد لله الذي أعطي كلّ شيء خلقه ثم هدي، ثم الصلاة والسلام علي من اختارهم هداةً لعباده، لا سيما خاتم الأنبياء وسيّد الرسل والأصفياء أبو القاسم المصطفي محمد (صلي الله عليه وآله) وعلي آله الميامين النجباء. لقد خلق الله الإنسان وزوّده بعنصري العقل والإرادة، فبالعقل يبصر ويكتشف الحقّ ويميّزه عن الباطل، وبالإرادة يختار ما يراه صالحاً له ومحقّقاً لأغراضه وأهدافه. وقد جعل الله العقل المميِّز حجةً له علي خلقه، وأعانه بما أفاض علي العقول من معين هدايته ; فإنّه هو الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، وأرشده إلي طريق كماله اللائق به، وعرّفه الغاية التي خلقه من أجلها، وجاء به إلي هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها. وأوضح القرآن الحكيم بنصوصه الصريحة معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها، كما بيّن لنا عللها وأسبابها من جهة، وأسفر عن ثمارها ونتائجها من جهة اُخري. قال تعالي: [ صفحه 8] (قُلْ إنّ هُدي الله هو الهُدي) [الانعام (6): 71]. (والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم) [البقرة (2): 213]. (والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل) [الاحزاب (33): 4]. (ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلي صراط مستقيم) [آل عمران (3): 101]. (قل الله يهدي للحقّ أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتَّبع أ مّن لا يهدّي إلاّ أن يُهدي فمالكم كيف تحكمون)[يونس (10): 35]. (ويري الذين اُوتوا العلم الذي اُنزل إليك من ربّك هو الحقّ ويهدي إلي صراط العزيز الحميد) [سبأ (34): 6]. (ومن أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هديً من الله) [القصص (28): 50]. فالله تعالي هو مصدر الهداية. وهدايته هي الهداية الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الإنسان إلي الصراط المستقيم وإلي الحقّ القويم. وهذه الحقائق يؤيدها العلم ويدركها العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم. ولقد أودع الله في فطرة الإنسان النزوع إلي الكمال والجمال ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلي الكمال اللائق به، وأسبغ عليه نعمة التعرّف علي طريق الكمال، ومن هنا قال تعالي: (وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ)[الذاريات (51): 56]. وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون المعرفة، كانت المعرفة والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلي قمّة الكمال. وبعد أن زوّد الله الانسان بطاقتي الغضب والشهوة ليحقّق له وقود الحركة نحو الكمال; لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة; والهوي الناشئ منهما، والملازم لهما فمن هنا احتاج الانسان ـ بالإضافة إلي عقله [ صفحه 9] وسائر أدوات المعرفة ـ الي ما يضمن له سلامة البصيرة والرؤية; كي تتمّ عليه الحجّة، وتكمل نعمة الهداية، وتتوفّر لديه كلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير والسعادة، أو طريق الشرّ والشقاء بملء إرادته. ومن هنا اقتضت سُنّة الهداية الربّانية أن يُسند عقل الانسان عن طريق الوحي الإلهي، ومن خلال الهداة الذين اختارهم الله لتولِّي مسؤولية هداية العباد وذلك عن طريق توفير تفاصيل المعرفة وإعطاء الارشادات اللازمة لكلّ مرافق الحياة. وقد حمل الأنبياء وأوصياؤهم مشعل الهداية الربّانية منذ فجر التاريخ وعلي مدي العصور والقرون، ولم يترك الله عباده مهملين دون حجة هادية وعلم مرشد ونور مُضيء، كما أفصحت نصوص الوحي ـ مؤيّدةً لدلائل العقل ـ بأنّ الأرض لا تخلو من حجة لله علي خلقه، لئلاّ يكون للناس علي الله حجّة، فالحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق، ولو لم يبق في الأرض إلاّ اثنان لكان أحدهما الحجّة، وصرّح القرآن ـ بشكل لا يقبل الريب ـ قائلاً: (إنّما أنت منذر ولكلّ قوم هاد)[الرعد (13): 7]. ويتولّي أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها، والتي تتلخّص في: 1 ـ تلقِّي الوحي بشكل كامل واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة. وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد التام لتلقّي الرسالة، ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه، كما أفصح بذلك الذكر الحكيم قائلاً: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) [الانعام(6): 124] و(الله يجتبي من رسله من يشاء) [آل عمران(3): 179]. 2 ـ إبلاغ الرسالة الإلهية الي البشرية ولمن اُرسلوا إليه، ويتوقّف الإبلاغ [ صفحه 10] علي الكفاءة التامّة التي تتمثّل في «الاستيعاب والإحاطة اللازمة» بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلّباتها، و «العصمة» عن الخطأ والانحراف معاً، قال تعالي: (كان الناسُ اُمّةً واحدةً فبعث الله النبيِّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتابَ بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)[البقرة (2): 213]. 3 ـ تكوين اُمة مؤمنة بالرسالة الإلهية، وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة، وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمّة مستخدمةً عنواني التزكية والتعليم، قال تعالي: (يزكّيهم ويعلّمهم الكتابَ والحكمة) [الجمعة (62): 2] والتزكية هي التربية باتجاه الكمال اللائق بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة الصالحة التي تتمتّع بكلّ عناصر الكمال، كما قال تعالي: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة)[الاحزاب (33): 21]. 4 ـ صيانة الرسالة من الزيغ والتحريف والضياع في الفترة المقرّرة لها، وهذه المهمة أيضاً تتطلّب الكفاءة العلمية والنفسية، والتي تسمّي بالعصمة. 5 ـ العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية وتثبيت القيم الأخلاقية في نفوس الأفراد وأركان المجتمعات البشرية وذلك بتنفيذ الاُطروحة الربّانية، وتطبيق قوانين الدين الحنيف علي المجتمع البشري من خلال تأسيس كيان سياسيٍّ يتولّي إدارة شؤون الاُمة علي أساس الرسالة الربّانية للبشرية، ويتطلّب التنفيذ قيادةً حكيمةً، وشجاعةً فائقةً، وصموداً كبيراً، ومعرفةً تامةً بالنفوس وبطبقات المجتمع والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية وقوانين الإدارة والتربية وسنن الحياة، ونلخّصها في الكفاءة العلمية لإدارة دولة عالمية دينية، هذا فضلاً عن العصمة التي تعبّر عن الكفاءة النفسية التي تصون القيادة الدينية من كلّ سلوك منحرف أو عمل خاطئ بإمكانه أن يؤثّر تأثيراً سلبيّاً [ صفحه 11] علي مسيرة القيادة وانقياد الاُمة لها بحيث يتنافي مع أهداف الرسالة وأغراضها. وقد سلك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم المصطفون طريق الهداية الدامي، واقتحموا سبيل التربية الشاقّ، وتحمّلوا في سبيل أداء المهامّ الرسالية كلّ صعب، وقدّموا في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية كلّ ما يمكن أن يقدّمه الإنسان المتفاني في مبدئه وعقيدته، ولم يتراجعوا لحظة، ولم يتلكّأوا طرفة عين. وقد توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ علي مدي العصور برسالة خاتم الأنبياء محمد بن عبدالله(صلي الله عليه وآله) وحمّله الأمانة الكبري ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها، طالباً منه تحقيق أهدافها. وقد خطا الرسول الأعظم(صلي الله عليه وآله) في هذا الطريق الوعر خطوات مدهشة، وحقّق في أقصر فترة زمنية أكبر نتاج ممكن في حساب الدعوات التغييرية والرسالات الثورية، وكانت حصيلة جهاده وكدحه ليل نهار خلال عقدين من الزمن ما يلي: 1 ـ تقديم رسالة كاملة للبشرية تحتوي علي عناصر الديمومة والبقاء. 2 ـ تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ والانحراف. 3 ـ تكوين اُمة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً، وبالرسول قائداً، وبالشريعة قانوناً للحياة. 4 ـ تأسيس دولة إسلامية وكيان سياسيٍّ يحمل لواء الإسلام ويطبّق شريعة السماء. 5 ـ تقديم الوجه المشرق للقيادة الربّانية الحكيمة المتمثّلة في قيادته (صلي الله عليه وآله). [ صفحه 12] ولتحقيق أهداف الرسالة بشكل كامل كان من الضروري: أ ـ أن تستمرّ القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين يتربّصون بها الدوائر. ب ـ أن تستمرّ عملية التربية الصحيحة باستمرار الأجيال; علي يد مربٍّ كفوء علمياً ونفسياً حيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسلوك كالرسول(صلي الله عليه وآله)، يستوعب الرسالة ويجسّدها في كل حركاته وسكناته. ومن هنا كان التخطيط الإلهيّ يحتّم علي الرسول (صلي الله عليه وآله) إعداد الصفوة من أهل بيته، والتصريح بأسمائهم وأدوارهم; لتسلّم مقاليد الحركة النبويّة العظيمة والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه وصيانة للرسالة الإلهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجاهلين وكيد الخائنين، وتربية للأجيال علي قيم ومفاهيم الشريعة المباركة التي تولّوا تبيين معالمها وكشف أسرارها وذخائرها علي مرّ العصور، وحتي يرث الله الأرض ومن عليها. وتجلّي هذا التخطيط الربّاني في ما نصّ عليه الرسول(صلي الله عليه وآله) بقوله: «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، كتاب الله وعترتي، وإنّهما لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض». وكان أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم خير من عرّفهم النبي الأكرم(صلي الله عليه وآله) بأمر من الله تعالي لقيادة الاُ مّة من بعده. إنّ سيرة الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) تمثّل المسيرة الواقعية للاسلام بعد عصر الرسول (صلي الله عليه وآله)، ودراسة حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الإسلام الأصيل الذي أخذ يشقّ طريقه إلي أعماق الاُمة بعد أن أخذت طاقتها الحرارية تتضاءل بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله)، [ صفحه 13] فأخذ الأئمة المعصومون (عليهم السلام) يعملون علي توعية الاُمة وتحريك طاقتها باتجاه إيجاد وتصعيد الوعي الرساليِّ للشريعة ولحركة الرسول(صلي الله عليه وآله) وثورته المباركة، غير خارجين عن مسار السنن الكونية التي تتحكّم في سلوك القيادة والاُمة جمعاء. وتبلورت حياة الأئمّة الراشدين في استمرارهم علي نهج الرسول العظيم وانفتاح الاُمة عليهم والتفاعل معهم كأعلام للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم، فكانوا هم الأدلاّء علي الله وعلي مرضاته، والمستقرّين في أمر الله، والتامّين في محبّته، والذائبين في الشوق اليه، والسابقين إلي تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ المنشود. وقد حفلت حياتهم بأنواع الجهاد والصبر علي طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء حتّي ضربوا أعلي أمثلة الصمود لتنفيذ أحكام الله تعالي، ثم اختاروا الشهادة مع العزّ علي الحياة مع الذلّ، حتي فازوا بلقاء الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير. ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن يلمّوا بجميع زوايا حياتهم العطرة ويدّعوا دراستها بشكل كامل، ومن هنا فإنّ محاولتنا هذه إنّما هي إعطاء قبسات من حياتهم، ولقطات من سيرتهم وسلوكهم ومواقفهم التي دوّنها المؤرّخون واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة والتحقيق، عسي الله أن ينفع بها إنّه وليّ التوفيق. إنّ دراستنا لحركة أهل البيت (عليهم السلام) الرسالية تبدء برسول الإسلام وخاتم الأنبياء محمد بن عبدالله (صلي الله عليه وآله) وتنتهي بخاتم الأوصياء، محمد بن الحسن العسكري المهدي المنتظر عجّل الله تعالي فرجه وأنار الأرض بعدله. [ صفحه 14] ويختصّ هذا الكتاب بدراسة حياة الإمام محمد بن علي الباقر(عليه السلام)، خامس أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وهو المعصوم السابع من أعلام الهداية الذي جسّد الكمالات النبوية في العلم والهداية والعمل والتربية وتوسّعت بجهوده العلمية الجبارة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) واتّضحت معالمها وأينعت ثمارها ولا زلنا نتفيّأ ظلالها حتي عصرنا هذا. ولا بدَّ لنا من تقديم الشكر الي كلّ الاخوة الأعزّاء الذين بذلوا جهداً وافراً وشاركوا في إنجاز هذا المشروع المبارك وإخراجه إلي عالم النور، لا سيما أعضاء لجنة التأليف بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم حفظه الله تعالي. ولا يسعنا إلاّ أن نبتهل الي الله تعالي بالدعاء والشكر لتوفيقه علي إنجاز هذه الموسوعة المباركة فإنه حسبنا ونعم النصير. للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) [ صفحه 17]

الإمام محمد الباقر في سطور

الإمام محمد الباقر (عليه السلام) هو خامس الأئمة الاطهار الذين نصّ عليهم رسول الله(صلي الله عليه وآله) ليخلفوه في قيادة الأمة الاسلامية ويسيروا بها الي شاطئ الأمن والسلام الذي قدّر الله لها في ظلال قيادة المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. ولقد انحدر الإمام الباقر (عليه السلام) من سلالة طاهرة مطهّرة ارتقت سلّم المجد والكمال وكان أفرادها قمماً شامخة في دنيا الفضائل بعد أن حازت علي جميع مقومات الشخصية الانسانية المتكاملة في مجال الفكر والعقيدة والعقل والعاطفة والارادة والسلوك، حيث أخلصوا لله تعالي وذابوا في محبته وانصهروا في قيم الرسالة الاسلامية وكانوا ربانيين بحق، وبذلك أصبحوا عِدلاً للقرآن الكريم بنصّ الرسول الأمين، والقدوة الشامخة بعد الرسول(صلي الله عليه وآله) والاُمناء علي تطبيق الرسالة الاسلامية والقادة المعصومون المؤهَّلون لتوجيه الاُمة وتربيتها وإدارة شؤونها وتلبية متطلّبات تكاملها وتحقيق سعادتها دنياً وآخرةً. ولد الإمام الباقر (عليه السلام) من أبوين علويين طاهرين زكيين فاجتمعت فيه خصال جدّيه السبطين الحسن والحسين (عليهما السلام)، وعاش في ظلّ جدّه [ صفحه 18] الحسين (عليه السلام) بضع سنوات وترعرع في ظلّ أبيه علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) حتي شبّ ونما وبلغ ذروة الكمال وهو ملازم له حتي استشهاده في النصف الأول من العقد العاشر بعد الهجرة النبوية المباركة. لقد كان أبوه علي بن الحسين(عليه السلام) القدوة الشامخة للباقر بعد جدّه الحسين (عليه السلام) وقد عرف بـ «زين العابدين» و«سيد الساجدين» و«قدوة الزاهدين» و«سراج الدنيا» و«جمال الدين»، فكان أهلاً للامامة العظمي لشرفه وسؤدده وعلمه وتألقه وكمال عقله، كما شهد له بذلك كل من عاصره. ولقد نهل الإمام محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) العلوم والمعارف من هذا الوالد العظيم حتي فاق وأبدع في كل العلوم فكان كما شهد له بذلك جدّه رسول الله(صلي الله عليه وآله) حيث لقّبه بالباقر قائلاً: إنّه يبقر العلم بقراً، عندما بشّر المسلمين بولادته وبدوره الفاعل في إحياء علوم الشريعة وفي عصر كانت قد عصفت العواصف بالاُمة الاسلامية إثر الفتوح المتتالية والتمازج الحضاري والتبادل الثقافي الذي طال الاُمة الاسلامية وهي في عنفوان حركتها الثقافية والعلمية التي فجّرها الإسلام في وجودها، وكانت قد حُرمت من الارتواء من معين الرسالة الفيّاض الذي تجسّد في أهل البيت(عليهم السلام). لقد عاش الإمام محمّد الباقر(عليه السلام) طيلة حياته في المدينة يفيض من علمه علي الأمة المسلمة، ويرعي شؤون الجماعة الصالحة التي بذر بذرتها رسول الله (صلي الله عليه وآله)، وربّاها الإمام علي ثمّ الإمامان الحسن والحسين(عليهم السلام) كما غذّاها من بعدهم أبوه علي بن الحسين (عليهما السلام) مقدّماً لها كل مقوّمات تكاملها وأسباب رشدها وسموّها. لقد عاني الإمام الباقر من ظلم الاُمويين منذ أن ولد وحتي استشهد، ما عدا فترة قصيرة جدّاً هي مدّة خلافة عمر بن عبد العزيز التي [ صفحه 19] ناهزت السنتين والنصف. فعاصر أشدّ أدوار الظلم الأموي، كما أشرف علي اُفول هذا التيار الجاهلي وتجرّع من غصص الآلام ما ينفرد به مثله وعياً وعظمة وكمالاً. ولكنه استطاع أن يربّي أعداداً كثيرة من الفقهاء والعلماء والمفسّرين حيث كان المسلمون يقصدونه من شتّي بقاع العالم الاسلامي وقد دانوا له بالفضل بشكل لا نظير له، ولم يعش منعزلاً عن أحداث الساحة الإسلامية وإنّما ساهم بشكل ايجابي في توعية الجماهير وتحريك ضمائرها وسعي لرفع شأنها وإحياء كرامتها بالبذل المادي والعطاء المعنوي كآبائه الكرام وأجداده العظام ولم يقصر عنهم عبادة وتقوي وصبراً وإخلاصاً فكان قدوة شامخة للجيل الذي عاصره ولكل الأجيال التي تلته. فسلام عليه يوم ولد ويوم جاهد بالعلم والعمل ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً. [ صفحه 21]

انطباعات عن شخصية الإمام محمد الباقر

1 ـ قال له الأبرش الكلبي: أنت ابن رسول الله حقاً. ثم صار الي هشام فقال: دَعُونا منكم يا بني أمية; إن هذا أعلم أهل الأرض بما في السماء والأرض، فهذا ولد رسول الله [1] . 2 ـ قال أبو اسحاق: لم أر مثله قط [2] . 3 ـ قال عبد الله بن عطاء المكي: ما رأيت العلماء عند أحد قطّ أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة ـ مع جلالته في القوم ـ بين يديه كأنه صبي بين يدي معلّمه [3] . 4 ـ قال الحكم بن عتيبة في قوله تعالي: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين): كان والله محمد بن علي منهم [4] . 5 ـ كتب عبد الملك بن مروان الي عامل المدينة: ابعث إليّ محمد بن علي مقيّداً. فكتب إليه العامل: ليس كتابي هذا خلافاً عليك يا أمير المؤمنين، ولا ردّاً لأمرك، ولكن رأيت أن اُراجعك في الكتاب نصيحة لك، وشفقة عليك. إنّ [ صفحه 22] الرجل الذي أردته ليس اليوم علي وجه الأرض أعفّ منه ولا أزهد ولا أورع منه، وإنّه من أعلم الناس، وأرقّ الناس، وأشدّ الناس اجتهاداً وعبادة،وكرهت لأمير المؤمنين التعرض له فـ (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتي يغيّروا ما بأنفسهم). فَسُرّ عبد الملك بما أنهي إليه الوالي وعلم أنّه قد نصحه [5] . 6 ـ وقال له هشام بن عبد الملك: والله ما جرّبت عليك كذبا [6] وقال له أيضاً: لا تزال العرب والعجم يسودها قريش ما دام فيهم مثلك [7] . 7 ـ قال له قتادة بن دعامة البصري: لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدّام أحد منهم ما اضطرب قدّامك [8] . 8 ـ قال له عبد الله بن معمر الليثي: ما أحسب صدوركم إلاّ منابت أشجار العلم، فصار لكم ثمره وللناس ورقه [9] . 9 ـ قال شمس الدين محمد بن طولون: أبو جعفر محمد بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، الملقّب بالباقر، وهو والد جعفر الصادق رضي الله عنهما، كان الباقر عالماً، سيداً كبيراً، وإنما قيل له الباقر لأنه تبقّر في العلم، أي توسّع، والتبقير التوسيع، وفيه يقول الشاعر: يا باقر العلم لأهل التقي وخير من لبّي علي الأجبُل [10] . 10 ـ قال محمد بن طلحة الشافعي: هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه، ومنمّق درّه وواضعه. صفا قلبه، وزكا علمه، وطهرت نفسه، وشرفت أخلاقه، وعمرت بطاعة الله أوقاته، ورسخت في مقام التقوي قدمه، وظهرت [ صفحه 23] عليه سمات الازدلاف، وطهارة الاجتباء [11] . 11 ـ قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: كان محمد بن علي بن الحسين سيد فقهاء الحجاز، ومنه ومن ابنه جعفر تعلّم الناس الفقه [12] . 12 ـ قال أبو نعيم الإصبهاني: الحاضر الذاكر، الخاشع الصابر، أبو جعفر، محمد بن علي الباقر، كان من سلالة النبوة، ومن جمع حسب الدين والابوة، تكلم في العوارض والخطرات، وسفح الدموع والعبرات، ونهي عن المراء والخصومات [13] . 13 ـ قال أحمد بن يوسف الدمشقي القرماني: منبع الفضائل والمفاخر، الإمام محمد بن علي الباقر (رضي الله عنه)، وإنما سمي بالباقر لانه بقر العلم، وقد قيل: لقب بالباقر لما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه قال: قال رسول الله(صلي الله عليه وآله): يا جابر يوشك أن تلحق بولد من ولد الحسين، اسمه كاسمي يبقر العلم بقراً، أي يفجره تفجيراً، فإذا رأيته فاقرأه مني السلام. وكان خليفة أبيه من بين إخوته، ووصيه والقائم بالإمامة من بعده [14] . 14 ـ قال علي بن محمد بن أحمد المالكي ـ المعروف بابن الصباغ ـ: وكان محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) مع ما هو عليه من العلم والفضل والسؤدد والرياسة والامامة، ظاهر الجود في الخاصة والعامة، ومشهور الكرم في الكافة، معروفاً بالفضل والاحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله [15] . 15 ـ قال ابن خلّكان: أبو جعفر محمد بن علي زين العابدين بن الحسين ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين الملقب بالباقر، أحد الأئمة [ صفحه 24] الاثني عشر... وكان الباقر عالما سيداً كبيراً [16] . 16 ـ قال أحمد بن حجر: وارثه ـ أي وارث الإمام زين العابدين ـ منهم عبادة وعلماً، وزهادة ابو جعفر محمد الباقر سمي بذلك من بقر الأرض، أي شقها وأثار مخبّآتها ومكامنها، فلذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف، وحقائق الأحكام والحكم واللطائف، ما لا يخفي إلاّ علي منطمس البصيرة، أو فاسد الطينة والسريرة; ومن ثمّ قيل فيه: هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه، صفا قلبه، وزكا علمه وعمله، وطهرت نفسه، وشرف خلقه، وعمرت أوقاته بطاعة الله. وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكلّ عنه ألسنة الواصفين. وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة وكفاه شرفاً أنّ ابن المديني روي عن جابر أنّه قال له ـ وهو صغير ـ: رسول الله (صلي الله عليه وآله) يسلّم عليك، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت عند رسول الله(صلي الله عليه وآله) جالساً، والحسين في حجره وهو يداعبه، فقال: يا جابر يولد له مولود اسمه علي، إذا كان يوم القيامة نادي مناد ليقم سيد العابدين فيقوم ولده، ثم يولد له ولد اسمه محمد، فاذا أدركته يا جابر فاقرأه مني السلام [17] . 17 ـ قال محمد أمين البغدادي السويدي: لم يظهر عن أحد من أولاد الحسين من علم الدين والسنن والسير وفنون الأدب، ما ظهر عن أبي جعفر(رضي الله عنه) [18] . [ صفحه 25]

مظاهر من شخصية الإمام محمد الباقر

اشاره

لقد توفرت في شخصية الإمام أبي جعفر (عليه السلام) جميع الصفات الكريمة التي أهّلته لزعامة هذه الأمة. حيث تميّز هذا الإمام العظيم بمواهبه الروحية والعقلية العظيمة وفضائله النفسية والأخلاقية السامية ممّا جعل صورته صورة متميّزة من بين العظماء والمصلحين، كما تميّز بحسبه الوضّاح، بكل ما يمكن أن يسمو به هذا الانسان. ولقد احتاط النبي (صلي الله عليه وآله) كأشد ما يكون الاحتياط في شأن أمته، ولم يرض أن تكون في ذيل قافلة الأمم والشعوب، فقد أراد لها العزّة والكرامة، وأراد أن تكون خير أمة أخرجت للناس، فأولي مسألة الخلافة والامامة المزيد من اهتمامه، ونادي بها اكثر من أية قضية اُخري من القضايا الدينية لأ نّها القاعدة الصلبة لتطور أية اُمة في مجالاتها الفكرية والاجتماعية والسياسية، وقد خصّ بها الأئمة الطاهرين من أهل بيته الذين لم يخضعوا في أي حال من الأحوال لأية نزعة مادية، وإنما آثروا طاعة الله ومصلحة الاُمة علي كل شيء. وكان الإمام محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) جامعاً للكمالات الانسانية في [ صفحه 26] سيرته وسلوكه، فكان أهلاً للإمامة الكبري بعد أبيه زين العابدين. وما دوّنته كتب التاريخ من فضائله الجمّة هي غيض من فيض، ونشير إلي شيء يسير منها تباعاً:

حلمه

كان الحلم من أبرز صفات الإمام أبي جعفر (عليه السلام) فقد أجمع المؤرخون علي أنه لم يسيء الي من ظلمه واعتدي عليه، وانما كان يقابله بالبر والمعروف، ويعامله بالصفح والاحسان، وقد رووا صوراً كثيرة عن عظيم حلمه، كان منها: 1 ـ إن رجلاً كتابياً هاجم الإمام(عليه السلام) واعتدي عليه، وخاطبه بمرّ القول: «أنت بقر!» فلطف به الإمام، وقابله ببسمات طافحة بالمروءة قائلاً: «لا أنا باقر» وراح الرجل الكتابي يهاجم الإمام قائلاً: «أنت ابن الطبّاخة!» فتبسّم الإمام، ولم يثره هذا الاعتداء بل قال له: «ذاك حرفتها». ولم ينته الكتابي عن غيّه، وإنما راح يهاجم الإمام قائلاً: «أنت ابن السوداء الزنجية البذية!» ولم يغضب الإمام(عليه السلام)، وإنما قابله باللطف قائلاً: «إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك». وبهت الكتابي، وانبهر من أخلاق الإمام(عليه السلام) التي ضارعت أخلاق [ صفحه 27] الأنبياء. فأعلن إسلامه [19] واختار طريق الحق. 2 ـ ومن تلك الصور الرائعة المدهشة من حلمه: أن شامياً كان يختلف إلي مجلسه، ويستمع إلي محاضراته، وقد أعجب بها، فأقبل يشتدّ نحو الإمام وقال له: يا محمّد إنما أغشي مجلسك لا حبّاً مني إليك، ولا أقول: إن أحداً أبغض إليَّ منكم أهل البيت، واعلم أن طاعة الله، وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم، ولكني أراك رجلاً فصيحاً لك أدب وحسن لفظ، فإنّما اختلف إليك لحسن أدبك!!. ونظر إليه الإمام(عليه السلام) بعطف وحنان، وأخذ يغدق عليه ببرّه ومعروفه حتي تنبّه الرجل وتبين له الحق، وانتقل من البغض الي الولاء للإمام(عليه السلام)، وظلّ ملازماً له حتي حضرته الوفاة فأوصي أن يصلي عليه [20] . وحاكي الإمام الباقر(عليه السلام) بهذه الأخلاق الرفيعة جدّه الرسول (صلي الله عليه وآله) الذي استطاع بسموّ أخلاقه أن يؤلّف بين القلوب، ويوحّد بين المشاعر والعواطف ويجمع الناس علي كلمة التوحيد بعد ما كانوا فرقاً وأحزاباً.

صبره

لقد كان الصبر من الصفات الذاتية للأئمة الطاهرين من أهل البيت(عليهم السلام) فقد صبروا علي مكاره الدهر، ونوائب الأيام، وصبروا علي تجرّع الخطوب التي تعجز عن حملها الجبال، فقد استقبل الإمام الحسين (عليه السلام) علي صعيد كربلاء أمواجاً من المحن الشاقة التي تذهل كل كائن حي، مترنّماً [ صفحه 28] بقوله(عليه السلام): «صبراً علي قضائك يا رب، لا معبود سواك». وصبر الإمام الباقر (عليه السلام) كآبائه علي تحمل المحن والخطوب. وإليك بعض تلك المحن: 1 ـ انتقاص السلطة لآبائه الطاهرين، وإعلان سبّهم علي المنابر والمآذن، وهو (عليه السلام) يسمع ذلك، ولا يتمكن أن ينبس ببنت شفة فصبر وكظم غيظه، وأوكل الأمر الي الله الحاكم بين عباده بالحق. 2 ـ ومن بين المحن الشاقة التي صبر عليها التنكيل الهائل بشيعة أهل البيت (عليهم السلام) وملاحقتهم تحت كل حجر ومدر وقتلهم بأيدي الجلادين من عملاء السلطة الاموية، وهو لا يتمكن أن يحرك ساكناً، وقد فرضت عليه السلطة الرقابة الشديدة، ورفضت كل طلب له في شأن شيعته. 3 ـ وروي المؤرخون عن عظيم صبره انه كان جالساً مع أصحابه إذ سمع صيحة عالية في داره، فأسرع اليه بعض مواليه فأسرّ إليه بشيء فقال (عليه السلام): «الحمد لله علي ما أعطي، وله ما أخذ، إنْهَهُم عن البكاء، وخذوا في جهازه، واطلبوا السكينة، وقولوا لها: لا ضير عليك أنت حرة لوجه الله لما تداخلك من الروع...». ورجع إلي حديثه، فتهيّب القوم سؤاله، ثم أقبل غلامه فقال له: قد جهّزناه، فأمر أصحابه بالقيام معه للصلاة علي ولده ودفنه، وأخبر أصحابه بشأنه فقال لهم: إنه قد سقط من جارية كانت تحمله فمات [21] . 4 ـ وروي أيضاً: أنه كان للإمام(عليه السلام) ولد وكان أثيراً عنده فمرض فخشي علي الإمام لشدة حبه له، وتوفي الولد فسكن صبر الإمام، فقيل له: خشينا عليك يا ابن رسول الله (صلي الله عليه وآله)، فأجاب وهو مليُّ بالاطمئنان والرضا بقضاء الله قائلاً: [ صفحه 29] «إنّا ندعو الله فيما يحب فإذا وقع ما نكره لم نخالف الله فيما يحب» [22] . لقد تسلّح الإمام(عليه السلام) بالصبر أمام نوائب الدنيا وقابل كوارث الدهر بإرادة صلبة، وإيمان راسخ، وتحمّل الخطوب في غير ضجر ولا سأم محتسباً في ذلك الأجر عند الله تعالي.

كرمه وسخاؤه

اشاره

الكرم من أوضح الفضائل والمكارم لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) فقد بسطوا أيديهم بسخاء نادر الي الفقراء والسائلين، وفيهم يقول الشاعر: لو كان يوجد عرف مجد قبلهم لوجدته منهم علي أميال إن جئتهم أبصرت بين بيوتهم كرماً يقيك مواقف التسآل نور النبوة والمكارم فيهم متوقد في الشيب والاطفال [23] . لقد فطر الإمام محمّد الباقر(عليه السلام) علي حب الخير وصلة الناس وإدخال السرور عليهم.

اكرامه الفقراء

ومن معالي أخلاقه أنه كان يبجّل الفقراء، ويرفع من شأنهم لئلا يري عليهم ذلّ الحاجة، ويقول المؤرخون: انه عهد لأهله إذا قصدهم سائل أن لا يقولوا له: يا سائل خذ هذا، وإنما يقولون له: يا عبد الله بورك فيك [24] وقال: سمّوهم بأحسن أسمائهم [25] . [ صفحه 30]

عتقه العبيد

وكان الإمام الباقر(عليه السلام) شغوفاً بعتق العبيد، وإنقاذهم من رقّ العبودية، فقد أعتق أهل بيت بلغوا أحد عشر مملوكاً [26] وكان عنده ستون مملوكاً فأعتق ثلثهم عند موته [27] .

صلته لأصحابه

وكان أحب شيء إلي الإمام(عليه السلام) في هذه الدنيا صلته لإخوانه فكان لا يمل من صلتهم وصلة قاصديه وراجيه ومؤمّليه، وقد عهد لابنه الإمام الصادق(عليه السلام) أن ينفق من بعده علي أصحابه وتلاميذه ليتفرّغوا الي نشر العلم وإذاعته بين الناس [28] .

صدقاته علي فقراء المدينة

وكان الإمام (عليه السلام) كثير البر والمعروف علي فقراء يثرب، وقد اُحصيت صدقاته عليهم فبلغت ثمانية الآف دينار [29] وكان يتصدق عليهم في كل يوم جمعة بدينار ويقول: «الصدقة يوم الجمعة تضاعف الفضل علي غيره من الأيام» [30] . وذكر المؤرخون: انه كان أقلّ أهل بيته مالاً وأعظمهم مؤونة [31] ، ومع ذلك كان يجود بما عنده لإنعاش الفقراء والمحرومين. وقد نقل الرواة بوادر كثيرة من هذا الجود وإليك نماذج منها: 1 ـ روي سليمان بن قرم فقال: كان أبو جعفر يجيزنا الخمسمائة درهم [ صفحه 31] إلي الستمائة درهم الي الألف، وكان لا يملّ من صلة الإخوان وقاصديه وراجيه [32] . 2 ـ قال الحسن بن كثير: شكوت الي أبي جعفر محمد بن علي الحاجة وجفاء الاخوان، فتأثر (عليه السلام)وقال: بئس الأخ يرعاك غنياً، ويقطعك فقيراً، ثم أمر غلامه فأخرج كيساً فيه سبعمائة درهم، وقال: استنفق هذه فإذا نفذت فأعلمني [33] . 3 ـ وكان (عليه السلام) يحبو قوماً يغشون مجلسه من المائة الي الألف، وكان يحبّ مجالستهم، منهم عمرو بن دينار، وعبد الله بن عبيد. وكان يحمل اليهم الصلة والكسوة، ويقول: هيّـأناها لكم من أوّل السنة [34] . 4 ـ روت مولاته سلمي فقالت: كان يدخل عليه إخوانه فلا يخرجون من عنده حتي يطعمهم الطعام الطيب، ويلبسهم الثياب الحسنة، ويهب لهم الدراهم، وقد عذلته سلمي عن ذلك فقال لها: يا سلمي ما يؤمل في الدنيا بعد المعارف والاخوان.. [35] وكان يقول: «ما حسّنت الدنيا إلاّ صلة الاخوان والمعارف» [36] .

عبادته

اشاره

كان الإمام ابو جعفر الباقر (عليه السلام) من أئمة المتقين في الإسلام، فقد عرف الله معرفة استوعبت دخائل نفسه، فأقبل علي ربه بقلب منيب، وأخلص في طاعته كأعظم ما يكون الاخلاص. أما مظاهر عبادته فيمكن الإشارة الي بعضها كما يلي: [ صفحه 32]

خشوعه في صلاته

فقد عرف عنه أنه كان إذا أقبل علي الصلاة اصفرّ لونه [37] خوفاً من الله وخشية منه، ولا غرو في ذلك فقد عرف عظمة الله تعالي، الذي فطر الكون ووهب الحياة، فعبده عبادة المتقين المنيبين.

كثرة صلاته

وكان كثير الصلاة حتي كان يصلي في اليوم والليلة مائة وخمسين ركعة [38] ولم تشغله شؤونه العلمية ومرجعيته العامة للاُمة عن كثرة الصلاة، التي كانت أعزّ شيء عنده; لأنها الصلة والرباط الوثيق بينه وبين الله تعالي.

دعاؤه في سجوده

إنّ أقرب ما يكون العبد فيه الي ربه أن يكون ساجداً، من هنا كان الإمام (عليه السلام) في سجوده يتجه بقلبه وكلّ عواطفه نحو الله ويناجيه بانقطاع واخلاص، وقد أثرت عنه بعض الادعية في سجوده: 1 ـ روي اسحاق بن عمار عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أ نّه قال: كنت اُمهّد لأبي فرشه فانتظره حتي يأتي، فإذا آوي الي فراشه ونام قمت إلي فراشي. وقد أبطأ عليّ ذات ليلة فأتيت المسجد في طلبه، وذلك بعدما هدأ الناس، فإذا هو في المسجد ساجد، وليس في المسجد غيره فسمعت حنينه وهو يقول: «سبحانك اللهم، أنت ربي حقاً حقاً، سجدت لك يا رب تعبّداً ورقّاً، اللهم إنّ عملي ضعيف فضاعفه لي... اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك، وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم» [39] . 2 ـ روي أبو عبيدة الحذّاء فقال: سمعت أبا جعفر يقول: ـ وهو ساجد ـ: «اسألك بحق حبيبك محمد (صلي الله عليه وآله) إلاّ بدّلت سيّآتي حسنات، وحاسبتني حساباً [ صفحه 33] يسيراً». ثم قال في السجدة الثانية: «اسألك بحق حبيبك محمد (صلي الله عليه وآله) إلاّ ما كفيتني مؤونة الدنيا، وكلّ هول دون الجنة». ثم قال في الثالثة: «أسألك بحق حبيبك محمد(صلي الله عليه وآله) لمّا غفرت لي الكثير من الذنوب والقليل، وقبلت منّي عملي اليسير». ثم قال في الرابعة: «أسألك بحق حبيبك محمد (صلي الله عليه وآله) لما أدخلتني الجنة، وجعلتني من سكّانها، ولمّا نجيتني من سفعات النار [40] برحمتك، وصلي الله علي محمد وآله» [41] . وتكشف هذه الأدعية عن شدة تعلقه بالله وعظيم إنابته إليه.

حجه

وكان الإمام أبو جعفر (عليه السلام) اذا حجّ البيت الحرام انقطع الي الله وأناب اليه وظهرت عليه آثار الخشوع والطاعة، وقد قال مولاه أفلح: حججت مع أبي جعفر محمد الباقر فلما دخل الي المسجد رفع صوته بالبكاء فقلت له: «بأبي أنت وأمي إن الناس ينتظرونك فلو خفضت صوتك قليلاً». فلم يعتن الإمام وراح يقول له: «ويحك يا أفلح إني أرفع صوتي بالبكاء لعلّ الله ينظر إليّ برحمة فأفوز بها غداً». ثم إنه طاف بالبيت، وجاء حتي ركع خلف المقام، فلما فرغ وإذا بموضع سجوده قد ابتلّ من دموع عينيه [42] وحج (عليه السلام) مرة وقد احتفّ به الحجيج، [ صفحه 34] وازدحموا عليه وهم يستفتونه عن مناسكهم ويسألونه عن أمور دينهم، والإمام يجيبهم. وبهر الناس من سعة علومه حتّي أخذ بعضهم يسأل بعضاً عنه فانبري اليهم واحد من أصحابه فعرّفه قائلاً: «ألا إنّ هذا باقر علم الرسل، وهذا مبيّن السبل، وهذا خير من رسخ في أصلاب أصحاب السفينة، هذا ابن فاطمة الغرّاء العذراء الزهراء، هذا بقية الله في أرضه، هذا ناموس الدهر، هذا ابن محمّد وخديجة وعلي وفاطمة، هذا منار الدين القائمة» [43] .

مناجاته مع الله تعالي

كان الإمام (عليه السلام) يناجي الله تعالي في غَلَس الليل البهيم، وكان مما يقوله في مناجاته: «أمرتني فلم أئتمر، وزجرتني فلم أزدجر، هذا عبدك بين يديك» [44] .

ذكره لله تعالي

لقد كان دائم الذكر لله تعالي، وكان لسانه يلهج بذكر الله في أكثر أوقاته، فكان يمشي ويذكر الله، ويحدّث القوم وما يشغله ذلك عن ذكره تعالي. وكان يجمع ولده ويأمرهم بذكر الله حتي تطلع الشمس، كما كان يأمرهم بقراءة القرآن، ومن كان لا يقرأ منهم كان يأمره بذكر الله تعالي [45] . [ صفحه 35]

زهده في الدنيا

وزهد الإمام أبو جعفر (عليه السلام) في جميع مباهج الحياة وأعرض عن زينتها فلم يتخذ الرياش في داره، وإنما كان يفرش في مجلسه حصيراً [46] . لقد نظر الي الحياة بعمق وتبصر في جميع شؤونها فزهد في ملاذّها، واتّجه نحو الله تعالي بقلب منيب. فعن جابر بن يزيد الجعفي: قال لي محمد بن علي(عليه السلام):«يا جابر إني لمحزون، وإني لمشتغل القلب». فأنبري اليه جابر قائلاً: «ما حزنك؟ وما شغل قلبك؟». فأجابه (عليه السلام) قائلاً: «يا جابر إنه من دخل قلبه صافي دين الله عزّ وجلّ شغله عمّا سواه. يا جابر ما الدنيا؟ وما عسي أن تكون؟ هل هي إلا مركب ركبته؟ أو ثوب لبسته؟ أو امرأة أصبتها؟!» [47] . وأثرت عنه كلمات كثيرة في الحث علي الزهد، والإقبال علي الله تعالي، والتحذير من غرور الدنيا وآثامها. وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض مظاهر شخصيّته المشرقة. [ صفحه 39]

نشأة الإمام محمد بن علي الباقر

لقد ازدهرت الحياة الفكرية والعلمية في الإسلام بهذا الإمام العظيم الذي التقت فيه عناصر الشخصيّة من السبطين الحسن والحسين (عليهما السلام)، وامتزجت به تلك الاصول الكريمة والاصلاب الشامخة، والارحام المطهَّرة، التي تفرّع منها. فالأب: هو سيد الساجدين وزين العابدين وألمع سادات المسلمين. والأم: هي السيدة الزكية الطاهرة فاطمة بنت الإمام الحسن سيد شباب أهل الجنة، وتكني أم عبد الله [48] وكانت من سيدات نساء بني هاشم، وكان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يسميها الصديقة [49] ويقول فيها الإمام أبو عبدالله الصادق(عليه السلام): «كانت صديقة لم تدرك في آل الحسن مثلها» [50] وحسبها سموّاً أنها بضعة من ريحانة رسول الله، وأنها نشأت في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ففي حجرها الطاهر تربي الإمام الباقر (عليه السلام). المولود المبارك: وأشرقت الدنيا بمولد الإمام الزكي محمد الباقر الذي بشّر به النبي (صلي الله عليه وآله) قبل ولادته، وكان أهل البيت (عليهم السلام) ينتظرونه بفارغ الصبر لأنه من أئمة المسلمين الذين نص عليهم النبي (صلي الله عليه وآله) وجعلهم قادة [ صفحه 40] لاُمته، وقرنهم بمحكم التنزيل وكانت ولادته في يثرب في اليوم الثالث من شهر صفر سنة (56 هـ) [51] وقيل سنة (57 هـ) في غرة رجب يوم الجمعة [52] وقد ولد قبل استشهاد جده الإمام الحسين (عليه السلام) بثلاث سنين [53] وقيل بأربع سنين كما أدلي (عليه السلام) بذلك [54] وقيل بسنتين وأشهر [55] . وقد أجريت له فور ولادته مراسيم الولادة كالاذان والاقامة في اُذنيه وحلق رأسه والتصدق بزنة شعره فضة علي المساكين، والعَقِّ عنه بكبش والتصدّق به علي الفقراء. وكانت ولادته في عهد معاوية والبلاد الاسلامية تعج بالظلم، وتموج بالكوارث والخطوب من ظلم معاوية وجور ولاته الذين نشروا الإرهاب وأشاعوا الظلم في البلاد. تسميته: وسماه جده رسول الله (صلي الله عليه وآله) بمحمد، ولقّبه بالباقر قبل أن يولد بعشرات السنين، وكان ذلك من أعلام نبوته، وقد استشف (صلي الله عليه وآله) من وراء الغيب ما يقوم به سبطه من نشر العلم واذاعته بين الناس فبشّر به أمته، كما حمل له تحياته علي يد الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الانصاري. كنيته: «أبو جعفر» [56] ولا كنية له غيرها. ألقابه الشريفة: وقد دلّت علي ملامح من شخصيته العظيمة وهي: 1 ـ الأمين. [ صفحه 41] 2 ـ الشبيه: لأنه كان يشبه جده رسول الله (صلي الله عليه وآله) [57] . 3 ـ الشاكر. 4 ـ الهادي. 5 ـ الصابر. 6 ـ الشاهد [58] . 7 ـ الباقر [59] وهذا من اكثر ألقابه ذيوعاً وانتشاراً، وقد لقب هو وولده الإمام الصادق بــ (الباقرين) كما لقبا بــ (الصادقين) من باب التغليب [60] . ويكاد يجمع المؤرخون والمترجمون للإمام علي أنه إنّما لقب بالباقر لانه بقر العلم أي شقه، وتوسع فيه فعرف أصله وعلم خفيه [61] . وقيل: إنما لقّب به لكثرة سجوده فقد بقر جبهته أي فتحها ووسعها [62] . تحيات النبيّ (صلي الله عليه وآله) الي الباقر (عليه السلام): ويجمع المؤرخون علي أن النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) حمّل الصحابي العظيم جابر بن عبد الله الانصاري تحياته، الي سبطه الإمام الباقر، وكان جابر ينتظر ولادته بفارغ الصبر ليؤدي اليه رسالة جده، فلما ولد الإمام وصار صبياً يافعاً التقي به جابر فأدي اليه تحيات النبيّ (صلي الله عليه وآله) وقد روي المؤرخون ذلك بصور متعددة وهذا بعضها: 1 ـ روي ابن عساكر ان الإمام زين العابدين (عليه السلام) ومعه ولده الباقر دخلا علي جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال له جابر: من معك يا ابن رسول الله؟ قال: [ صفحه 42] معي ابني محمد، فأخذه جابر وضمّه اليه وبكي، ثم قال: اقترب اجلي، يا محمد! رسول الله(صلي الله عليه وآله) يقرؤك السلام. فسئل: وما ذاك؟ فقال: سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقول: للحسين بن علي يولد لابني هذا ابن يقال له علي بن الحسين، وهو سيد العابدين إذا كان يوم القيامة ينادي مناد ليقم سيد العابدين فيقوم علي بن الحسين، ويولد لعلي بن الحسين ابن يقال له: محمد اذا رأيته يا جابر فاقرأه مني السلام، يا جابر اعلم ان المهدي من ولده، واعلم يا جابر أ نّ بقاءك بعده قليل» [63] . 2 ـ روي تاج الدين بن محمد نقيب حلب بسنده عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «دخلت علي جابر بن عبد الله فسلّمت عليه. فقال لي من أنت؟ وذلك بعد ما كف بصره، فقلت له: محمد بن علي بن الحسين، فقال: بأبي أنت وأمي، ادن مني فدنوت منه، فقبّل يدي ثم أهوي الي رجلي فاجتذبتها منه، ثم قال: إن رسول الله يقرؤك السلام، فقلت وعلي رسول الله (صلي الله عليه وآله) السلام ورحمة الله وبركاته، وكيف ذلك يا جابر؟ قال: كنت معه ذات يوم فقال لي: يا جابر لعلك تبقي حتي تلقي رجلاً من ولدي يقال له محمد بن علي بن الحسين يهب له الله النور والحكمة فاقرأه مني السلام...» [64] . 3 ـ ذكر صلاح الدين الصفدي قال: «كان جابر يمشي بالمدينة ويقول: يا باقر متي ألقاك؟ فمرّ يوماً في بعض سكك المدينة فناولته جارية صبياً في حجرها فقال لها: من هذا؟ فقالت: محمّد بن علي بن الحسين، فضمّه الي صدره، وقبّل رأسه ويديه، وقال: يا بني، جدّك رسول الله (صلي الله عليه وآله) يُقرِئُك [ صفحه 43] السلام ثم قال: يا باقر نعيت إليَّ نفسي فمات في تلك الليلة» [65] . ملامحه: كانت ملامح الإمام محمّد الباقر(عليه السلام) كملامح رسول الله (صلي الله عليه وآله) وشمائله [66] وكما شابه جده النبيّ (صلي الله عليه وآله) في معالي أخلاقه التي امتاز بها علي سائر النبيين فقد شابهه في هذه الناحية أيضاً. ووصفه بعض المعاصرين له فقال: إنه كان معتدل القامة اسمر اللون [67] رقيق البشرة له خال، ضامر الكشح، حسن الصوت مطرق الرأس [68] . ذكاؤه المبكر: وكان (عليه السلام) في طفولته آية من آيات الذكاء حتي أن جابر ابن عبد الله الانصاري علي شيخوخته كان يأتيه فيجلس بين يديه فيعلمه... وقد بهر جابر من سعة علوم الإمام ومعارفه وطفق يقول: «يا باقر لقد اُوتيت الحكم صبياً» [69] . وقد عرف الصحابة ما يتمتع به الإمام منذ نعومة أظفاره من سعة الفضل والعلم الغزير فكانوا يرجعون إليه في المسائل التي لا يهتدون إليها ويقول المؤرخون ان رجلاً سأل عبد الله بن عمر عن مسألة فلم يقف علي جوابها فقال للرجل: اذهب إلي ذلك الغلام ـ وأشار الي الإمام الباقر ـ فاسأله، وأعلمني بما يجيبك فبادر نحوه وسأله فأجابه (عليه السلام) عن مسألته وخف الي ابن عمر فاخبره بجواب الإمام، وراح ابن عمر يبدي اعجابه بالإمام قائلاً: [ صفحه 44] «انهم أهل بيت مفهّمون» [70] . لقد خص الله أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالعلم والفضل، وزوّدهم بما زوّد أنبياءه ورسله من الفهم والحكمة حتّي أنه لم يخف عليهم جواب مسألة تعرض علي أحد منهم، ويقول المؤرخون ان الإمام كان عمره تسع سنين وقد سئل عن أدق المسائل فأجاب عنها. هيبته ووقاره: وبدت علي ملامح الإمام (عليه السلام) هيبة الأنبياء ووقارهم، فما جلس معه أحد إلا هابه واكبره وقد تشرف قتادة وهو فقيه أهل البصرة بمقابلته فاضطرب قلبه من هيبته وأخذ يقول له: «لقد جلست بين يدي الفقهاء وأمام ابن عباس فما اضطرب قلبي من أي أحد منهم مثل ما اضطرب قلبي منك» [71] . نقش خاتمه: «العزة لله جميعاً» [72] وكان يتختم بخاتم جده الإمام الحسين (عليه السلام) وكان نقشه «إن الله بالغ أمره» [73] وذلك مما يدل علي إنقطاعه التام إلي الله وشدة تعلقه به. [ صفحه 45]

