عاصفة السلام"اخرجوني الي صحن الدار انظر في ملكوت السماآ"

اشارة

سرشناسه : سيد، كمال، - 1336

عنوان و نام پديدآور : عاصفه السلام "اخرجوني الي صحن الدار انظر في ملكوت السماآ"/ كمال السيد

مشخصات نشر : قم: انصاريان، 1381.

مشخصات ظاهري : 238ص

شابك : 964-438-366-4 ؛ 964-438-366-4

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : عربي

يادداشت : چاپ دوم: 1424ق. = 2003م. = 1382

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس

موضوع : حسن بن علي(ع)، امام دوم، 50 - 3ق. -- سرگذشتنامه

موضوع : حسن بن علي(ع)، امام دوم، 50 - 3ق. -- صلح با معاويه

رده بندي كنگره : BP40/س 86ع 2

رده بندي ديويي : 297/952

شماره كتابشناسي ملي : م 81-19416

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

يمكن القول ان المجتمع الاسلامي في ذلك المقطع التاريخي (40-38) ه.قد انتخب معاوية نفسيا و أقصد بهذا الانتخاب انه وجد نفسه يفكر بطريقة ابتعدت به عن الاصالة في التفكير الاسلامي.

و لذا وفق التقسيم الحضاري للتاريخ الاسلامي أو التقسيم التاريخي لمسار الحضارة الاسلامي و في ضوء مخطط المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي في تفسير الحضارة الاسلامية حيث يشير الي ثلاث مراحل مرت بها الحضارة الروح - العقل - الغريزة.

تعد سنة 38 ه.و هي سنة اندلاع حرب صفين بأنها نقطة منعطف حاد في المسار الحضاري للاسلام حيث اتجه المجمع الاسلامي بعدها نحو السقوط.

بل انه اعتبر المرحلة الاستعمارية و سقوط المجمع الاسلامي في براثن الاستعمار نتيجة لما حصل في صفين.

و يقول بن نبي ان المجتمع الاسلامي عاش التردد في الاختيار..

الاختيار الحسم بين علي و معاوية بين المدينة و دمشق الحكم الديمقراطي و الحكم الدكتاتوري الفردي و لكن المجتمع الاسلامي و مع

[ صفحه 8]

الأسف اختار الطريق الذي يؤدي به الي القابلية للاستعمار ثم الاستعمار.

من هنا يمكن

أن نقيم خطوة الامام الحسن في التأسيس لحالة من السلام كانت ضرورية من أجل أن يكتشف العالم الاسلامي نتائج انتخابه و ارادته...

ثم ظهرت ملحمة عاشوراء الانسانية لتدخل بزخم حضاري قوي جدا بعد أن دخلت بزخم انساني هائل فهي حدث انساني عالمي و لعلنا نستطيع أن نفسر هنا الحديث الشريف: «حسين مني و أنا من حسين».

وورد في المقاتل: ان الامام الحسين رأي جده يخاطبه يا بني ان لك درجة في الجنة مغشاة بنور الله لا تبلغها الا بالشهادة.

فعاشوراء بلورت الضمير الاسلامي و الانساني و عبأته بقوة روحية و أضحي الحسين رمزا انسانيا خالدا و ملهما.

و قد اشتهرت مقولات المهاتما غاندي و نقل عنه قوله: استقيت صبري من صبر الحسين، و علمني الحسين كيف أكون مظلوما فانتصر.

ان التحليل وفق المنهج الرياضي لن ينهض في تفسير حركة الحسين عليه السلام و لن يستطيع وفقا لأدواته أن يحيط بهذه الخطوة الانسانية المدهشة و التي تعد اذا حللت وفق المنهج السياسي البحت حركة جنونية غير محسوبة النتائج.

[ صفحه 9]

و لكن الامام الحسين كان يتحرك وفق المنهج الالهي منهج النبوات و الرسالات الالهية، و بعبارة واحدة أنه كان مبهورا بالعشق الالهي هذا العشق الذي دفعه لافتداء الانسانية و تحريرها من أسر الغرائزية و أطواق المادة المثقلة بالطين و الأدران.

تركت الخلق طرا في هواكا

أيتمت العيال لكي أراكا

فلو قطعتني بالحرب اربا

لما مال الفؤاد الي سواكا

و نحن نقرأ دعاء عرفات لنجد هياما بالذات الالهية يصل حد الذوبان و التاريخ يرسم مشهدا أخاذا للحسين و هو يمد يده باتجاه الكعبة من علي سفح عرفات كهيئة المسكين

و يسجل التاريخ كلمات مدهشة.

«كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر اليك؟!

متي غبت حتي تحتاج الي دليل يدل عليك؟!

و متي بعدت حتي تكون الآثار هي التي توصل اليك؟!

عميت عين لاتراك»

«ماذا فقد من وجدك؟! و ماذا وجد من فقدك؟!

و ما قيمة أن يربح الانسان العالم كله و يخسر نفسه

في رواية الشيخ و البحر للروائي الامريكي همنغواي و فكرتها

[ صفحه 10]

الاساسية: من الممكن تحطيم الانسان و لكن من المستحيل هزيمته.

تتجلي هذه المقولة في رض الخيول صدر الحسين و تمزيق الجسد الطاهر و لكن الحسين ما يزال المنتصر علي مر التاريخ و ما يزال يقاتل.

هناك مسألة الوعي و الارادة و نحن نعرف ان مسألة الظلم تحتاج الي بحث فليس كل الأقوام تعشر بوقع الظلم و الشواهد كثيرة بعض الشعوب تستسيغ الظلم بسبب من فلسفتها يعني هناك مبررات كافية لامتصاص هذا الشعور من قبيل انها مشيئة الله...ارادة الله...

اذن وجود الظلم وحده لايكفي كمبرر وحيد للثورة.

و انما الشعور بالظلم ثم تأتي مسألة الارادة ربما يحصل وعي بالظلم و فداحته و لكن تغيب الارادة لاسباب منها الخوف الذي هو ناشي ء عن حب الدنيا..فالتضحية تحتاج الي تجاوز حب الدنيا و ليس من المصادفات أن آخر محاولات الامام الشهيد الصدر جاءت ادانة لحب الدنيا.

«ما هي الدنيا؟ مجموعة من الأوهام لكن دنيانا أكثر و هما من دنيا الآخرون».

هناك مسألة ينبغي الالتفات اليها و هي امكانية التأسيس الصوفي اذا صح التعبير الي جانب امكانية التأسيس السياسي.

فهناك نص موثق يقول: انما خرجت لطلب الاصلاح في أمة

[ صفحه 11]

جدي أريد أن

آمر بالمعروف و انهي عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولي بالحق و من رد علي ذلك أصبر حتي يحكم الله و الله خيرالحاكمين.

فيما نجد نصا آخر يقول: كان بأوصالي تقطعها العسلان بين النواويس و كربلاء.شاء الله أن يراني قتيلا و شاء الله أن يراهن سبايا

و قد تحولت هذه المسألة أعني علم الامام بمصيره الي مسألة كلامية أكثر منها تاريخية.

«ان لك في الجنة درجة مغشاة بنور الله لا تنالها الا بالشهادة.

رأيت جدي في منامي و قد أمرني بأمر و أنا ماض لأمره»

و اذا كانت صفين تعني سقوطا حضاريا و تغيرا في الاتجاه النفسي للمجتمع الاسلامي فان صعود يزيد يكشف عن تغير جوهري في الذهنية الاسلامية و انفصالا مريعا بين الارادة و الوعي.

