سيرة الائمة الاثني عشر علیهم السلام

اشارة

عنوان و نام پديدآور : سيرة الائمة الاثني عشر/هاشم معروف الحسني

مشخصات نشر : [بي جا]: مكتبة الحيدريه، 1428ق.=1386ش.

مشخصات ظاهري : ج.

وضعيت فهرست نويسي : در انتظار فهرستنويسي

يادداشت : الطبعة السادسة

شماره كتابشناسي ملي : 1161373

الامام الثاني الحسن بن علي المجتبي

الامام الحسن بن علي

أما الحسن فله هيبتي و سؤددي و أما الحسين فله جرأتي وجودي لقد استقبل رسول الله (ص) سبطه الحسن سيد شباب أهل الجنة في ليلة النصف من رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس و بينات من الهدي و الفرقان في السنة الثالثة من هجرته. و لما بلغه نبأ ولادته غمرته الفرحة و بدا عليه الارتياح و قام من ساعته الي بيت الصديقة فاطمة الزهراء و نادي يا اسماء أين ولدي؟ فأسرعت أسماء الي الوليد المبارك و هو ملفوف بخرقة صفراء فتناوله منها و قال: ألم أعهد اليكم أن لا تلفوا المولود في خرقة صفراء و اذن في اذنه اليمني و أقام في اليسري، فكان اول صوت مر علي سمع السبط الكريم و تغلغل في اعماق نفسه و قلبه، صوت جده العظيم: الله أكبر لا اله الا الله و الله أكبر، هذه الكلمات القصار بمحتوياتها الكثيرة كانت أنشودة الامام أبي محمد الحسن في كل مراحل حياته يحاول بكل ما لديه من جهد أن يغرسها في أعماق النفوس لتكون أنشودة الحياة جيلا بعد جيل. و التفت الي الامام بعد أن كبر في اذنيه و سأله هل سميت وليدك الميمون يا علي؟ فأجابه الامام علي الفور: ما كنت لأسبقك يا رسول الله، فتوقف النبي (ص) عن الكلام لحظات و كأنه ينتظر أمر السماء في ذلك، و فيما هو يفكر و اذا بالوحي يناجيه بالاسم المبارك من عند الله سبحانه و يقول له:

سمه حسنا يا رسول الله كما جاء في بعض المرويات. [ صفحه 462] و جاء عن الامام أبي عبدالله الصادق (ع) أن رسول الله عق عنه بكبش، و قال اللهم عظمها بعظمه و دمها بدمه و لحمها بلحمه و شعرها بشعره، اللهم اجعلها وفاء لمحمد و آل محمد. و في رواية ثانية أنه عق عنه بكبشين و أمر فاطمة (ع) أن تحلق رأسه و تتصدق بوزنه فضة علي الفقراء، و أمر بختانه في اليوم السابع لولادته، و قال: طهروا أولادكم يوم السابع فانه أطيب و أطهر و أسرع لنبات اللحم. و روي في أسد الغابة عن أم الفضل زوجة العباس بن عبدالمطلب أنها قالت للنبي: يا رسول الله رأيت كأن عضوا من اعضائك في بيتي، و في رواية ثانية في حجري، فقال لها: خيرا رأيت أن ابنتي فاطمة تلد غلاما فترضعيه بلبن ولدك قثم و كان الأمر كما قال (ص) فلقد أرضعته بلبن قثم كما جاء في بعض الروايات. و الظاهر أن هذه الرواية من صنع الرواة لأن قثم بن العباس اكبر من الحسن سنا، و حين ولادة الحسن كان العباس في مكة و لم يهاجر الي المدينة الا في السنة السابعة أو الثامنة و قد بقي في مكة مع عائلته برأي النبي (ص) يراقب تحركات قريش و يخبره بها و قد خرج مع المشركين الي بدر مكرها و وقع أسيرا، و فدي نفسه و ابني أخويه عقيل و الحارث بن الحرث كما تؤكد ذلك اكثر المصادر و رجع الي مكة بعد أن دفع الفداء المطلوب منه و بقي بها مع عائلته و أولاده الي أن التحق بالنبي بعد الفتح. و مهما كان الحال فلقد

كان الحسن بن علي (ع) يلقب بالطيب و التقي و الزكي و الولي و السبط و المجتبي، و يكني بأبي محمد، و هو سيد شباب أهل الجنة باجماع المحدثين و أحد اثنين انحصرت بهما ذرية رسول الله (ص) وأحد الأربعة الذين باهي بهم رسول الله نصاري نجران، و من أصحاب الطهر. الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا. و من القربي الذين أمر الله بمودتهم و جعلها أجرا لرسالته كما نصت علي ذلك الآية: [ صفحه 463] «قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربي». وأحد الثقلين اللذين من تمسك بهما نجا و من تخلف عنهما ضل و غوي كما اتفق علي ذلك اكثر الرواة، و من أهل البيت الذين شبههم الله بسفينة نوح، و قد قال فيه و في أخيه الحسين: اللهم أني أحبهما فأحبهما و أحب من أحبهما، و قال فيهما: كل بني بنت ينتمون و ينتسبون لآبائهم الا ولد فاطمة فاني أنا أبوهم و الي ينتسبون الي غير ذلك مما صح من اقواله فيه و في أخيه الحسين علهيما السلام. و قال واصفوه أنه كان أشبه الناس برسول الله خلقا و خلقا و سؤددا و هديا، و قال الغزالي في احياء العلوم: ان النبي (ص) قال له: لقد أشبهت خلقي و خلقي، و لم يكن أحد أشبه برسول الله منه كما جاء عن مالك بن أنس. و روي محمد بن مسلم البخاري في صحيحه عن أبي بكرة أنه قال: رأيت النبي (ص) علي المنبر و الحسن بن علي معه و هو يقبل علي الناس مرة و ينظر اليه مرة و يقول: ان ابني هذا سيد. لقد نشأ أبومحمد الحسن بن علي

في احضان جده رسول الله، و غذاه برسالته و تعاليم الاسلام و أخلاقه و يسره و سماحته و ظل معه و في رعايته الي أن اختاره الله اليه حتي اصبح مفطورا علي اخلاقه و آدابه و تعاليمه. و روت زينب بنت أبي رافع أن فاطمة الزهراء (ع) أتت بالحسن و الحسين الي أبيها في شكواة التي توفي فيها فقالت له: هذا ابناي فورثهما شيئا، فقال: أما الحسن فله هيبتي و سؤددي، و أما الحسين فله جرأتي وجودي. و روي الطبرسي في اعلام الوري عن محمد بن اسحاق أنه قال: ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله ما بلغه الحسن بن علي، فلقد كان يبسط له فراش علي باب داره فاذا خرج و جلس عليه انقطع الطريق فما يمر أحد من خلق الله اجلالا له، فاذا علم بذلك قام و دخل بيته فيمر الناس، و مضي الراوي يقول: و لقد رأيته في طريق مكة ينزل عن راحلته و يمشي علي قدميه، فما من [ صفحه 464] خلق الله أحد الا و ينزل عن راحلته، و كان مع القافلة سعد بن عبادة فنزل و مشي الي جانبه. و جاء في رواية البخاري و الترمذي و مسلم في صحاحهم و ابن كثير في البداية و النهاية عن البراء بن عازب أنه قال: رأيت النبي (ص) و الحسن علي عاتقه و هو يقول: اللهم اني أحبه فأحبه. كما روت عائشة عن النبي (ص) أنه كان يأخذه فيضمه اليه و يقول اللهم أن هذا ابني و أنا أحبه و أحب من يحبه، و كان يحمله علي رقبته فلقيه رجل و هو علي هذه الحالة فقال: نعم المركب ركبت يا غلام، فقال

رسول الله: و نعم الراكب هو، و كان يأتيه احيانا و هو ساجد فيركب ظهره فيطيل السجود و الحسن علي ظهره، فاذا فرغ يسأله المسلمون عن سبب ذلك، فيجيب لقد ترحلني ابني فكرهت أن أعجله. و قال فيه و في أخيه الحسين عشرات المرات: هذان ريحانتاي من الدنيا من أحبني فليحبهما، و من أبغضهما أبغضني و من أبغضني أبغضه الله و أدخله النار، و أنهما سيدا شباب أهل الجنة. و أحيانا كان يعقب علي ذلك بقوله: أن أباهما خير منهما. و حدث أبوهريرة كما جاء في البداية و النهاية لابن كثير أن النبي (ص) نظر الي علي و فاطمة و الحسن و الحسين و قال: أنا حرب لمن حاربتم و سلم لمن سالمتم، و يروي الرواة أن أباهريرة التقي بالحسن ابن علي يوما، فقال له: يا ابن رسول الله، أرني جسدك حتي أقبل منه ما كان يقبل رسول الله فكشف له قميصه فقبله في سرته، و كان ابن عباس مع جلالته اذا ركب الحسن و الحسين أخذ في ركابهما و يعد ذلك من نعم الله عليه، و كانا اذا طافا في البيت يكاد الناس يحطمونها من الازدحام عليهما. و كان ابن الزبير مع حقده علي أهل البيت و حسده لهم يقول: و الله ما [ صفحه 465] قامت النساء عن مثل الحسن بن علي (ع). و قال عنه واصل بن عطاء: كان الحسن بن علي عليه سيماء الأنبياء و بهاء الملوك، و كان كما في رواية ابن كثير اذا صلي الغداة في مسجد النبي (ص) يجلس في مصلاه يذكر الله حتي ترتفع الشمس فيجلس اليه سادة الناس يسألونه عن أمور دينهم و يتحدثون بين يديه، و كان اذا توضأ

للصلاة تغير لونه و اذا وقف لها ارتعدت فرائصه، و اذا ذكر الموت أو القبر أو البعث و الصراط يبكي حتي يغشي عليه، و اذا ذكر الجنة و النار اضطرب اضطراب السليم و سأل الله الجنة و تعوذ من النار، و قد قاسم الله ماله ثلاث مرات، و خرج من ماله كله مرتين و حج خمسا و عشرين حجة و أن النجائب لتقاد بين يديه و هو ماش علي قدميه يقول: اني لأستحي من ربي أن ألقاه و لم أمش الي بيته، و اذا رآه الناس ماشيا ترجلوا اكراما له، فاذا أعياهم المشي جاؤوا اليه و قالوا: يا ابن رسول الله أن الناس قد أعياهم المشي علي أقدامهم فاما أن تركب بعض نجائبك ليرك الناس، أو تتنكب الطريق فان أحدا لا تطاوعه نفسه و أن يركب و أنت تسير علي قدميك، فينحرف بمن معه عن الجادة، فاذا ابتعد عن الناس ركبوا رواحلهم. لقد اجتمع في الامام أبي محمد الحسن بالاضافة الي شرف النسب ما ورثه من جده النبي و أبيه الوصي من العلم و كريم الصفات ما لم يجتمع في احد من الناس، و وجد فيه المسلمون ما وجدوه في جده الرسول من أخلاق و مزايا و صلابة في الحق و تضحية في سبيل الله و خير الانسانية، لقد جسد الامام الحسن اخلاق جده و مزايا جده و تعاليم الاسلام و كان يذكرهم به من جميع نواحيه فأحبوه و عظموه و كان مرجعهم الأول بعد أبيه في كل ما كان يعترضهم من المشاكل و ما يستعصي و حله عليهم من أمور الدين، لا سيما و قد اطل المسلمون في عصره علي فجر جديد و حياة جديدة

حافلة بالاحداث التي لم يعرف المسلمون لها نظيرا من قبل. [ صفحه 466]

تواضعه و كرمه

لقد روي المؤرخون عن تواضعه و كرمه عشرات الروايات فمن ذلك انه اجتاز علي جماعة من الفقراء و قد جلسوا علي التراب يأكلون خبزا كان معهم فدعوه الي مشاركتهم فجلس معهم و قال: ان الله لا يحب المتكبرين، و لما فرغوا من الأكل دعاهم الي ضيافته فأطعمهم و كساهم و أغدق عليهم من عطائه، و مرة اخري مر علي فقراء يأكلون فدعوه الي مشاركتهم، فنزل عن راحلته و أكل معهم ثم حملهم الي منزله فأطعمهم و أعطاهم، و قال: اليد لهم لأنهم لم يجدوا غير ما اطمعوني و نحن نجد ما اعطيناهم. و روي المحدثون عنه أنه اتاه رجل في حاجة فقال له: اكتب حاجتك في رقعة و ارفعها الينا فكتبها و رفعها اليه فضاعفها له، فقال له بعض جلسائه: ما كان اعظم بركة هذه الرقعة عليه يا ابن رسول الله، فقال: بركتها علينا اعظم حيث جعلنا للمعروف اهلا، اما علمتم أن المعروف ما كان ابتداء من غير مسألة، فأما اذا اعطيته بعد مسألة فانما اعطيته بما بذل لك من وجهه و عسي أن يكون بات ليلته متململا ارقا يميل بين اليأس و الرجاء لا يعلم بما يرجع من حاجته ابكأيه الروام بسرور النجح فيأتيك و فرائصه ترعد و قلبه خائف يخفق فان قضيت له حاجته فيما بذل من وجهه فان ذلك اعظم مما نال من معروفك. و أعطي شاعرا مبلغا كبيرا من المال، فقال له رجل من جلسائه: سبحان الله اتعطي شاعرا يعصي الرحمن و يقول البهتان؟ فقال: يا عبدالله، ان خير ما بذلت من المال ما وقيت به عرضك،

و ان من ابتغاء الخير اتقاء الشر. [ صفحه 467] و سأله رجل فأعطاه خمسين الف درهم و خمسماية دينار، و قال له: ائت بمن يحملها لك، فأتي بحمال فأعطاه طيلسانة و قال: هذا كري الحمال. و جاءه اعرابي سائلا: فقال: اعطوه ما في الخزانة، و كان فيها عشرون الفا فدفعوها اليه، فقال الاعرابي: يا مولاي ألا تركتني ابوح بحاجتي و أنشر مدحتي فقال الامام (ع): نحن اناس نوالنا خضل يرتع فيه الرجاء و الامل تجود قبل السؤال انفسنا خوفا علي ماء وجه من يسل و مر به رجل من أهل الشام ممن غذاهم معاوية بالحقد و الكراهية لعلي و آل علي فجعل للامام الحسن (ع) السب و الشتم و الامام ساكت لا يتكلم و هو يعلم بأن الشامي لا يعرف عليا و آل علي الا من خلال الصورة التي كان معاوية بن هند يصورهم بها و عندما انتهي الشامي من حديثه بما فيه من صلف و فظاظة ابتسم اليه و تكلم معه بأسلوب هادي ء ينم عن سماحة و كرم متجاهلا كل ما سمع و ما رأي، و قال: أيها الشامي اظنك غريبا فلو انك سألتنا اعطيناك، و لو استرشدتنا ارشدناك و ان كنت جائعا اطعمناك، و ان كنت محتاجا اغنيناك، او طريدا آويناك، و مضي يتحدث الي الشامي بهذا الاسلوب الذي يفيض بالعطف و الرحمة حتي ذهل الشامي و سيطر عليه الحياء و الخجل و جعل يتململ بين يديه يطلب عفوه و صفحه و يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته. و هكذا كان في جميع مواقفه مثالا كريما للخلق الاسلامي الرفيع الذي دعا اليه القرآن الكريم بقوله: ادفع بالتي هي احسن السيئة فاذا الذي

بينك و بينه عدواة كأنه ولي حميم. لقد قابل جميع ما كان يوجه اليه من الأذي و المكروه من اخصامه و حساده بالصبر و الصفح الجميل حتي اعترف له ألد اخصامه و أنكدهم بذلك، فقد [ صفحه 468] روي المؤرخون ان مروان بن الحكم اسرع الي حمل جنازته و مشي مع المشيعين و الكآبة بادية عليه، فقال له ابوعبدالله الحسين: انك لتحمل جنازته و قد كنت بالأمس تجرعه الغيظ، فقال: لقد كنت افعل ذلك مع من يوازي حمله الجبال. و روي المدائني و غيره ان الحسن و الحسين و عبدالله بن جعفر خرجوا من المدينة الي مكة لاداء فريضة الحج يقطعون المسافة مشيا علي أقدامهم و تجنبوا الجادة رحمة بالحجاج حتي لا يتكلفوا السير علي أقدامهم ففاتتهم اثقالهم و أمتعتهم فجاعوا و عطشوا فقصدوا خباء في بعض نواحي الصحراء فوجدوا فيه عجوزا فطلبوا منها الطعام و الشراب، فقالت: ليس عندي سوي هذه الشاة فاذبحوها فذبحها احدهم و شوت لهم من لحمها، و لما ارادوا المضي قالوا لها: يا امة الله نحن نفر من قريش نريد مكة فاذا رجعنا الي المدينة فألمي بنا فانا صانعون بك خيرا ان شاء الله، و مضوا في طريقهم، و لما جاء زوجها اخبرته بما جري لها، فقال: ويحك تذبحين شاتي لقوم لا تعرفينهم ثم تقولين نفر من قريش. و مضت الأيام فأصابهم جدب اضر بحالهم فقصدت المدينة هي و زوجها لطلب العيش، فرآها الامام ابومحمد الحسن فعرفها و لم تعرفه فقال لها: انا ضيفك يوم كذا و كذا و أعطاها الف شاة و ألف دينار، و أرسلها الي أخيه الحسين (ع) و عبدالله بن جعفر فأعطاها كل واحد منهما مثل

ذلك فعادت الي حيها بعد الفقر المدقع من اثري اهل الحي و أغناهم كما نص علي ذلك الغزالي في المجلد الثالث من احيائه و البستاني في دائرة المعارف. و يروي المؤرخون عن سخائه ايضا ان جماعة من الأنصار كانوا يملكون بستانا يعتاشون من فاحتاجوا لبيعه فاشتراه منهم بأربعمائة الف، ثم أصابتهم ضائقة بعد ذلك اضطرتهم لسؤال الناس، فرد عليهم البستان حتي لا يسألوا احدا شيئا. و روي ابن شهراشوب في مناقبه ان جارية حيته بباقة ريحان، فقال لها: انت حرة لوجه الله. فلامه بعض جلسائه علي ذلك، فقال له: أو ما سمعت قول الله: [ صفحه 469] و اذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها، و لا شي ء احسن من عتقها. و سأله رجل ان يعطيه شيئا فقال له: ان المسألة لا تصلح الا في غرم فادح أو فقر مدقع أو حمالة مفظعة [1] فقال له: ما جئتك الا في احداهن فأعطاه مائة دينار، ثم اتجه الرجل الي الحسين (ع)فأعطاه تسعة و تسعين دينارا و كره أن يساوي اخاه في العطاء، ثم ذهب الرجل الي عبدالله بن جعفر فأعطاه اقل منهما و لما قص عليه ما جري له معهما، قال له: ويحك أتريد أن تجعلني مثلهما انهما غرا العلم و المال غرا. و روي المؤرخون صورا كثيرة من الوان بره و كرمه و معروفه التي كان يغدق بها علي السائلين و الفقراء و المحرومين لانقاذهم مما كانوا يعانون من آلام الحاجة و البؤس ابتغاء وجه الله و ثوابه لا للجاه و الدنيا و تدعيم ملك و سلطان و لا لمكافأة علي المديح و الثناء كما كان يصنع ابن هند و غيره من حكام الأمويين

و العباسيين، و من يتلذذون بالمديح و الاطراء و الجاه و السلطان. و نكتفي بهذا المقدار اليسير من احاديث الرواة عن كرمه و معروفه و ان كان الكثير مما يرويه الرواة يخضع للنقد و الحساب، الا أن القليل المتفق عليه بينهم يكفي لأن يجعله في القمة بين اجواد العرب الذين لا يرون للمال و زنا و لا يحسبون له حسابا، نكتفي بهذا المقدار لننتقل الي الحديث عن بعض ما رواه عنه الرواة في مختلف المواضيع، و قد رووا ان له مسندا ألفه ابوبشير محمد بن احمد الدولابي سنة 320 هجرية و أدرجه في ضمن كتابه الذرية الطاهرة [2] . [ صفحه 470] و يبدو ان هذا المسند هو مجموعة من احاديثه عن جده رسول الله مع العلم أنه كان حين وفاة جده ما بين السابعة و السادسة من عمره، ولكن ذلك لا يمنع من أن يكون قد اخذ عنه مباشرة ما خف عليه و من ابيه بقية الاحاديث، و قد اورد منه القرشي في كتابه حياة الحسن (ع) الاحاديث التالية كما هي مروية في المسند المذكور. روي الامام الحسن عن جده انه قال: اللهم اقلني عثرتي و آمن روعتي و اكفني من بغي علي و انصرني علي من ظلمني وارني ثاري منه، و روي عبدالله بن الحسن عن ابيه عن جده الحسن أن رسول الله كان يقول: يا مسلم اضمن لي ثلاثا اضمن لك الجنة ان أنت عملت بما افترض عليك في القرآن فأنت اعبد الناس و ان قنعت بما رزقك فأنت أغني الناس، و ان اجتنبت ما حرم الله عليك فأنت اورع الناس. و قال سمعت جدي رسول الله يقول: من صلي الفجر فجلس

في مصلاه الي طلوع الشمس ستره الله من النار. و جاء في المسند المذكور ان امرأة جاءت الي النبي (ص) و معها بناها فأعطاها ثلاث تمرات فأعطت كل واحد منهما تمرة ثم نظر الي أمهما شقت التمرة الثالثة بينهما فقال رسول الله: رحمها الله برحمتها بنيها. و جاء عنه انه قال: علمني رسول الله (ص) كلمات اقولهن في الوتر، اللهم اهدني فيمن هديت و عافني فيمن عافيت و تولني فيمن توليت و بارك لي فيما اعطيت وقني شر ما قضيت فانك تقضي و لا يقضي عليك و انه لا يذل من و اليت تباركت ربنا و تعاليت. و قال له رجل من اصحابه: ما تذكر من رسول الله؟ قال: سمعته يقول لرجل: دع ما يربيك الي ما لا يربيك فان الشر ريبة و الخير طمأنينة، و اذا سألك احد حاجة فلا ترده الا بها او بميسور من القول. و قال سمعت رسول الله (ص) يقول ادعوا لي سيد العرب، فقالت له عائشة: ألست سيد العرب يا رسول الله، فقال: انا سيد ولد آدم و علي سيد العرب فدعي له الامام (ع)، فلما مثل بين يديه ارسل الي الأنصار يدعوهم، [ صفحه 471] فلما حضروا التفت اليهم و قال: يا معشر الانصار ألا ادلكم علي شي ء ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا، قالوا بلي يا رسول الله، قال: هذا علي فأحبوه بحبي و أكرموه بكرامتي فان جبريل اخبرني بالذي قلت لكم عن الله عزوجل. و قد روي الامام الحسن (ع) عن هند بن أبي هالة ربيب رسول الله صفات النبي (ص) في بدنه و خلقه و مجلسه و جميع حالاته، و كان هند بن ابي هالة

بليغا و صافا و أكثر المؤرخين يروون صفات رسول الله (ص) عنه. و جاء عن الامام أبي محمد الحسن (ع) أنه قال: سألته عن مجلس رسول الله فقال: كان لا يجلس و لا يقوم الا علي ذكر الله، و اذا دخل علي قوم جلس حيث ينتهي به المجلس و يأمر بذلك و يعطي كلا من جلسائه نصيبه، فلا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه و من جالسه أو أتاه في حاجة حايرة حتي يكون هو المتصرف، و لم يرده الا في حاجته أو بميسور من القول يجلسه مجلس حلم و حياء و صبر و أمانة لا ترفع عنده الاصوات تري جلاسه متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوي و فعل الخيرات، متواضعين يوقرون الكبير و يرحمون الصغير و يؤثرون ذا الحاجة و يحفظون الغريب. و مضي الراوي عن الامام الحسن يقول: كان رسول الله دائم السرور سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ و لا غليظ و لا صخاب و لا فحاش و لا عياب و لا مداح قد ترك نفسه من ثلاث المراء و الاكثار و ما لا يعنيه، و ترك الناس من ثلاث، كان لا يذم أحدا و لا يعيره و لا يطلب عثرة أحد، و لا يتكلم الا فيما رجا ثوابه، و اذا تكلم اطرق جلساؤه كأنما علي رؤوسهم الطير، و اذا سكت تكلموا و من تكلم انصتوا له حتي يفرغ يضحك مما يضحكون منه و يتعجب مما يتعجبون و يصبر للغريب علي الجفوة في منطقة و مسألته. و كان الامام أبومحمد الحسن يقول لجليسه: اذا أردت عزا بلا عشيرة و هيبة بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله الي عز طاعة الله، و اذا نازعتك

الي صحبة الرجال حاجة فاصحب من اذا صحبته زانك و اذا خدمته صانك، و اذا [ صفحه 472] أردت منه معونة اعانك، و اذا قلت صدق قولك و اذا صلت شد صولتك و اذا مددت يدك بفضل مدها و أن بدت منك ثلمة سدها و أن رأي منك حسنة عدها، و أن سألته اعطاك، و أن سكت عنه ابتداك، و ان نزلت بك أحدي الحلمات و اساك لا تأتيك منه البوائق و لا تختلف عليك منه الطرائق، و لا يخذلك عند الحقائق، و أن تنازعتما مغنما آثرك. و قد روي الرواة أن أميرالمؤمنين (ع) وجه الي ولده الحسن السبط أسئله حول الاخلاق و الآداب و ما يمكن أن يتصف به الانسان من الصفات الكريمة فأجابه عليها علي البديهة و كانت اجوبته في منتهي الابداع و الروعة. و جاء في المرويات التي تعرضت لهذا الموقف أنه سأله عن السداد و الشرف و المروءة و الدنية و السماحة و الحلم و الغني و الفقر و الكلفة و العقل و الحزم و غير ذلك من الصفات فقال: السداد دفع المنكر بالمعروف و الشرف اصطناع العشيرة و حمل الجريرة، و المروءة العفاف و اصلاح المرء ما له، و الدنيئة النظر في اليسير و منع الحقير، و السماحة البذل في العسر و اليسر، و الشح أن تري ما في يديك شرفا و النفقة تلفا، و الاخاء الوفاء في الشدة و الرخاء، و الجبن الجرأة علي الصديق و النكول عن العدو، و الحلم كظم الغيظ و ملك النفس، و الغني رضا النفس بما قسم الله و ان قل فانما الغني غني النفس و الفقر شره النفس في كل شي ء، و الكلفة

كلامك فيما لا يعنيك، و المروءة اصلاح الرجل امر دينه و حسن قيامه علي ماله و افشاء السلام و التودد الي الناس، و الكرم هو العطية قبل السؤال و التبرع بالمعروف و الاطعام في المحل. و قد تحدث يوما الي جماعة من أصحابة عن أصول الجرائم و أمهات الرذائل، فقال: هلاك الناس في ثلاث الكبر و الحرص و الحسد، ففي الكبر هلاك الدين و به لعن ابليس، و الحرص عدو النفس و به اخرج آدم من الجنة، و الحسد رائد السوء و به قتل هابيل قابيل. و كان يحرص علي المزيد من العلم و يحرض الناس عليه و يقول: تعلموا العلم فانكم اليوم صغار القوم و كبارهم غدا، و من لم يحفظ منكم فليكتب، [ صفحه 473] و قال لبعض جلسائه: علم الناس و تعلم علم غيرك فتكون قد اتقنت علمك و علمت ما لم تعلم و السؤال نصف العلم. و من المأثور عنه أنه قال: لا أدب لمن لا عقل له و لا مودة لمن لا همة له و لا حياء لمن لا دين له، و رأس العقل معاشرة الناس بالجميل و بالعقل تدركون سعادة الدارين و من حرم العقل حرمهما جميعا. و كان يقول لأصحابه: هل رأيتم ظالما أشبه بمظلوم فيقولون له و كيف ذاك يا ابن رسول الله؟ فيقول: ذاك هو الحسود فانه في تعب دائم و المحسود في راحة، و يقول لهم: من زعم أنه لا يحب المال فهو عندي كاذب، فان علمت أنه صادق فهو عندي أحمق، و يقول: فوت الحاجة أهون من طلبها الي غير اهلها. و قد سأله رجل عن السياسة، فقال: السياسة أن ترعي حقوق الله و

حقوق الأحياء و الأموات فأما حقوق الله فاداء ما طلب و الاجتناب عما نهي، و أما حقوق الأحياء فهي أن تقوم بواجبك نحو اخوانك و لا تتأخر عن خدمة أمتك، و أن تخلص لولي الأمر ما أخلص لأمته، و ترفع عقيرتك في وجهه اذا ما حاد عن الطريق السوي، و أما حقوق الأموات فهي أن تذكر خيراتهم و تتغاضي عن مساوئهم فان لهم ربا يحاسبهم. و قال معاوية بن أبي سفيان يوما: ما يجب لنا في سلطاننا، فقال الامام (ع): ما قال سليمان بن داوود، فقال ما قال سليمان يا ابن رسول الله؟ قال: لقد قال لبعض جلسائه: أتدري ما يجب علي الملك في ملكه و ما لا يضره اذا أدي الذي عليه، اذا خاف الله في السر و العلانية و عدل في الغضب و الرضا و اقتصد في الفقر و الغني، و لم يأخذ الأموال غصبا و لم يأكلها اسرافا و تبذيرا و لم يضره ما تمتع به من دنياه اذا كان من حله. و جاء في تحف العقول أن رجلا سأله أن يكون من جلسائه و اصدقائه، و فقال له (ع): اياك أن تمدحني فأنا أعلم بنفسي منك، أو تكذبني فانه لا رأي لمكذوب، أو تغتاب احدا عندي، فقال له الرجل بعدما سمع هذه الشروط: [ صفحه 474] ائذن لي في الانصراف، فقال له نعم اذا شئت. و فيما هو يطوف في البيت سأله رجل عن معني الجواد، فقال له: أن لكلامك وجهين، فان كنت تسأل عن المخلوق، فالجواد هو الذي يؤدي ما افترض عليه، و البخيل هو الذي يبخل بما افترض عليه، و ان كنت تسأل عن الخالق فهو الجواد ان اعطي و