مراحل حياة الإمام محمد الباقر

تنقسم حياة الإمام محمد الباقر(عليه السلام) ـ علي غرار سائر الأئمة المعصومين(عليهم السلام) ـ الي مرحلتين متميزتين: المرحلة الاُولي: مرحلة ما قبل التصدي للقيادة الشرعية العامة والتي تشمل القيادة الفكرية والسياسية معاً وهي مرحلة الولادة والنشأة حتي استشهاد أبيه(عليه السلام). وقد عاش الإمام محمد الباقر(عليه السلام) في هذه المرحلة مع جدّه وأبيه(عليهما السلام) فقضي مع جدّه الحسين(عليه السلام) فترة قصيرة جداً لا تزيد علي خمس سنين في اكثر التقادير، ولا تقل عن ثلاث سنين. وعاش مع أبيه الإمام زين العابدين(عليه السلام) مدة تقرب من اربع وثلاثين سنة، وكانت سنيناً عجافاً; إذ كانت الدولة الأموية في ذروة بطشها وجبروتها، وكان الإمام الباقر (عليه السلام) في هذه المدة رهن إشارة أبيه زين العابدين (عليه السلام) في جميع مواقفه ونشاطاته. وقد عاصر فيها كلاً من معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية ومعاوية ابن يزيد ومروان بن الحكم وعبدالله بن الزبير وعبدالملك بن مروان والشطر الأكبر من حكم الوليد بن عبدالملك. وأما المرحلة الثانية فتبدأ باستشهاد أبيه (عليه السلام) في الخامس والعشرين من [ صفحه 46] محرم الحرام سنة (95 هـ) وهي مرحلة التصدي لمسؤولية القيادة الروحية والفكرية والسياسية العامة وهي الإمامة الشرعية حسب مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) وهي لا تنحصر في القيادة الروحية فقط كما لا تقتصر علي القيادة السياسية بمعني مزاولة الحكم وإدارة الدولة الإسلامية. واستغرقت هذه المرحلة ما يقرب من تسعة عشر عاماً، واصل فيها مسيرة الائمة الهداة من قبله مستلهماً ـ من أجداده الطاهرين وعلومهم والعلوم التي حباه الله بها ـ الاُسلوب الصحيح لتحقيق أهداف الرسالة المحمدية. واستطاع هذا الإمام العظيم خلال تلكم الأعوام أن يقدّم للاُمة معالم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في جميع مجالات الحياة ويربّي عدة أجيال من الفقهاء والرواة ويبني القاعدة الصلبة من الجماعة الصالحة التي تتبنّي خط أهل البيت (عليهم السلام) الرسالي السليم وتسعي جاهدة لتحقيق أهدافهم المُثلي. وقد عاصر في هذه المرحلة الأيام الأخيرة من حكم الوليد بن عبدالملك وسليمان بن عبدالملك وعمر بن عبدالعزيز ويزيد بن عبدالملك وشطراً من حكم هشام بن عبدالملك واستشهد في حكم هشام هذا وعلي يد أحد عمّاله الظالمين. وأقام الإمام (عليه السلام) طيلة حياته في المدينة المنورة، فلم يبرحها إلي بلد آخر، وقد كان فيها المعلم الأول، والرائد الأكبر للحركة العلمية والثقافية، وقد اتخذ الجامع النبوي مدرسة له فكان يلقي في رحابه بحوثه علي تلاميذه. وقد تخرجت من مدرسة هذا الإمام العملاق مجموعة من العلماء الكبار الذين جابوا شرق الأرض وغربها ناشرين فيها العلم والمعرفة وطأطأت لشخصياتهم المتفوقة الاُمة الاسلامية بشتي قطاعاتها. [ صفحه 47]

الإمام محمد الباقر في ظل جده وأبيه

مرّ الإمام الباقر (عليه السلام) بمرحلة رافقت الكثير من الأحداث والظواهر في ظلّ جده وأبيه (عليهما السلام) ويمكن تلخيصها بالشكل التالي: 1 ـ عاش الإمام الباقر (عليه السلام) في ظلّ جدّه الحسين (عليه السلام) منذ ولادته وحتي الرابعة من عمره الشريف وقد مكنه ذلك من الإطلاع علي الأحداث والوقائع الاجتماعية والسياسية وإدراك طبيعة سيرها وفهم اتجاه حركتها بما اُوتي من ذكاء وفهم منذ صباه. لقد عاش الإمام الباقر (عليه السلام) في مقتبل عمره حادثة مصرع أعمامه وأهل بيته الطاهرين وشاهد باُم عينيه ملحمة عاشوراء ومقتل جدّه الحسين(عليه السلام) واُخذ مأسوراً الي طواغيت الكوفة والشام وشارك سبايا أهل البيت(عليهم السلام) فيما جري عليهم من المحن والمصائب الأليمة التي تتصدّع لها القلوب. كما استمع إلي أقوال أبيه الساخنة وهو يخاطب الطاغية المتغطرس يزيد في الشام والتي كان منها قوله(عليه السلام): يا يزيد! ومحمد هذا جدي أم جدّك؟ فإن زعمت أنه جدّك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدّي فِلمَ قتلت عترته؟!!) [74] . 2 ـ وعاصر الإمام الباقر (عليه السلام) في سنة (63 هـ) واقعة الحرّة التي ثار [ صفحه 48] فيها أهل المدينة علي حكم يزيد وهو في السادسة من عمره الشريف، حيث شاهد نقض أكابر أهل المدينة وفقهائها لبيعة يزيد الفاجر [75] ورأي مدينة جدّه عندما أباحها يزيد لجيشه الجاهلي ثلاثة أيّام متواليات يقتلون أهلها، وينهبون أموالهم ويهتكون أعراضهم [76] . 3 ـ عاصر الإمام الباقر (عليه السلام) في هذه المرحلة من حياته الانحرافَ الفكريَ الذي تسبب الاُمويّون في إيجاده مثل بثّهم للعقائد الباطلة كالجبر والتفويض والإرجاء خدمةً لسلطانهم; لأن هذه المفاهيم تستطيع أن تجعل الاُمة مستسلمة للحكام الطغاة ما دامت تبررّ طغيانهم وعصيانهم لأوامر الله ورسوله. 4 ـ ومن الظواهر التي عاصرها الإمام محمّد الباقر(عليه السلام) وهو في ظلّ أبيه السجّاد (عليه السلام) ظاهرة الانحراف السياسي وتتمثل في تحويل الاُمويين للخلافة إلي ملك عضوض يتوارثه الأبناء عن الآباء، ويوزّعون فيه المناصب الحكومية علي ذويهم وأقاربهم. لقد عاش (عليه السلام) محنة عداء الاُمويين للعلويين والذي تمثل في ظاهرة سبّهم لجدّه الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) علي المنابر طيلة ستة عقود. 5 ـ ومن الأحداث البارزة في حياة الإمام الباقر (عليه السلام) توالي الثورات المسلحة ضد الحكم الاُموي بعد واقعة كربلاء الخالدة، ففي سنة (63 هـ) ثار أهل المدينة في سنة (65 هـ) ثار التوابون، وفي سنة (66 هـ) ثار المختار بن أبي عبيدة الثقفي وثار الزبيريون، وفي سنة (77 هـ) ثار المطرّف بن المغيرة بن شعبة، وفي سنة (81 هـ) تمرّد عبد الرحمن بن [ صفحه 49] محمّد بن الأشعث علي حكومة عبد الملك بن مروان [77] . 6 ـ وانتشرت في هذه الفترة ظاهرة وضع الحديث المؤلمة فقد ركّز الاُمويون علي هذه الأداة لخدمة سلطانهم، حتّي روي ابن طرفة المعروف بنفطويه في تأريخه أن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة كانت في أيام بني اُميّة تقرّباً إليهم بما يظنّون أنهم يُرغمون اُنوف بني هاشم [78] . 7 ـ أما الانحراف الأخلاقي والاجتماعي فقد استشري في أوساط الاُمة حيث اشتهر يزيد بن معاوية بفسقه إذ كان يشرب الخمر ويلعب بالكلاب والقرود ويقضي أوقاته بين المغنّين والمغنّيات وشاع عنه ذلك وعرفه عامّة الناس. وكان مروان بن الحكم أيضاً فاحشاً بذيئاً، كما كان أولاده وأحفاده علي شاكلته [79] . وأشاع الاُمويّون بين المسلمين روح التعصّب فقرّبوا العرب وأبعدوا غير العرب وأثاروا الشعوبية فمزّقوا بذلك وحدة الصف الإسلامي وأثاروا الأحقاد وزرعوا بذور الشر في قلوب أبناء المجتمع الاسلامي. 8 ـ وعاش الإمام الباقر (عليه السلام) في هذه المرحلة من حياته في ظلّ سيرة أبيه (عليه السلام) بكل وجوده الذي كان يركز نشاطه علي إعادة بناء المجتمع الإسلامي وتشييد دعائم العقيدة الاسلامية القويمة، حيث كان يحاول الإمام زين العابدين(عليه السلام) من خلال بثّ القيم العقائدية والأخلاقية عبر الأدعية وتوجيه رسائل الحقوق وما شابه ذلك صياغة كيان الجماعة الصالحة التي كان عليها أن تتولي عمليّة التغيير في المجتمع الذي راح يتردّي باستمرار. [ صفحه 50] وكان يشارك أباه السجّاد(عليه السلام) في أهدافه وخطواته وأساليبه المتعددة في المرحلة التي استغرقت ثلاثة وثلاثين عاماً والتي تمثّلت في الدعاء والانفاق والعتق والتربية المباشرة للرقيق والأحرار باعتبارها نشاطاً بارزاً للإمام زين العابدين(عليه السلام) خلال هذه المرحلة. 9 ـ وقف الإمام الباقر (عليه السلام) مواقف أبيه من الثورات والحركات المسلحة التي كانت تهدف إلي إسقاط النظام الفاسد إذ كان يرشدها ويقودها بصورة غير مباشرة من دون أن يعطي للحكام أي دليل يدل علي التنسيق من الإمام (عليه السلام) مع الثوّار ضد الحكم الاُموي الغاشم. 10 ـ وكان للإمام الباقر دور بارز وهو في ظلّ أبيه في حركته لتأسيس صرح العلم والمعرفة الاسلامية حيث كان يحضر المحافل العامة ليحدّث الناس ويرشدهم، كما كان يفسّر القرآن ويعلّم الناس الأحاديث النبويّة الشريفة ويثقّفهم بالسيرة النبويّة المباركة. 11 ـ ان التنصيص من الإمام السجّاد(عليه السلام) علي إمامة ابنه الباقر يعود تأريخياً الي النصوص التي وردت عن رسول الله(صلي الله عليه وآله) والأئمة من بعده ونصّت علي إمامة اثني عشر إماماً بعد رسول الله كلهم من قريش وبني هاشم، وتداولها الصحابة والتابعون واستند اليها أهل البيت(عليهم السلام). ومن تلك النصوص التي ورد فيها اسم الإمام الباقر(عليه السلام) بشكل خاص هو النص الذي رواه جابر بن عبدالله الأنصاري وقد جاء في هذا النص ما يلي: «...فقال: يا رسول الله وَمَنْ الائمة من ولد علي بن أبي طالب؟ قال: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ثم سيد العابدين في زمانه عليّ بن الحسين، ثم الباقر محمد بن عليّ [ صفحه 51] وستدركه يا جابر، فاذا أدركته فاقرأه منّي السلام» [80] . وجاء في نص آخر أنّ رسول الله (صلي الله عليه وآله) قال لجابر بن عبد الله الأنصاري: «يولد لابني هذا ـ يعني الحسين ـ ابن يقال له: علي، وهو سيد العابدين... ويولد له محمد، اذا رأيته يا جابر فاقرأه(عليه السلام) منّي السلام، واعلم أنّ المهدي من ولده...» [81] . وقد تناقل الائمة من أهل البيت (عليهم السلام) الوصية إماماً بعد إمام، فقد أوصي الإمام علي (عليه السلام) ولده الإمام الحسن (عليه السلام) قائلاً: «يا بنيّ إنه أمرني رسول الله(صلي الله عليه وآله) أن أوصي اليك، وأدفع اليك كتبي وسلاحي، كما أوصي اليّ ودفع اليّ كتبه وسلاحه، وأمرني أن آمرك اذا حضرك الموت أن تدفعها الي أخيك الحسين، ثم أقبل علي ابنه الحسين، فقال: وأمرك رسول الله أن تدفعها الي ابنك هذا، ثم أخذ بيد علي بن الحسين وقال: وأمرك رسول الله (صلي الله عليه وآله) أن تدفعها الي ابنك محمد بن علي فاقرأه من رسول الله ومنّي السلام» [82] . 12 ـ وكان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يوجّه الانظار الي امامة ابنه الباقر(عليه السلام)، ويستثمر الفرص لإعلانها أمام أبنائه أو بعض أبنائه أو خاصّته وثقاته، يصرّح تارة بها ويلمّح إليها تارة اُخري. فحينما سأله ابنه عمر عن سرّ اهتمامه بالباقر (عليهما السلام) أجابه: «انّ الإمامة في ولده الي أن يقوم قائمنا (عليه السلام) فيملأها قسطاً وعدلاً، وانه الإمام أبو الأئمة...» [83] . وعن الحسين ابن الإمام زين العابدين (عليهما السلام) قال: سأل رجل أبي (عليه السلام) عن الائمة، فقال: «اثنا عشر سبعة من صلب هذا، ووضع يده علي كتف أخي محمد» [84] . [ صفحه 52] وكان يصرّح لابنه الباقر (عليهما السلام) بامامته ويقول له: «يا بنيّ انّي جعلتك خليفتي من بعدي» [85] . وروي عن أبي خالد أ نّه قال: قلت لعليّ بن الحسين: من الإمام بعدك؟ قال: «محمّد ابني يبقر العلم بقراً» [86] . وفي مرضه الذي توفي فيه سأله الزهري قائلاً: فإلي من نختلف بعدك؟ فأجاب(عليه السلام): «يا أبا عبد الله الي ابني هذا ـ وأشار الي محمد ابنه ـ انه وصيّي ووارثي وعيبة علمي ومعدن العلم وباقر العلم»، فقال له الزهري: يا ابن رسول الله هلاّ أوصيت إلي أكبر اولادك؟ فقال (عليه السلام): «يا أبا عبد الله ليست الامامة بالصغر والكبر، هكذا عهد الينا رسول الله(صلي الله عليه وآله) وهكذا وجدنا مكتوباً في اللوح والصحيفة» [87] . وفي أيامه الأخيرة جمع الإمام زين العابدين (عليه السلام) أولاده: محمد والحسن وعبد الله وعمر وزيد والحسين، وأوصي الي ابنه محمد... وجعل أمرهم اليه [88] . وفي الساعات الأخيرة من حياته التفت (عليه السلام) الي ولده وهم مجتمعون عنده، ثم التفت الي ابنه الباقر (عليه السلام) فقال: «يا محمد هذا الصندوق اذهب به الي بيتك». اما أنه لم يكن فيه دينار ولا درهم، ولكن كان مملوءاً علماً [89] . [ صفحه 55]

جهاد أهل البيت ودور الإمام الباقر

اشاره

ترتكز العملية التربوية علي ثلاثة عناصر أساسية هي: المربي والنظام التربوي والمتربّي. وحينما تفتقد العملية التربوية المربّي الكفوء أو النظام التربوي الصالح فإنها سوف تنحرف ولا تؤتي ثمارها الصالحة. وقد جاء الإسلام ليربّي المجتمع البشري بقيادة الرسول الخاتم المصطفي محمد بن عبدالله(صلي الله عليه وآله)، وخطي النبي(صلي الله عليه وآله) في طريق التربية الشاق خطوات كبيرة، واستطاع في ظلّ الشريعة الاسلامية ونظام الإسلام التربوي أن يربّي من تلك الجماعات الجاهلية اُمّة صالحة ورشيدة. ولكن فقدت الاُمة الاسلامية المربّي الكفوء حين غادرها الرسول(صلي الله عليه وآله) الي ربّه، وبهذا انهدم العنصر الأوّل من عناصر التربية الثلاثة. وكان انهدام هذا العنصر كفيلاً بهدم العنصرين الآخرين إذ لم يكن مَن تزعّم قيادة التجربة بعد النبي(صلي الله عليه وآله) كفوءاً لها ككفاءة النبي نفسه، علماً وعصمةً ونزاهةً وقدرةً وشجاعةً وكمالاً. أجل; لقد تزعّم التجربة مَن لم يكن معصوماً ولا منصهراً في مفاهيم الرسالة ولا قادراً علي حفظ الاُمّة من الانحراف عن الخط الذي رسمه الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) لها، ذلك الانحراف الذي لم يعرف المسلمون مدي عمقه [ صفحه 56] ومدي تأثيره السلبي علي الدولة والاُمّة والشريعة علي طول الخط ولعلّهم اعتبروه تغييراً في شخص القائد لا تغييراً في خط القيادة. وقد قام الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) بدور جبّار لصيانة الإسلام والحفاظ علي التجربة الاسلامية وعلي دولة الرسول وحاولوا جهد إمكانهم حفظ الاُمّة المسلمة من التمادي في الانحراف والانهيار، وعملوا بشكل عام علي خطّين رئيسين للوقوف بوجه هذا الانحراف الكبير الذي لم يدرك إلاّ الرسول(صلي الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار مدي عمقه وخطورته علي الشريعة والدولة والاُمة جميعاً. والخطّان الرئيسان اللذان عمل الأئمة(عليهم السلام) عليهما وكان عليهم أن يوظّفوا لذلك نشاطهم يتمثّلان في: 1 ـ خط تحصين الاُمة ضد الانهيار بعد وقوع التجربة، بأيدي اُناس غير مؤهّلين لقيادتها، واعطائها القدر الكافي من المقومات لكي تواصل مسيرتها في الاتجاه الصحيح، وبقدم راسخة. 2 ـ خط محاولة تسلّم زمام التجربة وزمام الدولة ومحو آثار الانحراف وإرجاع القيادة الكفوءة إلي موضعها الطبيعي لتكتمل عناصر التربية ولتتلاحم الاُمة والمجتمع مع الدولة والقيادة الرشيدة [90] . اما الخط الثاني فكان علي الأئمة الراشدين أن يقوموا له بإعداد طويل المدي، من أجل تهيئة الظروف الموضوعية اللازمة التي تتناسب مع مجموعة القيم والأهداف والأحكام الاساسية التي جاءت بها الرسالة الاسلامية وأريد تحقيقها من خلال الحكم وممارسة الزعامة باسم الإسلام القيّم وباسم الله المشرّع للانسان تشريعاً يوصله إلي كماله اللائق به. [ صفحه 57] ومن هنا كان رأي الأئمة الأطهار في استلام زمام الحكم هو: أنّ الانتصار المسلّح الآنيّ غير كاف لإقامة دعائم الحكم الاسلاميّ المستقر، بل يتوقف ذلك علي إعداد جيش عقائدي يؤمن بالامام وبعصمته إيماناً مطلقاً ويعيش جميع أهدافه الكبيرة، ويدعم تخطيطه في مجال الحكم، ويحرس ما يحقّقه للاُمة من مصالح أرادها الله لها في هذه الحياة. وأما الخط الأوّل فهو الخط الذي لا يتنافي مع كل الظروف القاهرة والمؤاتية، وكان يمارسه الأئمة(عليهم السلام) حتي في حالة الشعور بعدم توفر الظروف الموضوعية التي تسمح للإمام بخوض معركة يتسلّم من خلالها زمام الحكم من جديد. ان هذا الخط يتمثّل في تعميق الرسالة فكرياً وروحيّاً وسياسياً في الاُمة نفسها; بغية إيجاد تحصين كاف في صفوفها ضدّ الانهيار، بعد تردّي التجربة وسقوطها، وذلك بايجاد قواعد واعية في الاُمة وايجاد روح رسالية فيها وايجاد عواطف صادقة تجاه هذه الرسالة في الاُمة [91] . واستلزم عمل الأئمة الأطهار(عليهم السلام) في هذين الخطّين قيامهم بدور رساليّ إيجابي وفعّال علي طول الخط لحفظ الرسالة والاُمة والدولة وحمايتها جميعاً باستمرار. وكلما كان الانحراف يشتدّ كان الائمة الأطهار يتّخذون التدابير اللازمة ضد ذلك. وكلما وقعت محنة للعقيدة أو التجربة الاسلامية وعجزت الزعامات المنحرفة من علاجها ـ بحكم عدم كفاءتها ـ بادر الأئمة(عليهم السلام) إلي تقديم الحلّ ووقاية الاُمة من الأخطار التي كانت تهدّدها. [ صفحه 58] فالأئمة المعصومون(عليهم السلام) كانوا يحافظون علي المقياس العقائدي في المجتمع الاسلامي إلي درجة لا تنتهي بالاُمة إلي الخطر الماحق لها [92] . ومن هنا تنوّع عمل الأئمة(عليهم السلام) في مجالات شتّي باعتبار تعدّد العلاقات وتعدّد الجوانب والمهامّ التي تهمّهم باعتبارهم القيادة الواعية الرشيدة التي تريد تطبيق الإسلام وحفظه للانسانية جمعاء. فالأ ئمة الأطهار (عليهم السلام) مسؤولون عن صيانة تراث الرسول الاعظم(صلي الله عليه وآله) وثمار جهوده الكريمة المتمثلة في النقاط الأربع التالية: 1 ـ الشريعة والرسالة التي جاء بها الرسول الأعظم من عند الله تعالي والمتمثلة في الكتاب الكريم والسنة الشريفة. 2 ـ الاُمة التي كوّنها وربّاها الرسول الكريم بيديه الكريمتين. 3 ـ الكيان السياسي الاسلامي الذي أوجده النبي (صلي الله عليه وآله) والدولة التي أسسها وشيّد أركانها. 4 ـ القيادة النموذجية التي حققها بنفسه وربّي من يكون كفوءً لتجسيدها من أهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين. لكنّ عدم امكان الحفاظ علي هذا المركز القيادي وتفويت الفرصة علي القيادة التي عيّنها الرسول(صلي الله عليه وآله) بأمر من الله تعالي لا يمنع من ممارسة مسؤولية الحفاظ علي المجتمع الاسلامي السياسي وصيانة الدولة الاسلامية من الانهيار بالقدر الممكن الذي يتسنّي للقيادة الشرعية بالفعل وبمقدار ما تسمح به الظروف الراهنة. كما ان سقوط الدولة الاسلامية لا يحول دون الاهتمام بالاُمة المسلمة [ صفحه 59] ودون الاهتمام بالرسالة والشريعة الإسلامية وصيانتها من الانهيار والاضمحلال التام. وعلي هذا الاساس تنوّعت مجالات عمل الائمة الطاهرين(عليهم السلام) بالرغم من اختلاف ظروفهم من حيث نوع الحكم القائم، ومن حيث درجة ثقافة الأمة ومدي وعيها، ومدي إيمانها ومعرفتها بالأئمة(عليهم السلام)، ومدي انقيادها للحكام المنحرفين، ومن حيث نوع الظروف المحيطة بالكيان الاسلامي والدولة الاسلامية، ومن حيث درجة التزام الحكّام بالاسلام، ومن حيث نوع الأدوات التي كانوا يستخدمونها لدعم حكمهم وإحكام سيطرتهم علي رقاب الاُمّة. فقد كان لائمة أهل البيت(عليهم السلام) نشاط مستمر تجاه الحكم القائم والزعامات المنحرفة، وقد تمثّل في إيقاف الحاكم عن المزيد من الانحراف، بالتوجيه الكلامي، أو بالثورة المسلحة ضد الحاكم حينما كان يشكّل انحرافه خطراً ماحقاً، كثورة الإمام الحسين(عليه السلام) ضد يزيد بن معاوية وان كلّفهم ذلك حياتهم، أو عن طريق إيجاد المعارضة المستمرة ودعمها بشكل وآخر من أجل زعزعة القيادة المنحرفة بالرغم من دعمهم للدولة الاسلامية بشكل غير مباشر حينما كانت تواجه خطراً ماحقاً أمام الكيانات الكافرة. وكان لهم(عليهم السلام) نشاط مستمر كذلك في مجال تربية الاُمة عقائدياً وأخلاقياً وسياسيّاً وذلك من خلال تربية الأصحاب العلماء وبناء الكوادر العلمية والشخصيات النموذجية التي تقوم بمهمة نشر الوعي والفكر الاسلامي وتصحيح الأخطاء الحاصلة في فهم الرسالة والشريعة، ومواجهة التيارات الفكرية الوافدة أو التيارات السياسية المنحرفة أو الشخصيّات العلمية المنحرفة التي كان الحكام الجائرون يستخدمونهم لدعم حكوماتهم. وكانت [ صفحه 60] من جملة مهامّهم دعوة الناس الي السير وراء القيادة الإلهية بعد الرسول(عليهم السلام) والمتمثّلة في إمامة أهل البيت الأطهار، وتصعيد درجة معرفة الاُمة والايمان بهم والوعي اللازم تجاه امامتهم وزعامتهم. هذا بالإضافة الي نزول الأئمة(عليهم السلام) إلي ساحة الحياة العامة والارتباط بالاُمة بشكل مباشر والتعاطف مع قطّاع واسع من المسلمين; فإن الزعامة الجماهيرية الواسعة النطاق التي كان يتمتع بها أئمة أهل البيت(عليهم السلام) علي مدي قرون لم يحصلوا عليها صدفة، أو لمجرد الانتماء الي رسول الله(صلي الله عليه وآله); وذلك لوجود كثير ممن كان ينتسب إلي رسول الله(صلي الله عليه وآله) ولم يكن يحظي بهذه المكانة عند الناس; لأن الاُمة لا تمنح ولاءها لأحد مجاناً، ولا يملك أحدٌ قيادتها وميل قلوبها من دون عطاء سخيّ منه في مختلف مجالات الحياة، وخاصّة عند الأزمات، والمشاكل. وهكذا خرج الإسلام علي مستوي النظرية سليماً من الانحراف وان تشوّهت معالم التطبيق، كما أنّ بفضل قيادة أهل البيت الفكرية والمعنوية تحوّلت الاُمة إلي اُمة عقائدية تقف بوجه الغزو الفكري والسياسي الكافر واستطاعت أن تسترجع قدرتها وتماسكها علي المدي البعيد كما لاحظناه في القرن المعاصر بعد عصور الانهيار والتردي. وقد حقق الأئمة المعصومون (عليهم السلام) كل هذه الانتصارات بفضل اهتمامهم البليغ بتربية الكتلة الصالحة التي آمنت بهم وبإمامتهم وبفضل إشرافهم علي تنمية وعي هذه الكتلة وايمانها من خلال التخطيط لسلوكها وحمايتها باستمرار واسعافها بكل الأساليب التي كانت تساعد علي صمودها في خضمّ المحن وارتفاعها إلي مستوي جيش عقائدي رساليّ يعيش هموم الرسالة ويعمل علي صيانتها ونشرها وتطبيقها ليل نهار. [ صفحه 61]

مراحل حركة الأئمة من أهل البيت

وإذا رجعنا إلي تاريخ أهل البيت(عليهم السلام) والظروف المحيطة بهم ولاحظنا سلوكهم ومواقفهم العامة والخاصة استطعنا أن نصنّف ظروفهم ومواقفهم إلي مراحل وعصور ثلاثة يتميز بعضها عن بعض بالرغم من اشتراكهم في كثير من الظروف والمواقف ولكن الأدوار تتنوع باعتبار مجموعة الظواهر العامة التي تشكل خطّاً فاصلاً ومميّزاً لكل عصر. فالمرحلة الاولي من حياة الأئمة(عليهم السلام) وهي (مرحلة تفادي صدمة الانحراف) بعد وفاة رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) تجسّدت في سلوك ومواقف الأئمة الأربعة: علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين(عليهم السلام) إذ قاموا بالتحصينات اللازمة لصيانة العناصر الاساسية للرسالة وان لم يستطيعوا القضاء علي القيادة المنحرفة. لكنهم استطاعوا كشف زيفها والمحافظة علي الرسالة الاسلامية نفسها. وبالطبع انهم لم يهملوا أمر الاُمة أو الدولة الاسلامية بشكل عام ولم يحرموها من رعايتهم واهتمامهم إذا ارتبط الأمر بالكيان الاسلامي والاُمة المسلمة، هذا فضلاً عن سعيهم البليغ في بناء وتكوين الكتلة الصالحة المؤمنة بقيادتهم. وتبدأ المرحلة الثانية بالشطر الثاني من حياة الإمام السجاد السياسية حتي الإمام الكاظم(عليهما السلام) وتتميز بأمرين اساسيين: 1 ـ فيما يرتبط بالخلافة المزيّفة فقد تصدي هؤلاء الأئمّة لتعريتها عمّا بدأ الخلفاء يحصّنون به أنفسهم ويبرّرون أفعالهم، من خلال دعم طبقة من المحدّثين والعلماء (من وعّاظ السلاطين) لهم وتقديم التأييد والولاء لهم من أجل اسباغ الصبغة الشرعية علي زعامتهم بعد أن استطاع الأ ئمّة في المرحلة [ صفحه 62] الاولي أن يكشفوا زيف خط الخلافة وأن يُحَسِّسوا الاُمّة بمضاعفات الانحراف الذي حصل في مركز القيادة بعد الرسول الاعظم(صلي الله عليه وآله وسلم). 2 ـ فيما يرتبط ببناء الجماعة الصالحة الذي اُرسيت دعائمه في المرحلة الاولي فقد تصدي الأئمة المعصومون في هذه المرحلة إلي تحديد الاطار التفصيلي وايضاح معالم الخط الرسالي الذي اُؤتمن الأئمة الأطهار(عليهم السلام) عليه والذي تمثّل في تبيين ونشر معالم النظرية الاسلامية الامامية وتربية عدة أجيال من العلماء علي أساس هذه النظرية في قبال خط علماء البلاط والذين عرفوا بوعاظ السلاطين. هذا فضلاً عن تصديهم لدفع الشبهات وكشف زيف الفرق المذهبية التي استحدثت من قبل خط الخلافة أو غيره. والأئمة في هذه المرحلة لم يتوانوا في زعزعة قواعد الزعامات والقيادات المنحرفة من خلال دعم بعض الخطوط المعارِضة للسلطة ولا سيما الثورية منها التي كانت تتصدي لمواجهة من تربَّع علي كرسيّ خلافة الرسول(صلي الله عليه وآله وسلم) بعد ثورة الإمام الحسين(عليه السلام). والمرحلة الثالثة من حياة الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) تبدأ بشطر من حياة الإمام الكاظم(عليه السلام) وتنتهي بالإمام المهدي(عليه السلام); فانهم بعد وضع التحصينات اللازمة للكتلة الصالحة ورسم المعالموالخطوط التفصيلية لها ـ عقائدياً واخلاقياً وسياسيّاً في المرحلة الثانية ـ قد بدا للخلفاء أن قيادة أهل البيت(عليهم السلام) أصبحت بمستوي تسلّم زمام الحكم والعودة بالمجتمع الاسلامي إلي حظيرة الإسلام الحقيقي، وهو أمر استتبع ردود فعل من جانب الخلفاء تجاه الأئمة(عليهم السلام)، وكانت مواقف الأئمة تجاه الخلفاء تابعة ومناسبة لنوع موقف الخليفة تجاههم وتجاه قضيتهم. [ صفحه 63] وأمّا فيما يرتبط بالكتلة الصالحة التي أوضحوا لها معالم منهجها فقد عمل الأئمة(عليهم السلام) علي دفعها نحو الثبات والاستقرار والانتشار من أجل تحصينها من الانهيار وإعطائها درجة من الاكتفاء الذاتي، وكان في تقدير الأئمة انهم بعد المواجهة المستمرة للخلفاء سوف لا يُسمح لهم بالمكث بين ظهرانيهم وسوف لن يتركهم الخلفاء أحراراً بعد أن تبين للاُمّة عدم شرعيّتهم واتضحت لهم المكانة الشعبية للأئمة(عليهم السلام) الذين كانوا يمثّلون الزعامة الشرعية والاهتمام الحقيقي بشؤون الاُمّة الاسلامية. ومن هنا تجلّت حكمة تربية الفقهاء علي نطاق واسع ثم إرجاع الناس إليهم وتدريبهم علي مراجعتهم في قضاياهم وشؤونهم العامة تمهيداً للغيبة التي لا يعلم مداها إلاّ الله سبحانه والتي اخبر الرسول(صلي الله عليه وآله وسلم) عن تحققها وفرضت الظروف علي الأئمة وأتباعهم الانصياع لها. وبهذا استطاع الأئمة(عليهم السلام) وضمن تخطيط بعيد المدي أن يقفوا في وجه المسلسل الطبيعي للمضاعفات الناشئة عن الانحراف في القيادة والتي كانت تنتهي بتنازل الاُمة عن الإسلام الصحيح، وبالتالي ضمور الشريعة وانهيار الرسالة الإلهية بشكل كامل. فالذي جعل الاُمة لا تتنازل عن الإسلام هو تقديم مثل آخر للإسلام واضح المعالم، أصيل المُثل والقيم، أصيل الأهداف والغايات، وقد قُدّمت هذه الاطروحة للاُمّة من قبل الواعين من المسلمين بزعامة الأئمة من أهل البيت المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. إنّ هذه الاطروحة التي قدّمها الأئمة (عليهم السلام) للاسلام المحمّدي لم تكن لتتفاعل مع الشيعة المؤمنين بإمامة أهل البيت(عليهم السلام) فقط، بل كان لها صدي كبير في كل العالم الاسلامي، فالأئمة الأطهار كانت لهم اطروحة للاسلام [ صفحه 64] وكانت لهم دعوي لإمامتهم وهذه الدعوي وان لم يطلبوا لها إلاّ عدداً ضئيلاً من مجموع الاُمة الاسلامية ولكن الاُمة بمجموعها تفاعلت مع هذه الاطروحة التي تُمَثّل النموذج الواضح والمخطّط الصحيح الصريح للاسلام في كل المجالات العامة والخاصة، ثقافياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وخلقياً، مما جعل المسلمين علي مرّ الزمن يسهرون علي الإسلام ويقيمونه وينظرون اليه بمنظار آخر غير منظار الواقع الذي كانوا يعيشونه من خلال الحكم القائم الذي تلاعب بالإسلام وغيّر معالمه [93] . هذا وستكون لنا وقفة تفصيليّة مع الاُطروحة الكاملة التي طبّقها والمنهج الذي انتهجه الإمام(عليه السلام) لبناء الجماعة الصالحة في الباب الرابع إن شاء الله تعالي. [ صفحه 65]

وقائع وأحداث هامة في عصر الإمام الباقر

اشاره

إذا اردنا أن نقف علي ملامح المرحلة التي مارس فيها الإمام الباقر(عليه السلام) قيادته للاُمة الاسلامية بعد والده الإمام زين العابدين(عليهما السلام) وجب أن نقف علي أهم الأحداث التي مهّدت لتلك المرحلة ونلاحظ مدي علاقتها بالإمام الباقر(عليه السلام) كمرشّح للقيادة في حياة والده وممارس لها بعد ذلك. لقد شُيّدت اُسس الحكم الاُموي المرواني أيام عبدالملك بن مروان باعتباره أوّل حاكم مقتدر للحكم المرواني. وقد رسمت إجراءاته السياسية ملامح المرحلة التي نريد دراستها. قال بعض المؤرخين: إن عبدالملك بن مروان قبل أن يتقلد الخلافة كان يظهر النسك والعبادة، فلما بشر بالملك كان بيده المصحف الكريم فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك، أو قال: هذا فراق بيني وبينك [94] . ولقد اتصف عبدالملك بأخس الصفات وأحطها والتي كان من بينها: 1 ـ الطغيان والجبروت: قال المنصور: كان عبدالملك جباراً لا يبالي ما صنع [95] وكان فاتكاً لا يعرف الرحمة والعدل، وقد قال: في خطبته بعد قتله [ صفحه 66] لابن الزبير: لا يأمرني أحد بتقوي الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه [96] ، وهو أول من نهي عن الكلام بحضرة الخلفاء [97] . 2 ـ الغدر ونكث العهد: فقد أعطي الأمان لعمرو بن سعيد الأشدق علي أن تكون الخلافة له من بعده إلا أنه غدر به، وقتله ورمي برأسه الي أصحابه [98] ولم يرع وشيجة النسب التي كانت تربطه بعمرو. لقد خاف عبدالملك من الأشدق، إذ لو كان حياً لاتّخذ التدابير للقضاء علي حكم بني مروان ولكن عبدالملك تغدّي به قبل أن يتعشي به عمر، وقد انتقم الله منه; لأنه كان جباراً مسرفاً في إراقة دماء المسلمين وإشاعة الخوف والرعب فيهم. 3 ـ القسوة والجفاء: حيث انعدمت من نفسه الرحمة والرأفة، حتي أ نّه بالغ في إراقة الدماء وسفكها بغير حق، وقد اعترف بذلك هو حين قالت له أم الدرداء: بلغني أنك شربت الطِلي ـ يعني الخمر ـ بعد العبادة والنسك، فقال لها غير متأثم: «اي والله والدماء شربتها» [99] . وقد نشر الثكل والحزن والحداد في بيوت المسلمين أيام حكمه الرهيب حتي أنّه خطب في يثرب بعد قتله لابن الزبير خطاباً قاسياً أعرب فيه عما كان يحمله في قرارة نفسه من القسوة والسوء قائلاً: «إني لا اُداوي أدواء هذه الاُمة إلاّ بالسيف حتي تستقيم لي قناتكم...» [100] . [ صفحه 67] 4 ـ البخل: فكان يسمي (رشح الحجارة) لشدة شحه وبخله [101] وقد عانت الاُمة في أيام حكمه الجوع والفقر والحرمان. من بدع عبدالملك: خاف عبدالملك أن يتصل ابن الزبير بأهل الشام فيفسدهم عليه فمنعهم من الحج، فقالوا له: أتمنعنا من الحج وهو فريضة فرضها الله، فقال: قال ابن شهاب الزهري انّ رسول الله(صلي الله عليه وآله) قال: لا تشد الرحال إلاّ إلي ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس. وصرفهم بذلك عن الحج الي بيت الله الحرام، وصيره الي بيت المقدس وقد استغل الصخرة التي فيه، وروي فيها أن رسول الله(صلي الله عليه وآله) قد وضع قدمه عليها حين صعوده الي السماء فأقامها لهم مقام الكعبة فبني عليها قبة وعلي فوقها ستور الديباج، وأقام لها سدنة، وأمر الناس أن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة [102] . وانتقص عبدالملك سلفه من حكام بني اُمية، وقد أدلي بذلك في خطابه الذي ألقاه في يثرب، إذ جاء فيه: «إني والله ما أنا بالخليفة، المستضعف ـ يعني عثمان ـ ولا بالخليفة المداهن ـ يعني معاوية ـ ولا بالخليفة المأفون [103] ـ يعني يزيد». وعلّق ابن أبي الحديد علي هذه الكلمات بقوله: «وهؤلاء سلفه وأئمته، وبشفعتهم قام ذلك المقام، وبتقدمهم وتأسيسهم نال تلك الرياسة، ولولا العادة المتقدمة، والأجناد المجندة والصنائع القائمة، لكان أبعد خلق الله من ذلك [ صفحه 68] المقام، وأقربهم الي المهلكة إن رام ذلك الشرف...» [104] . من جرائم عبدالملك: وأخطر عمل قام به عبدالملك توليته للسفّاك المعروف الحجّاج بن يوسف الثقفي، فقد عهد باُمور المسلمين إلي هذا الانسان الممسوخ الذي اشتهر بقساوته وشهوته في إراقة الدماء. لقد منحه عبدالملك صلاحيات واسعة النطاق، فجعله يتصرف في اُمور الدولة حسب رغباته التي لم تكن تخضع إلاّ لمنطق البطش والاستبداد، وقد أمعن هذا الأثيم في النكاية بالناس، وقهرهم وإذلالهم، وقد خلق في البلاد الخاضعة لنفوذه جواً من الأزمات السياسية التي لا عهد للناس بمثلها. ونقم علماء المسلمين وخيارهم علي الحجاج، وكان عمر بن عبدالعزيز من الناقمين علي الحجاج، والساخطين عليه، حتي قال فيه: «لو جاءت كل اُمة بخبيثها، وجئنا بالحجاج لغلبناهم» [105] . وقال عاصم: «ما بقيت لله عزّ وجل حرمة إلاّ وقد ارتكبها الحجاج [106] . وقال طاووس: «عجبت لمن يسمي الحجاج مؤمناً» [107] . وقال ابن عماد الحنبلي عنه: «سنة خمس وتسعين فيها أراح الله العباد والبلاد بموت الحجاج بن يوسف الثقفي في ليلة مباركة علي الاُمة... كان لا يصبر عن سفك الدماء وانه اكبر لذّاته وله مقحمات عظام» [108] . ولما أراد الحج ولّي علي العراق شخصاً اسمه محمد، وقد خطب بين الناس فقال لهم: إني قد استعملت عليكم محمداً، وقد أوصيته فيكم خلاف [ صفحه 69] وصية رسول الله(صلي الله عليه وآله) بالأنصار فانه قد أوصي أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، وقد أوصيته أن لا يقبل من محسنكم، ولا يتجاوز عن مسيئكم...» [109] . وقال الدميري: «كان الحجاج لا يصبر عن سفك الدماء، وكان يخبر عن نفسه أ نّ اكبرَ لذّاته إراقته للدماء، وارتكاب امور لا يقدر عليها غيره» [110] . وقد بالغ في قتل الناس بغير حق، فقد كان عدد من قتلهم صبراً ـ سوي من قتل في حروبه ـ مائة وعشرين ألفاً [111] وقيل مائة وثلاثين ألفاً [112] . وقد اعترف رسمياً بسفكه للدماء بغير حق فقد قال: «والله ما أعلم اليوم رجلاً علي ظهر الأرض هو أجرأ علي دم مني» [113] . وانكر عليه عبدالملك إسرافه في ذلك إلا أنه لم يعن به [114] . وقد وضع سيفه في رقاب القرّاء والعبّاد لأنهم أيدوا ثورة ابن الأشعث، وكان من جملة من قتلهم صبراً سعيد بن جبير أحد أبرز علماء الكوفة وزهادها، ولما بلغ الحسن البصري نبأ قتله قال: والله لقد مات سعيد بن جبير يوم مات وأهل الأرض من مشرقها الي مغربها محتاجون لعلمه [115] . وحكم جماعة من أعلام المسلمين بكفره وإلحاده، منهم سعيد بن جبير النخعي، ومجاهد، وعاصم بن أبي النجود، والشعبي وغيرهم [116] . [ صفحه 70] وذلك لأنّ الحجاج قد استهان بالنبي العظيم(صلي الله عليه وآله) حتي فضّل عبدالملك ابن مروان عليه وذلك حين خاطب الله تعالي أمام الناس قائلاً: «أرسولك أفضل ـ يعني النبي ـ أم خليفتك ـ يعني عبدالملك؟ [117] . وكان ينقم ويسخر من الذين يزورون قبر النبي(صلي الله عليه وآله) ويقول: «تبّاً لهم إنما يطوفون بأعواد ورمة بالية، هـلاّ طافوا بقصر أمير المؤمنين عبدالملك، ألا يعلمون أ نّ خليفة المرء خير من رسوله؟! [118] . وحفل حكم هذا الخبيث بالجرائم والموبقات فقد نكّل بشيعة آل البيت(عليهم السلام) وأذاع فيهم القتل، وأشاع في بيوتهم الثكل والحزن والحداد، في الوقت الذي كان عبدالملك قد كتب اليه: «جنبني دماء بني عبدالمطلب فليس فيها شفاء من الحرب، وإني رأيت آل بني حرب قد سُلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين بن علي» [119] . ولكن الحجاج قد تعرض للعلويين وشيعتهم فانطلقت يده في الفتك بهم وسفك دمائهم حتي أن الرجل كان أحب اليه أن يقال له زنديق من أن يقال له من شيعة علي [120] وقال المؤرخون: إن خير وسيلة للتقرب الي الحجاج كانت انتقاص الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) عنده فقد أقبل إليه بعض المرتزقة من أوغاد الناس وأجلافهم وهو رافع عقيرته قائلاً: «أيها الأمير، إن أهلي عقوني فسموني علياً، وإني فقير بائس، وأنا الي صلة الأمير محتاج...». فسرّ الحجاج بذلك وقال: «للطف ما توسلت به، فقد [ صفحه 71] وليتك موضع كذا» [121] . وعلي أي حال فقد أصبح أتباع أهل البيت(عليهم السلام) في عهد هذا الجلاّد طعمة للسيوف والرماح، إذ نكّل بهم وقتلهم ولاحقهم تحت كل حجر ومدر وأودع الكثيرين منهم السجون، وأثار جوّاً من الارهاب، لم نشهد له مثيلاً حتي في أيام الطاغية زياد بن أبيه وابنه عبيد الله. وامتُحنت الكوفة في أيام هذا الجبار كأشد ما تكون المحنة، فقد أخذ يقتل علي الظنة والتهمة، وخطب في الكوفة خطاباً قاسياً، لم يحمد الله فيه، ولم يثن عليه، ولم يصلّ علي النبي(صلي الله عليه وآله) وكان من جملة ما قال فيه: «يا أهل العراق، يا أهل الشقاق، والنفاق، والمراق، ومساوئ الاخلاق ان امير المؤمنين ـ يعني عبدالملك ـ فتل كنانته فعجمها عوداً عوداً، فوجدني من أمرّها عوداً، وأصعبها كسراً، فرماكم بي، وانه قلدني عليكم سوطاً وسيفاً، فسقط السوط وبقي السيف [122] ثم قال: إني والله لأري أبصاراً طامحة، وأعناقاً متطاولة، ورؤوساً قد أينعت، وحان قطافها، وإني أنا صاحبها كأني أنظر الي الدماء ترقرق بين العمائم واللحي [123] ثم أنشد: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متي أضع العمامة تعرفوني ومن جرائم هذا الطاغية: انه قاد جيشاً مكثفاً الي مكة لمحاربة ابن الزبير، وقد حاصر البيت الحرام ستة أشهر وسبع عشرة ليلة، وقد أمر برمي الكعبة المشرفة فرميت من جبل أبي قبيس بالمنجنيق [124] . [ صفحه 72] واتخذ الحجّاج سجوناً لا تقي من حر ولا برد، وكان يعذب المساجين بأقسي ألوان العذاب، حتي قال المؤرخون: انه مات في حبسه خمسون الف رجل، وثلاثون الف امرأة منهن ستة عشر الفاً مجردات وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد [125] واحصي في محبسه ثلاث وثلاثون الف سجين لم يحبسوا في دَيْن ولا تبعة [126] وكان يقول لأهل السجن: «اخسأوا فيها ولا تكلمون» [127] تشبيهاً لهم بأهل النار، وتشبيهاً لنفسه بالخالق تعالي، عتواً وتكبراً منه. وتلقي المسلمون نبأ وفاته بمزيد من السرور والأفراح، وكانت الشتائم تلاحقه من يوم وفاته حتي يرث الله الأرض ومن عليها.

الإمام الباقرمع عبدالملك بن مروان

أوعز عبدالملك الي عامله علي يثرب باعتقال الإمام محمّد الباقر(عليه السلام) وإرساله إليه مخفوراً، وتردد عامله في اجابته ورأي أن من الحكمة اغلاق ما أمر به فأجابه بما يلي: «ليس كتابي هذا خلافاً عليك، ولا ردّاً لأمرك، ولكن رأيت أن أراجعك في الكتاب نصيحة وشفقة عليك، فان الرجل الذي أردته ليس علي وجه الأرض اليوم أعف منه، ولا أزهد، ولا أورع منه، وأنه ليقرأ في محرابه فيجتمع الطير والسباع إليه تعجباً لصوته، وإن قراءته لتشبه مزامير آل داود، وإنه لمن أعلم الناس، وأرأف الناس، وأشد الناس اجتهاداً وعبادة، فكرهت لأمير [ صفحه 73] المؤمنين التعرض له، فان الله لا يغير ما بقوم، حتي يغيروا ما بأنفسهم...». ان هذه الرسالة لما وافت عبدالملك عدل عن رأيه في اعتقال الإمام(عليه السلام) ورأي أن الصواب فيما قاله عامله [128] .