هذا التغير الذهني لن يدع فرصة للصبر و لا مبررا للتقية بل يستدعي المواجهة السريعة مهما كلف الثمن.

«أود لو غرقت في دمي الي القرار و أحمل العب ء مع البشر ان موتي انتصار».

لقد عمل معاوية بعد انتصاره علي ترسيخ ثلاثة مفاهيم كبلت أو شوهت التفكير الحر و الأصيل.

[ صفحه 12]

مفهوم طاعة الأئمة، لزوم الجماعة، حرمة نقض لابيعة و هذه المفاهيم جميعا و اجهها الامام الحسين باسلوب انساني مدهش و استطاع الحاق الهزيمة بها و لكن بثمن باهظ جدا.

من هنا نقول أن الدين حسيني البقاء.

هذه المفاهيم هي الاعمدة التي نهضت عليها الخلافة الاموية بعد أن تم افراغها من معانيها الحقيقة.

ألا ترون أن الحق لا يعمل به و أن الباطل لا يتناهي عنه

ان السنة قد أميتت و ان البدعة قد أحييت

اصبحت طاعة الامام تعني الانقياد الي الجهاز الحاكم

و حتي لو تمادي في الظلم بينما التفكير الأصيل يستدعي وضع الامام في شروطه الخاصة و ظروفه الطبيعية كاشتراط العدالة فيه أو توفر عنصر العدالة فيه.

و هكذا بالنسبة الي تعزيز الجماعة الي أي مدي يستمر و هل سيكون مسوغا في حالة وجود نظام دكتاتوري مستبد غاشم؟

و هل يعد كل صوت يرتفع بالاعتراض علي هذا اللون من الحكم اقداما يهدد وحدة الجماعة؟

ثم يأتي المفهوم الثالث الذي يقضي بحرمة نقض البيعة و نحن نعرف ان البيعة يجب أن تكون في ظروف طبيعية باعتبارها عهدا قلبيا و وجدانيا فاذا أخذت البيعة بالقوة فأنها حينئذ تفقد شرعيتها

[ صفحه 13]

و شروطها القانونية.

عائشة زوج النبي صلي الله عليه وآله وسلم تمثل مركزا ثقافية وزنه في حوارها مع معاوية بعد أخذ البيعة ليزيد و اجهها بالسؤال الاستنكاري التالي:

- أترضين أن يخلع الناس عهودهم.

- لا أرضي ذلك و لكن عليك بالرفق و التأني.

فيما يخص الطاعة فهي أن تكون بالرفق.

وكانت صيحات قائد الجناح الايمن في جيش الدولة تهدر في ساحة المعركة يوم عاشوراء.

الزموا طاعتكم و جماعتكم و لا ترتابوا في قتل من مرق عن الدين و خالف الامام...

والي مدة ليس قصيرة اعتبر الامام الحسين خارجا علي الشرعية.

و نجد التفكير الديني ينحرف بطريقة مقلقة عندما يقول معاوية ان بيعة يزيد قضاء و ليس للقضاء الخيرة من أمرهم أي أنه قدر الهي.

غير ان حركة الحسين بزخمهاالاخلاقي اضحت مركز اشعاع داخل الفكر و الضمير الاسلامي و ستجد أن انعكاساتها لدي المتلقي تابعة الي طبيعة تكوينة فبينما تفوح الورود بالعبير تحت اشعة الشمس، تموت الجراثيم.

[ صفحه 14]

(ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) أو هو (رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين الا خسارا).

عاشوراء ينطوي علي خطاب انساني خالد مكنه من مواكبة التاريخ و سيواكب الزمن الي ما شاء الله.

و بالرغم منان الاشععات الاولي للثورة عكست جانبها المأساوي الذي فجر مكامن الحزن واسال الدموع حيث نجد آثار الثورة في كتب ارتدت حلة الحزن فكانت تؤلف و هي تحمل هذه الأسماء التي تنطوي علي مضمون الحزن و الدموع «مثير الاحزان» «اللهوف» «طوفان البكاء» و «محيط البكاء».

فيما نري العصر الحديث يكتب عن الامام الحسين؛ فلسفة «الثورة لدي الامام الحسين» ثورة الحسين «ملحمة الحسين» الدم أقوي من السيف.

مع أن الامام الحسين و منذ البداية يؤكد علي رمزية الصراع فلم يكن هناك صراع شخصي أو حتي صراع يرتبط بمقطع تاريخي و ظروف خاصة و انما كان الامام يستخدم هذا التعبير خاصة من حادثة القصر في المدينة المنورة: «انا أهل بيت النبوة و معدن الرسالة و يزيد رجل فاسق معلن بالفسق و مثلي لا يبايع مثله».

فالامام الحسين يحاول أن يؤسس لشرعية الثورة و مواجهة وضع يشبه مثل وضع يزيد، كما يرمز الي امكانية الاستلهام لأي

[ صفحه 15]

انسان تنبض في ضميره بواعث الثورة لأن يقوم بخطوة تشبه الي حد كبير خطوة الامام الحسين ثم لا يعد ذلك القاء في التهكلة أو جنونا أو انتحارا.

كالتجربة التي حدثت في سنة 1980 و كان بطلها الامام الشهيد محمد باقر الصدر الذي استشهد في ظروف عراقية مشابهة للمشهد العراقي في السنوات (60-50) ه.

فالكوفة هي أحد العراقين.

قد عرفت في وقت مبكر جدا مركزا للتشيع و قاعدة لابن الزبير اضافة الي

وجود طبقة تؤيد الامويين.

والكوفة هي التي حسمت مسألة الناكثين في حرب الجمل سنة 36 ه هي نفسها التي أو جدت كارثة التحكيم من خلال تمرد قطاع واسع من الجيش العراقي ثم نجد أسوأ من ذلك في صراع الامام الحسن مع معاوية و دخول الأخير الكوفة فاتحا و تصل المأساة ذروتها في فاجعة كربلاء.

واعقب ذلك ظهور التوابين في ثورة استشهادية فريدة.

ثم ثورة المختار فيما بعد.

و هذه المواقف المتناقصة تعود في الواقع الي طبيعة النسيج العالم الذي يكون المدينة.

فالكوفة تتألف من نسيج قبلي اضافة الي تنوع في الاتجاهات

[ صفحه 16]

السياسة و المذهبية: الخوارج، الأشراف (و هم محسوبون علي بني أمية) و الشيعة من فدائين اهل البيت عليهم السلام أو مجرد أنصار سياسيين.

و لذا نجد انطلاق صوتين قويين أحدهما يمجد أهل البيت و آخر يتحمس لقتلهم و النسيج القبلي المتباين المواقف التي تأخذ بنظر الاعتبار مصالح القبيلة قبل كل شي ء أثر سلبا علي حالة الانسجام و التضامن في المدينة و نجد هذا التحليل في الارشاد للمفيد عندما يتطرق الي ظروف الامام الحسين عليه السلام.

فالامام الحسن وجه نفسه أمام شيعة والده مسؤلا و وجد الخوارج يشحذون السيوف لخوض الحرب ضد معاوية و لذا نجدهم يتجمعون حوله عندما كان الامام يستعد للحرب و هناك فريق لاهم له سوي جمع الغنائم اضافة الي شرائح واسعة من سكان المدينة تعيش في حيرة من أمرها و لاتدري ماذا تفعل كما لاننسي وجود أفراد يتلقون مواقفهم من زعماء القبائل فقط.