الجواد ان منع، لأنه ان اعطي عبدا اعطاه ما ليس له، و ان منع منع ما ليس له، و المعروف هو الذي لا يتقدمه مطل و لا يتبعه من، و الاعطاء قبل السؤال من السؤدد. و قال له رجل أني من شيعتكم يا ابن رسول الله، فقال له: يا عبدالله ان كنت لنا في أوامرنا و زواجرنا مطيعا فقد صدقت، و ان كنت بخلاف ذلك فلا تزد في ذنوبك بدعواك مرتبة شريفة لست من أهلها، لا تقل أنا من شيعتكم ولكن قل أنا من مواليكم و محبيكم و معادي اعدائكم و أنت في خير والي خير. و قد روي الرواة مجموعة من الكلمات القصار في الحكم و الاخلاق و الآداب و غير ذلك من المواضيع فيها من سهولة البيان و العمق في التفكير و الخبرة الواسعة بأصول الاخلاق و السياسة و مشاكل الحياة ما يكفي لأن يكون في القمة بين عباقرة العصور في كل زمان و مكان كما تؤكد هذه الحقيقة النماذج التي عرضناها من آثاره و آرائه في مختلف المواضيع، و ليس ذلك بغريب عمن نشأ في بيت الوصي و التنزيل بيت محمد سيد المرسلين و علي امام الفصحاء و الموحدين، و فاطمة سيدة نساء العالمين، هذا بالاضافة الي امامته الثابتة بنص الرسول، و التي يلزمها أن يكون من أوفر الناس حظا بكل صفة كريمة و أن يحيط بما يحيط به الناس و يختص بما لا يشاركه فيه أحد من الناس. و نقف بعد هذه اللمحات عن آثاره و عما جاء فيه عند هذا الحد لنعود الي عرض موجز لحياته مع جده و أبيه و مواقفه السياسة و خلافته القصيرة و ما نتج عنها

من أحداث كانت و لا تزال مسرحا للجدل و تضارب الآراء بين الكتاب و المؤرخين طيلة القرون الماضية و في عصرنا الحاضر. [ صفحه 475] لقد بقي الامام ابومحمد الحسن (ع) مع جده المصطفي سبع سنين أو أقل من ذلك بقليل، و هي السنين الأولي من حياته سنين الطفولة البيض التي كان جده فيها يرسم في روحه و نفسه ما يشاء له و يزوده بما كان يأتيه من السماء بين الحين و الآخر و انتقل من جده لأبيه أميرالمؤمنين الذي كان يجسد النبي بجميع تصرفاته و أقواله و أفعاله. لقد كانت السنين الأولي من حياته حافلة بالنور و السعادة بين أبويه العظيمين و في رحاب جده النبي يلقنه الحكمة و يبث في روحه و نفسه من أسرار السماء ما يؤهله و للامامة التي تنتظره بعد أبيه و يؤكد علي الناس في كل مناسبة أن يحفظوه فيه و في أخيه الحسين و يقروا لهما بالامامة فيقول مشيرا اليه و الي أخيه: هذان امامان قاما أو قعدا، اللهم أني أحبهما فأحبهما و أحب من يحبهما. [ صفحه 476]

الحسن بعد وفاة جده و أمه

لقد انتقل الرسول عن هذه الدنيا و سبطه الحسن (ع) في مطلع صباه لم يتجاوز السابعة من عمره، و السنين السبع و ان كانت قصيرة في حساب الزمن و في عمر الناس لا يخرج الانسان بها عن سن الطفولة، ولكن الامام أبامحمد الحسن (ع) بالرغم من أنه لم يتجاوز يوم ذاك هذا السن، فلقد كان يعي و يفكر و يتلقي من جده ما يعيه و يتلقاه الكبار من أصحابه، لذلك فقد أحس بفقد جده و ظلت الكآبة بادية عليه و بخاصة حينما كان يري أمه الزهراء تتلوي من

الحزن و الألم و تبكيه ليلها و نهارها و يري ما لاقته من بعده من الأذي و الجور و الأحداث القاسية التي تجرعت مرارتها و ظلت تكافح و تناضل الغاصبين بالحجة و المنطق و هي مع ذلك تذكر أباها و أيامه و تذهب علي قبره شاكية باكية و تقول: صبت علي مصائب لو أنها صبت علي الأيام صرن لياليا قد كنت ذات حمي بظل محمد لا أختشي صيما و كان جماليا و اليوم أخضع للذليل و أتقي ضيمي و أدفع ظالمي بردائيا كل ذلك كان يعانيه الامام أبومحمد الحسن و يحس بمرارة ما تقاسيه أمه من ظلم و جور و اضطهاد حتي خارت قواها و لم يعد جسمها النحيل يقوي علي تحمل تلك الأحداث فأحست بدنو أجلها ودعت أولادها الحسن و الحسين و زينب و أم كلثوم و أخذت بيدهم تقبلهم تارة و تضمهم الي صدرها أخري و كأنها كانت علي ميعاد مع الموت و فارقت الدنيا فتعالي صراخهم و بكاؤهم من داخل البيت، [ صفحه 477] فأقبل علي (ع) الي البيت مسرعا يغالب دموعه الحائرة في مقلتيه و دنا من الجثمان المسجي في وسط البيت و من حوله الحسن و الحسين، و بعد أن واراها الثري التفت الي قبر الرسول (ص) و قال: لقد استرجعت الوديعة و أخذت الرهينة، أما حزني فسرمد و أما ليلي فمسهد الي أن يختار لي الله دارك التي أنت فيها مقيم و ستنبئك ابنتك بتضافر أمتك علي هضمها فاصفها السؤال و استخبرها الحال. هذا و لم يطل العهد و لم يخلق منك الذكر، و السلام عليك سلام مودع لا قال و لا سئم فان انصرف فلا عن ملالة و ان

اقم فلا عن سوء ظن بما وعد الصابرين. لقد طوي القدر الصفحة الأولي من حياة الامام الحسن بوفاة جده التي كانت من أسعد أيام حياته كلها و ظل يتذكرها و يستفيد من ابعادها، و بقي بعد جده ثلاثة أشهر أو ستة علي أبعد التقادير في رعاية أمة الزهراء و أبيه أميرالمؤمنين و هما في صراع دائم مع القوم و في غمرة من الحزن و الألم لفقد النبي (ص)، و ما لبث أن عاد القدر بعد تلك الأشهر القليلة فطوي الصفحة الثانية من حياته بوفاة أمه الزهراء و قد حفت بأبيه الأحداث و النكبات و الحسن يشاهد كل ذلك و يتجرع مرارتها و هو لا يزال في سن الطفولة فيري أبابكر علي منبر جده رسول الله و الناس محدقون به فيندفع نحوه مسرعا و هو يقول: أنزل عن منبر أبي، فيبتسم له و يقول: بأبي أنت يا ابن رسول الله لعمري أنه منبر أبيك لا منبر أبي، و يخيم الصمت علي الحشود المجتمعة حول المنبر فيذكرون رسول الله و أيامه يوم كان يضعه علي منكبه الأيمن و يضع أخاه الحسين علي الأيسر، و يوم جاءه و هو ساجد فركب رقبته، و يوم جاءه و هو راكع فأفرج له بين رجليه حتي خرج من الجانب الآخر، يوم قيل له: يا رسول الله أنك لتصنع مع الحسن ما لا تصنعه مع غيره فقال لهم: أنه ريحانتي من الدنيا، و تذكروا جميع تلك المشاهد و أيام رسول الله (ص) و اذا هم بين طوفان من الذكريات غطت بألوانها القاتمة جميع مسراتهم و أفراحهم. [ صفحه 478]

الحسن مع مؤذن النبي بلال

لقد نزح بلال الحبشي بعد وفاة النبي الي أرض الشام و التحق

في صفوف المجاهدين رغبة فيما عند الله سبحانه و ظل مرابطا هناك مع المرابطين فرأي في بعض الليالي و هو في سبات عميق رسول الله (ص) فسر في لقائه فقال له: ما هذه الجفوة يا بلال، أما آن لك أن تزورني، فانتبه من نومه فزعا و هو يقول: و الله ما غاب رسمك يا رسول الله عن عيني و ما نسيتك لحظة واحدة و لابد و أن أعود الي يثرب لزيارة قبرك الشريف فانتبهت زوجته علي حديثه و سألته عما به، فقال لها: أني انتظر النهار لأعود الي يثرب لزيارة قبر الرسول و قد جاءني يعاتبني علي هذا الجفاء، و ما أن بزغ فجر ذلك اليوم حتي امتطي راحلته و انطلق في البيداء لا يلوي علي شي ء حتي انتهي الي المدينة، و لما لاح له قبر النبي (ص) القي بنفسه عليه يبكي و يمرغ وجهه بترابه، و فيما هو يناجيه و اذا بالحسن و الحسين قد اقبلا لزيارة قبر جدهما و أمهما، فلما رآهما تجددت احزانه و أسرع اليهما يضمهما الي صدره و يقول: كأني بكما رسول الله. و التفتا اليه و قالا: اذا رأيناك ذكرنا صوتك و أنت تؤذن لرسول الله و نشتهي أن نسمعه الآن بعد غيابك الطويل، و انطلق بلال من ساعته الي سطح المسجد تلبية لرغبة السبطين فأجهش بالبكاء و انطلق صوته من ناحية المسجد الي كل بيت في المدينة، الله أكبر لا اله الا الله محمد رسول الله فهز المشاعر و ارتجت المدينة من أصوات الباكين، و مضي الذهبي في كتابه سيرة اعلام النبلاء يقول: فلما قال بلال: أشهد أن محمدا رسول الله خرجت العواتق من خدورهن، و ظن الناس

أن [ صفحه 479] رسول الله لقد بعث من قبره و ما رؤي يوم أكثر باكيا و لا باكية بعد رسول الله من ذلك اليوم. [ صفحه 480]

الحسن في عهد الخلفاء الثلاثة

لم يحدث التاريخ بشي ء يلفت النظر عن حياة الامام الحسن (ع) في عهد أبي بكر لأنه لم يتجاوز سن الطفولة في عهده القصير لأنه كان في حدود العاشرة من عمره يوم توفي أبوبكر، و مع أنه كان بهذه السن، فلقد كان يقوم بأكثر مما ينتظر من مثله من حيث وعيه و تفكيره و تصرفاته و احساسه و بالأوضاع العامة و تطوراتها، و كان لذلك و لما شاهده من جده الرسول الأعظم و ما سمعوه فيه و في أخيه يتمتع بتقدير المسلمين و عطفهم عليه، و قطع دور الصبا و أشرف علي الشباب في خلافة عمر بن الخطاب، و انصرف مع أبيه عن السياسة و الحكم الي تعليم الناس و تفقيههم و حل مشاكلهم. و حينما فرض عمر بن الخطاب لكل واحد من المسلمين نصيبه من العطاء في السنة الثانية من خلافته يوم كانت تتدفق الغنائم علي المدينة من كل الجهات فرض لكل واحد ممن قاتل مع النبي (ص) في بدر خمسة آلاف درهم و ألحق بأهل بدر أربعة من المسلمين الحسن و الحسين و أباذر و سلمان الفارسي، و فرض لبقية المسلمين لكل واحد حسب جهاده و مكانته من الاسلام كما جاء في تاريخ الطبري. و أضاف الي ذلك ابن عساكر في تاريخه من حوادث السنة الخامسة عشرة أنه وردت علي عمر بن الخطاب حلل من وشي اليمن فوزعها علي المسلمين و نسيهما فبعث الي عامله في اليمن أن يبعث له حلتين فأرسلهما اليه فأعطي لكل منهما حلة.

[ صفحه 481] و من المؤكد أنهما لم يشتركا في المعارك الاسلامية في عهد عمر بن الخطاب بالرغم من أنها قد بلغت ذروتها في مختلف المناطق و الانتصارات يتلو بعضها بعضا، و الأموال و الغنائم تتدفق علي المدينة من هنا و هناك، و لم تظهر أي بادرة للامام أبي محمد الحسن طيلة عهد الخليفة الثاني، في حين أنه كان في السنين الأخيرة من خلافة ابن الخطاب قد اشرف علي العشرين من عمره، و هو سن يخوله الاشتراك في الحروب و الغزوات التي كان المسلمون شبابا و كهولا و شيوخا يتسابقون اليها، و لعل السبب في ذلك يعود الي انصراف أميرالمؤمنين عن التدخل في شؤون الدولة و الحياة السياسية، و مما لا شك فيه أن عدم اشتراك الامام في الحروب و الغزوات لم يكن مرده الي تقاعس الامام و حرصه علي سلامة نفسه، بل كان كما يذهب أكثر الرواة و المؤرخين لأن عمر بن الخطاب قد فرض علي الكثير من أعيان الصحابة ما يشبه الاقامة الجبرية لمصالح سياسية يعود خيرها اليه، و بقي الحسن السبط الي جانب والده منصرفا الي خدمة الاسلام و نشر تعاليمه و حل ما يعترض المسلمين من المشاكل الصعاب، و كانت تصدر من الخليفة فلتات بين الحين و الآخر يستشم منها الجمهور الاعظم من المسلمين بأن عمر بن الخطاب سيعهد الي علي من بعده و لعل ذلك كان من أسباب اغتياله كما ذكرنا، و ظل هذا الاحتمال يراود الناس حتي كانت الشوري بتلك الصياغة التي لا تختلف في واقع الأمر عن التعيين الا بالشكل و المظهر كما ذكرنا من قبل، و قد دخل أميرالمؤمنين في الشوري مع علمه بالنتيجة التي انتهت اليها ليفضح

نواياهم و مخططاتهم كما جاء في جوابه لمن سأله عن أسباب عدم اعتزاله، و كان الحسن (ع) الي جنب والده يشاطره و الآلام و النكبات التي لقيها من تحديات القوم و تجاهلهم له. لقد كان عمر بن الخطاب و هو يصارع الموت يتذكر الأموات و يتمني بقاءهم بين الأحياء ليعهد اليهم في خلافة المسلمين، فقال بلغة الآسف الحزين: لو كان أبوعبيدة حيا لاستخلفته لأنه أمين هذه الأمة، و لو كان سالم مولي أبي حذيفة حيا لاستخلفته لأنه شديد الحب لله تعالي، لقد تأسف علي أبي عبيدة و علي سالم مولي أبي حذيفة لأنهما قد أحدثا فراغا لا يسده غيرهما بزعمه، [ صفحه 482] و تجاهل عليا و بالأمس القريب كان يقول فيه أنه علي الحق الواضح و المحجة البيضاء و لن يعدو كتاب الله و سنة رسوله و يقسم بالله بأنه لولاه لما قام للاسلام عمود، و جال ببصره و بصيرته بين الأحياء فلم يجد سوي ستة من المسلمين يصلحون لها زعم أن عليا احدهم، في حين أنه قد ناقض نفسه و هو يصف الخمسة بصفات لا تسمح له أن يوليهم ابسط الاعمال فضلا عن الخلافة. و كان أبومحمد الحسن قد بلغ عشرين عاما أو تزيد و قد برز بين اعيان المسلمين في مواهبة العالية و تطلعاته الي حقائق الأمور و مشكلاتها، و مضي مع أبيه يتجرع مرارة تلك الأحداث القاسية و يستسلم معه للقدر المحتوم و يعملان لصالح الاسلام و انضم الحسن الي جنود المسلمين الذين اتجهوا الي افريقيا بقيادة عبدالله بن نافع و أخيه عقبة في جيش بلغ عشرة آلاف مجاهد كما جاء في العبر لابن خلدون، و تطلع المسلمون الي النصر و الفتح متفائلين بوجود

حفيد الرسول و حبيبه يجاهد معهم، و كانت الغزوة ناجحة و موفقة كما يصفها المؤرخون، و عاد الحسن منها الي مدينة جده و قلبه مفعم بالسرور و علامة الارتياح بادية علي وجهه الكريم لانتشار الاسلام في تلك البقعة من الأرض. و يظهر من رواية ابن خلدون أن الحسين كان مغ أخيه الحسن في تلك الغزوة كما جاء في تاريخ الأمم و الملوك في حوادث سنة ثلاثين للهجرة أن سعيد بن العاص غزا خراسان و معه حذيفة بن اليمان و ناس من أصحاب رسول الله و الحسن و الحسين و عبدالله بن عباس، و تحرك عبدالله بن عامر من البصرة بمن معه من المجاهدين باتجاه خراسان فسبق سعيد بن العاص و نزل ابرشهر و بلغ ذلك سعيد بن العاص فنزل قومس و كان قد صالحهم فيها كما صالحهم في نهاوند، و مضي سعيد و معه الحسن و الحسين الي جرجان فصالحوه علي مائتي ألف، و ثم هاجم طميسة و هي تابعة لطبرستان و صحادة لجرجان علي حد تعبير الطبري علي ساحل البحر فقاتلهم اهلها قتالا شديدا و صلي المسلمون صلاة الخوف و أخيرا انتصر المسلمون في تلك المناطق كما نص علي ذلك ابن خلدون و غيره من المؤرخين. و جاء في الفتوحات الاسلامية و غيرها أن سعيد بن العاص غزا طبرستان [ صفحه 483] سنة ثلاثين من الهجرة و كان الاجهيد قد صالح سويد بن مقرن علي مال بذله في عهد عمر بن الخطاب، و في عهد عثمان بعد استيلائه علي السلطة بخمس سنوات تقريبا جهز اليهم جيشا بقيادة سعيد بن العاص كان فيه الحسن و الحسين و عبدالله بن العباس و غيرهم من أعيان المهاجرين و الانصار

و تم لهم الاستيلاء علي تلك المناطق و التغلب عليها [3] . و تؤكد أكثر المرويات أن الحسن و الحسين قد اشتركا في كثير من الفتوحات الاسلامية و كان لهما دور بارز في سير تلك المعارك التي كانت تدور رحاها بين المسلمين و غيرهم، و ليس بغريب علي علي بن أبي طالب و بنيه أن يجندوا كل امكانياتهم و طاقاتمهم في سبيل نشر الاسلام و اعلاء كلمته، و اذا كانوا يطالبون بحقهم في الخلافة فذاك لأجل الاسلام و نشر تعاليمه فاذا اتجه الاسلام في طريقه فليس لديهم ما يمنع من أن يكونوا جنودا في سبيله حتي ولو مسهم الجور و الأذي، و قد قال أميرالمؤمنين أكثر من مرة: و الله لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين و لم يكن جورا الا علي خاصة. لقد وقف الامام الحسن الي جانب أبيه في عهد الخليفة الثالث و قد تكاملت رجولته يعمل مخلصا لمصلحة الاسلام و يشترك مع أبيه في وضع حد للفساد الذي استشري في جسم الدولة من عثمان و بطانته الذين استأثروا بأموال العباد و خيرات الشعوب و نكلوا بالعلماء و الابرياء، و تعالت الصيحات من كل جانب، و لم تكن صيحة أبي ذر التي لا تزال مثلا كريما يحتذي به كل ثائر علي الظلم و كل من ينشد الاصلاح الي صدي لغضب الجماهير التي لم تعد تستطيع أن تهضم تسلط مروان بن الحكم الطريد ابن الطريد و الوليد بن عقبة و ابن أبي سرح و غيرهم من المروانيين و الأمويين علي الأمة و مقدراتها، و تلفت الناس فرأوا عالما غير ذلك الذي بناه الاسلام و كادت أن تكون معالمه معدومة و لاذوا بعلي (ع) و كتائب الايمان الأولي، فتوجهوا

لعثمان ليأخذ علي أيدي اولئك العابثين [ صفحه 484] المخربين و يحد من مجونهم و استهتارهم بالقيم و الأخلاق و حقوق العباد، ولكنه بدلا من أن يستجيب لطلب الامام و صحابة النبي الابرار و يراعي شعور الجماهير التي ارتفعت اصواتها هنا و هناك بدلا من ذلك انتزع مفاتيح بيت المال من زيد بن أرقم، و راح يهدد و يتوعد، و ضرب ابن مسعود و رفس عمار برجليه و أغري به غلمانه حتي اوسعوه ضربا و شتما و كاد يودي بحياته، و فعل مثل ذلك بأبي ذر، و راح يناجز الصلحاء بالقوة و القسوة و التعذيب فأخرج أباذر من مدينة الرسول مقهورا الي الشام علي أسوأ حال ليكون تحت رقابة عاملها معاوية بن أبي سفيان، و وجد الصحابي الجليل في عاصمة بلاد الشام استئثارا و اسرافا و تبذيرا في أموال المسلمين و استهتارا بالقيم و المقدسات فارتفع صوته هناك كما كان يرتفع حيث يوجد الظلم و الطغيان و الفساد لم ترهبه سياط الجلادين و سطوة الحاكمين و لم يجد معاوية بدا من ارجاعه الي المدينة، و فيها اختار له عثمان الربذة لتكون مسكنه و مدفنه فنفاه اليها و منع الناس من الاتصال به و وداعه، ولكن أميرالمؤمنين و ولديه الحسن و الحسين و عمار بن ياسر و جماعة من خيرة الصحابة قد تحدوا ارادة الخليفة و خرجوا لوداعه، و حاول مروان بصلفه و غروره أن يحول بين أبي ذر و مودعيه و يخاطبهم بأسلوب الحاكم الذي عليه أن يأمر و علي الرعية أن تنفذ، فقال لعلي (ع): أما بلغك أن أميرالمؤمنين عثمان قد نهي الناس أن يصحبوا أباذر في مسيرة و أن يشيعوه. ثم اتجه الي الامام أبي محمد الحسن (ع)

و قد رأي في وجهه غضبة الاستنكار لاساليب العنف التي بلغت أقصي حدودها اتجه اليه و قال: أيه يا حسن ألا تعلم أن الخليفة قد نهي عن وداع أبي ذر و التحدث اليه فان كنت لا تعلم فاعلم بذلك، فلم يتحمل منه أميرالمؤمنين هذا الأسلوب المتعجرف و ضرب وجه راحلته التي حاول أن يسد بها الطريق و قال له: تنح نحاك الله الي النار فولي مروان منهزما يشكوه الي عثمان. و اتجه أميرالمؤمنين الي أبي ذر فودعه و ألقي عليه كلمة حدد فيها موقفه من السلطة الحاكمة و موقفها منه تحديدا وافيا بكل أسباب الصراع بين الفئة المتدينة التي لا تهادن علي حساب الاسلام و لا تلين لكل الضغوط و الاغراءات مهما [ صفحه 485] كانت النتائج و بين الفئة الحاكمة من غلمان بني أمية الذين استغلوا السلطة للتسلط علي الناس و اعادة مظاهر الجاهلية بكل اشكالها و قد ذكرنا نص الكلمة التي القاها في وداع أبي ذر خلال حديثنا عن أبي ذر في الفصول السابقة. و اتجه اليه الحسن بن علي (ع) فودعه بكلمات تنم عن ألمه و تأثره من معاملة القوم لأبي ذر و غيره من خيار الصحابة، فقال: يا عماه لولا أنه ينبغي للمودع أن يسكت و للمشيع أن ينصرف لقصر الكلام و ان طال الاسف و قد اتي القوم اليك فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها و شدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها و اصبر حتي تلقي نبيك و يحكم الله بينك و بين القوم بالحق و هو خير الحاكمين. و بعد ان تكلم الحسين و ابن عباس و بقية المشيعين، اتجه ابوذر الي علي و الحسنين (ع) و قال رحمكم الله يا أهل البيت اذا رأيتكم ذكرت

بكم رسول الله مالي بالمدينة سكن و لا شجن غيركم اني ثقلت علي عثمان بالحجاز كما ثقلت علي معاوية بالشام و كره ان اجاور اخاه و ابن خاله بالمصرين فصيرني الي بلد ليس لي به ناصر و لا دافع الا الله، و الله لا أريد الا الله صاحبا و ما اخشي معه وحشة، و ختم الصحابي الجليل حياته في فلاة من الأرض ليس له فيها صاحب الا الله و صدق فيه قول النبي: يا اباذر تعيش وحدك و تدفن في فلاة من الأرض وحدك و تحشر وحدك. لقد مل المسلمون سياسة عثمان و أعوانه و عماله و فشلت كل محاولات الاصلاح فخافوه علي دينهم و دنياهم فزحفوا اليه من جميع الأقطار يطالبونه باصلاح ما افسده هو و عماله، أو بالتخلي عن السلطة، و كان أميرالمؤمنين و ولده الحسن و سيطين بين الخليفة و وفود الامصار في محاولة للصلاح و وضع حد للفساد الذي شمل جميع مرافق الدولة، و كانا كلما اشرفا علي النجاح، و وضعا الحلول الكفيلة بالاصلاح و ارجاع الثوار الي بلادهم، جاء مروان و نقض كل ما ابرم بين الطرفين من حلول و اتفاقات، حتي تعقدت الأمور اخيرا و هاجمه الثوار بتحريض من السيدة عائشة و طلحة و الزبير، قالت لهم عائشة كما تؤكد ذلك أكثر المرويات: اقتلوا نعثلا فقد كفر، و أخرجت للمسلمين قميص رسول الله (ص) و قالت بصوت يسمعه الجميع: هذا قميص رسول الله لم يبل و قد أبلي [ صفحه 486] عثمان سنته، كما تؤكد المصادر الموثوقة ان طلحة لم يقتصر دوره علي التحريض علي عثمان، بل اشترك معهم و سهل لهم الوصول الي داره للقضاء عليه في حين

ان أميرالمؤمنين كما يدعي الرواة قد ارسل ولديه حسنا و حسينا ليدفعا عنه الثوار، و حينما بلغه قتله اقبل مسرعا الي داره و لام ولديه و من معهما في الدار بلهجة قاسية. و جاء في رواية ابن كثير ان الحسن بن علي قد اصيب ببعض الجروح و هو يدافع عنه و مضي ابن كثير في البداية و النهاية يروي عن المدائني و الزبير بن بكار أن عليا بكي علي عثمان حتي ظن الناس أنه سيلحق به و أنه قال: لقد طاش عقلي يوم قتل عثمان الي كثير من امثال هذه المرويات التي وضعت في العصر الاموي. و مما لا شك فيه أن أميرالمؤمنين كان كغيره من خيار الصحابة ناقما علي تصرفات عثمان و أنصاره و عماله، و مع ذلك فلم يبلغ به الحال الي حدود الرضا بقتله و التحريض عليه، بل وقف من موقفا سليما و شريفا أراد من عثمان أن ينتهج سياسة تتفق مع الدين و الاسلام و ان يجعل حدا لتصرفات ذويه و عماله الذين اسرفوا في تبذير الاموال و استعمال المنكرات، و أراد من الثائرين عليه أن يقفوا عند حدود المطالبة بالاصلاح الشامل لجميع مرافق الدولة و ان لا تتخذ ثورتهم طابع العدوان و الانتقام، و استطاع في المراحل الأولي من وساطته ان يضع حدا للصراع القائم بين الطرفين بما يحفظ لكل منهما حقه لولا ان مروان بن الحكم قد افسد كل ما أصلحه الامام (ع) و ظل الامام الي آخر لحظة يتمني علي عثمان أن يتخذ موقفا سليما حتي يتاح له أن يعالج الموقف في حدود ما انزل الله. [ صفحه 487]

مع الدكتور طه حسين في تفسيره لموقف الحسن من ابيه

و أما موقف الحسن (ع) من عثمان و تصرفاته فلم

يدع أحد من المؤرخين بأنه كان من المؤيدين لعثمان و أنصاره المستهترين بكل ما جاء به جده رسول الله، بل كان الي جانب ابيه في كل ما يقول و يفعل و اشترك معه في جميع حروبه و كان يتمني علي أبيه أن يسمح له بمواصلة القتال و خوض المعارك عندما يتأزم الموقف و يشتد القتال، ولكن أباه كان شديد الحرص عليه و علي اخيه الحسين فلم يسمح لهما بمواصلة القتال و كان يقول لقادة جيشه في صفين: املكوا عني هذين فاني اخاف أن ينقطع بقتلهما نسل رسول الله، و كان يقاتل مع ابيه من يزعمون انهم يثأرون لعثمان، و قد اجمع محبوه و مبغضوه علي أنه كان ثورة علي الظلم و الظالمين و المستغلين و أن حياته كلها كانت لله و في سبيل الله كما تحدثنا عن بعض جوانبها في الفصول السابقة، و مع أنه كان كذلك فقد ادعي بعض الكتاب القدامي و المحدثين بأنه كان علي خلاف دائم مع أبيه و أضاف الي ذلك الدكتور طه حسين في كتابه عن علي و بنيه أنه كان عثمانيا بالمعني الدقيق لهذه الكلمة و انه أقام مع أبيه و شهد مشاهده كلها علي غير حب لذلك أو رغبة منه فيه. و لم اجد مصدرا لهذا النوع من التحريف و التضليل سوي بعض المرويات التي لا يشك الباحث في سندها و متنها بأنها من موضوعات الأمويين و العثمانيين الذين كانوا يحاولون براءة عثمان مما وصفه به التاريخ و اعطاء تصرفاته صفة الشرعية، و في الوقت ذاته ايجاد فجوة بين موقف كل من علي و ولده الحسن [ صفحه 488] السبط من عثمان و السياسة التي انتهجها أميرالمؤمنين (ع).