الإمام الباقر وتحرير النقد الاسلامي

اشاره

قام الإمام أبو جعفر(عليه السلام) بأسمي خدمة للعالم الاسلامي، فقد حرّر النقد من التبعية للإمبراطورية الرومية، حيث كان النقد يصنع هناك ويحمل شعار الروم النّصاري، وقد جعله الإمام(عليه السلام) مستقلاً بنفسه يحمل الشعار الاسلامي، وقطع الصلة بينه وبين الروم. أما السبب في ذلك فهو أن عبدالملك بن مروان نظر الي قرطاس قد طرز بمصر فأمر بترجمته الي العربية، فترجم له، وقد كتب عليه الشعار المسيحي الأب والابن والروح فأنكر ذلك، وكتب الي عامله علي مصر عبدالعزيز بن مروان بإبطال ذلك وأن يحمل المطرزين للثياب والقراطيس وغيرها علي أن يطرزوها بشعار التوحيد، ويكتبوا عليها «شهد الله أنه لا إله إلاّ هو» وكتب الي عمّاله في جميع الآفاق بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم، ومعاقبة من وجد عنده شيء بعد هذا النهي. وقام المطرزون بكتابة ذلك، فانتشرت في الآفاق، وحملت الي الروم ولما علم ملك الروم بذلك انتفخت أوداجه، واستشاط غيظاً وغضباً فكتب الي عبدالملك أن عمل القراطيس بمصر، وسائر ما يطرز إنما يطرز بطراز الروم الي أن أبطلته، فان كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت [ صفحه 74] قد أصبت فقد أخطأوا، فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك، وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز الي ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الاعلاق حالة أشكرك عليها وتأمر بقبضة الهدية. ولما قرأ عبدالملك الرسالة أعلم الرسول أنه لا جواب له عنده كما رد الهدية، وقفل الرسول راجعاً الي ملك الروم فأخبره الخبر، فضاعف الهدية وكتب إليه ثانياً يطلب باعادة ما نسخه من الشعار، ولما انتهي الرسول الي عبدالملك ردّه، مع هديته، وظل مصمماً علي فكرته، فمضي الرسول الي ملك الروم وعرفه بالأمر، فكتب الي عبدالملك يتهدده ويتوعده وقد جاء في رسالته: «انك قد استخففت بجوابي وهديتي، ولم تسعفني بحاجتي فتوهمتك استقللت الهدية فأضعفتها، فجريت علي سبيلك الأول وقد أضعفتها ثالثة وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز الي ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدنانير والدراهم، فانك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلاّ ما ينقش في بلادي، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام، فينقش عليها شتم نبيّك، فاذا قرأته إرفضّ جبينك عرقاً، فأحب أن تقبل هديتي، وترد الطراز الي ما كان عليه، ويكون فعل ذلك هدية تودني بها، وتبقي الحال بيني وبينك...». ولما قرأ عبدالملك كتابه ضاقت عليه الأرض، وحار كيف يصنع، وراح يقول: أحسبني أشأم مولود في الإسلام، لأني جنيت علي رسول الله(صلي الله عليه وآله) من شتم هذا الكافر، وسيبقي عليَّ هذا العار الي آخر الدنيا فان النقد الذي توعدني به ملك الروم إذا طبع سوف يتناول في جميع أنحاء العالم. وجمع عبدالملك الناس، وعرض عليهم الأمر فلم يجد عند أحد رأياً حاسماً، وأشار عليه روح بن زنباع، فقال له: إنّك لتعلم المخرج من هذا الأمر، [ صفحه 75] ولكنك تتعمد تركه، فأنكر عليه عبدالملك وقال له: ويحك! من؟. فقال له: عليك بالباقر من أهل بيت النبي(صلي الله عليه وآله). فأذعن عبدالملك، وصدقه علي رأيه، وعرفه أنه غاب عليه الأمر، وكتب من فوره الي عامله علي يثرب يأمره بإشخاص الإمام وأن يقوم برعايته والاحتفاء به، وأن يجهزه بمائة ألف درهم، وثلاثمائة ألف درهم لنفقته، ولما انتهي الكتاب الي العامل قام بما عهد اليه، وخرج الإمام من يثرب الي دمشق فلما سار إليها استقبله عبدالملك، واحتفي به وعرض عليه الأمر فقال(عليه السلام): «لا يعظم هذا عليك فإنه ليس بشيء من جهتين: إحداهما ان الله عزّ وجلّ لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم في رسول الله (صلي الله عليه وآله) والاُخري وجود الحيلة فيه». فقال: ماهي؟ قال(عليه السلام): تدعو في هذه الساعة بصناع فيضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير، وتجعل النقش صورة التوحيد وذكر رسول الله(صلي الله عليه وآله) احدهما في وجه الدرهم، والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنّة التي يضرب فيها، وتعمد الي وزن ثلاثين درهماً عدداً من الأصناف الثلاثة الي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعاً واحداً وعشرين مثقالاً، فتجزئها من الثلاثين فيصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل الي زيادة ولا نقصان، فتضرب الدراهم علي وزن عشرة، والدنانير علي وزن سبعة مثاقيل... وأمره بضرب السكة علي هذا اللون في جميع مناطق العالم الاسلامي، وأن يكون التعامل بها، وتلغي السكة الاُولي، ويعاقب بأشد العقوبة [ صفحه 76] من يتعامل بها، وترجع الي المعامل الاسلامية لتصب ثانياً علي الوجه الإسلامي. وامتثل عبدالملك ذلك، فضرب السكة حسبما رآه الإمام(عليه السلام) ولما فهم ملك الروم ذلك سقط ما في يده، وخاب سعيه، وظل التعامل بالسكة التي صممها الإمام(عليه السلام) حتي في زمان العباسيين [129] . وذكر ابن كثير ان الذي قام بهذه العملية الإمام زين العابدين(عليه السلام) [130] ولا مانع من أن يكون الإمام زين العابدين قد نفّذ الخطة بواسطة ابنه محمد الباقر(عليه السلام). وعلي أي حال فان العالم الاسلامي مدين للإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام) بما أسداه إليه من الفضل بإنقاذ نقده من تبعية الروم المسيحيين. ومرض عبدالملك بن مروان مرضه الذي هلك فيه، وعهد بالخلافة من بعده الي ولده الوليد، وأوصاه بالحَجاج خيراً، وقال له: وانظر الحَجّاج فأكرمه، فإنه هو الذي وطّأ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد، ويدك علي من ناواك، فلا تسمعن فيه قول أحد، وأنت إليه أحوج منه إليك. وادع الناس إذا مت الي البيعة، فمن قال برأسه هكذا، فقل: بسيفك هكذا...» [131] . ومثّلت هذه الوصية اندفاعاته نحو الشرّ حتي في الساعة الأخيرة من حياته. وقد سئل عنه الحسن البصري فقال: ما أقول في رجل كان الحجاج سيئة من سيئاته [132] . [ صفحه 77]

الوليد بن عبدالملك

واستولي الوليد بن عبدالملك علي الحكم بعد هلاك أبيه في النصف من شوال سنة (86 هـ) ولم تكن فيه أية صفة من صفات النبل بحيث تؤهله للخلافة، وإنما كان جباراً ظالماً [133] وكان يغلب عليه اللحن، وقد خطب في المسجد النبوي، فقال: يا أهل المدينة ـ بالضم ـ مع أن القاعدة تقتضي نصبه لأنه منادي مضاف. وخطب يوماً فقال: يا ليتها كانت القاضية ـ وضم التاء ـ فقال عمر بن عبدالعزيز: عليك وأراحتنا منك [134] وعاتبه أبوه علي إلحانه، وقال: إنه لا يلي العرب إلا من يحسن كلامهم، فجمع أهل النحو ودخل بيتاً فلم يخرج منه ستة أشهر، ثم خرج منه، وهو أجهل منه يوم دخل [135] . وطعن عمر بن عبدالعزيز في حكومته فقال: إنه ممن امتلأت الأرض به جوراً [136] ويقول المؤرخون: إنه كان كثير النكاح والطلاق إذ يقال: إنه تزوج ثلاثاً وستين امرأة [137] غير الإماء. وفي عهد الوليد قتل الحجاج سعيد بن جبير التابعي صبراً وكان قتله من الأحداث الجسام التي روّع بها العالم الإسلامي. وكانت مدة خلافته تسع سنين وسبعة أشهر، توفي بدير مروان [ صفحه 78] سنة (96 هــ) وكان عمره خمساً وأربعين سنة [138] . ثم بويع سليمان بن عبدالملك بعهد من أبيه بعد هلاك أخيه في جمادي الآخرة سنة (96 هـ) فاستلم الحكم ونكّل بآل الحجاج تنكيلاً فظيعاً، وعهد بتعذيبهم الي عبدالملك بن المهلب [139] وعزل جميع عمّال الحجاج واطلق في يوم واحد من سجنه واحداً وثمانين ألفاً، وأمرهم أن يلحقوا بأهاليهم، ووجد في السجن ثلاثين ألفاً ممن لا ذنب لهم وثلاثين ألف امرأة [140] وكانت هذه من مآثره وألطافه علي الناس. لكنه كان مجحفاً أشد الاجحاف في جباية الخراج فقد كتب الي عامله علي مصر اسامة بن زيد التنوخي رسالة جاء فيها: «احلب الدر حتي ينقطع، واحلب الدم حتي ينصرم». وقدم عليه اسامة بما جباه من الخراج، وقال له: إني ما جئتك حتي نهكت الرعية وجهدت فان رأيت أن ترفق بها وترفه عليها، وتخفف من خراجها ما تقوي به علي عمارة بلادها فافعل فانه يستدرك ذلك في العام المقبل فصاح به سليمان: «هبلتك اُمك احلب الدر، فاذا انقطع فاحلب الدم» [141] . ودلت هذه البادرة علي تجرده من الرحمة والرأفة علي رعيته، فقد أمات الحركة الاقتصادية، وأشاع الفقر والبؤس في البلاد. وكان شديد الاعجاب بنفسه، حتي أ نّه لبس يوماً أفخر ثيابه وراح يقول: أنا الملك الشاب المهاب، الكريم، الوهاب، وتمثلت أمامه إحدي [ صفحه 79] جواريه فقال لها: كيف ترين أمير المؤمنين؟!! فقالت: أراه مني النفس، وقرة العين، لولا ما قال الشاعر... فقال لها: ما قال:؟ قالت: إنه قال: أنت نعم المتاع لو كنت تبقي غير أن لا بقاء للإنسان ليس فيما بدا لنا منك عيب عابه الناس غير أنّك فاني فكانت هذه الأبيات كالصاعقة علي رأسه، فقد تبدد جبروته وإعجابه بنفسه، ولم يمكث إلا زمناً يسيراً حتي هلك [142] وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام، وتوفي يوم الجمعة لعشر ليال بقين من صفر سنة (99 هـ) [143] .

عمر بن عبدالعزيز

ثم تقلّد الحكم الاُموي عمر بن عبدالعزيز بعهد من سليمان بن عبدالملك في يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة (99 هـ) [144] ولمس الناس في عهده القصير الأمن، والرفاه، بشكل نسبي، فقد أزال عنهم شيئاً من جور بني مروان وطغيانهم، وكان محنكاً، قد هذبته التجارب، وقد ساس المسلمين سياسة لم يألفوها ممّن قبله. وكانت لعمر بن عبدالعزيز إنجازات عديدة ميّزته عن سائر الحكّام الاُمويين ويمكن تلخيصها فيما يلي: [ صفحه 80] 1 ـ إدانة سب الإمام علي(عليه السلام) ولعنه: كانت الحكومة الاُموية منذ تأسيسها قد تبنت بصورة جادّة سب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وانتقاصه، فان معاوية كان يري ان هذا السبّ هو السبب في بقاء دولتهم وسلطانهم [145] ، لأن مبادئ الإمام(عليه السلام) كانت تطاردهم وتفتح أبواب النضال الشعبي ضد سياستهم القائمة علي الظلم والجور والطغيان فكان لابدّ من إسقاط شخصيّته، واعتباره. وقد أدرك عمر بن عبدالعزيز أن السياسة التي انتهجها آباؤه ضد الإمام(عليه السلام) لم تكن حكيمة ولا رشيدة، فقد جرّت للاُمويين الكثير من المصاعب والمشاكل، وألقتهم في شر عظيم، فعزم علي أن يمحو هذه الخطيئة، فأصدر أوامره الحاسمة الي جميع أنحاء العالم الاسلامي بترك سبّ عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وأن يُقرأ عوض السب قوله تعالي: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وايتاء ذي القربي). وقد علّل عمر نفسه السبب في تركه لما سنّه آباؤه من انتقاص الإمام بقوله: كان أبي إذا خطب فنال من علي تلجلج، فقلت: يا أبت إنك تمضي في خطبتك فاذا أتيت علي ذكر علي عرفت منك تقصيراً، قال: أوفطنت لذلك؟ قلت: نعم، فقال: يا بني إن الذين حولنا لو يعلمون من عليٍّ ما نعلم تفرّقوا عنّا الي أولاده. فلما ولي عمر الخلافة لم يكن عنده من الرغبة في الدنيا مثل إبطال ظاهرة سب الإمام [146] . وقد أثارت هذه المكرمة إعجاب الجميع، وأخذ الناس يتحدثون عنه [ صفحه 81] بأطيب الحديث ويذكرون شجاعته النادرة في مخالفته لسلفه الطغاة البغاة. 2 ـ صلته للعلويين: جهدت الحكومة الاُموية منذ تأسيسها علي حرمان أهل البيت(عليهم السلام) من حقوقهم وإشاعة الفاقة في بيوتهم، حتي عانوا الفقر والحرمان، ولكن لما ولي الحكم عمر بن عبدالعزيز أجزل لهم العطاء فقد كتب الي عامله علي يثرب أن يقسم فيهم عشرة آلاف دينار، فأجابه عامله: ان علياً قد ولد له في عدة قبائل من قريش، ففي أي ولده؟ فكتب اليه: إذا أتاك كتابي هذا، فاقسم في ولد علي من فاطمة رضوان الله عليهم عشرة آلاف دينار، فطالما تخطّتهم حقوقه» [147] وكانت هذه أول صلة تصلهم أيام الحكم الاُموي. 3 ـ رد فدك: رد عمر فدكاً الي العلويين بعد أن صودرت منهم، واخذت تتعاقب عليها الأيدي، وتتناهب الرجال وارداتها، وآل النبيّ(صلي الله عليه وآله) قد حرموا منها، وقد روي ردّه لها بصور متعددة منها: ألف: إن عمر بن عبدالعزيز زار مدينة النبي(صلي الله عليه وآله) وأمر مناديه أن ينادي: من كانت له مظلمة أو ظلامة فليحضر. فقصده الإمام أبو جعفر(عليه السلام) فقام إليه عمر تكريماً واحتفي به فقال الإمام(عليه السلام) له: «إنما الدنيا سوق من الأسواق يبتاع فيها الناس ما ينفعهم وما يضرهم، وكم قوم ابتاعوا ما ضرّهم، فلم يصبحوا حتي أتاهم الموت فخرجوا من الدنيا ملومين لما لم يأخذوا ما ينفعهم في الآخرة، فقسم ما جمعوا لمن لم يحمدهم وصاروا الي من لا يعذرهم، فنحن والله حقيقون أن ننظر الي تلك الأعمال التي نتخوف عليهم منها، فنكف عنها، واتق الله، واجعل في نفسك اثنتين، انظر الي ما تحب أن يكون معك إذا قدمت علي ربك فقدمه بين يديك، وانظر الي ما تكره معك إذا قدمت علي ربك فارمه وراءك، ولا ترغبن في سلعة [ صفحه 82] بارت علي من كان قبلك، فترجو أن يجوز عنك، وافتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانصف المظلوم، ورد الظالم، ثلاثة من كن فيه استكمل الايمان بالله من إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، ومن إذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، ومن اذا قدر لم يتناول ما ليس له...» [148] . ولما سمع عمر كلام الإمام(عليه السلام) أمر بدواة وبياض، وكتب بعد البسملة: «هذا ما رد عمر بن عبدالعزيز ظلامة محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بفدك». ب ـ إنه لما ولي الخلافة أحضر قريشاً ووجوه الناس، فقال لهم: إن فدكاً كانت بيد رسول الله(صلي الله عليه وآله)، فكان يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر كذلك، ثم عمر كذلك، ثم أقطعها مروان [149] ثم انها صارت إلي، ولم تكن من مالي أعود علي، وإني أشهدكم أني قد رددتها علي ما كانت عليه في عهد رسول الله(صلي الله عليه وآله) [150] . وليس في هذه الرواية أنه ردها الي العلويين، وإنما وضعها حيث كان رسول الله(صلي الله عليه وآله) يضعها ومن المعلوم أن رسول الله أقطعها الي بضعته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(عليها السلام) وتصرفت بها في حياة رسول الله(صلي الله عليه وآله) ولكن القوم رغبوا في مصادرتها لمصالح سياسية دعتهم الي ذلك. ج ـ إن عمر بن عبدالعزيز لما أعلن رد فدك إلي العلويين نقم عليه بنواُمية فقالوا له: نقمت علي الشيخين ـ يعني أبا بكر وعمر ـ فعلهما وطعنت عليهما، ونسبتهما الي الظلم، فقال: قد صح عندي وعندكم أن فاطمة بنت رسول الله(صلي الله عليه وآله) ادعت فدكاً، وكانت في يدها، وما كانت لتكذب علي [ صفحه 83] رسول الله(صلي الله عليه وآله) مع شهادة علي، واُم أيمن واُم سلمة، وفاطمة عندي صادقة فيما تدعي، وإن لم تقم البيّنة وهي سيدة نساء الجنة، فأنا اليوم أردها علي ورثتها أتقرب بذلك الي رسول الله(صلي الله عليه وآله) وأرجو أن تكون فاطمة والحسن والحسين يشفعون لي يوم القيامة، ولو كنت بدل أبي بكر وادعت فاطمة(عليها السلام) كنت أصدقها علي دعوتها، ثم سلمها الي الإمام الباقر(عليه السلام) [151] .

الإمام محمد الباقر وعمر بن عبدالعزيز

اشاره

وكانت للإمام أبي جعفر(عليه السلام) عدة مواقف مع عمر بن عبدالعزيز: منها: تنبؤ الإمام بخلافة عمر: وأخبر الإمام(عليه السلام) بخلافة عمر بن عبدالعزيز وذلك قبل أن تصير إليه الخلافة. قال أبو بصير: كنت مع الإمام أبي جعفر(عليه السلام) في المسجد إذ دخل عمر بن عبدالعزيز، وعليه ثوبان ممصّران متكياً علي مولي له، فقال(عليه السلام): ليلينّ هذا الغلام، فيظهر العدل [152] إلا أنه قدح في ولايته من جهة وجود من هو أولي منه بالحكم. ومنها: وصاياه لعمر حين الخلافة: ولما ولي عمر بن عبدالعزيز الخلافة كرّم الإمام أبا جعفر(عليه السلام) وعظّمه وأرسل خلفه فنون بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، وكان من عُبّاد أهل الكوفة، فاستجاب له الإمام(عليه السلام) وسافر الي دمشق، فاستقبله عمر استقبالاً رائعاً، واحتفي به، وجرت بينهما أحاديث، وبقي الإمام أياماً في ضيافته ولما أراد الإمام الانصراف الي يثرب خف الي توديعه فجاء الي البلاط الاُموي وعرّف الحاجب بأمره فأخبر عمر بذلك، فخرج رسوله فنادي أين أبو جعفر ليدخل، فاشفق الإمام أن يدخل خشية أن لا يكون هو، فقفل الحاجب الي عمر وأخبره بعدم حضور الإمام، فقال له: كيف قلت؟ قال: قلت: أين [ صفحه 84] أبو جعفر؟ فقال له: اخرج وقل: أين محمد بن علي؟ ففعل ذلك، فقام الإمام(عليه السلام)، ودخل عليه وحدّثه ثم قال له: إني أريد الوداع، فقال له عمر: أوصني. فقال(عليه السلام): «اُوصيك بتقوي الله، واتخذ الكبير أباً، والصغير ولداً والرجل أخاً...». وبهر عمر من وصية الإمام وراح يقول باعجاب: «جمعت لنا والله، ما إن أخذنا به، وأماتنا الله عليه استقام لنا الخير». وخرج الإمام من عنده، ولما أراد الرحيل بادره رسول عمر فقال له: إن عمر يريد أن يأتيك. فانتظره الإمام حتي أقبل فجلس بين يدي الإمام مبالغة في تكريمه وتعظيمه، ثم انصرف عنه [153] . ومنها: تقريظه لعمر: ونقلت مباحث الاُمويين الي عمر أن الإمام أبا جعفر(عليه السلام) هو بقية أهله العظماء الذين رفعوا راية الحق والعدل في الأرض، وقد أراد عمر أن يختبره فكتب اليه، فأجابه الإمام(عليه السلام) برسالة فيها موعظة ونصيحة له، فقال عمر: اخرجوا كتابه الي سليمان. فاخرج كتابه، فوجده يقرّظه، ويمدحه، فأنفذه الي عامله علي المدينة، وأمره أن يعرضه عليه مع كتابه الي عمر، ويسجّل ما يقوله الإمام(عليه السلام). وعرضه العامل علي الإمام فقال(عليه السلام): إن سليمان كان جباراً كتبت اليه ما يكتب الي الجبارين، وان صاحبك أظهر أمراً، وكتبت اليه بما شاكله. وكتب العامل هذه الكلمات الي عمر فلما قرأها أظهر إعجابه بالإمام(عليه السلام)، وراح يقول: «إنّ أهل هذا البيت لا يخلّيهم الله من فضل...» [154] . ووجهت لعمر بن عبدالعزيز بعض المؤاخذات رغم جميع مآثره: [ صفحه 85] منها: أنه أقرّ القطائع التي أقطعها من سبقه من أهل بيته، وهي من دون شك كانت بغير وجه مشروع. ومنها: أن عمّاله وولاته علي الأقطار والأقاليم الاسلامية قد جهدوا في ظلم الناس وابتزاز أموالهم. حتّي أنّ عمر كان يخطب علي المنبر فانبري إليه رجل فقطع عليه خطابه، وقال له: إن الذين بعثت في أقطارها نبذوا كتابك واستحل المحرم طلس الثياب علي منابر أرضنا كل يجور وكلهم يتظلم وأردت أن يلي الأمانة منهم عدل وهيهات الأمين المسلم [155] . ومنها: أنه أقر العطاء الذي كان للأشراف، فلم يغيره في حين أنه كان يتنافي مع المبادئ الإسلامية التي ألزمت بالمساواة بين المسلمين، وألغت التمايز بينهم. ومنها: أنه زاد في عطاء أهل الشام عشرة دنانير، ولم يفعل مثل ذلك في أهل العراق [156] ولا وجه لهذا التمييز الذي يتصادم مع روح الإسلام. وألمت الأمراض بعمر بن عبدالعزيز، وقالوا: إنه امتنع من التداوي فقيل له: لو تداويت؟ فقال: لو كان دوائي في مسح أذني ما مسحتها، نعم المذهوب اليه ربي [157] . وتنص بعض المصادر علي أنّه سقي السم من قبل الاُمويين لأنهم علموا أنه إن امتدت أيامه فسوف يخرج الأمر منهم، ولا يعهد بالخلافة إلا لمن [ صفحه 86] يصلح لها فعاجلوه [158] وتوفي في دير سمعان في شهر رجب [159] سنة (101 هـ).

يزيد بن عبدالملك

واستولي يزيد بن عبدالملك علي الحكم بعهد من أخيه سليمان، وأقام أربعين يوماً يسير بين الناس بسياسة عمر بن عبدالعزيز، فشق ذلك علي بني اُمية، فأتوه بأربعين شيخاً فشهدوا بأنه ليس علي الخلفاء حساب ولا عقاب [160] فعدل عن سياسة عمر، وساس الناس سياسة عنف وجبروت، وعمد الي عزل جميع ولاة عمر، وكتب مرسوماً الي عماله جاء فيه: «أما بعد فإنّ عمر بن عبدالعزيز كان مغروراً، فدعوا ما كنتم تعرفون من عهده، وأعيدوا الناس الي طبقتهم الاُولي، أخصبوا أم أجدبوا، أحبوا أم كرهوا، حيوا أم ماتوا...» [161] . وعاد الظلم علي الناس بأبشع صوره وألوانه، وانتشر الجور، وعم الطغيان جميع أنحاء البلاد. لقد كان يزيد بن عبدالملك جاهلاً، حقوداً علي أهل العلم، حتي أنّه كان يحتقر العلماء، ويسمي الحسن البصري بالشيخ الجاهل [162] كما كان مسرفاً في اللهو والمجون حتي هام بحب حبابة، وقد ثمل يوماً، فقال: دعوني أطير، فقالت حبابة: علي من تدع الاُمة؟ قال: عليك. وخرجت معه الي الأردن يتنزهان فرماها بحبة عنب فدخلت حلقها فشرقت، ومرضت، وماتت فتركها [ صفحه 87] ثلاثة أيام لم يدفنها حتي أنتنت، وهو يشمها، ويقبلها، وينظر إليها ويبكي، فكلم في أمرها حتي أذن في دفنها، وعاد الي مقره كئيباً حزيناً [163] . وله أخبار كثيرة مخزية في الدعارة واللهو أعرضنا عن ذكرها، وهلك سنة (105 هـ).

هشام بن عبدالملك

استولي هشام بن عبدالملك علي الحكم في اليوم الذي هلك فيه أخوه يزيد لخمس بقين من شوال وهو المعروف بأحول بني اُمية وكان حقوداً علي ذوي الاحساب العريقة، ومبغضاً لكل شريف. ومن مظاهر بخله انه كان يقول: ضع الدرهم علي الدرهم يكون مالاً [164] وقد جمع من المال ما لم يجمعه خليفة قبله [165] . وقال: ما ندمت علي شيء ندامتي علي ما أهب، إن الخلافة تحتاج الي الأموال كاحتياج المريض الي الدواء [166] . ودخل الي بستان له فيها فاكهة فجعل أصحابه يأكلون من ثمرها، فأوعز الي غلامه بقلع الأشجار وزراعة الزيتون لئلا يأكل منه أحد [167] . ووصفه اليعقوبي بأنه بخيل فظ ظلوم شديد القسوة، وهو الذي قتل زيد ابن علي، وتعرض الإمام أبو جعفر(عليه السلام) في عهده الي ضروب من المحن والآلام والتي كان من بينها ما يلي: [ صفحه 88]

حمل الإمام الباقرالي دمشق واعتقاله

لقد أمر الطاغية هشام عاملَه علي المدينة بحمل الإمام الي دمشق وقد روي المؤرخون في ذلك روايتين: الرواية الاُولي: ان الإمام(عليه السلام) لما انتهي الي دمشق، وعلم هشام بقدومه أوعز الي حاشيته أن يقابلوا الإمام بمزيد من التوهين والتوبيخ عندما ينتهي حديثه معه. ودخل الإمام(عليه السلام) علي هشام فسلم علي القوم ولم يسلم عليه بالخلافة، فاستشاط هشام غضباً، وأقبل علي الإمام(عليه السلام) فقال له: «يا محمد بن علي لا يزال الرجل منكم قد شق عصا المسلمين، ودعا الي نفسه، وزعم أنه الإمام سفهاً وقلة علم...». ثمّ سكت هشام فأنبري عملاؤه وجعلوا ينالون من الإمام ويسخرون منه. وهنا تكلّم الإمام(عليه السلام) فقال: «أيها الناس: أين تذهبون؟ وأين يراد بكم؟ بنا هدي الله أولكم وبنا يختم آخركم، فان يكن لكم ملك معجّل، فان لنا ملكاً مؤجلاً، وليس بعد ملكنا ملك، لأنا أهل العاقبة، والعاقبة للمتقين...» [168] . وخرج الإمام بعد أن ملأ نفوسهم حزناً وأسي، ولم يستطعيوا الرد علي منطقه القويّ. وازدحم أهل الشام علي الإمام(عليه السلام) وهم يقولون: هذا ابن ابي تراب، فرأي الإمام أن يهديهم الي سواء السبيل، ويعرفهم بحقيقة أهل البيت، فقام [ صفحه 89] فيهم خطيباً، فحمد الله واثني عليه، وصلي علي رسول الله ثم قال: اجتنبوا أهل الشقاق، وذرية النفاق، وحشو النار، وحصب جهنم عن البدر الزاهر، والبحر الزاخر، والشهاب الثاقب، وشهاب المؤمنين، والصراط المستقيم، من قبل أن نطمس وجوهاً فنردّها علي أدبارها أو يلعنوا كما لعن أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولاً... ثم قال بعد كلام له: أبِصِنْوِ رسول الله(صلي الله عليه وآله) ـ يعني الإمام أمير المؤمنين ـ تستهزئون؟ أم بيعسوب الدين تلمزون؟ وأي سبيل بعده تسلكون؟! وأيّ حزن بعده تدفعون؟ هيهات برز ـ والله ـ بالسبق وفاز بالخصل واستولي علي الغاية، وأحرز علي الختار [169] فانحسرت عنه الأبصار، وخضعت دونه الرقاب، وفرع الذروة العليا، فكذب من رام من نفسه السعي، وأعياه الطلب، فأنّي لهم التناوش [170] من مكان بعيد؟! ثم قال: فأنّي يسدّ ثلمة أخي رسول الله(صلي الله عليه وآله) اذ شفعوا، وشقيقه إذ نسبوا وندّ يده إذ قتلوا، وذي قرني كنزها إذ فتحوا، ومصلي القبلتين إذ تحرفوا، والمشهود له بالإيمان إذ كفروا، والمدعي لنبذ عهد المشركين إذ نكلوا والخليفة علي المهاد ليلة الحصار إذ جزعوا، والمستودع الاسرار ساعة الوداع...» [171] . ولمّا ذاع فضل الإمام بين أهل الشام، أمر الطاغية باعتقاله وسجنه. وحين احتف به السجناء وأخذوا يتلقون من علومه وآدابه، خشي مدير السجن من الفتنة فبادر الي هشام فأخبره بذلك فأمره بإخراجه من السجن، وإرجاعه إلي بلده [172] . الرواية الثانية: وهي التي رواها لوط بن يحيي الأسدي عن عمارة بن زيد [ صفحه 90] الواقدي حيث قال: حج هشام بن عبدالملك بن مروان سنة من السنين [173] ، وكان قد حج فيها الإمام محمّد بن علي الباقر وابنه الإمام جعفر الصادق(عليهما السلام) فقال جعفر أمام حشد من الناس فيهم مسلمة بن عبدالملك: «الحمد لله الذي بعث محمداً بالحق نبيّاً، وأكرمنا به، فنحن صفوة الله علي خلقه، وخيرته من عباده، فالسعيد من تبعنا، والشقي من عادانا وخالفنا...». وبادر مسلمة بن عبدالملك الي أخيه هشام فأخبره، بمقالة الإمام الصادق(عليه السلام) فأسرّها هشام في نفسه، ولم يتعرض للإمامين بسوء في الحجاز إلا أنه لما قفل راجعاً الي دمشق أمر عامله علي يثرب بإشخاصهما إليه ولما انتهيا الي دمشق حجبهما ثلاثة أيام، ولم يسمح لهما بمقابلته استهانة بهما، وفي اليوم الرابع أذن لهما في مقابلته، وكان مجلساً مكتظاً بالاُمويين وسائر حاشيته، وقد نصب ندماؤه برجاساً [174] وأشياخ بني اُمية يرمونه. يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «فلما دخلنا، كان أبي أمامي وأنا خلفه» فنادي هشام: «يا محمد ارم مع أشياخ قومك». فقال أبي: «قد كبرت عن الرمي، فإن رأيت أن تعفيني». فصاح هشام: «وحقّ من أعزّنا بدينه، ونبيّه محمّد لا أعفيك...». وظن الطاغية أن الإمام سوف يخفق في رمايته فيتخذ ذلك وسيلة للحط من شأنه أمام الغوغاء من أهل الشام، وأومأ الي شيخ من بني اُمية أن يناول الإمام(عليه السلام) قوسه. فناوله، وتناول معه سهماً فوضعه في كبد القوس، ورمي به الغرض فأصاب وسطه، ثم تناول سهماً فرمي به فشق السهم الأول الي نصله. [ صفحه 91] وتابع الإمام الرمي حتي شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض، ولم يحصل بعض ذلك لأعظم رام في العالم. وأخذ هشام يضطرب من الغيظ، وورم أنفه، فلم يتمالك أن صاح: «يا أبا جعفر أنت أرمي العرب والعجم!! وزعمت أنك قد كبرت!!» ثم ادركته الندامة علي تقريظه للإمام، فأطرق برأسه الي الأرض والإمام واقف. ولما طال وقوفه غضب(عليه السلام) وبان ذلك علي سحنات وجهه الشريف. وكان إذا غضب نظر الي السماء. ولمّا بصر هشام غضب الإمام قام إليه واعتنقه، وأجلسه عن يمينه، وأقبل عليه بوجهه قائلاً: «يا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش، مادام فيها مثلك. لله درك!! مَن علّمك هذا الرمي؟ وفي كم تعلّمته؟ أيرمي جعفر مثل رميك؟...». فقال أبو جعفر(عليه السلام): «إنا لنحن نتوارث الكمال». وثار الطاغية، واحمرّ وجهه، وهو يتميز من الغيظ، وأطرق برأسه الي الأرض، ثم رفع رأسه، وراح يقول: «ألسنا بنو عبدمناف نسبنا ونسبكم واحد؟». ورد عليه الإمام مزاعمه قائلاً: «نحن كذلك، ولكن الله اختصنا من مكنون سرّه، وخالص علمه بما لم يخص به أحداً غيرنا». وطفق هشام قائلاً: «أليس الله بعث محمداً(صلي الله عليه وآله) من شجرة عبدمناف الي الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها، فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم؟ ورسول الله مبعوث الي الناس كافة، وذلك قول الله عزّ وجل: (ولله ميراث السموات والأرض)؟ فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمّد نبيّ، ولا أنتم أنبياء؟!» وردّ عليه الإمام ببالغ الحجة قائلاً: من قوله تعالي لنبيّه(لا تحرك به لسانك [ صفحه 92] لتعجل به) فالذي لم يحرك به لسانه لغيرنا أمره الله تعالي أن يخصنا به من دون غيرنا، فلذلك كان يناجي أخاه علياً من دون أصحابه، وأنزل الله به قرآنا في قوله: (وتعيها اُذن واعية) فقال رسول الله: سألت الله أن يجعلها اُذنك يا علي، فلذلك قال علي: علّمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب، خصّه به النبي من مكنون سرّه، كما خصّ الله نبيّه، وعلّمه ما لم يخص به أحداً من قومه، حتي صار إلينا فتوارثناه من دون أهلنا». والتاع هشام من هذا الجواب، فالتفت الي الإمام ـ وهو غضبان ـ قائلاً: إنَّ عليّاً كان يدّعي علم الغيب والله لم يطلع علي غيبه أحداً، فكيف ادّعي ذلك؟ ومن أين؟ فأجابه الإمام قائلاً: «إن الله أنزل علي نبيّه كتاباً بين دفتيه فيه ما كان وما يكون الي يوم القيامة في قوله تعالي: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) وفي قوله تعالي: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) وفي قوله تعالي: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)وفي قوله تعالي: (وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين) وأوحي الله الي نبيّه أن لا يبقي في عيبة سرّه، ومكنون علمه شيئاً إلاّ يناجي به عليّاً، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده، ويتولّي غسله وتحنيطه من دون قومه، وقال لأصحابه: حرام علي أصحابي وقومي أن ينظروا الي عورتي غير أخي علي، فانه مني، وأنا منه، له ما لي، وعليه ما عليّ، وهو قاضي ديني، ومنجز موعدي، ثم قال لأصحابه: علي بن أبي طالب يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وعامّه إلا عند علي، ولذلك قال رسول الله: «أقضاكم علي» أي هو قاضيكم، وقال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر، يشهد له عمر ويجحده غيره!». وأطرق هشام برأسه الي الأرض، ولم يجد منفذاً يسلك فيه للرد علي الإمام، فقال له: «سل حاجتك». قال الإمام(عليه السلام): «خلّفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي». [ صفحه 93] قال هشام: آنس الله وحشتهم برجوعك إليهم، فلا تقم وسر من يومك» [175] . وهذه الرواية لم تشر الي ما جري علي الإمام من الاعتقال في دمشق، ولكنها تشير الي خروج الإمام من المدينة في حالة غير طبيعية بحيث استوحش أهله من خروجه.

الإمام الباقر مع قسيس نصراني

والتقي الإمام أبو جعفر(عليه السلام) في الشام مع قسيس من كبار علماء النصاري جرت بينهما مناظرة اعترف القسيس فيها بعجزه، وعدم استطاعته علي محاججة الإمام ومناظرته. قال أبو بصير: قال أبو جعفر(عليه السلام): مررت بالشام، وأنا متوجه الي بعض خلفاء بني اُمية فاذا قوم يمرون، قلت: أين تريدون؟ قالوا: الي عالم لم نر مثله، يخبرنا بمصلحة شأننا، قال(عليه السلام): فتبعتهم حتي دخلوا بهواً عظيماً فيه خلق كثير، فلم ألبث أن خرج شيخ كبير متوكئ علي رجلين، قد سقطت حاجباه علي عينيه، وقد شدهما فلما استقرّ به المجلس نظر اليّ وقال: منا أنت أم من الاُمة المرحومة؟ قلت: من الاُمة المرحومة. فقال: أمن علمائها أو من جهّالها؟ [ صفحه 94] قلت: لست من جهّالها. فقال: أنتم الذين تزعمون أنكم تذهبون الي الجنة فتأكلون وتشربون ولا تُحْدِثون؟!! قلت: نعم. فقال: هات علي هذا برهاناً. فقلت: نعم، الجنين يأكل في بطن اُمه من طعامها، ويشرب من شرابها، ولا يُحْدِث. فقال: ألست زعمت أنك ليست من علمائها؟ قلت: لست من جهّالها. فقال: أخبرني عن ساعة ليست من النهار، ولا من الليل. فقلت: هذه ساعة من طلوع الشمس، لا نعدها من ليلنا، ولا من نهارنا وفيها تفيق المرضي. وبهر القسيس، وراح يقول للإمام: ألست زعمت أنك لست من علمائها؟! فقلت: إنما قلت: لست من جهّالها. فقال: والله لأسألنك عن مسألة ترتطم فيها. فقلت: هات ما عندك. فقال: أخبرني عن رجلين ولدا في ساعدة واحدة، وماتا في ساعة واحدة؟ عاش أحدهما مائة وخمسين سنة، وعاش الآخر خمسين سنة؟ فقلت: ذاك عزير وعزرة، ولدا في يوم واحد، ولما بلغا مبلغ الرجال مرّ عزير علي حماره بقرية وهي خاوية علي عروشها، فقال: أنّي يحيي الله هذه بعد موتها، وكان الله قد اصطفاه وهداه، فلمّا قال ذلك غضب الله عليه وأماته مائة عام ثم بعثه، فقيل له: كم لبثت؟ قال: يوماً أو بعض يوم. وعاش الآخر مائة وخمسين عاماً، وقبضه الله وأخاه في يوم واحد. وصاح القسيس بأصحابه، والله لا اُكلّمكم، ولا ترون لي وجهاً اثني عشر شهراً [176] ، حيث توهم أنهم تعمّدوا إدخال الإمام أبي جعفر(عليه السلام) عليه لإفحامه وفضحه، فنهض الإمام أبو جعفر(عليه السلام) وأخذت أندية الشام تتحدث عن وفور فضله، وعن قدراته العلمية. [ صفحه 95]

محاولة اغتيال الإمام الباقر

وهنا أمر الطاغية بمغادرة الإمام أبي جعفر(عليه السلام) لمدينة دمشق خوفاً من أن يفتتن الناس به، وينقلب الرأي العام ضد بني اُمية، ولكنه أوعز الي أسواق المدن والمحلات التجارية الواقعة في الطريق أن تغلق محلاتها بوجهه، ولا تبيع عليه أية بضاعة، وأراد بذلك هلاك الإمام(عليه السلام) والقضاء عليه. وسارت قافلة الإمام(عليه السلام) وقد أضناها الجوع والعطش فاجتازت علي بعض المدن فبادر أهلها الي إغلاق محلاتهم بوجه الإمام، ولما رأي الإمام ذلك صعد علي جبل هناك، ورفع صوته قائلاً: «يا أهل المدينة الظالم أهلها أنا بقية الله، يقول الله تعالي: (بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين - وما أنا عليكم بحفيظ). وما أنهي الإمام هذه الكلمات حتي بادر شيخ من شيوخ المدينة فنادي أهل قريته قائلاً: «يا قوم هذه والله دعوة شعيب، والله لئن لن تخرجوا الي هذا الرجل بالأسواق لتؤخذنّ من فوقكم، ومن تحت أرجلكم فصدّقوني هذه المرة، وأطيعوني، وكذبوني فيما تستأنفون فاني ناصح لكم...». وفزع أهل القرية فاستجابوا لدعوة الشيخ الذي نصحهم، ففتحوا حوانيتهم واشتري الإمام ما يريده من المتاع [177] وفسدت مكيدة الطاغية وما دبّره للإمام(عليه السلام) وقد انتهت إليه الأنباء بفشل مؤامرته. ولم يقف عند هذا الحد فقد أخذ يطلب له الغوائل حتي دسّ اليه السم القاتل، كما سنذكر ذلك فيما بعد. [ صفحه 96]

اهم ملامح عصر الإمام محمد الباقر

1 ـ في الفترة الواقعة بين سنة (95 هـ ـ 97 هـ) وفي بداية تصدّي الإمام محمد الباقر (عليه السلام) للامامة كان الحاكم الاُموي: الوليدُ بن عبد الملك قد بدأ باتخاذ بعض الاساليب لامتصاص النقمة الشعبية التي خلقتها السياسة الارهابية التي انتهجها السفّاك الأثيم الحجّاج بن يوسف وبعض الولاة الآخرين [178] . 2 ـ تصدّعت الجبهة الداخلية للبيت الاُموي المرواني، ودبّ الخلاف بين الوليد وأخيه سليمان، حيث أراد الوليد خلعه ومبايعة ابنه عبد العزيز، فأبي عليه سليمان، ولم يجبه للبيعة جميع الولاة باستثناء الحجّاج وقتيبة بن مسلم وبعض الخواصّ من الناس، فعزم الوليد علي السير إليه ليخلعه بالقوّة فمات قبل ذلك [179] . 3 ـ وفي بداية حكومة سليمان بن عبد الملك انشغل سليمان بمتابعة ولاة الوليد وعزلهم عن مناصبهم [180] وحاول إصلاح بعض الاوضاع المتردّية تقرباً إلي الناس، فأطلق المعتقلين وفكَّ الأسري [181] . 4 ـ كانت الدولة محاطة بجملة من المخاطر من الداخل والخارج [182] فانشغل الحكّام والولاة عن ملاحقة أو محاصرة الإمام الباقر (عليه السلام) خوفاً من [ صفحه 97] قاعدته الشعبية العريضة والمتنامية فتصدي (عليه السلام) للإمامة وقام بأداء دوره الاصلاحي والتغييري في أوساط الاُمة الاسلامية، بعيداً عن المواجهة السياسية العلنية للنظام القائم.

مظاهر الانحراف في عصر الإمام الباقر

اشاره

إن إقصاء أهل البيت (عليهم السلام) عن موقع القيادة وإمامة المسلمين أدّي الي الانحراف في جميع مجالات الحياة، وترك تأثيره السلبي علي جميع مقومات الشخصية، في الفكر والعاطفة والسلوك، فعمّ الانحراف الدولة والاُمة معاً، كما عمّ التصورات والمبادئ، والموازين والقيم، والأوضاع والتقاليد، والعلاقات والممارسات العملية جميعاً. نعم تغلغل الانحراف في ميدان النفس، وميدان الحياة الاجتماعية، وتحوّل الإسلام الي طقوس ميتة لا تمتّ الي الواقع بصلة، خلافاً لأهداف الإسلام الذي جاء من أجل تقرير المنهج الإلهي في الحياة. فانحسر عن الكثير من تلك المجالات ليصبح علاقة فرديّة بين الإنسان وخالقه فحسب.

الانحراف الفكري والعقائدي

ازداد الانحراف في عهود الملوك المتعاقبين علي الحكم، وكان للافكار والعقائد نصيبها الاكبر من هذا الانحراف، ولم يكترث الحكّام بهذا الانحراف بل شجّعوا عليه; لأنه كان يخدم مصالح الحكم القائم، ويشغل المسلمين عن همومهم الأساسية وبخاصة التفكير في مجال تغيير الاوضاع وإعادتها الي ما كانت عليه في عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله) وعهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام). فكثرت في عهد الاُمويين الانحرافات الفكرية والعقائدية وتعدّدت [ صفحه 98] وتعاظمت، وأصبح لها أتباع وأنصار، وتحولت الي تيارات وكيانات خالف الكثير منها الاُسس الواضحة للعقيدة الاسلامية، وابتدعوا ما لا يجوز من الاُمور المخالفة للقرآن الكريم وللسنة النبوية، فانتشرت أفكار الجبر والتفويض والإرجاء، كما انتشرت أفكار التجسيم وتشبيه الله تعالي بخلقه، وكثرت الشبهات حول ثوابت العقيدة، وكثر الحديث حول ماهية الله تعالي وذاته، وتنوّعت تيّارات الغلوّ، حتي زعم البعض حلول الذات الإلهية في قوم من الصالحين، وقالوا بالتناسخ، وانتشرت الزندقة، فجحدوا البعث والنشور، وأسقطوا الثواب والعقاب وزُوِّرت الأحاديث والروايات واختُلِق كثير منها; لدعم التسلط الاُموي، كما راج اختلاق الفضائل لصالح المنحرفين من الصحابة، وطرحت نظرية عدالة جميع من صحب رسول الله (صلي الله عليه وآله) أو رآه أو ولد في عهده، بينما منعوا ـ من جانب آخر ـ من نشر فضائل أهل البيت(عليهم السلام). وكان للحكّام دور كبير في تشجيع هذا الانحراف المتمثّل في اختلاق النصوص وقد وصف الإمام علي بن موسي الرضا (عليه السلام) ذلك قائلاً: «إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها علي ثلاثة أقسام: أحدها: الغلو. وثانيها: التقصير في أمرنا. وثالثها: التصريح بمثالب أعدائنا» [183] . وانتشرت ظاهرة الإفتاء بالرأي، وراج القياس في الأحكام والتفسير بالرأي لآيات القرآن المجيد، كما انتشرت أفكار التصوّف والاعتزال عن الحياة، وفصل الدين عن السياسة. وأشغل الحكّام كثيراً من الناس بالجدل في المسائل العقلية التي لا فائدة فيها، وشجّعوا علي اقامة مجالس المناظرة والجدل العقيم في ذات الله تعالي وفي الملائكة، وفي قدم القرآن أو حدوثه. [ صفحه 99] وهكذا كان للحكّام دور كبير في خلق المذاهب المنحرفة والتشجيع عليها، لا سيّما بعض المذاهب التي كانت تحمل شعار الانتساب الي أهل البيت (عليهم السلام) كالكيسانية لغرض شق صفوف أتباع أهل البيت (عليهم السلام) الذين كانوا يستهدفون الواقع السياسي المنحرف.

الانحراف السياسي

اتّبع الحكّام الاُمويون سياسة من سبقهم في تحويل الخلافة الي ملك يتوارثه الأبناء عن الآباء دون سابقة علم أو تقوي، وتوزيع المناصب المهمّة والحسّاسة في الدولة علي ابنائهم واقربائهم والمتملقين لهم، واستبدوا بالأمر فلا شوري ولا استشارة إلاّ مع المنحرفين والفسّاق من بطانتهم. ولشعورهم بعدم الاحقيّة بالخلافة استمروا علي نهج من سبقهم في اتخاذ الارهاب والتنكيل وسيلة لتثبيت سلطانهم، فحينما وجد الوليد بن عبد الملك أنّ ولاية عمر بن عبد العزيز علي مكة والمدينة قد أصبحت ملجأً للهاربين من ظلم بقية الولاة، قام بعزله [184] تنكيلاً منه بالمعارضين وارهابهم وغلق منافذ السلامة أمامهم. وكان سليمان بن عبدالملك محاطاً بثُلّة من الرجال الذين عرفوا بفسقهم وانحرافهم وسوء سيرتهم كما وصفهم أعرابيّ عنده، بعد أن أخذ منه الأمان، فقال له: يا أمير المؤمنين، انه قد تكنّفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياهم بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، حرب للآخرة وسلم للدنيا، فلا تأمنهم علي ما يأمنك الله عليه، فإنّهم لم يأتوا إلاّ ما فيه تضييع وللاُمة خسف وعسف، وأنت مسؤول عما اجترموا، [ صفحه 100] وليسوا مسؤولين عمّا اجترمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك [185] . واتّبع ابناء عبد الملك الوليد وسليمان سيرة أبيهم، والتزموا بوصيته في قتل الرافضين للبيعة، والتي جاء فيها: ادع الناس الي البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا [186] . وأقرّ كثير من الفقهاء سياسة الحكّام الأمويين خوفاً أو طمعاً أو استسلاماً للأمر الواقع، فقد أقرّوا ما ابتدعوا من ممارسات في تولية الحكم كالعهد الي اثنين أو أكثر، فقد عهد سليمان بالحكم الي عمر بن عبد العزيز ومن بعده ليزيد بن عبد الملك، فأقرّ كثير من الفقهاء ذلك، حتي أصبحت نظرية من نظريات تولّي الحكم [187] . وحينما تولّي عمر بن عبد العزيز الحكم حدث انفراج نسبي في السياسة الاُموية، كما لاحظنا، وقام ببعض الاصلاحات ومنح الحرية النسبية للمعارضين، وألغي بدعة سبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وردّ الي أهل البيت (عليهم السلام) بعض حقوقهم، واعترف بالممارسات الخاطئة لأسلافه من الحكّام، حتي امتدحه الإمام الباقر (عليه السلام) علي ذلك [188] . ولكن حكمه لم يدم طويلاً ; إذ عاد الوضع الي ما كان عليه. وامتازت هذه المرحلة بسرعة تبدّل الحكّام، فقد حكم سليمان ثلاث سنين، وحكم عمر بن عبد العزيز ثلاث سنين أو أقل، وحكم يزيد بن عبد الملك أربع سنين، وكان كل حاكم ينشغل بالإجهاز علي ولاة من سبقه، وكثرت الاختلافات في داخل البيت الاُموي تنافساً علي الحكم، كما كثرت [ صفحه 101] الفتن الداخلية في عهدهم، حتي قام قتيبة بن مسلم بخلع سليمان والاستقلال في خراسان [189] . وقام يزيد بن المهلب في سنة (101 هـ) بخلع يزيد بن عبد الملك وجهّز اليه يزيد من قتله وقتل أتباعه. وأحاط يزيد نفسه بالمتملّقين الذين يبررون له انحرافاته حتي افتوا له انه ليس علي الخلفاء حساب [190] . وهكذا كانت الاُمة الاسلامية محاطة بالمخاطر من كل جانب، ففي سنة (104 هـ) ظفر الخزر بالمسلمين وانتصروا عليهم في بعض الثغور. وفي عهد هشام بن عبد الملك ازداد الارهاب والتنكيل بأهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم وسائر المعارضين، حتي اجترأ هشام بن عبدالملك علي سجن الإمام الباقر (عليه السلام) وأقدم علي اغتياله [191] وأصدر أوامره بقتل بعض أتباع الإمام الباقر (عليه السلام) إلاّ أنّ الإمام استطاع أن ينقذهم من القتل [192] . والتجأ الكثير الي العمل السرّي للإطاحة بالحكم الاُموي، فكان العباسيون يعدّون العدّة ويبثون دعاتهم في الاقاليم البعيدة عن مركز الحكومة وخصوصاً في خراسان، وأخذ زيد ابن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يعدّ العدّة للثورة علي الاُمويين في وقتها المناسب، لأنّ الاُمويين كانوا قد أحصوا انفاس الناس عليهم لكي لا يتطرقوا إلي انحرافاتهم السياسية أو يعلنوا عن معارضتهم لها. [ صفحه 102]

الانحراف الاخلاقي

لقد حوّل الاُمويون الانظار الي الغزوات، وحشّدوا جميع الطاقات البشريّة والمادّية باتجاه الغزوات; وذلك من أجل إشغال المسلمين عن التحدّث حول الاوضاع المنحرفة، وعن التفكير في العمل السياسي أو الثوري لاستبدال نظام الحكم بغيره، ولم يكن هدفهم نشر مفاهيم وقيم الإسلام كما يتصوّر البعض ذلك، لأنّهم كانوا قد خالفوا هذه المفاهيم والقيم في سياستهم الداخلية، وداسوا كثيراً من المقدسات الاسلامية، وشجّعوا علي الانحرافات الفكرية. وأدّي توسّع عمليات الفتح والغزو الي خلق الاضطرابات في المجتمع الإسلامي وتشتيت الاُسر بغياب المعيل أو فقدانه، كما كثرت الجواري والغلمان ممّا أدّي الي التشجيع علي الانحراف باقتناء الأثرياء للجواري المغنّيات وتملك المخنثين، وانتقل الانحراف من البلاط الي الاُمّة تبعاً لانحراف الحكّام وفسقهم، فقد انشغلوا باللهو والانسياق وراء الشهوات دون حدود أو قيود حتي كثر الغزل والتشبيب بالنساء في عهد الوليد بن عبد الملك بشكل خاص [193] . وكانت همّة سليمان بن عبد الملك في النساء، وانعكس ذلك علي المجتمع حتي كان الرجل يلقي صاحبه فيقول له: كم تزوجت؟ وماذا عندك من السراري؟ [194] . وقد وصف أبو حازم الاعرج الوضع الاجتماعي والاخلاقي مجيباً سليمان بن عبد الملك علي سؤاله: ما لنا نكره الموت؟ بقوله: لأنكم عمّرتم [ صفحه 103] دنياكم وأخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران الي الخراب [195] . وكان سليمان يسابق بين المغنيين ويمنح السابقين الجوائز الثمينة [196] ، ويجزل العطاء للمغنيات. كما ازداد عدد المخنثين في عهده [197] . وأقبل يزيد بن عبد الملك علي شرب الخمر واللهو [198] ، ولم يتب من الشراب الاّ اسبوعاً حتي عاد اليه بتأثير من جاريته حبّابة [199] . وكان يقول: ما يقرّ عيني ما أوتيت من أمر الخلافة حتي اشتري سلامة وحبّابة فارسل من يشتريهما له [200] . وهكذا وصل الانحراف الي ذروته، حينما أصبح اللهو والمجون من اُولي هموم حكّام الدولة. وليس غريباً أن تنحرف الاُمة بانحراف حكامها وولاتهم وأجهزة الدولة، وبهذا الانحراف كانت تبتعد الاغلبية من الناس عن الاهداف الكبري التي حددها المنهج الاسلامي، ولا تكترث بالاحداث والمخاطر المحيطة بالوجود الاسلامي.