ويجب الاشارة الي أولئك الذين كانوا لا هم لهم سوي جمع الغنائم فهؤلاء كانوا يؤلفون شبه أغلبية و قد حصلوا اثناء موجة الفتوح علي

غنائم وفيرة وفرت لهم عيشة رغيدة بدأ تنحسر مع وصول الامام علي الكوفة و خوضه ثلاثة حروب داخلية و لذا كانوا ينظرون اليه باستياء و هذه الحقيقة صرح بها الامام الحسن عليه السلام في أحدي خطبه.

[ صفحه 17]

و لذا تبلور قرار السلام والصلح مع معاوية في أذهانهم بعد حرب النهروان و قد استغل معاوية هذا التوجه علي أحسن وجه.

و هناك ما ينبغي الاشارة اليه و هو أن مدينة الكوفة اكتسبت ثقلا سياسا من خلال ما افرزته حركة الفتوحات و الانتصارات الباهرة و القضاء علي أكبر امبراطورية في الشرق، و لذا نجد هذه المدينة تمارس حالة من الهيمنة في القرار السياسي و تفرضه علي المدينة المنورة.

و قد طبعت السذاجة في التفكير مواقف هذه المدينة التي ظهرت في بعض الاحيان مغلوبة علي أمرها فكانت حركتها السياسية منفعلة تتخذ القرار بسرعة بسبب حساسيتها، لكنها سرعان ما تتراجع و تنقع بما يقال لها، و تستلم ثم سرعان ما تثور.

و نجد هذا واضحا في الفترة التي يصل فيها مسلم بن عقيل و حتي تصفيته.

فعمار بن ياسر لم ينجح في ادارة الكوفة بسبب صفائه و اخلاقه و سعد بن أبي وقاص و هو شخصية غير سياسية اخفق هو الآخر لكننا سنجد المغيرة بن شعبة الفاجر علي تعبير عمر بن الخطاب يستمر في حكم المدينة مدة طويلة نسبيا.

و سنجد الامام علي يواجه صعوبات في حكم الكوفة مركز الخلافة ثم يصرح بانه يعرف الطريق لكنه لا يريد اصلاح الكوفة

[ صفحه 18]

بفساد نفسه.

ايتها الفرقة التي اذا امرأت لم تطع و اذا دعوت لم تجب...لله أنتم أما دين يجمعكم أما حمية

تشحذكم؟

و لذا يمكن القول ان محنة الامام الحسن انما هي استمرار لمحنة والده العظيم و ان مجده عليه السلام يكمن في صيانته لوحدة الامة الاسلامية و منحها فرصة لتختبر نفسها تجربة الخط الأوي و تناول ثماره المرة القاتلة و من ثم العودة الي الذات الي صاغها سيدنا محمد صلي الله عليه وآله وسلم في ضلال عترته الطاهرة.

و أخيرا فان خطوة الامام الحسن في ظروفه لا تقل تضحية عن خطوة شقيقه بعد عشرين سنة كما ان كلا الخطوتين تتكاملان في طريق انقاذ الحضارة الاسلامية من الأفول الأبدي.

كمال السيد

[ صفحه 19]

ميلاد مدينة

اشاره

في عام 17 ه كانت الجيوش الاسلامية في الشرق قد استكملت فتح المدائن عاصمة الساسانيين مدة أف عام علي شواطي دجلة بل و استكملت فتح العراق الذي يقع في الاقليم الثالث بحسب التقسيم الجغرافي القديم. [1] .

و أملت الضرورات العسكرية و اسباب أخري بناء قاعدة حربية تكون منطلقا لادامة حركة الفتح الاسلامي ترتبط مباشرة بالمدينة المنورة عاصمة الدولة الاسلامية و بناء علي شكوي من القائد امام للقوات الاسلامية في الجبهة من وخومة البلاد و اثرها السلبي علي الاستعداد القتالي للجنود العرب بسبب طبيعتهم الصحراوية برزت الحاجة الي انتخاب مكان آخر.

و جاء جواب الخليفة الثاني: «ان العرب لا يوافقها الا ما وافق ابلها من البلدان: فابعث سلمان رائدا و حذيفة - و كانا رائدي الجيش - فليرتادا منزلا بريا بحريا ليس بيني و بينكم فيه بحر ولا جسر» [2] .

[ صفحه 20]

و قد كان سعد بن أبي وقاص القائد العام قد فكر في اتخاذ المدائن قاعدة لقواته ثم تراجع عن ذلك بعد أن رأي و

خومتها و وخومة دجلة التي لم تكن تتناسب الجنود العرب اضافة الي كثرة زوابعها التي تثير الغبار و انتشار الذباب [3] .

و عندما انطلق سلمان و حذيفة كلا من جهة بحثا عن مكان مناسب التقيا فيما بعد في منطلقة الكوفة و لم تكن انذاك سوي فلاة متاخمة للصحراء و بها ثلاثة أديرة فقط. [4] .

و لكن المصادر التاريخية أيضا لاتكتفي بحصر الهدف من بناء الكوفة أن تكون مجرد قاعدة عسكرية و منطلقا للفتوح بل و اتخاذها داراالهجرة يقطنها المسلمون برغبتهم.

و هكذا بدأ البناء في المسجد اولا مركزا للمدينة الجديدة و من المركز انطلقت أربعة سهام من أحد الرماة المشهورين لتكون الجهات الاربعة حدودا للمسجد و قد حددت منابت الهام بخندق حتي لا يقتحمه أحد ببناء.

و قد بنتيت منازل المدينة ابتداء بالقصب و لكن الحريق الذي التهم 80 كوخا دفع السكان الي بناء منازل جديدة من الطين و جاءت موافقة العاصمة علي ذلك.

[ صفحه 21]

أما الطرق الكبري في المدينة فكانت بعضها بعرض أربعين ذراعا و بعضها ثلاثين ذراعا و عشرين ذراعا فيما كانت الازقة علي نسق واحد و بعرض سبعة أذرع.

و كانت الطرق بمثابة حدود للمناطق السكنية التي توزعتها القبائل العربية التي تشكل مجموع ا لجيش الاسلامي آنذاك.

و في غضون فترة وجيزة ظهر قصر سعد الي جانب المسجد و قد نقلت صخوره من الحيرة من ابنية الاكاسرة و الاثار الباقية.

و عدد الطرق الكبري خمسة عشر طريقا تنتهي جميعا الي المسجد ما بين الطرق الكبري هذه استوطنت القبائل العربية كما يلي:

المنطقة المتاخمة لصحن المسجد سكنت قبيلتا سليم و ثقيف ثم همدان و بجيلة و

تيم اللات و تغلب.

و ما يلي القبلة استقر بنو أسد و النخع ثم كندة و الأزد و نزل في شرق الصحن الانصار، و مزينة و تميم و محارب.

و علي غربي الصحن بجالة وبجلة وجديلة من القبائل ثم جهينة و لم يكن لصحن المسجد سور أما الأسواق فكانت مجرد ميادين خالية من البناء و كان القانون الذي سنه الخليفة الثاني يقضي بأن تكون «الاسواق علي سنة المساجد من سبق الي معقد

[ صفحه 22]

فهو له حتي يقوم الي بيته أو يفرغ من بيعه» [5] .