أما الروايات التي تعلق بها أصحاب هذا الرأي و علي رأسهم عميد الأدب العربي فقد روي بعضها البلاذري في الأنساب و الاشراف بسند ينتهي الي طارق بن شهاب كما رواها ابن أبي الحديد عن طارق بن شهاب أيضا، و رواها الطبري عن سيف بن عمر الذي اكثر من الرواية عنه في تاريخه. و جاء في رواية البلاذري و شرح النهج أن الحسن بن علي (ع) قال لأبيه: يا أميرالمؤمنين اني لا استطيع أن اكلمك و بكي، فقال له: تكلم و لا تحن حنين الجارية، فقال أن الناس قد حصروا عثمان فأمرتك أن تعتزلهم و تلحق بمكة حتي تؤوب الي العرب عوازب احلامها فأبيت ذلك، و لما قتل عثمان امرتك أن تعتزل الناس فلو كنت في جحر ضب لضربت اليك العرب اباط الأبل حتي يستخرجوك فغلبتني، و أنا آمرك اليوم أن لا تقدم علي العراق، فاني اخاف عليك أن تقتل بمضيعة، فقال أميرالمؤمنين (ع): أما قولك تأتي مكة فوالله لا أكون الرجل الذي تستحل به مكة، و أما قولك: أن القوم قد حصروا عثمان، فما ذنبي ان كان بين الناس و بين عثمان ما كان، و أما رأيك بأن اعتزل الناس و لا أقدم العراق، فوالله لا اكون مثل الضبع انتظر اللدم، و يدعي شارح النهج ان هذا الحوار كان بين الحسين و أبيه و هو في الربذة في طريقه الي البصرة. و في رواية ثانية للبلاذري عن ابي قبيصة عمرو بن طارق بن شهاب ان الحسن (ع) قال لابيه في الربذة و قد ركب راحلته و عليها رحل رث: اني لا خشي ان تقتل بمضيعة، فقال له أميرالمؤمنين: اليك عني فوالله ما وجدت الا قتال القوم

أو الكفر بما جاء به محمد. و في رواية ثالثة تنتهي بسندها الي طارق بن شهاب أنه قال للحسن و الحسين و هما يحاولان منعه عن لقتال: مالكما تحنان حنين الجارية، و الله لقد ضربت هذا الأمر طهرا لبطن فما وجدت بدا من قتال القوم أو الكفر بما أنزل الله علي محمد. [ صفحه 489] و قال الدكتور طه حسين: و قد روي الرواة أن عليا (ع) مر بابنه الحسن و هو يتوضأ فقال له: اسبغ الوضوء؛ فأجابه بالكلمة التالية المرة علي حد زعم الرواة: لقد قتلتم بالأمس رجلا كان يسبغ الوضوء، فلم يزد أميرالمؤمنين علي قوله: لقد اطال الله حزنك علي عثمان. من هذه المرويات استنتج بعض الكتاب أن الحسن (ع) كان علي خلاف مع ابيه، و كان يري له ان لا يشترك في شي ء و ان يعتزل الناس و المدينة و يقيم في ماله أو يذهب الي مكة فيعتصم بها و لا يتعرض للبيعة و ان عرضت عليه. و مضي الدكتور طه حسين يقول: و لو استطاع الحسن أن يعتزل الفتنة كما فعل سعد بن أبي وقاص و عبدالله بن عمر و غيرهما لفعل، و كان يكره لأبيه أن يترك المدينة و يذهب الي العراق لحرب طلحة و الزبير و عائشة، و كان أبوه يعصيه في كل ما كان يشير عليه من ذلك، و لم يفارقه حزنه علي عثمان و كان عثمانيا بالمعني الدقيق لهذه الكلمة. و الروايات المذكورة علي ما بينها من اختلاف في مضامينها تشتمل علي بعض الكلمات التي لا يحسن صدورها من عوام الناس مع آبائهم مثل قوله: امرتك فعصيتني و الحسن (ع) ارفع شأنا من أن يستعمل هذا الأسلوب مع

أبيه، و هل يعني اعتزاله للناس و عدم ملاحقة طلحة و الزبير و عائشة الا اعتزال الأمة و مقدراتها و ترك الأمور بيد العابثين و المفسدين يعبثون و يفسدون في الأرض؟ و كيف يطلب منه ذلك و هو يعلم بأن الاسلام يفرض محاربة البغي و الظلم و الفساد. هذا بالاضافة الي أن الرواة لهذه الأحاديث بين من هو معروف بالكذب و وضع الأحاديث كسيف بن عمر و بين مجهول الحال لم يتعرض له المؤلفون في الرجال بمدح أو ذم، و بين من اهملوا ذكره و كأنه لم يكن كعمرو بن قبيعة، كما يبدو ذلك من الميزان لابن حجر و ميزان الاعتدال للذهبي. و أما الرواية الأخيرة التي استنتج منها طه حسين أن الحسن بن علي كان عثمانيا بالمعني الدقيق، فقد رواها البلاذري عن المدائني، و المدائني معروف بالكذب و العداء لعلي و آل علي (ع) علي أن متن الرواية يشهد بأن المقصود منها [ صفحه 490] النيل من قدسية الامامين، و اتهام علي (ع) بالاعتداء علي عثمان و الاشتراك في قتله، فلقد جاء فيها أن الحسن كان يتوضأ و لا يحسن الوضوء، فأمره ابوه ان يسبغ وضوءه، و هذا لا يحتمله أحد في الحسن بن علي (ع) و لو افترضنا و باب الافتراض واسع أن الحسن لا يحسن الوضوء كما يدعي المدائني و ان أباه أرشده الي ما يجب عليه، فأي مناسبة تستدعي أن يجيب أباه بذلك الجواب الجاف، لقد قتلتم بالامس رجلا كان يسبغ الوضوء. و مهما كان الحال فليس بغريب علي المدائني و لا علي أسياده أن يضعوا عثمان في صفوف المظلومين و ان عليا كان من أولئك الظالمين الذين اعتدوا عليه و سلبوه

طعم الحياة بشهادة الحسن بن علي. و الأمر الغريب أن يقف عميد الأدب العربي من هذه الرواية موقف المطمئن اليها و يبني عليها هذا الحكم الجائر علي الحسن بن علي الذي كان من أحب الناس الي جده رسول الله و أشبههم به خلقا و خلقا و الذي قال فيه و في اخيه: هذان امامان قاما أو قعدا. باجماع المحدثين، الغريب أن يقف منها موقف المطمئن اليها و يبني عليها حكمه الجائر، بأنه كان عثمانيا بالمعني الدقيق لهذه الكلمة مع ما فيها من العيوب التي لا تخفي علي عامة الناس فضلا عن الادباء و نقاد الأدب كالدكتور طه حسين و أمثاله. و مع أن الدكتور طه حسين حاول أن يظهر بمظهر من لا تعنيه غير الحقيقة لأي جهة كانت فقد بدا عليه التحيز في كثير من مواضيع كتابه، ولكن تحيزه لم يكن قاسيا كما هو الحال بالنسبة لموقفه من الامام الحسن (ع) لان كونه عثمانيا بالمعني الدقيق لهذه الكلمة علي حد تعبيره يعني أنه كان يبارك جميع تصرفات عثمان و أعماله التي تخالف كتاب الله و سنة رسول الله و حتي سيرة من تقدمه من الخلفاء، و يبارك اخراج ابي ذر من المدينة مطرودا و مهانا و رفسه لعمار و تسليط غلمانه عليه و علي ابن مسعود و غيرهم من اجلاء الصحابة و يبارك تكريمه و حفاوته بطريد رسول الله الحكم بن العاص و ذريته و تسليطه الفساق و المستهترين [ صفحه 491] من ذويه و بني امية بالاسلام و حقوق العباد، و بتعبير آخر أن الحسن بن علي لا يكون عثمانيا بالمعني الدقيق لهذه الكلمة الا اذا كان كمروان و عقبة بن أبي معيط و الوليد بن عقبة و

ابن ابي سرح و أمثالهم من زبانية عثمان، و لا احسب ان احدا من المسلمين مهما بلغ به الحقد و العداء لاهل البيت يضع ريحانة رسول الله بهذا المستوي الذي لا يرضاه مسلم يؤمن بالله و اليوم الآخر لنفسه. و مضي الدكتور طه حسين يقول: و قد شهد الحسن مع أبيه مشاهده كلها في البصرة و صفين و النهروان، و أكاد اعتقد مع ذلك أنه و أخاه الحسين قد شهدا هذه الحروب دون أن يشاركا فيها. و ما ادري من اين جاءه هذا الاعتقاد مع أن نصوص المؤرخين تشهد لهما بالمشاركة و انهما كانا يتململان بين يدي ابيهما ليأذن لهما بالقتال. و قد جاء في شرح النهج أن عليا (ع) حينما احتدمت المعركة في البصرة زحف نحو الجمل بنفسه في كتيبته الخضراء من المهاجرين و الأنصار و حوله الحسن و الحسين و محمد بن الحنفية و دفع له الراية و قال له تقدم حتي تركزها في عين الجمل، فلما تقدم بها رشقته السهام فقال لاصحابه: رويدا حتي تنفد سهامهم، و لما أبطأ بها جاءه من خلفه و وضع يده اليسري علي منكبه الايمن و قال له: اقدم لا ام لك، و أخذ منه الراية، و دفعها الي الحسن فحمل الحسن علي القوم و فرقهم عن الجمل حتي انتهي اليه و طعنه في عينه، ثم دفعها الي الحسين ففعل كما فعل اخوه الحسن الي كثير من المرويات التي تؤكد انهما كانا يشتركان معه و يفديانه بنفسيهما، غير انه كان يضن بهما عن الخطر مخافة أن يصيبهما سوء فتنقطع بقتلهما ذرية رسول الله علي حد تعبيره احيانا، و أحيانا كان يقول: انهما ابنا رسول الله و محمد بن

الحنفية ابني و أحيانا اخري يقول: انهما عيناي و محمد ساعدي و يدي و المرء يدفع عن عينيه بيديه و ساعديه. و مجمل القول ان الامام الحسن قد اشترك مع ابيه في حياته السياسية و العسكرية و كان موقفه من عثمان كموقف ابيه و خيار الصحابة، و لما توجه اميرالمؤمنين (ع) الي البصرة و نزل ذاقار ارسله الي الكوفة مع عمار بن ياسر و زيد بن [ صفحه 492] حومان و قيس بن سعد، ليستنفروا اهلها لمساعدته علي طلحة و الزبير، و كان قد ارسل قبلهم و فدا فعارضهم أبوموسي و لم يستجب لطلب أميرالمؤمنين (ع)، و مضي الحسن بمن معه باتجاه الكوفة و لما دخلوها استقبلهم اهلها فقرأ عليهم كتاب اليه، و وقف أبوموسي نفس الموقف الذي وقفه مع الوفد الأول و افتعل حديثا عن النبي ليثبط الناس عن مساعدة أميرالمؤمنين و ادعي انه سمعه يقول: ستكون بعدي فتنة القاعد فيها خير من القائم، و النائم خير من القاعد فرد عليه عمار بن ياسر و قال: اذا صح انك سمعت رسول الله يقول ذلك فقد عناك وحدك فالزم بيتك، أما أنا فأشهد الله أن رسول الله قد أمر عليا بقتال الناكثين و سمي لي منهم جامعة و أمره بقتال القاسطين، و ان شئت لاقيمن لك شهودا ان رسول الله قد نهاك وحدك و حذرك من الدخول في الفتنة. و وقف الحسن (ع) يستنفر الناس فحمد الله و صلي علي رسوله ثم قال: أيها الناس انا جئنا ندعوكم الي الله و كتابه و سنة رسوله و الي افقه من تفقه من المسلمين و أعدل من تعدلون و أفضل من تفضلون و أوفي من تبايعون من

لم يعبه القرآن و لم تجهله السنة و لم تقعد به السابقة ندعوكم الي من قربه الله و رسوله قرابتين قرابة الدين و قرابة الرحم الي من سبق الناس كل مأثرة، الي من كفي الله به رسوله و الناس متخاذلون فقرب منه و هم متباعدون و صلي معه و هم مشركون و قاتل معه و هم منهزمون و بارز معه و هم محجمون، و صدقه و هم يكذبون و هو سائلكم النصر و يدعوكم الي الحق و يأمركم بالمسير اليه لتؤازروه و تنصروه علي قوم نكثوا ببيعته و قتلوا أهل الصلاح من أصحابه و مثلوا بعماله و نهبوا بيت ماله فاشخصوا اليه رحمكم الله. و في رواية ثانية عن جابر بن يزيد انه قال: حدثني تميم بن جذيم التاجي أن الحسن بن علي (ع) و عمار بن ياسر قدما الكوفة يستنفران الناس الي علي (ع) و معهما كتابه فلما فرغا من قراءته قام الحسن فرماه الناس بأبصارهم و هم يقولون: اللهم سدد منطق ابن بنت نبيك فوضع يده علي عمود يتساند اليه و كان عليلا من شكوي به فقال الحمدلله العزيز الجبار الواحد الأحد القهار الكبير المتعال سواء منكم من أسر القول و من جهر به و من هو مستخف بالليل [ صفحه 493] و سارب بالنهار أحمده علي حسن البلاء و تظاهر النعماء و علي ما احببنا و كرهنا من شدة و رخاء، و أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله امتن بنبوته و اختصه برسالته و أنزل عليه وحيه و اصطفاه علي جميع خلقه و أرسله الي الأنس و الجن حين عبدت الاوثان و

أطيع الشيطان و جحد الرحمن فصلي الله عليه و علي آله و جزاه افضل الجزاء، اما بعد فاني لا أقول لكم الا ما تعرفون، ان اميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ارشد الله امره و أعز نصره بعثني اليكم يدعوكم الي الصواب و العمل بالكتاب و الجهاد في سبيل الله، و ان كان في عاجل ذلك ما تكرهون فان في آجله ما تحبون ان شاء الله، و لقد علمتم بأن عليا صلي مع رسول الله وحده، و انه يوم صدق به لفي عاشرة من عمره ثم شهد مع رسول الله جميع مشاهده، و كان من اجتهاده في مرضاة الله و طاعة رسوله و آثاره الحسنة في الاسلام ما قد بلغكم، و لم يزل رسول الله راضيا عنه حتي غمضه بيده و غسله وحده و الملائكة اعوانه و الفضل ابن عمه ينقل اليه الماء، ثم ادخله حفرته و أوصاه بقضاء دينه وعداته و غير ذلك من اموره كل ذلك من من الله عليه، ثم و الله ما دعا الي نفسه و لقد تداك الناس عليه تداك الابل الهيم عند وردها فبايعوه طائعين، ثم نكث منهم ناكثون بلا حدث احدثه و لا خلاف اتاه حسدا له و بغيا عليه فعليكم عباد الله بتقوي الله و طاعته و الجد و الصبر و الاستعانة بالله و الاسراع الي ما دعاكم اليه عصمنا الله و اياكم بما عصم به أولياءه و أهل طاعته و ألهمنا و اياكم تقواه و أعاننا و اياكم علي جهاد اعدائه و استغفر الله لي و لكم. و بعد جدال طويل و حوار بين عمار بن ياسر و الحسن بن علي من جهة و بين ابي موسي الأشعري التفت

الحسن (ع) الي ابي موسي و قال له: اعتزل عملنا لا ام لك و تنح عن منبرنا و ظل أبوموسي علي موقفه المتصلب يخذل الناس و يوحي اليهم بأن رسول الله قد أمرهم باعتزال هذه الفتنة، حتي جاء مالك الأشتر و دخل القصر و أخرج منه الحرس، هذا و أبوموسي في جدال مع الحسن و عمار فجاءه الغلمان و الحرس يشتدون اليه و أخبروه بما صنع الأشتر فخرج من المسجد مذموما مدحورا و استجاب الناس لنداء الحسن و خرج معه الي [ صفحه 494] البصرة اثنا عشر الفا، و كان أميرالمؤمنين قد اخبر بعددهم و هو في ذي قار كما جاء في رواية الشعبي عن أبي الطفيل و اضاف الي ذلك أبوالطفيل يقول: و الله لقد قعدت علي الطريق و أحصيتهم واحدا واحدا فما زادوا رجلا و لا نقصوا رجلا [4] . و كما ذكرنا لقد اشترك الحسن في معارك البصرة كما اجمع علي ذلك المؤرخون و لما زخف أميرالمؤمنين في كتيبته الخضراء علي حد تعبير المؤرخين التي جمعت المهاجرين و الأنصار و حوله أولاده الحسن و الحسين و محمد بن الحنفية و كان قد اعطاه الراية فحمل بها علي أنصار عائشة و مضي يتقدم بها حتي تزعزعت صفوفهم. فقال له الانصار: و الله يا أميرالمؤمنين لولا ما جعل الله تعالي للحسن و الحسين لما قدمنا علي محمد أحدا من العرب، فقال لهم أميرالمؤمنين: اين النجم من الشمس و القمر، أما أنه قد اغني و أبلي و له فضله و لا ينقص فضل صاحبيه عليه، و حسب صاحبكم ما انتهت به نعمة الله تعالي عليه، فقالوا له: يا أميرالمؤمنين أنا و الله لا نجعله كالحسن و

الحسين و لا نظلمهما له و لا نظلمه لفضلهما عليه حقه، فقال: اين يقع ابني من ابني بنت رسول الله و قال خزيمة بن ثابت فيه: محمد ما في عودك اليوم وصمة و لا كنت في الحرب الضروس معردا ابوك الذي لم يركب الخيل مثله علي و سماك النبي محمدا فلو كان حقا من ابيك خليفة لكنت ولكن ذاك ما لا يري بدا و اطعنهم صدر الكمي برمحه و أكساهم للهام عضبا مهندا الي أن يقول: سوي اخويك السيدين كلاهما امام الوري و الداعيان الي الهدي و يجد المتتبع عشرات الشواهد علي أنه كان يشارك أباه في حروبه مع [ صفحه 495] الناكثين و القاسطين و المارقين بالرغم من أن اباه كان يضن به و بأخيه الحسين عن خوض المعارك و يستعين بأصحابه عليهما. فقد جاء في نهج البلاغة و قد رأي ولده الحسن يشتد نحو المعركة أنه قال لمن حوله: املكوا عني هذا الغلام لا يهدني فاني انفس بهذين علي الموت لئلا ينقطع بموتهما نسل رسول الله. و تشير هذه الكلمة الي أنه كان يخوض المعارك و يندفع اليها، و لم يكن يقف عند رغبة ابيه، و لذا فقد استنجد بأصحابه للحد من حماسته و اندفاعه. و بعد أن أورد شارح النهج هذه الكلمة بين كلماته القصار طرح علي نفسه السؤال التالي: أيجوز ان يقال للحسن و الحسين و ولدهما ابناء رسول الله و ولد رسول الله، أو نسل رسول الله، مع أنهم أولاد بنته الزهراء من علي بن أبي طالب. و أجاب عن ذلك: لقد سماهم الله ابناء رسول الله في الآية، قل تعالوا ندع ابناءنا و أبناءكم و لم يكن له غيرهما و قد

جاء بهما و بفاطمة و علي (ع) و مضي يقول: لو اوصي رجل لولد فلان دخل بينهم أولاد البنات عند عامة الفقهاء، و قد جعل الله عيسي من ذرية ابراهيم في الآية و من ذريته داوود و سليمان و يحيي و عيسي، و من المعلوم أن عيسي انما يتصل به من جهة أمه [5] . و جاء في المجلد الأول من شرح النهج أن الحسن بن علي (ع) دعا الناس الي الجهاد و قال:الحمدلله لا اله غيره و لا شريك له و انه مما عظم الله عليكم من حقه و أسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصي ذكره و لا يؤدي شكره و لا يبلغه قول و لا صفة، و نحن انما غضبنا لله و لكم، و انه لم يجتمع قوم قط علي أمر واحد الا اشتد امرهم و استحكمت عقدتهم فاحتشدوا في قتال عدوكم معاوية و جنوده و لا تتخاذلوا فان الخذلان يقطع نياط القلوب و ان الاقدام علي الأسنة نخوة و عصمة لم يتمنع قوم قط الا رفع الله عنهم العلة و كفاهم حوائج الذلة و هداهم [ صفحه 496] الي معالم الملة ثم انشد: و الصلح تأخذ منه ما رضيت به و الحرب يكفيك من انفاسها جرع و وقف بعده الحسين (ع) فقال: يا أهل الكوفة انتم الأحبة الكرام و الشعار دون الدثار جدوا في اطفاء ما وتر نبيكم و تسهيل ما توعر عليكم، الا أن الحرب شرها و ريع و طعمها فظيع فمن اخذ لها اهبتها و استعد لها عدتها و لم يألم كلومها قبل حلولها فذاك صاحبها و من عاجلها قبل أوان فرضها و استبصار سعيه فيها فذاك قمن أن

لا ينفع قومه و أن يهلك نفسه نسأل الله بقوته ان يدعمكم بالفيئة انه قريب مجيب. و أرسل عبيدالله بن عمر الي الحسن بن علي أن لي حاجة و كان الي جانب معاوية بن أبي سفيان فلقيه الامام أبومحمد الحسن فقال له عبيدالله: ان اباك قد وتر قريشا أولا و آخرا و قد شنئه الناس فهل لك في خلعه و تتولي انت هذا الأمر، فقال له الحسن (ع): كلا و الله لا يكون ذلك ابدا، و مضي يقول: يا ابن الخطاب و الله لكأني انظر اليك مقتولا في يومك أو غدك، اما ان الشيطان قد زين لك و خدعك حتي أخرجك متخلقا بالخلوق تري نساء أهل الشام موقفك و سيصرعك الله و يبطحك لوجهك قتيلا. ثم انصرف كل منهما الي جهته، و أضاف الي ذلك أن احد الرواة قال: فوالله ما كان الا بياض ذلك اليوم حتي قتل عبيدالله و هو في كتيبة رقطاء تدعي الخضرية و كان في أربعة آلاف عليهم ثياب خضر فمر الحسن بن علي (ع) و اذا برجل متوسد برجل قتيل قد ركز رمحه في عينه و ربط فرسه برجله فقال الحسن لمن معه: انظروا من هذا فاذا رجل من همدان و اذا القتيل عبيدالله بن عمر بن الخطاب قد قتله الهمداني في أول الليل و بات عليه حتي اصبح. و تؤكد المصادر الموثوقة أن الحسن بقي الي جنب والده الي آخر لحظة و كان يعاني ما يعانيه ابوه من أهل العراق و يتألم لآلامه و متاعبه و هو يري معاوية يبث دعاته في انحاء العراق و يغري القادة و الزعماء بالاموال و المناصب حتي فرق اكثرهم عنه، و أصبح أميرالمؤمنين يتمني

فراقهم بالموت أو القتل؛ ثم [ صفحه 497] يبكي و يقبض علي كريمته و يقول متي يبعث اشقاها فيخضب هذه من هذا و الحسن يري كل ذلك و يتلوي من الألم و الحسرة لما يحيط بأبيه من المتاعب و الأحداث. و تشاء الأقدار أن يبعث اشقاها في صبيحة الحادي و العشرين من رمضان و علي يتأهب لقتال أهل الشام، فيضربه ابن ملجم بسيفه و هو يصلي الفجر في محرابه ضربة تصل الي دماغه، فيخر في المحراب و هو يقول: فزت و رب الكعبة، و يبقي الحسن بن علي وحده بين تلك و الأعاصير و بين أهل الكوفة المتخاذلين و الي جانب الحدود فلول الخوارج من جهة و تحديات جيش الشام من جهة ثانية، و عملاؤه في العراق يكتبون اليه بكل صغير و كبير و يعرضون عليه ولاءهم و خدماتهم و حتي لو أراد تسليم الحسن مكتوفا سلموه أياه، الي غير ذلك مما استقبله الحسن و من احداث لم يعرف التاريخ اسوأ و أشد تعقيدا منها. و قبيل وفاته أوصي لولده الحسن و نص علي امامته و امامة اخيه الحسين مؤكدا نصوص جدهما من قبل، و جاء في وصيته: أوصيك يا حسن و جميع ولدي و أهل بيتي و من بلغه كتابي هذا بتقوي الله ربنا و لا تموتن الا و أنتم مسلمون و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا فاني سمعت رسول الله (ص) يقول: اصلاح ذات البين افضل من عامة الصلاة و الصيام، انظروا الي ارحامكم فصلوهم يهون الله عليكم الحساب، الله الله في الايتام فلا تقيدوا افواههم بجفوتكم، و الله الله بجيرانكم فانها وصية رسول الله (ص) ما زال يوصينا بهم حتي ظننا

انه سيورثهم، والله الله في القرآن فلا يسبقكم الي العمل به غيركم، و الله الله في الصلاة فانها عماد دينكم، و الله الله في بيوت ربكم، فلا تخلون منكم ما بقيتم، و الله الله في صيام شهر رمضان فانه جنة من النار، و الله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم، و الله الله في زكاة اموالكم فانها تطفي ء غضب ربكم، و الله الله في الفقراء و المساكين فاشركوهم في معايشكم، و الله الله فيما ملكت ايمانكم فانها كانت آخر وصية لرسول الله. و لا تتركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيولي الأشرار عليكم و تدعون فلا يستجاب لكم، و توجه الي جميع اولاده و قال: عليكم بالتواضع و التباذل [ صفحه 498] و اياكم و التقاطع و التفرق و التدابر و تعاونوا علي البر و التقوي و لا تعاونوا علي الاثم و العدوان و اتقوا الله ان الله شديد العقاب، و لا تبغوا الدنيا و ان بغتكم و لا تأسفوا علي شي ء منها، و كونوا للظالم خصما و للمظلوم عونا و لا تأخذكم في الله لومة لائم. و التفت الي ولده محمد بن الحنفية و قال: اوصيك بتوقير اخويك و تزيين امرهما و لا تقطعن امرا دونهما، ثم توجه الي الحسنين و قال لهما: اوصيكما به فانه سيفكما و ابن ابيكما فأكرماه و اعرفا له حقه و نص علي امامة الحسن و الحسين و التسعة من اولاد الحسين. و قد تواتر عن النبي (ص) انه قال: يكون بعدي اثنا عشر اماما كلهم من قريش، و في رواية ثانية انه قال: لا يزال هذا الدين قائما حتي تقوم الساعة و يكون عليهم

اثناعشر اماما و في رواية خليفة كلهم من قريش. و قد تحدثنا عن الأئمة و عددهم في الفصول السابقة من هذا الكتاب. و بعد أن نص أميرالمؤمنين علي الحسن و سلمه مواريث النبوة اجتمع عليه اهل الكوفة و جماعة من المهاجرين و الأنصار و بايعوه و بالخلافة بعد ابيه عليه افضل الصلاة و السلام. و جاء في رواية محمد بن يعقوب الكليني أن أميرالمؤمنين (ع) اوصي الي ولده الحسن و أشهد علي وصيته الحسين و محمد بن الحنفية و جميع ولده و رؤساء شيعته و أهل بيته و دفع اليه و الكتب و السلاح و قال له: يا بني امرني جدك رسول الله ان اوصي اليك و أن ادفع اليك كتبي و سلاحي. و قال الاستاذ توفيق ابوعلم في كتابه اهل البيت: و الامام الحسن بدون شك هو الخليفة الطبيعي لوالده اميرالمؤمنين لأنه ريحانة الرسول و سيد شباب اهل الجنة، و هو امام قام أو قعد بحكم النص عليه و علي اخيه الحسين من جدهما رسول الله فيما تواتر عنه، و الحسن و الحسين امامان قاما أو قعدا، و مضي يقول: و قد هذبه الله من كل نقص و رجس كما دلت علي ذلك آية التطهير، و بالاضافة الي توفر جميع ما تتطلبه الخلافة من الصفات الرفيعة في شخصيته كالعلم و [ صفحه 499] و التقوي و الحزم و الجدارة. قد نفذ الامام الحسن وصية ابيه في قاتله، فقد استدعاه في صبيحة اليوم الحادي و العشرين من شهر رمضان بعد أن دفن أباه حيث مرقده الآن حسب وصيته كما هو معروف بين جميع المسلمن منذ الفترة التي دفن فيها حتي يومنا هذا، و لم يتردد

واحد في ذلك سوي بعض الحاقدين الذين اعماهم الحقد و الحسد عن رؤية الحق و السير علي نهجه. [ صفحه 500]