الانحراف في الميدان الاقتصادي

لقد تصرّف الحكّام بالأموال العامّة وكأنّها ملك شخصي لهم، فكانوا ينفقونها حسب رغباتهم واهوائهم، علي ملذاتهم وشهواتهم وكان للجواري والمغنيين نصيب كبير في بيت المال، كما كانوا ينفقون الأموال لشراء الذمم [ صفحه 104] والضمائر، ويمنحونها لمن يشترك في تثبيت سلطانهم أو مدحهم والثناء عليهم، فقد مدح النابغة الشيباني يزيد بن عبد الملك فأمر له بمائة ناقة، وكساه وأجزل صلته [201] . فتنافس الشعراء فيما بينهم للحصول علي مزيد من الأموال كما تنافس المغنّون لنيل الهدايا من الحكام أو ولاتهم. وكان الحكّام يعيشون في أعلي مراتب الترف والبذخ، ويبذّرون أموال المسلمين علي لهوهم وشهواتهم، وعلي المقربين لهم، في وقت كان كثير من الناس يعيشون حياة الفقر والجوع والحرمان. وازداد التمييز الطبقي حينما عُطِّل مبدأ التكافل الاجتماعي، ولم تكترث الدولة بمعاناة الناس وهمومهم ولم تتدخل في الحث علي الانفاق. وقد ضاعف الحكّام من الضرائب، فاضافوا ضرائب جديدة علي الصناعات والحرف وخصوصاً في عهد هشام بن عبد الملك، الذي كان ينفق ما تجمّع لديه علي الشعراء المادحين له [202] . وقد وصف سليمان بن عبد الملك حالات الترف والمجون التي وصلوا اليها قائلاً: قد أكلنا الطيب، ولبسنا اللين، وركبنا الفاره، ولم يبق لي لذة إلاّ صديق أطرح معه فيما بيني وبينه مؤنة التحفظ [203] . وهكذا انساق الناس ـ وخصوصاً ـ أتباع الاُمويين وراء شهواتهم ورغباتهم، وانشغل الكثير في السعي للحصول علي الأموال بأي وجه أمكن. [ صفحه 105]

دور الإمام محمد الباقر في اصلاح الواقع الفاسد

اشاره

علي الرغم من انحراف الحكّام وأجهزتهم الادارية والسياسية عن المبادئ الثابتة التي أرسي دعائمها القرآن الكريم والسنّة النبويّة; إلاّ أنّ القاعدة الفكرية والتشريعية للدولة بقيت متبنّاةً من قبل الحاكم وأجهزته في مظاهرها العامة، وعلي ضوء ذلك فإنّ دور الإمام (عليه السلام) كان دوراً اصلاحيّاً لإعادة الحاكم وأجهزته وإعادة الاُمة إلي الاستقامة في العقيدة والشريعة، وجعل الإسلام بمفاهيمه وقيمه هو الحاكم علي الأفكار والعواطف والمواقف. وكان اسلوب الإمام (عليه السلام) الاصلاحي متفاوتاً تبعاً لتفاوت الظروف التي كانت تحيط به، وبالحكم القائم، وبالاُمة المسلمة. لقد كان الإمام (عليه السلام) مقصد العلماء من كل بلاد العالم الاسلامي. وما زار المدينة أحد إلاّ عرّج علي بيته يأخذ من فضائله وعلومه، وكان يقصده كبار رجالات الفقه الاسلامي: كسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وأبي حنيفة. وكان دوره (عليه السلام) في الاصلاح يتركّز علي اتجاهين متزامنين: الاتجاه الأول: التحرك في أوساط الاُمة وعموم الناس، بما فيهم المسلمون وأصحاب الديانات الاُخري، فضلاً عن التحرك علي الحكّام وأجهزتهم لإعادتهم الي خطّ الاستقامة أو الحدّ من انحرافاتهم [ صفحه 106] وحصرها في نطاق محدود. الاتجاه الثاني: بناء الجماعة الصالحة لتقوم بدورها في إصلاح الأوضاع العامة للاُمة وللدولة طبقاً للاُسس والقواعد الثابتة التي أرسي دعائمها أهل البيت (عليهم السلام) بما ينسجم مع القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة.

محاور الحركة الإصلاحية العامة للإمام الباقر

الاصلاح الفكري والعقائدي

اشاره

من الأزمات التي خلّفتها سيرة الحكّام السابقين هي أزمة ارتباك المفاهيم وما رافقها من تقليد وسطحية في الفكر، فلم تتجلّ حقيقة التصور الاسلامي عند الكثير من المسلمين لكثرة التيارات الهدّامة ونشاطها في تحريف المفاهيم السليمة وتزييف الحقائق، فكان دور الإمام (عليه السلام) هو حمل النفوس علي التمحيص لتمييز ماهو أصيل من العقيدة عمّا هو زيف، وعلي تحكيم الأفكار والمفاهيم الأصيلة في عالم الضمير وعالم السلوك علي حد سواء، والاستقامة علي المنهج الذي يريده الله تعالي للإنسان. وقد مارس الإمام (عليه السلام) عدة نشاطات لإصلاح الأفكار والعقائد، نشير الي أهمّها كما يلي:

الرد علي الافكار والعقائد الهدامة والمذاهب المنحرفة

وجد المنحرفون لأفكارهم وعقائدهم الهدّامة أوساطاً تتقبّلها وتروّج لها ـ جهلاً أو طمعاً أو تآمراً علي الإسلام الخالد ـ وفي عهد الإمام الباقر(عليه السلام) نشطت حركة الغلاة بقيادة المغيرة بن سعيد العجلي. روي علي بن محمد النوفلي أن المغيرة استأذن علي أبي جعفر(عليه السلام) [ صفحه 107] وقال له: أخبر الناس أ نّي أعلم الغيب، وأنا أطعمك العراق، فزجره الإمام (عليه السلام) زجراً شديداً وأسمعه ما كره فانصرف عنه، ثم أتي أبا هاشم عبدالله بن محمد ابن الحنفية فقال له مثل ذلك، فوثب عليه، فضربه ضرباً شديداً أشرف به علي الموت، فلمّا برئ أتي الكوفة وكان مشعبذاً فدعا الناس الي آرائه واستغواهم فاتّبعه خلق كثير [204] . واستمرّ الإمام (عليه السلام) في محاصرة المغيرة والتحذير منه وكان يلعنه أمام الناس ويقول: «لعن الله المغيرة بن سعيد كان يكذب علينا» [205] . ولعن (عليه السلام) بقية رؤساء الغلاة ومنهم بنان التبّان، فقال: «لعن الله بنان التبّان، وان بناناً لعنه الله كان يكذب علي أبي» [206] . وكان (عليه السلام) يحذّر المسلمين وخصوصاً أنصار أهل البيت (عليهم السلام) من افكار الغلو، ويرشدهم الي الاعتقاد السليم، بقوله: «لا تضعوا عليّاً دون ما وضعه الله، ولا ترفعوه فوق ما رفعه الله» [207] . وكان (عليه السلام) يخاطب أنصاره قائلاً: «يا معشر الشيعة شيعة آل محمد كونوا النمرقة الوسطي: يرجع اليكم الغالي، ويلحق بكم التالي» [208] . وحذّر (عليه السلام) من المرجئة ولعنهم حين قال: «اللهمّ العن المرجئة فإنهم أعداؤنا في الدنيا والآخرة» [209] . وكان (عليه السلام) يحذّرمن افكارالمفوضةوالمجبرة. ومن اقواله في ذلك: «إيّاك [ صفحه 108] أن تقول بالتفويض! فإنّ الله عزّ وجلّ لم يفوّض الأمر الي خلقه وهناً وضعفاً، ولا أجبرهم علي معاصيه ظلماً» [210] . وفي عرض هذا الردّ القاطع الصريح كان الإمام(عليه السلام) يبيّن الافكار السليمة حول التوحيد لكي تتعرف الاُمة علي عقيدتها السليمة. وكان ممّا ركّز عليه الإمام(عليه السلام) في هذا المجال بيان مقومات التوحيد ونفي التشبيه والتجسيم لله تعالي. قال (عليه السلام): «يا ذا الذي كان قبل كل شيء، ثم خلق كل شيء، ثم يبقي ويفني كلّ شيء، ويا ذا الذي ليس في السموات العلي ولا في الارضين السفلي، ولا فوقهنّ، ولا بينهنّ ولا تحتهنّ إله يعبد غيره» [211] . وفي جوابه (عليه السلام) للسائلين عن جواز القول بأنّ الله موجود، قال: «نعم، تخرجه من الحدّين: حدّ الابطال، وحدّ التشبيه» [212] . وقال (عليه السلام): «ان ربّي تبارك وتعالي كان لم يزل حيّاً بلا كيف، ولم يكن له كان، ولا كان لكونه كيف، ولا كان له أين، ولا كان في شيء، ولا كان علي شيء، ولا ابتدع له مكاناً» [213] . كما ركّز الإمام الباقر(عليه السلام) علي العبودية الخالصة لله ونهي عن الممارسات التي تتضمّن الشرك بالله تعالي. قال (عليه السلام): «لو انّ عبداً عمل عملاً يطلب به وجه الله عزّ جلّ والدار الآخرة، فأدخل فيه رضي أحد من الناس كان مشركاً» [214] . [ صفحه 109] كما دعا الي الانقطاع الكامل لله تعالي بقوله: «لا يكون العبد عابداً لله حق عبادته; حتي ينقطع عن الخلق كلّه اليه» [215] . ونهي الإمام(عليه السلام) عن التكلم في ذات الله تعالي، وذلك لأنّ الإنسان المحدود لا يحيط بغير المحدود فلا ينفعه البحث عن الذات اللامحدودة إلاّ بُعداً، ومن هنا كان التكلم عن ذاته تعالي عبثاً لا جدوي وراءه، فنهي (عليه السلام) عن ذلك، وحذّر منه بقوله: «ان الناس لا يزال لهم المنطق، حتي يتكلموا في الله، فاذا سمعتم ذلك فقولوا: لا اله إلاّ الله الواحد الذي ليس كمثله شيء» [216] . وممّا ركّز عليه الإمام الباقر(عليه السلام) الردع من اتّباع المذاهب المنحرفة والأفكار الهدّامة هو بيان عاقبة أهل الشبهات والأهواء والبدع، واستهدف الإمام(عليه السلام) من التركيز علي عاقبة المنحرفين فكرياً وعقائدياً إبعاد المسلمين عن التأثر بهم، وإزالة حالة الاُنس والاُلفة بينهم وبين الأفكار والعقائد المنحرفة. قال (عليه السلام) في تفسير قوله تعالي: (هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً): هم النصاري والقسيسون والرهبان وأهل الشبهات والأهواء من أهل القبلة والحرورية وأهل البدع [217] .

الحوار مع المذاهب والرموز المنحرفة

يعتبر الحوار احدي الوسائل التي تقع في طريق اصلاح الناس، حيث تزعزع المناظرة الهادفة والحوار السليم الأفكار والمفاهيم المنحرفة. [ صفحه 110] من هنا قام الإمام (عليه السلام) بمحاورة بعض رؤوس المخالفين، لتأثيرهم الكبير علي أتباعهم لو صلحوا واستقاموا علي الحقّ. وإليك بعض مناظراته: مع علماء النصاري: حينما أخرج هشام بن عبد الملك الإمام (عليه السلام) من المدينة الي الشام كان(عليه السلام) يجلس مع أهل الشام في مجالسهم، فبينا هو جالس وعنده جماعة من الناس يسألونه، اذ نظر الي النصاري يدخلون في جبل هناك، فسأل عن حالهم، فأُخبر انهم يأتون عالماً لهم في كل سنة في هذا اليوم يسألون عمّا يريدون وعمّا يكون في عامهم، وقد أدرك هذا العالم أصحاب الحوارييّن من اصحاب عيسي (عليه السلام)، فقال الإمام (عليه السلام): فهلمّ نذهب إليه؟ فذهب (عليه السلام) الي مكانهم، فقال له النصراني: اسألك أو تسألني؟ قال (عليه السلام): تسألني، فسأله عن مسائل عديدة حول الوقت، وحول أهل الجنّة، وحول عزرة وعزير، فأجابه (عليه السلام) عن كل مسألة. فقال النصراني: يا معشر النصاري ما رأيت أحداً قطّ أعلم من هذا الرجل لا تسألوني عن حرف وهذا بالشام ردّوني فردّوه الي كهفه، ورجع النصاري مع الإمام (عليه السلام). وفي رواية: انّه أسلم وأسلم معه أصحابه علي يد الإمام (عليه السلام) [218] . مع هشام بن عبد الملك: ناظره هشام بن عبد الملك في مسائل متنوعة تتعلق بمقامات أهل البيت (عليهم السلام)، وميراثهم لعلم رسول الله (صلي الله عليه وآله)، وادعاء الإمام علي (عليه السلام) علم الغيب، فأجابه الإمام (عليه السلام) عن مسائله المتنوعة وناظره في اثبات مقامات أهل البيت (عليهم السلام) مستشهداً بالآيات القرآنية والاحاديث [ صفحه 111] الشريفة، فلم يستطع هشام ان يردّ عليه، وناظره في مواضع اُخري، فقال له هشام: (اعطني عهد الله وميثاقه ألاّ ترفع هذا الحديث الي أحد ما حييت)، قال الإمام الصادق (عليه السلام): فأعطاه أبي من ذلك ما أرضاه [219] . وقد ذكرنا تفصيل المناظرتين في بحث سابق فراجع [220] . مع الحسن البصري: قال له الحسن البصري: جئت لأسألك عن أشياء من كتاب الله تعالي. وبعد حوار قصير قال له (عليه السلام): بلغني عنك أمر فما أدري أكذاك أنت؟ أم يُكذب عليك؟ قال الحسن: ما هو؟ قال (عليه السلام): زعموا أنّك تقول: إنَّ الله خلق العباد ففوّض اليهم اُمورهم. فسكت الحسن... ثمّ وضّح له الإمام (عليه السلام) بطلان القول بالتفويض وحذّره قائلاً: وإيّاك أن تقول بالتفويض، فإنّ الله عز وجل لم يفوّض الأمر إلي خلقه، وهناً منه وضعفاً، ولا أجبرهم علي معاصيه ظلماً [221] . وله (عليه السلام) مناظرات مع محمد بن المنكدر ـ من مشاهير زهاد ذلك العصر ـ ومع نافع بن الأزرق أحد رؤساء الخوارج، ومع عبد الله بن معمر الليثي، ومع قتادة بن دعامة البصري [222] واحتجاجات لا يتحمّل شرحها هذا المختصر. [ صفحه 112]

ادانة فقهاء البلاط

جاء قتادة بن دعامة البصري الي الإمام (عليه السلام) وقد هيّأ له أربعين مسألة ليمتحنه بها، فقال له (عليه السلام): أنت فقيه أهل البصرة؟ قال قتادة: نعم، فقال (عليه السلام): «ويحك يا قتادة انّ الله عزّ وجل خلق خلقاً، فجعلهم حججاً علي خلقه، فهم أوتاد في أرضه، قوّام بأمره، نجباء في علمه اصطفاهم قبل خلقه»، فسكت قتادة طويلاً، ثم قال: أصلحك الله، والله لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدّام أحد منهم ما اضطرب قدّامك [223] . وأدان الإمام الباقر(عليه السلام) أبا حنيفة لقوله بالقياس، وعلّق الاُستاذ محمد أبو زهرة علي هذه الإدانة قائلاً: تتبيّن إمامة الباقر للعلماء، يحاسبهم علي ما يبدو منهم، وكأنّه الرئيس يحاكم مرؤوسيه ليحملهم علي الجادة، وهم يقبلون طائعين تلك الرئاسة [224] .

الدعوة الي أخذ الفكر من مصادره النقية

لقد حذّر الإمام (عليه السلام) الناس من الوقوع في شراك الافكار والآراء والعقائد المنحرفة، وحذّر من البدع وجعلها أحد مصاديق الشرك فقال: «أدني الشرك أن يبتدع الرجل رأياً فيُحَبّ عليه ويبغَض» [225] . كما حذّر من الإفتاء بالرأي فقال: «من أفتي الناس بغير علم ولا هوي من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه» [226] . [ صفحه 113] ومن هنا كان يدعو الناس الي اخذ العلم والفكر من منابعه النقية وهم أهل البيت المعصومون من كل زيغ وانحراف. قال(عليه السلام) لسلمة بن كهيل وللحكم بن عتيبة: «شرّقا وغرِّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ شيئاً خرج من عندنا» [227] . وكان يحذّر من مجالسة أصحاب الخصومات ويقول: «لا تجالسوا أصحاب الخصومات، فإنهم يخوضون في آيات الله» [228] . كما كان يشجع علي ذكر مقامات أهل البيت (عليهم السلام) وفضائلهم فإنّها من أسباب نشر الحق والفضيلة، فعن سعد الاسكاف، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): اني اجلس فأقصّ، واذكر حقكم وفضلكم. فقال (عليه السلام): «وددت انّ علي كل ثلاثين ذراعاً قاصّاً مثلك» [229] .

نشر علوم أهل البيت

لقد فتح الإمام (عليه السلام) أبواب مدرسته العلمية لعامة أبناء الاُمة الإسلامية، حتي وفد اليها طلاب العلم من مختلف البقاع الإسلامية، وأخذ عنه العلم عدد كبير من المسلمين بشتي اتّجاهاتهم وميولهم، منهم: عطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، والزهري، وربيعة الرأي، وابن جريج، والاوزاعي، وبسام الصيرفي [230] ، وأبو حنيفة وغيرهم [231] . وفي ذلك قال عبد الله بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً [ صفحه 114] منهم عند أبي جعفر، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه متعلم [232] . وكانت أحاديثه مسندة عن آبائه عن رسول الله (صلي الله عليه وآله)، كما كان يرسل الحديث ولا يسنده. وحينما سئل عن ذلك، قال: إذا حدّثت بالحديث فلم اسنده، فسندي فيه أبي زين العابدين عن أبيه الحسين الشهيد عن أبيه علي بن أبي طالب عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) عن جبرئيل عن الله عزّ وجلّ [233] .

تأسيس المدرسة الفقهية النموذجية

اشاره

راجع حياة الإمام محمد الباقر (عليه السلام)، باقر شريف القرشي 1 / 215 ـ 226. لقد جهد الإمام الباقر وولده الصادق (عليهما السلام) علي نشر الفقه الاسلامي وتبنّيا نشره بصورة إيجابية في وقت كان المجتمع الاسلامي غارقاً في الأحداث والاضطرابات السياسية، حيث أهملت الحكومات في تلك العصور الشؤون الدينية إهمالاً تاماً، حتي لم تعد الشعوب الاسلامية تفقه من أمور دينها القليل ولا الكثير، يقول الدكتور علي حسن: «وقد أدي تتبعنا للنصوص التأريخية إلي امثلة كثيرة تدل علي هذه الظاهرة ـ أي اهمال الشؤون الدينية ـ التي كانت تسود القرن الأول سواء لدي الحكام أو العلماء أو الشعب، ونعني بها عدم المعرفة بشؤون الدين، والتأرجح وعدم الجزم والقطع فيها حتي في العبادات، فمن ذلك ما روي أن ابن عباس خطب في آخر شهر رمضان علي منبر البصرة فقال: اخرجوا صدقة صومكم فكان الناس لم يعلموا، فقال: من ها هنا من أهل المدينة؟ فقوموا إلي إخوانكم فعلموهم، فإنهم لا يعلمون فرض رسول الله(صلي الله عليه وآله) [234] . [ صفحه 115] فأهل البلاد الاسلامية لم يعرفوا شؤون دينهم معرفة كافية، وقد كان يوجد في بلاد الشام من لا يعرف عدد الصلوات المفروضة، حتي راحوا يسألون الصحابة عن ذلك [235] . إن الدور المشرق الذي قام به الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) في نشر الفقه وبيان أحكام شريعة الله كان من اعظم الخدمات التي قدّماها للعالم الاسلامي. وسعي إلي الأخذ من علومهما أبناء الصحابة والتابعون، ورؤساء المذاهب الاسلامية كأبي حنيفة ومالك وغيرهما، وتخرج علي يد الإمام أبي جعفر(عليه السلام) جمهرة كبيرة من الفقهاء كزرارة بن اعين، ومحمد بن مسلم وابان ابن تغلب، وإليهم يرجع الفضل في تدوين أحاديث الإمام (عليه السلام) وقد أصبحوا من مراجع الفتيا بين المسلمين، وبذلك أعاد الإمام أبو جعفر (عليه السلام) للإسلام نضارته وحافظ علي ثرواته الدينية من الضياع والضمور. ومن الجدير بالذكر أن الشيعة هم أول من سبق إلي تدوين الفقه. فقد قال مصطفي عبد الرازق: «ومن المعقول أن يكون النزوع إلي تدوين الفقه كان أسرع إلي الشيعة لأن اعتقادهم العصمة في أئمتهم أو ما يشبه العصمة كان حرياً إلي تدوين أقضيتهم وفتاواهم» [236] . وبذلك فقد ساهمت الشيعة في بناء الصرح الاسلامي، وحافظت علي أهم ثرواته... ولابد لنا من وقفة قصيرة للنظر في فقه أهل البيت (عليهم السلام) الذي هو مستمد من الرسول الاعظم (صلي الله عليه وآله). [ صفحه 116]

مميزات مدرسة أهل البيت الفقهيّة

1 ـ الاتصال بالنبي (صلي الله عليه وآله): والشيء المهم في فقه أهل البيت (عليهم السلام) هو أنه يتصل اتصالاً مباشراً بالنبي (صلي الله عليه وآله) فطريقه إليه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وجعلهم النبي (صلي الله عليه وآله) سفن النجاة، وأمن العباد، وعدلاء الذكر الحكيم حسبما تواترت الاخبار بذلك. قال(عليه السلام): «لو إننا حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من قبلنا، ولكنا حدثنا ببينة من ربنا بينها لنبيه(صلي الله عليه وآله) فبينها لنا» [237] . 2 ـ المرونة: إن فقه أهل البيت يساير الحياة، ويواكب التطور، ولا يشذ عن الفطرة ويتمشي مع جميع متطلبات الحياة، فليس فيه ـ والحمد لله ـ حرج ولا ضيق، ولا ضرر، ولا إضرار، وإنما فيه الصالح العام، والتوازن في جميع مناحي تشريعاته، وقد نال اعجاب جميع رجال القانون، واعترفوا بأنه من أثري ما قنن في عالم التشريع عمقاً وأصالة وإبداعاً. 3 ـ فتح باب الاجتهاد: إنّ من أهم ما تميز به فقه أهل البيت (عليهم السلام) هو فتح باب الاجتهاد، فقد دلّ ذلك علي حيوية فقه أهل البيت، وتفاعله مع الحياة واستمراره في العطاء لجميع شؤون الانسان، وإنه لا يقف مكتوفاً أمام الاحداث المستجدة التي يبتلي بها الناس خصوصاً في هذا العصر الذي برزت فيه كثير من الأحداث واستحدثت فيه كثير من الموضوعات، وقد أدرك كبار علماء المسلمين من الأزهر مدي الحاجة الملحّة إلي فتح باب الاجتهاد، ومتابعة الشيعة الإمامية في هذه الناحية. [ صفحه 117] قال السيد رشيد رضا: «ولا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما، وأ مّا مضارّه فكثيرة، وكلها ترجع إلي إهمال العقل، وقطع طريق العلم، والحرمان من استغلال الفكر، وقد أهمل المسلمون كل علم بترك الاجتهاد، فصاروا إلي ما نري» [238] . 4 ـ الرجوع الي حكم العقل: انفرد فقهاء الامامية عن بقية المذاهب الاسلامية فجعلوا العقل واحداً من المصادر الأربعة لاستنباط الاحكام الشرعية، وقد أضفوا عليه أسمي ألوان التقديس فاعتبروه رسول الله الباطني، وإنه مما يُعبَد به الرحمن، ويكتَسب به الجنان. ومن الطبيعي ان الرجوع إلي حكم العقل إنّما يجوز إذا لم يكن في المسألة نص خاص أو عام وإلا فهو حاكم عليه، وإن للعقل مسرحاً كبيراً في علم الاصول الذي يتوقف عليه الاجتهاد.

الاصلاح السياسي

اشاره

استثمر الإمام (عليه السلام) بعض ظروف الانفراج السياسي النسبي من أجل بناء وتوسعة القاعدة الشعبية، وتسليحها بالفكر السياسي السليم المنسجم مع رؤية أهل البيت (عليهم السلام)، وتعبئة الطاقات لاتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب، ولهذا لم تنطلق أي ثورة علوية في عهده، لعدم اكتمال شروطها من حيث العدة والعدد. وكان الإمام (عليه السلام) يقدّم للاُمة المفاهيم والافكار السياسية الأساسية مع الحيطة والحذر; وكانت له مواقف سياسية صريحة من بعض الحكام لإعادتهم الي جادة الصواب. [ صفحه 118] وقد تجلّي دوره الاصلاحي في الممارسات التالية:

الدعوة الي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحرّران الانسان والمجتمع من الوان الانحراف في الفكر والعاطفة والسلوك، ويحوّلان المفاهيم والقيم الاسلامية الثابتة الي ممارسات سلوكية واضحة المعالم، تترجم فيها الآراء والنصوص الي مشاعر وعواطف وأعمال وحركات وعلاقات متجسدة في الواقع لكي تكون الاُمة والدولة بمستوي المسؤولية في الحياة، والمسؤولية هي حمل الأمانة الإلهية وخلافة الله تعالي في الأرض. ومن هنا جاءت تأكيدات الإمام (عليه السلام) علي هذه الفريضة التي جعلها شاملة لجميع مرافق الحياة الانسانية حيث قال: «ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصالحين، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض، وينتصف من الاعداء ويستقيم الأمر، فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم...» [239] . وحذّر (عليه السلام) من مغبّة التخليّ عن المسؤولية، ومداهنة المنحرفين حكّاماً كانوا أم من سائر أفراد الأمة فقال: «أوحي الله تعالي الي شعيب النبي (عليه السلام) إنّي لمعذّب من قومك مائة ألف: أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم، فقال: يا ربّ هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ فأوحي الله عز وجل إليه: إنهم داهنوا أهل المعاصي، ولم يغضبوا لغضبي» [240] . وحث (عليه السلام) علي هذه المسؤولية وبيّن آثار التخلي عنها فقال: «الأمر [ صفحه 119] بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله عزّ وجلّ، فمن نصرهما أعزّه الله، ومن خذلهما خذله الله عز وجل» [241] .

نشر المفاهيم السياسية السليمة

وجّه الإمام (عليه السلام) الأنظار الي دور أهل البيت (عليهم السلام) في قيادة الاُمة، وتوجيهها نحو الاستقامة والرشاد فقال: «نحن ولاة أمر الله وخزائن علم الله، وورثة وحي الله، وحملة كتاب الله، طاعتنا فريضة، وحبّنا إيمان، وبغضنا كفر، محبّنا في الجنة، ومبغضنا في النار» [242] . وحذّر الاُمة من الابتعاد عن نهج أهل البيت (عليهم السلام) فقال (عليه السلام): «برئ الله ممن يبرأ منّا، لعن الله من لعننا، أهلك الله من عادانا» [243] . وحثّ (عليه السلام) علي نصرتهم فقال: «من أعاننا بلسانه علي عدوّنا أنطقه الله بحجته يوم موقفه بين يديه عزّ وجلّ» [244] . ووضّح (عليه السلام) حدود الموالاة لهم، وبيّن المعيار لمعرفة الموالاة والموالين في حالة التباس المفاهيم واختلاط المعايير، فقال: «أمّا محبتنا، فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذهب بالنّار لا كدر فيه، من أراد أن يعلم حبّنا، فليمتحن قلبه فإن شاركه في حبّنا حبّ عدوِّنا، فليس منّا ولسنا منه» [245] . وأ كّد علي انّ طرق تولّي الإمام لمنصب الامامة منحصرة بالنصّ والوصية، ولا عبرة بما هو الشائع من البيعة والعهد والغلبة، ومما جاء في ذلك قوله (عليه السلام): «كل من دان الله عزّ وجلّ بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير [ صفحه 120] مقبول، وهو ضالّ متحيّر، والله شانئ لأعماله...» [246] . وبيّن مواصفات الإمام لكي تتمكن الاُمة من التمييز والتشخيص في خضم الاحداث التي حُرِّفت فيها المفاهيم وزُوِّرت فيها الحقائق فقال (عليه السلام): «ان الإمامة لا تصلح الاّ لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن المحارم، وحلم يملك به غضبه، وحسن الخلافة علي من ولي، حتي يكون له كالوالد الرحيم» [247] . ورسم قاعدة كلية في أساسيات حقوق وواجبات الإمام تجاه الاُمة، لكي تدرك الاُمة مدي قرب وبعد الحكّام عن أداء مسؤوليتهم، فقال (عليه السلام): «حقّه عليهم أن يسمعوا ويطيعوا... وحقهم عليه: يقسم بينهم بالسوية ويعدل في الرعيّة» [248] . وفي خضم الاحداث الصاخبة وما طرأ من تشويه وتدليس في الحقائق، بيّن (عليه السلام) المفهوم الحقيقي للتشيع، لكي لا يعطي مبرّراً للحكّام الاُمويين لتشويه سمعة أنصار أهل البيت (عليهم السلام) في المحافل المختلفة، واستغلال بعض السلبيات للطعن في مفاهيم الولاء والتولي، فقال (عليه السلام): «فوالله ما شيعتنا الاّ من اتقي الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون الاّ بالتواضع، والتخشع، والامانة، وكثرة ذكر الله، والصوم، والصلاة، والبر بالوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة، والغارمين، والأيتام، وصدق الحديث وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس الاّ من خير، وكانوا اُمناء عشائرهم في الأشياء» [249] . والتشيّع ليس ادعاءً بل هو ممارسة عملية محسوسة في الواقع، والشيعي هو مثال التديّن والاخلاص والطّاعة لله تعالي. ولم يكتف الإمام الباقر(عليه السلام) ببيان المظاهر الخارجية لمن ينتسب [ صفحه 121] لمدرسة أهل البيت(عليهم السلام) وإنّما تعدّي ذلك الي مجموعة من المعالم الفريدة لشيعتهم، فقال (عليه السلام): «انّما شيعة علي (عليه السلام) الشاحبون الناحلون الذابلون، ذابلة شفاههم، خميصة بطونهم، متغيّرة ألوانهم، مصفرّة وجوههم، إذا جنّهم الليل اتّخذوا الأرض فراشاً، واستقبلوا الأرض بجباههم، كثير سجودهم، كثيرة دموعهم، كثير دعاؤهم، كثير بكاؤهم، يفرح الناس وهم محزونون» [250] .

فضح الواقع الاموي

كشف الإمام (عليه السلام) حقيقة الحكم الاُموي وكيفية وصوله الي الحكم، وما مارسه من أعمال لإدامة السيطرة علي رقاب المسلمين، ووضّح الجرائم التي ارتكبها سلف هؤلاء الحكّام في حق أهل البيت (عليهم السلام) وأنصارهم، فبعد أن بيّن ملابسات الخلافة، وكيفية الاستحواذ عليها وإقصاء أهل البيت (عليهم السلام) عن موقعهم فيها، قال: «... وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن (عليه السلام) فَقُتِلَتْ شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل علي الظنّة، وكان من يذكر بحبّنا والانقطاع الينا سُجِن أو نُهِبَ ماله، أو هُدِمَت داره، ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد الي زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (عليه السلام) ثم جاء الحجّاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظنٍّ وتهمة، حتي أنّ الرجل ليقال له: زنديق أو كافر، أحبُّ اليه من أن يقال: شيعة عليّ، وحتي صار الرجل الذي يذكر بالخير ـ ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة، من تفضيل بعض من قد سَلَفَ من الولاة، ولم يخلق الله تعالي شيئاً منها، ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أ نّها حقٌّ لكثرة من قد رواها ممّن لم يعرف بكذب، ولا بقلة ورع» [251] . [ صفحه 122]

الدعوة الي مقاطعة الحكم القائم

دعا (عليه السلام) الي مقاطعة الحكم الجائر ونهي عن إسناده بأي شكل من أشكال المساندة وإن كانت لا تتعلق بسياستهم، فقال (عليه السلام) ـ في معرض جوابه عن العمل معهم ـ: «ولا مدة قلم، إنّ أحدهم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلاّ أصابوا من دينه مثله» [252] . ووضّح أساسيات التعامل مع الحكام الجائرين والفاسقين بقوله: «لا دين لمن دان بطاعة من عصي الله» [253] . وأكد (عليه السلام) علي أن تكون العلاقة معهم علاقة التوجيه والارشاد، والقيام بأداء مسؤولية الوعظ فقال: «من مشي الي سلطان جائر، فأمره بتقوي الله، وخوّفه ووعظه كان له مثل أجر الثقلين من الجن والانس، ومثل أعمالهم» [254] . واستثني (عليه السلام) المواقف التي تتخذ من أجل مصلحة الإسلام الكبري، فجوّز إسنادهم بالسلاح إن كان القتال مع أعداء الإسلام، لأنهم يدفعون بالسلاح العدو المشترك، قال (عليه السلام) لمن كان يحمل إليهم السلاح: «إحمل إليهم، فإنّ الله يدفع بهم عدوّنا وعدوّكم ـ يعني الروم ـ وبعهم، فإذا كانت الحرب بيننا فلا تحملوا» [255] . وقال (عليه السلام) في حق حكّام الجور: «ان ائمة الجور واتباعهم لمعزولون عن دين الله والحقّ، قد ضلّوا بأعمالهم التي يعملونها» [256] . [ صفحه 123]

مواقفه المباشرة من الحكام المنحرفين

انّ دور الإمام الحقيقي هو دور القدوة، ومن أهم المسؤوليات الملقاة علي عاتقه إصلاح الحاكم والاُمة معاً، والقضاء علي الانحراف في مهده. أو الحيلولة دون التمادي فيه، وهذا الدور تختلف أساليبه وبرامجه تبعاً للعوامل والظروف السياسية المحيطة بالامام، وتتغيّر المواقف تبعاً للمقومات التالية: أ ـ المصلحة الاسلامية العامة. ب ـ المصلحة الاسلامية الخاصة، والتي تتعلق بالحفاظ علي منهج أهل البيت (عليهم السلام) ورفده بالعناصر النزيهة، لضمان استمرار حركته في الاُمة. ت ـ الظروف العامة والخاصة من حيث قوة الحاكم، وقوة القاعدة الشعبية لأهل البيت (عليهم السلام). وكانت التقيّة اُسلوباً يتخذه الإمام (عليه السلام) في مواقفه من الحاكم الجائر عندما لا تكون المواجهة العلنية مفيدة ومثمرة، وأوضح الإمام حدودها بقوله: «التقية في كل ضرورة» [257] وقال (عليه السلام): «إنما جعلت التقيّة ليحقن بها الدماء، فإذا بلغ الدم فلا تقيّة» [258] . وفي العهود التي سبقت عهد عمر بن عبد العزيز، كان الإمام (عليه السلام) يتّقي المواجهة مع الحاكم حفاظاً علي كيان أهل البيت (عليهم السلام) وإبعاداً لأنصاره عن حراب الحاكم وأعوانه، ولم يتدخل (عليه السلام) في شؤون الحاكم الاّ في حدود ضيّقة، وحينما وصل الأمر الي عمر بن عبد العزيز وتبدلت الاوضاع والظروف تقرب عمر بن عبدالعزيز إلي أهل البيت (عليهم السلام) وفضّلهم علي بني أمية، قائلاً: اُفضّلهم لأنّي سمعت... أن رسول الله (صلي الله عليه وآله) كان يقول: «إنّما فاطمة شجنة [259] منّي [ صفحه 124] يسرّني ما أسرّها، ويسوؤني ما أساءها، فأنا ابتغي سرور رسول الله(صلي الله عليه وآله) وأتقي مساءته» [260] . واستثمر الإمام (عليه السلام) هذه الحرية النسبيّة، فقام بدوره في اصلاح الحاكم وأجهزته وإرشاده وحثّه علي الاستقامة في التعامل مع الرعيّة. وحينما بعث اليه ان يقدم عليه، لبّي (عليه السلام) الدعوة واجتمع معه، وأخذ ينصحه ويطلب منه أن يوفق بين ممارساته وبين القيم الاسلامية في مجال التعامل، وممّا جاء في نصائحه له قوله (عليه السلام): «... فاتق الله، واجعل في قلبك اثنتين تنظر الّذي تحبّ أن يكون معك إذا قدمت علي ربِّك، فقدِّمه بين يديك، وتنظر الذي تكرهه أن يكون معك إذا قدمت علي ربِّك، فابتغ به البدل، ولا تذهبن إلي سلعة قد بارت علي من كان قبلك ترجو أن تجوز عنك، واتق الله يا عمر وافتح الأبواب وسهّل الحجاب، وانصر المظلوم وردّ المظالم» [261] . واستشاره عمر في بعض الأمور، وحينما أراد الرجوع الي المدينة قال له عمر: فأوصني يا أبا جعفر، فقال (عليه السلام): «اُوصيك بتقوي الله واتّخذ الكبير أباً، والصغير ولداً، والرجل أخاً» [262] . وفي عهد هشام بن عبد الملك كان (عليه السلام) يتحرك تبعاً لمواقف هشام من حيث اللين والشدة، فحينما دخل هشام المسجد الحرام نظر الي الإمام (عليه السلام) وقد أحدق الناس به، فقال: من هذا؟ فقيل له: محمد بن علي بن الحسين، فقال: هذا المفتون به أهل العراق؟! فأرسل اليه، وسأله بعض الاسئلة، فأفحمه الإمام (عليه السلام) وظهر عليه أمام أتباعه [263] . [ صفحه 125] ولمّا حُمل الي الشام وأراد هشام أن ينتقص منه، نهض قائماً ثم قال: «أيها الناس أين تذهبون وأين يراد بكم؟ بنا هدي الله أوّلكم، وبنا يختم آخركم، فإن يكن لكم ملك معجّل، فإنّ لنا ملكاً مؤجلاً...» [264] .

موقفه من الثورة المسلحة

وقف الإمام (عليه السلام) موقف الحياد من الثورات التي قادها الخوارج، فلم يصدر منه تأييد ولا معارضة، لكي لا يستثمر قادة الثورات أو الحكّام موقف الإمام (عليه السلام) لصالحهم، ولكي تستمر روح الثورة في النفوس. وفي عهده (عليه السلام) لم تنطلق أي ثورة علوية يقودها أحد أهل البيت (عليهم السلام) أو أحد أنصارهم، لأنّ الإمام (عليه السلام) كان مشغولاً ببناء وتوسعة القاعدة الشعبية، لكي تنطلق فيما بعد، أي بعد اكمال العدّة والعدد، وكان (عليه السلام) يوجّه الانظار الي ثورة أخيه زيد التي أخبر أنها ستنطلق في المستقبل القريب. وكان يربط بين موقف زيد المستقبلي وبين موقفه(عليه السلام) منه فيقول: «أ مّا عبد الله فيدي التي أبطش بها، وأما عمر فبصري الذي أبصر به، وأما زيد فلساني الذي أنطق به [265] ...» [266] . [ صفحه 126] وكان (عليه السلام)يحذِّر من خذلان زيد ومحاربته فيقول: «ان أخي زيد بن علي خارج فمقتول علي الحق، فالويل لمن خذله، والويل لمن حاربه، والويل لمن قاتله» [267] . وكان (عليه السلام) هو الموجّه لحركة أخيه زيد، وكان زيد أحد المنضوين تحت لواء إمامته، وكانت حركته العسكرية ذراعاً واقعياً لأهل البيت (عليهم السلام) ليقاوموا من خلالها انحراف الحكّام بعد عجز الاساليب الاخري عن التأثير. وممّايؤكد هذه التبعية قول زيد رحمه الله: فمن لي سوي جعفر بعده إمام الوري الأوحد الأمجد [268] . فتأجلت الثورة المسلحة الي وقتها المناسب وتفجّرت بعد أقلّ من عشر سنين من استشهاد الإمام محمد الباقر (عليه السلام).

الاصلاح الاخلاقي والاجتماعي

اشاره

بذل الإمام (عليه السلام) عناية فائقة لاصلاح الاخلاق وتغيير الاوضاع الاجتماعية باتجاه القواعد والموازين والقيم العليا الثابتة في الشريعة الاسلامية، وكانت مهمته التركيز علي اصلاح جميع الوجودات القائمة، بدءً بالمقربين منه ثم الاوساط الاجتماعية ثم المؤسسات الحكومية واتباع الحاكم. وكان (عليه السلام) يستثمر جميع الفرص المتاحة للاصلاح والتغيير وبناء واقع جديد، ولهذا تعددت اساليبه الاصلاحية والتغييرية في المجال الاخلاقي والاجتماعي. وإليك بعض نشاطاته في هذا المجال: [ صفحه 127]

الدعوة لتطبيق السنة النبوية

قام الإمام (عليه السلام) بنشر الاحاديث الشريفة النبوية المرتبطة بالجوانب الاخلاقية والاجتماعية لكي تكون هي الحاكمة علي الممارسات السلوكية والعلاقات الاجتماعية، ولكي تكون نبراساً لافراد المجتمع بمختلف طبقاتهم في مسيرتهم الانسانية، تنطلق بهم نحو السمو والتكامل، والارتقاء للوصول الي المقامات العالية التي وصل اليها الصالحون والاولياء. وكان (عليه السلام) ـ من خلال نشر هذه الاحاديث النبوية ـ يشير الي العوامل الاساسية في صلاح الاخلاق والاوضاع الاجتماعية، وهي صلاح الفقهاء والامراء، فقد روي (عليه السلام) قول جدّه (صلي الله عليه وآله): «صنفان من اُمتي إذا صلحا صلحت اُمتي، واذا فسدا فسدت اُمتي... الفقهاء والاُمراء» [269] . ودعا (عليه السلام) الي اخلاص النصيحة والايثار في الممارسة الاصلاحية علي ضوء ما جاء عن جدّه رسول الله (صلي الله عليه وآله): «لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه» [270] . وأ كّد (عليه السلام) علي دعوة رسول الله (صلي الله عليه وآله) الي العفّة وتعجيل الخير بقوله: «ان الله يحبُّ الحييَّ الحليم العفيف المتعفف» [271] وقوله (صلي الله عليه وآله): «ان الله يحب من الخير ما يعجّل» [272] . وأكّد (عليه السلام) علي الاحاديث الداعية الي حسن الخلق والكف عن أعراض المؤمنين منها قوله(عليه السلام): «والذي لا اله إلاّ هو ما اُعطي مؤمن قط خير الدنيا والآخرة إلاّ بحسن ظنّه بالله ورجائه له، وحسن خلقه، والكف عن اغتياب المؤمنين» [273] . [ صفحه 128] وقال (عليه السلام): «ان رسول الله (صلي الله عليه وآله) نهي عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال» [274] . ودعا (عليه السلام) الي ادخال السرور علي المؤمن كما ورد في قول رسول الله(صلي الله عليه وآله): «من سرَّ مؤمناً فقد سرني ومن سرني فقد سر الله» [275] . وحث (عليه السلام) علي صلة الرحم بقوله(صلي الله عليه وآله): «ان أعجل الخير ثواباً صلة الرحم» [276] . وذكر (عليه السلام) عشرات الاحاديث الشريفة التي تدعو الي مكارم الاخلاق في الصدق والايثار والتعاون والوفاء بالعهد وحسن التعامل مع المسلمين وغيرهم، اضافة الي الاحاديث الناهية عن الممارسات السلبية كالكذب والبهتان والتعيير ونقض العهد، والخيانة والاعتداء علي الاعراض والنفوس. وممّا جاء في ذلك قول رسول الله (صلي الله عليه وآله): «سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية» [277] . وقال (عليه السلام): سئل رسول الله (صلي الله عليه وآله) عن خيار العباد، فقال: «الذين إذا أحسنوا استبشروا، واذا أساؤا استغفروا، وإذا اُعطوا شكروا وإذا ابتلوا صبروا، وإذا غضبوا غفروا» [278] . ولم يكتف (عليه السلام) بنشر الاحاديث الشريفة والدعوة الي تجسيد محتواها في الواقع، وإنّما قام بأداء دور القدوة في ذلك فكان بنفسه قمة في جميع المكارم والمآثر، وقد أبرز للمسلمين من خلال سلوكه نموذجاً من أرقي [ صفحه 129] نماذج الخلق الاسلامي الرفيع، فكان (عليه السلام) القمة السامية في الصدق والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وفي التواضع واحترام الآخرين، والاهتمام باُمور المسلمين، وقضاء حوائج المحتاجين، فكانت معالجته للواقع معالجة عملية من خلال سلوكه النموذجي مع مختلف أصناف الناس موالين، ومخالفين.