و هكذا ولدت مدينة الكوفة و ظهرت في الخارطة متاخمة للصحراء و علي مقربة من نهر الفرات ترتفع عن سطح البحر 22 مترا فهي مشرفة علي النجف ذلك الوادي المالح، كما أنها ترتفع علي المسطحات المائية في الجنوب العراقي أو ما عرف باسم بطائح العراق التي تنتهي في البصرة.

و أرض الكوفة حصباء رمالها حمراء خاصة في الجهة التي يقع فيها مجسد السهلة الذي يقع بدوره في الشمال الغربي من المدينة أما الجهة الغربية فقد تجمعت فيها رسوبات المياه الغرينية أو ما عرف باسم الملطاط. [6] .

و قد توفرت الكوفة علي تضاريس متنوعة فهي علي حدود الصحراء من جهة و المسطحات المائية و وفرة منابع المياه و ارتفاعها عن سطح البحر فالتقت هذه المظاهرة الطبيعية لتخلق لها مناخا طيبا جعل الكوفيين يتفاخرون به أمام البصريين خاصة بعد الصراع السياسي الذي أفرزته حرب الجمل الاهلية بل أننا سنجد مدرستين في اللغة تتصارعان مدرسة الكوفة و مدرسة البصرة؛ سيبوبه و الكسائي.

[ صفحه 23]

و ليس هذا مدعاة للفخر بقدر ما أفرزته المعارك

الكبري و الانتصارات الساحقة التي حققتها الجيوش الاسلامية المتقدمة فمارك مثل الجسر و القادسية واحتلال المدائن و معارك نهاوند و جلولاء جعلت من الكوفة رقما صعبا يحسب له ألف حساب و سنجد الكوفيين فيما بعد يتدخلون في كل الشؤون السياسية و يتحكمون بقرارات العاصمة أو يؤثرون فيها بشكل قوي خاصة في حقبة عثمان الخليفة الثالث.

النسيج الاجتماعي... شي ء من التفصيل

من خلال السياق السابق نعرف أن الشريحة الهامة و الرئيسية لسكان الكوفة هي القبائل العربية المجاهدة و التي خرجت ظافرة من معركة القادسية الحاسمة في معارك لافتح الاسلامي اذ استكملت فتح الأرض العراقيه.و لذا فاننا سنشاهد سبع مجاميع قبلية تقتسم جغرافية الكوفة و هو تقسيم عسكري سيبقي معتمدا في توزيع العطاء و الغنائم...

و لاسباب كثيرة حدثت تغييرات في نفوذالقبائل فبينما يتنامي نفوذ بعضها يتراجع نفوذ البعض الآخذ و يذوب ثم يتلاشي.

حتي اذا تسنم الامام علي الخلافة.و اتخذ من هذه المدينة عاصمة كبري للبلاد حاول دمج القبائل و الغاء كل ما يفرق بينها و صهرها في بوتقة المجمع الاسلامي المتجانس في الحقوق

[ صفحه 24]

والواجبات والحد من التعصب القبلي و عادات من قبيل الثأر و التفاخر القبلي و لكن سيف الخوارج المسموم أوقف السعي الحثيث و المخلص لذلك الانسان العظيم.

و يأتي بعد العرب الايرانيون بتشكيلاتهم المتنوعة و اليهم يعود الفضل في اضفاء الطابع المدني علي الكوفة و من دونهم تستحيل الكوفة الي مجرد قاعدة عسكرية أو ثكنة كبري للجيوش المقاتلة في الجبهة الشرقية.

و النسيج الايراني يتألف ممايلي:

أولا: الموالي و هم مجموع الشعب الايراني الذي لم يواجه النقدم الاسلامي بالسلاح ولم يشترك في أية مواجهة أو معركة و اعتنق الاسلام.

و بالرغم من

بقاء بعضهم علي دين الاجداد فاصبحوا من أهل الذمة و لكنهم سيذوبون شيئا فشيئا في خضم الموالي بعد أن يعتنقوا دين الاسلام و يخلصوا له.و الموالي سوف يتوزعون ضمن شرائح المجتمع الاسلامي، كما يلي:

أ - أسري الحرب: و هؤلاء كانوا عبيدا للفاتحين بحسب قوانين الحرب السائدة آنذاك و لكنهم سوف يستعيدون حريتهم بعد اعتناقهم الاسلام مع بقائهم ملزمين بالولاء للقبائل التي أسرتهم و هذه الشريحة هي التي تنتطبق عليها مفردة الموالي

[ صفحه 25]

بشكلها الحقوقي و القانوني.

ب - الفلاحون و القرويون من الذين تهدمت قراهم أثناء الحرب فنزحوا الي الكوفة للبحث عن عمل في هذه المدينة الناشئة.

ج - الحرفيون و الصناعيون و يشكلون مجموعة كبيرة جاءت الي الكوفة و هي تعلم حاجات المدينة التي بدأت تتشكل الي مختلف الصناعات الحرفية.

د- الاساورة وهم فرق عسكرية ليس ايرانية شكلها «يزدجر» و جاء بها من السند و معظمهم من الفرسان و قد انضمت الي هذه الفرق مجاميع من الايرانين حتي لم تعد مسألة العرق و القومية ذات بال لديهم.

و يمكن القول أنه الي عقود عديدة ظل العرب سادة الكوفة بالرغم من تنامي عدد السكان من غير العرب و لذا قد يري العربي يخرج من بيته و حوله عشرة الي عشرين رجل من مواليه و اتباعه و لا ننسي و نحن نتحدث عن النسيج الاجتماعي الكوفة أن نشير الي الهنود النازحين من سومطرا أو الذين اجبروا زمن الدولة الساسانية علي أداء وظائف عسكرية و استخدامهم دروعا بشرية ضد هجمات القراصنة علي سواحل ايران الجنوبية.

و هؤلاء عوملوا في زمن الفتح نفس معاملة الاساورة و اسندت اليهم مهمت امنية و هؤلاء

عرفوا في تاريخ الاسلام بالزط

[ صفحه 26]

و «السيابجة» و قد قطن بعضهم الكوفة و آخرون اختاروا «ذي قار» و انضم بعضهم الي الحشود العسكرية التي قادها الامام علي الي البصرة لمواجهة التمرد في البصرة سنة 36 ه فيما عرف بالتاريخ بمعركة الجمل.

و قد اختار الزط التحالف مع بني حنظلة و منهم من استوطن الكوفة و اسند اليهم الوالي عثمان بن حنيف حراسة خزائن الدولة و تعرضوا لمذبحة مروعة علي يد عبدالله بن الزبير الذي نفذ غارة ليلية غادرة تم فيها قتل اربعين مع قائدهم و كان رجلا معروفا بالصلاح؟ [7] .

و بالرغم من تحالف بعض الهنود هؤلاء مع قبائل تميم التي عادت الامام علي و لكنهم اختاروا جبهة الامام في الصراع [8] و لعل هذا دفع معاوية الي ترحيل مجاميع منهم الي سواحل الشام ليصد بهم الغارات الرومية و يكون منهم درعا بشريا.

دور الكوفة السياسي

يمكن تشبيه العمل العسكري في عالم النفوذ و القوة بالعمل الزراعي الذي سيفرز فيما بعد أو في الاثناء عملا سياسيا

[ صفحه 27]

و موسم لحصاد الامتيازات و الأدوار الفاعلة في مسار العمل السياسي.

و قد تألقت الكوفة في زمن الفتوحات الاسلامية و بلغت ذروة المجد، ليس في التقدم في الجبهة الشرقية و انما في اغاثة و امداد الجبهة الغربية في معارك الروم.