الحسن بعد وفاة ابيه

و جاء في رواية ابي الفرج في مقاتل الطالبيين و غيره انه لما أمر الحسن (ع) بقتل ابن ملجم قال له: ان رأيت ان تؤخرني و تأخذ علي العهود و المواثيق ان ارجع اليك و أضع يدي في يدك بعد أن امضي الي الشام و أنظر ما صنع صاحبي بمعاوية، فان قتله و الا قتلته ثم اعود اليك لتحكم في بحكمك، فقال له الحسن: هيهات و الله لا تشرب الماء البارد او تلحق روحكم النار، و ثم ضربه ضربة واحدة قضت علي حياته كما اوصاه أميرالمؤمنين. و جاء في بعض المرويات أن الناس اخذوه من بين يديه و قطعوه بأسيافهم ثم احرقوا اشلاءه بالنار، و بعد الفراغ من امره اتجه الي الامام الحسن في صبيحة ذلك اليوم حشد كبير من أهل الكوفة غص بهم الجامع علي سعته فوقف خطيبا حيث كان يقف اميرالمؤمنين و حوله من بقي من وجوه المهاجرين و الانصار، فابتدأ خطابه عن مصابه بأبيه الذي اصيب به جميع المسلمين، و قال بعد أن حمد الله و صلي علي محمد و آله: لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل و لا يدركه الآخرون بعمل، لقد كان يجاهد مع رسول الله فيقيه بنفسه، و أينما وجهه رسول الله كان جبرائيل عن يمينه و ميكائيل عن يساره فلا يرجع حتي يفتح الله عليه، و لقد توفي في الليلة التي عرج فيها عيسي بن مريم الي السماء و قبض فيها يوشع بن نون وصي موسي، و ما خلف خضراء و لا بيضاء سوي

سبعمائة درهم فضلت عن عطائه اراد أن يبتاع فيها خادما لأهله و قد امرني ان اردها الي بيت المال، ثم تمثل له ابوه و ما كابده في حياته من [ صفحه 501] الآلام و المتاعب فاستعبر باكيا و بكي الناس من حوله حتي ارتفعت الأصوات بالبكاء و النحيب من جميع انحاء الكوفة، و عاد الي حديثه بعد أن استنصت الناس و قال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا الحسن بن علي و أنا ابن النبي و الوصي، و أنا ابن البشير النذير و الداعي الي الله باذنه و أنا ابن السراج و المنير و أنا من اهل البيت الذين كان جبريل ينزل الينا و يصعد من عندنا، و أنا من أهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا و افترض مودتهم علي كل مسلم فقال في كتابه: قل لا اسألكم اجرا الا المودة في القربي و من يقترف حسنه نزد له منها حسنا فاقتراف الحسنة مودتنا اهل البيت. و قد تضمن خطابه هذا لأول مرة بعد وفاة ابيه علي اختصاره تأبين الراحل العظيم الذي اهتز لقتله العالم الاسلامي من اقصاه الي اقصاه، لقد أبنه بغير الاسلوب المألوف في تأيين العظماء من رجال التاريخ، موجزا جميع خصائصه و مزاياه بقوله: لم يسبقه الأولون بعمل و لا يدركه الآخرون جاهد بين يدي رسول الله و جبريل عن يمينه و ميكائيل عن شماله، فجمع في هذه الكلمات القصار جميع خصائصه كانسان لا يضاهيه في جميع نواحيه انسان في مراحل التاريخ. و حينما انتقل الي الحديث عن نفسه دعا الناس الي بيعته، ولكن بهذا الاسلوب الذي لا يترك عذرا لمتخلف عنها، فقال:

انا ابن النبي الداعي الي الله و السراج المنير، و أنا من أهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا و افترض مودتهم و طاعتهم علي كل مسلم و مسلمة. و من اذهب الله عنه الرجس و طهره تطهيرا و فرض مودته و طاعته علي جميع الناس لابد و أن يكون قد تحلي بجميع الصفات الخيرة و الكريمة و من اولي بالخلافة و قيادة الأمة ممن جمع هذه الفضائل و ليس علي وجه الأرض يوم ذاك من هو اكرم علي الله منه و من اخه الحسين (ع). و لما أنهي خطابه قام عبيدالله بن العباس و قبل عبدالله فدعا الناس الي بيعته و قال: معاشر الناس، هذا ابن نبيكم و وصي امامكم فبايعوه فاستجاب الناس لهذه الدعوة المباركة و أعلنوا الرضا و الانقياد و قالوا: ما أحبه الينا و أوجب [ صفحه 502] حقه علينا و من احق بالخلافة و البيعة منه، و كان اول من تقدم اليه ليبايعه قيس بن سعد بن عبادة الانصاري فقال له: ابسط يدك ابايعك علي كتاب الله و سنة نبيه و قتال المحلين، فالتفت اليه الامام (ع) بعطف و رفق و قال أن البيعة علي كتاب الله و سنة نبيه تغني عن هذا الشرط لأن فيهما تبيان كل شي ء و هما يأمران بقتال المحلين و الباغين و المفسدين كما يأمران بالصلاة و الصيام و الزكاة و غيرها من الفرائض. و أقبل الناس يتسابقون علي بيعته و تمت البيعة في الكوفة و البصرة كما بايعه اهل الحجاز و اليمن و فارس و سائر المناطق التي كانت تدين بالولاء و البيعة لابيه. و قد اجمع المؤرخون علي أن خلافته

كانت في صبيحة اليوم الذي دفن فيه اميرالمؤمنين، و لما بلغ نبأ البيعة الي معاوية و أتباعه بدأوا يعملون بكل ما لديهم من قوة و مكر و خداع لافساد امره و التشويش عليه. فقد جاء في شرح النهج و مقاتل الطالبيين و غيرهما أن معاوية دس رجلا من حمير الي الكوفة و رجلا من بني عبدالغني الي البصرة فأخذا و قتلا، و كتب الحسن (ع) الي معاوية: أما بعد فانك دسست الي الرجال كأنك تحب اللقاء لا اشك في ذلك فتوقعه ان شاء الله، و قد بلغني انك شمت بما لم يشمت به ذو حجي و انما مثلك في ذلك كما قال القائل: فانا و من قد مات منا لكالذي يروح و يمسي في البيت ليفتدي فقل الذي يبقي خلاف الذي مضي تجهز لاخري مثلها فكأن قد و كتب عبدالله بن العباس من البصرة الي المعاوية: اما بعد فانك و دسك اخا بني عبدالغني الي البصرة تلتمس من غفلات قريش بمثل ما ظفرت به من يمانيتك كما قال امية بن الصلت: لعمرك اني و الخزاعي طارقا كنعجة عاد حتفها تتحفر اثارت عليها شفرة بكراعها فظلت بها من آخر الليل تنحر [ صفحه 503] شمت بقوم من صديقك اهلكوا اصابهم يوم من الدهر اعسر فأجابه معاوية بكتاب جاء فيه: اما بعد فان الحسن بن علي (ع) قد كتب الي بنحو ما كتبت به و أنبأني بما لم اخبر ظنا و سوء رأي و انك لم تصب مثلكم و مثلي، ولكن مثلنا ما قاله طارق الخزاعي يجيب امية عن هذا الشعر: فوالله ما ادري و اني لصادق الي اي من يظنني اتعذر اعنف ان كانت زبينة اهلكت

و نال بني لحيان شر فانقروا و قال ابن ابي الحديد في شرح النهج: ان عبدالله بن عباس كتب الي الامام الحسن من البصرة كتابا يحرضه فيه علي قتال معاوية، و جاء في كتابه اليه: اما بعد فان المسلمين و لوك امرهم بعد ابيك فشمر للحرب و جاهد عدوك و قارب اصحابك و اشتر من الظنين دينه بما لا يثلم لك دنياه. و في رواية ثانية لعلها أصح من الأولي و اشتر من الظنين دينه بما لا يثلم دينك وول اهل البيوت و الشرف تستصلح به عشائرهم حتي يكون الناس جماعة، فان بعض ما يكره الناس ما لم يتعد الحق و كانت عواقبه تؤدي الي ظهور العدل و عز الدين خير من كثير مما يحبه الناس اذا كانت عواقبه تدعو الي ظهور الجور و ذل المؤمنين و عز الفاجرين، و اقتد بما جاء عن ائمة العدل، فقد قالوا: لا يصلح الكذب الا في حرب أو اصلاح بين الناس فان الحرب خدعة و لك في ذلك سعة اذا كنت محاربا ما لم تبطل حقا. و أضاف الي ذلك: أن اباك انما رغب عنه الناس الي معاوية لأنه واسي بينهم في الفي ء و سوي بينهم في العطاء فثقل عليهم، و اعلم بأنك تحارب من حارب الله و رسوله في ابتداء الاسلام حتي ظهر امر الله، فلما وحد الرب و محق الشرك و عزالدين اظهروا الايمان و قرأوا القرآن مستهزئين بآياته و قاموا الي الصلاة و هم كسالي و أدوا الفرائض و هم لها كارهون. و لما رأوا أنه لا يعز في الدين الا الاتقياء الابرار و سمو بسيما الصالحين ليظن المسلمون بهم خيرا فما زالوا بذلك حتي

شركوهم في امانتهم و قالوا حسابهم [ صفحه 504] علي الله، فان كانوا صادقين فاخواننا في الدين و ان كانوا كاذبين بما اقترفوا هم الأخسرون، و قد منيت بأولئك و بأبنائهم و أشباههم، و الله ما زادهم طول العمر الا غباء و لا زادهم ذلك لأهل الدين الا مقتا، فجاهدهم و لا ترض دنية و لا تقبل خسفا، فان عليا اباك لم يجب الي الحكومة حتي غلب علي امره، و هم يعلمون انه اولي بالأمر ان حكموا بالعدل فلما حكموا بالهوي رجع الي ما كان عليه حتي اتي اجله، و لا تخرجن من حق انت اولي به حتي يحول الموت دون ذلك و السلام. و قد عالج عبدالله بن عباس في هذه الرسالة مشكلة الصراع بين بني امية و علي بن ابي طالب، و الاسباب التي ادت الي خذلان الامام و نجاح معاوية فيما كان يخطط له، و أعطي صورة واضحة عن موقف الامويين من الاسلام منذ أن بزغ فجره الي أن دخلوا فيه مكرهين و لبسوا ثياب الصديقين و هم يضمرون الشرك و الالحاد، و بالرغم من انهم تستروا بالاسلام و قرأوا القرآن و أقاموا الصلاة و توسموا بسيما الصالحين، فقد كانت تبدو منهم بين الحين و الآخر فلتات تدل علي شركهم و الحادهم و حقدهم علي الاسلام. و قد حدث الرواة عن معاوية مع أنه كان اقدرهم علي الدجل و النفاق، و كما جاء في مروج الذهب للمسعودي و المجلد الثاني من شرح النهج أن مطرف ابن المغيرة بن شعبة قال: وفدت مع ابي المغيرة علي معاوية و كان ابي يأتيه و يتحدث عنده ثم ينصرف الي فيذكر معاوية و عقله و يعجب مما يري

منه، و فيما كان هذا حاله و اذا به قد اقبل ذات ليلة فأمسك عن العشاء و رأيته مغتما فانتظرته ساعة و ظننت انه لشي ء حدث فينا أو علمناه، فقلت له: مالي اراك مغتما منذ الليلة، قال: يا بني اني جئت من اخبث الناس، قلت له: و ما ذاك؟ فقال: لقد خلوت بمعاوية و قلت له قد بلغت مناك يا أميرالمؤمنين، فلو اظهرت عدلا و بسطت خيرا فانك قد كبرت و لو نظرت الي اخوتك من بني هاشم فوصلت ارحامهم فوالله ما عندهم اليوم شي ء نخافه، فقال لي: هيهات هيهات، ملك اخو تيم و فعل ما فعل فوالله ما عدا ان هلك ذكره الا أن يقول قائل ابوبكر: ثم ملك اخو عدي فاجتهد و شمر عشر سنين فوالله ما عدا ان [ صفحه 505] هلك فهلك ذكره الا أن يقول قائل عمر بن الخطاب، ثم ملك اخونا عثمان بن عفان و لم يكن احد في مثل سنيه فعمل ما عمل به، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره و ذكر ما فعل به، و ان اخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات أشهد أن محمدا رسول الله فأي عمل يبقي بعد هذا لا ام لك الا دفنا دفنا [6] . و مهما كان الحال فلقد استلم الامام ابومحمد الحسن بن علي السلطة بعد ابيه و قام بأفضل ما يمكن القيام به في ذلك الجو المشحون بالفتن و المؤامرات، فأقر الولاة علي اعمالهم و أوصاهم بالعدل و الاحسان و محاربة البغي و العدوان، و مضي علي نهج ابيه و سيرته، و كان في جميع حالاته خلال خلافته القصيرة و قبلها و بعدها امتدادا لجده المصطفي

و أبيه المرتضي في سياسته و سيرته. و بالرغم من أنه يعرف معاوية و ما كانت تنطوي عليه تلك الأسرة من الكفر و الالحاد و العداء لمحمد و رسالته و العمل لاحياء مظاهر الجاهلية بجميع اشكالها، مع علمه بذلك كله فقد أبي أن يعلن الحرب عليه الا بعد أن كتب اليه المرة تلو المرة يدعوه الي جمع الكلمة و توحيد امر المسلمين حتي لا يبقي لأحد عذر أو حجة في التخلف عن نصرته، فكتب اليه مع رجلين من اهل الكوفة في جملة كتبه و رسائله الرسالة التالية: و من الحسن بن علي (ع) الي معاوية بن أبي سفيان سلام عليك فاني احمد الله الذي لا اله غيره، اما بعد فان الله جل جلاله بعث محمدا رحمة للعالمين و منة للمؤمنين و كافة الناس اجمعين لينذر من كان حيا و يحق القول علي الكافرين فبلغ رسالات الله و قام بأمر الله حتي توفاه الله غير مقصر و لا و ان و بعد ان اظهر الله به الحق و محق به الشرك و خص قريشا به خاصة فقال له: و انه لذكر لك و لقومك، فلما توفي تنازعت سلطانه العرب فقالت قريش نحن قبيلته و أسرته و أولياؤه و لا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد و حقه فرأت العرب ان القول ما قالت قريش و ان الحجة لهم في ذلك علي من نازعهم امر محمد فأنعمت لهم [ صفحه 506] و سلمت اليهم، ثم حاججنا نحن قريشا بمثل ما حاججت به العرب، فلم تنصفنا قريش انصاف العرب لها، انهم اخذوا هذا الأمر دون العرب بالانصاف و الاحتجاج، فلما صرنا آل بيت محمد و أولياءه الي محاجتهم و

طلب النصف منهم باعدونا و استولوا علي الخلافة بالاجتماع علي ظلمنا و مراغمتنا و العنت منهم لنا فالموعد الله و هو الولي النصير. و لقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا و سلطان نبينا و ان كانوا ذوي فضيلة و سابقة في الاسلام و أمسكنا عن منازعتهم مخافة ان يجد المنافقون و الاحزاب في ذلك مغمزا يثلمونه به أو يكون لهم بذلك سبب الي ما ارادوا من افساده و اليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية علي امر لست من اهله لا بفضل في الدين و لا اثر في الاسلام محمود و أنت ابن حزب من الاحزاب و ابن اعدي قريش لرسول الله (ص) و لكتابه الكريم، و الله حسيبك فسترد و تعلم لمن عقبي الدار، و بالله لتلقين عن قليل ربك، ثم ليجزينك بما قدمت يداك و ما الله بظلام للعبيد. ان عليا لما مضي لسبيله رحمة الله عليه يوم قبض و يوم من الله عليه بالاسلام و يوم يبعث حيا و لاني المسلمون الأمر من بعده، فاسأل الله ان لا يؤتينا في هذه الدنيا الزائلة شيئا ينقصناه في الآخرة بما عنده من كرامة، و انما حملني علي الكتابة اليك الاعذار فيما بيني و بين الله عزوجل في امرك، و لك في ذلك ان فعلته الحظ الجسيم و الصلاح للمسلمين فدع التمادي في الباطل و ادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي فانك تعلم اني احق بهذا الأمر منك عندالله و عند كل أواب حفيظ و من له قلب منيب و اتق الله ودع البغي و احقن دماء المسلمين و ادخل في السلم و الطاعة و لا تنازع الأمر اهله و من هو

احق به منك ليطفي ء الله النائرة و يجمع الكلمة و يصلح ذات البين، و ان انت ابيت الا التمادي في غيك سرت اليك بالمسلمين فحاكمتك حتي يحكم الله و هو خير الحاكمين. لقد كتب الامام الحسن هذه الرسالة و غيرها الي معاوية و هو يعلم بأنه لا يستجيب لطلبه و انه سيقف منه موقفا اكثر صلفا و وقاحة من مواقفه السابقة مع أبيه أميرالمؤمنين و امام المتقين لا سيما و قد نجح في مؤامرته التي وضعها لاغتياله [ صفحه 507] و استمالة القسم الاكبر من قادة اهل العراق الي جانبه، و هم بعد غيابه عنهم اكثر تفككا و تخاذلا و خيانة منهم بالأمس، لهذا و لغيره كان الامام ابومحمد الحسن علي يقين من أن معاوية سيكون اصلب عودا من الأمس و سيتصرف من منطق القوة التي اصبحت بيده و سيتقدم هو الي الحرب اذا لم يجده المكر و الخداع، و لقد كان علي بينة من كل ذلك ولكنه اراد أن يظهر للعالم الاسلامي ما يضمره هذا البيت للنبي و آله و للاسلام من حقد وعداء ورثهما من اجداده و أبيه و أمه آكلة الاكباد. و لقد اجاب معاوية علي رسالة الامام الحسن السبط هذه بجواب لم يدع وسيلة من وسائل المكر و الخداع و التضليل الا وشحن فيها رسالته، و حاول فيها أن يضع لنفسه فيها مخرجا مما خلط له تجاه الرأي العام الاسلامي و ان يحمل الحسن (ع) تبعة كل خلاف و شقاق كما يبدو ذلك من جوابه التالي: لقد جاء في جوابه: لقد بلغني كتابك و فهمت ما ذكرت به محمدا رسول الله من الفضل و هو احق الأولين و الآخرين بالفضل كله

قديمه و حديثه صغيره و كبيره، و قد والله بلغ و أدي و نصح و هدي حتي انفذ الله به من الهلكة و أنار به من العمي و هدي به من الجهالة و الضلالة فجزاه الله افضل ما جزي نبيا عن امته، و سلام الله عليه يوم ولد و يوم بعث و يوم قبض و يوم يبعث حيا، و قد ذكرت وفاة النبي و تنازع المسلمين الأمر من بعده و تغلبهم علي أبيك فصرحت بتهمة ابي بكر الصديق و عمر الفاروق و أبي عبيدة الأمين و جواري رسول الله و صلحاء المهاجرين و الانصار، فكرهت ذلك لك، انك امري ء عندنا و عند الناس غير الظنين و لا المسي ء و لا اللئيم، و أنا احب لك القول السديد و الذكر الجميل. و مضي يقول: ان هذه الأمة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم و لا سابقتكم و لا قرابتكم من نبيكم و لا مكانتكم من الاسلام، فرأت الأمة ان تخرج هذا الأمر لقريش لمكانها من نبيها و رأي صلحاء الناس من قريش و الانصار و غيرهم من سائر الناس و عوامهم أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها اسلاما و أعلمها بالله و أحبها اليه و أقواها علي أمر الله فاختاروا أبابكر و كان ذلك [ صفحه 508] رأي ذوي الدين و الفضل فأوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة و لم يكونوا متهمين و لا فيما أتوا بالمخطئين، و لو رأي المسلمون أن فيكم من يغني غناءه و يقوم مقامه و يذب عن حريم الاسلام ذبه ما عدلوا بالأمر الي غيره رغبة عنه ولكنهم عملوا في ذلك بما رأوه صلاحا للاسلام و أهله و الله يجزيهم عن الاسلام

و أهله خيرا. و قد فهمت الذي دعوتني اليه من الصلح، و الحال فيما بيني و بينك اليوم مثل الحال الذي كنتم عليها أنتم و أبوبكر بعد وفاة النبي (ص) فلو علمت انك اضبط مني للرعية و أحوط علي هذه الأمة و أحسن سياسة و أقوي علي جمع الأموال و أكيد للعدو لاجبتك الي ما دعوتني اليه و رأيتك لذلك أهلا، ولكني قد علمت أني أطول منك ولاية و أقدم منك بهذه الأمة تجربة و أكبر منك سنا فأنت أحق أن تجيبني الي هذه المنزلة التي سألتني فادخل في طاعتي و لك الأمر من بعدي و لك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ تحمله الي حيث أحببت، و خراج أي كور من العراق شئت معونة لك علي نفقتك يجيبها أمينك و يحملها اليك في كل سنة، و لك أن لا يستولي عليك و بالاساءة و لا تفض دونك الامور و لا تعصي في أمر أردت به طاعة الله أعاننا الله و اياك علي طاعته أنه سميع مجيب الدعاء. و مضي الراوي يقول: فلما سلمت كتاب معاوية الي الحسن (ع) قلت له أن الرجل سائر اليك فابدأه بالمسير حتي تقاتله في ارضه و بلاده، فاما أن تقدر أنه ينقاد اليك فلا والله حتي يري منا أعظم من يوم صفين فقال افعل، ثم قعد عن مشورتي و تناسي قولي. و كتب له معاوية رسالة ثانية بعد تلك الرسالة جاء فيها: أما بعد فان الله يفعل بعباده ما يشاء و لا معقب لحكمه و هو سريع الحساب فاحذر أن تكون منيتك علي أيدي رعاع الناس وائس من أن تجد فينا غميزة، و ان أنت

اعرضت عما أنت فيه و بايعتني وفيت لك بما وعدت و أجريت لك ما شرطت و أكون في ذلك كما قال اعشي بني قيس بن ثعلبة: و ان أحد أسدي اليك أمانة فاوف بما تدعي اذا مت وافيا و لا تحسد المولي اذا كان ذا غني و لا تجفه ان كان في المال فانيا [ صفحه 509] و جاء في آخر الكتاب: و لك الخلافة من بعدي فأنت اولي الناس بها. لقد اشتملت رسالة معاوية الأولي علي اللف و الدوران و المكر و الخداع و كان بارعا اقصي حدود البراعة في اساليبه، فبينما تراه فيها يمجد الحسن و أباه و يشيد بفضلهما و بما قدماه من تضحيات في سبيل الاسلام و يحاول أن يظهر بمظهر القديس الذي يقدر الفضل لأهله و لو كانوا من ألد اعدائه و يذوب في سبيل مصلحة الاسلام، يعود بعد هذا الاطراء الذي لا يصدر الا من الصالحين المؤمنين بالله و رسله و رسالاتهم ليغمز من أميرالمؤمنين و يجرده و لو من بعض ما وصفه به، فيقول: ان الأمة رأت أن تولي أقدمها اسلاما و أعلمها بالله و أحبها اليه و أقواها علي أمره فولت أبابكر حيث لم تجد من يغني غناءه و يقوم مقامه و يذب عن حريم الاسلام ذبه. ثم مضي يقول للحسن: أنا و أنت كأبيك و أبي بكر، فلو علمت بأنك اضبط مني للرعية و أحوط علي الأمة و أحسن سياسة و أقوي علي جمع الأموال و أكيد للعدو لأجبتك، و هذا يعني أن المؤهلات التي توفرت فيه لم تتوفر في الحسن بن علي (ع) كما لم تتوفر في أبيه شروط الخلافة يوم بايع الناس أبابكر فمصلحة الاسلام

تفرضه اليوم كما فرضت أبابكر بعد وفاة الرسول. و هذا الأسلوب الماكر لم يكن يستعمله مع أميرالمؤمنين من قبل و لم يخاطبه بمثله أما في عهد الحسن عليه السلام فلقد كان يتكلم من منطق القوة و بمنطق من كادت الأمور أن تكون ممهدة له، و القوي كما هي العادة يقول ما يشتهي و لا حرج عليه في ذلك، و قد اطمأن معاوية علي مصيره و علاقته و المتينة مع اكثر القادة كما تشير الي ذلك بعض رسائله لعماله كما جاء في شرح النهج، التي يقول فيها: و قد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم و عشائرهم، و قوله في بعض رسائله الي الحسن: و احذر أن تكون منيتك علي أيدي رعاع من الناس. و حاول في رسالته اغراء الحسن بالأموال و الخلافة من بعده و تضليل الرأي العالم الاسلامي بقوله: و لك أن لا تفض دونك الأمور و لا تعصي في أمر من [ صفحه 510] الأمور أردت بها طاعة الله كما سنتعرض لهذه الناحية خلال حديثنا عن صلح الحسن (ع). [ صفحه 511] الاستعداد للحرب و مهما كان الحال فقد اكد المؤرخون أن الحسن (ع) لم يتغير موقفه من معاوية و لم يلن لتهديده و وعوده و مغرياته، فكتب اليه: اما بعد فقد وصلني كتابك تذكر فيه ما ذكرت و تركت جوابك خشية البغي عليك و بالله اعوذ من ذلك فاتبع الحق تعلم اني من أهله و علي اثم أن أقول فاكذب و السلام. و لما وصله كتاب الحسن (ع) ادرك أن أساليبه و مغرياته لم تغير من موقفه شيئا، فكتب الي جميع عماله في بلاد الشام: أما بعد فاني أحمد اليكم الله الذي

لا اله غيره و الحمدلله الذي كفاكم مؤنة عدوكم و قتلة خليفتكم أن الله بلطفه و حسن صنيعه اتاح لعلي بن ابي طالب رجلا من عباده فاغتاله و قتله و ترك اصحابه متفرقين مختلفين و قد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الامان لانفسهم و عشائرهم فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم و جندكم و حسن عدتكم فقد اصبتم بحمد الله الثأر و بلغتم الأمل و أهلك الله أهل البغي و العدوان و السلام عليكم و رحمة الله. فاجتمعت اليه الوفود من كل الجهات و سار بهم باتجاه العراق؛ و يدعي المؤرخون أنه لما بلغ الحسن بن علي خبر مسيره و انه قد بلغ جسر منبج تحرك عند ذلك و كتب الي عماله يدعوهم الي التحرك و نادي مناديه في الكوفة يدعوهم الي الاجتماع في المسجد فأقبل الناس حتي امتلأ بهم فخرج الامام و صعد المنبر فأثني علي الله و صلي علي رسوله، ثم قال: لقد كتب الله الجهاد علي خلقه [ صفحه 512] و سماه كرها و أوصي المجاهدين بالصبر و وعدهم النصر و جزيل الأجر، ثم قال: ايها الناس انكم لستم نائلين ما تحبونه الا بالصبر علي ما تكرهون، و قد بلغني أن معاوية كان قد بلغه أنا ازمعنا علي المسير اليه فتحرك نحونا بجنده فاخرجوا رحمكم الله الي معسكركم بالنخيلة حتي ننظر و تنظرون و نري و ترون. فسكت الناس و لم يتكلم أحد منهم بحرف واحد، فلما رأي ذلك منهم عدي بن حاتم قام و قال: أنا ابن حاتم سبحان الله ما اقبح هذا المقام، ألا تجيبون امامكم و ابن بنت نبيكم اين خطباء مضر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة فاذا جد الجد

فمراوغون كالثعالب، اما تخافون مقت الله و عيبها و عارها، ثم استقبل الامام الحسن بوجهه و قال: أصاب الله بك المراشد و جنبك المكاره و وفقك لما تحمد وروده و صدوره قد سمعنا مقالتك و انتهينا الي امرك و أطعناك فيما قلت و ما رأيت و هذا وجهي الي معسكري فمن احب أن يوافيني فليواف، ثم مضي لوجهه و خرج من المسجد فركب دابته و كانت علي باب الجامع و أمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه و مضي هو الي النخيلة. ثم قال قيس بن سعد بن عبادة الانصاري، و معقل بن قيس الرباحي، و زياد بن صعصعة التيمي فأنبوا الناس و لاموهم علي تخاذلهم و حرضوهم علي الخروج و كلموا الحسن بمثل كلام عدي بن حاتم، فقال لهم: صدقتم رحمكم الله ما زلت اعرفكم بصدق النية و الوفاء و القبول و المودة و النصيحة فجزاكم الله خيرا، و خرج الناس الي النخيلة فلما تكامل عددهم لحق بهم الحسن و استخلف علي الكوفة المغيرة بن نوفل بن عبدالمطلب و أمره بأن يحرك الناس و يحثهم علي الخروج و الالتحاق بالجيش. و يروي المؤرخون انه لما تكامل الجيش خرج به الحسن (ع)، و قد حدده بعضهم بأربعين الفا و بعضهم بستين و بأكثر من ذلك، و لما نزل دير عبدالرحمن أقام به ثلاثة أيام، و دعا عبيدالله بن العباس و قال له: يا ابن العم اني باعث معك اثني عشر الفا من فرسان العرب و قرأ مضر الرجل منهم يريد الكتيبة فسر بهم علي الشاطي ء حتي تقطع الفرات و تنتهي الي مسكن وامض منها حتي تستقبل معاوية فألن لهم جانبك وابسط لهم وجهك و افرش لهم

جناحك و ادنهم [ صفحه 513] من مجلسك فانهم من ثقات أميرالمؤمنين فان انت لقيت معاوية فاحبسه حتي آتيك فاني علي اثرك وشيكا وليكن خبرك عندي كل يوم. و أرسل معه قائدين من خيره المسلمين اخلاصا و جهادا و تضحية في سبيل الله و هما قيس بن سعد بن عبادة و سعيد بن قيس الهمداني، و أمره أن لا يقطع امرا دونهما و أن يستشيرهما في جميع الأمور، و قال له: اذا انت لقيت معاوية فلا تقاتله حتي يكون هو البادي ء في القتال، فان اصبت فقيس بن سعد علي الناس و ان اصيب فالقيادة من بعده لسعيد بن قيس. و سار عبيدالله بالناس يقطع الصحاري حتي انتهي الي الفلوجة، و منها الي مسكن و كان معاوية قد نزل عليها، فنزل عبيدالله بن العباس بازائه، و في اليوم الثاني وجه معاوية بخيل اغارت علي جيش عبيدالله فوقفوا لها وردوها علي أعقابها، و أيقين معاوية تصميم الحسن (ع) علي مواصلة القتال بعد أن رفض العروض المغرية التي قدمها اليه في رسائله، و كان يؤمن بوحي من طبيعته المفطورة علي الغدر و المكر و الخداع و الكذب و الاحتيال بأن أقوم الناس خلقا و أشدهم عزيمة و أتقاهم نفسا قد تستغويه الاطماع و يذله الحرص فرسم سياسته علي الاغراء و التغريب و التخويف، و كان يقول: و الله لاستميلن بالدنيا ثقاة علي (ع) و لاقسمن فيهم الأموال حتي تغلب دنياي آخرته، و استطاع بذلك أن يستميل اليه اكبر عدد من جند أميرالمؤمنين وقادته، و لم يبق معه الا الصفوة من القادة و الجند و هم قلة لا تغني شيئا في ساعات المحنة و لذلك اضطر الي قبول التحكيم