الدعوة الي مكارم الأخلاق

كثّف الإمام (عليه السلام) دعوته الي اصلاح مكارم الاخلاق لتكون هي العلامة الفارقة لتعامل المسلمين فيما بينهم، فكان (عليه السلام) يدعو الي افشاء السلام وهو مظهر من مظاهر روح الإخاء والودّ والمحبة والصفاء في العلاقات الاجتماعية حتي قال (عليه السلام): «ان الله يحب افشاء السلام» [279] . ودعا الي العفّة واعتبرها افضل العبادة، فقال: «أفضل العبادة عفّة البطن والفرج» [280] . ودعا الي تطهير اللسان وتقييده بقيود شرعية، لإدامة العلاقات بين الناس، فقال (عليه السلام): «قولوا للناس أحسن ما تحبّون أن يقال لكم، فإنّ الله يبغض اللعان السبّاب الطّعّان علي المؤمنين، الفاحش المتفحّش، السائل الملحف، ويحبّ الحيي الحليم العفيف المتعفّف» [281] . ووضّح كيفية التعامل مع مختلف طبقات المجتمع فقال: «صانع المنافق بلسانك، وأخلص مودتك للمؤمن، وإن جالسك يهودي فأحسن مجالسته» [282] . وبيّن اُسس التعامل مع مختلف الأصناف من الناس فقال: «اربع من كنّ [ صفحه 130] فيه بني الله له بيتاً في الجنّة، من آوي اليتيم، ورحم الضعيف، وأشفق علي والديه، ورفق بمملوكه» [283] . ودعا (عليه السلام) الي الارتباط بأهل التقوي وتعميق أواصر العلاقات معهم لما اختصوا به من خصائص تؤثر علي المصاحبين لهم تأثيراً إيجابياً لتجسيد المثل والقيم الاسلامية في الواقع، قال (عليه السلام): «ان أهل التقوي أيسر أهل الدنيا مؤونة وأكثرهم لك معونة، إن نسيت ذكروك، وإن ذكرت أعانوك، قوّالين بحق الله، قوّامين بأمر الله» [284] . ووضّح (عليه السلام) بعض حقوق المؤمن علي المؤمن فقال: «إنّ المؤمن أخ المؤمن لا يشتمه ولا يحرمه ولا يسيء به الظن» [285] . وقال (عليه السلام): «من اغتيب عنده أخوه المؤمن فنصره وأعانه نصره الله في الدنيا والآخرة، ومن لم ينصره، ولم يدفع عنه وهو يقدر علي نصرته وعونه خفضه الله في الدنيا والآخرة» [286] . وحذّر من ظلم الآخرين أو الاعانة علي ظلمهم فقال: «من أعان علي مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله» [287] . ودعا الي مقابلة الاساءة والقطيعة بالاحسان والصلة فقال: «ثلاثة من مكارم الدنيا والآخرة: أن تعفو عمّن ظلمك وتصل من قطعك، وتحلم إذا جهل عليك» [288] . [ صفحه 131]

الاصلاح الاقتصادي

لم يكن الإمام (عليه السلام) علي رأس سلطة حتي يستطيع اصلاح الاوضاع الاقتصادية اصلاحاً عملياً وجذريّاً، ولذا اقتصر (عليه السلام) علي نشر المفاهيم الاسلامية المرتبطة بالحياة الاقتصادية السليمة متمثّلة في النظام الاقتصادي الاسلامي، والتي تعصم مراعاتها الانسان والمجتمع من الانحراف الاقتصادي التي من أسبابها: الانسياق وراء اشباع الشهوات اشباعاً مخلاً بالتوازن الاقتصادي، فحدّد الإمام (عليه السلام) الاهداف المتوخاة من التصرّف بالاموال، إذ جعل الله المال وسيلة لتحقيق الهدف الذي خلق الانسان من أجله، وهو الوصول الي عبادة الله تعالي، وتطبيق منهجه في الحياة، قال(عليه السلام): «نعم العون الدنيا علي طلب الآخرة» [289] . وأوضح الأهداف المشروعة التي يبتغي طلب المال من أجلها، فقال(عليه السلام): «من طلب الرزق في الدنيا استعفافاً عن الناس، وتوسيعاً علي أهله، وتعطفاً علي جاره ; لقي الله عزّوجلّ يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر» [290] . واستعان (عليه السلام) بالأحاديث الشريفة الواردة في ضرورة المشروعية في التصرفات الاقتصادية، فروي عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) انّه قال: «العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال» [291] . وأكّد (عليه السلام) علي حرمة جملة من التصرفات المالية كالتطفيف في المكيال، إذ قال (عليه السلام): «اُ نْزِل في الكيل: (ويل للمطففين)، ولم يجعل الويل لأحد [ صفحه 132] حتي يسميه كافراً...» [292] . كما دعا(عليه السلام) الي استصلاح المال وتنمية الثروة بشكل صحيح بقوله(عليه السلام): «من المروءة استصلاح المال» [293] . وقدّم اشباع حاجات المسلمين وسد ثغرات حياتهم علي أهم العبادات المستحبّة وهو الحج تطوعاً، فقال(عليه السلام): «لأن أحجّ حجة أحبّ إليّ من أن أعتق رقبة ورقبة ـ حتي انتهي الي سبعين ـ، ولأن أعول أهل بيت من المسلمين، أشبع جوعتهم وأكسو عورتهم وأكفّ وجوههم عن الناس أحبّ اليّ من أن أحجّ حجة وحجة ـ حتي انتهي الي عشر و عشر وعشر ومثلها حتي انتهي الي سبعين ـ» [294] . ودعا(عليه السلام) الي الترفّع عن الحرص والطمع حيث روي عن رسول الله(صلي الله عليه وآله) أنّه قال: «... لن تموت نفس حتّي تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحمل أحدكم استبطاء شيء من الرزق أن يطلبه بغير حلّه، فإنّه لا يدرك ما عند الله إلاّ بطاعته» [295] . ووجّه الأنظار الي الآثار السلبية للحرص فقال: «مثل الحريص علي الدنيا، كمثل دودة القزّ، كلّما ازدادت علي نفسها لفّاً ; كان أبعد لها من الخروج حتي تموت غمّاً» [296] . وأكّد علي زوال المال ما دام الانسان مخلوقاً للآخرة ومعرّضاً للفناء فقال: «ملك ينادي كل يوم: ابنَ آدم; لِدْ للموت، واجمع للفناء، وابن للخراب» [297] . [ صفحه 133] وكان (عليه السلام) يحثّ علي القناعة لأنها إحدي مقدمات السعادة الروحية، وقد تجلّي ذلك في سلوكه وقوله (عليه السلام): «من قنع بما أوتي قرّت عينه» [298] . ودعا الي مراعاة القصد والوسطية وتجنّب الافراط والتفريط في الطرف والإنفاق في مختلف الظروف واعتبره من المنجيات، فقال(عليه السلام): «امّا المنجيات فخوف الله في السر والعلانية، والقصد في الغني والفقر» [299] . كما حدّد الإمام(عليه السلام) لكل انسان حقّه، وحذّر من الاعتداء علي أموال الآخرين لأنها تؤدي الي الخلل الاقتصادي فضلاً عمّا لها من تأثيرات سلبية اُخري علي المستقبل الاُخروي للفرد والمجتمع، نلاحظ ذلك في قوله (عليه السلام): «من أصاب مالاً من أربع لم يقبل منه أربع: من اصاب مالاً من غلول أو ربا أو خيانة أو سرقة ; لم يقبل منه في زكاة ولا صدقة ولا في حجّ ولا في عمرة» [300] . ومن أجل تحقيق التوازن الاقتصادي، ورفع المستوي المعاشي لعموم الناس دعا (عليه السلام) الي الالتزام بالانفاق الواجب، فقال: «ان الله تبارك وتعالي قرن الزكاة بالصلاة... فمن أقام الصلاة، ولم يؤت الزكاة، فكأنه لم يقم الصلاة» [301] . وروي عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قوله: «ملعون كل مال لا يزكّي» [302] . وبيّن الآثار السلبية لمنع الزكاة فقال (عليه السلام): «وجدنا في كتاب عليّ (عليه السلام) قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): إذا منعت الزكاة منعت الأرض بركاتها» [303] . وحدّد (عليه السلام) حدود البذل بأنه الإيصال الي مرتبة إغناء الفقير لإنقاذه من الفقر وآثاره السلبية، فقال (عليه السلام): «اذا أعطيته فأغنه» [304] . [ صفحه 134] ولا يتحقق التوازن الاقتصادي ولا التكافل الاجتماعي إلاّ باشتراك جميع الناس في ممارسات مكثّفة لرفع المستوي الاقتصادي لجميع الفقراء والمعوزين، من خلال القيام بالايثار والانفاق التطوعي مضافاً الي أداء الحقّ الشرعي الواجب، لذا حث (عليه السلام) علي الاحسان وأداء اعمال البر والصدقة فقال: «البرّ والصدقة ينفيان الفقر ويزيدان في العمر، ويدفعان سبعين ميتة سوء» [305] . وحث علي معونة الاخوان وقضاء حوائجهم فقال(عليه السلام): «من بخل بمعونة أخيه المسلم والقيام في حاجته ; ابتلي بمعونة من يأثم عليه ولا يؤجر» [306] . وروي عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) انّه قال: «داووا مرضاكم بالصدقة... وحصنوا أموالكم بالزكاة» [307] . وحدّد الإمام (عليه السلام) موارد الانفاق المنسجمة مع الشريعة الإسلامية، وأثبت انحراف الاُسلوب الذي قام به الحكّام حيث قاموا بتوزيع الأموال حسب أهوائهم ورغباتهم دون التقيد بالقيود التي وضعها المنهج الاسلامي. فقد روي عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قوله: «خمسة لعنتُهم وكلُّ نبيّ مجاب...، وذكر منهم: المستأثر بالفيء والمستحل له» [308] . كما حدّد (عليه السلام) موارد اعطاء الصدقات فقال: «ان الصدقة لا تحلّ لمحترف، ولا لذي مرّة سوي قوي...» [309] . وكان (عليه السلام) يقوم بانفاق ما يحصل عليه علي الفقراء والمعوزين لتقتدي به الاُمة، وتعرف انحراف الممارسات المالية التي كان يقوم بها الحكام والمخالفة للاُسس الإسلامية والقواعد الثابتة للانفاق. [ صفحه 137]

الإمام الباقر وبناء الجماعة الصالحة

اشاره

اعتمدنا في هذا البحث بشكل اساسي علي الكتاب القيّم الذي نشره المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) «دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة» لسماحة السيد محمد باقر الحكيم (دام عزه) واستخلصنا منه ما يناسب حياة الإمام محمد الباقر(عليه السلام) بشكل خاص من هذه الموسوعة. إن إصلاح الأوضاع الاجتماعية يتوقف علي وجود جماعة صالحة تقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة الي الإسلام والي المنهج السليم الذي تبنّاه أهل البيت (عليهم السلام)، استناداً الي الأوامر الإلهية في تشكيل الاُمة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر. ولهذا سعي الائمة المعصومون (عليهم السلام) الي بناء الجماعة الصالحة ورسم المعالم والملامح اللازمة لها لتكون الطليعة الواعية المخلصة لتبنّي مسؤولية الاصلاح والتغيير طبقاً لمنهج أهل البيت (عليهم السلام). وقد شرع أهل البيت(عليه السلام) في تكوين الجماعة الصالحة منذ عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله)، فإنّه الي جانب تبليغه العام قام بإعداد مجموعة صالحة تهتم بالدعوة الي الله علي بصيرة ووعي وأبدي لهم عناية فائقة حيث خصص لهم أوقاتاً خاصة، وكلّف الإمام عليّاً (عليه السلام) بإعداد آخرين. واستمرالإمام علي(عليه السلام) بعد رحيل رسول الله(صلي الله عليه وآله) بانجاز هذه المهمّة، وكرّس جهوده لتهيئة الطليعة والكوادر الرسالية. وقد أثمرت نشاطاته حينما [ صفحه 138] عادت له السلطة، وكان لتلك الكتلة الصالحة دور كبير في إخماد الفتن الداخلية وتقرير منهج أهل البيت (عليهم السلام) في الواقع العملي. وواصل الإمام الحسن (عليه السلام) مسيرة جده وأبيه، حيث كان أحد بنود الهدنة مع معاوية هو إيقاف الملاحقة لأنصاره وأنصار أبيه، وتفرّغ الإمام (عليه السلام) بعد الهدنة لتوسيع قاعدة الجماعة الصالحة لتقوم بأداء دورها في الوقت والظرف المناسب. وبالفعل قامت بالتصدي للانحراف الاُموي في عهد يزيد، وشاركت مع الإمام الحسين (عليه السلام) في حركته المسلحة للاطاحة بالحكم الجائر. وكان للجماعة الصالحة دور كبير في قيادة الثورات المسلحة ضد الحكم الاُموي علي طول الخط، كثورة أهل المدينة، وثورة المختار، وثورة التوابين، التي أعقبت ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) الإصلاحية وكان لمجموعها دور كبير في إرساء دعائم منهج أهل البيت (عليهم السلام) وتعميقه وتجذيره في العقولوالقلوب والممارسات السلوكية والتعجيل في زوال الحكومات الجائرة. واستمر الإمام زين العابدين (عليه السلام) في استثمار الفرص المتاحة لتكملة البناء الذي شيّده من سبقه من الائمة الأطهار، فقد تمتع بحرية نسبية في إعداد الطليعة الرسالية في عهد عبد الملك بن مروان، لتكون ذراعاً لحركة أهل البيت (عليهم السلام) في عهده. واستمر الإمام الباقر (عليه السلام) في تشييد هذا الصرح ورفده بعناصر جديدة لتستمر الحركة الإصلاحية علي منهج أهل البيت (عليهم السلام) وتقريره في واقع الحياة، فقد ربّي (عليه السلام) مجموعة من الفقهاء المصلحين وعلي رأسهم: زرارة بن أعين، ومعروف بن خربوذ، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم الطائفي، وبريد بن معاوية العجلي. [ صفحه 139] وربّي طبقة ثانية التي تلي المتقدمين ومنهم: حمران بن أعين، واخوته، وعبدالله بن ميمون القدّاح، ومحمد بن مروان الكوفي، واسماعيل ابن الفضل الهاشمي، وابو هارون المكفوف... وآخرون [310] . وتنوّعت مهمة الجماعة الصالحة، فمنهم الفقهاء، ومنهم قادة الثورات، ومنهم المصلحون الذين كانوا يجوبون الأمصار لتعميق منهج أهل البيت (عليهم السلام) في القلوب والنفوس. وفيما يلي سوف نستعرض بعض مظاهر حركة الإمام (عليه السلام) في بناء الجماعة الصالحة، وإعدادها إعداداً شمولياً بشمول الإسلام وشمول منهج أهل البيت (عليهم السلام) لجميع مرافق الحياة الانسانية. وقد أوضحنا أن المهمّة الأساسية للإمام الباقر(عليه السلام) بعد العقود الثلاثة من النشاط المستمر للإمام زين العابدين(عليه السلام) بهذا الاتجاه هي رسم المعالم التفصيلية للجماعة الصالحة وبيان كل ما يلزم لتكوين المجتمع الاسلامي النموذجي في وسط التيارات المنحرفة التي ملأت الساحة الإسلامية العامّة، وهي الي جانب كونها النموذج المطلوب للاُمة المسلمة الرائدة تكون الذراع الحقيقي للأئمة(عليهم السلام) لإقرار الإسلام الشامل في المجتمع الإسلامي الآخذ بالتمادي في الانحراف والانهيار; إذ من خلالها يكون النشاط الحقيقي للإمام الباقر(عليه السلام) في مرحلته الخاصة التي تجلّت في رسم هذه المعالم وإقرارها وتربية الأجيال عليها. وهي المهمة التي اشترك فيها أبوه الإمام زين العابدين وابنه الإمام الصادق وحفيده الإمام الكاظم(عليهم السلام). وقد لخصّنا هذا البحث الأساسي في عشر نقاط أساسية ترتبط بالجماعة الصالحة وتوضح معالمها الرئيسة. [ صفحه 140]

الإمام الباقر ومقومات الجماعة الصالحة

العقيدة السليمة

في خضم الأحداث والمواقف المتباينة والمتناقضة جراء تعدد التيارات الفكرية والعقائدية، واضطراب عقول الكثير من المسلمين، لابتعادهم عن إدراك اُسس العقيدة السليمة، قام الإمام (عليه السلام) بدور كبير في بيان العقيدة السليمة للجماعة الصالحة ; لتقوم بدورها في اصلاح المفاهيم والافكار، ونشر عقيدة أهل البيت (عليهم السلام) في مختلف الاوساط وعلي جميع المستويات. لقد بيّن (عليه السلام) الاُسس العامة للتوحيد، فعن حريز بن عبدالله، وعبدالله بن مسكان قالا: قال أبو جعفر (عليه السلام): «لا يكون شيء في الارض ولا في السماء إلاّ بهذه الخصال السبعة: بمشيّة، وارادة، وقضاء، وإذن، وكتاب، وأجل، فمن زعم أنه يقدر علي نقض واحدة منهنَّ فقد كفر» [311] . وبيّن حقيقة التوحيد تمييزاً لعقيدة أهل البيت (عليهم السلام) عن العقائد الاخري فقال(عليه السلام): «لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس، معروف بالآيات، منعوت بالعلامات، لا يجور في قضيته، بان من الاشياء وبانت الأشياء منه» [312] . وبيّن حدود الوصف لله تعالي فنهي عن التكلم في ذات الله وما يتفرع عنه من آراء ومفاهيم، فقال (عليه السلام): «تكلموا فيما دون العرش، ولا تكلموا فيما فوق [ صفحه 141] العرش، فانّ قوماً تكلموا في الله فتاهوا...» [313] . وبيّن (عليه السلام) معياري الايمان والإسلام فقال: «الايمان إقرار وعمل، والإسلام إقرار بلا عمل» [314] . وقال (عليه السلام): «الإيمان ما كان في القلب، والإسلام ما عليه التناكح والتوارث وحقنت به الدماء، والايمان يشرك الإسلام، والإسلام لا يشرك الايمان» [315] . وبيّن الأصل الأساسي من اُصول العقيدة بعد أصل التوحيد وهو الولاية والإمامة المجعولة من الله تعالي ; لأن الولي والإمام يقوم بدور الحجّة نيابة عن الله تعالي، وبيّن مصير من لا يتولّي من نصّبه الله تعالي، فقال: «إنّ من دان الله بعبادة يجهد فيها نفسه بلا إمام عادل من الله، فإنّ سعيه غير مقبول وهو ضالّ متحيّر، ومثله كمثل شاة لا راعي لها ضلّت عن راعيها وقطيعها فتاهت ذاهبة وجائية يومها، فلمّا أن جنّها الليل بصرت بقطيع غنم مع راعيها فجاءت اليها فباتت معها في ربضتها متحيّرة تطلب راعيها وقطيعها، فبصرت بسرح قطيع غنم آخر فعمدت نحوه وحنّت اليها، فصاح بها الرّاعي الحقي بقطيعكِ فإنّكِ تائهة متحيّرة قد ضللت عن راعيك وقطيعك، فهجمت ذعرة متحيّرة لا راعي لها يرشدها الي مرعاها ويردّها، فبينا هي كذلك اذ اغتنم الذئب ضيعتها فأكلها، وهكذا يا محمّد بن مسلم من أصبح من هذه الاُمة ولا إمام له من الله عادل أصبح تائهاً متحيّراً، إن مات علي حاله تلك مات ميتة كفر ونفاق، واعلم يا محمد أنّ أئمة الحقّ وأتباعهم علي دين الله...» [316] . وبيّن حدود ولاية أهل البيت (عليهم السلام) وحدود شفاعتهم فقال: «يا جابر! [ صفحه 142] فو الله ما يُتقرب الي الله تبارك وتعالي إلاّ بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا علي الله لأحد من حجّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، ولا تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع» [317] . وحذّر اتباعه من التأثر بافكار واعتقادات الغلاة لأنها مخالفة للتوحيد، ومخالفة للمنهج العقائدي لأهل البيت (عليهم السلام).

مرجعية أهل البيت

ان المنهج الاسلامي هو منهج واقعي للحياة، بكل ما للحياة من تشكيلات وتنظيمات وأوضاع وقيم وأخلاق وآداب وعبادات وشعائر، وهو كمنهج نظري يراد تطبيقه في الواقع بحاجة الي قدوة تجسّده في الواقع كي يقتدي بها الناس ليندفعوا اشواطاً الي الأمام في مسيرة التنفيذ والتطبيق، ولهذا ركّز الإمام (عليه السلام) علي القدوة الناطقة بالكتاب والسنّة وهم أهل البيت (عليهم السلام) تمييزاً عن غيرهم من الذين تنكبوا طريق الاستقامة وانحرفوا عن المنهج انطلاقاً من أهوائهم ومصالحهم التي تخدم السلاطين والحكّام وانفلاتاً من قيود العقيدة والشريعة. فقد أكّد الإمام (عليه السلام) علي الولاية باعتبارها أهم أركان الإسلام فقال: «بني الإسلام علي خمس: علي الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية» [318] ، التي أوضحها في نص آخر بأنها الولاية لأهل البيت(عليهم السلام) [319] . وأورد الاحاديث الشريفة عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) التي تؤكد علي ولاية [ صفحه 143] أهل البيت (عليهم السلام) ومرجعيتهم في الاُمة، ومنها توجيه الانظار الي ولاية أول الائمة أعني الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) متمثّلة بالولاء العاطفي له، قال رسول الله (صلي الله عليه وآله). «ما من مؤمن إلاّ وقد خلص ودِّي الي قلبه، وما خلص ودّي الي قلب أحد إلاّ وقد خلص ودّ عليّ الي قلبه، كذب يا علي من زعم أنه يحبّني ويبغضك» [320] . وفسرّ الآيات النازلة في حق أهل البيت (عليهم السلام) وبيّن مؤدّاها بشكل دقيق وهو مرجعية أهل البيت (عليهم السلام) في جميع شؤون الحياة فكرية وعاطفية وسلوكية. ففي قوله تعالي: (فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون) [321] ، قال (عليه السلام): نحن أهل الذكر. وفي قوله تعالي: (لتكونوا شهداء علي الناس) [322] ، قال (عليه السلام): نحن هم. وفي قوله تعالي: (وكذلك جعلناكم اُمة وسطاً) [323] ، قال (عليه السلام): نحن الاُمة الوسط. وفي قوله تعالي: (وكونوا مع الصادقين) [324] ، قال (عليه السلام): أي مع آل محمد [325] . وأمّا أحاديثه التي رواها عن رسول الله حول ولاية أهل البيت (عليهم السلام) ومرجعيتهم للاُمة فمنها قوله (صلي الله عليه وآله): «أنا رسول الله الي النّاس أجمعين ولكن سيكون بعدي أئمة علي الناس من أهل بيتي من الله، يقومون في الناس فيكذّبونهم ويظلمونهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم، ألا فمن والاهم واتّبعهم وصدّقهم فهو منّي ومعي وسيلقاني، ألا [ صفحه 144] ومن ظلمهم وأعان علي ظلمهم وكذّبهم، فليس مني ولا معي وأنا منه بريء» [326] . وحثّ (عليه السلام) علي الرجوع الي القرآن والسنّة، وأ كّد مرجعية أهل البيت(عليهم السلام) باعتبار أنّ سنّتهم امتداد للسنّة النبويّة الشريفة، وباعتبار أعلميّتهم بمنهج القرآن الكريم وسيرة النبي العظيم; فإنّهم أهل بيت الوحي والرسالة فهم أدري بما في البيت.

خصائص الانتماء لأهل البيت

بيّن الإمام (عليه السلام) خصائص الانسان الشيعي وهو الإنسان الموالي والمتّبع لأهل البيت(عليهم السلام) تمييزاً له عمّن سواه ممّن يحمل شعار الولاء والمشايعة لهم، قال (عليه السلام): «فو الله ما شيعتنا إلاّ من اتقي الله واطاعه...» [327] . وقال أيضاً: «لا تذهب بكم المذاهب، فو الله ما شيعتنا إلاّ من اطاع الله عزّوجلّ» [328] . وبيّن الخصائص الولائية والسلوكية للجماعة الصالحة من حيث علاقاتهم فيما بينهم وعلاقاتهم مع الآخرين. فقال(عليه السلام): «انما شيعة عليّ: المتباذلون في ولايتنا. المتحابّون في مودّتنا. المتزاورون لإحياء أمرنا. الذين إذا اغضبوا لم يظلموا. وإذا رضوا لم يسرفوا. بركة علي من جاوروا. سلم لمن خالطوا» [329] . [ صفحه 145] وقال أيضاً: «إنما شيعة عليّ: من لا يعدو صوتُه سمعَه، ولا شحناؤه بدنَه، لا يمدح لنا قالياً. ولا يواصل لنا مبغضاً. ولا يجالس لنا عائباً» [330] . وقال أيضاً: «إنما شيعة عليّ: الحلماء العلماء، الذبل الشفاه، تعرف الرهبانية علي وجوههم» [331] . وقال أيضاً: «إنّما المؤمن الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحقّ، والذي إذا قدر لم تخرجه قدرته إلي التعدّي الي ما ليس له بحقّ» [332] . وبيّن (عليه السلام) اُسس التقييم الموضوعي لمن يريد إثبات صحة انتمائه للجماعة الصالحة. ومن هذه الاُسس عرض الإنسان نفسه علي كتاب الله. قال (عليه السلام): «يا جابر واعلم بأ نّك لا تكون لنا وليّاً حتي لو اجتمع عليك أهل مصرك، وقالوا: انك رجل سوء لم يحزنك ذلك، ولو قالوا: انك رجل صالح لم يسرّك ذلك. ولكن اعرض نفسك علي كتاب الله ; فإن كنت سالكاً سبيله زاهداً في تزهيده راغباً في ترغيبه خائفاً من تخويفه فاثبت وأبشر، فإنه لا يضرّك ما قيل فيك. وان كنت مبائناً للقرآن فما الذي يغرك من نفسك؟!...» [333] . والعلامة المميّزة لأفراد الجماعة الصالحة هي التزامهم بمبادئ القرآن الكريم وقيمه في مختلف مجالات الحياة الإسلامية، في العبادة والارتباط بالله تعالي، وفي العلاقات الاجتماعية، وقد بيّن ذلك بقوله(عليه السلام) ـ كما مرّ سابقاً ـ: «فوالله ما شيعتنا إلاّ من اتّقي الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلاّ بالتواضع والتخشع والأمانة. وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة. والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء، وأهل المسكنة، والغارمين، والأيتام. وصدق الحديث وتلاوة القرآن. وكفّ الألسن عن الناس إلاّ من خير. وكانوا اُمناء عشائرهم في الأشياء» [334] . [ صفحه 146]

الإمام الباقر والتزكية

مقومات التزكية عند الإمام الباقر

اشاره

لا تتحقق التزكية إلاّ بعد أن تنطلق من القلب والضمير وتتفاعل مع الشعور بخشية مستمرة وحذر دائم وتوقٍّ من الرغائب والشهوات، والمطامع والمطامح، فلا بد وأن تكون شعوراً في الضمير، وحالة في الوجدان، وضعاً في المشاعر لتتهيأ النفوس لتلقي اُسسها وتقريرها في الواقع، ولهذا ركّز الإمام(عليه السلام) في الجانب النظري علي أهم المقومات التي تدفع النفس للتزكية وهي: أ ـ تحكيم العقل. ب ـ تبعية الإرادة الإنسانية للإرادة الإلهية. ج ـ استشعار الرقابة الإلهية. د ـ التوجّه الي اليوم الآخر.

تحكيم العقل

ان الله تعالي خلق الانسان مزوداً بعقل وشهوة، ومنحه معرفة سبل الهداية من خلال البينات والحقائق الثابتة، وهو مكلف بإعداد القلب للتلقي والاستجابة والتطلع الي افق اعلي واهتمامات أرفع من الرغبات والشهوات الحسّية، ولهذا ركّز الإمام (عليه السلام) علي تحكيم العقل علي جميع الرغبات والشهوات، ليكون للإنسان واعظ من نفسه يعينه علي تزكية نفسه. قال (عليه السلام): «من لم يجعل الله له من نفسه واعظاً، فإن مواعظ الناس لن تغني [ صفحه 147] عنه شيئاً» [335] . وقال أيضاً: «من كان ظاهره أرجح من باطنه خفّ ميزانه» [336] .

تبعية الإرادة الإنسانية للإرادة الإلهية

ان تكامل النفس لا يتم إلاّ من خلال التطابق بين الإرادة الإنسانية والإرادة الإلهية وذلك باتباع المنهج الإلهي في الحياة، وهذا التطابق يحتاج الي مجاهدة الهوي والهيمنة علي الشهوات وتقييدها بقيود شرعية; فإنّ مجاهدة النفس تجعل الإنسان مستعدّاً بالفعل لتلقّي الفيض الإلهي لإكمال نفسه وتزكيتها علي أساس المنهج الربّاني للإنسان في هذه الحياة. قال الإمام الباقر (عليه السلام): «يقول الله عزّوجلّ: وعزّتي وجلالي، لا يؤثر عبد هواي علي هواه إلاّ جعلت غناه في قلبه، وهمّه في آخرته...» [337] .

استشعار الرقابة الإلهية

لا تتم التزكية إلاّ باستشعار الرقابة الإلهية في العقل والضمير والوجدان، والإحساس بأنّ الله تعالي محيط بالإنسان، يحصي عليه حركاته وسكناته، ولهذا ركّز الإمام الباقر (عليه السلام) علي هذه الرقابة لتكون هي الدافع لاصلاح النفس وتزكيتها، ففي موعظته لجماعة من أنصاره قال: «ويلك... كلّما عرضت لك شهوة أو ارتكاب ذنب سارعت اليه وأقدمت بجهلك عليه، فارتكبته كأنك لست بعين الله، أو كأن الله ليس لك بالمرصاد!...» [338] . [ صفحه 148]

التوجه الي اليوم الآخر

إن التوجه الي الحياة الاُخري الخالدة يمنع الانسان من الانحراف ويدفعه لتخليص النفس من ربقة الشهوات وظلمة المطامع وأدناس الهوي. وقد وجّه الإمام (عليه السلام) الجماعة الصالحة الي ذلك اليوم ليجعلوه نصب أعينهم ليكون حافزاً لهم لاصلاح النفس وتزكيتها، ومما جاء في موعظته لجماعة منهم قوله (عليه السلام): «... يا طالب الجنّة ما أطول نومك وأكَلَّ مطيّتك، وأوهي همتك، فلله أنت من طالب ومطلوب! ويا هارباً من النار ما أحث مطيتك إليها وما أكسبك لما يوقعك فيها! يا ابن الأيام الثلاث: يومك الذي ولدت فيه، ويومك الذي تنزل فيه قبرك، ويومك الذي تخرج فيه إلي ربك، فياله من يوم عظيم! يا ذوي الهيئة المعجبة والهيم المعطنة ما لي أري أجسامكم عامرة وقلوبكم دامرة؟!» [339] . وبيّن الإمام (عليه السلام) ان الدنيا دار بلاء وامتحان، وان هذا الابتلاء يتناسب مع درجة إيمان الإنسان فقال: «إنّما يبتلي المؤمن في الدنيا علي قدر دينه» [340] .

منهج التزكية عند الإمام الباقر

اشاره

رسم الإمام (عليه السلام) للجماعة الصالحة منهجاً واقعياً متكاملاً وشاملاً لتزكية النفس وتربيتها بحيث يكون كفيلاً بتحقيقها عند مراعاته بشكل دقيق. وتتحدد معالم هذا المنهج بالنقاط التالية: [ صفحه 149]

الارتباط الدائم بالله تعالي

الارتباط بالله تعالي والاستسلام له والعزم علي طاعته من شأنه أن يمحّص القلوب، ويطهّر النفوس، لأنه ينقل الإنسان من مرحلة التفكّر والتدبّر في عظمة الله تعالي وهيمنته ورقابته الي مرحلة العمل الصالح في ظلّ هذا التدبر، فالعزم يتبعه العون منه تعالي، ويتبعه التثبيت علي المضي في طريق تزكية النفس. والارتباط بالله تعالي يبدأ بمعرفته التي تحول بين الإنسان وبين مخالفة ربّه وخالقه، قال (عليه السلام): «ما عرف الله من عصاه» [341] . فإنّ المعرفة تنتج الحبّ والحبّ الصادق يحول بين الإنسان وبين مخالفة محبوبه. والارتباط بالله تعالي يتجسد في مراتب عديدة منها: حسن الظن بالله ورجاء رحمته، فقد روي عن جدّه رسول الله (صلي الله عليه وآله) أنه قال: «والذي لا اله إلاّ هو ما اُعطي مؤمن قط خير الدنيا والآخرة إلاّ بحسن ظنّه بالله ورجائه له وحسن خلقه والكف عن اغتياب الناس» [342] . ويتحقق الارتباط بالله تعالي أيضاً عن طريق المداومة علي العبادات وقد حثّ الإمام (عليه السلام) الجماعة الصالحة علي كثرة العبادة، حتي جعلها احدي خصائصهم ـ كما تقدم ـ. وحثّ (عليه السلام) علي قراءة القرآن الكريم والسير علي منهاجه. كما حثّ (عليه السلام) علي جعل الروابط والعلاقات الاجتماعية قائمة علي أساس القرب والبعد من الله تعالي، فقد أورد أحاديث لرسول الله (صلي الله عليه وآله) تؤكد [ صفحه 150] علي ذلك ومنها قوله (صلي الله عليه وآله): «ودّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان، ومن أحبّ في الله، وأبغض في الله، وأعطي في الله، ومنع في الله ; فهو من أصفياء الله» [343] .

الاقرار بالذنب والتوبة

ان منهج أهل البيت (عليهم السلام) يهدف الي علاج النفوس البشرية، واستجاشة عناصر الخير فيها، والي مطاردة عوامل الشر والضعف والغفلة. والطبيعة البشرية قد تستقيم مرة وتنحرف مرة اُخري، ولهذا فإنّ العودة الي الاستقامة تقتضي محاسبة النفس باستمرار، والاقرار بالأخطاء، ثم التوبة، والعزم علي عدم العود، ولذا أكّد الإمام (عليه السلام) علي هذه المقومات، وبدأ بالاقرار بالذنب كمقدمة للنجاة منه، فقال (عليه السلام): «والله ما ينجو من الذنب إلاّ من أقرّ به» [344] . وقال (عليه السلام): «كفي بالندم توبة» [345] . والاقرار يتبعه الغفران بعد طلبه من الله تعالي، قال (عليه السلام): «لقد غفر الله لرجل من أهل البادية بكلمتين دعا بهما قال: اللهم إن تعذبني فأهل ذلك أنا، وإن تغفر لي فأهل ذلك أنت، فغفر له» [346] . والتوبة تمحي الذنب فيعود الانسان من خلالها الي الاستقامة ثانية، قال (عليه السلام): «التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم علي الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ» [347] . [ صفحه 151]

الحذر من التورط بالذنوب

الحذر والحيطة من الذنوب ضرورة ملحة في تزكية النفس، وهي تتطلب الدقة في تناول كل خالجة وكل حركة وكل موقف، وتتطلب التحليل الشامل للاسباب والظواهر، والعوامل المسبّبة للموقف، والتعالي بالنفس في ميادينها الباطنية، ولهذا دعا الإمام (عليه السلام) الي الحذر والحيطة من جميع الممارسات فقال: «انّ الله خبأ ثلاثة أشياء في ثلاثة اشياء: خبأ رضاه في طاعته، فلا تحقرن من الطاعة شيئاً فلعلّ رضاه فيه، وخبأ سخطه في معصيته فلا تحقرن من المعصية شيئاً فلعلّ سخطه فيه، وخبأ أولياءه في خلقه، فلا تحقرنّ أحداً فلعلّه ذلك الولي» [348] . ودعا (عليه السلام) الي الاحتياط في القول في الحكم علي الاشخاص والاعمال والممارسات فقال: «لا يسلم أحد من الذنوب حتي يخزن لسانه» [349] . وقال (عليه السلام) لاحد أصحابه: «يا فضيل بلّغ من لقيت من موالينا عنّا السلام، وقل لهم: إني أقول: أني لا أغني عنكم من الله شيئاً إلاّ بورع، فاحفظوا السنتكم، وكفّوا أيديكم، وعليكم بالصبر والصلاة ; ان الله مع الصابرين» [350] .

تعميق الحياء الداخلي

ان موجبات التزكية كامنة في النفس ذاتها، قبل التأثر بالعوامل الخارجية، والتزكية ليست مجرد كلمات ورؤي نظرية بل هي ممارسة وسلوك عملي، يجب ان تنطلق من داخل النفس الانسانية، ولا بد ان يتسلّح الانسان [ صفحه 152] بالواعز الذاتي الذي يصدّه عن فعل القبيح، ولذا أكّد الإمام (عليه السلام) علي الحياء لأنه حصن حصين يردع الأهواء والشهوات من الانطلاق اللامحدود، قال (عليه السلام): «الحياء والإيمان مقرونان في قرن، فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه» [351] .

كسر الألفة بين الانسان وسلوكه الجاهلي

حينما يعتاد الانسان علي السلوك الجاهلي فإنه سيأنس به، ويألفه حتي يصبح وكأنه جزء من كيانه، ترضاه نفسه، ويقبله قلبه، ولهذا فهو بحاجة الي كسر هذه الألفة وهذا الأُنس إن أراد أن يزكّي نفسه ويسمو بها الي مشارف الكمال، ولذا أكّد الإمام (عليه السلام) علي بعض الخطوات التي تكسر هذه الاُلفة، فقال: «ان الله يبغض الفاحش المتفحّش» [352] . وزرع في النفس كراهية الطمع والرغبات المذلة، فقال: «بئس العبد عبد يكون له طمع يقوده، وبئس العبد عبد له رغبة تذله» [353] . ومن أجل زرع الكراهية للشر روي عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قوله: «ألا إن شرار اُمتي الذين يكرمون مخافة شرّهم، الا وإنّ من أكرمه النّاس اتقاء شرّه فليس منّي» [354] . وقال (عليه السلام): «... إنّ أسرع الشر عقوبة البغي، وكفي بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يَعمي عليه من نفسه، وأن يأمر للناس بما لا يستطيع التحوّل عنه، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه» [355] . فإذا كسرت الاُلفة بين الانسان وسلوكه الجاهلي فإنّه سيقلع عنه، ويكون مهيّئاً لتقبل السلوك الاسلامي. [ صفحه 153]

ازالة الحاجز النفسي بين الانسان والسلوك السليم

قد يحدث حاجز نفسي بين الانسان والسلوك السليم بسبب ضغط الأهواء والشهوات، أو بسبب الهواجس والوساوس المطبقة عليه، وسوء التصور، ورواسب الجاهلية، والضعف البشري، فلا بد من ازالة هذه الحواجز أولاً ثم التمرين علي ممارسة السلوك السليم ثانياً. فقد حبّب الإمام (عليه السلام) الي اصحابه السلوك الصالح، بربطه بالعبادة وطلب العون من الله تعالي، فقال: «ما من عبادة أفضل من عفّة بطن وفرج، وما من شيء أحبُّ الي الله من أن يُسأل، وما يدفع القضاء إلاّ الدعاء، وإن اسرع الخير ثواباً البرّ...» [356] . وحبّب الي النفوس حسن الخلق والرفق، فقال: «من اُعطي الخلق والرفق، فقد اُعطي الخير كلّه، والراحة، وحسن حاله في دنياه وآخرته، ومن حُرم الرفق والخلق كان ذلك له سبيلاً الي كل شرّ وبليّة إلاّ من عصمه الله تعالي» [357] . وحبّب الي نفوس أصحابه الأدب وحسن السيرة، فقال: «ما استوي رجلان في حسب ودين قط إلاّ كان أفضلهما عند الله آدبهما» [358] . وروي (عليه السلام) عن الإمام عليّ (عليه السلام) قوله: «انّ من أعون الأخلاق علي الدين الزهد في الدنيا» [359] . وحثَّ (عليه السلام) علي أداء العبادات المندوبة لكي تتجذر في النفوس وفي الارادة، لأنها تساعد علي اصلاح النفس وتزكيتها، وبيّن ثواب من عمل بها، [ صفحه 154] واستمر علي أدائها في جميع الظروف والأحوال. وحثَّ علي التمرّن علي الأخلاق الفاضلة والخصائص الحميدة، فقال (عليه السلام): «عليكم بالورع والاجتهاد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة الي من ائتمنكم عليها براً كان أو فاجراً، فلو أن قاتل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ائتمنني علي أمانة لأديتها اليه [360] .

المنهج التثقيفي عند الإمام الباقر

اشاره

العلم خير وسيلة لتجلية حقيقة التصور الاسلامي، والمنهج الإلهي في الحياة الانسانية. وهو الوسيلة المُثلي لتوجيه الجماعة الصالحة للارتفاع بها الي مستوي الامانة العظيمة التي ناطها الله بها. ولذا كان أهل البيت (عليهم السلام) يتشدّدون مع الجماعة الصالحة في أمر تلقي العلوم المرتبطة بالعقيدة والشريعة من مصادرها الأصيلة وهي القرآن والسنة الشريفة. وفي منهج الإمام الباقر (عليه السلام) التثقيفي والتعليمي المعد للجماعة الصالحة نلاحظ التأكيد علي الاُمور التالية:

الحث علي طلب العلم

حثّ الإمام (عليه السلام) علي طلب العلم، وخصوصاً علم الفقه فقال: «الكمال كل الكمال: التفقه في الدين، والصبر علي النائبة وتقدير المعيشة» [361] . وحث (عليه السلام) علي السؤال باعتباره مفتاح العلم، وروي عن [ صفحه 155] رسول الله (صلي الله عليه وآله) قوله: «العلم خزائن ومفتاحها السؤال، فاسئلوا يرحمكم الله، فانه يؤجر فيه أربعة: السائل، والمعلم، والمستمع، والمجيب لهم» [362] .

موقع العلماء المتميز وفضلهم

بيّن الإمام الباقر (عليه السلام) فضل العالم وقدّمه علي العابد، لأن العلم الحقيقي يجعل الانسان علي وعي كامل بالحقائق والتصورات وبالاحداث والمواقف، فلا يختلط عليه أمر بأمر ولا موقف بموقف فيكون قادراً علي التمييز والتشخيص، وإصابة الواقع في جميع مجالاته، قال (عليه السلام): «عالم ينتفع بعلمه أفضل من ألف عابد» [363] . وقال (عليه السلام): «والله لموت عالم أحبّ الي ابليس من موت سبعين عابداً» [364] . وبيّن (عليه السلام) خصائص العالم فقال: «إنّ الفقيه حق الفقيه: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المتمسك بسنة النبي» [365] .

الاخلاص في طلب العلم

حث (عليه السلام) علي إخلاص النية في طلب العلم، بأن يكون الهدف النهائي من طلبه للعلم هو الوصول الي الحقّ، وتقريره في عقول الناس وقلوبهم تقرباً الي الله تعالي، وتجسيداً لمنهجه في الحياة. قال (عليه السلام): «من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس اليه، فليتبوء مقعده من النار، إنّ الرئاسة لا تصلح إلاّ لأهلها» [366] . [ صفحه 156]

ضرورة نشر العلم وتثقيف الناس

حث الإمام (عليه السلام) علي نشر العلم وتعليمه للناس، وإشاعته في الأوساط المختلفة، نهي عن كتمانه، بقوله (عليه السلام): «من علّم باب هدي فله أجر من عمل به، ولا ينقص اُولئك من اُجورهم شيئاً...» [367] . وقال (عليه السلام): «رحم الله عبداً أحيا العلم... يذاكر به أهل الدين وأهل الورع» [368] . وجعل علي العلم زكاة فقال: «زكاة العلم أن تعلّمه عباد الله» [369] . كما جعل تذاكره ومدارسته صلاة، فقال: «تذاكر العلم دراسة، والدراسة صلاة حسنة» [370] .

مزالق وآفات المتعلمين

ان الانسان مهما اُوتي من علم فإنه يبقي بحاجة الي المزيد، ويبقي في كثير من الأحيان جاهلاً ببعض الحقائق، لذا حثّ الإمام (عليه السلام) علي الاحتياط في الاجابة لكي يأمن الانحراف، ولا تؤدي الي تغرير الآخرين، قال (عليه السلام): «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وتركك حديثاً لم تروه خير من روايتك حديثاً لم تحصه» [371] . وقال: «ما علمتم فقولوا، وما لم تعلموا فقولوا: الله اعلم، ان الرجل لينتزع الآية من القرآن يخرّ فيها أبعد ما بين السماء والأرض» [372] . وجعل هذا الاحتياط حقاً لله علي العباد، فقال: «حق الله علي العباد: أن [ صفحه 157] يقولوا ما يعلمون، ويقفوا عندما لا يعلمون» [373] .

المرجعية العلمية

من الحقائق المشهورة عند المسلمين أنّ علياً (عليه السلام) أعلم الصحابة بكتاب الله وسنة رسوله (صلي الله عليه وآله)، وهو باب علم الرسول (صلي الله عليه وآله)، وقد علّم أبناءه ما تعلّمه من رسول الله (صلي الله عليه وآله) وكانوا يتوارثون العلم فيما بينهم، من هنا كان أهل البيت (عليهم السلام) أعلم الناس بالقرآن والسنّة، ولهذا أكّد الإمام الباقر (عليه السلام) علي مرجعية أهل البيت (عليهم السلام) العلمية، وبيّن أن علمهم موروث منذ آدم الي يومه هذا، فقال: «ان العلم الذي نزل مع آدم (عليه السلام) لم يرفع، والعلم يتوارث، وكان عليّ (عليه السلام) عالم هذه الاُمة، وانه لم يهلك منّا عالم قط إلاّ خلفه من أهله من علم مثل علمه، أو ما شاء الله» [374] . وبيّن اختصاص أهل البيت (عليهم السلام) بعلم القرآن ظاهره وباطنه فقال: «ما يستطيع أحد ان يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الاوصياء» [375] . كما بيّن أنّ علمهم (عليهم السلام) علم صائب، فقال: «ليس عند أحد من الناس حقّ ولا صواب ولا أحد من الناس يقضي بقضاء حقّ إلاّ ما خرج منّا أهل البيت» [376] . وقد أثبت الواقع أهليّتهم (عليهم السلام) للمرجعية العلمية العامّة للمسلمين جميعاً، فكانوا مقصد العلماء من جميع أمصار العالم الاسلامي. وكان (عليه السلام) يحث الجماعة الصالحة علي الرجوع لأهل البيت الأطهار [ صفحه 158] تجسيداً لهذه المرجعية وتحصيناً لهم من الزيغ والانحراف [377] . وكان أيضاً يرشد اصحابه الي مراجعة العلماء الذين أخذوا العلم من أهل البيت (عليهم السلام) واتقنوا فنونه واُسسه وقواعده [378] .

المؤسسات الثقافية

كان للإمام الباقر (عليه السلام) دور كبير في توسيع المؤسسات الثقافية، فقد أسس عدة مدارس في أهم الامصار الإسلامية: مدرسة المدينة: وكان يشرف عليها مباشرة، وينتقي منها الفقهاء ليواصلوا حمل العلم ونشره. مدرسة الكوفة: وكان يشرف عليها من تتلمذ علي يديه، وتخرّج من مدرسته، وقد اثمرت هذه المدرسة في نشر علوم أهل البيت (عليهم السلام) وارجاع الناس اليهم، حتي اعترف الحاكم الاُموي هشام بن عبدالملك بهذه الحقيقة، فقد أشار إلي الإمام (عليه السلام) قائلاً: هذا المفتون به أهل العراق [379] . ولذا أمر الاُمويون بمنع أهل العراق من الالتقاء بالإمام (عليه السلام) [380] . مدرسة قم: وكان يشرف عليها بعض من تتلّمذ علي يدي الإمام (عليه السلام)، وهي متفرعة من مدرسة الكوفة. وتأثرت بمدرسة الكوفة وقم مدارس اُخري في الشرق الإسلامي، كمدرسة الري وخراسان [381] . [ صفحه 159] وهنالك مدارس جوّالة كان يؤسسها طلابه أينما حلّوا وهي محدودة بحدود عدد الأفراد المشرفين وبمقدار الاستجابة لهم من قبل الناس. والمؤسسات الثقافية كان لها دور كبير في تخريج الفقهاء والمبلغين من مختلف الأمصار. وكانت أساليب الإمام التثقيفية متنوعة، بعضها ذو طابع فردي والآخر ذو طابع جماعي. كما كان التثقيف يتم عن طريق التدريس، واُخري عن طريق الرسائل والوصايا. ولم يكن تثقيفه وتعليمه مقتصراً علي الفقه والاُصول أو العلوم الدينية بشكل خاص، بل كان شاملاً لجميع العلوم المعروفة آنذاك [382] .

الإمام الباقر وإحياء الروح الثورية في الامة

اشاره

كانت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ذات دور كبير في إحياء الروح الثورية، وإلهاب الحماس في النفوس المؤمنة بالله ورسوله ضدّ الحكّام الظالمين، ولهذا نشط الإمام الباقر (عليه السلام) ليجعل الثورة حيّة تمنح الناس طاقة ثورية لخوض المواجهة في وقتها وظرفها المناسب. وقد تجسد إحياؤه للروح الثورية هذه في مظهرين:

اقامة الشعائر الحسينية

كان الإمام (عليه السلام) يقوم بنفسه باحياء الشعائر الحسينية، حيث كان يقيم مجالس العزاء في منزله، دون معارضة من قبل الحكّام الاُمويين لأنهم لا يستطيعون منع مجلس عزاء يقيمه الإمام (عليه السلام) علي جدِّه، ولأنهم كانوا [ صفحه 160] يحاولون إلقاء اللوم في قتل الحسين وأهل بيته وصحبه علي آل أبي سفيان. وتجسّدت الشعائر الحسينية بالممارسات التالية: 1 ـ الحزن وإقامة مجالس العزاء: شجَّع الإمام علي البكاء لمصاب جدّه الإمام الحسين (عليهما السلام) وأهل بيته، والأبرار من صحابته من أجل أن تتجذّر الرابطة العاطفية به (عليه السلام) في المشاعر، وكان يقول: «من ذرفت عيناه علي مصاب الحسين ولو مثل البعوضة غفر الله له ذنوبه» [383] . 2 ـ الزيارة: حثّ الإمام الباقر (عليه السلام) علي زيارة قبر جدّه الإمام الحسين (عليه السلام) لتعميق الارتباط به شخصاً ومنهجاً، واستلهام روح الثورة منه، ومعاهدته علي الاستمرار علي نهجه. وكان يؤكد لمحبّيه والمؤمنين بقيادته الاهتمام بها، ويقول: «مروا شيعتنا بزيارة الحسين بن علي، وزيارته مفروضة علي من أقرّ للحسين بالإمامة» [384] . وأكّد (عليه السلام) علي لزوم اقتران حب أهل البيت (عليهم السلام) بزيارة قبر الحسين(عليه السلام) كما جاء في قوله: «من كان لنا محبّاً فليرغب في زيارة قبر الحسين(عليه السلام)، فمن كان للحسين زوّاراً عرفناه بالحب لنا أهل البيت» [385] . 3 ـ إنشاء الشعر: كما كان(عليه السلام) يشجع علي قول الشعر في الإمام الحسين (عليه السلام) وقد بذل من أمواله لنوادب يندبن بمني أيام الموسم [386] . وقد أثمر هذا الحثّ إحياء روح الثورة والنهوض، حتي أن الثورات [ صفحه 161] التي انطلقت بعد عصر الإمام الباقر (عليه السلام) كانت تنطلق في عاشوراء ; إذ كان الثّوار يتزوّدون من قبره(عليه السلام) ثم ينطلقون بثورتهم وحركتهم المسلّحة غالباً.

احياء الإيمان بقضية الإمام المهدي

إن الصراع بين الإسلام والجاهلية، وبين الحق والباطل لا ينتهي ما دام كل منهما موجوداً وله كيان وقيادة وأنصار. ويستمر الصراع الي أن ينتصر الحق علي الباطل في نهاية الشوط. ويمثل ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) وثورته ضد الظلم العالمي الشامل آخر حلقة من حلقات الصراع المستمرة حيث يختفي الباطل ولا يبقي له كيان مستقل. وانتظار الإمام المهدي الثائر (عليه السلام) هو حركة ايجابية وتعبير عن حيويّة الروح الثوريّة وهو يتطلّب تعبئة الافكار والطاقات للاشتراك في عملية الخلاص والانقاذ الشامل. وقد أكّد جميع الائمة من أهل البيت (عليهم السلام) علي هذه الحقيقة لا سيّما الإمام الباقر(عليه السلام); وذلك لكي تتعمق هذه القضيّة الكبري في العقول والنفوس جميعاً. قال (عليه السلام): «انّما نجومكم كنجوم السماء كلّما غاب نجم طلع نجم حتي اذا أشرتم بأصابعكم، وملتم بحواجبكم غيَّب الله عنكم نجمكم واستوت بنو عبد المطّلب فلم يعرف أيٌّ من أيّ فإذا طلع نجمكم، فاحمدوا ربّكم» [387] . واعتبر ثورة الإمام المهدي (عليه السلام) من الأمر الإلهي المحتوم، حين قال: «من المحتوم الّذي حتمه الله قيام قائمنا» [388] . [ صفحه 162] وقال (عليه السلام): «لا تزالوان تمدّون أعناقكم الي الرجل منّا تقولون هو هذا، فيذهب الله به، حتي يبعث الله لهذا الأمر من لا تدرون ولد أم لم يولد، خلق أو لم يخلق» [389] . وكان يهيّء الاذهان للتعبئة الي ذلك اليوم ويقول: «إذا قام قائمنا وظهر مهديّنا كان الرجل أجرأ من ليث وأمضي من سنان» [390] .

الإمام الباقر وتشخيص هوية الجماعة الصالحة

اشاره

اهتم الإمام الباقر (عليه السلام) بتشخيص هوية الجماعة الصالحة، وتمييزها عن غيرها من الهويات التي ترافق سائر الوجودات والكيانات والتيارات القائمة في الواقع. وقد كان للجماعة الصالحة وجود مميّز من حيث الاسم والصفات ومن حيث الولاء والاقتداء، ومن حيث التقييم والدرجة والمرتبة من بين الدرجات والمراتب، فهي تنتمي الي الإسلام أولاً والي منهج أهل البيت ثانياً. وتشخيص الهوية له آثار ايجابية علي تجذر الانتماء وإدامته، وله آثار عملية علي الافكار والعواطف والممارسات السلوكية، حيث انها تتبع الانتماء، وتتحرك علي ضوء الاهداف المحدّدة للهوية المشخصة، ومن هذه الآثار: 1 ـ الشعور بالانتماء وهو أمر فطري يدفع الانسان للاعتزاز بانتمائه، لأنه يشعر بأن شخصيته ووجوده يحددها الانتماء والهوية الظاهرة. 2 ـ ان لتشخيص الهوية دوراً كبيراً من وحدة الاهداف ووحدة البرامج، ووحدة المصير، ووحدة المصالح، ولهذه الوحدة دور أساسي [ صفحه 163] في تحريك المنتمين الي العمل الجاد والحركة الدؤوبة لتحقيق الأهداف المنشودة والتضحية من أجلها. 3 ـ ان لتشخيص الهوية دوراً كبيراً في تعميق علاقات الاُخوة داخل الجماعة الصالحة، ودفعها نحو التآزر والتكاتف والتعاون من أجل رفع مستواها الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، كما يمنحها القوة والمنعة والعزّة. 4 ـ إنّ تشخيص الهوية والشعور بالانتماء الموحد يدفع الحركة باتّجاه توسيع قاعدتها الشعبية علي أساس تقوية مظاهر الهوية في الواقع الموضوعي ويدفعها نحو التنافس المشروع مع الوجودات القائمة لربط بقية أفراد الاُمة بالمفاهيم والقيم الصالحة، وتجسيدها في الواقع.