و يحق للكوفة اذن و قد قضت علي دولة الساسانيين في الشرق وامدت القوات الاسلامية التي تقاتل في الغرب برجالها الاشداء لتحقيق انتصار ساحق في تحرير مناطق شاسعة من سيطرة الروم اليزنطيين يحق لها أن تزهو بنفسها و يكون لها في نفوس الجميع هيبة و شأن كبيرين.

و قد

أدت الفتوحات الواسعة وانفتاح القبائل العربية علي كنوز ايران الاسطورية و تدفق سيل الغنائم الي خلق طبقة مترفة هي الأشراف الذين ارتبطوا مصلحيا باستمرار حركة الفتوح و وجود نظام يحمي مصالحهم بالرغم من أنها منحتهم ثقلا سياسيا جعلت للكوفة حقا - كما تتصور - في التدخل في شؤون العاصمة كما تجلي ذلك في الثورة علي الخليفة الثالث.و من مظاهر هذه الثقل العسكري و السياسي انها حسمت تمرد الناكثين في البصرة كفعل ايجابي لكنها هي نفسها خلقت كارثة التحكيم.

و ضغطها علي الامام علي بوقف العمليات الحربية بينما كانت قوات الشرعية تتقدم نحو النصر النهائي بخطي واسعة.

[ صفحه 28]

و بالرغم من أن الكوفة عرفت في زمن مبكر بأنها مركز للتشيع لكنها انطوت علي مجموعة من التناقضات التي تصعد بها الي ذروة المجد و تهبط بها الي حضيض الانحطاط.

فقد قضت كما ذكرنا علي تمرد الناكثين في البصرة و لكنها خلقت كارثة التحكيم في صفين، ثم اضطرت الامام الحسن فيما بعد الي التنازل عن الخلافة و اعقب ذلك مأساة عاشوراء و مصرع الامام الحسين، ثم نجد صحوة للضمير و عودة للارادة في واقعة عين الوردة فيما عرف في التاريخ بثورة التوابين ثم جاءت ثورة المختار.

و هذه المواقف المتناقضة تعود في الحقيقة الي طبيعة النسيج العام الذي يؤلف مجتمع الكوفة.

فهي بشكل عام نسيج قبلي و بسبب بعض الحوادث ظهرت تيارات سياسية و مذهبية فاذا كانت البصرة عثمانية الولاء فان الكوفة عرفت بولائها لأهل البيت خاصة بعد قدوم الامام علي خليفة و اتخاذها عاصمة للدولة الاسلامية ثم ظهر تيار الخوارج في مقابل كتلة الأشراف الذي ارتبطوا بسبب مصالحهم بالاتجاه الاموي فيما تألقت

شريحة قوية في مجتمع الكوفة بسبب ولائها لأهل البيت.

و سنجد أن صوتين قويين يرتفعان في الكوفة بنفس الوقت صوت يمجد أهل البيت و آخر يتمحس لقتلهم و بسبب هذا

[ صفحه 29]

التناقض في الاتجاه و التفكير، تمزق النسيج العام للكوفة.

و ربما من السابق لآوانه أن نقول انا الامام الحسن وجد نفسه بعد مصرع والده مسؤولا امام الشيعة و مصيرهم فيما كان الخوارج يشحذون سيوفهم للحرب مع معاوية و هم لم يبايعوا الامام الحسن خليفة و انما قائدا عسكريا فقط يحارب معاوية.

فيما كان فريق من أهل الكوفة لا هم له سوي جمع الغنائم اضافة الي قطاعات واسعة من السكان كانت تعيش في حيرة من أمرها و لا تدري ماذا تفعل اضافة الي و وجود أفراد كثيرين يتلقون الأوامر من زعماء قبائلهم فقط.

و هذه التشكيلة اللامتجانسة هي التي جعلت مواقف الكوفة تتذبذب بين السلبية و الايجابية اذ تبرز في بعض المقاطع التاريخية أبية شامخة و في بعض منعطفات التاريخ خائفة ذليلة فهي ليست راهبة قديسة و لا غانية لعوب و انما جعلتها الاقار مرآة يتجلي فيها سمو الانسان و تسافله...عروجه الي ذري المجد و سقوطه في هاوية الذل و الخنوع.

و مع أن الظروف التاريخية مثلا اثرت في تغيير ولاء جارتها البصرة التي تتقاسم معها العراق [9] اذ كانت عثمانية الاهواء ثم تبلور انتماؤها الجديد الي جهد المعتزلة؛ أما الكوفة فقد عرفت

[ صفحه 30]

كمركز من مراكز التشيع، بالرغم من عصف الظروف المريرة، مع التأكيد علي نقطة حيوية أن التشيع الذي طبع الكوفة بطابعة كان سياسا الي حد كبير و في هذا اختلاف عن التشيع

الذي ينظر الي الأئمة من أهل البيت أئمة ارتضاهم الله قادة للناس بعد النبي صلي الله عليه وآله وسلم.

نتوقف عند هذا القدر لنسجل ان الكوفة مدينة ولدت في مثل هذه الظروف التاريخية و سوف نكتشفها اكثر فاكثر لدي البدء بفصول الحوادث المزلزلة التي وصلت ذروتها في الثورة علي عثمان.

سيننطلق الي المدينة المنورة و نحاول من هنا متابعة ما يمكن متابعته لرسم صورة واضحة لقصة الحرب و السلام مع الالتفات الي ضرورة تكوين ملامح عن شخصية انسان ولد مع موعد مع القدر سيقف فيه وحيدا مقهورا في ليالي دامسة من تاريخ الاسلام...ليالي شهدت عواصف شديدة من الاطماع و الخنوع و الانشداد الي دنيا تافهة لا تساوي حذاء متهرئا في نظر الاحرار [10] .

و مضات الماضي و أشعة المستقبل

السماء ما تزال مرتبطة بالارض و شمس تضي ء طريق الذين

[ صفحه 31]

هاجروا من ديارهم لتصحيح مسار العالم رسول من السماء هو جبريل ما يزال يحمل كلمات الله المضيئة و رسول الأرض محمد يشع قلبه بالايات...آيات الله...

التاريخ الهجري ما يزال في انطلاقته الكبري و قد نصر الله عباده المؤمنين ببدر..ان شمس الاسلام تشع بالنور و الدف و رمال الجزيرة العربية علي موعد لميلاد حضارة انسانية ستغمر العالم كله...لقد انقدحت الشرارة شرارة لروح الخالدة التي ستطهر الانسان من كل ما يدنس شرفه و مجده الانساني..

اطل شهر رمضان من السنة الثالثة للهجرة و تألقت لياليه الحالمة..السماء تزخر بنجوم تشع من أغوارها السحيقة..و صفاء يغمر المدينة المنورة و قد طافت آيات القرآن بساتين النخيل و الاعناب...

فاطمة صائمة و الهلال اطل كابتسامة سماوية ينمو و جنين في بطنها يتحرك يفيض بالحياة و الأمل و القلوب تنتظر كوكبا سيشرق

علي الدنيا.

كبر الهلال و نما حتي اذا اصبح بدرا حانت لحظة المخاض و الميلاد...

و يشع الأمل في بيت علي و قد اطل علي الدنيا صبي في وجهه سيماء محمد.خف النبي الي منزل ابنته و صهره و البشري تشع فوق جبينه..و هتف بأسماء و كانت في منزل فاطمة:

[ صفحه 32]

- هاتي الي ابني

و عندما سأل النبي صلي الله عليه وآله وسلم عن اسمه قال علي:

- ما كنت لاسبق رسول الله

- سمه حسنا

كانت فاطمة سعيدة من أجل والدها لقد رأت الفرحة تطوف فوق محياه ولعله تذكر اللحظة التي قدمت فيها خديجة ابنتها اليه و يوم بشره جبريل بالكوثر.