و الحكم الذي اختاره أهل العراق مع علمه بما تنطوي عليه تلك الدعوة من المفاسد و بما كان يضمره له الأشعري من كراهية و بما كان يتمناه لخلافته من سوء، ولكنه كما ذكرنا من قبل لما رأي نفسه تجاه أمر واقع و رأي أن المضي في الحرب و رفض التحكيم يؤدي الي هلاك الصفوة المختارة من اصحابه و ربما الي قتله و انتصار معاوية، و يستطيع معاوية عند ذلك ان يقول: لقد رفض ابن ابي طالب حكم القرآن و الرجوع الي القرآن فكانت نهايته ما ترون و سيجد من يسمع له ذلك، فاختار أميرالمؤمنين اهون الشرين و وافق علي التحكيم، مع ما انتهت اليه نتيجته فلقد كان اهون الشرين و أيسر الأمرين. [ صفحه 514] و كان الحسن (ع) كأبيه خلال خلافته القصيرة فلم ينثر علي جنده الأموال نثرا كما كان يفعل معاوية و لم يشتر ضمائر القادة و الطامعين، و لم يستعن بالباطل علي الحق، بل أراد من الناس ان يقاتلوا معه انتصارا للحق و طمعا في الأجر فلم يتحمس له الا أهل الصدق و الوفاء و الدين و قليل ما هم لذلك فان معاوية لما أرسل خيله لقتال الجيش الذي يقوده عبيدالله ردها أهل العراق علي اعقابها و بمجي ء الليل ارسل معاوية رسالة الي عبيدالله جاء فيها: أن الحسن قد ارسلني في الصلح و سلم الأمر لي فان دخلت في طاعتي الآن تكن متبوعا خير لك من أن تكون تابعا بعد غد ولك أن اجبتني الآن أن اعطيك ألف ألف درهم اعجل لك في هذا الوقت نصفها و عندما ادخل الكوفة ادفع لك النصف الثاني. و يدعي اكثر المؤرخين أن عبيدالله انسل من قاعدته

و دخل عسكر معاوية و معه بضعة آلاف ممن كانوا معه فوفي له بما وعده، و انتبه الناس بدخول النهار فانتظروا عبيدالله ليصلي بهم فلم يجدوه فصلي بهم قيس بن سعد، و لما تأكدوا من خبره خطبهم قيس و ذكر عبيدالله فنال منه و أمرهم بالصبر و الثبات و عرض عليهم الحرب و مناهضة معاوية مهما كان الحال فأجابوه لذلك فنزل عن المنبر و مضي بهم القتال معاوية فقابلهم جيشه بقيادة بسر بن ارطاة، و بث دعاته بين أصحاب قيس يذيعون أن اميرهم عبيدالله مع معاوية في خبائه و الحسن بن علي قد وافق علي الصلاح فعلام تقتلون انفسكم. و هنا يدعي المؤرخون أن قيسا قال لاهل العراق: اختاروا احدي اثنتين اما القتال بدون امام و أما ان تبايعوا بيعة ضلال، فقالوا بأجمعهم: بل نقاتل بدون امام، ثم اتجهوا نحوهم و اشتبك الفريقان في معركة ضارية كانت نتائجها لصالحهم و تراجع بسر بمن معه الي معسكراتهم مخذولين مقهورين. و في رواية مقاتل الطالبيين ان قيس بن سعد بعد أن صلي بالناس صلاة الصبح قام خطيبا فيمن بقي من الجيش فهدأ روعهم و دعاهم الي الثبات و جهاد معاوية، و كان مما قاله في خطابه: أن هذا و أباه و أخاه لم يأتوا بيوم خيرا قط، ان اباه عم رسول الله خرج مع المشركين الي بدر فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري فأتي به رسول الله (ص) فأخذ منه فداءه و قسمه بين المسلمين، و ان [ صفحه 515] ابنه عبدالله ولاه أميرالمؤمنين علي البصرة فسرق بيت المال و ذهب به الي مكة فاشتري به الجواري و زعم أن ذلك يحل له و لاسرته، و

ان هذا ولاه علي اليمن فهرب من بسر بن ارطاة و ترك ولديه حتي قتلا و صنع الآن ما صنع، و ترك حديثه هذا اثرا عميقا في نفوس سامعيه فتنادوا من كل جانب الحمدلله الذي اخرجه من بيننا و عاهدوه علي المضي في الحرب حتي النفس الأخير. و كان موقف عبيدالله من جملة العوامل التي تسببت في تفكك جيش الامام و تخاذله و فتح لهم أبواب الغدر و الخيانة و التسلل الجماعي، و تذرع بذلك ذوو النفوس الضعيفة و القلوب المريضة لان عبدالله بن عمه و أولاهم بمناصرته و التضحية في سبيله و قديما قيل: اذا فاتك الأدني الذي أنت حزبه فلا عجب أن أسلمتك الأباعد كما كان لغدر عبيدالله بن العباس في نفس الامام (ع) حزن بالغ و أسي مرير لأنه فتح الباب لغيره و تستر بغدره و خيانته جميع الطامعين و الخونة من أهل العراق و نشط أنصار معاوية في نشر الترهيب و الترغيب في صفوف الجيش، و لم يتركوا وسيلة لصالح معاوية الا و استعملوها و استمالوا اليهم حتي رؤساء ربيعة الذين كانوا حصنا لأميرالمؤمنين (ع) في صفين و غيرها من المواقف، فلقد راسله خالد بن معمر احد زعمائها البارزين و بايعه عن ربيعة كلها و بهذه المناسبة كما يدعي بعض المؤرخين قال احد الشعراء يخاطب معاوية: معاوي اكرم خالد بن معمر فانك لولا خالد لم تؤمر كما راسله و بايعه عثمان بن شرحبيل احد زعماء بني تميم و شاعت الخيانة بين جميع كتائب الجيش و قبائل الكوفة و أدرك الامام أبومحمد الحسن كل ذلك و صارحهم بالواقع الذي لم يعد يجوز السكوت عنه فقال: يا أهل الكوفة انتم الذين اكرهتم ابي علي

القتال و الحكومة ثم اختلفتم عليه و قد اتاني أن أهل الشرف منكم قد اتوا معاوية و بايعوه فحسبي منكم لا تغروني في ديني و نفسي. [ صفحه 516]

معاوية بين الصلح و القتال

لقد اطمأن معاوية بأن المعركة فيما لو وقعت بين أهل الشام و أهل العراق ستكون لصالحه و سيكون الحسن بن علي (ع) و المخلصون له من جنده خلال أيام معدودات بين قتيل و أسير تحت رحمته و أن السلطة صائرة اليه لا محالة، ولكن استيلاءه عليها بقوة السلاح لا يعطيها الصبغة الشرعية التي كان يحاول التمويه بها علي الناس، هذا بالاضافة الي ما قد يحدث من المضاعفات الخطيرة التي ستجعله في ضيق من نتائجها و ذلك فيما لو أصيب الحسن و الحسين خلال المعارك و هما سيدا شباب أهل الجنة و ريحانتا جدهما و أحب الخلق اليه بالنصوص المتواترة التي لا يجهلها أحد من المسلمين. لذلك و لغيره كان معاوية علي ما يبدو حريصا علي أن لا يتورط مع الحسن بن علي (ع) في الحرب ولو كان مطمئنا لنتائجها، فعرض عليه فكرة الصلح في أولي رسائله و ترك له أن يشترط و يطلب ما يريد، و راح يردد حديث الصلح في مجالسه و بين انصاره في جيش العراق و يأمرهم باشاعته و كاتب القادة و الرؤساء به ليصرف انظارهم عن الحرب و يبث بينهم روح التخاذل و الاستسلام للأمر الواقع. و كانت فكرة الصلح كما ذكرنا مغلفة بلون ينخدع له الكثيرون من الناس و يفضلونه علي الحرب و القتال، فلقد عرضها في رسالته الأولي علي الحسن (ع) و أشاعها بين أهل العراق علي أن لا يقضي امرا من الأمور بدون رأيه و لا يعصيه [

صفحه 517] في أمر اريد به طاعة الله و رسوله و ترك له مع ذلك ان يقترح ما يريد، كل ذلك لعلمه بأنها ستصادف بهذه الصياغة قبولا من الكثيرين و سيتبع ذلك انقسام في صفوف الجيش يضطره الي الصلح لانه اهون الشرين كما التجأ والده من قبل الي قبول التحكيم و الرضا بالاشعري حكما لاهل العراق في مقابل ابن العاص لانه أقل خطرا و ضررا من المضي في الحرب مع انحياز القسم الأكبر من الجيش الي جانب فكرة التحكيم التي وضعها معاوية بعد أن ضاق عليه أمره و كاد ان يقع اسيرا بيد الاشتر و من معه من الجنود البواسل. و بالاضافة الي أن فكرة الصلح بتلك الشروط ستكون سلاحا بيد الخونة من أهل العراق ستكون أيضا عذرا مقبولا لمعاوية فيما لو كانت الحرب و أصيب الحسنان و خيار الصحابة عند السواد الاعظم من الناس. و كان الأمر كما قدر معاوية فقد ادت فكرة الصلح بتلك الصيغة الي التشويش و الاضطراب في صفوف الجيش و الي تسلل عبيدالله بن العباس و عدد من القادة و زعماء العشائر الي معاوية و اتصال بعضهم به عن طريق المراسلة، و كان هو بدوره بما لديه من وسائل الاعلام يرسل الي الحسن بجميع اخبارهم و تصرفاتهم ليقطع امله من نتائج الحرب و لا يبقي له خيار في الصلح و كان الأمر كذلك كما سنثبت ذلك بالارقام. و قال الشيخ المفيد في ارشاده و الطبرسي في اعلام الوري: أن أهل العراق كتبوا الي معاوية بالسمع و الطاعة و استحثوه علي السير نحوهم و ضمنوا له تسليم الحسن اليه اذا شاء عند دنوه من معسكرهم أو الفتك. و جاء في علل

الشرائع أن معاوية دس الي عمرو بن حريث و الأشعث بن قيس و حجار بن ابجر و شيث بن ربعي و وعد من يقتل الحسن بمائة ألف و قيادة جند من أجناد الشام و بنت من بناته، و لما بلغ الحسن ذلك كان لا يخرج بدون لامة حربه و لا ينزعها حتي في الصلاة و قد رماه أحدهم بسهم و هو يصلي فلم يثبت فيه. و بلا شك لقد كان اغتياله علي يد العراقيين ليسلم له الأمر و يخلو له الجو [ صفحه 518] بدون قتال اذا تعذر الصلح كان من جملة امانيه و مخططاته حتي لا يضطر الي قتاله و يتحمل مسؤولية قتله و قتل آله و أنصاره تجاه الرأي العام الاسلامي الذي لا يغفر له عملا من هذا النوع مهما كانت الظروف. و هذا لا يعني أنه كان يفكر أن يتنازل عن أهدافه و مصالحه مجاراة للرأي العام أو للاسلام، فالسلطة كانت اغلي و أثمن عنده من كل شي ء و قد استباح الكثير من المقدسات في سبيلها و قتل آلاف الابرياء و الصلحاء حيث وجد ذلك عقبة في طريق الوصول اليها أو استقرارها، ولكنه كان لخبرته الواسعة بأساليب المكر و الخداع و التضليل يختار منها الانفع. و لم بكن الامام أبومحمد الحسن (ع) يفكر بصلح معاوية و لا بمهادنته غير أنه بعد ان تكدست لديه الاخبار عن تفكك جيشه و انحياز اكثر القادة لجانب معاوية اراد ان يختبر نواياهم و يمتحن عزيمتهم فوقف بمن كان معه في ساباط و لوح لهم من بعيد بالصلح و جمع الكلمة فقال: فو الله اني لارجو ان اكون انصح خلق الله لخلقه و ما اصبحت محتملا علي

احد ضغينة و لا مريدا له سوءا و لا غائلة، الا و أن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، الا و اني ناظر لكم خيرا من نظركم لانفسكم فلا تخالفوا امري و لا تردوا علي رأيي غفرالله لي و لكم و أرشدني و اياكم لما فيه محبته و رضاه. و يدعي الرواة انه لما نزل نظر الناس بعضهم لبعض و قالوا ما ترونه يريد بما قال، قالوا: نظنه يريد ان يصالح معاوية و يترك الأمر اليه كفر والله الرجل ثم شدوا علي فسطاطه فاتنهبوه حتي اخذوا مصلاه من تحته، و شد عليه عبدالرحمن بن عبدالله الازدي فنزع مطرفه عن عاتقه و بقي جالسا متقلدا لسيفه بدون رداء فدعا بفرسه و ركبه و أحدق به طوائف من خاصته فمنعوا عنه من اراده، ثم استدعي ربيعة و همدان فطافوا به و منعوا الناس عنه، فلما مر بمظلم ساباط قام اليه رجل يقال له جراح بن سنان و بيده معول فأخذ بلجام فرسه و قال: الله أكبر يا حسن لقد اشرك أبوك ثم اشركت من بعده و طعنه بمعول فوقعت ضربته في فخذه فشقته و سقط الي الأرض بعد أن ضرب الذي طعنه بسيف كان في يده و تكاثر عليه جماعة فتقلوه و حمل الحسن علي سرير الي المدائن [ صفحه 519] و بها سعيد بن مسعود الثقفي و كان أميرالمؤمنين قد ولاه عليها، و أقام بها الحسن اياما يعالج نفسه، و أرسل اليه معاوية عبدالله بن عامر و عبدالرحمن بن سمرة فزهداه في الأمر و أعطياه كل ما شرطه معاوية علي نفسه و انصرف قيس بمن معه الي الكوفة كما انصرف اليها الحسن

و أقبل معاوية قاصدا الكوفة و تم الصلح بينهما كما جاء في بعض روايات شرح النهج. و قال اليعقوبي في المجلد الثاني من تاريخه: ان معاوية ارسل الي قيس بن سعد الف الف درهم علي أن يصير اليه أو ينصرف عنه فرفضها، فأرسلها معاوية الي عبيدالله بن العباس فقبلها و مال معه الي معاوبة ثمانية آلاف ممن كانوا معه، و أقام قيس علي محاربته، و كان معاوية خلال تلك الفترة يدس الي عسكر الحسن من يتحدث أن قيس بن سعد قد صالح معاية و صار اليه، و يدس في نفس الوقت الي عسكر قيس بأن الحسن قد صالح و سلم له الأمر، و أرسل الي الحسن المغيرة بن شعبة و عبدالله بن عامر بن كريز و عبدالرحمن بن ام الحكم و هو بالمدائن فتحدثوا اليه و خرجوا من مجلسه و هم يقولون بصوت يسمعه الناس: ان الله قد حقن الدماء بابن رسول الله و سكن به الفتنة، و أجاب الي الصلح، فاضطرب العسكر و لم يشك الناس في صدقهم فوثبوا بالحسن و انتهبوا مضاربه و ما فيها فركب فرسه و مضي فكمن له الجراح بن سنان الاسدي فجرحه بمعول و قبض الحسن علي لحية الجراح فلوها فدق عنقه، و حمل الحسن الي المدائن و قد نزف نزفا شديدا و اشتدت به العلة فافترق الناس عنه و قدم معاوية الي العراق فغلب علي الأمر و الحسن عليل شديد العلة فلما رأي أن لا قوة به و افترق عنه اصحابه صالح معاوية و صعد المنبر فحمد الله و أثني عليه و قال: أيها الناس ان الله هداكم بأولنا و حقن دماءكم بآخرنا و قد سالمت معاوية و

ان ادري لعله فتنة لكم. و يبدو من رواية اليعقوبي ان الحسن بقي مصرا علي الحرب الي آخر لحظة و ان وفد معاوية لم يصل معه الي نتيجة بخصوص الصلح، و قد استعمل معاوية أساليب الخداع و التضليل في اعلانه عن وقوع الاتفاق بين الطرفين كما يوحي بذلك قول اليعقوبي أن معاوية قدم العراق و غلب علي الأمر و الحسن عليل شديد [ صفحه 520] العلة و ان معاوية لم يجد مقاومة تمنعه من دخول العراق و احتلاله، و ان الحسن لما رأي ذلك لم يكن له خيار في تسليمه الأمر. و تختلف رواية ابن الجوزي في تذكرته عن روايتي شرح النهج و اليعقوبي، فقد جاء فيها أن قيادة الفرقة التي ارسلها الامام الحسن (ع) كانت بقيادة قيس بن سعد، و روي عن الشعبي انه قال: بينما كان الامام في السرادق الذي اعد له بالمدائن و اذا بالمنادي ينادي في أوساط عسكر الامام أبي محمد أن قيسا قد قتل فانفروا فنفروا الي سرادق الحسن (ع) فنازعوه حتي اخذوا بساطا كان تحته و طعنه رجل بمشقص فأدماه فازدادت رغبته في الدخول في الجماعة و ذعر منهم فدخل المقصورة التي في المدائن بالبيضاء و كان الأمير علي المدائن سعد بن مسعود عم المختار ابي عبيدة، فقال المختار لعمه و كان شابا: هل لك في الغناء و الشرف، قال و ما ذاك؟ قال: تستوثق الحسن و تسلمه الي معاوية، فقال له سعد بن مسعود: قاتلك الله أثب علي ابن رسول الله و أوثقه و أسلمه الي ابن هند بئس الرجل أنا ان فعلت ذلك. و روي عن طبقات ابن سعد أن المختار قال لعمه: هل لك في أمر تسود به العرب، قال:

و ما هو؟ قال: تدعي اضرب عنق الحسن و أذهب به الي معاوية، فقال له: قبحك الله ما بهذا نجازي بلاء أهل البيت، و مضي يقول: و لما رأي الحسن تفرق الناس عنه و اختلاف أهل العراق عليه و غدر اهل الكوفة به رغب في الصلح و كان معاوية قد كاتبه يدعوه اليه فلم يجبه. و هذه المرويات علي ما بينها من اختلاف في المضمون كلها تؤكد علي أن معاوية كان يعمل هو و زبانيته بكل ما لديهم من وسائل المكر و الخداع و الاحتيال علي تفتيت جيش العراق و بث الذعر و الخوف و التخاذل في صفوفه و شراء قادته و زعماء العشائر بالأموال و الوعود المغرية، و تؤكد اكثر المصادر ان الامام الحسن (ع) بقي مصرا علي القتال بالرغم من انه كان علي صلة بكل ما كان يجري و يدور بين معاوية و بين اكثر القادة و زعماء العشائر ولكنه بعد ان هوجم و هو في فسطاطه و طعن في فخذه و نهب المهاجمون امتعته و لم يبق معه من يطمئن اليهم سوي اخوته و أهل بيته و عدد محدود من القادة و الجنود و رأي أن القتال يعرضهم [ صفحه 521] الي أشد المخاطر وافق علي الصلح الذي كان ينشده معاوية و يفضله علي جميع الحلول لأنه يستطيع التضليل به علي الجماهير كما ذكرنا من قبل. و لعل الذين هاجموا الحسن (ع) و نهبوا امتعته و طعنوه في فخذه كما نصت علي ذلك رواية ابن الجوزي التي ربما تكون اقرب الي الصحة من غيرها، لعلهم كانوا رسل معاوية لهذه الغاية، و ليس ذلك ببعيد علي ابن هند و زبانيته الذين مارسوا كل

انواع الفتن و الغدر حتي بلغوا القمة في غدرهم و خيانتهم لكل ما جاء به الاسلام من سنن و أخلاق و آداب و تشريعات كما ينص علي ذلك تاريخهم الحافل بالمخازي و المنكرات. و مهما كان الحال فقد تم الصلح بعد أن مر الامام بهذه التجارب المريرة و مع أهل الكوفة و قادة حنده و كان امرا لا مفر منه و لا خيار للحسن (ع) فيه حرصا منه علي مصلحة الاسلام العليا التي كان مسيرا لها و لا يتحرك الا في حدودها كما كان ابوه من قبله و أخوه الحسين من بعده، و لو مضي الحسن (ع) بتلك الفئة القليلة من اخوته و أهل بيته و أصحابه البررة و حارب معاوية مع تخاذل جيشه. الذي عبثت به دسائس معاوية و مغرياته كما تعبث النار في الهشيم لكانت نهايته المحتومة الاسر أو القتل و ربما يتم ذلك علي يد أهل العراق بالذات، و لا يقتل الحسن حتي يقتل معه اخوته و خلص شيعته، و لو جري ذلك لوقف ابن هند و ابن النابغة علي منابر المسلمين في كل بلد يقولان للناس: لقد عرضنا علي الحسن الصلح و أن يكون هو الخليفة في الواقع و معاوية هو المنفذ لا نقطع امرا دونه و لا نخالفه في مرضاة الله، و له مع ذلك الخلافة و في مستقبل حياته خالصة لا ينازعه فيها منازع و هذه رسائلنا اليه بهذا الخصوص، ولكنه ابي الا الحرب و اراقة الدماء. و لو فعل معاوية ذلك لوجد الأكثرية الساحقة من المسلمين الي جانبه يباركون قوله و يحملون الحسن (ع) مسؤولية كل ما حدث، و بلا شك فان الامام أبامحمد الحسن (ع) قد ادرك جميع

هذه الظروف و أحاط بكل ما يترتب علي المضي في الحرب و المصالحة من نتائج و مفاسد و بالتالي ادرك و أن التنازل عن السلطة علي ما فيه من سوء أنفع لمصلحة الاسلام و أقل ضررا و فسادا من المضي في القتال بذلك الجند المتخادل التي انتشرت فيه الخيانة بين [ صفحه 522] جميع فئاته. لقد كان فيتنازله عن السلطة في ذلك الجو المحموم منتهي الحكمة و الحنكة و السياسة الرشيدة كما كان أبوه أميرالمؤمنين من قبل موفقا في قبول التحكيم الذي فرض عليه بحد السيوف و أسنة الرماح. هذا بالاضافة الي أنه لو مضي بمن معه و حارب معاوية بتلك الفئة القليلة لكان حاله كحال غيره من العلويين الذين نهضوا في ظروف مختلفة خلال العصور الاسلامية يهتفون بالاصلاح و يدعون اليه، و ثم غلبوا علي امرهم، و لم يبق من ذكرهم الا اسماؤهم في مجاميع التاريخ و الانساب. و ما يدرينا فيما لو قتل الحسن و جميع أهل بيته و قتل من كان علي رأيه من خيار المسلمين بعد أن ندبهم معاوية الي الصلح، ما الذي يمنع معاوية و هو العدو اللدود للاسلام و لكل ما جاء به من المبادي ء و المثل و قد كان صدره ضيقا و الحقد يعبث في نفسه لان محمدا لا يزال يذكر في كل يوم عشرات المرات من فوق المنابر و المآذن في أوقاف الصلاة و في جميع المناسبات و قد طوي التاريخ اسلافه و من تعاقبوا علي الحكم من قبله كما جاء في رواية المروج للمسعودي و شرح نهج للمعتزلي [7] ما يدرينا فيما لو قتل الحسن و اخوته و أهل بيته و الصفوة المختارة و من شيعته،

ماذا يصنع معاوية و رجاله المنتصرون كزياد بن عبيد و ابن النابغة و المغيرة بن شعبة و مسلم بن عقبة و أمثال هؤلاء من عتات بني امية بمقدسات الاسلام و مبادي ء الاسلام، و هل هناك ما يمنع هؤلاء الذين فعلوا ما فعلوا من الجرائم و الموبقات أن يعملوا علي محق الاسلام أو تحويره و طمس معالمه و تحقيق احلام ابي سفيان و الحكم بن العاص و بنيه و العتاة المردة من بني أمية و التاريخ وحده خير شاهد علي أن معاوية و من كان معه من المستهترين و المتسترين بالاسلام لولا البقية الباقية من أهل البيت و الصفوة المختاره من [ صفحه 523] المسلمين لغيروا و بدلوا و حققوا لاسلافهم ما كانوا يصبون اليه في حربهم لمحمد بن عبدالله طيلة عشرين عاما أو تزيد، و هذا يعني بداية عهد اموي جديد له طابعه و خصائصه التي ان اختلفت عن الشرك و الوثنية لا تختلف الا بالاسم أو الشكل، و قد جاء عن النبي (ص) انه قال: لو لم يبق من بني امية الا عجوز درداء لبغت دين الله عوجا. و مهما كان الحال فقد تم الصلح كما املته الحكمة و فرضته مصلحة الاسلام العليا، اما المكان الذي تم فيه فقيل انه في مسكن حيث التقي معاوية بجنده مع مقدمة الحسن التي ارسلها عندما تحرك جيشه من معسكراته، و قيل انه كان باذرح داخل الحدود السورية و قيل في الكوفة و بيت المقدس، و قيل غير ذلك و من غير البعيد ان تكون الموافقة عليه كانت في المدائن و تم تنفيذه بعد أن رجع الامام الي الكوفة كما تشير الي ذلك بعض المرويات. [ صفحه 524]

بنود الصلح كما يرويها المؤرخون

لقد اتفق المؤرخون

أن الحسن بن علي (ع) قد تنازل عن السلطة لمعاوية بن هند لقاء شروط و عهود أخذها عليه، و روي الطبري و غيره أن معاوية ارسل الي الحسن صحيفة بيضاء و ختم اسفلها بخاتمه و ترك للحسن أن يكتب ما يشاء و يقترح ما يريد كائنا ما كان. و جاء في رواية ابن عبدالبر في الاستيعاب أن من جملة شروط الحسن علي معاوية أن لا يطلب أحدا من أهل المدينة و الحجاز و العراق بشي ء كان منهم في عهد أبيه أميرالمؤمنين فأجابه لذلك ما عدا عشرة قد عاهد الله أنه اذا ظفر سينكل فيهم، و مضي معاوية يقول: اني عاهدت الله أني اذا ظفرت بقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري أن اقطع لسانه و يده، فرد عليه الامام بقوله: اني لا أوافق علي ذلك أبدا و أنت تطلب قيسا أو غيره بتبعة قلت أو كثرت، فبعث معاوية اليه برق أبيض و قال له: اكتب ما شئت و أنا التزم بكل ما تريد فكتب ما أراد و شرط لنفسه الأمر من بعده. و نص جماعة من المؤرخين علي أن بنود الاتفاق لا تتعدي الأمور التالية: لقد اتفق الحسن بن علي و معاوية بن أبي سفيان علي أن يسلم له الحسن ولاية أمر المسلمين علي أن يعمل فيهم بكتاب الله و سنة نبيه و سيرة الخلفاء الصالحين و ليس لمعاوية أن يعهد بالأمر الي أحد من بعده بل يكون الأمر شوري بين المسلمين، و علي أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم و عراقهم و حجازهم [ صفحه 525] و يمنهم، و علي أن اصحاب علي بن أبي طالب آمنون علي أنفسهم و أموالهم و نسائهم

و أولادهم، و علي معاوية بذلك عهد الله و ميثاقه و ما أخذ الله علي أحد من حقه بالوفاء و بما اعطي الله علي نفسه و علي أن لا يبغي للحسن بن علي و لا لأخيه الحسين و لا لأحد من أهل بيت رسول الله (ص) غائلة سرا و لا جهرا و لا يخيف أحدا منهم في أفق من الآفاق و كفي بالله شهيدا. و يري بعض المؤرخين أن هذه الوثيقة لا تحتوي علي جميع بنود الاتفاق و قد سقط منها اكثر البنود علي حد زعمهم و كان من جملتها أن يكون الأمر بعد معاوية للحسن (ع) و ان حدث بالحسن قبل معاوية حدث يكون الأمر بعد معاوية للحسين (ع)، و العفو العام عن جميع الناس و بخاصة أهل العراق و شيعة علي أميرالمؤمنين (ع) و أن لا يسمي معاوية نفسه بأميرالمؤمنين، و أن لا يسب أميرالمؤمنين و لا يذكره الا بخير، و أن لا يقيم عنده الشهادة، و أن ينفق علي أيتام من قتل مع أميرالمؤمنين في حربي الجمل و صفين ألف ألف درهم، و أن يأخذ الامام الحسن جميع ما في بيت مال المسلمين في الكوفة بالغا ما بلغ، و يدفع اليه معاوية في كل عام مائة ألف درهم. و تنص بعض المرويات أن ما كان في البيت المال يبلغ نحوا من خمسة ملايين درهم، و أن الذي شرطه الحسن لنفسه في كل سنة مائتا ألف درهم و أن علي معاوية أن يفضل بني هاشم في العطاء و الصلات علي بني عبد شمس الي غير ذلك من الروايات المتضاربة حول نصوص المواد التي وضعها الحسن (ع) و التزم بها معاوية، و القدر المتيقن منها