محاور الانتماء في الجماعة الصالحة

اشاره

الإسلام هو المحور الاساسي للانتماء عند الجماعة الصالحة، وهو المحرك الأول للعمل والحركة وللسلوك وللعلاقات، والمصلحة الإسلامية العليا هي الحاكمة علي جميع المصالح. [ صفحه 164] والإسلام هو الانتماء الاساسي الذي يدفع بالمنتمين إليه نحو التعالي علي الأواصر الضيّقة والروابط الثانوية، ويوجّه الانظار والمواقف الي الهدف المشترك والي الاُفق الأرحب الذي تنضوي تحته جميع الانتماءات، لتكون العلاقات في ظله قائمة علي أساس التكافل والتراحم والتناصح، والأمانة والعدل والسماحة والمودة والاحسان، وهذه العلاقات تتطلب التحرر من ضغط القيم والاوضاع المحدودة، والمصالح والمطامع الذاتية العارضة. والإسلام هو الانتماء الأرحب الذي يضم جميع من نطق بالشهادتين، فهو في رأي الإمام الباقر (عليه السلام): «... والإسلام ما عليه التناكح والتوارث وحقنت به الدماء» [391] . وعلي ذلك فإن الجماعة الصالحة هي جزء من المجتمع الاسلامي الكبير بمختلف تياراته ومذاهبه الفكرية والسياسية، ومسؤولة عن الحفاظ علي هذا الوجود من التصدّع. والفكر المشترك أو العقيدة المشتركة بين الجماعة الصالحة وسائر الجماعات القائمة هي: الايمان بالله ورسله وكتبه، والايمان برسالة خاتم الأنبياء (صلي الله عليه وآله)، والإيمان بيوم القيامة. والانتماء الي منهج أهل البيت (عليهم السلام) هو الهوية المشخصة للجماعة الصالحة لتمييزها عن غيرها من الجماعات التي تنتمي الي مناهج اُخري. والانتماء الي أهل البيت (عليهم السلام) يعني الولاء لهم بجميع مراتبه ومصاديقه المتمثّلة في حبّهم ونصرتهم، والاستسلام لأوامرهم ونواهيهم التي هي أوامر الله ورسوله للإنسان المسلم علي مدي الحياة وفي جميع مجالاة الحياة; بحيث تكون العقول والقلوب والأفعال منسجمة مع منهجهم العقائدي والسياسي في آن واحد، لأنهم الامتداد الحقيقي للرسالة الإسلامية وهم القيّمون علي المنهج الإلهي الذي أرسي دعائمه رسول الله (صلي الله عليه وآله) في حديث الثقلين وغيره من النصوص النبويّة الشريفة. ومن هنا قال الإمام الباقر (عليه السلام): «نحن أهل بيت الرحمة وشجرة النبوة ومعدن الحكمة، ومختلف الملائكة ومهبط الوحي» [392] . وهذا الانتماء يجعل جميع أفراد الجماعة الصالحة مكلفين بأداء دور القدوة ازاء الانتماء الرحب وهو الإسلام، فينبغي أن يكونوا قدوة لغيرهم، [ صفحه 165] وقد وصفهم الإمام (عليه السلام) في أحاديث متقدمة بمواصفات خاصة ومنها: طاعة الله، والتقوي، وأداء الواجبات واجتناب المحرمات، وحسن الخلق، وحسن السيرة، وأكّد علي أن هذا الانتماء لا يتحقق إلاّ بالتقوي والورع والعمل الصالح.

مشخصات الهوية

الاسم

أطلق الإمام الباقر (عليه السلام) تبعاً لآبائه وأجداده (عليهم السلام) عدداً من الاسماء والعناوين لتشخيص هوية الجماعة الصالحة وفرزها وتمييزها عن غيرها في خضم الالتباس في المفاهيم والخلط في العناوين، ومنها [393] . 1 ـ شيعة عليّ. 2 ـ شيعة فاطمة. 3 ـ شيعة آل محمد. 4 ـ شيعة ولد فاطمة. واسم الشيعة هو مورد اعتزاز الجماعة الصالحة لمشايعتهم أهل البيت (عليهم السلام) المطهّرين من كل رجس ودنس. وقد بشّر الإمام الباقر (عليه السلام) افراد الجماعة الصالحة بهذا الاسم، فعن أبي بصير، قال: «ليهنكم الاسم، قلت: ما هو جعلت فداك؟ قال: «وإنّ من شيعته لإبراهيم» [394] وقوله: (فاستغاثه الّذي من شيعته علي الّذي من عدوه) [395] ، فليهنكم الاسم [396] . [ صفحه 166] فهذا الاسم اسم شريف سمّي به الله تعالي أتباع الأنبياء السابقين. وأقرّ (عليه السلام) اسم الرافضة علي الجماعة الصالحه بعد أن سمّاهم به اتباع السلطان، فحينما شكي اليه بعض أصحابه هذه التسمية قال له: «وأنا من الرافضة» قالها ثلاثاً [397] . وعن أبي بصير، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): جعلت فداك اسم سمّينا به استحلّت به الولاة دماءنا وأموالنا وعذابنا قال: وما هو، قال: الرّافضة، فقال أبو جعفر (عليه السلام): «انّ سبعين رجلاً من عسكر فرعون رفضوا فرعون فأتوا موسي (عليه السلام)، فلم يكن في قوم موسي (عليه السلام) أشدّ اجتهاداً ولا أشدّ حباً لهارون منهم، فسمّاهم قوم موسي الرّافضة، فأوحي الله الي موسي: أن ثبّت لهم هذا الاسم في التوراة، فإني قد نحلتهم، وذلك اسم قد نحلكموه الله» [398] . وهنالك أسماء اُخري ذكرها الإمام الباقر (عليه السلام) وهي: المؤمن والموالي [399] .

الصفات

وصف الإمام الباقر (عليه السلام) أفراد الجماعة الصالحة بمواصفات خاصة تشخصهم بها عن غيرهم [400] ومنها: 1 ـ أصحاب اليمين. 2 ـ خير البرية. 3 ـ أولياء الله. [ صفحه 167] 4 ـ شُرَط الله. 5 ـ أعوان الله.

منزلة الجماعة الصالحة

ذكر الإمام (عليه السلام) للجماعة الصالحة التي تحمل اسم شيعة أهل البيت (عليهم السلام) منزلة ومرتبة في كلتا الحياتين: الدنيا والآخرة. 1 ـ منزلة الجماعة الصالحة في الحياة الدنيا: ان الجماعة الصالحة مرّت بمراحل من التمحيص في داخل النفس وفي مكنون الضمير، وفي الواقع العملي، فخرجت مستقرة علي الحق، واتبعت منهج أهل البيت (عليهم السلام) في وقت كان فيه قادته مطاردين ملاحقين محاصرين من جهات شتي، واستقرارها علي الحق هذا جعل لها منزلة ومرتبة في دار الاختبار والامتحان، وقد أوضح الإمام (عليه السلام) هذه الفضيلة بقوله: «انّ الله عزّوجلّ أعطي المؤمن ثلاث خصال: العزّ في الدنيا والدين، والفلج في الآخرة، والمهابة في صدور العالمين» [401] . ودخل الإمام المسجد الحرام فوجد فيه جماعة من أصحابه، فدنا منهم وسلَّم ثم قال لهم: «والله انّي لأحبُّ ريحكم وأرواحكم... انتم شُرط الله، وأنتم أعوان الله، وأنتم أنصار الله، وأنتم السابقون الأولوّن والسابقون الآخرون... قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ألا وإنّ لكل شيء شرفاً، وشرف الدين الشيعة، ألا وإنَّ لكل شيء عماداً وعماد الدين الشيعة، الا وإنّ لكل شيء سيداً وسيّد المجالس مجلس شيعتنا...» [402] . والجماعة الصالحة هي المعيار العملي في الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) [ صفحه 168] لقوله (عليه السلام): «كونوا النمرقة الوسطي يرجع اليكم الغالي ويلحق بكم التالي» [403] . 2 ـ منزلة الجماعة الصالحة في الحياة الآخرة: إنّ للجماعة الصالحة منزلة في الحياة الاُخري، لأنها اجتازت الامتحان الإلهي بنجاح، وثبتت علي المنهج الإلهي في جميع الأبعاد: في الفكر والعاطفة والسلوك، وبذلت الغالي والنفيس دفاعاً عن القيم الإسلامية الثابتة التي ارسي دعائمها القرآن ورسول الإسلام (صلي الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام). ومن هذه المنازل والمراتب هي كرامتهم عند الله تعالي، قال الإمام الباقر (عليه السلام): «ان الله سبحانه يبعث شيعتنا يوم القيامة من قبورهم... ووجوههم كالقمر ليلة البدر، مسكنة روعاتهم، مستورة عوراتهم، قد اعطوا الأمن والأمان، يخاف الناس ولا يخافون، ويحزن الناس ولا يحزنون، يحشرون علي نوق لها أجنحة من ذهب تتلألأ، قد ذلّلت من غير رياضة أعناقها من ياقوت أحمر، ألين من الحرير، لكرامتهم علي الله» [404] . قال (عليه السلام): «وفي شيعة ولد فاطمة أنزل الله هذه الآية خاصة (قُل يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنَّ الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) [405] » [406] . وروي (عليه السلام) عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قوله: «انَّ علياً وشيعته هم الفائزون» [407] . وهذه المنازل والمراتب سينالها أفراد الجماعة الصالحة المتّبعين منهج ائمتهم المطيعين لله تعالي إذ جسّدوا القيم الإلهية في واقع الحياة. [ صفحه 169]

الإمام الباقر والعلاقات في نظام الجماعة الصالحة

اشاره

الجماعة الصالحة لها قيادة وطليعة وقاعدة ترتبط فيما بينها بعلاقات تحددّها المفاهيم والقيم الحاكمة علي جميع الافراد ومن مختلف المستويات. ولكل من مراتب الجماعة علاقات مع الجماعات الاُخري تحدّدها الاهداف والمصالح المشتركة ضمن الاُفق الأرحب والمصير الأكبر. وتربطها علاقات مع اتباع الاديان الاُخري من المعاهدين وأهل الذمة.

العلاقات داخل الجماعة الصالحة

اشاره

أ ـ العلاقة بين القيادة والطليعة: القيادة تتمثل في الإمام المعصوم(عليه السلام) الذي يشرف علي بناء وتوجيه الجماعة الصالحة، وتنظيم شؤونها المختلفة، وهو المرجع في إصدار الأوامر واتخاذ الخطط والقرارات. وبما ان الجماعة الصالحة لها امتداد في جميع البلدان والامصار، لذا فإنّ العلاقة بين أفرادها وبين الإمام (عليه السلام) تكون عن طريق الطليعة الواعية المخلصة والتي تتمثل بالوكلاء، وهم المقربون من الإمام (عليه السلام) والمختصون به، وهم بدورهم يشرفون علي باقي افراد الجماعة. وقد كان الإمام (عليه السلام) يخصص كثيراً من وقته لتوجيه الطليعة وارشادها عن طريق اللقاءات المباشرة اليومية، واللقاءات الدورية، وعن طريق المراسلات. [ صفحه 170] ب ـ العلاقة بين القيادة والقاعدة: كانت للإمام (عليه السلام) علاقات مباشرة وغير مباشرة مع قواعده في المدينة، وفي مختلف الامصار، وكان أهل المدينة وغيرهم يلتقون به ويزورونه، وكان يقوم (عليه السلام) بزيارتهم والالتقاء بهم، أما المقيمون في بلدان اُخري فكانوا يلتقون به في موسم الحج وغيره، وكان (عليه السلام) يراسل بعضهم، لتدوم العلاقة بينه وبينهم، وقد رسم لهم منهاجاً في العلاقات، وجعل عليهم أن يزوروه، حين قال (عليه السلام): «إنّما اُمر الناس أن ياتوا هذه الاحجار، فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرهم» [408] . وقال أيضاً: «تمام الحج لقاء الإمام» [409] . وكانت العلاقة مستمرة بين الإمام (عليه السلام) والقاعدة عن طريق الطليعة (الوكلاء)، وعن طريق المراسلة. ج ـ العلاقة بين الافراد: حث الإمام (عليه السلام) علي ادامة العلاقة بين افراد الجماعة الصالحة، وقال: «تزاوروا في بيوتكم، فإن ذلك حياة لأمرنا، رحم الله عبداً أحيي أمرنا» [410] . ونهي (عليه السلام) عن المقاطعة والهجران فقال: «ما من مؤمنين اهتجرا فوق ثلاث إلاّ وبرئت منهما في الثالثة»، فقيل له: يا ابن رسول الله هذا حال الظالم، فما بال المظلوم؟ فقال (عليه السلام): «ما بال المظلوم لا يصير الي الظالم؟ فيقول: أنا الظالم حتي يصطلحا» [411] . [ صفحه 171]

اسس العلاقات الداخلية

أ ـ طاعة الإمام (عليه السلام): الإمام المعصوم هو القائد الربّاني للجماعة الصالحة، وهو المشرف علي جميع شؤونها، وان جميع البرامج والخطط لا يمكن تحقيقها بالصورة المشروعة إلاّ بالرجوع اليه وامتثال أوامره والاخلاص له في النصيحة، وقد روي الإمام الباقر(عليه السلام) عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) انّه قال: «ما نظر الله عزّوجلّ الي وليّ له يجهد نفسه بالطاعة لإمامه والنصيحة إلاّ كان معنا في الرفيق الاعلي» [412] . ب ـ قاعدة الحب في الله والبغض في الله: وروي الإمام الباقر(عليه السلام) عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) أنّه قال: «ودّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان، ومن أحبّ في الله، وأبغض في الله، وأعطي في الله، ومنع في الله فهو من أصفياء الله» [413] . ج ـ اخلاص المودّة: إن الحب والمودة هي أساس العلاقات داخل الجماعة الصالحة; لذا قال (عليه السلام): «واخلص مودتك للمؤمن» [414] . د ـ الايثار من أجل حقوق الاخوان: قال (عليه السلام): «أشرف أخلاق الأئمة والفاضلين من شيعتنا استعمال التقية وأخذ النفس بحقوق الاخوان» [415] . [ صفحه 172] هـ ـ التكافل الاجتماعي و ـ التناصر والتآزر ز ـ ادامة العلاقة: قال (عليه السلام): «ثلاثة من مكارم الدنيا والآخرة: أن تعفو عمّن ظلمك، وتصل من قطعك، وتحلم إذا جهل عليك» [416] . وقال (عليه السلام): «ان المؤمن أخ المؤمن لا يشتمه ولا يحرمه ولا يسيء به الظن» [417] .

العلاقات مع الجماعات الإسلامية الاخري

1 ـ إنّ التعايش والانفتاح مع عامة المسلمين وجمهورهم الذين ليس لهم عداء لأهل البيت (عليهم السلام) ـ وإن كانوا لا يرون لهم حق الولاية والإمامة ـ هو من سيرة الإمام (عليه السلام) وقد كانت للجماعة الصالحة علاقات واسعة مع جماعات عديدة من المسلمين. 2 ـ العلاقة السلبية مع اعداء أهل البيت (عليهم السلام): إنّ المقاطعة هي السمة الغالبة للعلاقات مع من نصب العداء لأهل البيت(عليهم السلام)، ويلحق بها مقاطعة أصحاب البدع، والغلاة، وأعوان النظام الجائر ممّن أبغض أهل البيت (عليهم السلام). ودرجة المقاطعة تتحكم بها الظروف عادة، فإذا كانت الظروف غير مؤاتية فالمصانعة هي العلاقة المختارة، فقد قال (عليه السلام): «صانع المنافق بلسانك» [418] . 3 ـ إنّ المشاركة في النشاطات العامة التي فيها مصلحة للاسلام ومصلحة الجماعة الصالحة هي أمر مطلوب ومحمود ولا يضرّ بالانتماء لأهل البيت(عليهم السلام). [ صفحه 173]

العلاقة مع أهل الذمة

رسم الإمام (عليه السلام) منهجاً لعلاقة الجماعة الصالحة مع أهل الذمّة، علي أساس المعايشة وعدم الاعتداء، قال (عليه السلام): «... فإذا قبلوا الجزية علي أنفسهم حرم علينا سبيهم، وحرمت أموالهم وحلّت لنا مناكحهم» [419] . وقال (عليه السلام): «ما من رجل أمن رجلاً علي ذمة ثم قتله إلاّ جاء يوم القيامة يحمل لواء الغدر» [420] . وحرّم (عليه السلام) الاعتداء علي أموالهم وممتلكاتهم بغصب أو سرقة أو غش [421] . وأوصي باحترام احكامهم الفقهية والمدنية وأحكام القضاء والمواريث، وان كانت مخالفة للشريعة الإسلامية [422] .

العلاقة مع الكفار

إنّ العلاقة مع الكفّار قائمة علي أساس قاعدة البراءة، وهي المفاصلة بين الإسلام والكفر، فلا تجوز المعاونة لهم بأي لون، ويحرم إسنادهم بأي شكل من أشكال الإسناد. والبراءة تستدعي المقاومة بل المواجهة معهم أحياناً، ولذا كان(عليه السلام) يشجع علي بيع السلاح لمن يحارب به الكفّار وان كان مخالفاً أو معادياً لأهل [ صفحه 174] البيت (عليهم السلام) وللجماعة الصالحة; فإنّ هذا العمل في رأي الإمام (عليه السلام) يتم به دفع العدو المشترك، وإبعاد خطره الذي يهدّد الكيان الاسلامي.

الإمام الباقر والنظام الأمني للجماعة الصالحة

اشاره

أولي الإمام (عليه السلام) اهتماماً خاصاً بالنظام الأمني للجماعة الصالحة، حفاظاً علي سلامة أفرادها وكيانها من التصدّع أو التصفية الجسدية، ليبقي أفرادها أحراراً في حركتهم الاصلاحية والتغييرية. والاحتياط والحذر الأمني له آثار ايجابية علي سلامة العقيدة وسلامة الشريعة وسلامة القيم الإسلامية، فإنّ أي خلل في الوضع الأمني يؤدي الي سجن أو قتل أو تهجير من له تأثير ايجابي في الاُمة، وبالتالي يكون خير فرصة للمنحرفين لنشر عقائدهم وافكارهم لبلبلة الأفكار وخلق الاضطراب في العقول والقلوب والنفوس، بعد خلو الميدان من المصلحين الذين ينتمون الي الجماعة الصالحة. والاهتمام بالنظام الأمني يضمن للجماعة الصالحة بقاء القيادة وهي المعصومة (عليه السلام) بين ظهرانيهم، ترشدهم وتوجههم وتربيهم، وتعلّمهم أحكام الدين وسبل الشريعة. وللنظام الأمني معالم ومظاهر يمكن تحديدها في النقاط التالية:

التقية

التقية عملية مشروعة لما لها من آثار ايجابية علي سير الجماعة الصالحة وتوجيه حركتها نحو اصلاح الواقع وتغييره دون عرقلة أو منع أو تحجيم. وللتقية موارد عديدة تحددها طبيعة الظروف المحيطة بالفرد [ صفحه 175] وبالجماعة الصالحة، من حيث القوة والضعف، ومن حيث موقف الحكام وأجهزته من الإمام (عليه السلام) ومن الجماعة الصالحة. والقاعدة الاساسية في استخدام التقية هي قول الإمام (عليه السلام): «التقيّة في كل ضرورة» [423] . فالضرورة هي التي تحدّد استثمارها واستخدامها من حيث الوجوب والاستحباب، ومن حيث المرّة والتكرار. والهدف من التقيّة هو حقن الدماء وحفظها في مواقف ليست ضرورية، وليس لها تأثير علي سير حركة الاصلاح والتغيير، أمّا إذا لم تحقق هدفها ذاك فلا ينبغي ممارستها. قال الإمام الباقر (عليه السلام): «إنما جعلت التقيّة ليحقن بها الدماء، فإذا بلغ الدّم فلا تقيّة» [424] . ومن موارد التقيّة: أ ـ كتمان المعتقد بالاسلام إذا كان المجتمع مجتمعاً غير اسلامي محارباً للمسلمين، وكتمان المعتقد بمذهب أهل البيت (عليه السلام) إذا كان المجتمع مخالفاً أو معادياً لهم، ويستحل قتل أو تعذيب من يروّج له أو يعلن الانتماء اليه. أو كان الاعلان عن المعتقد يؤدي الي عزل المؤمن عن المجتمع وعدم التأثر بقوله وفعله، أي في حال عرقلة مهمة الاصلاح والتغيير. ب ـ كتمان الأحكام الفقهية إن ادّت الي الضرر الكبير. ت ـ كتمان الآراء السياسية. ث ـ كتمان الأسرار السياسية. [ صفحه 176] ج ـ كتمان البرامج والخطط المعدّة لاصلاح الواقع وتغييره. والتقية قد تكون بكتمان هذه الموارد، أو التظاهر بغيرها. وبعبارة اُخري: ان التقيّة هي المصانعة مع المخالفين أو المعادين للجماعة الصالحة تخلّصاً من عدوانهم وأذاهم، أو إضرارهم بالعمل. والتقيّة هي الموقف المتوازن بين الانعزال عن المجتمع والابتعاد عن ميدان الاصلاح والتغيير، وبين المواجهة والصراع، لأنّ عدم ممارستها يؤدي الي واحد من الموقفين، وفي كليهما لا يحقق الانسان اهدافه في الحياة الاجتماعية، وقد يؤدي احياناً الي النكوص والتراجع أو التخلّي نهائياً عن المنهج السليم، أو الانحراف عنه. فالانعزال قد يؤدي الي الوقوع في حبائل الغلو، والتحول إلي الباطنية كما حدث للحركة الاسماعيلية. والمواجهة قد تؤدي الي الضعف أمام أساليب الأرهاب والإغراء والخداع والتضليل ان كانت الجماعة الصالحة غير مهيئة لخوض غمار الصراع والمواجهة. وقد استطاع الإمام (عليه السلام) أن يحافظ علي أمن الجماعة الصالحة بتأكيده علي التقيّة، حيث استطاع أن يوسّع قاعدته الشعبية، ويرفد الجماعة الصالحة بأفراد جدد، وبكوادر جديدة، واستطاع أن ينشر علوم أهل البيت (عليه السلام)، وان يشيع الفضائل والمكارم في المجتمع، دون ان يمنح للحكّام فرصة لاغتياله أو اعتقاله أو منعه من نشاطاته العامة في التدريس، واللقاءات، والزيارات. والتقيّة قد تتوقف احياناً وفي حدود خاصة علي تظاهر الانسان بالجنون حفاظاً علي نفسه والجماعة التي ينتمي اليها، وهي حالة نادرة أمر بها الإمام (عليه السلام) جابر بن يزيد الجعفي، حيث كتب اليه كتاباً في ذلك، فلما دخل [ صفحه 177] الكوفة، لم يُرَ ضاحكاً ولا مسروراً، وتظاهر بالجنون، وبعد أيام من كتاب الإمام (عليه السلام) جاء كتاب هشام بن عبد الملك يأمر بقتله، فتركه الوالي ولم يقتله، بعد أن أخبره الناس بجنونه [425] .

كتمان الاسرار

ان الظروف المحيطة بالإمام (عليه السلام) وبالجماعة الصالحة جعلت الإمام (عليه السلام) يأمر بكتمان الاسرار، قال (عليه السلام): «اكتموا اسرارنا ولا تحمّلوا الناس علي أعناقنا» [426] . والجماعة الصالحة محاطة بجماعات وتيارات وأجهزة أمنية تتابع أقوالها وأفعالها وممارساتها العملية، وتستثمر الثغرات والفرص المتاحة لتشويه سمعتها في عقيدتها وفي أحكامها وفي سلوكها، وتحجيم دورها في الحياة ; ولهذا فهي بحاجة الي عناية اضافية بكتمان الاسرار، سواء كانت ممّا يتعلق بفضائل ومكارم أهل البيت (عليهم السلام) التي لا تتحملها عقول المخالفين، أو ممّا يتعلق بتنظيم الجماعة الصالحة من حيث العدّة والعدد، وأسماء الوكلاء، أو الطليعة المؤثرة علي سير الأحداث، أو كانت من أسرار العلاقات واللقاءات، أو الأسرار السياسية المتعلقة بالبرامج والخطط الموضوعة لاصلاح وتغيير الواقع السياسي والاجتماعي، أو الأسرار المتعلقة بساعات التنفيذ وما شابه ذلك. فالإمام (عليه السلام) كان يتكتم علي المواقف المهمة، فحينما حرّم الدخول الي السلاطين والتعاون معهم، كان هذا التحريم محدوداً لم يبلّغ به إلاّ [ صفحه 178] المقربين منه. وكان يخطط لثورة زيد دون أن تعلم به السلطات، ودون علم كثير من أفراد الجماعة الصالحة، وكان يكتفي بمدح شخصية زيد ليوجه الانظار بصورة غير مباشرة اليه والي مواقفه المستقبلية. وكان يثني علي المختار مقرّاً بثورته وولائه لأهل البيت (عليهم السلام) ولكن في نطاق محدود أمام بعض أصحابه. ولم يعلن (عليه السلام) عن إمامة الإمام الصادق (عليه السلام) إلاّ في نطاق محدود لمن كان يثق به ويعتمد عليه في عدم كشف السرّ إلاّ في وقته المناسب.

التوازن في العلاقة مع الحكام

إنّ مقاطعة الحاكم الجائر هي إحدي الخصائص التي اختص بها أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد كانت ارشادات وأوامر الإمام الباقر (عليه السلام) الي أفراد الجماعة الصالحة تؤكد علي المقاطعة في جميع صورها، لأنّ العمل مع الجائر يؤدي الي احتمالات واقعية، هي: أ ـ تقويته ودعم أركان دولته المنحرفة. ب ـ ممارسة الاعمال المنحرفة التي يمليها الواقع المنحرف. ت ـ تأثر العامل معه ـ في بعض الأحيان ـ بالاغراء المتنوع، بالأموال والمناصب والجاه، وقد يؤدي هذا إلي التخلي عن الانتماء الي الجماعة الصالحة. ث ـ تحول العامل الي عدو للجماعة الصالحة في بعض الاحيان. [ صفحه 179] ولهذا أمر (عليه السلام) بمقاطعة الحاكم الجائر [427] وجعل العمل مع الجائر دليلاً علي كراهية الجنّة، تشديداً منه علي عدم الدخول معه في الاعمال. عن عقبة ابن بشير الأسدي، قال: دخلت علي أبي جعفر (عليه السلام) فقلت له: اني من الحسب الضخم من قومي، وانّ قومي كان لهم عريف فهلك، فأرادوا ان يعرفوني عليهم، فما تري لي؟ قال (عليه السلام): «فإن كنت تكره الجنة وتبغضها، فتعرّف علي قومك، يأخذ سلطان جائر بإمرئ مسلم يسفك دمه، فتشركهم في دمه، وعسي أن لا تنال من دنياهم شيئاً» [428] . وعلي الرغم من أوامره في مقاطعة الحاكم الجائر إلاّ انّه راعي المصلحة الإسلامية العليا في موارد عديدة، فجوّز (عليه السلام) بيع السلاح أو حمله الي اتباع السلطان [429] للمساهمة في ردّ أعداء الكيان الاسلامي، ولإثبات حسن التعامل للحاكم إن سمع أو لاحظ هذه الإسناد. وكان (عليه السلام) لا يمتنع إن دعاه الحاكم للقاء به، ولا يمنع أصحابه من ذلك، حفاظاً علي أمنهم، لأنّ التمرد علي طلبه قد يؤدي الي كشف نواياهم في المعارضة وعدم الرضي بحكمه. ولم يمنع (عليه السلام) أفراد الجماعة الصالحة من المشاركة في الغزوات التي كان يقودها حكّام الجور المسلمون في مختلف الأزمان. [ صفحه 180]

مراعاة المستويات المختلفة

راعي الإمام (عليه السلام) في أوامره وتعليماته، وفي اشراك أفراد الجماعة الصالحة في النشاطات والاعمال المختلفة، تفاوت مستويات الأفراد المختلفة من حيث الطاقات والامكانيات، ومن حيث الوعي والادراك، ودرجة التحمّل، والقدرة علي أداء الواجب أو الاستمرار في الأعمال، وحدّد لكل فرد مستواه ; لكي يكلّف بقدر مستواه. عن سدير قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): «ان المؤمنين علي منازل، منهم علي واحدة، ومنهم علي اثنين، ومنهم علي ثلاث، ومنهم علي أربع، ومنهم علي خمس، ومنهم علي ست، ومنهم علي سبع، فلو ذهبت تحمّل علي صاحب الواحدة ثنتين لم يقو، وعلي صاحب الثنتين ثلاثاً لم يقو، وعلي صاحب الثلاث أربعاً لم يقو...» [430] . وكذا الحال في اعطاء الاسرار المتعلقة بالفضائل والكرامات لأهل البيت (عليهم السلام) أو الاسرار السياسية، فلكل فرد حسب طاقته العقلية والعاطفية والبدنية.

الإمام الباقر والنظام الاقتصادي للجماعة الصالحة

اشاره

للاقتصاد دور كبير في حركة الاُمم والجماعات، من حيث النمو والثبات والتكامل، ومدّها بالقدرة علي مواجهة الصعاب التي تقع في طريق النمو والتكامل، فهو أحد العوامل الاساسية في بناء الحضارات ورفدها باُسس البقاء والاستمرار، حتي ان الإسلام في جميع مراحله لم يحقق أهدافه القريبة أو البعيدة إلاّ بالاستعانة بالاقتصاد، وبالمال الذي هو العصب الاساسي له. [ صفحه 181] وأكّد الإمام الباقر (عليه السلام) في توجيهاته وارشاداته للجماعة الصالحة علي أهمية المال في نجاح أعمالها، واستقامة شؤونها، وقوة كيانها، فقال (عليه السلام): «... هي الدنانير والدراهم خواتيم الله في أرضه، جعلها الله مصلحة لخلقه، وبه تستقيم شؤونهم ومطالبهم» [431] .

التأكيد علي أهمية العامل الاقتصادي

وحثّ الإمام (عليه السلام) علي العمل لكسب الرزق، والاستغناء عن الناس، حين حثّ علي التجارة والزراعة والصناعة وعلي تعلم الحرفة، وكان (عليه السلام) يعمل بنفسه ويري انّ في العمل طاعة لله، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أ نّه قال: إنَّ محمّد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أري أنّ عليّ بن الحسين (عليه السلام) يدع خلفاً أفضل منه، حتي رأيت ابنه محمد بن عليّ (عليه السلام) فأردت أن أعظه فوعظني، فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟ قال: خرجت الي بعض نواحي المدينة في ساعة حارة، فلقيني أبو جعفر محمد بن عليّ، وكان رجلاً بادناً ثقيلاً وهو متكئ علي غلامين أسودين أو موليين، فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة علي هذه الحال في طلب الدنيا، أما والله لأعظنه، فدنوت منه فسلّمت عليه فردّ عليّ بنهر، وهو يتصبّب عرقاً، فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة علي هذه الحال في طلب الدنيا أرأيت لو جاء أجلك وأنت علي هذه الحال ما كنت تصنع؟ فقال (عليه السلام): لو جاءني الموت وأنا علي هذه الحالة جاءني وأنا في طاعة من طاعة الله عزوجل ; اكفُّ بها نفسي وعيالي عنك وعن النّاس، وإنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا علي معصية من معاصي الله. [ صفحه 182] فقلت: صدقت يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني [432] . وكان (عليه السلام) يستشهد بسيرة آبائه وأجداده للحث علي العمل وطلب الرزق، فقد روي (عليه السلام): أن رجلاً لقي أمير المؤمنين (عليه السلام) وتحته وسق من نوي، فقال له: ما هذا يا أبا الحسن تحتك؟ فقال: مائة عذق ان شاء الله، فغرسه فلم يغادر منه نواة واحدة [433] . وكان ينهي عن الكسل والتقاعس عن العمل، وقد جعل الكسل عن الآخرة ملازماً للكسل عن طلب الدنيا، فقال: «إنّي لأبغض الرجل ـ أو أبغض للرجل ـ أن يكون كسلاناً عن أمر دنياه، ومن كسل عن أمر دنياه، فهو عن أمر آخرته أكسل» [434] . وبيّن ان الرزق من الله تعالي، وهو الذي حدّد لكل نفس رزقها، فما علي الانسان إلاّ السعي لطلبه، قال (عليه السلام): «ليس من نفس إلاّ وقد فرض الله عزّوجلّ لها رزقاً حلالاً يأتيها في عافية، وعرض لها بالحرام من وجه آخر، فإن هي تناولت شيئاً من الحرام قاصّها به من الحلال الذي فرض لها، وعند الله سواهما فضل كثير، وهو قوله عزوجلّ: (واسألوا الله من فضله) [435] ...» [436] . ونهي عن جمع المال من المكاسب المحرّمة ومنها الغلول، فقد سأله عمّار بن مروان عنها فقال: «كل شيء غلّ من الإمام فهو سحت، وأكل مال اليتيم وشبهه سحت، والسحت أنواع كثيرة: منها أجور الفواجر، وثمن الخمر والنبيذ، والمسكر، والربا بعد البيّنة، فأمّا الرُّشا في الحكم، فإنّ ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله» [437] . [ صفحه 183] ونهي (عليه السلام) عن الربّا لأن فيه غصباً لحقوق الآخرين، وإضعافاً لروح الودّ والإخاء، وأماتة لروح الزهد في الدنيا والاحسان للآخرين، ولذا اعتبره (عليه السلام) من أخبث المكاسب، فقال (عليه السلام): «أخبث المكاسب كسب الرّبا» [438] . ولم يحبّذ لانصاره العمل غير اللائق بهم وان كان حلالاً كالعمل في الحجامة [439] .

التوازن بين طلب الرزق وطلب المكارم

حثّ الإمام (عليه السلام) علي العمل وطلب الرزق كمقدمة للاستغناء عن الناس، وإشباع النفس والعيال لكي يتفرغوا للهدف الكبير الذي خُلقوا من أجله وهو حمل الأمانة الإلهية، وتبليغها للناس جميعاً، وتقرير اُسسها وقواعدها في الواقع، فقد أراد من أتباعه التطلع الي اُفق أعلي، والي اهتمامات أرفع لتكون القيم المعنوية هي الحاكمة علي جميع تصرفاتهم المالية، ولكي لا ينساقوا وراء الشهوات وينشغلوا باشباعها، قال (عليه السلام): «ان أهل التقوي هم الأغنياء، أغناهم القليل من الدنيا، فمؤنتهم يسيرة... أخّروا شهواتهم ولذاتهم خلفهم» [440] . وبيّن في دعاء له الأهداف المتوخاة من طلب الرزق وحدوده، والتوازن بينه وبين القيم المعنوية، ومن دعائه قوله (عليه السلام): «... اسألك اللهمَّ الرّفاهية في معيشتي ما أبقيتني، معيشة اقوي بها علي طاعتك، وأبلغ بها رضوانك، وأصير بها بمنّك الي دار الحيوان، ولا ترزقني رزقاً يطغيني، ولا تبتلني بفقر أشقي به، مضيّقاً عليّ، أعطني حظاً وافراً في آخرتي، ومعاشاً واسعاً هنيئاً مريئاً في دنياي...» [441] . [ صفحه 184] وبيّن (عليه السلام) الميزان الاقتصادي والمالي للجماعة الصالحة لتوزن به درجة قربها وبعدها عن العمل للآخرة فقال: «انّا لنحبّ الدنيا ولا نؤتاها، وهو خير لنا، وما أوتي عبد منها شيئاً إلاّ كان أنقص لحظه في الآخرة، وليس من شيعتنا من له مائة ألف ولا خمسون ألفاً ولا أربعون ألفاً، ولو شئت أن أقول ثلاثون ألفاً لقلت، وما جمع رجل قط عشرة الآف من حلّها» [442] . ودعا (عليه السلام) الي الاقتصاد في اشباع الرغبات والشهوات لكي لا تصبح هدفاً بذاتها، فقال (عليه السلام): «إذا شبع البطن طغي» [443] . وقال أيضاً: «ما من شيء أبغض الي الله عزّوجلّ من بطن مملوء» [444] .

الموارد المالية للجماعة الصالحة

الأول: الزكاة: الزكاة هي أحد الموارد المالية للجماعة الصالحة، وهي عبادة اقتصادية أمر الله تعالي بها لاشباع الجياع وكسوتهم ورفع المستوي المعاشي للفقراء والمحتاجين، وايجاد التوازن بين الطبقات لكي لا يحدث تفاوت فاحش بين مستويات الناس الاقتصادية، ولكي لا تتكدس الأموال عند طبقة معيّنة. وقد حثّ (عليه السلام) علي اعطاء الزكاة، ومما جاء في ذلك قوله (عليه السلام): «فرض الله الزكاة مع الصلاة» [445] . وبيّن (عليه السلام) الآثار المترتبة علي منع الزكاة ومنها منع البركات [ صفحه 185] فقال (عليه السلام): «وجدنا في كتاب عليٍّ (عليه السلام)، قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): إذا منعت الزكاة منعت الأرض بركاتها» [446] . ومن آثار منعها في الحياة الاُخري هو العذاب الإلهي، قال (عليه السلام): «انّ الله تبارك وتعالي يبعث يوم القيامة ناساً من قبورهم مشدودة ايديهم الي اعناقهم لا يستطيعون أن يتناولوا بها قيس أنملة، معهم ملائكة يعيّرونهم تعييراً شديداً، يقولون: هؤلاء الذين منعوا خيراً قليلاً من خير كثير، هؤلاء الذين اعطاهم الله، فمنعوا حقّ الله في أموالهم» [447] . الثاني: الخمس: حثّ الإمام (عليه السلام) علي اعطاء الخمس لأنّه فريضة ثابتة في الشريعة الإسلامية، وهي حقّ ثابت فمن لم يعطه فقد أكل حقاً، ومن تصرّف به فقد تصرف بأموال ليست له، قال (عليه السلام): «من اشتري شيئاً من الخمس لم يعذره الله، اشتري ما لا يحلّ له» [448] . وقال (عليه السلام): «لا يحلّ لأحد أن يشتري من الخمس شيئاً حتّي يصل إلينا حقّنا» [449] . وقد بيّن (عليه السلام) هذا الحق المغتصب وغيره من الحقوق، وأوضح قاعدة عامة فقال: «ما كان للملوك فهو للإمام» [450] . ومن الموارد المالية الواجبة: الكفّارات، وهنالك موارد ثانوية غير واجبة كالهدايا والصدقات والانفاق في وجوه الخير. [ صفحه 186]

التكافل داخل الجماعة الصالحة

الجماعة الصالحة لها كيانها المستقل ومواردها المستقلة التي سبق ذكرها، وانّ انفاق الأموال في مواردها التي وضعها الله تعالي تؤدي الي التكافل داخل الجماعة الصالحة. فالزكاة تدفع للفقراء والمساكين والعاملين عليها، وفي عتق الرقاب المؤمنة، وللمثقلين بالديون، وابن السبيل وتدفع للمؤلفة قلوبهم للاسلام ولمذهب أهل البيت (عليهم السلام) أو دفع شرّهم، ولها موارد انفاق تقع تحت عنوان (في سبيل الله). وهي تدفع لهم مباشرة دون إذن الإمام (عليه السلام)، كما يفهم من أحاديثه الشريفة [451] . وهي في الأصل تدفع إلي من ينتمي الي الجماعة الصالحة، فعن ضريس قال: سأل المدائني أبا جعفر (عليه السلام) قال: ان لنا زكاة نخرجها من أموالنا، ففيمن نضعها؟ فقال (عليه السلام): في أهل ولايتك. فقال: اني في بلاد ليس فيها أحد من أوليائك. فقال (عليه السلام): «ابعث بها الي بلدهم تدفع اليهم، ولا تدفعها الي قوم ان دعوتهم غداً إلي أمرك لم يجيبوك» [452] . وقال (عليه السلام): «إنّما موضعها أهل الولاية» [453] . [ صفحه 187] وكان يقدّم المهاجرين وأصحاب العقل والفقه علي غيرهم، فحينما سئل (عليه السلام) عن كيفية العطاء فقال (عليه السلام): «اعطهم علي الهجرة في الدين والعقل والفقه» [454] . أما الرقاب وسهم المؤلفة قلوبهم فلا يشترط فيها الانتماء الي الجماعة الصالحة كما هو المشهور. والزكاة الواجبة تختص بالمحتاجين وغير القادرين علي العمل، فلا ينبغي إعطاؤها لغيرهم، قال (عليه السلام): «ان الصدقة لا تحلّ لمحترف، ولا لذي مرّة سوي قوي، فتنزهوا عنها» [455] . وقد حدّد (عليه السلام) أصناف وأوصاف المستحقين فقال: «المحروم: الرجل الذي ليس بعقله بأس، ولم يبسط له في الرزق وهو محارف» [456] . «الفقير الذي لا يسأل، والمسكين الذي هو أجهد منه الذي يسأل» [457] . ويجب اعطاء الزكاة مصحوباً بالتكريم، فعن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): الرجل من أصحابنا يستحي أن يأخذ من الزكاة، فاعطيه من الزكاة ولا اُسمّي له أنّها من الزكاة؟ فقال (عليه السلام): «اعطه ولا تسمّ له ولا تذل المؤمن» [458] . والعطاء ينبغي أن يكون الي حد الإغناء بحيث لا يبقي محتاجاً، [ صفحه 188] قال (عليه السلام): «إذا أعطيته فأغنه» [459] . أمّا مصرف الخمس فهو عائد للإمام قال (عليه السلام): «والخمس لله وللرسول ولنا» [460] . والخمس ملك للإمام (عليه السلام) باعتبار منصبه، وليست ملكاً شخصياً له، وقد دلت سيرة الإمام الباقر (عليه السلام) وسيرة من سبقه من الائمة (عليهم السلام) علي ذلك، فكانوا يأخذونه وينفقونه لا علي أنفسهم، حيث كان ما ينفق علي انفسهم وعيالهم شيئاً يسيراً، بالقياس الي ضخامة الأموال التي تُجبي اليهم، ومع ذلك كان بعضهم محتاجاً، لأنّه كان ملكاً للمنصب وليس للشخص. ومن أجل احياء روح التكافل الاقتصادي والاجتماعي حثَّ الإمام (عليه السلام) علي الصدقة وهي الزكاة المستحبة فقال: «ان الصدقة لتدفع سبعين بليّة من بلايا الدنيا مع ميتة السوء» [461] . وقال (عليه السلام): «ان صنائع المعروف تدفع مصارع السوء» [462] . وحث (عليه السلام) علي اطعام الطعام وذبح الذبائح واشباع الفقراء والمحتاجين منها فقال: «ان الله عزوجلّ يحب اطعام الطعام واراقة الدماء» [463] . وحث علي الجود والسخاء، والانفاق، والهدية والقرض، وانظار المعسر في تسديد دينه، كما ورد في مختلف كتب الحديث عنه (عليه السلام). وكان يتصدق في كل جمعة ويقول: «الصدقة يوم الجمعة تُضاعف لفضل [ صفحه 189] يوم الجمعة علي غيره من الأيام» [464] . وكان ينفق الأموال علي أصحابه، فقد أمر غلامه بإعطاء الأسود بن كثير سبعمائة درهم، وقال له: استنفق هذه فإذا فرغت فأعلمني [465] . وعن سلمي مولاته قالت: كان يدخل عليه إخوانه فلا يخرجون من عنده، حتي يطعمهم الطعام الطيّب، ويكسوهم الثياب الحسنة في بعض الاحيان، ويهب لهم الدراهم، فأقول له في ذلك ليقلّ منه. فيقول: يا سلمي ما حسنة الدنيا إلاّ صلة الاخوان والمعارف [466] . وجعل (عليه السلام) الانفاق مقياساً للاُخوة، حين قال لجماعة من أصحابه: يدخل أحدكم يده في كُمِّ أخيه يأخذ حاجته؟ فقالوا: لا. قال (عليه السلام): ما أنتم بإخوان [467] . ونهي عن السؤال ومع ذلك شجّع علي عدم رد السائل فقال: «لو يعلم السائل ما في المسألة ما سأل أحد أحداً، ولو يعلم المعطي ما في العطيّة ما ردّ أحد أحداً» [468] . وجعل التعامل الاقتصادي فيما بين الجماعة الصالحة أو غيرها من الجماعات قائماً علي أساس قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)، التي رواها عن جدّه رسول الله [469] . [ صفحه 190]

الإمام الباقر والنظام الاجتماعي للجماعة الصالحة

اشاره

النظام الاجتماعي للجماعة الصالحة هو مصداق حقيقي للنظام الاجتماعي الاسلامي الذي أرسي دعائمه القرآن الكريم، وخاتم المرسلين(صلي الله عليه وآله)، وهو قائم علي اُسس خلقية في التعامل والعلاقات، وعلي رأسها حسن الخُلق، قال الإمام الباقر (عليه السلام): «إنّ أكمل المؤمنين ايماناً أحسنهم خلقاً» [470] . ومن حسن الخلق تلقّي الآخرين بوجه منبسط، فقد قال (عليه السلام): «أتي رسول الله رجل فقال: يا رسو الله أوصني، فكان فيما أوصاه أن قال: الق أخاك بوجه منبسط» [471] . ومن مصاديق حسن الأخلاق الرفق بجميع أصناف الناس قال (عليه السلام): «من قسم له الرفق قسم له الإيمان» [472] . ووضع لكل وحدة اجتماعية نظامها الخاص بها، وعلاقاتها مع الوحدات الاجتماعية الاُخري، ابتداءاً بالاسرة وانتهاءاً بالمجتمع الكبير.

الاسرة

الاسرة هي المؤسسة الاولي والاساسية من بين المؤسسات الاجتماعية المتعددة، وهي المسؤولة عن رفد المجتمع بالعناصر الصالحة، وهي نقطة البدء التي تزاول انشاء وتنشئة العنصر الانساني. وقد وضع القواعد الأساسية [ صفحه 191] في تنظيمها وضبط شؤونها، ابتداءاً باختيار شريك الحياة المناسب علي أساس التديّن وحسن الخلق والانحدار من اسرة صالحة، كما وضع برنامجاً للحقوق والواجبات علي كل من الزوجين، ومراعاتهما من قبلهما كفيل بإشاعة الاستقرار والطمأنينة في أجواء الاسرة. فقد روي عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) حق الزوج علي الزوجة بقوله: «أن تطيعه ولا تعصيه، ولا تتصدق من بيتها بشيء إلاّ بإذنه، ولا تصوم تطوعاً إلاّ بإذنه، ولا تمنعه نفسها وإن كانت علي ظهر قتب، ولا تخرج من بيتها إلاّ بإذنه...» [473] . وقال (عليه السلام): «جهاد المرأة حسن التبعل» [474] . ودعا إلي تحمّل أذي الزوج من أجل إدامة العلاقة الزوجية، وعدم تفكّك الاُسرة من خلال عدم مقابلة الأذي بأذي، بقوله (عليه السلام): «وجهاد المرأة أن تصبر علي ما تري من أذي زوجها وغيرته» [475] . ووضع الإمام (عليه السلام) واجبات علي الزوج اتجاه زوجته، وهو مسؤول عن تنفيذها لكي يتعمق الودّ بينهما، ويكون الاستقرار والهدوء هو السائد في أجواء الاسرة، ومن هذه الحقوق، الاطعام وما تحتاجه من ثياب، قال (عليه السلام): «من كانت عنده امرأة فلم يكسها ما يواري عورتها ويطعمها ما يقيم صلبها كان حقاً علي الإمام أن يفرّق بينهما» [476] . وأكّد علـي الاهتمام بالزوجة ومراعاتها، فقد روي عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قوله: «أوصاني جبرئيل بالمرأة حتي ظننت أنه لا ينبغي طلاقها إلاّ من [ صفحه 192] فاحشة بيّنة» [477] . وحثّ علي تحمل الأذي من المرأة، وعدم مقابلة الأذي بالأذي لأن ذلك يؤدي إلي تردّي العلاقات وتشنجها، فقال (عليه السلام): «من احتمل من امرأته ولو كلمة واحدة أعتق الله رقبته من النار وأوجب له الجنة...» [478] . وقد كان (عليه السلام) اُسوة في تحمل الأذي، حتي قال الإمام الصادق (عليه السلام): «كانت لأبي امرأة وكانت تؤذيه وكان يغفر لها» [479] . ووضع (عليه السلام) منهجاً للحقوق والواجبات بين الأبناء ووالديهم، فالواجب علي الوالدين تربية أولادهم علي المفاهيم والقيم الإسلامية [480] وابعادهم عن الانحرافات بمختلف الوانها [481] . ووضع (عليه السلام) برنامجاً للتربية في مختلف مراحل حياة الاطفال ابتداءاً بالطفولة المبكرة حتي بلوغ وسن التكليف والرشد [482] . وحثّ (عليه السلام) علي التعامل المتوازن مع الاطفال فقال (عليه السلام): «شرّ الآباء من دعاه التقصير الي العقوق وشرّ الآباء من دعاه البر الي الافراط» [483] . وأمر (عليه السلام) ببرّ الوالدين، فقال: «ثلاثة لم يجعل الله عزّوجلّ فيهنّ رخصة: أداء الأمانة الي البرّ والفاجر، والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر، وبرّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين» [484] . [ صفحه 193] وكانت أوامره مؤكدة علي برّ الوالدين وان كانا منحرفين أو فاجرين وذلك لحقوقهما علي الابن. ونهي عن العقوق مهما كانت الظروف، وان كان الوالدان مسيئين للأبناء، فقد روي عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قوله: «اياكم وعقوق الوالدين، فإنّ ريح الجنّة توجد من مسيرة ألف عام، ولا يجدها عاقّ...» [485] .

الأرحام

الأرحام هم كل من يرتبط بالاسرة بعلاقة نسبية وهم الاخوان والأخوات والأعمام والأخوال، والأجداد، وسائر أفراد العشيرة القريبين بالنسب أو البعيدين. لقد حثّ الإمام (عليه السلام) علي صلتهم بزيارة أو لقاء، وما يترتّب علي هذه العلاقات من حقوق. وهم مقدّمون علي غيرهم في الاحسان إليهم، وإدخال السرور في قلوبهم، ومساعدتهم في حلّ مشاكلهم. وبيّن (عليه السلام) الآثار الايجابية المترتبة علي صلة الارحام، فقال: «صلة الارحام تزكّي الاعمال، وتدفع البلوي، وتنمي الاموال، وتنسئ له في عمره، وتوسّع في رزقه، وتحبّب في أهل بيته، فليتّق الله وليصل رحمه» [486] . وقال (عليه السلام) لأحد أصحابه: «أما إنه قد حضر أجلك غير مرّة ولا مرتين، كلّ ذلك يؤخّر الله بصلتك قرابتك» [487] .

الجيران

أكّد الإمام (عليه السلام) علي حسن التعامل مع الجيران فقال: «قرأت في كتاب [ صفحه 194] عليّ (عليه السلام): أن رسول الله (صلي الله عليه وآله) كتب بين المهاجرين والانصار ومن لحق بهم من أهل يثرب، أن الجار كالنفس غير مضار ولا اثم، وحرمة الجار علي الجار كحرمة اُمّه» [488] . ونهي عن أذي الجيران وتضييع حقوقهم، فقد روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) أنّه قال: «من آذي جاره حرّم الله عليه ريح الجنة، ومأواه جهنّم وبئس المصير، ومن ضيّع حق جاره فليس منّا، وما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتي ظننت أنّه سيورثه...» [489] . وروي عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قوله: «ما آمن بي من أمسي شبعاناً وأمسي جاره جائعاً» [490] . والجار في منهج أهل البيت (عليه السلام) هو مطلق الانسان سواء كان من أفراد الجماعة الصالحة، أو من غيرهم، وسواء كان مسلماً أم غير مسلم، كما هو المشهور في الروايات الصادرة عنهم (عليهم السلام).