و في غرة شعبان من العام التالي ولد الحسين.

و ينشأ السبطان في ظل محمد صلي الله عليه وآله وسلم فكانا ريحانتاه من الدنيا، و انفحت عيونهما و قلباهما علي التاريخ الهجري بكل امجاده و فصوله المثيرة يتشربان آيات السماء و ثقافة الاسلام البلاغ الالهي الأخير و اذا كان الانسان ابن البيئة التي نشأ فيها فقد نشأ الحسين في تربة طارهة فأبوه علي سيد الأوصياء و امه فاطمة الزهراء سيدة النساء فلا عجب أن يضع الصبي خطاه في طريق التكامل الانساني الذي يبلغ بالانسان أعلي درجة ينشدها و يرنو اليها.

انظروا اليه انه يحث الخطي الي مسجد جده مع أخيه و شقيقه الحسين حتي اذا اجتازا علي شيخ يتوضأ فلا يحسن الوضوء اذا به يتبادل نظرات ذات معني مع أخيه و يفتعلا نزاعا صوريا و كل يقول لأخيه أنت لا تحسن الوضوء ثم يلتقتا الي

[ صفحه 33]

الشيخ قائلين أن أحكم بيننا أينا يتوضأ أحسن...و

يتوضان أمامه بالطريقة يتوضأ بها جدهما و أبواهما و أدرك الشيخ الحقيقة فقال:

كلاكما تحسنان أما الذي لا يحسن الوضوء فهو أنا...انا الشيخ الجاهل.

و ان المرء يشعر بالدموع تتجمع في عينيه شوقا اليهما..الي هذين السيدين انهما يعكسان ثقافة الامام في اسلوب الدعوة و نشر المعرفة و الخير...

و قد وهب الله هذا الصبي المبارك ذاكرة حية جعلته يتشرب سيرة جده و كلماته و ما جاء به جبريل من السماء..

سمع جده ذات يوم يقول لرجل: «دع ما يريبك الي ما لا يريبك، فان الشر ريبة و الخير طمأنينة» [11] .

و تعلم من جده اذا سأله أحد حاجة لم يرده الا بها أو بميسور من القول. [12] .

أن مجد الحسن سوف يتألق من شجرة أصلها ثابت و فرعها في السماء.

ان ايات الله ترسم لنا لوحة انسانية تشع جلالا و جمالا.أن أجر الرسالة المحمدية هو الحب..الحب لأهل البيت [13] ،...قد

[ صفحه 34]

شهدت السماء بطهرم و نقائهم. [14] .

في حدود السنة السابعة للهجرة جاء وفد مسيحي مؤلف من ستين مسيحيا يتقدمهم العاقب (الزعيم السياسي) و الأسقف (الزعيم الديني).

و دعا النبي ضيوفه القادمين من اليمن بلغة السماء: (قل يا أهل الكتاب تعالوا الي كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد الا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله)

ان الحرية الحقيقة تكمن فقط في العبودية لله و عندما يعبد الانسان غير الله فانه سوف ينسحق و يهبط الي الحضيض الي ما هو أدني بكثير من الحيوانية.

و لكن الوفد لم يصغ الي كلمات الله و لم ينفك يردد أن يسوع

هو ابن الرب فيما الحقيقة ان المسيح بن مريم لم يكن الا رسولا قد خلت من قبله الرسل و ان مثله مثل آدم خلق من الطين..

و هبط جبريل يحمل نداء السماء قائلا: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و ابناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علي الكاذبين) [15] .

[ صفحه 35]

و اشرقت الشمس و خرج النبي في موكب عجيب...كان يحمل سبطه الحسين و قد أخذ بيد سبطه الحسن و كانت فتاة تمشي مطرقة خلف والدها العظيم و كان زوجها يمشي خلفها.

وقف الاسقف مشدوها و هو ينظر الي وجوه مضيئة في فلاة تمتد بامتداد الافق البعيد و كانت الحشود تراقب من بعيد ما يجري.

و يجثو النبي صلي الله عليه وآله وسلم و خلفه اهل بيته و قال النبي مخاطبا اله الاطهار: اذا أنا دعوت فأمنوا.

تمتم الأسقف قائلا: جثا و الله كما يجثو الأنبياء.

و خاطب النصاري: اني لأري وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا لأزاله..انظروا الي الشمس..لقد تغير لونها و الأفق تنجح فيه السحب الداكنة، و الريح تهب هائجة سوداء حمراء و هذه الجبال يتصاعد فيها دخان..لقد أطل علينا العذاب...

انظروا الي الطير و هي تقي ء حواصلها و الي الشجر كيف تتساقط أوراقها و الي الأرض كيف ترجف تحت اقدامنا..

و ينسحب الوفد في اللحظات الأخيرة و قال النبي: و الذي نفسي بيده ان العذاب تدلي علي أهل نجران و لو لاعنوا لمسخوا قردة و خنازير و لا ضطرم عليهم الوادي نارا» [16] .

ان لأهل هذا البيت مجدا أي مجد:

مجدا خلده القرآن الكريم

[ صفحه 36]

في سورة الانسان فعندما مرض الحسنان و جاء لعيادتهما النبي تحفه كوكبة من أصابه قالوا لعلي لو نذت لله أن عافي ولديك فنذر علي صوم ثلاثة أيام شكر الله و تابعته الصديقة و جاريتها فضة...و لما أبل الصبيان من مرضهما و حان وقت الوفاء بالنذر انطلق علي الي شمعون و كان رجلا من خيبر.خيبر التي فتحها علي بسيفه و قلبه المفعم بايمان الرسالت الالهية جاء علي الفاتح العظيم الي شمعون يقترض منه ثلاثة أصواع من شعير، الرجل الذي اقتلع باب «القموص» و قهر خيبر جاء يطلب حفنة من الشعير و امرأته بنت محمد تملك «فدك».

قال شمعون وقد هزته المفاجأة: هذا هو الزهد الذي أخبرنا به موسي بن عمران في التوراة...

طحنت فاطمة صاعا..الرحي تدور و فضة فتاة تعيش في منزل فاطمة تجمع الدقيق و يصير الدقيق عجينا ثم يصير اقراصا لكل صائم قرص شعير...النجم المهيب يهوي باتجاه المغيب...

يرسل اشعة الوداع معلنا ختام يوم من حياة الانسان و الأرض..

الأسرة القائمة تستعد للافطار بسم الله...لقمة خبز تقيم أود الجسد الآدمي ليكمل رحلته باتجاه النور و ينطلق من وراء الحجرات هتاف انسان جائع:

- مسكين اطعموني اطعمكم الله...

الصائم هو وحده الذي يدرك آلام الجياع في اللحظات التي

[ صفحه 37]

تسبق الافطار تتلوي المعدة الخاوية تبحث عن شي ء.

قدم الصائمون خبرهم و أفطروا علي الماء و استأنفوا رحلة الجوع..

الجوع هو زاد المسافر في ملكوت السموات..هناك تلال النور و بحيرات تزخر بالنجوم..الجوع هو وحده الذي يلجم الشيطان القابع في الظلمات..