أن لا يعهد معاوية بالأمر لأحد من بعده و اعلان العفو العام عن جميع الذين كانوا يقاتلون الي جانب أميرالمؤمنين و بخاصة أهل العراق و من كان منهم شديد الولاء لعلي و بنيه لأن الامام يعلم بما تنطوي عليه نفس معاوية من الحقد و العداء الشديد لأهل البيت (ع)، و أنه سوف ينتقم منهم اذا اتيح له ذلك، و لعل هذه المادة كانت من أهم بنود الاتفاق بنظر الامام أبي محمد الحسن (ع)، و مع التأكيد عليها فلقد أبت له نفسه الحاقدة أن يفي بما عاهد الله عليه فتتبع أعيان الشيعة بالقتل و الحبس و التشريد، و قطع ارزاقهم و صلاتهم و شردهم في البراري و الآفاق، و أوصي عامله و أنصاره [ صفحه 526] في جميع المقاطعات بمطاردتهم و قتلهم، و أن لا يتركوا سب علي علي منابرهم و يعلموا ذلك اطفالهم و صبيانهم كما أجمع علي ذلك المؤرخون و المحدثون. اما الروايات التي تنص علي أنه اشترط لنفسه ما في بيت مال المسلمين في الكوفة و مائتي ألف درهم في كل عام بالاضافة الي ذلك و خراج بعض المقاطعات في الأهواز و تفضيل الهاشميين علي بني عبد شمس و غيرهم في العطاء، هذه الروايات بالاضافة الي ضعف أسانيدها فمن غير البعيد أن تكون من موضوعات الأمويين أو العباسيين الذين وضعوا حوله عشرات الأحاديث ليضعوا في الأذهان أن الحسن قد باع الخلافة بالأموال و كان منصرفا الي الملذات و الشهوات عن عظائم الأمور، كما قالها أحد حكام العباسيين في محاولة منه لانتقاص بعض الحسنيين الذين كانوا لا يتحملون الضيم و يثورون بين الحين و الآخر علي الظلم و الطغيان في أواخر العصر الأموي و العصر

العباسي. و لو صح أنه اشترط لنفسه ما في بيت مال الكوفة فذاك لينقذه من أيدي الطغاة و ينفقه علي أيتام المسلمين و فقرائهم في الكوفة و غيرها كما كان ينفق أكثر أمواله في هذا السبيل، و قد صح عنه أنه قاسم الفقراء أمواله ثلاث مرات و خرج منها بكاملها مرتين، و لو بقيت في تصرف معاوية ستصرف علي الفجور و المنكرات و علي أعوانه الذين باعوا دينهم كابن العاص و الأشعث بن قيس و المغيرة و غيرهم من الأنصار و الأتباع و المفسدين في الأرض. [ صفحه 527]

ان ابني هذا سيد و سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين

لقد شاع هذا الحديث بين المرويات عن النبي (ص) في سبطه الحسن (ع)، و لعل مصدره الوحيد عن النبي أبوبكرة شقيق زياد بن عبيد لأمه سمية، و رواه البخاري في كتاب الصلح من صحيحه و الامام أحمد بن حنبل في مسنده عن المبارك عن الحسن عن أبي بكرة، وورد نصه في الاصابة لابن حجر علي النحو التالي عن أبي بكرة، قال رأيت رسول الله علي المنبر و الحسن بن علي الي جنبه و هو يقبل علي الناس مرة و عليه أخري و يقول: ان ابني هذا سيد و لعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. و في رواية البخاري و مسند أحمد عن أبي بكرة أنه قال: كان رسول الله يصلي بالناس و كان الحسن بن علي يثب علي ظهره اذا سجد فعل ذلك مرارا، فقالوا له: يا رسول الله انك لتفعل بهذا شيئا ما رأيناك تفعله بأحد، قال أبوبكرة: فذكر شيئا ثم قال: ان ابني هذا سيد و سيصلح الله تبارك و تعالي به بين فئتين من المسلمين. و جاء في رواية العقد الفريد أن

رسول الله (ص) دخل علي ابنته فاطمة فوجد الحسن طفلا يلعب بين يديها فقال لها: ان الله سيصلح علي يدي ابنك هذا بين فئتين عظيمتين من المسلمين. بهذه الصيغ المتقاربة في المضمون روي المحدثون حديث نبوءة النبي (ص) بما سيجري علي يد سبطه الحسن الزكي من اصلاح بين فئتين عظيمتين [ صفحه 528] من المسلمين علي حد تعبير الراوي و أخذوا به و كأنه من المسلمات و قرت بهذه الرواية عين واضعها معاوية بن أبي سفيان لأنها اعتبرته احدي الفئتين المسلمتين العظيمتين، في حين أن القرآن الكريم يراه من البغاة الذين يجب علي المسلمين قتالهم حتي يفيئوا الي أمر الله كما اعتبره النبي (ص) باغيا كما يستفاد ذلك من قوله لعمار: تقتلك الفئة الباغية. و اعتبرها اكثر الشيعة كرامة للامام أبي محمد الحسن لأن النبي أشاد بمقامه و فضله و تم علي يده الاصلاح الذي تنبأ به جده الرسول الأعظم، و قد ذكرنا أسباب الصلح الذي تم بين الطرفين و المراحل الأليمة التي مر بها الحسن حتي اضطرته الي الصلح حرصا علي مصلحة الاسلام بنحو لم يكن له خيار فيه. اما الرواية فلا أشك بأنها من موضوعات أبي بكرة أو أنها وضعت و نسبت اليه ليثبت أن معاوية من المسلمين لا من البغاة بعد أن وصمه القرآن بهذه الصفة و أكدها النبي في حديثه مع عمار الذي رواه عن النبي أكثر الصحابة و كان من أكثر الأحاديث شيوعا و انتشارا، و قد اقلق هذا الحديث معاوية بن هند بعد مقتل عمار و كاد جيشه أن ينتقض عليه لولا ابن النابغة الذي استطاع أن يضلل و يموه علي الجيش، بأن الذي قتل عمارا من جاء به الي المعركة و

غرر به و ظلت وصمة البغي التي وصمه بها القرآن الكريم و الرسول تقلقه حتي تيسر له أبوبكرة بن الحارث بن كلدة شقيق زياد من أمه سمية فوضع له الحديث ليكون هو و جماعته احدي الفئتين المسلمتين. و مما يدل علي أنه من الموضوعات، أن الحديث المذكور لم يروه عن النبي سوي أبي بكرة و ادعي أنه رأي الحسن الي جانب جده علي المنبر يلتفت اليه تارة و الي المسلمين أخري ثم قال: ان ابني هذا سيد و سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين، و كما شاهده الي جانبه علي المنبر لابد و أن يشاهده و يسمع منه جميع من كان حاضرا تحت منبره، فلماذا تفرد وحده بروايته، و في الرواية الثانية أنه شاهده علي ظهره و هو ساجد، و قد سأله المسلمون فقال لهم أنه سيد و سيصلح الله به. و بالطبع فقد سمع منه علي تقدير صدق الراوي جميع المصلين، و مع ذلك فلم يسند الحديث لغيره هذا بالاضافة الي أن أبابكرة كان منحرفا عن علي و آل علي و لم يشترك معه في حروبه [ صفحه 529] و هو الذي روي عن النبي (ص) حينما خرج طلحة و الزبير و عائشة علي أميرالمؤمنين حديث ستكون بعدي فتنة القاعد فيها خير من القائم ليخذل الناس عنه، و كان يري أن الحروب التي دارت في البصرة و صفين قد دعا النبي الي اعتزالها لأنها من نوع الفتن التي لا خير فيها للاسلام، و بالاضافة الي كل ذلك فالذين رووا الحديث عن أبي بكرة يدعون أن النبي (ص) قد قال ذلك للحسن و هو طفل في حدود الثلاث سنوات من عمره حينما كان يدرج و يصعد

علي ظهر النبي و هو يصلي و علي منبره و هو يخطب في المسلمين، و أبوبكرة نفيع بن الحارث بن كلدة يوم ذاك كان لا يزال مشركا في الطائف. فقد جاء في تهذيب التهذيب لابن حجر أن أبابكرة شقيق زياد لأمه سمية و كانت أمة للحارث بن كلدة و مضي يقول: و انما سمي أبوبكرة لأنه تدلي من حصن الطائف يوم حاصرها النبي و التحق بالاسلام في السنة الثامنة للهجرة بعد أن فتح مكة و انتهي من معركة حنين و الحسن يوم ذاك في الخامسة من عمره أو اكثر من ذاك [8] . و مما يشير الي أن الحديث من الموضوعات هو أن معاوية كان يردده بعد عام الجماعة مستبشرا به. فقد جاء في مروج الذهب للمسعودي أنه لما صالح الحسن معاوية كبر معاوية بالخضراء و كبر أهل المسجد لتكبير أهل الخضراء فخرجت فاختة بنت قرضة من خوخة لها و قالت: سرك الله يا أميرالمؤمنين ما هذا الذي بلغك؟ فقال أتاني البشير بصلح الحسن و انقياده، فذكرت قول رسول الله: ان ابني هذا سيد أهل الجنة و سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين فحمدت الله الذي جعل فئتي احدي الفئتين المؤمنتين [9] . فلقد كبر مستبشرا لأن الحديث يجعله و فئته من المؤمنين، في حين أن [ صفحه 530] حديث الرسول لعمار الذي رواه اكثر الصحابة يجعله و فئته من البغاة الذين يجب قتالهم حتي يرجعوا الي أمر الله. و الغريب في المقام أن يقف الدكتور طه حسين من هذا الحديث موقفا سطحيا بعيدا عن منطق الاحداث و الظروف التي ترجح أن الحديث من الموضوعات التي لا واقع لها فبعد أن رجح صحة

الحديث قال: لقد وقع هذا الحديث موقعا من نفس الصبي أي موقع، و كأنه ذكره حين ثارت الفتنة و حاول بمشورته علي أبيه في مواطنه تلك التي ذكرتها آنفا أن يصلح بين هاتين الفئتين من المسلمين فيحقق نبوءة جده، و كأن بكاءه حين بكي لم يكن رفقا بأبيه و اشفاقا فحسب، و انما كان الي ذلك حزنا لأنه لم يحقق ما توسم به جده فيه، و مضي يقول: ان الحسن خرج في عدد ضخم من أهل العراق و كأنه خرج يظهر لهم الحرب و يدبر أمر الصلح فيما بينه و بين معاوية ليحقق نبوءة. و محل الغرابة في حديث طه حسين هذا الموقف السطحي الذي وقفه من الامام الحسن (ع) و من الحديث المذكور، في حين أن النصوص التاريخية تؤكد أن فكرة الصلح لم تكن واردة عند الامام أبي محمد الحسن حتي اللحظات الاخيرة، و لم يجنح اليها الا بعد أن يئس من جدوي المقاومة و من أخطارها علي الاسلام كما ذكرنا، و أما الحديث الذي وقف عنده و كأنه اكتشف منجما غنيا بالمعادن، فقد ذكرنا عيوبه و بعض الشواهد علي أنه من موضوعات الأمويين للغاية التي ذكرناها. [ صفحه 531]

في النخيلة

يدلي جماعة من المؤرخين أن المراسيم التي تقضي بتسليم السلطة لمعاوية بن أبي سفيان قد تمت بالنخيلة علي أميال من الكوفة، و اجتمع في المكان المذكور حشد كبير من العراقيين و السوريين، و بلا شك لقد كان الاجتماع المذكور من اقسي ما لاقاه الحسن (ع) في حياته فقد رأي معاوية عدو الاسلام و البيت الهاشمي يدخل عاصمة الدولة الاسلامية الكبري دخول الجبابرة الفاتحين، و رأي شيعته و شيعة أبيه الأوفياء للاسلام و حماة الاسلام يتململون

مما ينتظرهم من جور و اضطهاد و تشريد، و ينتظر الاسلام من أولئك المستهترين العابثين بالقيم و المقدسات و بكل ما جاء به محمد بن عبدالله. فقد جاء في شرح النهج عن أبي الفرج أن معاوية نزل بالنخيلة فخطب خطبة طويلة لم ينقلها أحد من الرواة تامة علي حد تعبيره، و مضي يقول: لقد روي الشعبي أن معاوية قال: ما اختلف أمر أمة بعد نبيها الا و ظهر أهل باطلها علي أهل حقها ثم انتبه و قال الا هذه الأمة. و روي أبواسحاق السبيعي أنه قال: الا و أن كل شي ء أعطيته للحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي له بشي ء منه، و أضاف الي ذلك كما في رواية الأعمش: و الله ما قاتلتكم لتصوموا و لا لتصلوا و لا لتحجوا و لا لتزكوا لأنكم تفعلون ذلك، و انما قاتلتكم لأتأمر عليكم و قد أعطاني الله ذلك و أنتم له كارهون. [ صفحه 532] و في رواية حبيب بن ثابت أن معاوية لما خطب في النخيلة نال من أميرالمؤمنين بحضور الحسن و الحسين، ثم نال من الحسن بن علي (ع) فقام الحسين ليرد عليه فأخذ الحسن بيده و أجلسه، ثم قام فقال: أيها الذاكر عليا أنا الحسن و أبي علي و أنت معاوية و أبوك صخر و أمي فاطمة و أمك هند وجدي رسول الله وجدك عتبة بن ربيعة وجدتي خديجة بنت خويلد وجدتك قتيلة فلعن الله اخملنا ذكرا و ألأمنا حسبا و شرفا قديما و حديثا و أقدمنا كفرا و نفاقا، فقالت طوائف من أهل المسجد: آمين آمين و مضي في شرح النهج يقول: ان يحيي بن معين يقول آمين و عبدالحميد بن أبي

الحديد مصنف هذا الكتاب يقول آمين. و جاء في بعض المرويات أن معاوية بعد أن خطب في النخيلة طلب من الحسن أن يتحدث الي الناس بناء لاقتراح ابن العاص ليظهر للناس عجزه فوقف الحسن (ع) بين تلك الجموع المحتشدة و صور الأحداث القاسية التي اعترضت طريق أهل البيت منذ وفاة الرسول (ص) حتي يومه ذلك و موقف أبيه منها الذي كانت تمليه مصلحة الاسلام العليا، و بعد أن استعرض الظروف التي فرضت عليه الصلح فرضا لا مفر منه قال: ان معاوية زعم لكم أني رأيته للخلافة أهلا و لم أر نفسي أهلا لها، لقد كذب معاوية، نحن اولي الناس بالناس في كتاب الله و علي لسان نبيه، و لم نزل أهل البيت مظلومين منذ قبض الله نبيه فالله بيننا و بين من ظلمنا و توثب علي رقابنا و حمل الناس علينا و منعنا سهمنا من الفي ء و منع أمنا ما جعله لها رسول الله. و أقسم بالله لو أن الناس بايعوا أبي بعد رسول الله لأعطتهم السماء قطرها و الأرض بركتها، و لما طمعت فيها معاوية، فلما خرجت من معدنها تنازعتها قريش بينها و طمع فيها الطلقاء و أبناء الطلقاء أنت و أصحابك، و قد قال رسول الله (ص) ما ولت أمة أمرها رجلا و فيهم من هو أعلم منه لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتي يرجعوا الي ما تركوا، فقد ترك بنو اسرائيل هارون و هم يعلمون أنه خليفة موسي فيهم و اتبعوا السامري، و تركت هذه الأمة أبي و بايعوا غيره، و قد سمعوا رسول الله يقول له: أنت مني بمنزلة هارون من موسي الا النبوة، ورأوا رسول الله حين نصب أبي يوم

غدير خم و أمرهم أن يبلغ أمره الشاهد الغائب، [ صفحه 533] و هرب رسول الله من قومه و هو يدعوهم الي الله حتي دخل الغار، و لو أنه وجد أعوانا لما هرب، و أضاف الي ذلك: و قد جعل النبي في سعة حين دخل الغار و لم يجد أعوانا و كذلك أبي، و أنا في سعة من الله حين خذلتنا هذه الأمة، و انما هي السنون و الأمثال يتبع بعضها بعضا. ثم التفت الي الحشود المجتمعة و قال: فوالذي بعث محمدا بالحق لا ينقص من حقنا أهل البيت أحد الا نقص الله من عمله و لا تكون علينا دولة الا و تكون لنا العاقبة و لتعلمن نبأه بعد حين. و التفت الي معاوية فرد عليه سبه لأبيه و قال: أيها الذاكر عليا أنا الحسن و أبي علي و أنت معاوية و أبوك صخر و أمي فاطمة و أمك هند وجدي رسول الله وجدك عتبة وجدتي خديجة وجدتك قتيلة فلعن الله أخملنا ذكرا و ألأمنا حسبا و شرفا قديما و حديثا و أقدمنا كفرا و نفاقا، و فارتفعت الأصوات من جميع الجهات آمين آمين علي حد تعبير الراوي، و أنا مؤلف هذا الكتاب أقول آمين آمين يا رب العالمين. و قد استعرض الامام أبومحمد الحسن في خطبته هذه جميع المراحل التي مر فيها أميرالمؤمنين، و ربط بينها و بين الأحداث التي اضطرته الي التخلي عن السلطة الي ابن هند و بين الأحداث التي مرت علي أبيه و أدت الي انتزاع السلطة منه الذي مهد لكل طامع بالاستيلاء عليها الي أن وصلت الي الطلقاء و أبنائهم. و مهما يكن الحال فلقد تم الصلح و بايع أهل

العراق لمعاوية و هم بين طائع و مكره، و كان قيس بن سعد بن عبادة من أوثق الناس في نفس الحسن (ع) و من أشد أهل الكوفة و أهل الحجاز عداء لمعاوية، و لقد أصيب بصدمة قاسية عندما علم بموافقة الحسن علي الصلح و بقي مصرا علي مقاومة معاوية بمن معه من الجيش مهما كانت النتائج لولا أن الحسن (ع) رغب اليه في المهادنة و عدم القتال. و جاء في شرح النهج أنه لما تم الصلح ارسل الي قيس بن سعد يدعوه للبيعة و كان رجلا طويلا يركب الفرس المشرف و رجلاه تخطان في الارض، و لما [ صفحه 534] أرادوا ادخاله علي معاوية قال: اني حلفت أن لا ألقاه الا و بيني و بينه السيف أو الرمح فأمر معاوية برمح و سيف و وضعهما بينه و بينه، و التفت قيس الي الحسن و قال: أفي حل أنا من بيعتك يا ابن رسول الله؟ قال نعم، فألقي له كرسي فجلس عليه و جلس معاوية علي سريره و الحسن بن علي معه، فقال له معاوية: أتبايع يا قيس؟ قال: نعم، و وضع يده علي فخذه و لم يمدها لمعاوية، فقام معاوية عن سريره و مسح يده علي يده و هي في مكانها، و انتهي الأمر بعد ذلك لمعاوية بدون معارض، فسمي الناس ذلك العام بعام الجماعة. و قال الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه نظرية الامامة لدي الشيعة الاثني عشرية: و هذه نظرة لا تعدو السياسة الظاهرية، أما في مجال العقيدة فقد كان المسلمون مجتمعين حتي هذا العام فحدث الانشقاق بعد عام الصلح الذي يسمونه عام الجماعة، و لذا وصفه الجاحظ بحق بقوله عام فرقة و

قهر و جبرية و غلبة، و العام الذي تحولت فيه الامامة ملكا كسرويا و الخلافة غصبا قيصريا [10] . [ صفحه 535]

ما حدث بعد الصلح

لقد بقي الامام السبط بعد الصلح أياما في الكوفة تطوف به الآلام و تعلوه الكآبة يري شيعته يتململون من الأسي و الألم، و يدفعهم الوجد الي الخروج عن المألوف في حديثهم معه، و يتلقي كل ذلك بالصبر و يحاول اقناعهم و التخفيف عنهم باستعراض ما حدث من الاحداث التي فرضت عليه الصلح و لم تترك له خيارا فيه ولكن بدون جدوي، و أخذ بعد برهة وجيزة يعد العدة للرجوع مع اخوته و أهل بيته الي مدينة جده (ص). و نص اكثر المؤرخين انه لم يتأخر في الكوفة بعد الصلح سوي ايام قلائل و خرج منها تاركا فيها من شيعته و محبيه أضعاف ما له من الشيعة و الأنصار في المدينة و جميع انحاء الحجاز، و موضع التساؤل هل أن معاوية قد شرط عليه فيما شرط أن ينزح عن الكوفة الي المدينة لأن بقاءه فيها ربما يؤدي الي التفاف اهلها حوله و بالتالي الي تمردهم عليه، أو أنه نزح عنها رغبة منه في أن يكون فيما بقي من عمره بعيدا عن قوم غدروا به بأبيه و جرعوهما أسوأ انواع الاذي و البلاء، و ليس لدينا من المصادر ما يشير الي أن معاوية قد اشترط عليه أن يترك العراق، و من الجائز القريب أن يكون قد تركها باختياره ليبقي بعيدا عن أحداثها و مشاكلها و يتفرغ الي مصالح الناس و حوائجهم بعيدا عن السياسة و مشاكلها، و لا أظن ان معاوية يسمح له في البقاء فيها لو أراد ذلك. و لما علم أهل الكوفة

بعزمه علي الخروج خرجوا لوداعه و هم بين باك [ صفحه 536] و باكية يندبون حظهم و مصيرهم المظلم في عهدهم الجديد و قد اصبح بلدهم مصرا من الأمصار و تابعا لدمشق بعد أن كان عاصمة الأمصار يصدر القرارات و يوزع الولاة و تجبي اليه الخيرات، و رأوا جيش معاوية الذي كان عدوهم بالأمس يحتل بلدهم نشوان بلذة النصر و الفتح و سمعوا معاوية و هو علي منبر اميرالمؤمنين يقول جذلان مسرورا: اني قاتلتكم لأتأمر عليكم و قد اعطاني الله ذلك و أنتم له كارهون. و لقد رحل عن الكوفة هو و أهل بيته و سارت قافلته تطوي البيداء، فلما انتهي الي دير هند القي علي عاصمته نظرة مليئة بالأسي و اللوعة و تمثل بقول القائل: و لا عن قلي فارقت دار احبتي هم المانعون حوزتي و ذماري و قبل أن يقطع موكبه مسافة بعيدة عن الكوفة ادركه معاوية يطلب اليه الرجوع اليها ليقاتل طائفة من الخوارج اعلنوا العصيان و التمرد في جوارها، فأبي أن يرجع و كتب الي معاوية: لو آثرت أن اقاتل احدا من أهل القبلة لبدأت بقتالك قبل أي احد من الناس [11] . و مضي في طريقه و كلما حاذي موكبه قرية أو حيا من الاحياء خف اهله الي استقباله و الترحيب به، و سألوه عن الصلح و أسبابه و ظروفه، و الامام (ع) يخبرهم بالواقع الذي اضطره الي ترك السلطة و تسليمها لمعاوية، و لما انتهت قافلته الي يثرب استقبله اهلها بالترحاب و ذكروا به رسول الله و هو يحمله علي كتفه و يقول حسن مني و أنا من حسن اللهم اني احبه فأحبه و أحب من يحبه. فأقام في

يثرب عشر سنين انصرف فيها الي خدمة الاسلام و نشر تعاليمه و كل ما يعود علي الاسلام و أهله بالخير و كان مع ذلك موئلا لذوي الحاجات و نصيرا للمظلومين و موردا كريما للفقراء و المحتاجين، و خلال اشهر معدودات من [ صفحه 537] استيلاء معاوية علي السلطة جعل ينكل بالشيعة و يطاردهم من بلد الي بلد فأحسوا بمرارة تلك الصدمة و وطأتها فكانوا يفرون اليه من جور معاوية و عماله و يفاجئونه بما هو أشد عليه من وقع الحسام مع علمهم بالظروف القاسية التي الجأته الي اعتزال السلطة، فقال له ابوعامر شعبان بن أبي ليلي: السلام عليك يا مذل المؤمنين، و قال له حجر بن عدي، حينما سمع معاوية من علي منبر الكوفة يسب اميرالمؤمنين، أما والله لوددت انك مت في ذلك اليوم و متنا معك، فانا رجعنا راغمين و رجعوا مسرورين و قال له عدي بن حاتم الطائي و نفسه تكاد تذهب من الألم و الاسي: يا ابن رسول الله لوددت اني مت قبل تسليمك الأمر لمعاوية لقد اخرجتنا من العدل الي الجور فتركنا الحق الذي فيه و دخلنا الباطل الذي كنا نهرب منه و أعطينا الدنية من انفسنا. و قال له المسيب بن نجية و كان من خيار الصالحين الذين عرفوا بالولاء و الاخلاص لأهل البيت: ما ينقضي تعجبي منك بايعت معاوية و معك اربعون الفا و لم تأخذ لنفسك وثيقة و عهدا ظاهرا، اعطاك امرا فيما بينك و بينه، ثم قال ما قد سمعت علي ملأ من الناس. و قال له سليمان بن حرد: السلام عليك يا مذل المؤمنين و تكلم بكلام يشبه كلام غيره من الشيعة في القسوة و الشدة، كما

خاطبه بعض اصحابه بقوله: لقد اذللت رقابنا بتسليمك الأمر لهذا الطاغية، الي غير ذلك مما رواه المؤرخون من الكلمات القاسية التي كان يسمعها من شيعته و أنصاره و التي لم تكن لتصدر منهم لولا الجور و الاضطهاد و التعذيب الذي لحقهم من معاوية و عماله لا لشي ء الا لأنهم يوالون عليا و آله، و كان (ع) يتحمل منهم كل ذلك و يعرف الدوافع التي اضطرتهم الي مقابلته بهذا الأسلوب، و كانت اجوبته لهم علي ما بينها من اختلاف في الصياغة و الأسلوب تلتقي عند تحديده لموقف اهل الكوفة منه و تخاذلهم عن نصرته و انحياز اكثرهم الي جانب معاوية حتي بقي في اهل بيته و خلص شيعته الذين لا يغنون عنه شيئا. و كما بلغ التذمر و الاستياء اشدهما في نفوس الشيعة الحريصين علي مصلحة الاسلام و تعاليمه و من تسلط معاوية علي المسلمين و مقدراتهم، و فلقد وقف اكثر [ صفحه 538] المسلمين موقفا يتسم بالحذر و الخوف من خلافة معاوية، و حتي انها لم تقابل بالارتياح من اولئك الذين لم يقفوا الي جانب علي و الحسن في الصراع الذي احتدم بينهما و بين معاوية و طلحة و الزبير في البصرة و صفين، و كان رأي تلك الفئة ان الخلافة التي ادعاها معاوية لنفسه و قاتل عليها عليا و الحسن بن علي ليس للطلقاء و أبنائهم و لا لمسلمة الفتح ممن اسلموا في السنة الثامنة نصيب فيها ولو صدقوا في اسلامهم. في حين أن بعضهم كان يتخوف علي الاسلام من بني امية اذا اصبحت السلطة في ايديهم، و قد رووا عن النبي انه قال: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصبح ملكا عضوضا، و قد عد

جماعة من المسلمين ذلك تحولا في تاريخ الاسلام ستكون له اسوأ العواقب و النتائج علي عالم الاسلام. و يروي الرواة ان سعد بن أبي وقاص دخل علي معاوية بعد أن تنازل له الحسن بن علي عن السلطة، و قال له: السلام عليك أيها الملك، فضحك له معاوية و قال: ما كان عليك يا أبااسحق لو قلت: السلام عليك يا اميرالمؤمنين، فقال له سعد بن ابي وقاص: اتقولها جذلان ضاحكا و الله ما احب اني وليتها بما وليتها به [12] . كما روي الرواة عن ابن عباس انه قال: ليس في معاوية خصلة تقربه من الخلافة. و جاء في تاريخ ابن كثير عن ابي هريرة في معرض استنكاره لخلافة معاوية أن رسول الله قال: الخلافة في المدينة و الملك في الشام. و جاء في النصائح الكافية عن سفينة مولي رسول الله (ص) فيما اخرجه ابن شيبة في معرض الحديث عن استخفاف بني امية للخلافة جاء عنه أنه قال: كذب ابن الزرقاء، انهم ليسوا بخلفاء، بل هم ملوك من شر الملوك و أول [ صفحه 539] الملوك معاوية. و ممن انكر خلافة معاوية عائشة، فلقد جاء في المجلد الرابع من شرح النهج ان الحسن بن علي (ع) دخل علي معاوية بعد عام الجماعة و هو جالس في مكان ضيق فجلس الحسن (ع) عند رجليه فتحدث معاوية بما شاء أن يتحدث ثم قال: عجبا لعائشة تزعم اني في غير ما أنا اهله و ان الذي اصبحت فيه ليس لي بحق مالها و لهذا الأمر غفر الله لها، انما كان ينازعني هذا الأمر ابو هذا الجالس و قد استأثر الله به. فقال الامام (ع) أوعجب ذلك يا معاوية؟ فقال: اي و الله، قال أفلا اخبرك بما