افراد الجماعة الصالحة

النظام الاجتماعي في داخل الجماعة الصالحة يقوم علي أساس وحدة التصورات والمبادئ، ووحدة الموازين والقيم، ووحدة الشرائع والقوانين، ووحدة الاوضاع والتقاليد، لأنّ مجموع الجماعة الصالحة تتلقي منهج حياتها من جهة واحدة وهي أهل البيت (عليهم السلام)، وتجمعها وحدة الطريقة التي تتلقي بها، ووحدة المنهج الذي تفهم به ما تتلقي من أفكار وعواطف وممارسات. والنظام الاجتماعي قائم علي أساس القاعدة الثابتة، وهي قول الإمام [ صفحه 195] الباقر (عليه السلام): «المؤمن أخو المؤمن لأبيه واُمه» [491] . فقد جعل العلاقة بين أفراد الجماعة الصالحة كالعلاقة النسبية التي تترتب عليها حقوق وواجبات، كالسعي في حوائج المؤمنين، وتفريج كربهم، والنصيحة لهم، والدعاء لهم بالتوفيق، وستر عيوبهم [492] . والعلاقة القائمة تنطلق من الايثار وتحكيم الحق في النفس، قال (عليه السلام): «ان لله جنة لا يدخلها إلاّ ثلاثة أحدهم من حكم في نفسه بالحقّ» [493] . ويقوم النظام الاجتماعي علي قاعدة تعظيم وتوقير أفراد الجماعة الصالحة لكي يتعمّق الودّ والاخاء، قال (عليه السلام): «عظموا اصحابكم ووقّروهم ولايتجهم بعضكم بعضاً، ولا تضارّوا ولا تحاسدوا، وايّاكم والبخل، وكونوا عباد الله المخلصين» [494] . وحثّ الإمام (عليه السلام) علي اشاعة الودّ والمحبّة من خلال ممارسات متنوّعة، قال (عليه السلام): «تبسّم الرجل في وجه أخيه حسنة، وصرف القذي عنه حسنة، وما عبدالله بشيء أحبّ الي الله من ادخال السرور علي المؤمن» [495] . ووضع مجموعة من الحقوق المتبادلة عليهما فقال: «من حقّ المؤمن علي أخيه المؤمن أن يشبع جوعته ويواري عورته ويفرّج عنه كربته ويقضي دينه، فإذا مات خلفه في أهله وولده» [496] . وحثّ علي العوامل التي تؤدي الي التقريب بين القلوب وتزيد في [ صفحه 196] الاخوة والتآلف والتآزر. عن أبي حمزة الثمالي قال: زاملت أبا جعفر (عليه السلام) فحططنا الرحل، ثم مشي قليلاً، ثم جاء فأخذ بيدي فغمزها غمزة شديدة، فقلت: جعلت فداك أو ما كنت معك في المحمل؟! فقال: أما علمت أنّ المؤمن إذا جال جولة ثم أخذ بيد أخيه نظر الله اليهما بوجهه، فلم يزل مقبلاً عليهما بوجهه، ويقول للذنوب: تتحاتَّ عنهما، فتتحاتّ ـ يا أبا حمزة ـ كما يتحاتُّ الورق عن الشجر، فيفترقان وما عليهما من ذنب» [497] . وقال (عليه السلام): «ينبغي للمؤمنين إذا تواري أحدهما عن صاحبه بشجرة ثم التقيا أن يتصافحا» [498] . وروي عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قوله: «إذا التقيتم فتلاقوا بالتسليم والتصافح، وإذا تفرّقتم فتفرّقوا بالاستغفار» [499] . وحثّ (عليه السلام) علي تبادل الزيارات لأنها تؤدي الي تجذر روح الإخاء وزرع الودّ في القلوب والنفوس، ورغّب فيها بتبيان آثارها الايجابية علي المتزاورين، حين قال: «أيّما مؤمن خرج الي أخيه يزوره عارفاً بحقّه كتب الله له بكلّ خطوة حسنة، ومحيت عنه سيئة، ورفعت له درجة، واذا طرق الباب فتحت له أبواب السماء، فاذا التقيا وتصافحا وتعانقا أقبل الله عليهما بوجهه، ثم باهي بهما الملائكة، فيقول: انظروا الي عبدي تزاورا وتحابا فيَّ، حقٌّ عليَّ ألاّ اُعذبهما بالنار بعد هذا الموقف، فإذا انصرف شيّعه الملائكة عدد نفسه وخطاه وكلامه، يحفظونه من بلاء الدنيا وبوائق الآخرة الي مثل تلك الليلة من قابل، فإن مات فيما بينهما اُعفي من الحساب، وان كان المزور [ صفحه 197] يعرف من حقّ الزائر ما عرفه الزائر من حقّ المزور ; كان له مثل أجره» [500] . ونهي (عليه السلام) عن جميع الممارسات التي تؤدّي الي الكراهية والتنافر والتقاطع كالغيبة والبهتان والتحقير والتعيير والتنابز بالالقاب، والسباب، والاعتداء علي الأموال والأعراض وغير ذلك. ودعا الي الاصلاح بين المؤمنين وحثّهم علي التآلف فقال (عليه السلام): «ان الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهم عن دينه، فإذا فعلوا ذلك استلقي علي قفاه وتمدّد، ثم قال: فزت، فرحم الله امرئً أ لّف بين وليّين لنا، يا معشر المؤمنين تألّفوا وتعاطفوا» [501] . ونهي (عليه السلام) عن احصاء عثرات الآخرين وزلاتهم، فقال: «ان أقرب ما يكون العبد الي الكفر أن يؤاخي الرّجل الرّجل علي الدين، فيحصي عليه عثراته وزلاّته ليعنّفه بها يوماً ما» [502] . ونهي عن الطعن بالمؤمنين ونبزهم بالكفر فقال: «ما شهد رجل علي رجل بكفر قطّ إلاّ باء به أحدهما، ان كان شهد به علي كافر صدق، وان كان مؤمناً رجع الكفر عليه، فإيّاكم والطعن علي المؤمنين» [503] . ونهي عن النميمة فقال: «محرّمة الجنّة علي القتّاتين المشائين بالنميمة» [504] . ونهي (عليه السلام) عن الاذاعة وكشف الاسرار الخاصّة بالمؤمنين فقال: «يحشر العبد يوم القيامة وما ندي دماً، فيدفع اليه شبه المحجمة أو فوق ذلك، فيقال له: هذا سهمك من دم فلان، فيقول: يا ربّ إنّك لتعلم أ نّك قبضتني وما سفكت دماً. [ صفحه 198] فيقول: بلي سمعت من فلان رواية كذا وكذا، فرويتها عليه فنقلت حتّي صارت الي فلان الجبّار فقتله عليها وهذا سهمك من دمه» [505] .

مجتمع المسلمين

الإسلام هو الافق الواسع الجامع لمن شهد الشهادتين، وهو الميدان الرحب لتجميع الطاقات وتوحيد الامكانات لتنطلق في مصالح واحدة ومصير واحد، ولهذا فالاسلام محوره وحدوده مجتمع المسلمين جميعاً. والنظام الاجتماعي لمجتمع المسلمين قائم علي أساس الإخاء والتآلف والتآزر من أجل تحقيق الأهداف الكبري والحفاظ علي الكيان الاسلامي من التصدّع والتمزّق. ولذا حثّ الرسول وأهل بيته (عليهم السلام) علي الاهتمام باُمور المسلمين ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم، والاهتمام بالعوامل التي تؤدي الي التقريب والاتفاق علي القواسم المشتركة في الفكر والعاطفة والسلوك. ووضع الإمام (عليه السلام) قاعدة كلية في التعامل وهي تعميق مفهوم الولاية بين المسلمين. عن زرارة قال: دخلت أنا وحمران علي أبي جعفر (عليه السلام)، فقلت له: إنّا نمدُّ المطمار... فمن وافقنا من علويّ أو غيره توليّناه، ومن خالفنا من علويّ أو غيره برئنا منه، فقال لي: يا زرارة قول الله أصدق من قولك، فأين الذين قال الله عزّوجلّ: (إلاّ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان...). أين المرجون لأمر الله؟ اين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً؟ أين أصحاب الاعراف؟ أين المؤلفة قلوبهم؟ [506] . [ صفحه 199] فليس المقياس عند الإمام (عليه السلام) هو الانتماء الي الجماعة الصالحة فقط، وإنّما المقياس هو الانتماء الي الإسلام. ومن خلال سيرة أهل البيت (عليهم السلام) ومن خلال متابعة أحاديثهم وبالخصوص أحاديث الإمام الباقر (عليه السلام) المنتشرة في بطون الكتب نستطيع أن نقسم الولاية الي أربعة اقسام: الأول: ولاية الله تعالي. الثاني: ولاية رسول الله (صلي الله عليه وآله). الثالث: ولاية أهل البيت (عليهم السلام). الرابع: الولاية بين المسلمين. فمن لم يؤمن بولاية الله وولاية الرسول فهو كافر باجماع المسلمين، امّا الذي يؤمن بهما، ولا يؤمن بولاية أهل البيت (عليهم السلام) ـ أي بإمامتهم ـ فلا يجوز سلب صفة الإسلام منه فتبقي ثابتة له ـ ما لم يبغضهم ـ وتبقي الولاية بين أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم من المسلمين ثابتة لا يجوز خرمها وقطعها. وبهذه الروح الإسلامية تعامل الإمام الباقر (عليه السلام) مع سائر المسلمين. ومن خلال هذا المفهوم بيّن (عليه السلام) الاُسس العامة في التعامل الاجتماعي، فحثّ علي التعاون مع سائر المسلمين، ومن مصاديق التعاون، ما رواه عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) أنه قال: «من أطعم ثلاثة نفر من المسلمين أطعمه الله من ثلاث جنان في ملكوت السماوات: الفردوس، وجنة عدن، وطوبي» [507] . وروي عنه (صلي الله عليه وآله) قوله: «من كسا أحداً من فقراء المسلمين ثوباً من عري أو أعانه بشيء ممّا يقوته من معيشته، وكّل الله عزّوجلّ به سبعين ألف ملك من الملائكة [ صفحه 200] يستغفرون لكل ذنب عمله الي أن ينفخ في الصور» [508] . ونهي (عليه السلام) عن وضع حجاب بين المسلم والمسلم. عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك ما تقول في مسلم أتي مسلماً زائراً أو طالب حاجة وهو في منزله، فاستأذن عليه فلم يأذن له ولم يخرج اليه؟. قال (عليه السلام): «يا أبا حمزة أ يّما مسلم أتي مسلماً زائراً أو طالب حاجة وهو في منزله، فاستأذن له ولم يخرج اليه ; لم يزل في لعنة الله حتّي يلتقيا». فقلت: جعلت فداك في لعنة الله حتّي يلتقيا؟ قال: نعم يا أبا حمزة [509] . ونهي (عليه السلام) عن تتبع عورات المسلمين، وروي عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قوله: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان الي قلبه لا تذموا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنّه من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في بيته» [510] . وروي عنه (صلي الله عليه وآله) قوله: «ليس منّا من ماكر مسلماً» [511] . ودعا الإمام (عليه السلام) الي حسن التعامل والصبر علي الأذي وعدم مقابلة الاساءة بالاساءة، والظلم بالظلم، والقطيعة بالقطيعة، فدعا الي العفو فقال: «الندامة علي العفو أفضل وأيسر من الندامة علي العقوبة» [512] . وقال (عليه السلام): «ثلاث لا يزيد الله بهنّ المرء المسلم إلاّ عزّاً: الصفح عمّن ظلمه، [ صفحه 201] واعطاء من حرمه، والصلة لمن قطعه» [513] . وحبّب (عليه السلام) طلب مرضات الناس وسائر المسلمين، بالتقرب اليهم بحسن المعاملة وحسن السيرة، ويجب أن لا تكون مرضاة الناس مسخطة لله تعالي، فقد روي عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قوله: «من طلب مرضاة الناس بما يسخط الله كان حامده من الناس ذامّاً، ومن آثر طاعة الله بغضب الناس كفاه الله عداوة كل عدّو، وحسد كل حاسد، وبغي كل باغ، وكان الله عزّوجلّ له ناصراً وظهيراً» [514] . وفي الوقت الذي شجّع فيه علي إقامة العلاقات مع سائر المسلمين وسائر الناس حذّر من مصاحبة أصناف منهم، فقد روي عن أبيه الإمام زين العابدين (عليه السلام) وصيته له: «يا بنيّ انظر خمسة فلا تصاحبهم، ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق. إياك ومصاحبة الكذّاب فإنه بمنزلة السّراب يقرب لك البعيد، ويباعد لك القريب. واياك ومصاحبة الفاسق فإنه بائعك بأكلة أو أقلّ من ذلك. وإيّاك ومصاحبة البخيل فإنّه يخذلك في ماله. وإياك ومصاحبة الأحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك» [515] . ونهي (عليه السلام) عن الخصومة، ودعاالي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليكون المؤمن في وسط الميدان الاجتماعي ويكون قدوة لغيره بعمله واخلاصه لله، وحسن سيرته. قال(عليه السلام): «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده... المؤمن من ائتمنه المسلمون علي أموالهم وأنفسهم، والمسلم حرام علي [ صفحه 202] المسلم أن يظلمه أو يخذله، أو يدفعه دفعة تعنته» [516] . ودعا الي المجاملة حفاظاً علي الافق العام من العلاقات فقال: «خالطوهم بالبرّانية وخالفوهم بالجوّانية ان كانت الامرة صبيانية» [517] .

الإمام الباقر ومستقبل الجماعة الصالحة

من أهم مقومات نجاح مسيرة الجماعات وجود قيادة تقوم بالاشراف علي حركتها التكاملية، وتتبني التغيير الشامل، وتقوم بتنسيق البرامج والخطط، وتشرف علي تنفيذها في الواقع، وتمدّها بالقوة الروحية والشحنة المعنوية للوصول الي اهدافها وآمالها، والقيادة في منهج أهل البيت (عليهم السلام) هي قيادة ربّانية نصّ عليها الله تعالي وأبلغها لرسوله (صلي الله عليه وآله) وأبلغها رسول الله(صلي الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) وتتدرج الوصية من إمام الي إمام حتي تصل الي خاتم الأوصياء والائمة (عليهم السلام). وقد أولي الإمام الباقر (عليه السلام) الإمامة من بعده أهمية خاصة ووجّه أنظار أصحابه اليها، في شروطها وخصائصها، وفي تشخيصها في الواقع، فأعلن عنها تارةً إعلاناً جلياً وآخر خفياً، ابتداءاً من أول مراحل إمامته، حتي أواخر أيامه الشريفة، وكان يستثمر الفرص المناسبة للاشارة اليها وتأكيد الاقتداء بها. وكان الاعلان عن إمامة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) مصحوباً بالسريّة، وفي نطاق محدود لم يخبر بها إلاّ أصحابه المخلصين المقرّبين له، حفاظاً علي سلامة الإمام من بعده. [ صفحه 203] روي عن محمد بن مسلم أنّه قال: كنت عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام)، إذ دخل جعفر ابنه وعلي رأسه ذؤابة، وفي يده عصا يلعب بها، فأخذه وضمّه اليه ضماً، ثم قال: بأبي أنت واُمي لا تلهو ولا تلعب. ثم قال: «يا محمد هذا إمامك بعدي، فاقتد به، واقتبس من علمه، والله انه لهو الصادق الذي وصفه لنا رسول الله (صلي الله عليه وآله)...» [518] . وعن همام بن نافع قال: قال أبو جعفر لأصحابه يوماً: «إذا افتقدتموني فاقتدوا بهذا فإنه الإمام بعدي»، وأشار الي ابنه جعفر (عليه السلام) [519] . وسئل الإمام الباقر (عليه السلام) عن القائم فضرب بيده علي أبي عبدالله جعفر ابن محمد (عليه السلام) [520] . وعن فضيل بن يسار، قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فأقبل أبو عبدالله (عليه السلام) فقال: «هذا خير البريّة بعدي» [521] . وعن عبد الغفار بن القاسم ـ في حديث طويل ـ جاء فيه قوله للإمام الباقر (عليه السلام): «انّي قد كبرت سنّي ودق عظمي ولا أري فيكم ما أسره، أراكم مقتّلين مشردين خائفين، وإني أقمت علي قائمكم منذ حين أقول: يخرج اليوم أو غداً. فقال له ـ الإمام الباقر (عليه السلام) ـ: «يا عبد الغفار انّ قائمنا (عليه السلام) هو السابع من ولدي، وليس هو أوان ظهوره، ولقد حدثني أبي عن أبيه عن آبائه قال: قال رسول الله(صلي الله عليه وآله): انّ الائمة بعدي اثنا عشر عدد نقباء بني اسرائيل، تسعة من صلب الحسين، [ صفحه 204] والتاسع قائمهم، يخرج في آخر الزمان فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً». قلت: فإن كان هذا كائن يا ابن رسول الله، فإلي من بعدك؟. قال(عليه السلام): الي جعفر وهو سيد أولادي وأبو الائمة، صادق في قوله وفعله [522] . وعن أبي الصباح الكناني، قال: نظر أبو جعفر الي أبي عبدالله يمشي، فقال: تري هذا؟. هذا من الذين قال الله تعالي: (ونريد أن نمنَّ علي الذّين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) [523] [524] . وعن زرارة قال: انّ أبا جعفر (عليه السلام) أحضر أبا عبدالله (عليه السلام) وهو صحيح لا علّة به، فقال له: اني اُريد أن آمرك بأمر، فقال له: مرني بما شئت، فقال: ايتني بصحيفة ودواة، فأتاه بها، فكتب له وصيته الظاهرة، ثم أمر أن يدعو له جماعة من قريش، فدعاهم وأشهدهم علي وصيته اليه [525] . فهذا الاعلان أمر طبيعي لأنه وصية ظاهرة مألوفة عادةً وهي أن يوصي الموصي الي أحد أبنائه وخصوصاً الأكبر منهم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أ نّه قال: إنّ أبي استودعني ما هناك، وذلك أنّه لما حضرته الوفاة قال: «ادع لي شهوداً فدعوت له أربعة، منهم: نافع مولي عبدالله بن عمر، فقال: اكتب: هذا ما أوصي به يعقوب بنيه، يا بني إنّ الله اصطفي لكم الدين فلا تموتنَّ إلاّ وأنتم مسلمون وأوصي محمد بن عليّ ابنه جعفر وأمره أنْ يكفّنه في بردته ـ التي كان فيها يصليّ الجمعة ـ وقميصه وأن يعمّمه بعمامته وان يرفع قبره مقدار أربع أصابع، وأن يحلّ أطماره عند دفنه. ثم قال للشهود: انصرفوا رحمكم الله. [ صفحه 205] فقلت: يا أبت ما كان في هذا حتي يشهد عليه؟ قال: يا بني كرهت أن تغلب، وأن يقال: لم يوص، فأردت أن يكون ذلك الحجّة» [526] . وأدخل الإمام الباقر (عليه السلام) الأمل في قلوب أصحابه وأتباعه وجميع افراد الجماعة الصالحة فأخبرهم بقرب زوال حكم بني اُمية [527] . وبالفعل بعد استشهاد الإمام (عليه السلام) بثمانية عشر عاماً سقطت الدولة الاُموية وانتهي حكم الاُمويين علي يد بني العباس. وكان الإمام الصادق (عليه السلام) هو القائم بالأمر من بعده، وكما وصفه المستشار عبد الحليم الجندي: الإمام جعفر الصادق نتاج قرن كامل من العظائم يحني لها الوجود البشري هاماته ويدين بحضارته... [528] . وقال أيضاً: شجرة باسقة تترعرع في كل ورقة من أوراقها خصيصة من خصائص أهل البيت في عصر جديد للعلم، تعاونت فيه أجيال ثلاثة متتابعة منه ومن أبيه وجده [529] . [ صفحه 207]

اغتيال الإمام محمد الباقر واستشهاده

اشاره

ولم يمت الإمام أبو جعفر (عليه السلام) حتف أنفه، وإنما اغتالته بالسم أيد اُمويّة أثيمة لا تؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، وقد اختلف المؤرخون في الأثيم الذي أقدم علي اقتراف هذه الجريمة. فمنهم من قال: إن هشام بن الحكم هو الذي أقدم علي اغتيال الإمام فدسّ اليه السم [530] والأرجح هو هذا القول لأن هشاماً كان حاقداً علي آل النبي بشدة وكانت نفسه مترعة بالبغض لهم وهو الذي دفع بالشهيد العظيم زيد بن علي (عليه السلام) الي إعلان الثورة عليه حينما استهان به، وقابله بمزيد من الجفاء، والتحقير. ومن المؤكد أن الإمام العظيم أبا جعفر قد أقضّ مضجع هذا الطاغية، وذلك لذيوع فضله وانتشار علمه، وتحدث المسلمين عن مواهبه، ومن هنا أقدم علي اغتياله ليتخلص منه. ومنهم من قال: إنّ الذي أقدم علي سم الإمام هو ابراهيم بن الوليد [531] . ويري السيد ابن طاووس أنّ إبراهيم بن الوليد قد شرك في دم [ صفحه 208] الإمام(عليه السلام) [532] ومعني ذلك أن إبراهيم لم ينفرد وحده باغتيال الإمام(عليه السلام) وإنما كان مع غيره. وأهملت بعض المصادر اسم الشخص الذي اغتال الإمام (عليه السلام) واكتفت بالقول إنه مات مسموماً [533] .

دوافع اغتيال الإمام الباقر

اشاره

أما الأسباب التي أدت بالاُمويين الي اغتيال الإمام (عليه السلام) فهي:

سمو شخصية الإمام الباقر

لقد كان الإمام أبو جعفر (عليه السلام) أسمي شخصية في العالم الإسلامي فقد أجمع المسلمون علي تعظيمه، والاعتراف له بالفضل، وكان مقصد العلماء من جميع البلاد الإسلامية. لقد ملك الإمام (عليه السلام) عواطف الناس واستأثر بإكبارهم وتقديرهم لأنه العلم البارز في الاسرة النبوية، وقد أثارت منزلته الاجتماعية غيظ الاُمويين وحقدهم فأجمعوا علي اغتياله للتخلص منه.

احداث دمشق

لا يستبعد الباحثون والمؤرخون أن تكون أحداث دمشق سبباً من الأسباب التي دعت الاُمويين الي اغتياله (عليه السلام) وذلك لما يلي: أ ـ تفوق الإمام في الرمي علي بني اُمية وغيرهم حينما دعاه هشام الي الرمي ظاناً بأنه سوف يفشل في رميه فلا يصيب الهدف فيتخذ ذلك وسيلة للحط من شأنه والسخرية به أمام أهل الشام. ولمّا رمي الإمام وأصاب الهدف عدة مرات بصورة مذهلة لم يعهد لها نظير في عمليات الرمي في العالم، ذهل [ صفحه 209] الطاغية هشام، وأخذ يتميز غيظاً، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وصمم منذ ذاك الوقت علي اغتياله. ب ـ مناظرته مع هشام في شؤون الإمامة، وتفوق الإمام عليه حتي بان عليه العجز ممّا أدّي ذلك الي حقده عليه. ج ـ مناظرته مع عالم النصاري، وتغلبه عليه حتي اعترف بالعجز عن مجاراته أمام حشد كبير منهم معترفاً بفضل الإمام وتفوّقه العلمي في أمّة محمد(صلي الله عليه وآله)، وقد أصبحت تلك القضية بجميع تفاصيلها الحديث الشاغل لجماهير أهل الشام [534] ويكفي هذا الصيت العلمي أيضاً أن يكون من عوامل الحقد علي الإمام(عليه السلام) والتخطيط للتخلّص من وجوده.

نصه علي الإمام الصادق

ونصّ الإمام أبو جعفر (عليه السلام) علي الإمام من بعده قبيل استشهاده فعيّن الإمام الصادق(عليه السلام) مفخرة هذه الدنيا، ورائد الفكر والعلم في الإسلام، وجعله مرجعاً عاماً للاُمة من بعده، وأوصي شيعته بلزوم اتباعه وطاعته. وكان الإمام أبو جعفر (عليه السلام) يشيد بولده الإمام الصادق (عليه السلام) بشكل مستمر ويشير الي امامته، فقد روي أبو الصباح الكناني، أنّ أبا جعفر نظر الي أبي عبدالله يمشي، فقال: تري هذا؟ هذا من الذين قال الله عزّ وجلّ: (ونريد أن نمنّ علي الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) [535] . كل هذه الاُمور بل وبعضها كان يكفي أن يكون وراء اغتياله(عليه السلام) علي [ صفحه 210] أيدي زمرة جاهلية، افتقرت الي أبسط الصفات الإنسانية، وحرمت من أبسط المؤهلات القيادية.

وصاياه

وأوصي الإمام محمد الباقر (عليه السلام) الي ولده الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) بعدة وصايا كان من بينها ما يلي: 1 ـ انه قال له: يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً، فقال له الإمام الصادق: جُعلت فداك والله لأدعنهم، والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً [536] . 2 ـ أوصي ولده الصادق (عليه السلام) أن يكفّنه في قميصه الذي كان يصلي فيه [537] ليكون شاهد صدق عند الله علي عظيم عبادته، وطاعته له. 3 ـ إنه أوقف بعض أمواله علي نوادب تندبه عشر سنين في مني [538] ولعل السبب في ذلك يعود الي أن مني أعظم مركز للتجمع الاسلامي، ووجود النوادب فيه مما يبعث المسلمين الي السؤال عن سببه، فيخبرون بما جري علي الإمام أبي جعفر (عليه السلام) من صنوف التنكيل من قبل الامويين واغتيالهم له، حتي لا يضيع ما جري عليه منهم ولا تخفيه أجهزة الاعلام الاُموي. وسري السم في بدن الإمام أبي جعفر (عليه السلام)، وأثّر فيه تأثيراً بالغاً، وأخذ يدنو اليه الموت سريعاً، وقد اتجه في ساعاته الأخيرة بمشاعره وعواطفه نحو الله تعالي، فأخذ يقرأ القرآن الكريم، ويستغفر الله، فوافاه الأجل المحتوم [ صفحه 211] ولسانه مشغول بذكر الله فارتفعت روحه العظيمة الي خالقها، تلك الروح التي أضاءت الحياة الفكرية والعلمية في الإسلام والتي لم يخلق لها نظير في عصره. وقد انطوت برحيله أروع صفحة من صفحات الرسالة الإسلامية التي أمدّت المجتمع الاسلامي بعناصر الوعي والازدهار. وقام ولده الإمام الصادق (عليه السلام) بتجهيز الجثمان المقدس فغسّله وكفنه، وهو يذرف أحر الدموع علي فقد أبيه الذي ما أظلت علي مثله سماء الدنيا في عصره علماً وفضلاً وحريجة في الدين. ونقل الجثمان العظيم ـ محفوفاً بإجلال وتكريم بالغين من قبل الجماهير ـ الي بقيع الغرقد، فحفر له قبراً بجوار الإمام الأعظم أبيه زين العابدين (عليه السلام) وبجوار عم أبيه الإمام الحسن سيد شاب أهل الجنة (عليه السلام) وأنزل الإمام الصادق أباه في مقرّه الأخير فواراه فيه، وقد واري معه العلم والحلم، والمعروف والبر بالناس. لقد كان فقد الإمام أبي جعفر (عليه السلام) من أفجع النكبات التي مُني بها المسلمون في ذلك العصر، فقد خسروا القائد، والرائد، والموجه الذي بذل جهداً عظيماً في نشر العلم، وبلورة الوعي الفكري والثقافي بين المسلمين. والمشهور بين الرواة أنه توفي وعمره الشريف 58 سنة. وكانت سنة وفاته ـ بحسب الرأي المشهور ـ سنة 114 هـ.

تعزية المسلمين للإمام الصادق

هرع المسلمون وقد قطع الحزن قلوبهم الي الإمام الصادق (عليه السلام) وهم يعزونه بمصابه الأليم، ويشاركونه اللوعة والأسي بفقد أبيه، وممن وفد عليه يعزيه سالم بن أبي حفصة، قال: لما توفي أبو جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) [ صفحه 212] قلت لأصحابي انتظروني حتي أدخل علي أبي عبدالله جعفر بن محمد فأعزيه به، فدخلت عليه فعزيته، وقلت له: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب والله من كان يقول رسول الله (صلي الله عليه وآله): فلا يسأل عمن بينه وبين رسول الله (صلي الله عليه وآله) والله لا يري مثله أبداً قال: وسكت الإمام أبو عبدالله (عليه السلام) ساعة، ثم التفت الي أصحابه فقال لهم: قال الله تعالي: «إن من عبادي من يتصدق بشق من تمرة فاربيها له، كما يربي أحدكم فلوه» [539] . وخرج سالم وهو منبهر فالتفت الي أصحابه قائلاً: ما رأيت أعجب من هذا!! كنا نستعظم قول أبي جعفر (عليه السلام) قال رسول الله (صلي الله عليه وآله) بلا واسطة، فقال لي أبو عبدالله (عليه السلام) قال الله بلا واسطة [540] . [ صفحه 213]

تراث الإمام محمد الباقر

اشاره

علمنا أن الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله) قد تنبّأ بأن حفيده محمد بن علي ابن الحسين (عليه السلام) سوف يبقر العلم بقراً ويفجره تفجيراً. وقد شهد معاصرو الإمام (عليه السلام) بهذه الظاهرة التي كانت ملفتة للنظر وتناقلها المؤرخون جيلاً بعد جيل. والتراث الذي تركه لنا هذا الإمام الهمام لهو خير دليل علي صحة ما شهد به هؤلاء المؤرخون علي مدي القرون والأجيال ودليل من دلائل نبوة جدّه رسول الله (صلي الله عليه وآله). لقد كانت المرحلة التي عاشها الإمام الباقر (عليه السلام) تتطلّب منه أن يقوم بتشييد اُسس الحضارة الإسلامية وتحصين الاُمة المسلمة بروافد المعرفة الإسلامية لتقف في وجه المدّ الثقافي الذي كان يخترق الحياة الإسلامية بسبب الفتوحات والانفتاح الحضاري علي ثقافات الاُمم الوافدة علي الدولة الإسلامية العظمي. ومن هنا نستطيع أن نقول: إن المعالم الرئيسية لرسالة الأئمة بعد الحسين (عليه السلام) تتلخص في التحصين المعرفي والثقافي للاُمة المسلمة بشكل [ صفحه 214] عام وللجماعة الصالحة بشكل خاص. فإن الوقوف علي تراثهم الذي قدّموه للاُمة الإسلامية خلال النصف الثاني من القرن الأول الهجري وحتي بداية القرن الثالث الهجري يكشف عن عظمة هذا التراث وتفرّده عمّا سواه من التراث الذي نجده لدي عامة الفرق الإسلامية، ويتميّز عن كل ذلك بالاستيعاب لكل حقول المعرفة، وسلامة المصدر، ونقاء المحتوي، ووضوح الارتباط بمصادر المعرفة الربّانية المتمثلة بكتاب الله وسنّة رسوله (صلي الله عليه وآله). ولابد أن ينعكس ثراء هذا التراث وعظمته في هذه الموسوعة رغم اختصارها وعدم استيعابها لكل تراث الإمام الباقر (عليه السلام). وقد اخترنا من تراثه الثرّ نماذج في مختلف حقول العلم والمعرفة الإسلامية بمقدار ما تقتضيه صفحات هذا الجزء الخاص بالإمام الباقر(عليه السلام) أخذاً بالميسور والله من وراء القصد وهو الموفق للصواب.

التراث التفسيري للإمام محمد الباقر

اشاره

لا ريب في ان القرآن الكريم هو أول مصادر التشريع الاسلامي وأهم مصادر الثقافة الإسلامية التي تعطي للاُمة الإسلامية وللرسالة الإلهية هويّتها الخاصة وتسير بالاُمة الي حيث الكمال الانساني المنشود. وقد اعتني الإمام الباقر (عليه السلام) كسائر الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) بالقرآن الكريم تلاوةً وحفظاً وتفسيراً وصيانةً له عن أيدي العابثين وانتحال المبطلين، فكانت محاضراته التفسيرية للقرآن الكريم تشكّل حقلاً خصباً لنشاطه المعرفي وجهاده العلمي وهو يرسم للاُمة المسلمة معالم هويتها [ صفحه 215] الخاصة. ومن هنا خصص الإمام (عليه السلام) للتفسير وقتاً من أوقاته وتناول فيه جميع شؤونه. وقد أخذ عنه علماء التفسير ـ علي اختلاف آرائهم وميولهم ـ الشيء الكثير [541] فكان من ألمع المفسّرين للقرآن الكريم في دنيا الإسلام. وقد نهج الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير القرآن الكريم منهجاً علميّاً خاصاً متّسقاً مع أهداف الرسالة واُصولها ونعي علي أهل الرأي والاستحسان وأهل التأويل والظنون، فكان مما اعترض به علي قتادة أن قال له: بلغني أنك تفسّر القرآن!. فقال له: نعم. فانكر عليه الإمام (عليه السلام) قائلاً: «يا قتادة إن كنت قد فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، يا قتادة ويحك إنما يعرف القرآن من خوطب به» [542] . وقد قصر الإمام أبو جعفر (عليه السلام) معرفة الكتاب العزيز علي أهل البيت (عليهم السلام) فهم الذين يعرفون المحكم من المتشابه، والناسخ من المنسوخ وليس عند غيرهم هذا العلم، فقد ورد عنهم (عليهم السلام) «انه ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل ينصرف الي وجوه» [543] . أما الأخذ بظواهر الكتاب فلا يعد من التفسير بالرأي المنهيّ عنه. وأ لّف الإمام الباقر (عليه السلام) كتاباً في تفسير القرآن الكريم نص عليه [ صفحه 216] محمد بن اسحاق النديم في «الفهرست» عند عرضه للكتب المؤلفة في تفسير القرآن الكريم حيث قال: «كتاب الباقر محمد بن علي بن الحسين رواه عنه أبو الجارود زياد بن المنذر رئيس الجارودية». وقال السيد حسن الصدر: وقد رواه عنه أيام استقامته جماعة من ثقاة الشيعة منهم أبو بصير يحيي بن القاسم الأسدي، وقد أخرجه علي بن ابراهيم بن هاشم القمي في تفسيره من طريق أبي بصير [544] .

نماذج من تفسيره

فسّر الإمام الباقر(عليه السلام) الهداية في قوله تعالي: (وإني لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدي) [545] بالولاية لأئمة أهل البيت حين قال: فو الله لو أن رجلاً عبد الله عمره ما بين الركن والمقام، ولم يجيء بولايتنا إلاّ أكبه الله في النار علي وجهه» [546] . 2 ـ وعن قوله تعالي: (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك) [547] قال (عليه السلام): إن الله أوحي إلي نبيّه أن يستخلف علياً فكان يخاف أن يشق ذلك علي جماعة من أصحابه فأنزل الله تعالي هذه الآية تشجيعاً له علي القيام بما أمره الله بأدائه [548] . 3 ـ وفي قوله تعالي: (تنزّل الملائكة والروح فيها) [549] قال (عليه السلام): تنزّل الملائكة والكتبة الي سماء الدنيا فيكتبون ما يكون في السنة من أمور ما يصيب العباد، [ صفحه 217] والأمر عنده موقوف له فيه علي المشيئة، فيقدم ما يشاء، ويؤخر ما يشاء، ويثبت، وعنده أم الكتاب» [550] . 4 ـ وفي قوله تعالي: (فكبكبوا فيها هم والغاوون) [551] ، قال الإمام أبو جعفر(عليه السلام): «إنّها نزلت في قوم وصفوا عدلاً بألسنتهم ثم خالفوه الي غيره» [552] . 5 ـ وفي قوله تعالي: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) [553] روي محمد ابن مسلم قال: قلت: للإمام أبي جعفر إن من عندنا يزعمون أن المعنيين بالآية هم اليهود والنصاري. قال: إذاً يدعونكم إلي دينهم! ثم أشار (عليه السلام) الي صدره فقال: نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون [554] . 6 ـ في قوله تعالي: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) [555] روي جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: لما نزلت هذه الآية قال المسلمون: يا رسول الله ألست إمام الناس كلهم أجمعين؟ فقال (صلي الله عليه وآله): أنا رسول الله الي الناس أجمعين، ولكن سيكون من بعدي أئمة علي الناس من أهل بيتي يقومون في الناس فيُكَذبون، ويظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم، فمن والاهم واتّبعهم، وصدقهم فهو مني ومعي، وسيلقاني، ألا ومن ظلمهم وكذّبهم فليس مني، ولا معي، وأنا منه بريء» [556] . 7 ـ وسئُل الإمام أبو جعفر عن قوله تعالي: (ثم أورثنا الكتاب الذين [ صفحه 218] اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) [557] فقال (عليه السلام): السابق بالخيرات الإمام، والمقتصد العارف للإمام، والظالم لنفسه الذي لا يعرف الإمام [558] . 8 ـ وعن المتوسّمين في قوله تعالي: (إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين) [559] ، قال (عليه السلام): قال أمير المؤمنين (عليه السلام): كان رسول الله (صلي الله عليه وآله) المتوسم، وأنا من بعده والأئمة من ذريتي المتوسمون» [560] . 9 ـ وفي قوله تعالي: (وألّوِ استقاموا علي الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً) [561] قال (عليه السلام): «يعني لو استقاموا علي ولاية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام) والأوصياء من ولده، وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم لأسقيناهم ماءاً غدقاً يعني أشربنا قلوبهم الإيمان، والطريقة: هي الإيمان بولاية علي والأوصياء» [562] . 10 ـ وفي ما يرتبط بقوله تعالي: (قل كفي بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) [563] ، سأل بريد بن معاوية الإمام أبا جعفر (عليه السلام) عن المعنيين بقوله تعالي: (ومن عنده علم الكتاب)؟ فقال (عليه السلام): «إيّانا عني، وعليّ أوّلنا، وأفضلنا وخيرنا بعد النبي (صلي الله عليه وآله)» [564] . [ صفحه 219]

التراث الحديثي للإمام الباقر

يعدّ الحديث النبوي الشريف المصدر الثاني من مصادر التشريع الاسلامي بعد القرآن الكريم، وله أهميته البالغة ودوره الكبير في بناء الصرح الثقافي للاُمة الإسلامية بشكل عام وبناء الصرح الفقهي والتشريع العملي للحياة الانسانية بشكل خاص. وقد زاد من اهتمام أهل البيت(عليهم السلام) بنشر سنّة رسول الله وتبليغها ما واجهه الحديث النبوي الشريف من مآسي الدس والتزوير والوضع والتضييع خلال فترة منع الخلفاء من تدوينه وكتابته بل التحديث به في بعض الأحيان. واعتني الإمام الباقر (عليه السلام) بشكل خاص بحديث الرسول(عليه السلام) حتي روي عنه جابر بن يزيد الجعفي سبعين ألف حديث [565] ، كما روي عنه أبان بن تغلب وغيره من تلامذته وأصحابه مجموعة كبيرة من هذا التراث الضخم. ولم يكتف الإمام بنقل الحديث ونشره بل دعا الي الاهتمام بفهم الحديث والوقوف علي معطياته، حتي جعل المقياس في فضل الراوي هو فهم الحديث ودرايته بمعانيه وأسراره. روي يزيد الرزّاز عن أبيه عن أبي عبدالله الصادق عن أبيه الباقر(عليهما السلام) أنه قال له: «اعرف منازل الشيعة علي قدر رواياتهم ومعرفتهم; فإن المعرفة هي الدراية للرواية، وبالدراية للرواية يعلو المؤمن الي أقصي درجات الإيمان» [566] . وقد عرضنا نماذج من رواياته عن جدّه رسول الله(صلي الله عليه وآله) فيما مرّ من بحوث سابقة فراجع [567] . [ صفحه 220]

التراث الكلامي عند الإمام الباقر

اشاره

وبحث الإمام أبو جعفر في كثير من محاضراته المسائل الكلامية، وسئل عن أعقد المسائل وأدقها في بحوث هذا العلم فأجاب عنها. ومن الجدير بالذكر أن عصر الإمام كان من أشد العصور الإسلامية حساسية فقد امتدّ فيه الفتح الاسلامي الي اغلب مناطق العالم وشعوب الارض فأثار ذلك موجة من الحقد في نفوس المعادين للاسلام من الشعوب المغلوبة علي أمرها، فقاموا بحملة دعائية ضد العقيدة الإسلامية وأذاعوا الشكوك بين أبناء المسلمين، وقد شجّعت الحكومات الاُموية التيارات ذات الافكار المعادية للاسلام; إذ لم يؤثّر عن أي واحد من ملوك بني اُمية أنه قاومها أو تصدّي لإيقافها بين المسلمين، ولم يكن هناك أحد قد انبري الي انقاذ المسلمين في ذلك العصر سوي الإمام أبي جعفر (عليه السلام) حيث تصدي لتزييفها والرد عليها ببالغ الحجة والبرهان. واليك نماذج من بحوثه:

عجز العقول عن إدراك حقيقة الله

سئل (عليه السلام) عن قوله تعالي: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) [568] فقال (عليه السلام): «أوهام القلوب أدق من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها، ولا تدركها ببصرك. وأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون؟!» [569] . وسأله عبد الرحمن بن أبي النجران عن الله تعالي فقال: إني أتوهم شيئاً، فقال (عليه السلام) له: «نعم، غير معقول ولا محدود، فما وقع وهمك عليه من شيء فهو [ صفحه 221] خلافه، ولا يشبهه شيء، ولا تدركه الأوهام، كيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل، وخلاف ما يتصور في الأوهام، إنما يتوهم شيء، غير معقول ولا محدود» [570] .

ازلية واجب الوجود

سأله رجل فقال له: أخبرني عن ربك متي كان؟ فأجابه الإمام(عليه السلام): «ويلك! إنما يقال لشيء لم يكن، متي كان؟ إن ربي تبارك وتعالي كان ولم يزل حياً بلا كيف، ولم يكن له كان، ولا كان لكونه كون. كيف! ولا كان له أين، ولا كان في شيء، ولا كان علي شيء، ولا ابتدع لمكانه مكاناً، ولا قوي بعدما كوّن الأشياء، ولا كان ضعيفاً قبل أن يكوّن شيئاً، ولا كان مستوحشاً قبل أن يبتدع شيئاً، ولا يشبه شيئاً مذكوراً، ولا كان خلواً من الملك قبل انشاءه، ولا يكون منه خلواً بعد ذهابه، لم يزل حياً بلا حياة، وملكاً قادراً قبل أن ينشيء شيئاً، وملكاً جباراً بعد انشاءه للكون، فليس لكونه كيف ولا له أين، ولا له حد، ولا يعرف بشيء يشبهه، ولا يهرم لطول البقاء، ولا يصعق [571] لشيء، بل لخوفه تصعق الأشياء كلها. كان حياً بلا حياة حادثة، ولا كون موصوف ولا كيف محدود، ولا أين موقوف عليه، ولا مكان جاور شيئاً، بل حي يعرف، وملك لم يزل له القدرة والملك، أنشأ ما شاء حين شاء بمشيئته، لا يحد ولا يبعض، ولا يفني، كان أولاً بلا كيف، ويكون آخراً بلا أين، وكل شيء هالك إلاّ وجهه، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين. ويلك أيّها السائل!! إن ربي لا تغشاه الأوهام، ولا تنزل به الشبهات، ولا يحار، ولا يجاوزه شيء، ولا تنزل به الاحداث، ولا يسأل عن شيء، ولا يندم علي شيء، ولا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الارض وما بينهما، وما تحت الثري» [572] . [ صفحه 222]

وجوب طاعة الإمام

طاعة الإمام واجب ديني أعلنه القرآن الكريم بقوله تعالي: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [573] وتواترت الأخبار بذلك، وروي زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: «ذروة الأمر وسنامه، ومفتاحه، وباب الأشياء، ورضا الرحمن تبارك وتعالي، الطاعة للإمام بعد معرفته... ان الله تبارك وتعالي يقول: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولي فما أرسلناك عليهم حفيظاً)» [574] .

التراث التاريخي للإمام الباقر

اشاره

وتحدث الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) كثيراً عن حكم الأنبياء وسننهم ولا سيّما السيرة النبوية المباركة وتأريخ العصر النبوي، وقد نقل عنه المختصون بهذه البحوث الشيء الكثير، وفيما يلي بعضها:

من وحي الله لآدم

عرض الإمام (عليه السلام) لأصحابه ما أوحي الله به لآدم من الحكم ومعالي الأخلاق فقال (عليه السلام): «أوحي الله تبارك وتعالي لآدم اني اجمع لك الخير كله في أربع كلمات: واحدة منهن لي، وواحدة لك، وواحدة فيما بيني وبينك، وواحدة فيما بينك وبين الناس، فأما التي لي فتعبدني، ولا تشرك بي شيئاً، وأما التي لك فأجازيك بعملك في وقت أحوج ما تكون إليه وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعليَّ الاجابة، وأما التي بينك وبين الناس فترضي للناس ما ترضي لنفسك» [575] . [ صفحه 223]

حكمة لسليمان

وحكي (عليه السلام) لأصحابه حكمة رائعة لنبي الله سليمان بن داود فقال (عليه السلام): «قال سليمان بن داود: اُوتينا ما اُوتي الناس، وما لم يؤتوا، وعلمنا ما علم الناس وما لم يعلموا، فلم نجد شيئاً أفضل من خشية الله في الغيب والمشهد، والقصد في الغني والفقر، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والتضرع الي الله عزّوجلّ في كل حال» [576] .

حكمة في التوراة

ونقل (عليه السلام) لأصحابه حكمة مكتوبة في التوراة فقال (عليه السلام): «إنّ في التوراة مكتوباً يا موسي إني خلقتك، واصطفيتك، وقويتك، وأمرتك بطاعتي ونهيتك عن معصيتي فإن أطعتني اعنتك علي طاعتي، وان عصيتني لم أعنك علي معصيتي، يا موسي ولي المنة عليك في طاعتك لي، ولي الحجة عليك في معصيتك لي» [577] .

تسمية نوح بالعبد الشكور

روي محمد بن مسلم عن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: «إنّ نوحاً إنما سمي عبداً شكوراً لأنه كان يقول إذا أمسي وأصبح: اللهم إني اُشهدك أنه ما أُمسي وأصبح بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد والشكر بها عليّ حتي ترضي» [578] .

دعاء نوح علي قومه

سأل سدير الإمام أبا جعفر (عليه السلام) عن دعاء نوح علي قومه فقال له: [ صفحه 223] أرأيت نوحاً حين دعا علي قومه فقال: (رب لا تذر علي الارض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفاراً) إنه كان عالماً بهم؟ فأجابه (عليه السلام): «أوحي الله اليه: انه لا يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن. فعند ذلك دعا عليهم بهذا الدعاء» [579] .

اسماعيل أول من تكلم بالعربية

ونقل الإمام أبو جعفر (عليه السلام) لأصحابه أنّ نبيّ الله إسماعيل هو أول من فتق لسانه باللغة العربية، بقوله (عليه السلام): «أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل، وهو ابن عشر سنة» [580] .

نفي الامية عن النبي الأكرم

روي علي بن اسباط فقال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): إن الناس يزعمون أن رسول الله (صلي الله عليه وآله) لم يكتب، ولم يقرأ! فأنكر (عليه السلام) ذلك وقال: «أنّي يكون ذلك؟!! وقد قال الله تعالي: (هو الذي بعث في الاُميّين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) [581] كيف يعلمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ ويكتب؟!». وانبري علي بن اسباط فقال للإمام: لمَ سُمّي النبيّ الاُمّي؟ فأجابه الإمام: «لأنه نسب الي مكة، وذلك قول الله عزّوجلّ: (لتنذر اُم القري ومن حولها) فاُم القري مكة، فقيل اُمي» [582] . [ صفحه 225]

مع السيرة النبوية المباركة

استعارة النبي السلاح من صفوان

وروي الطبري بسنده عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنّه قال: لما أجمع رسول الله (صلي الله عليه وآله) السير الي هوازن ليلقاهم ذكر له أن عند صفوان بن اُمية أدراعاً وسلاحاً، فأرسل اليه فقال: يا أبا اُمية ـ وهو يومئذ مشرك ـ أعرنا سلاحك هذا نلق فيه عدوّنا غداً. فقال له صفوان: أغصباً يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة، حتي نؤديها إليك، قال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح، وزعموا أن رسول الله (صلي الله عليه وآله) سأله أن يكفيه حملها ففعل. قال الإمام أبو جعفر(عليه السلام): فمضت السُنّة أن العارية مضمونة [583] . وقد ألمع الإمام الي أن هذه الحادثة قد استفيد منها القاعدة الفقهية وهو ان العارية مضمونة مع التفريط، فمن استعار شيئاً فقد ضمنه حتي يؤديه الي صاحبه.