و يمر يوم آخر و الصائمون في رحلة البحث عن ينابيع

الأزلي....كل شي ء يؤول الي الزوال الا الحب...الحب نداء الله الي النفوس البيضاء الطاهرة...

و يطرقهم يتيم...يالوعة اليتيم في ساعة الغروب...الكائنات تعود الي أوكارها و الطيور تؤوب الي أعشاشها و الاطفال الي أحضان مفعمة بالدفي و الحنان...

في ساعة الغروب تتجمع الدموع في عيون اليتامي كسماوات مشحونة بالمطر...يتجمع البكاء في القلب ثم يتصاعد عبر الشرايين الي العيون...فكيف اذا اجتمع الحزن مع الجوع...و هل تتحمل نفوس الاطفال البرد و الجوع!!

و نادي اليتيم في لحظة الغروب الحزين:

- اطعموني مما اطعمكم الله.

هناك في اعماق النفوس البيضاء كنوز من اللذة أين منها لذائذ البطن..فكيف مع نفوس براها الجوع حتي تكاد تسطع

[ صفحه 38]

كالنجوم!

وهب الصائمون خبزهم..و يبيتون ليلتهم و قد استأنفوا رحلة الجوع..رحلة مضنية تكاد تحطم الجسد و تحيله الي حطام و لكن الروح تتوهج سطوعا حيث يشهد عالم الانسان اللانهائي انتصار الملائكة و هزيمة الشيطان الي الأبد.

السماء تراقب نفوسا في الأرض تطوي مسافات الجوع وفاء للنذر في اليوم الثالث ينادي أسير ينشد لقمة خبز أو تميرات الاجساد الصائمة ترتعش امام الجوع...العيون غائرة و الوجود بدا مغمورا بالضباب و النفوس تشتد سطوعا و الورود تضوعا فاطمة تزداد نحولا..غارت عيناها و قد زاد صوتها و هنا علي وهن هي قائمة تصلي في المحراب.

في منزل آخر الانبياء في التاريخ هبط جبريل يحمل سورة الانسان علي الانسان و انها: بسم الله الرحمن الرحيم

هل أتي علي الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا

انا خلقنا الانسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا.

انا هديناه السبيل اما شاكرا و اما كفورا

انا أعتدنا للكافرين سلاسلا و أغلالا و سعيرا

ان الأبرار يشربون

من كأس كان مزاجها كافورا

عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا

يوفون بالنذر و يخافون يوما كان شره مستطيرا

[ صفحه 39]

و يطعمون الطعام علي حبه مسكينا و يتيما و أسيرا

انمان نطعمكم لوجه الله لانريد منكم جزاء و لاشكورا

انا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا

فوقاهم الله شر ذلك اليوم و لقاهم نصرة و سرورا

و جزاهم بما صبروا جنة و حريرا

ان هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا

و من المؤكد ان الانسان يعيش حالة من النعيم لاتوصف بعد انجاز أخلاقي كهذا..حالة تتسجد في صورة جنة و رافة الضلال زاخرة بالاشجار الخضراء الزاهية و قد مدت عروقها في كثبان من المسك، و الانهار المتلالئة المياه تتكسر امواجها الحانية عند جذوع الاشجار و نسائم ربيعية منعشة تداعب الاغصان فتصطفق الأوراق بصوت حالم...

و قد بدت كبائس اللؤلؤ الرطب في ذري الاغصان، و تبدت الثمار في غلف الاكمام..و ظهرت قصور من الزبرجد متناثرة هنا و هناك كالاحجارالكريمة و فصوص الجواهر المتألقة...فيما كانت ينابيع السلسبيل تتدفق فيمتلا الفضاء بنداها و شذاها، و اطفال كاللؤلؤ يحملون كؤوسا فضية ملأي بالعسل المصفي...يتألقون نورا في ربيع دائم لافيه شمس و لافيه زمهرير.

لقد نشأ الصبي الطاهر سبط محمد و نجل علي في أجواء ترفل فيها اجنحة الملائكة و تعطرت بكلمات يحملها جبريل من

[ صفحه 40]

أغوار السماوات و لقد تشرب الصبي شيئا ملأ كل وجوده و هو أن المجد الله وحده و عباده المؤمنين و أن علي المرء أن يربح نفسه حتي لو خسر العالم كله و أن سمو الانسان و مجد الحياة بالكرامة الانسانية و ما

عدا ذلك فأوهام و أباطيل.و كان انتماء الحسن الي جده أنتماء الغصن الي جذع شجرة شماء..يحمله جده علي عاتقه و يقول: اللهم اني احبه فاحبه [17] .

أو يحمله علي رقبته حتي اذا قال له قائل نعم المركب ركبت يا غلام قال النبي و نعم الراكب هو و سمعه المسلمون يقول عنه: ان ابني هذا سيد. [18] .

و يشمه ثم يقول: الحسن ريحانتي من الدنيا.

و حق لصبي مثل الحسن أن تمتلأ روحه بروح جده العظيم روح تسامت حتي بلغت مرتبة الكمال و استحالت الي شمس تضي ء للانسانية و تغمر العالم بالنور و الدف ء و الايمان.

رياح الزمهرير

في الثالث و العشرين من صفر سنة 11 ه 632 م لزم رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فراش المرض و تدهورت صحة النبي صلي الله عليه و آله و سلم قد بدا يحث الخطي للرحيل الي الملكوت الأعلي و حل يوم الاثنين 28 صفر.

[ صفحه 41]

و لعل هذه الأيام المريرة أول صدمة يتعرض لها الصبي الذي سيرث عن جد مجده و سؤدده و هيبته [19] و كان يدرك عمق الفاجعة و هي تنعكس علي وجه أمه الزهراء...

و عندما شعر أهل البيت ان ساعة الرحيل قد أزفت القي الحسن و أخوه بنفسيهما علي جدهما و هما يشهقان بعبرة و يقبلان الجد الرحيم...و أراد علي أن تنحيتها فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم بصوت واهن: دعهما يتمتعان مني و اتمتع منهما فستصيبهما بعدي اثره...

وحانت لحظة الرحيل و سمع الحسن و هو خارج الحجرة صوت والدته تهتف: «و أبتاه الي جبريل أنعاه».

و تدفقت الجماهير في أزقة المدينة و شوارعها مذهولة للمصاب

الكبير..لقد بدأ زمن الزمهرير.

و فيما كان أهل البيت مشغولين بتجهيز النبي صلي الله عليه وآله وسلم كانت عيون البعض ممن خطفت عقولهم الاطماع يجتمعون للاستيلاء علي السلطة.

و ادراك الحسن من خلال ما يجري حوله ان الدنيا لم تعد كما مضي و أن الزمن بدأ يتنكر لأهل النبي صلي الله عليه وآله وسلم..فحق له أن يشعر بالبرد و بمرارة اليتم و عمق الفاجعة و لعله بدأ ينظر الي الدنيا نظرة

[ صفحه 42]

فيها كثير من العمق والوعي أن أول صفاتها الغدر و عدم الوفاء...انها لاتفي لأحد أبدا.

فأبوه الذي كان بطل المعارك كلها و سيف الاسلام الذي لايقهر هو الآن جليس البيت محاصر من رجال كانوا بالامس يبتسمون له أما الآن فقد استحالت ابتساماتهم الكاذبة الي انياب يكشرون عنها بغيظ و حقد.