هو أعجب من ذلك؟ قال فما هو قال: جلوسك في صدر المجلس و أنا عند رجليك، فضحك معاوية و قال: يا ابن اخي بلغني ان عليك دينا فكم هو؟ فقال: مائة الف، فقال قد امرنا لك بثلاثمائة الف فقم مكرما و اقبض حلتك، فلما خرج الحسن قال يزيد بن معاوية لابيه: تالله ما رأيت رجلا مثلك استقبلك بما استقبلك به ثم اجزته بهذا المقدار، فقال: يا بني ان الحق حقهم فمن اتاك منهم فأحث له. و ممن انكر علي معاوية استيلاءه علي السلطة ابوبكرة بن الحارث بن كلدة شقيق زياد من امه سمية فيما يروي صاحب النصائح الكافية عن عبدالرحمن بن ابي بكرة انه قال: كنت مع ابي عند معاوية فأنكر عليه استيلاءه علي السلطة وحدثه بقول النبي (ص) الخلافة بعدي ثلاثون ثم يكون الملك فأمر معاوية غلمانه فدفعونا حتي اخرجونا من مجلسه طردا. و فيما يرويه الرواة ان معاوية سأل صعصعة بن صوحان العبدي، اي الخلفاء رأيتموني، فقال له ابن صوحان: اني يكون الخليفة من ملك الناس قهرا ودانهم كبرا و استولي بأسباب الباطل كذبا و مكرا، اما والله مالك في يوم بدر مضرب و لا مرمي، لقد كنت انت و أبوك في العير و النفير ممن اجلب علي رسول الله (ص) و انما انت طليق و ابن طليق اطلقكما رسول الله فاني تصلح الخلافة لطليق. [ صفحه 540] و قد وصفه صديقه الحميم و شريكه في اكثر جرائمه و موبقاته المغيرة بن شعبة بأنه اخبث الناس و ألأم الناس و أدانه بالشرك الصريح في حديث رواه مطرف بن المغيرة عن ابيه و قد ذكرناه فيما مضي خلال الفصول السابقة. و جاء في مروج الذهب ان

المأمون العباسي لما حدثه بعض الرواة بما رواه مطرف بن المغيرة عن ابيه بما سمع من معاوية امر مناديه ان ينادي برئت الذمة ممن يذكر معاوية بخير و يقدمه علي احد من اصحاب رسول الله (ص) [13] . و قال الحسن البصري: اربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقة انتزاؤه علي هذه الأمة بالسفهاء حتي ابتزها امرها بغير مشورة منها و فيها بقايا الصحابة و ذوو الفضيلة، و استخلافه ابنه من بعده و هو يعلم بحاله و استهتاره و ادعاؤه زيادا و قد قال رسول الله: الولد للفراش و للعاهر الحجر و قتله حجر بن عدي فويل له من حجر و أصحاب حجر الي أكثر مما قيل فيه من اعلام المسلمين في عصره و بعد عصره، و أكثرهم كان يري ان استيلاءه علي السلطة حدث عظيم في تاريخ الاسلام و بداية لعهد جديد يهدد الاسلام و مبادئه و حماته بأشد الاخطار. و لما جاء عهد المعتضد العباسي نشر تاريخ معاوية و جرائمه و ما جاء فيه و في اسرته عن النبي (ص) و ما قيل فيه من معاصريه و غيرهم و أمر الخطباء ان تتحدث بجرائمه و أحداثه و بلعنه علي المنابر و في النوادي و المجتمعات. و مهما كان الحال فلقد تعرض الامام ابومحمد الحسن الزكي (ع) للنقد اللاذع من شيعته و أصحابه الذين لم يتسع صبرهم لجور معاوية مع أن اكثرهم كان يدرك الظروف القاسية التي اضطرته الي تجنب القتال و اعتزال السلطة كما أحس الكثير من اعيان المسلمين وقادتهم بصدمة عنيفة لهذا الحادث بما تنطوي عليه نفوس الأمويين من حقد علي الاسلام و دعاته الأوفياء

و حرص علي احياء ما اماته الاسلام من مظاهر الجاهلية بكل اشكالها. [ صفحه 541]

موقف المستشرقين من صلح الامام الحسن

لقد تعرض الامام ابومحمد الحسن (ع) لهجمات عنيفة من بعض كتاب العرب و غيرهم لموقفه من الخلافة خلال الأشهر القليلة التي كانت مسرحا للصراع بينه و بين معاوية بن ابي سفيان و كان منتقدوه بين فئتين فئة نظرت الي الاحداث التي دونها المؤرخون نظرة سطحية و لم تأخذ بعين الاعتبار ما قامت به اجهزة الأمويين و العباسيين من تشويه و كذب و افتراء علي علي و آله الكرام في العصرين الأموي و العباسي و تحريف لحقائق التاريخ، و من خلال هذه النظرة الي التاريخ و الأحداث ليس بغريب اذا انتهي الباحث الي مثل هذه النتائج، و ليس لأحد أن يحاسبه علي نتائج بحثه، و انما الذي يؤخذ علي الباحث و يعرضه الي الاتهام بسوء النية و بخاصة اذا كان من امثال الدكتور طه حسين الذي يتجاهل جميع الظروف و الملابسات و الأحداث القاسية التي كانت تعصف بالخلافة في تلك الفترة و يبني احكامه علي بعض النصوص التاريخية التي هي تشير الي من يريد الحقيقة ان يتحراها في غيرها من النصوص و الاحداث. و البعض الآخر و أعني به اكثر المستشرقين من اعداء العرب و الاسلام الذين يتعمدون في كتاباتهم و كتبهم تشويه الحقائق و الدس و الافتراء علي الاسلام و أعلام المسلمين و ابراز الاسلام من خلال حكامه و تصرفاتهم لا من خلال مبادئه و أنظمته و تشريعاته، و ابراز دعاته و حماته من خلال الصورة التي ارادها اخصامهم السياسيون لهم. [ صفحه 542] و من هؤلاء المستشرق لامنس المعروف بعدائه للاسلام و حقده علي أعلامه وقادته و تحريفه لحقائق

التاريخ بما يخدم الصهيونية و المسيحية العالمية، كما تؤكد ذلك مؤلفاته في المواضيع الاسلامية المشحونة بالكذب و الافتراء و التشويش علي الاسلام وقادته الأوفياء، فقد قال في كتابه فاطمة و بنات محمد: و بويع الحسن بعد مقتل أبيه فحاول انصاره أن يقنعوه بالعودة الي قتال اهل الشام، و قلب هذا الالحاح من جانبهم حفيظة الحسن القعيد الهمة، و لم يعد يفكر الا في التفاهم مع معاوية، كما ادي الي وقوع بينه و بين أهل العراق و أدي بهم الحال الي اثخان امامهم اسما لا فعلا بالجراح و تملكت الحسن منذ ذلك الوقت فكرة واحدة هي الوصول الي اتفاق مع الأمويين و ترك له معاوية ان يحدد مطالبه جزاء تنازله عن الخلافة، و لم يكتف الحسن بالمليون درهم التي طلبها معاشا لأخيه الحسين، بل طلب لنفسه خمسة ملايين درهم اخري و دخل كورة في فارس طيلة حياته، و عارض اهل العراق بعد ذلك في تنفيذ الفقرة الاخيرة من الاتفاق، بيد انه اجيب الي كل ما سأله حتي أن حفيد النبي اجترأ فجاهر بالندم علي أنه لم يضاعف طلبه و ترك العراق مشبعا بسخط الناس عليه ليقبع بالمدينة. و يروي بروكلمان ان الحسن لم يكن رجل الساعة اذ رفض أن يصحب جنده ليهاجم عدوه، كما ذهب المستشرق هو كلي الي أن الحسن لم يكن كفؤا للموقف لميله الي السلم، وعد ساكيس الحسن غير جدير بأن يكون ابنا لعلي ذلك الرجل العظيم لانشغاله بملذاته و اكتفائه بارسال اثني عشر الفا كطليعة لجيشه [14] . و قال راويت رونلدسن في كتابه عقيدة الشيعة الامامية: ان الاخبار تدل علي أن الحسن كانت تنقصه القوة المعنوية و القابلية العقلية لقيادة شعبه

بنجاح. و قال الدكتور فيليب حتي: و في بدء حكم معاوية قامت حركة أخري كان لها شأن كبير في الأجيال التي تلت و هي اعلان اهل العراق الحسن بن علي [ صفحه 543] الخليفة الشرعي، و مضي يقول: و لعملهم هذا اساس منطقي، لأن الحسن كان اكبر ابناء علي و فاطمة ابنة النبي (ص) الوحيدة الباقية بعد وفاته، ولكن الحسن الذي كان يميل الي الترف و البذخ لا الي الحكم و الادارة، و لم يكن رجل الموقف فانزوي عن الخلافة مكتفيا بهبة سنوية منحه اياها معاوية. الي غير ذلك مما قيل عن موقف الحسن من اعتزال السلطة، و أحسب أن ما ذكرته سابقا حول الصلح و أسبابه يكفي لرد مزاعم المستشرقين و غيرهم ممن كتبوا حول الموضوع. و قبل أن انتقل من هذا الموضوع احب أن اختمه بكلمة للدكتور احمد محمد صبحي في كتابه نظرية الامامة رد فيها علي منتقدي موقف الحسن (ع) و كشف عن اسبابه و ملابساته التي لم تترك له اختيارا فيه. فلقد قال بعد أن عرض بعض الآراء التي ذكرناها: و بلا شك فان في هذه التعليقات تجاهلا للموقف و تجنيا علي الحسن الذي تولي الخلافة في أدق الظروف، اذا لم يكن تحت ولايته من الأقاليم غير العراق و ما وراءها بعد أن استولي معاوية علي معظم ارجاء الدولة، و كانت الأمور في اواخر عهد أبيه تسير من سي ء الي أسوأ، و لم يستطع علي مع مقدرته الفائقة للحرب أن يجابهها، و كان مقتل علي اكبر انهيار في الموقف، ثم توالت الخيانات من أشراف العراق، و قد عبر الحسن عن اسباب تنازله بقوله: يا أهل العراق اني سخي بنفسي عنكم لثلاث:

قتلكم ابي وطعنكم اياي، و انتهابكم متاعي، و قد كرهت الدنيا و رأيت اهل الكوفة قوما لا يثق بهم احد الا غلب ليس احد يوافق الآخر في رأي، و لا يطمئن في خير و لا شر و قد لقي ابي منهم امورا عظاما. و مضي يقول: و الذي لا شك فيه ان التنازل عن الخلافة قد تم تحت ظروف تجعل حرية الارادة معطلة و الاكراه قائما، اذ كان الحسن يواجه عدوا أكثر منه عددا و أوسع منه حيلة و أملك لناصية الأمور فضلا عن الخيانة المستمرة في صفوف انصاره. و أضاف الي ذلك، و الذي لا شك فيه أيضا أن الحسن لم يتنازل لمعاوية لاعتقاده أن معاوية أولي منه بالأمر أو اجدر به، او لاستحقاق معاوية للخلافة، اذن فالحسن قد تنازل علي ملأ من الناس و هو في قرارة نفسه كاره لهذا التنازل [ صفحه 544] ناقم علي الظروف التي هيأت أن يري بعينه معاوية خليفة للمسلمين فكان تنازل الحسن تقية اصبحت عقيدة لدي الشيعة بعد أن اصبحوا علي امرهم مغلوبين و تحت رحمة معاوية خاضعين [15] . [ صفحه 545]

معاوية و شروط الصلح

مما لا شك فيه أن الحسن (ع) بالرغم من أنه تنازل عن السلطة في ظل ظروف تفرض عليه التنازل، ولكنه اشترط لنفسه و لشيعته و لانصار ابيه شروطا لم تتوفر لدينا المصادر الموثوقة علي تحديدها بنحو تطمئن اليه النفس، و قد اجاب اليها معاوية في بداية الأمر و عاهد الله علي الوفاء بها و كان سخيا في عروضه منذ البداية، و لا لأنه لم يجد بديلا عنها و لا لأن الصلح مخرجه الوحيد، بل لأنه كان يفضل الاستيلاء علي السلطة بالصلح علي القوة

العسكرية للاعتبارات التي ذكرناها و أهمها أن الصلح يضفي علي حكومته صفة الشرعية بنظره، و بالرغم من العهود التي قطعها علي نفسه و المواثيق التي اعطاها للامام الحسن (ع) علي الوفاء بكل ما الزم نفسه به، فقد اجمع المؤرخون بما فيهم المتعصبون لمعاوية و حزبه علي أنه لم يف بشي ء منها، و قد اعلن تراجعه عنها بعد أن دخل الكوفة و استتب له امرها، فقال و هو يخطب في حشد كبير من اهلها: الا و ان كل شرط و اعطيته للحسن بن علي فهو تحت قدمي هاتين لا افي بشي ء منه، و بالفعل فلقد باشر بنقض جميع البنود التي اشتملت عليها وثيقة الصلح، و لما اشتد بلاؤه علي الشيعة وفد جماعة منهم علي الحسن في المدينة و عرضوا عليه بالحاح نقض المعاهدة و وضعوا انفسهم بين يديه و وعدوه بالنصر و الصبر و ضمنوا له كل ما تطلبه المعركة من السلاح و العتاد، و قال له سليمان بن صرد الخزاعي، و هو يوم ذاك الرئيس المطاع في قومه و في العراق علي حد تعبير ابن [ صفحه 546] قتيبة: و قد زعم معاوية علي رؤوس الناس ما قد سمعت الا و اني كنت شرطت لقوم شروطا و وعدتهم عدات و منيتهم اماني فان كل ما هنالك تحت قدمي هاتين، و والله ما عني بذلك الا نقض ما بينك و بينه فأذن لي ان اشخص الي الكوفة و أخرج منها عاملها و أظهر فيها خلعه و أنبذ اليه علي سواء ان الله لا يهدي كيد الخائنين. و تلكم بعده حجر بن عدي و المسيب بن جية الغزاري المعروف بفارس مضر الحمراء و غيرهم بكلام يشبه بعضه

بعضا، و توالت عليه الوفود من الكوفة و غيرها و كلها تئن و تضج من جور معاوية و عماله، و لا تري منفذا من تلك المحنة الا بالتراجع عن الصلح و كان جوابه الاخير: ليكن كل رجل منكم حلسا من احلاس بيته مادام معاوية حيا، فان يهلك معاوية و نحن و أنتم أحياء سألنا الله العزيمة علي رشدنا و المعونة علي امرنا و ان لا يكلنا الي انفسنا فان الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون. و كان جوابه هذا لتلك الفئة من المؤمنين لعلمه بأنهم لا يغنون عنه شيئا، و لو تراجع عن الصلح و عاد الي الكوفة بعد أن استتب امر معاوية فيها و تغلغل انصاره بين قبائلها و بعد أن توالت عليهم صلات معاوية و قطفوا ثمار و عودة و مغرياته فسيكون موقفهم معه أسوأ من الأول لذلك فقد امرهم بالصبر و الاخلاد الي السكينة و انتظار امر الله سبحانه. و كان من الشروط التي اشترطها الامام الحسن ان لا يتعرض لشيعته و شيعة أبيه بسوء في أي قطر كانوا، ولكن معاوية بن هند كان من اغلي امانيه القضاء علي كل ما يمت الي البيت العلوي بصلة من الصلاة مهما كنا نوعها، فلم يترك وسيلة من وسائل العنف و الارهاب و التعذيب الا استعملها مع الشيعة، و كان اشدهم بلاء و أعظمهم محنة و شقاء شيعة الكوفة، فلقد استعمل عليها المغيرة بن شعبة و أوصاه بالتنكيل بهم و ان لا يترك شتم علي و بنيه في مناسبة من المناسبات، و بعد أن هلك المغيرة استعمل عليها زياد بن سمية و كان بهم عارفا و بأحوالهم خبيرا فقتل من تمكن منه و

مثل بهم بقطع الأيدي و الأرجل و صلبهم علي جذوع النخل و شرد اكثرهم في الأمصار. و كتب معاوية الي جميع [ صفحه 547] عماله في العراق و غيرها: انظروا الي من قامت عليه البينة انه يحب عليا و أهل بيته فامحوه من الديوان و امنعوا عنه عطاءه و رزقه، و كتب كتابا آخر الي عماله قال فيه: من اتهم بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به و اهدموا داره، و جاء عن الامام محمد بن علي الباقر (ع) و هو يصف ما لاقاه شيعتهم من البلاء و المحن في عهد معاوية، جاء عنه انه قال: و قتل شيعتنا بكل بلدة و مصر و قطعت الأيدي و الأرجل علي الظنة و التهمة و كل من اتهم بحبنا قتل و سجن و هدمت داره و نهب ماله حتي بلغ بهم الحال أن الرجل كان يتمني ان يتهم بالكفر و الزندقة و لا يتهم بحبنا اهل البيت [16] . و من الشروط كما يذهب المؤرخون ان لا يتعرض الي أبيه بسوء، ولكنه بعد أن استولي علي السلطة و استتب له الأمر و وزع عماله علي الأمصار كان اول ما اوصاهم به شتم علي بن أبي طالب علي المنابر و تسخير جميع الاجهزة لوضع الأحاديث في فضل الخلفاء الثلاثة و انتقاص اميرالمؤمنين، و لما استعمل المغيرة ابن شعبة علي الكوفة بعد عام الجماعة ترك له أن يتصرف في جميع الشؤون الادارية و العسكرية حسبما تقتضيه خبرته و حكمته و أوصاه بشتم علي و لعنه علي المنابر و في المجتمعات فنفذ المغيرة هذه الوصية كما يريد و توالي علي ذلك الولاة من بعده. و جاء في شرح النهج ان معاوية لما رجع

الي الشام بعد الصلح اجتمع عليه الناس يهنئونه بالانتصار الذي احرزه، فقال: ايها الناس ان رسول الله قال لي: انك ستلي الخلافة من بعد فاختر الأرض المقدسة فان فيها الابدال و قد اخترتكم فالعنوا اباتراب، فأخذ الناس في سبه و انتقاصه [17] . و كان كما تؤكد جميع المصادر لا يترك مناسبة تمر الا و يشتم فيها عليا (ع) و بخاصة في خطبتي الجمعة و الاعياد حتي اصبح في مفهوم الناس سبه من السنن التي لا تتم بدونها صلاة الجمعة، و كثيرا ما كان يردد في خطبه: اللهم ان اباتراب قد ألحد في دينك و حاد عن سبيلك فالعنه لعنا وبيلا و عذبه عذابا اليما. [ صفحه 548] و جاء في تطهير الجنان و اللسان انه عزل سعيد بن العاص عن امارة يثرب لا لشي ء الا لأنه امتنع عن سب اميرالمؤمنين و عين مكانه مروان بن الحكم فبالغ مروان في سب الامام و انتقاصه بالرغم من وجود الحسن و الحسين بالمدينة، و حينما رغب اليه بعض اهل المدينة ان يخفف من لهجته و يراعي جانب العلويين و الهاشميين اجاب: لا يستقيم لنا الأمر الا بذلك كما جاء في رواية الصواعق المحرقة لابن حجر [18] . و في حياة الامام الحسن للقرشي عن الحافظ السيوطي انه كان في ايام بني امية اكثر من سبعين الف منبر يلعنون عليها اميرالمؤمنين (ع) و مضي يقول: و بهذه المناسبة قال احمد حفظي الشافعي في ارجوزته: و قد حكي السيوطي انه قد كان فيما جعلوه سنه سبعون الف منبر و عشرة من فوقها يلعنون حيدره و هذه في جنبها الفطائم تصفر بل توجه اللوائم في حين ان اميرالمؤمنين (ع) في حياته

سمع جماعة من اصحابه يسبون معاوية فأنكر عليهم ذلك و قال: اني اكره لكم ان تكونوا قوما سبابين ولكنكم لو وصفتم اعمالهم و ذكرتم حالهم كان اصوب في القول و أبلغ في العذر قولوا مكان سبكم اياهم: اللهم احقن دماءنا و دماءهم و اصلح ذات بيننا و بينهم و اهدهم عن ضلالتهم حتي يعرف الحق من جهله و يرعوي عن الغي و العدوان من لهج به. و هكذا كان الامام ابومحمد الحسن (ع) يترفع عن استعمال لغة السب و الشتم بالرغم من انه كان يبلغه كل ذلك عن معاوية و عماله، و أحيانا يبلغ السفه و الحقد من معاوية و زبانيته حدهما الأقصي فينالون من علي (ع) بحضور الحسن و الحسين و مع ذلك فلم يستعمل هذه اللغة و لا دعا احدا من اصحابه اليها، و كل ما في الأمر انه كان اذا اجتمع بمعاويته و زبانيته كابن العاص و أمثاله [ صفحه 549] و أحرجوه علي الحديث كما كانوا يصنعون احيانا، يستعرض تاريخهم الحافل بالمخازي و المنكرات فيخصمهم و يعودون نادمين خاسرين. و قد حكي عنه صاحب الملاحم و الفتن في كتابه المذكور ان معاوية ارسل الي الامام الحسن في حاجة له فلما قابله الرسول هابه و عظمه من حيث لا يريد و قال: لا تخن من ائتمنك و حسبك ان تحبني لحب رسول الله و أبي و أمي، و من الخيانة ان يثق بك قوم و أنت عدو لهم و تدعو عليهم. و ظل الأمويون علي موقفهم هذا من اميرالمؤمنين الي أن صارت الخلافة الي عمر بن عبدالعزيز فمنع من سبه و كتب بذلك الي جميع عماله في الأمصار و أمرهم أن يستبدلوا

سبه في خطب الجمعة و الاعياد بقراءة الآية: (ربنا اغفرلنا و لاخواننا الذين سبقونا بالايمان و لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا انك رؤوف رحيم). و كان عمر بن عبدالعزيز يحدث عن السبب الذي دعاه الي محاربة هذه البدعة و يقول: كنت غلاما اقرأ القرآن علي بعض أولاد عتبة بن مسعود فمر بي يوما و أنا العب مع الصبيان و نحن نلعن عليا (ع) فكره ذلك و دخل المسجد فتركت الصبيان و جئت اليه لأدرس عليه وردي فلما رآني قام الي الصلاة و أطال فيها و كأنه معرض عني، فلما انفتل من صلاته كلح في وجهي، فقلت ما بال الشيخ معرضا عني؟ فقال لي: أنت اللاعن عليا منذ اليوم، فقلت نعم، قال فمتي علمت أن الله سخط علي أهل بدر بعد أن رضي عنهم، فقلت له: يا أبتي و هل كان علي من أهل بدر، فقال: ويحك و هل كانت بدر كلها الا له، فقلت له لا أعود لمثلها، و أضاف الي ذلك ابن عبدالعزيز: و كنت احضر تحت منبر المدينة و أبي يخطب يوم الجمعة و هو يوم ذاك أميرها، فكنت اسمع أبي يمر في خطبته تهدر شقاشقه حتي يأتي الي لعن علي بن أبي طالب فيجمجم و يعرض له من الفهاهة و الحصر ما الله عالم به فكنت اعجب من ذلك، فقلت له يوما: يا أبتي أنت أفصح الناس و أخطبهم فما بالي أراك اذا مررت بلعن هذا الرجل [ صفحه 550] صرت الكن عيبا، فقال: يا بني لو علم من تحت منبرنا من أهل الشام و غيرهم من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتبعنا منهم أحد، فوقرت كلمته في

صدري مع ما قال معلمي أيام صغري، و أعطيت الله عهدا لئن كان لي في هذا الأمر شي ء لأغيرنه، فلما من الله علي بالخلافة اسقطت ذلك. و من الشروط التي أعطاها معاوية للامام الحسن (ع) كما يدعي بعض المؤرخين أن يكون له خراج دار أبجر و يتصرف به كما يريد، و لم يف له معاوية بذلك كما جاء في تاريخ أبي الفداء. و نص ابن الأثير في تاريخه أن دار ابجر كانت تابعة للبصرة فأوعز معاوية الي أهل البصرة ليمنعوه من تسليمه خراجها، و بالفعل فلقد تم ذلك و احتج معاوية بأهل البصرة كما هو الحال في أكثر تصرفاته التي تقوم علي الأحتيال و المكر و الخداع، و كنت قد أبديت رأيي في مثل هذه الشروط خلال الحديث عن الصلح و بنود الاتفاق. و من الشروط كما يدعي اكثر المؤرخين أن تكون الخلافة بعد معاوية الي الامام الحسن، فان لم يكن الحسن موجودا حين وفاته فالي الحسين (ع) مباشرة، و الوفاء بهذه المادة يبدو و كأنه من المستحيلات علي معاوية، لأنه منذ أن وطئت قدماه أرض الشام واليا عليها لعمر بن الخطاب و أصبح صاحب السلطة عليها جعل يخطط بكل وسائله لاعادة امجاده التي حطمها الاسلام، و كانت تراوده الاحلام بأن يساعده الحظ و يأتيه اليوم الذي يصدر فيه المراسيم و الأوامر باسم الدولة الاسلامية، و ها هو اليوم الذي كان ينتظره و يحلم فيه و تنتظره اسرته التي عبر عن أمانيها و أحلامها أبوسفيان يوم انتهت الخلافة الي عثمان، بقوله: تلقفوها يا بني أمية تلقف الكرة فوالذي يحلف به أبوسفيان ما من جنة و لا نار و لا حساب و لا عقاب، بعد أن تحققت

احلامه و أحلام اسرته و أصبح بامكانه أن يتركها لاسرته، تتلقفها تلقف الكرة، فكيف يتركها للحسن و الحسين، و قد حارب هو و أسرته الاسلام عشرين عاما من أجل السلطة، و منذ الأيام الأولي التي استولي بها علي الحكم أخذ يعمل و يمهد لوارث عرشه يزيد بن معاوية، و كان وجود الحسن يشغل تفكيره لأن المسلمين لا يعدلون به [ صفحه 551] أحدا من خيارهم، فكيف اذا كان البديل للحسن ولده الفاسق الفاجر المستهتر بالاسلام و جميع القيم، و قد وصفه عبدالله بن حنظلة الصحابي الجليل غسيل الملائكة المعروف بالراهب بقوله: و الله ما خرجنا علي يزيد حتي خفنا أن نرمي بالحجارة من السماء انه رجل ينكح الأمهات و البنات و الأخوات و يشرب الخمر و يترك الصلاة، و الله لو لم يكن معي أحد من الناس لا بليت الله فيه بلاء حسنا. و جاء عن المنذر بن الزبير فيه و كان قد وفد علي الشام فأجازه يزيد بن معاوية بمائة الف و لما رجع قال: و لقد أجازني بمائة الف و لا يمنعني ذلك أن أخبركم خبره، والله أنه ليشرب الخمر حتي يسكر و يترك الصلاة [19] . و جاء في صبح الاعشي أن أباه معاوية قد كتب اليه يندد به و ينهاه عن المنكرات و فيما قال له: بلغني أنك اتخذت المصانع و المجالس للملاهي و المزامير و قد قال الله سبحانه: أتبنون بكل ربع آية تعبثون و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون. و أجهرت الفاحشة حتي اتخذت سيرتها عندك جهرا، و اعلم يا يزيد أن أول ما سلبك السكر معرفة مواطن الشكر لله علي نعمه المتظاهرة و آلائه المتواترة و هي الجريمة العظمي

و الفجعة الكبري ترك الصلوات المفروضات في أوقاتها و هو من أعظم ما يحدث من آفاتها، ثم استحسان العيوب و ركوب الذنوب و اظهار العورة و اباحة السر فلا تأمن نفسك علي سرك و لا تعتقد علي فعلك [20] . و مع أن هذا النوع من المرويات في مجاميع التاريخ أكثره من مراسيل الواقدي و المدائني و أمثالهما و هما من غير الموثوقين كما يبدو ذلك لمن تتبع تاريخهما، ولكني لا أستبعد علي معاوية أن يخاطب ولده المستهتر الفاجر بهذا النوع من الكلام أو يكتب له بهذه المضامين لا لانه كان يتورع عن هذه المنكرات و ما هو اعظم منها، فلقد قتل مئات الأبرياء و العلماء من الصديقين و عباد الله الصالحين جورا و بلا سبب الا لأنهم انكروا جوره و طغيانه. [ صفحه 552] أما المنكرات و نكاح المحرمات و الاستخفاف بالشعائر الاسلامية فلم يكن يتجاهر بها كما كان يفعل ولده يزيد دجلا و نفاقا، و كان يتمني علي ولده أن لا يتجاهر بها، لا تأثما و احتراما للاسلام و مقدساته و شعائره، بل لأنه حينما بدأ يتحسس رأي الناس في ولده يزيد ليوليه الخلافة من بعده فوجي ء بالمعارضة الشديدة، و أكثر المعارضين كانوا يحتجون باستهتاره و ادمانه علي المسكرات و غيرها من الحرمات، فكان يتمني عليه التستر لتخف حدة المعارضة و تزول من طريقه بعض الصعاب. و مع أن أباه كان يتمني عليه ذلك فلم يحدث أحد من المؤرخين علي اختلاف نزعاتهم بأن يزيد قد غير اسلوب حياته، أو تستر فيما كان يتعاطاه من المنكرات. و مهما كان الحال فلقد اخذ معاوية منذ استيلائه علي السلطة يعمل بكل وسائله و امكانياته ليفرض ولده