مسيرة خالد الي بني جذيمة

وروي ابن هشام بسنده عن الإمام أبي جعفر (عليه السلام): ان رسول الله (صلي الله عليه وآله) بعث خالد بن الوليد الي بني جذيمة حين فتح مكة داعياً الي الله، ولم يبعثه مقاتلاً إلاّ أنّ خالداً أغار عليهم فأوجسوا منه خيفة فبادروا الي أسلحتهم فحملوها، فلما رأي خالد ذلك قال لهم: ضعوا السلاح، فإن الناس قد أسلموا، [ صفحه 226] ووثقوا بقوله، فوضعوا سلاحهم، إلاّ أ نّه غدر بهم، فأمر بتكتيفهم ثم عرضهم علي السيف، فقتل منهم من قتل، ولما انتهي خبرهم الي النبي (صلي الله عليه وآله) بلغ به الحزن أقصاه ورفع يديه بالدعاء، وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد». ودعا النبي (صلي الله عليه وآله) الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: «اخرج الي هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك». وخرج عليّ (عليه السلام) حتي جاءهم، ومعه مال، فَودي لهم الدماء، وما اُصيب لهم من الأموال، حتي انه ليدي ميلغة الكلب [584] حتي إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلاّ ودّاه، وبقيت معه بقية من المال، فقال لهم عليّ: هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يؤدَّ لكم؟ قالوا: لا. قال: فإني اُعطيكم هذه البقية من هذا المال، احتياطاً لرسول الله (صلي الله عليه وآله) مما يعلم ولا تعلمون، فأعطاهم ثم رجع الي رسول الله (صلي الله عليه وآله) فأخبره الخبر، فقال (صلي الله عليه وآله): أصبت وأحسنت، وقام رسول الله (صلي الله عليه وآله) فاستقبل القبلة شاهراً يديه، حتي كان يري ما تحت منكبيه، وهو يقول: «اللهم إني ابرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد» وكرر ذلك ثلاث مرات [585] . هذه بعض رواياته عن السيرة النبوية المباركة، وقد آثرنا الايجاز والإشارة فحسب. [ صفحه 227]

مع سيرة الإمام علي

وتحدث الإمام أبو جعفر (عليه السلام) في كثير من أحاديثه عن سيرة جدّه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) رائد الحق والعدالة بعد رسول الله(صلي الله عليه وآله) وإليك نموذجاً من ما رواه: روي زرارة بن أعين عن أبيه، عن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان عليّ (عليه السلام) إذا صلّي الفجر لم يزل معقباً الي أن تطلع الشمس، فإذا طلعت اجتمع إليه الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس فيعلّمهم الفقه والقرآن، وكان له وقت يقوم فيه من مجلسه ذلك، فقام يوماً، فمرّ برجل فرماه بكلمة هجر ـ ولم يسم أبو جعفر ذلك الرجل ـ فرجع الإمام، وصعد المنبر، وأمر فنودي الصلاة جامعة، فلمّا حضر الناس، حمد الله وأثني عليه، وصلّي علي نبيه، ثم قال: «أيها الناس انه ليس شيء أحب الي الله، ولا أعم نفعاً من حلم إمام وفقهه، ولا شيء أبغض إلي الله، ولا أعم ضرراً من جهل إمام وخرقه، ألا وإنه من لم يكن له من نفسه واعظ لم يكن له من الله حافظ، ألا وانه من انصف من نفسه لم يزده الله، إلاّ عزاً، ألا وان الذل في طاعة الله أقرب الي الله من التعزز في معصيته، ثم قال: أين المتكلم آنفاً؟ فلم يستطع الانكار، فقال: ها أناذا يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني لو أشاء لقلت. فقال: إن تعف وتصفح فأنت أهل لذلك فقال: «قد عفوت وصفحت» [586] . [ صفحه 228]

من الملاحم التي أخبر عنها الإمام الباقر

1 ـ قال أبو جعفر الدوانيقي: كنت هارباً من بني اُمية أنا وأخي أبو العباس فمررنا بمسجد النبي(صلي الله عليه وآله) ومحمد بن علي جالس، فقال(عليه السلام) لرجل إلي جانبه: كأني بهذا الأمر قد صار الي هذين، وأشار إلينا، فجاء الرجل وأخبرنا بمقالته، فملنا إليه وقلنا له: يابن رسول الله! ما الذي قلت؟ فقال (عليه السلام): «هذا الأمر صائر إليكم عن قريب ولكنكم تسيئون إلي ذريتي، وعترتي فالويل لكم» [587] فكان كما أخبر (عليه السلام) وقد أساء المنصور حينما ولّي الخلافة إلي ذريّة رسول الله(صلي الله عليه وآله) وعترته، فنكّل بهم كأفظع ما يكون التنكيل وقد قاست عترة رسول الله(صلي الله عليه وآله) في عهد هذا الطاغية من صنوف العذاب ما لم تره عين في عهد الاُمويين فقد كانت أيامه عليهم كلها محنة وألماً وعذاباً. 2 ـ ومما أنبأ عنه الإمام أبو جعفر (عليه السلام) أنه أخبر عن الحجر الأسود وأنّه يعلق في الجامع الأعظم في الكوفة [588] وتحقق ذلك أيام القرامطة فقد أخذوه من الكعبة، وجعلوه في جامع الكوفة; معتقدين أن الحج يدور مداره، وقد أرادوا ان يكون الحج إلي مسجد الكوفة، وبقي فيه مدة تقرب من عشرين عاماً ثم اُرجع إلي مكانه. 3 ـ ومن الملاحم التي أخبر عنها: غزو نافع بن الأزرق لمدينة النبي(صلي الله عليه وآله)، وإباحتها لجنوده، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «كان أبي في مجلس عام إذ اطرق برأسه إلي الأرض ثم رفعه وقال: يا قوم كيف أنتم إذا جاءكم رجل يدخل [ صفحه 229] عليكم مدينتكم في أربعة الآف حتي يستعرضكم علي السيف ثلاثة أيام متوالية، فيقتل مقاتلكم، وتلقون منه بلاءاً لا تقدرون عليه ولا علي دفعه وذلك من قابل ـ أي السنة التي تأتي ـ فخذوا حذركم، واعلموا أن الذي قلت لكم هو كائن لابد منه»، فلم يلتفت أهل المدينة إلي كلامه، وقالوا: لا يكون هذا أبداً، فلما كانت السنة المقبلة حمل أبو جعفر(عليه السلام) عياله، واصطحب معه جماعة من بني هاشم، وخرجوا من المدينة، فجاء نافع بن الأزرق فدخلها في أربعة آلاف واستباحها ثلاثة أيام، وقتل فيها خلقاً كثيراً [589] واستبان لأهل المدينة مدي صدق الإمام في إخباره. 4 ـ وأخبر الإمام الباقر(عليه السلام) عن شهادة أخيه زيد بن علي فقد قال زيد ابن حازم: كنت مع أبي جعفر (عليه السلام) فمرّ بنا زيد بن علي فقال لي أبو جعفر(عليه السلام): «أما رأيت هذا؟ ليخرجن بالكوفة، وليقتلن، وليطافن برأسه» [590] ولم تمض الأيام حتي قتل زيد بالكوفة وطيف برأسه في الأقطار والأمصار. 5 ـ ومن الأحداث التي أخبر عنها الإمام أبو جعفر(عليه السلام) هو ما أخبر به من هدم دار هشام بن عبد الملك، وهي من أضخم الدور في المدينة، وكان قد بناها بأحجار الزيت. قال (عليه السلام): «اما والله لتهدمنّ، أما والله لتندر أحجار الزيت»، قال أبو حازم: فلما سمعت هذا تعجّبت منه وقلت: من يهدمها وأمير المؤمنين هشام قد بناها! فلما مات هشام وولي الخلافة من بعده الوليد أمر بهدمها، ونقل أحجار الزيت منها حتي ندرت في يثرب [591] . [ صفحه 230]

من التراث الفقهي للإمام الباقر

اشاره

وتحدث الإمام ابو جعفر (عليه السلام)عن حكم القتال والحرب في الإسلام حينما سأله رجل من شيعته عن حروب الامام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) فقال له: «بعث الله محمداً (صلي الله عليه وآله) بخمسة أسياف: ثلاثة منها شاهرة لا تغمد حتي تضع الحرب أوزارها، ولن تضع الحرب أوزارها حتي تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت الشمس من مغربها أمن الناس كلهم في ذلك اليوم فيومئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أوكسبت في إيمانها خيراً، وسيف مكفوف، وسيف منها مغمود، سله إلي غيرنا، وحكمه إلينا. فأما السيوف الثلاثة الشاهرة: فسيف علي مشركي العرب، قال الله عز وجل: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) [592] (فإن تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فاخوانكم في الدين) [593] هؤلاء لا يقبل منهم إلاّ القتل أو الدخول في الإسلام، وأموالهم فيء وذراريهم سبي علي ما سن رسول الله(صلي الله عليه وآله) فإنه سبي وعفا، وقبل الفداء. والسيف الثاني: علي أهل الذمة قال الله سبحانه (وقولوا للناس حسناً) [594] نزلت هذه الآية في أهل الذمة، ونسخها قوله: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتي يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) [595] فمن كان منهم في دار الإسلام فلن يقبل منهم إلا الجزية [ صفحه 231] أو القتل، وما لهم فيء، وذراريهم سبي، فاذا قبلوا الجزية علي أنفسهم حرم علينا سبيهم وحرمت أموالهم، وحلت لنا مناكحهم [596] ومن كان منهم في دار الحرب حل لنا سبيهم وأموالهم، ولم تحل لنا مناكحتهم، ولم يقبل منهم إلا دخول دار الإسلام والجزية أو القتل. والسيف الثالث: علي مشركي العجم كالترك والديلم والخزر، قال الله عزّوجلّ: في أول السورة التي يذكر فيها الذين كفروا فقص قصتهم، ثم قال: (فضرب الرقاب حتي إذا اثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداءً حتي تضع الحرب أوزارها) [597] . فأما قوله: (فإما مناً بعد) يعني بعد السبي منهم «وأما فداء» يعني المفاداة بينهم، وبين أهل الإسلام، فهؤلاء لن يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الإسلام، ولا يحل لنا نكاحهم ما داموا في الحرب. وأما السيف المكفوف: فسيف علي أهل البغي والتأويل قال الله: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما علي الاُخري فقاتلوا التي تبغي حتي تفيء إلي أمر الله) [598] فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله (صلي الله عليه وآله) ان منكم من يقاتل بعدي علي التأويل كما قاتلت علي التنزيل، فسأل النبي (صلي الله عليه وآله) من هو؟ فقال: خاصف النعل ـ يعني أمير المؤمنين ـ وقال عمار ابن ياسر: قاتلت بهذه الراية مع رسول الله(صلي الله عليه وآله) ثلاثاً [599] وهذه الرابعة والله لو ضربونا حتي يبلغوا بنا السعفات من هجر [600] لعلمنا أنا علي الحق، وانهم علي الباطل، وكانت السيرة فيهم من أمير المؤمنين (عليه السلام) مثل ما كان من رسول الله (صلي الله عليه وآله) في أهل مكة يوم فتحها فإنه لم يسب لهم ذرية، وقال: من أغلق بابه فهو [ صفحه 232] آمن، ومن القي سلاحه فهو آمن، وكذلك قال أمير المؤمنين(عليه السلام): يوم البصرة نادي فيهم لا تسبوا لهم ذرية، ولا تدفِّفوا علي جريح [601] ولا تتبعوا مدبراً، ومن اغلق بابه والقي سلاحه فهو آمن. والسيف المغمود: فالسيف الذي يقام به القصاص قال الله عزّوجلّ:(النفس بالنفس والعين بالعين) [602] فسله إلي اولياء المقتول وحكمه إلينا. فهذه السيوف التي بعث الله بها محمداً (صلي الله عليه وآله) فمن جحدها أو جحد واحداً منها و شيئاً من سيرها فقد كفر بما انزل الله تبارك وتعالي علي محمد نبيه» [603] . واستمد فقهاء المسلمين الاحكام التي رتبوها علي قتال أهل البغي من سيرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في حرب الجمل، كما أخذوا عن أئمة الهدي (عليهم السلام) الكثير من الاحكام في هذا الباب.

المسح علي الخفين

وجوّز فقهاء المذاهب الإسلامية المسح علي الخفين في الوضوء، ولم يشترطوا مماسّة اليد لظاهر القدمين [604] وأمّا أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فقد اعتبروا المماسّة واشترطوها ولم يسوغوا غيرها، يقول الربيع: سألت أبا اسحاق عن المسح، فقال: أدركت الناس يمسحون ـ يعني علي الخفين ـ حتي لقيت رجلاً من بني هاشم لم أر مثله قط يقال له: محمد بن علي بن الحسين فسألته عن المسح، فنهاني عنه، وقال: «لم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام) يمسح، وكان يقول: سبق [ صفحه 233] الكتاب المسح علي الخفين» [605] . لقد دل الكتاب العظيم علي اعتبار المماسة إذ قال تعالي: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) والآية ظاهرة أشد الظهور فيما حكم به أهل البيت (عليهم السلام).

مس الفرج لا ينقض الوضوء

وذهب الشافعي إلي أنّ مسّ الفرج من نواقض الوضوء، وتمسّك بذلك بما روي عن ابن عمر وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار من أن مسّ الفرج من نواقض الوضوء. أما الامام أبو جعفر (عليه السلام) وسائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فإنهم لا يرون ذلك، فقد روي زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: «ليس في القبلة ولا المباشرة، ولا مس الفرج وضوء» [606] .

الجهر في صلاة الاخفات

وذهب فقهاء المذاهب الإسلامية إلي أن الجهر في صلاة الإخفات أو الإخفات في صلاة الجهر متعمداً غير مبطل للصلاة، أما في فقه مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فإنه مبطل للصلاة، فقد روي زرارة عن الامام أبي جعفر(عليه السلام) في رجل جهر فيما لا ينبغي الاجهار فيه أو أخفي فيما لا ينبغي الإخفاء فيه، فقال (عليه السلام): «إنْ فعل ذلك متعمداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة، وإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته» [607] . [ صفحه 234]

الصلاة علي آل النبي في التشهد

وذهب أكثر فقهاء المسلمين الي وجوب الصلاة علي آل النبي (صلي الله عليه وآله) في التشهد، وقد روي جابر الجعفي عن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): «من صلي صلاة لم يصلّ فيها عليّ، ولا علي أهل بيتي لم تقبل منه» [608] . هذه نماذج من المسائل الفقهية الكثيرة التي تكلّم عنها الإمام أبو جعفر (عليه السلام).

من وصايا الإمام الباقر

وزوّد الإمام أبو جعفر (عليه السلام) تلميذه العالم جابر بن يزيد الجعفي بهذه الوصية الخالدة الحافلة بجميع القيم الكريمة والمثل العليا التي يسمو بها الانسان فيما لو طبقها علي واقع حياته، وهذا بعض ما جاء فيها: «أوصيك بخمس: إن ظلمت فلا تظلم، وان خانوك فلا تخن، وان كذبت فلا تغضب، وان مدحت فلا تفرح، وان ذممت فلا تجزع، وفكّر فيما قيل فيك، فإن عرفت من نفسك ما قيل فيك فسقوطك من عين الله جلّ وعزّ عند غضبك من الحق أعظم عليك مصيبة مما خفت من سقوطك من أعين الناس، وإن كنت علي خلاف ما قيل فيك، فثواب اكتسبته من غير أن يتعب بدنك. واعلم بأنك لا تكون لنا ولياً حتي لو اجتمع عليك أهل مصرك، وقالوا: إنك رجل سوء لم يحزنك ذلك، ولو قالوا: إنك رجل صالح لم يسرك ذلك، ولكن اعرض نفسك علي كتاب الله فإن كنت سالكاً سبيله، زاهداً في تزهيده، راغباً في ترغيبة، خائفاً من تخويفه [ صفحه 235] فاثبت وأبشر، فإنه لا يضرك ما قيل فيك، وإن كنت مبائناً للقرآن، فماذا الذي يغرّك من نفسك. إن المؤمن معنيّ بمجاهدة نفسه ليغلبها علي هواها، فمرة يقيم إودها ويخالف هواها في محبة الله، ومرة تصرعه نفسه فيتبع هواها فينعشه الله، فينتعش، ويقيل الله عثرته فيتذكر، ويفزع الي التوبة والمخافة فيزداد بصيرة ومعرفة لما زيد فيه من الخوف، وذلك بأن الله يقول: (إن الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) [609] . يا جابر، استكثر لنفسك من الله قليل الرزق تخلصاً الي الشكر، واستقلل من نفسك كثير الطاعة لله إزراءاً علي النفس [610] وتعرضاً للعفو. وادفع عن نفسك حاضر الشر بحاضر العلم، واستعمل حاضر العلم بخالص العمل، وتحرّز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدة التيقظ، واستجلب شدة التيقظ بصدق الخوف، واحذر خفي التزين بحاضر الحياة، وتوقّ مجازفة الهوي بدلالة العقل، وقف عند غلبة الهوي باسترشاد العلم، واستبق خالص الاعمال ليوم الجزاء. وانزل ساحة القناعة باتقاء الحرص، وادفع عظيم الحرص بايثار القناعة، واستجلب حلاوة الزهادة بقصر الأمل، واقطع اسباب الطمع ببرد اليأس. وسد سبيل العجب بمعرفة النفس، وتخلص الي راحة النفس بصحة التفويض، واطلب راحة البدن بإجمام [611] القلب، وتخلّص الي اجمام القلب بقلة الخطأ. وتعرّض لرقة القلب بكثرة الذكر في الخلوات، واستجلب نور القلب بدوام الحزن. وتحرّز من ابليس بالخوف الصادق، وإياك والرجاء الكاذب فإنه يوقعك في الخوف الصادق. [ صفحه 236] وتزيّن لله عزّوجلّ بالصدق في الاعمال، وتحبّب إليه بتعجيل الانتقال. وإياك والتسويف فإنه بحر يغرق فيه الهلكي. وإياك والغفلة ففيها تكون قساوة القلب، وإياك والتواني فيما لا عذر لك فيه فإليه يلجأ النادمون. واسترجع سالف الذنوب بشدة الندم، وكثرة الاستغفار. وتعرض للرحمة وعفو الله بحسن المراجعة، واستعن علي حسن المراجعة بخالص الدعاء، والمناجاة في الظلم. وتخلّص الي عظيم الشكر باستكثار قليل الرزق، واستقلال كثير الطاعة. واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر، والتوسل الي عظيم الشكر بخوف زوال النعم. واطلب بقاء العزّ بإماتة الطمع، وادفع ذل الطمع بعز اليأس، واستجلب عزّ اليأس ببعد الهمة. وتزود من الدنيا بقصر الأمل، وبادر بانتهاز البغية عند امكان الفرصة، ولا امكان كالايام الخالية مع صحة الابدان. وإياك والثقة بغير المأمون فإن للشر ضراوة كضراوة الغذاء. واعلم انه لا علم كطلب السلامة، ولا سلامة كسلامة القلب، ولا عقل كمخالفة الهوي، ولا خوف كخوف حاجز، ولا رجاء كرجاء معين. ولا فقر كفقر القلب، ولا غني كغني النفس، ولا قوة كغلبة الهوي. ولا نور كنور اليقين، ولا يقين كاستصغارك للدنيا، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك. ولا نعمة كالعافية، ولا عافية كمساعدة التوفيق، ولا شرف كبعد الهمة، ولا زهد كقصر الأمل، ولا حرص كالمنافسة في الدرجات. ولا عدل كالإنصاف، ولا تعدّي كالجور، ولا جور كموافقة الهوي، ولا طاعة كأداء الفرائض، ولا خوف كالحزن، ولا مصيبة كعدم العقل، ولا عدم عقل كقلّة اليقين، ولا قلّة [ صفحه 237] يقين كفقد الخوف ولا فقد خوف كقلّة الحزن علي فقد الخوف. ولا مصيبة كاستهانتك بالذنب، ورضاك بالحالة التي أنت عليها. ولا فضيلة كالجهاد، ولا جهاد كمجاهدة الهوي، ولا قوة كردّ الغضب. ولا معصية كحب البقاء، ولا ذلّ كذلّ الطمع، وإياك والتفريط عند إمكان الفرصة فإنه ميدان يجري لأهله بالخسران...» [612] . وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض كلماته الحكيمة التي تمثّل أصالة الفكر والإبداع. وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين

پاورقي

[1] المناقب: 2 / 286.
[2] ائمتنا: 1 / 396، عن أعيان الشيعة: 4 ق2 / 20.
[3] بحار الانوار: 11 / 82.
[4] كشف الغمة: 212.
[5] ائمتنا: 1 / 396، عن اعيان الشيعة: 4 ق2 / 85.
[6] المناقب: 2 / 278.
[7] بحار الانوار: 11 / 88.
[8] في رحاب أئمة أهل البيت: 4 / 10.
[9] كشف الغمة: 221. [
[10] الائمة الاثنا عشر: 81.
[11] مطالب السؤول: 80، كشف الغمة: 2 / 329 والصواعق المحرقة: 304 مع اختلاف يسير.
[12] المدخل الي موسوعة العتبات المقدسة 201.
[13] حلية الأولياء: 3 / 180.
[14] اخبار الدول: 111.
[15] الفصول المهمة: 201.
[16] وفيات الاعيان: 3 / 314.
[17] الصواعق المحرقة: 305.
[18] سبائك الذهب: 72.
[19] مناقب آل أبي طالب: 3 / 337، بحارالأنوار: 46 / 289، الأنوار البهيّة: 142، مستدرك البحار: 2 / 383.
[20] بحار الانوار: 11 / 66.
[21] عيون الاخبار وفنون الآثار: 218.
[22] تأريخ دمشق: 51 / 52، عيون الاخبار لابن قتيبة: 3 / 57.
[23] الفصول المهمة: 227.
[24] عيون الاخبار: 3 / 208.
[25] البيان والتبيين: 158.
[26] عن شرح شافية أبي فراس: 2 / 176.
[27] المصدر السابق.
[28] حياة الإمام محمد الباقر(عليه السلام): 1 / 124.
[29] شرح شافية أبي فراس: 2 / 176.
[30] في رحاب ائمة اهل البيت (عليهم السلام): 4 / 12.
[31] المصدر السابق.
[32] الارشاد: 299.
[33] صفة الصفوة: 2 / 63.
[34] عيون الاخبار وفنون الآثار: 217، والارشاد: 229.
[35] صفة الصفوة: 2 / 63.
[36] المصدر السابق.
[37] راجع تاريخ ابن عساكر: 51 / 44.
[38] تذكرة الحفاظ: 1 / 125، تأريخ ابن عساكر: 51 / 44، حلية الأولياء: 3 / 182.
[39] فروع الكافي: 3 / 323.
[40] سفعات النار: هي لفحات السعير التي تغير بشرة الانسان لشدة حرارتها.
[41] فروع الكافي: 3 / 322.
[42] صفة الصفوة: 2 / 63، نور الأبصار: 130.
[43] مناقب ابن شهرآشوب: 4 / 183.
[44] حلية الأولياء: 3 / 186، ترجمة محمّد بن علي الباقر(عليه السلام)، رقم 235; صفة الصفوة: 2 / 63.
[45] في رحاب أئمة أهل البيت (عليهم السلام): 4 / 6.
[46] دعائم الإسلام: 2 / 158.
[47] البداية والنهاية: 9 / 310، حياة الإمام محمد الباقر: 1 / 115 ـ 134 بتصرّف.
[48] تهذيب اللغات والاسماء: 1 / 87، وفيات الاعيان: 3 / 384.
[49] عن الدر النظيم من مصورات مكتبة الإمام أمير المؤمنين تسلسل (2879).
[50] أصول الكافي: 1 / 469.
[51] وفيات الاعيان: 3 / 314، تذكرة الحفاظ: 1 / 124.
[52] دلائل الامامة: 94.
[53] اخبار الدول: 111، وفيات الاعيان: 3 / 314.
[54] تأريخ اليعقوبي: 2 / 320.
[55] عن عيون المعجزات للحسين بن عبد الوهاب من مخطوطات مكتبة الإمام الحكيم تسلسل (975).
[56] دلائل الامامة: 94.
[57] اعيان الشيعة: ق1 / 4 / 464.
[58] راجع جنات الخلود، وناسخ التواريخ. حياة الإمام الباقر(عليه السلام).
[59] تذكرة الحفاظ: 1 / 124، نزهة الجليس: 2 / 36.
[60] عن جامع المقال للشيخ الطريحي.
[61] عيون الاخبار وفنون الآثار: 213، عمدة الطالب: 183.
[62] عن مرآة الزمان في تواريخ الاعيان: 5 / 78 من مصورات مكتبة الإمام الحكيم.
[63] عن تاريخ ابن عساكر: 51 / 41 من مصورات مكتبة الإمام أمير المؤمنين.
[64] غاية الاختصار: 64.
[65] الوافي بالوفيات: 4 / 103.
[66] اُصول الكافي: 1 / 469.
[67] اخبار الدول: 111، جوهرة الكلام في مدح السادة الاعلام: 132.
[68] اعيان الشيعة: ق1 / 4 / 471.الكشح: ما بين الخاصرة الي الضلع الخلف، والضامر هو الهزيل والخفيف اللحم. راجع مختار الصحاح. ظ.
[69] علل الشرائع: 234.
[70] المناقب: 4 / 147.
[71] اثبات الهداة: 5 / 176.
[72] حلية الأولياء: 3 / 189.
[73] في رحاب ائمة أهل البيت (عليهم السلام): 4 / 4.
[74] الفتوح: 5 / 153.
[75] تاريخ الخميس: 2 / 300.
[76] الكامل في التاريخ: 4 / 113.
[77] البداية والنهاية: 9 / 138.
[78] شرح نهج البلاغة: 9 / 138.
[79] المصدر السابق: 11 / 46.
[80] كفاية الأثر: 144 ـ 145.
[81] مختصر تاريخ دمشق: 23 / 78، تاريخ اليعقوبي: 2 / 320، سير أعلام النبلاء: 4 / 404.
[82] إعلام الوري بأعلام الهدي: 207.
[83] كفاية الأثر: 237.
[84] المصدر السابق: 239.
[85] كفاية الأثر: 241.
[86] بحار الانوار: 46 / 320.
[87] كفاية الاثر: 243.
[88] كفاية الأثر: 239.
[89] الكافي: 1 / 305.
[90] أهل البيت، تنوع أدوار ووحدة هدف: 59.
[91] أهل البيت، تنوع ادوار ووحدة هدف: 131 ـ 132 و147 ـ 148.
[92] أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف: 144.
[93] أهل البيت، تنوع ادوار ووحدة هدف: 79 ـ 80 مع بعض التصرّف.
[94] تاريخ ابن كثير: 8 / 260.
[95] النزاع والتخاصم للمقريزي: 8.
[96] تاريخ الخلفاء للسيوطي: 219.
[97] المصدر السابق: 218.
[98] تاريخ اليعقوبي: 2 / 190، ط 1، الأعلمي بيروت، 1413 هـ.
[99] مختصر تاريخ دمشق: 15 / 219، ترجمة عبدالملك بن مروان رقم 210. [
[100] تاريخ ابن كثير: 9 / 64.
[101] تاريخ القضاعي: 72.
[102] اليعقوبي: 2 / 311.
[103] المأفون: الضعيف الرأي.
[104] شرح ابن أبي الحديد: 15 / 257.
[105] نهاية الإرب: 21 / 334.
[106] تاريخ ابن كثير: 9 / 132.
[107] تهذيب التهذيب: 2 / 311.
[108] شذرات الذهب: 1 / 106 ـ 107.
[109] مروج الذهب: 3 / 86.
[110] حياة الحيوان للدميري: 1 / 167.
[111] تهذيب التهذيب: 2 / 211، تيسير الوصول: 4 / 31، التنبيه والاشراف: 318، معجم البلدان: 5 / 349.
[112] حياة الحيوان: 1 / 170، تاريخ الطبري.
[113] طبقات ابن سعد: 6 / 66.
[114] مروج الذهب: 3 / 74.
[115] حياة الحيوان: 1 / 171.
[116] تهذيب التهذيب: 2 / 211.
[117] النزاع والتخاصم للمقريزي: 27، رسائل الجاحظ: 297.
[118] شرح النهج: 15 / 242.
[119] العقد الفريد: 3 / 149.
[120] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 11 / 43 ـ 44، تاريخ الشيعة: 40.
[121] حياة الإمام الحسن بن علي: 2 / 336.
[122] تاريخ اليعقوبي: 3 / 68.
[123] مروج الذهب: 3 / 68.
[124] تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر: 4 / 50، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 84، تاريخ ابن كثير: 9 / 63.
[125] حياة الحيوان للدميري: 1 / 170.
[126] معجم البلدان: 5 / 349.
[127] تهذيب التهذيب: 2 / 212.
[128] الدر النظيم: 188، ضياء العالمين الجزء الثاني في أحوال الإمام الباقر(عليه السلام).
[129] حياة الحيوان للدميري: 1 / 91 ـ 92، المحاسن والأضداد للبيهقي، المطالعة العربية: 1 / 31.
[130] البداية والنهاية: 9 / 68.
[131] تاريخ الخلفاء للسيوطي: 220.
[132] تاريخ أبي الفداء: 1 / 209.
[133] تاريخ الخلفاء: 223.
[134] تاريخ ابن الأثير: 4 / 138.
[135] المصدر السابق.
[136] تاريخ الخلفاء للسيوطي: 223.
[137] الاناقة في مآثر الخلافة: 1 / 133.
[138] تاريخ ابن الأثير: 4 / 138.
[139] المصدر السابق: 4 / 138.
[140] تاريخ ابن عساكر: 5 / 80.
[141] الجهشياري: 32.
[142] مروج الذهب: 3 / 113.
[143] تاريخ ابن الأثير: 4 / 151.
[144] نهاية الإرب: 21 / 355.
[145] تاريخ دمشق: 2 / 47، تاريخ الاُمم والملوك: 5 / 167 ـ 168.
[146] تاريخ ابن الأثير: 4 / 154، حوادث سنة 99 هـ.
[147] الإمام محمّد الباقر(عليه السلام): 2 / 47 ـ 48.
[148] المناقب: 4 / 207 ـ 208.
[149] هكذا في الأصل والصحيح ثم اقطعها عثمان مروان.
[150] تاريخ بن الأثير: 4 / 164.
[151] سفينة البحار: 2 / 272.
[152] بحار الأنوار: 46 / 251.
[153] تاريخ دمشق: 54 / 270.
[154] تاريخ اليعقوبي: 2 / 48.
[155] حياة الإمام موسي بن جعفر: 1 / 350.
[156] تاريخ اليعقوبي: 2 / 48.
[157] تاريخ ابن الأثير: 4 / 161.
[158] الانافة في مآثر الخلافة: 1 / 142.
[159] تاريخ ابن الأثير: 4 / 161.
[160] المصدر السابق: 9 / 232.
[161] العقد الفريد: 3 / 180.
[162] الطبقات الكبري: 5 / 95.
[163] الكامل في التاريخ: 5 / 121.
[164] البخلاء: 150.
[165] اخبار الدول: 2 / 200.
[166] انساب الأشراف: 8 / 399 طبعة دار الفكر المحققة 1417 هـ.
[167] البخلاء: 150.
[168] بحار الأنوار: 11 / 75.
[169] الختار: الغدر.
[170] التناوش: التناول.
[171] مناقب آل أبي طالب: 4 / 203 ـ 204.
[172] بحار الأنوار: 11 / 75.
[173] ذكر اليعقوبي أن هشاماً حجّ سنة 106 هجرية.
[174] البرجاس: جاء في معجم المعرّبات الفارسية: أن (البرجاس) هدف، «شي في الهواء، معلّق علي رأس رمح أو نحوه» وهو معرّب ويراد به: هدف السهم.
[175] دلائل الإمامة: 104 ـ 106.
[176] الدر النظيم: 190، دلائل الإمامة: 106.
[177] المناقب: 4 / 690، بحار الأنوار: 11 / 75، راجع حياة الإمام محمد الباقر(عليه السلام): 2 / 40 ـ 66.
[178] المنتظم في تاريخ الأمم والملوك: 7 / 3.
[179] المصدر السابق: 7 / 12.
[180] الكامل في التاريخ: 5 / 11.
[181] المنتظم: 7 / 13.
[182] الكامل في التاريخ: 5 / 13 وما بعدها.
[183] عيون أخبار الرضا: 1 / 304.
[184] الكامل في التاريخ: 4 / 577.
[185] الكامل في التاريخ: 3 / 178.
[186] البداية والنهاية: 9 / 161.
[187] الاحكام السلطانية: 13، الماوردي.
[188] الكامل في التاريخ: 5 / 62.
[189] تاريخ ابن خلدون: 5 / 151.
[190] البداية والنهاية: 9 / 232.
[191] مناقب آل أبي طالب: 4 / 206.
[192] بحار الانوار: 46 / 283.
[193] الاغاني: 6 / 219.
[194] البداية والنهاية: 9 / 165.
[195] مروج الذهب: 3 / 177.
[196] الاغاني: 1 / 317.
[197] المصدر السابق: 4 / 272.
[198] مروج الذهب: 3 / 196.
[199] الاغاني: 15 / 295.
[200] المصدر السابق: 8 / 346.
[201] الاغاني: 7 / 109.
[202] المصدر السابق: 1 / 339.
[203] مروج الذهب: 3 / 76.
[204] شرح نهج البلاغة: 8 / 121.
[205] بحار الانوار: 25 / 297.
[206] المصدر السابق: 25 / 297.
[207] المصدر السابق: 25 / 283.
[208] المصدر السابق: 67 : 101.
[209] المصدر السابق: 46 / 291.
[210] بحار الانوار: 5 / 298.
[211] المصدر السابق: 3 / 285.
[212] المصدر السابق: 3 / 265.
[213] المصدر السابق: 3 / 326.
[214] المصدر السابق: 69 / 297.
[215] بحار الأنوار: 67 / 211.
[216] المصدر السابق: 3 / 264.
[217] المصدر السابق: 2 / 298.
[218] بحار الانوار: 46 / 313 ـ 315.
[219] بحار الأنوار: 46 / 308، 316.
[220] راجع مبحث ملامح وأبعاد هامة في عصر الإمام الباقر(عليه السلام).
[221] الاحتجاج: 2 / 184.
[222] أعيان الشيعة: 1 / 653.
[223] بحار الأنوار: 46 / 357.
[224] تاريخ المذاهب الاسلامية: 689.
[225] المحاسن: 207.
[226] المصدر السابق: 205.
[227] الكافي: 1 / 399.
[228] كشف الغمّة: 2 / 120.
[229] رجال الكشي: 215.
[230] سير أعلام النبلاء: 4 / 401.
[231] تاريخ المذاهب الإسلامية: 361.
[232] مختصر تاريخ دمشق: 23 / 79.
[233] اعلام الوري: 294.
[234] الاحكام في أصول الاحكام لابن حزم: 2 / 131.
[235] سنن النسائي: 1 / 42.
[236] تمهيد لتأريخ الفلسفة الاسلامية: ص202.
[237] اعلام الوري: 270.
[238] الوحدة الاسلامية: 99.
[239] تهذيب الاحكام: 6 / 180.
[240] المصدر السابق: 6 / 181.
[241] الخصال: 1 / 42.
[242] مناقب آل أبي طالب: 4 / 223.
[243] بحار الانوار: 27 / 222.
[244] المصدر السابق: 2 / 135.
[245] المصدر السابق: 27 / 51.
[246] الكافي: 1 / 184.
[247] الخصال: 1 / 116.
[248] بحار الانوار: 27 / 244.
[249] الكافي: 2 / 74.
[250] بحار الانوار: 65 / 149.
[251] شرح نهج البلاغة: 11 / 42، 44.
[252] الكافي: 5 / 107.
[253] بحار الانوار: 2 / 122.
[254] بحار الأنوار: 72 / 375.
[255] الكافي: 5 / 112، كتاب المعيشة، باب بيع السلاح منهم.
[256] المحاسن: 93.
[257] بحار الانوار: 72 / 399.
[258] المصدر السابق.
[259] الشجن: القرع من كل شيء.
[260] بحار الأنوار: 46 / 320.
[261] المصدر السابق: 75 / 182.
[262] مختصر تاريخ دمشق: 23 / 77.
[263] المصدر السابق: 23 / 79.
[264] مناقب آل أبي طالب: 4 / 206.
[265] عبدالله الباهر أخو الإمام الباقر(عليه السلام)، كان من أبرز علماء المسلمين في فضله، وسموّ منزلته العلمية، وقد روي عن أبيه علوماً شتي، وكتب الناس عنه ذلك. «غاية الاختصار 106». وأما عمر بن علي بن الحسين(عليه السلام) فهو أخو الإمام الباقر(عليه السلام) أيضاً كان فاضلاً جليلاً ووُلّي صدقات النبي(صلي الله عليه وآله) وصدقات أمير المؤمنين(عليه السلام) وكان ورعاً سخيّاً، ويروي عنه، قال: يشترط علي من ابتاع صدقات علي(عليه السلام) أن يثلم في الحائط كذا وكذا ثلمة لا يمنع من دخله أن يأكل منه. وكذلك زيد الشهيد فإنه ثالث إخوته، وكان من أجلّ علماء المسلمين وقد تخصص في علوم كثيرة كعلم الفقه والحديث والتفسير وعلم الكلام وغيرها، وهو الذي تبنّي حقوق المظلومين والمضطهدين، وقاد سيرتهم النضالية في ثروته الخالدة التي نشرت الوعي السياسي في المجتمع الإسلامي وساهمت مساهمة إيجابية وفعّالة في الإطاحة بالحكم الاُموي.
[266] سفينة البحار: 2 / 273.
[267] مقتل الخوارزمي: 2 / 113.
[268] مناقب آل أبي طالب: 4 / 213.
[269] الخصال: 1 / 26.
[270] الكافي: 2 / 208.
[271] المصدر السابق: 2 / 112.
[272] المصدر السابق: 2 / 142.
[273] المصدر السابق: 2 / 72.
[274] الكافي: 1 / 60.
[275] المصدر السابق: 2 / 188.
[276] المصدر السابق: 2 / 152.
[277] المحاسن: 102.
[278] الخصال: 1 / 317.
[279] تحف العقول: 220.
[280] المصدر السابق: 217.
[281] المصدر السابق: 220.
[282] المصدر السابق: 213.
[283] الخصال: 1 / 223.
[284] صفة الصفوة: 2 / 109.
[285] تحف العقول: 216.
[286] المحاسن: 103.
[287] المصدر السابق.
[288] تحف العقول: 214.
[289] الكافي: 5 / 73.
[290] المصدر السابق: 5 / 78.
[291] المصدر السابق.
[292] تفسير نور الثقلين: 5 / 527.
[293] الخصال: 1 / 10.
[294] الكافي: 4 / 2.
[295] المصدر السابق: 2 / 74.
[296] المصدر السابق: 2 / 134.
[297] المصدر السابق: 2 / 131.
[298] سفينة البحار: 2 / 452.
[299] الخصال: 1 / 84.
[300] أمالي الصدوق: 359.
[301] الكافي: 3 / 506.
[302] وسائل الشيعة: 9 / 29.
[303] الكافي: 3 / 505.
[304] المصدر السابق: 3 / 548.
[305] الخصال: 1 / 48.
[306] المحاسن: 99.
[307] وسائل الشيعة: 9 / 29.
[308] الكافي: 2 / 293.
[309] وسائل الشيعة: 9 / 231.
[310] مناقب آل أبي طالب: 4 / 229.
[311] المحاسن: 244.
[312] مختصر تاريخ دمشق: 23 / 81.
[313] المحاسن: 238.
[314] تحف العقول: 217.
[315] المصدر السابق: 218.
[316] المحاسن: 92، 93.
[317] الكافي: 2 / 74.
[318] المصدر السابق: 2 / 18.
[319] الخصال: 1 / 278.
[320] المحاسن: 151.
[321] النحل (16): 43.
[322] البقرة (2): 143.
[323] البقرة (2): 143.
[324] التوبة (9): 119.
[325] مناقب آل أبي طالب: 4 / 194، 195.
[326] المحاسن: 155.
[327] الكافي: 2 / 74.
[328] المصدر السابق: 2 / 73.
[329] تحف العقول: 220.
[330] بحار الأنوار: 65 / 168.
[331] بحار الأنوار: 65 / 189.
[332] الكافي: 2 / 234.
[333] تحف العقول: 206، مستدرك الوسائل: 1 / 460.
[334] الكافي: 2 / 74.
[335] تحف العقول: 214.
[336] المصدر السابق.
[337] جامع الأخبار: 270.
[338] تحف العقول: 212.
[339] تحف العقول: 212، 213.
[340] جامع الاخبار: 313.
[341] تحف العقول: 215.
[342] الكافي: 2 / 72.
[343] المحاسن: 263.
[344] الكافي: 2 / 311.
[345] وسائل الشيعة: 16 / 59.
[346] المصدر السابق: 16 / 60.
[347] الكافي: 2 / 316.
[348] كشف الغمة: 2 / 148.
[349] تحف العقول: 218.
[350] تفسير العياشي: 1 / 68.
[351] تحف العقول: 217.
[352] الكافي: 2 / 245.
[353] وسائل الشيعة: 16 / 24.
[354] الخصال: 1 / 15.
[355] مختصر تاريخ دمشق: 23 / 86.
[356] مختصر تاريخ دمشق: 23 / 86.
[357] حلية الاولياء: 3 / 187.
[358] مختصر تاريخ دمشق: 23 / 85.
[359] وسائل الشيعة: 16 / 12.
[360] تحف العقول: 219.
[361] الكافي: 1 / 32.
[362] حلية الاولياء: 3 / 192.
[363] المصدر السابق: 3 / 183.
[364] تذكرة الخواص: 304.
[365] الكافي: 1 / 70.
[366] المصدر السابق: 1 / 47.
[367] الكافي: 1 / 35.
[368] المصدر السابق: 1 / 41.
[369] المصدر السابق: 1 / 41.
[370] المصدر السابق: 1 / 41.
[371] المصدر السابق: 1 / 50.
[372] المصدر السابق: 1 / 42.
[373] الكافي: 1 / 43.
[374] المصدر السابق: 1 / 222.
[375] المصدر السابق: 1 / 228.
[376] المصدر السابق: 1 / 399.
[377] المحاسن: 213.
[378] بحار الانوار: 46 / 328.
[379] مختصر تاريخ دمشق: 23 / 79.
[380] المصدر السابق: 23 / 83.
[381] دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة: 1 / 133.
[382] الإرشاد: 264.
[383] بحار الأنوار: 98 / 1.
[384] المصدر السابق: 44 / 293.
[385] المصدر السابق: 98 / 4.
[386] مقتل الحسين للمقرّم: 106.
[387] بحار الأنوار: 51 / 138.
[388] المصدر السابق: 51 / 139.
[389] بحار الأنوار: 51 / 140.
[390] حلية الأولياء: 3 / 184.
[391] تحف العقول: 217 ـ 218.
[392] الارشاد: 266.
[393] بحار الأنوار: 65 / 14، 48، 60، 56.
[394] الصافات (37): 83.
[395] القصص (28): 15.
[396] بحار الأنوار: 65 / 12 ـ 13.
[397] المحاسن: 157.
[398] المصدر السابق: 157.
[399] بحار الأنوار: 65 / 16.
[400] المصدر السابق: 65 / 29، 30، 58، 44.
[401] بحار الأنوار: 65 / 16.
[402] بشارة المصطفي: 16.
[403] بحار الأنوار: 65 / 178.
[404] بشارة المصطفي: 55، 56.
[405] الزمر (39): 53.
[406] قرب الاسناد: 29.
[407] بحار الأنوار: 65 / 31.
[408] الكافي: 4 / 549.
[409] المصدر السابق.
[410] الخصال: 1 / 22.
[411] المصدر السابق: 1 / 183.
[412] الكافي: 1 / 404.
[413] المحاسن: 263.
[414] تحف العقول: 213.
[415] جامع الاخبار: 252.
[416] تحف العقول: 214.
[417] المصدر السابق: 216.
[418] المصدر السابق: 213.
[419] تحف العقول: 210، والمعروف عند علماء مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) أن النكاح الجائز مع أهل الذمّة هو النكاح المؤقت فحسب.
[420] الكافي: 5 / 31.
[421] المصدر السابق: 5 / 568.
[422] وسائل الشيعة: 26 : 319.
[423] بحار الأنوار: 72 / 399.
[424] المصدر السابق: 72 / 399.
[425] بحار الأنوار: 46 / 283.
[426] المصدر السابق: 71 / 225.
[427] كفاية الأثر: 251.
[428] رجال الكشي: 204.
[429] الكافي: 5 / 112.
[430] الكافي: 2 / 45.
[431] أمالي الطوسي: 2 / 123.
[432] الكافي: 5 / 73 ـ 74.
[433] المصدر السابق: 5 / 75.
[434] المصدر السابق: 5 / 85.
[435] النساء (4): 32.
[436] الكافي: 5 / 80.
[437] المصدر السابق: 5 / 126.
[438] الكافي: 5 / 147.
[439] المصدر السابق: 5 / 116.
[440] تحف العقول: 209.
[441] بحار الأنوار: 94 / 379، طبعة ثانية: 97 / 379.
[442] بحار الأنوار: 69 / 66، طبعة ثانية: 72 / 66.
[443] الكافي: 6 / 270.
[444] المصدر السابق.
[445] الكافي: 3 / 498.
[446] الكافي: 3 / 505.
[447] المصدر السابق: 3 / 506.
[448] تهذيب الاحكام: 4 / 136.
[449] الكافي: 1 / 458.
[450] المصدر السابق: 1 / 458.
[451] من لا يحضره الفقيه: 2 / 30.
[452] الكافي: 3 / 555.
[453] المصدر السابق: 3 / 545.
[454] الكافي: 3 / 549.
[455] وسائل الشيعة: 9 / 231.
[456] الكافي: 3 / 500.
[457] المصدر السابق: 3 / 502.
[458] المصدر السابق: 3 / 564.
[459] الكافي: 3 / 548.
[460] المصدر السابق: 1 / 539.
[461] المصدر السابق: 4 / 6.
[462] المصدر السابق: 4 / 29.
[463] المصدر السابق: 4 / 51.
[464] ثواب الاعمال: 168.
[465] صفة الصفوة: 2 / 112.
[466] الفصول المهمة: 215.
[467] مختصر تاريخ دمشق: 23 / 85.
[468] الكافي: 4 / 20.
[469] المصدر السابق: 5 / 292.
[470] الكافي: 2 / 99.
[471] المصدر السابق: 2 / 103.
[472] المصدر السابق: 2 / 118.
[473] مكارم الأخلاق: 214.
[474] من لا يحضره الفقيه: 3 / 278.
[475] مكارم الاخلاق: 215.
[476] المصدر السابق: 217.
[477] مكارم الأخلاق: 216.
[478] المصدر السابق: 216.
[479] من لا يحضره الفقيه: 3 / 279.
[480] مكارم الاخلاق: 222.
[481] المصدر السابق: 223.
[482] مراجعة كتاب: تربية الطفل في الإسلام، اصدار مركز الرسالة.
[483] تاريخ اليعقوبي: 2 / 320.
[484] الكافي: 2 / 162.
[485] الكافي: 2 / 349.
[486] المصدر السابق: 2 / 152.
[487] رجال الكشي: 224.
[488] وسائل الشيعة: 12 / 126.
[489] المصدر السابق: 12 / 127.
[490] المحاسن: 98.
[491] الكافي: 2 / 166.
[492] الكافي: 2 / 198، 199، 205، 207، 208.
[493] وسائل الشيعة: 15 / 285.
[494] الكافي: 2 / 173.
[495] المصدر السابق: 2 / 188.
[496] المصدر السابق: 2 / 169.
[497] الكافي: 2 / 180.
[498] المصدر السابق: 2 / 181.
[499] المصدر السابق.
[500] الكافي: 2 / 183، 184.
[501] المصدر السابق: 2 / 345.
[502] المصدر السابق: 2 / 355.
[503] المصدر السابق: 2 / 360.
[504] المصدر السابق: 2 / 369.
[505] الكافي: 2 / 371.
[506] المصدر السابق: 2 / 382.
[507] الكافي: 2 / 201.
[508] الكافي: 2 / 502.
[509] المصدر السابق: 2 / 365.
[510] المصدر السابق: 2 / 354.
[511] وسائل الشيعة: 12 / 242.
[512] المصدر السابق: 12 / 170.
[513] وسائل الشيعة: 12 / 173.
[514] الكافي: 2 / 372.
[515] المصدر السابق: 2 / 376.
[516] الكافي: 2 / 234.
[517] المصدر السابق: 2 / 220.
[518] كفاية الأثر: 253.
[519] المصدر السابق: 254.
[520] اثبات الوصيّة: 152.
[521] المصدر السابق: 155.
[522] كفاية الاثر: 252.
[523] القصص (28): 5.
[524] الكافي: 1 / 306.
[525] اثبات الوصيّة: 155.
[526] الفصول المهمة: 222. وفي الكافي: 1 / 307 أن تكون لك الحجة.
[527] مناقب آل ابي طالب: 4 / 203، الصواعق المحرقة: 307.
[528] الإمام جعفر الصادق: 4.
[529] المصدر السابق: 63.
[530] بحار الأنوار: 46 / 312.
[531] أخبار الدول: 111.
[532] بحار الأنوار: 46 / 216.
[533] نور الأبصار: 131، الأئمة الاثني عشر لابن طولون: 281.
[534] راجع بحار الأنوار: 46 / 309 ـ 311.
[535] اصول الكافي: 1 / 306.
[536] اصول الكافي: 1 / 306.
[537] صفة الصفوة: 2 / 63، تاريخ ابن الوردي: 1 / 184، تاريخ أبي الفداء: 1 / 214.
[538] بحار الأنوار: 11 / 62.
[539] الفلو بفتح الفاء، وضم اللام وتشديد الواو ـ المهر الصغير، والاثني فلوة، والجمع أفلا.
[540] أمالي الشيخ الطوسي: 125، راجع حياة الإمام محمد الباقر لفضيلة الشيخ باقر شريف القرشي: 2 / 386 ـ 395.
[541] حياة الإمام محمد الباقر، باقر شريف القرشي: 1 / 174.
[542] البيان في تفسير القرآن: 267.
[543] فرائد الاصول: 28.
[544] تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: 327، الفهرست للشيخ الطوسي: 98، وحقق هذا التفسير المحامي السيد شاكر الغرباوي إلاّ انه لم يقدمه للنشر.
[545] طه (20): 82.
[546] مجمع البيان: 7 / 23 طبع بيروت.
[547] المائدة (5): 67.
[548] مجمع البيان: 4 / 223.
[549] القدر (97): 4.
[550] دعائم الإسلام: 1 / 334.
[551] الشعراء (26): 94.
[552] اصول الكافي: 1 / 47.
[553] الانبياء (21): 7.
[554] اصول الكافي: 1 / 211.
[555] الاسراء (17): 71.
[556] اصول الكافي: 1 / 215.
[557] فاطر (35): 32.
[558] اصول الكافي: 1 / 214.
[559] سورة الحجر (15): 75.
[560] أصول الكافي: 1 / 219.
[561] الجن (72): 16.
[562] اصول الكافي: 1 / 220.
[563] الرعد (13): 43.
[564] أصول الكافي: 1 / 229 مجمع البيان: 6 / 301 روي عن أبي جعفر أنها نزلت في آل البيت (عليهم السلام).
[565] اُصول الكافي: 1 / 140، وراجع مقدمة صحيح مسلم.
[566] حياة الإمام محمد الباقر (عليه السلام)، للاستاذ باقر شريف القرشي: 140 ـ 141 عن ناسخ التواريخ: 2 / 219.
[567] الخصال: ص4.
[568] الانعام (6): 103.
[569] نسب هذا الحديث الي الإمام الجواد (عليه السلام).
[570] اُصول الكافي: 1 / 82.
[571] يصعق: أي يهلك، ويضعف.
[572] اُصول الكافي: 1 / 88 ـ 89.
[573] النساء (4): 59.
[574] اُصول الكافي: 1 / 185.
[575] أمالي الصدوق: 544.
[576] الخصال: 219.
[577] أمالي الصدوق: 274.
[578] علل الشرائع: 29.
[579] علل الشرائع: 31.
[580] البيان والتبيين: 3 / 290.
[581] الجمعة (62): 2.
[582] علل الشرايع: 125.
[583] تأريخ الطبري: 3 / 73 طبع دار المعارف.
[584] الميلغة: الاناء يلغ فيه الكلب أو يسقي فيه. فقد أعطي عليٌّ (عليه السلام) ديته.
[585] السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 429 ـ 430.
[586] شرح النهج: 4 / 109 ـ 110.
[587] دلائل الامامة: 96.
[588] اتعاض الحنفاء للمقريزي: 245.
[589] نور الابصار: 130، جوهرة الكلام في مدح السادة الاعلام: 134، الخرايج والجرايح: 80 من مخطوطات مكتبة الحكيم.
[590] نور الابصار: ص131.
[591] دلائل الامامة: 110.
[592] التوبة (9): 5.
[593] التوبة (9): 11.
[594] البقرة (2): 83.
[595] التوبة (9): 29.
[596] في التهذيب والكافي «مناكحتهم».
[597] محمد (47): 4.
[598] الحجرات (49): 9.
[599] الثلاث: التي قاتل مع تلك الراية الصحابي العظيم عمار بن ياسر هي: يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين، وكان يتزعم تلك الحروب أبو سفيان عميد الأمويين.
[600] هجر: ـ بالتحريك ـ بلدة باليمن، كما إنها اسم لجميع أرض البحرين.
[601] لاتدففوا علي جريح: أي لا تجهزوا عليه.
[602] المائدة (5): 45.
[603] تحف العقول: ص288 ـ 290، ورواه الكليني في فروع الكافي، والشيخ الصدوق في الخصال، والشيخ الطوسي في التهذيب.
[604] الخلاف: 1 / 18.
[605] روضة الواعظين: 243، وهذا النصّ يفيد أنّ الكتاب لا يوافق المسح علي الخفّين.
[606] الخلاف: 1 / 23.
[607] المصدر السابق: 1 / 130.
[608] الخلاف: 1 / 131.
[609] الاعراف (7): 201.
[610] ازراءاً علي النفس: أي احتقاراً واستخفافاً بها.
[611] الجمام: ـ بالفتح ـ الراحة.
[612] تحف العقول: 284 ـ 286.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.