علي الناس من بعده، ولكن جميع جهوده كانت تصطدم بوجود الامام الحسن (ع) و حتي ان جماعة من مؤيديه في الحجاز و العراق أشاروا عليه بالتريث في هذا الأمر ريثما يتوفر الجو الملائم لعمل خطير من هذا النوع كما أشار عليه جماعة من كبار المسلمين و أبناء المهاجرين و الانصار أن يتحري الاصلح لهذه الأمة. و كان مما قاله له الأحنف بن قيس أحد زعماء المسلمين: انك قد اعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك فان تف فأنت أهل الوفاء و أن تغدر ستعلم و الله أن وراء الحسن خيولا جيادا و أذرعا شدادا و سيوفا حدادا و أن تدن له شبرا من غدر تجد وراءه باعا من نصر، و اعلم بأن أهل العراق ما أحبوك منذ ابغضوك، و لا ابغضوا عليا و حسنا منذ احبوهما. و قال له في مجلس آخر و كان معاوية يحاول اقناعه بولاية العهد ليزيد من بعده: يا معاوية أنت أعلم بليله و نهاره و سره و علانيته فان كنت تعلم أنه خير لك فوله و استخلفه، و ان كنت تعلم أنه شر لك فلا تزوده الدنيا و أنت صائر الي الآخرة، و اعلم بأنه لا حجة لم عند الله أن قدمت يزيد علي الحسن [ صفحه 553] و الحسين و أنت تعلم من هما و الي ما هما. و قال له عبدالله بن العباس: ان الله تقدست اسماؤه و جل ثناؤه اختار محمدا لرسالته و اختاره لوحيه و شرفه علي خلقه فأشرف من تشرف به و أولاهم بالأمر أحقهم به. و قال له عبدالله بن جعفر: أن هذه الخلافة ان أخذ

فيها بسنة الشيخين أبي بكر و عمر فأي الناس أفضل و أكمل و أحق بهذا الأمر من آل الرسول، وايم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه و لاطيع الله و عصي الشيطان و ما اختلف في الأمة سيفان فاتق الله يا معاوية فانك قد صرت راعيا و نحن لك رعية فانظر لرعيتك فانك مسؤول عنها غدا. و قال له ابن الزبير: اتق الله يا معاوية و انصف من نفسك فان هذا عبدالله بن عباس، و هذا عبدالله بن عمر و أنا عبدالله بن الزبير ابن عمة رسول الله، و قد خلف علي بن أبي طالب حسنا و حسينا و أنت تعلم من هما و ما هما فاتق الله و احكم بيننا و بين نفسك. و قال له عبدالله بن عمر: ان هذه الخلافة ليست هرقلية و لا كسروية يتوارثها الابناء عن الآباء و لو كانت كذلك كنت القائم بها بعد أبي، فوالله ما أدخلني مع الستة من أصحاب الشوري الا علي أن الخلافة ليست شرطا مشروطا، و انما هي في قريش خاصة لمن كان أهلا لها ممن يرتضيه المسلمون لانفسهم اذا كان ارضي و اتقي، و ان كنت تريد يزيد فاعلم أنه لا يغني عنك من الله شيئا. و الي غير هؤلاء من أعيان المسلمين و وجوههم الذين نصحوه في التريث و حسن الاختيار و ذكروه بعهده للامام الحسن، و كان القريب و البعيد لا يفضل أحدا عليه و ينصحه بأن لا يتعداه ولكن ذلك لم يغير من تصميمه و جعل يفكر في التخلص منه و يعد العدة لذلك في الوقت المناسب. [ صفحه 554]

زوجات الحسن

لقد تحدث المؤرخون عن زوجات الحسن و أكثروا و مال

أكثرهم الي المبالغة في تعدادهن مبالغة لا تعتمد علي أساس معقول، فقال بعضهم انهن يتراوحن بين الستين و السبعين، و قال البعض الآخر بأنه تزوج بأكثر من مائتين و خمسين امرأة و أن أباه كان يتضجر من ذلك، و وقف بعضهم منه موقفا يتسم بالاعتدال و التجرد، فقال بأن تعدد الزوجات كان شائعا و مألوفا بين المسلمين و لم يكن أكثر زواجا من غيره، و قل من مات من أعيان المسلمين عن أقل من أربع زوجات، فلقد تزوج و طلق حتي بلغ عدد زوجاته و مطلقاته نحوا من خمس عشرة امرأة. أما رواية السبعين و التسعين و غيرها من الروايات التي تصفه بأنه مطلاق، و أن والده كان يقول: لا تزوجوا ولدي الحسن فانه مطلاق فلا مصدر لها الا المدائني و أمثاله من الكذبة كما يبدو من أسانيدها، و المدائني و الواقدي و غيرهما من المؤرخين القدامي قد كتبوا التاريخ في ظل الحكومات التي كانت تناهض اهل البيت و تعمل بكل ما لديها من الوسائل علي تشويه و اقعهم واقعهم و انتقاصهم، و لم يكن حكام الدولة العباسية بأقل سوءا و تعصبا من أسلافهم الأمويين، فقد شاركوهم في وضع الأحاديث التي تسي ء الي العلويين، و كانوا يحدقون علي الحسنيين بصورة خاصة لأن أكثر الثائرين علي الظلم كانوا من أولاد الحسن و أحفاده. [ صفحه 555] و لما قبض المنصور علي عبدالله بن الحسن أحد الحسنيين الثائرين علي الظلم و الجور خطب في حشد كبير من الناس و نال من علي ابن أبي طالب و من الامام الحسن و جميع الطالبيين، و كان مما قاله: ان ولد ابي طالب تركناهم و الذي لا اله غيره و الخلافة و

لم تتعرض لهم لا بقليل و لا كثير فقام فيها علي بن أبي طالب فما أفلح و حكم الحكمين فاختلفت عليه الأمة و افترقت الكلمة، ثم وثب عليه شيعته و أنصاره و ثقاته فقتلوه، و قام من بعده الحسن بن علي (ع) فوالله ما كان برجل، لقد عرضت عليه الأموال فقبلها و دس اليه معاوية اني جاعلك ولي عهدي فخلعه و انسلخ له مما كان فيه و سلمه اليه، و أقبل علي النساء يتزوج اليوم واحدة و يطلق غدا أخري، فلم يزل كذلك حتي مات علي فراشه. و في المجلد الأول من صبح الأعشي أن المنصور كتب الي النفس الزكية الحسني كتابا جاء فيه: و افضي امر جدك الي الحسن فباعها لمعاوية بخرق و دراهم و لحق بالحجاز و أسلم شيعته بيد معاوية فدفع الأمر الي غير أهله و أخذ مالا من غير حله فان كان لكم فيها شي ء فقد بعتموه و أخذتم ثمنه الي غير ذلك مما كان العباسيون يلصقونه بالحسن (ع) ردا علي الانتفاضات الشعبية التي قادوها ردا علي جورهم و طغيانهم. و كما ذكرنا فرواية السبعين رواها المدائني كما جاء في شرح النهج، و رواية التسعين رواها الشبلنجي في نور الابصار، و رواية المائتين و خمسين و الثلاثمائة رواها المجلسي عن قوت القلوب لأبي طالب المالكي المتوفي سنة 380. و جاء في الكتاب المذكور كما يروي القرشي عنه في المجلد الثاني من كتابه الحسن بن علي أن الحسن تزوج مائتين و خمسين امرأة و قيل ثلاثمائة و أن عليا كان يتضجر من ذلك حياء من أهلهن اذاء طلقهن، و كان يقول: ان حسنا مطلاق فلا تزوجوه، فقال له رجل من همدان: و الله يا

أميرالمؤمنين لننكحنه ما شاء فمن أحب أمسك و من كره فارق فسر بذلك أميرالمؤمنين و أنشأ يقول: و لو كنت بوابا علي باب جنة لقلت لهمدان ادخلوا بسلام [ صفحه 556] و مضي في قوت القلوب يقول: و هذا أحد ما كان الحسن يشبه فيه جده رسول الله، و هو يشبهه في الخلق، و قد قال له جده: اشبهت خلقي و خلقي، و قال حسن مني و حسين من علي، و أضاف الي ذلك أن الحسن كان ربما عقد علي أربع و طلق أربعا. و علي ما يبدو أن الذين الصقوا بالحسن كثرة الزواج و الطلاق هؤلاء الثلاثة المدائني و الشبلنجي و أبوطالب المكي في قوت القلوب، و عنهم أخذ المؤرخون و الكتاب من السنة و الشيعة و المستشرقون، أما علي بن عبدالله البصري المعروف بالمدائني و المعاصر للعباسيين فهو من المتهمين بالكذب في الحديث. و جاء في ميزان الاعتدال للذهبي أن مسلما في صحيحه قد امتنع عن الرواية عنه، و أن ابن عدي قد ضعفه، و قال له الاصمعي: و الله لتتركن الاسلام وراء ظهرك، و كان من خاصة أبي اسحاق الموصلي، و قد تبعه لثرائه، و يروي عن عوانة بن الحكم المتوفي سنة 158 و المعروف بولائه لعثمان و الأمويين. و نص ابن حجر في لسان الميزان أن عوانة كان يضع الأخبار لبني أمية، و جاء في معجم الأدباء أنه كان مولي لسمرة بن حبيب الأموي، أما صاحب لسان الميزان فقد قال: أنه كان مولي لعبدالرحمن بن سمرة بن حبيب الأموي، هذا بالاضافة الي أن أكثر رواياته من نوع المراسيل، كل ذلك مما يبعث علي الاطمئنان بأن رواية السبعين التي لم يروها غير المدائني من موضوعاته

لمصلحة الحاكمين اعداء العلويين. أما رواية التسعين فقد أرسلها الشبلنجي في كتابه نور الابصار و لم ينسبها لاحد، و الشبلنجي في كتابه المذكور لم يتحر الصحيح في مروياته و أخباره كما يبدو ذلك للمتشبع فيه، و المرسل اذا لم يكن مدعوما بشاهد من الخارج أو الداخل للاستدلال، في حين أن الشواهد و القرائن ترجع بأنه من صنع الحاقدين علي أهل البيت. و أما رواية المكي في قوت القلوب فهي اقرب الي الأساطير من غيرها لأنها [ صفحه 557] لم ترد علي لسان أحد من الرواة و أبوطالب المكي كان مصابا بالهستيريا كما نص علي ذلك معاصروه و حينما وفد علي بغداد وجد البغداديون في حديثه هذيانا و خروجا عن ميزان الاعتدال و الاستقامة، و جاء عنه أنه كان يقول: ليس علي المخلوق أضر من الخالق، و يبيح استماع الغناء و لما عاتبه عبدالصمد بن علي أنشد: فيا ليل كم فيك من متعة و يا صبح ليتك لم تقرب و من شذوذه كما جاء في البداية و النهاية لأبن كثير: والكني و الالقاب للقمي: انه أوصي أحد اصحابه أن غفر الله له أن ينثر علي جنازته لوزا و سكرا و جعل العلامة علي ذلك أن يقبض علي يد صديقه ساعة الاحتضار فقبض علي يده في تلك الساعة و نفذ صديقه ما أوصاه به. هذا بالاضافة الي أن جميع من تحدث عنه وصف مرويات كتابه بالضعف و الشذوذ، و الذين رووا عنه هذا النوع من المرويات كالمجلسي و غيره لم يكن يعنيهم جمع الحديث من أي مصدر كان كما هو الشأن في مرويات البحار التي لا يثبت الكثير منها في مقام النقد و التمحيص. و قد روي في

البحار كما جاء في كتاب القرشي أنه لما توفي الحسن (ع) خرجت جمهرة من النساء حافيات حاسرات و هن يقلن: نحن زوجات الحسن، علي أن بعض المغفلين من الشيعة لقد تقبلوا هذه المرويات ظنا منهم أن ذلك فضيلة للحسن و دليل علي ثقة الناس به، كما يظهر ذلك من الشيخ راضي ياسين في كتابه ملح الحسن، و قد أشار في كتابه المذكور الي أنه كان يحلل المطلقات ثلاثا لازواجهن، و لا يثق الأزواج بغيره في هذه المهمة، فأساء الي الامام الحسن و الي أهل البيت (ع) من حيث لا يقصد، و في الوقت ذاته أتاح لبعض الجهلة من الشيعة و الحاقدين من غيرهم أن يتناولوه بالنقد و التجريح و أن يلصقوا به ما لا يرضاه لنفسه كرام الناس فضلا عن سيد شباب أهل الجنة و ريحانه رسول الله و أشبه الناس به خلقا و خلقا كما أجمع علي ذلك الرواة و المحدثون. [ صفحه 558] علي أن المدائني نفسه الذي ادعي أنه تزوج بسبعين، قد احصي له عشر نساء لا غير وعدهن بأسمائهن كما جاء في المجلد الرابع من شرح النهج، و زواجه من عشر نساء ليس بغريب في ذلك العصر لأن الزواج كان مألوفا و متعارفا بين الصحابة و التابعين، و قد مات كل من الزبير عبدالرحمن بن عوف و طلحة عن أربع زوجات عدا مطلقاتهم كما نص علي ذلك أكثر المؤرخين. [ صفحه 559]

اولاد الحسن

لقد اختلف المؤرخون في عدد أولاده ذكورا و اناثا، فبين من قال بأنه مات عن ثمانية ذكور و أربع اناث، و بين من قال بأنه ترك أحد عشر ذكرا و خمس اناث و قال آخرون: بأنه مات عن

أربعة عشر ذكرا و ثماني اناث الي غير ذلك من الأقوال التي لا يجدينا تحقيقها و تدقيقها نفعا، و قد اشتهر من أولاده الذكور القاسم بن الحسن، و أمه كما قيل رملة أو نفيلة، و استشهد مع عمه الحسين في كربلاء و تاريخه يقترن بتلك الفاجعة مع أبطال الطف. عبدالله بن الحسن، و قتل مع عمه أيضا و كان في مطلع شبابه و قد ابت نفسه الكريمة أن يري عمه الحسين وحيدا و قد احتوشه أهل الكوفة من كل جانب فبرز و قاتل حتي قتل، و قيل أن حرملة بن كامل رماه بسهم و هو الي جانب عمه الحسين فذبحه بعد أن ضربه ابحر بن كعب بالسيف علي يده فقطعها فاحتضنه عمه فجاءه السهم و هو بتلك الحالة، كما جاء في مقاتل الطالبين أن للحسن ولدا اسمه عبدالله كان صغيرا فلما سقط الحسين عن فرسه خرج يشتد نحوه فجاءه سهم أصاب منه مقتلا. و زيد بن الحسن المعروف يزيد الابلج و لم يحدث المؤرخون لواقعة الطف بأنه اشترك فيها، و جاء في بعض المرويات انه توفي بعد أن بلغ التسعين من عمره سنة مائة و عشرين و كان كما يصفه المؤرخون جليل القدر كثير البر و الاحسان يقصده الناس لبره و معروفه. قد مدحه محمد بن بشير الخارجي كما [ صفحه 560] في رواية البحار بأبيات جاء فيها: اذ نزل ابن المصطفي بطن تلعة نفي جدبها و اخضر بالنبت عودها و زيد ربيع الناس في كل شتوة اذا اخلفت انواؤها و رعودها كما رثاه غيره من الشعراء و أشادوا بمآثره و فضله و ممن رثاه قدامة ابن موسي الجمحي بقصيدة جاء فيها: فان يك زيد

غالت الأرض شخصه فقد بان معروف هناك وجود و كان يلي صدقات رسول الله (ص) كما ذكر المفيد في ارشاده و اتنزعها منه سليمان بن عبدالملك وردها عليه عمر بن عبدالعزيز، و رجح توفيق أبوعلم في كتابه أهل البيت أنه مدفون بالقاهرة بالقرب من جامع القراء. و من أولاده الحسن الأنوار، الذي يقول فيه الشاعر: اذا امسي ابن زيد لي صديقا فحسبي من مودته نصيبي و هو والد السيدة نفيسة ذات المقام المعروف بالقاهرة، و من أولاده يحيي المتوج والد زينب التي لازمت عمتها نفيسه في القاهرة و دفنت فيها بجوار قبر ابن العاص و كانت من الزاهدات العابدات و أهل مصر يأتون لزيارة قربها من كل فج حتي أن الخليفة الفاطمي الظاهر كان يقصده ماشيا، و لعل القبر المعروف بقبر زينب في مصر هو قبرها [21] . و الحسن بن الحسن المعروف بالمثني و قد اشترك مع عمه الحسين في معركة الطف و قاتل قتال الابطال و ظل يقاتل حتي سقط الي الأرض لكثرة ما اصابه من الجراح وظنه الناس مع القتلي، و حينما ارادوا قطع رأسه تبين لهم أنه لا يزال حيا فتشفع به اسماء بن خارجة الفزاري و كانت أم فزارية و عالجه حتي بري ء من [ صفحه 561] جراحه و تزوج من فاطمة بنت الحسين (ع) و أكثر الحسنيين الذين ثاروا علي الظلم و الطغيان في العصر العباسي و غيره من احفاده. و اليه و الي أخيه زيد بن الحسن ينتسب السادة الحسنيون الذين لا يزالون حتي عصرنا الحالي يفخرون و يتباهون و يتاجرون بنسبهم كغيرهم ممن يدعون الانتساب الي رسول الله (ص) بعد مضي ألف و أربعمائة من السنين مع بعد

الزمن و تنكرهم لوصاياه و تعاليم الاسلام و أني لا أري للانتساب الي الرسول (ص) قيمة اذا لم يقترن بالدين القويم و العمل الطيب، و قد قال (ص) و لابنته فاطمة (ع): اعملي فلن اغني عنك من الله شيئا. و سلام الله و تحياته و رضوانه علي الامام الصادق (ع) القائل: ولايتي لعلي أحب الي من ولادتي منه و سلامه علي الامام زين العابدين الذي قال لطاووس اليماني و هو يحاوله أن يرحم نفسه و يرفق بها و لا يجهدها في العبادة و قد ذكره بنسبه الرفيع الذي يشده الي الرسول الله (ص): يا طاووس دعني من حديث أبي وجدي و أمي الجنة لمن أطاع الله و لو كان عبدا حبشيا و النار لمن عصاه و لو كان سيدا قرشيا. و في عشرات المناسبات كان الأئمة (ع) يحرصون علي أن يصرفوا المنتسبين الي علي و فاطمة (ع) عن الاتكال علي انسابهم مؤكدين لهم أن الانساب لا تغني عنهم شيئا و أنه لا شي ء يغني عن العمل الصالح كما أكد ذلك القرآن أكثر من مرة، و لم يرد ذكر في المقاتل و لا في كتب الانساب لغير من ذكرنا من ولد الحسن السبط (ع). [ صفحه 562]

وفاة الامام الحسن

لقد كان وجود الحسن بين الاحياء ثقيلا علي معاوية و عقبة في طريق وصول ولده يزيد الي السلطة من بعده، و خاف أن يأتيه يومه و الحسن (ع) بين الاحياء فأخذ يعد العدة للتخلص منه كما ذكرنا من قبل، ففكر و أطال التفكير و استعرض أساليب الغدر و الفتك التي كان يستعملها في سبيل مجده و ملكه فلم يجد أشد فتكا و أخف مؤونة من العسل المسموم الذي

جربه أكثر من مرة مع اخصامه و مناوئيه، لقد جربه مع مالك الاشتر و هو في طريقه الي مصر واليا عليها لعلي (ع) فدس اليه من قتله قبل وصوله اليها بعسل مسموم و تخلص منه، و بعدها بسنوات قليلات كانت ترتفع أسهم عبدالرحمن بن خالد بن الوليد و كان محبوبا و متزنا في سلوكه و مرموقا أكثر من ولده يزيد، و خاف أن يجد في بلاد الشام من يقدمه علي ولده فدس اليه السم و قتله. و ثقل عليه سعد بن أبي وقاص و هو أحد الستة الذين رشحهم ابن الخطاب للخلافة، و المسلمون لا يضعون يزيدا الي جانبه و لا يقدمونه عليه، فدس اليه من قتله بالسم كما جاء ذلك في شرح النهج و غيره. قال شارح النهج: أن معاوية لما أراد البيعة لولده يزيد من بعده لم يكن شي ء اثقل عليه من الحسن بن علي و سعد بن أبي وقاص فدس اليهما سما فماتا منه في أيام متقاربه بعد مضي عشر سنوات من استيلائه علي السلطة [22] . [ صفحه 563] و كان العسل المسموم أحد جنوده، و قد اشتهر عنه أنه كان يقول: ان لله جنودا من عسل، و لما جاء دور الحسن أرسل الي ملك الروم يطلب منه سما فتاكا سريع التأثير فامتنع عن اجابته و كتب اليه أنه لا يصلح في ديننا أن نعين علي قتل من لم يقاتلنا، فأجابه معاوية أن الرجل الذي أردت قتله هو ابن الرجل الذي خرج في أرض تهامة، و قد خرج الآن يطلب ملك أبيه، و أنا أريد قتله بالسم لأريح منه العباد و البلاد، فأرسل اليه ما أراد، و استطاع معاوية أن يغري زوجة الحسن

جعده بنت الأشعث بن قيس فوعدها بأن يزوجها من ولده يزيد و يدفع لها مائة ألف درهم ان هي دست اليه السم و مات منه، و فوافقت علي طلبه و وضعت له السم في طعامه فتقطع كبده منه. و جاء في شرح النهج و تذكره الخواص عن عمران بن اسحاق أنه قال: كنت مع الحسن و الحسين في الدار فدخل الحسن المخرج، فلما خرج قال: لقد سقيت السم مرارا ما سقيت مثل هذه المرة، لقد لفظت قطعة من كبدي و جعلت أقلبها بعود في يدي فقال له الحسين (ع): و من سقاك يا أخي، قال: و ما تريد منه، أتريد أن تقتله ان يكن هو هو فالله أشد منك نقمة، و ان لم يكن هو فما أحسب أن يؤخذ بي برأي، و أضاف الي ذلك ابن الجوزي في تذكرته أنه جزع و بكي بكاء شديدا، فقال له الحسين (ع) يا أخي ما هذا الجزع، و ما هذا البكاء و انما تقدم علي رسول الله و علي أبيك و عمك جعفر و فاطمة و خديجة، و قال لك جدك: انك سيد شباب أهل الجنة، و لك سوابق كثيرة لقد حججب ماشيا خمسا و عشرين مرة و قاسمت الله مالك مرتين و فعلت و فعلت، و مضي يعدد مكارمه و ما قدمه في سبيل الله و خير الناس، فقال له الحسن (ع): اني أقدم علي خطب عظيم و هول جسيم لم أقدم علي مثله قط، و لست أدري أتصير نفسي الي النار فأعزيها أو الي الجنة فأهنيها. و في رواية ثانية أنه لما أشرف علي الموت قال: اخرجوا فراشي الي صحن الدار فأخرجوه فرفع رأسه الي السماء

و قال: اللهم اني أحتسب عندك نفسي فانها أعز الأنفس علي و لم أحب بمثلها اللهم ارحم صرعتي و آنس في القبر وحدتي. [ صفحه 564] و جاء عن الامام زين العابدين (ع) أن الاشعث اشترك في دم أميرالمؤمنين و ابنته جعدة سمت الحسن (ع) و ابنه محمد بن الاشعث اشترك في دم الحسين. و لما مات الحسن طلبت جعدة من معاوية أن يفي لها بما وعدها فدفع لها المال و رفض أن يزوجها من ولده و قال لها: اننا نحب حياة يزيد و نخشي أن تصنعي به ما صنعت بابن رسول الله، و تزوجها بعد الحسن رجل من آل طلحة فأولدها فكان اذا وقع بين ولدها و بين أحد من بطون قريش كلام قالوا لهم: يا بني مسمة الأزواج. و لما توفي الحسن (ع) تولي أمره الحسين و أخرجه ليدفنه الي جانب جده رسول الله (ص) فخرجت عائشة و معها بنوأمية و قالت: لا يدفن الحسن مع جده أو تجز هذه؟ و أشارت الي ناصيتها و كاد الشر أن يقع بين الفريقين، و كانت قد خرجت علي بغلة شهباء فقال لها القاسم بن محمد بن أبي بكر: يا عمة ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر أتريدين أن يقال يوم البغلة الشهباء، و قال لها بعض من حضر: يوم علي جمل و يوم علي بغل يا أم المؤمنين تجملت تبغلت ولو عشت تفيلت لك التسع من الثمن و بالكل تملكت. و لما اشتد الأمر بين الفريقين عدل به الامام أبوعبدالله الحسين الي البقيع و دفنه الي جانب أمه فاطمة الزهراء. و في بعض المرويات أني بني أمية و أنصارهم رشقوا المشيعين بالسهام و أصيبت الجنازة، و

لم يكن الحسين (ع) أحدا من الهاشميين بالرد عليهم بالمثل عملا بوصية الحسن (ع). و لما فرغ من دفنه وقف علي قبره و أنشد: أدهن رأسي أم تطيب مجالسي و خدك معفور و أنت سليب سأبكيك ما ناحت حمامة ايكة و ما اخضر في دوح الرياض قضيب غريب و اكناف الحجاز تحوطه الا كل من تحت التراب غريب [ صفحه 565] و وقف علي قبره أخوه محمد بن الحنفية و ابنه بقوله: رحمك الله أبامحمد لئن عزت حياتك لقد هدت دقاتك و لنعم الروح روح عمر بها بدنك و لنعم البدن بدن تضمنه كفنك و كيف لا و أنت سليل الهدي و حليف أهل التقي و خامس أصحاب الكسا ربيت في حجر الاسلام و رضعت ثدي الايمان و لك السوابق العظمي و الغايات القصوي فعليك من الله السلام، فلقد طبت حيا و ميتا. و كان له من العمر ست و أربعون سنة و قيل ثمان و أربعون، و أصيب الناس بدهشة لوفاته و أيقنوا بأن معاوية لم يعد يحاذر من أحد و قال قائلهم لقد ذل الناس بموت الحسن بن علي. و بلغ نبأ وفاته البصرة في يومين و ليلتين فقال الجارود بن أبي سبرة: اذا كان شرا سار يوما و ليلة و ان كان خيرا خر و السير اربعا اذا ما يريد الشر أقبل نحونا باحدي الدواهي الدهم سار و أسرعا و كان الذي نعاه في البصرة عبدالله بن سلمة نعاه لزياد فخرج الحكم بن أبي العاص الثقفي فنعاه فبكي الناس و أبوبكرة يوم ذاك مريض فسمع الضجة، فقالت له امرأته قيسة بنت سخام الثقفية مات الحسن و الحمدلله الذي أراح الناس منه، فقال لها اسكتي

ويحك فقد أراحه الله من شر كثير و فقد الناس بموته خيرا كثيرا يرحم الله حسنا. و حدث ابن جرير الطبري و غيره عن عبدالله بن العباس أنه قال: و الله اني لفي المسجد اذ كبر معاوية في الخضراء فكبر أهل الخضراء، ثم كبر أهل المسجد لتكبيرة أهل الخضراء فخرجت فاختة بنت قرضة من خوخة لها فقالت، سرك الله يا أميرالمؤمنين، ما هذا الذي بلغك؟ قال: موت الحسن بن علي، فقالت: انا لله و انا اليه راجعون، ثم بكت و قالت: مات سيد المسلمين و ابن بنت رسول الله، فقال معاوية: انه كذلك و أهل لأن يبكي عليه، و لما بلغ [ صفحه 566] الخبر عبدالله بن العباس دخل علي معاوية فاستقبله معاوية بقوله: أعلمت يا ابن عباس أن الحسن قد توفي، فقال له: ألذلك كبرت يا معاوية؟ قال: نعم، فقال: و الله ما موته بالذي يؤخر أجلك و لا حفرته بسادة حفرتك، و لئن أصبنا به فقد أصبنا بسيد المرسلين و امام المتقين و رسول رب العالمين، ثم بسيد الأوصياء فجبر الله تلك المصيبة و رفع تلك العبرة، فقال معاوية: ويحك يا ابن عباس ما كلمتك الا وجدتك صعدا. و كانت وفاته في الخامس و العشرين من ربيع الأول من سنة خمسين للهجرة و قيل غير ذلك.

پاورقي

[1] الحمالة هي ما يتحمله الشخص من الدية و الغرامة عن قومه. و غيرهم، و المفظعة الثقيلة الشديدة.

[2] من مخطوطات المكتبة الاحمدية بجامع الزيتونة في تونس و توجد منه نسخة مصورة عنها في مكتبة الامام اميرالمؤمنين كما جاء ذلك في المجلد الثاني من حياة الامام الحسن للقرشي.

[3] انظر المجلد الخامس من تاريخ الامم و الملوك ص 57 و المجلد

الأول من الفتوحات الاسلامية ص 175.

[4] انظر شرح النهج ج 3 ص 295.

[5] انظر ص 9 من المجلد الثالث، 2 مجلد 1 ص 283.

[6] أنظر شرح النهج مجلد 2 ص 375.

[7] انظر ص 343 من مروج الذهب المجلد الثاني و المجلد الثاني من شرح النهج طبع مصر ص 357.

[8] أنظر ص 469 ج 10 من التهذيب.

[9] المسعودي مروج الذهب ص 52 من المجلد الثاني.

[10] أنظر ص 328 من الكتاب المذكور عن رسالة الجاحظ في الأمويين.

[11] الكامل لابن الاثير ج 3 ص 308.

[12] انظر صلح الحسن ص 268 عن ابن الاثير في الكامل ج 3 ص 163 و النصائح الكافية ص 158.

[13] انظر مروج الذهب ج 2 ص 341 و 342.

[14] العراق في ظل العهد الأموي للدكتور علي الخرطبولي ص 74.

[15] انظر صفحة 324 و 326 من الكتاب المذكور.

[16] انظر شرح نهج ج 3 ص 15.

[17] نفس المصدر.

[18] انظر ص 33 من الصواعق.

[19] ابن عساكر ج 7 ص 28 و 372 و البداية و النهاية ج 8 ص 216.

[20] صبح الأعشي ج 6 ص 388.

[21] انظر اهل البيت لتوفيق أبوعلم ص 544 و ما بعدها.

[22] انظر ج 4 ص 17 من شرح النهج.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.