و أمه التي هي بضعة النبي و روحه التي بين جنبيه و سيدة النساء هي الآن تذوي كزهرة ربيعية و تخبو كشمعة في قلب الليل الدامس...بكاؤها بكاء الشموع.

لقد رحل الأب الرحيم مخلفا في قلوب الذين احبوه جراحا لن تندمل..

كان النبي الحضن الدافي و الضلال الوارفة فاذا الدنيا زمهرير و اذا الوجود ظلام في ظلام.

و سمع الحسن أمه تقول لأنس: أطابت نفوسكم أن تحثوا علي رسول الله التراب [20] .

و كانت تشعر بالاختناق فتشم تراب الضريح المعطور و أريجه و شذاه [21] .

[ صفحه 43]

و عندما لام البعض زوجها لأنه اشنغل بتجهيز النبي و ترك الصراع علي الخلافة قالت: «ما صنع أبو الحسن الا ما كان ينبغي له و لقد صنعوا ما الله حسيبهم و طالبهم» [22] .

و علي مدي

عدة شهور كان الحسن يعيش المأساة كلها فقد استحال بيتهم الي قلعة للمقاومة و كانت أمه تواجه غارات المغيرين و قد هتفت مرة بهم: يا أبابكر ما أسرع ما أغرتم علي أهل بيت رسول الله؟! [23] .

و لما اشتد الحصار خرجت و أخذت معها الحسن و الحسين و أنطلقت الي قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم تريد أن تواجه العاصفة بسلاح الانبياء..و الدعاء سلاح الانبياء.

و تبكي فاطمة المأساة..مأساة اغتصاب الحق فلقد أضحت الخلافة نهبا للطامعين و المغيرين. [24] .

حتي فدك اغتصبها و هبت والدته لخوض آخر معركة، و شهد الحسن تلك الطخبة الرائعة التي القتها والدتها في مسجد جده و ستظل كلماتها خالدة تدوي في فضاء التاريخ و ضمير الانسان: محمود هو الله من أجل ما أنعم علي الانسان..وهبه نعمة الحياة و له الشكر اذ قذف في أعماقه العلم و المعرفة.

[ صفحه 44]

و قد عمت نعمه سبحانه حتي لايمكن لأحد أن يعدها أو يحصيها بل لايمكن أن يدركها أو يحيط بها علما...

جعل الشكر لها زيادة و بركة و نماء و ازدهارا..

و شهادة له سبحانه أنه واحد أحد مطلق لانهائي..شهادة تضي ء القلب و الفكر و الضمير...

تعجز الابصار عن رؤيته ويكل الخيال عن تصوره و الكلمات عن وصفه.

خلق الاشياء و لم تكن و لاحاجة له فيما خلق الا ان تتجلي حكمته فتخشع و تظهر قدرته فنخضع..

تبارك ربنا عالما بالنهايات..محيطا بحوادث الأزمنة القادمة و مخاضات الأيام..

و كانت الارض فيما مضي ظلمات يتراكم بعضها فوق بعض و الأقوام البشرية ضائعة تائهة..تخشع للنار اذ تتطاير شررا و تعكف علي أوثان منحوتة من حجر و صخور..و

اذا الله الذي أودع اسمه في الضمير و الفطرة و في عقل الانسان...الخالق الذي لايعبد.

حتي اشرقت شمسم محمد فتمزقت حجب الظلمات و تدفقت النيابيع في القلوب...ينابيع الايمان و الأمل.

و سعد الناس جميعا فقد ارضي الطريق الي الله.

و لم يرحل أبي حتي ترك عند أمته ميراث السماء...قرآن فيه آيات بينات تضي الطريق...شريعة الله و منهاجه.

[ صفحه 45]

فالايمان طهر من رجس الأوثان...و الصلاة تغسل قلب الانسان من التكبر و الزكاة نمو وازدهار و الصيام تجذير للأخلاص في القلب

و الحج صرح تنهض فوقه معاني الأديان

و العدالة انسجام للقلوب و آصرة بين النفوس، و طاعة أهل البيت نظام شامل للحياة و الاعتراف بامامتهم و قيادتهم أمان من التمزق و التشرذم و الضياع.

و الجهاد سور للاسلام والصبر سلاح في المقاومة...مقاومة صروف الحياة و عادبات الزمن.

فيا أيها الناس أعلموا اني فاطمة و أبي محمد كلمتي واحدة ثابتة..من الخطيئة في منأي و عن الشطط في مأمن.

و يستمر صوت الزهراء فاطمة مدويا يضع النقاط علي الحروف فتشرق شمس الحق..و ستبقي كلماتها الثائرة في مسجد أبيها الراحل تستفهم التاريخ و الانسان.

و تعود أم الحسن الي بيتها مقهورة لقد قضي الأمر و لم يبق لها الا الصبر، و تقع عيناها علي قميص والدها فتغرق في طواياه و عوالمه حتي لاتشعر بما يجري حولها ويري أبوالحسن ذلك فيغيب القميص حتي لاتموت فاطمة. [25] .

[ صفحه 46]

و يري الحسن بكاء والدته و أبوه يعزيها قائلا: ما أعد الله لك خير مما قطع عنك فاحتسبي الله، فتقول أمه و هي تكفكف دمعة ساخنة: حسبي الله.

رحيل الأم

و يسدد القدر سهامه

مرة أخري ويري الحسن والدته تذوي فهي تستعد للرحيل..و تذوي زهرة الحياة في دنيا فاطمة و تشتد روحها سطوعا..ها هي تتأهب للسفر...و لم يعد أحد يراها تذهب الي البقيع فلقد ضعف الطين عن حمل الروح العظيم..

و جاءت نسوة من الانصار و المهاجرين لعيادتها والسوال عن صحتها فقلن لها: كيف اصبحت من علتك يا ابنة رسول الله؟

و لكن فاطمة تتحدث عن العلة الكبري و الجراح النازقة فتدين عصرها الذي خذلها فخذل الحق و قهرها فقهر..

أعلنت فاطمة ادانتها لدنياهن..اعلنت غضبها من أولئك الذين قهروها و سوف لن يغسلوا العاري الذي الحق لهم بخذلان فاطمة؛ الذلي يعني خذلان الحقيقة..و سوف تحصد الاجيال ما زرعه الاجداد و هل زرعوا الا الأشواك؟!

و كان رحيل الأم بعد أيام مريرة من المعاناة و القهر قد بلور في عين الصبي الطاهر نظرة عميقة الغور الي الحياة الدنيا أنها لاتساوي شيئا و لاتستحق أن يضحي الانسان بجزء من قيمه

[ صفحه 47]

الأخلاقية والانسانية.

عندما عاد الحسنان الي البيت كانت السكينة تغمر المكان و كانت سلمي زوجة سيد الشهداء حمزة سألها الحسن: أين أمنا؟

و أشارت الي حجرة و هي تبكي..

كانت الأم مستغرقة في نومة الرحيل الأبدي واضعة يدها تحت خدها و قد غادرت الروح أهاب جسد نحيل و كان الوجه الملائكي تحيطه هالة من النور.

و انطلق الحسن الي والده و كان في المسجد و دخل مع أخيه و هما ينتحبان...قال بعضهم متسائلا: ما يبكيكما؟

قالا: ماتت أمنا فاطمة.

و لاشك أن هذه الفجيعة قد اضاءت من مشاعر الصبي الذي رأي فيما بعد أن محنة والده تتفاقم و انه اضطر بعد ذلك الي البيعة بالقوة و

الاكراه.

و لقد نتج عن السقيفة وجهة جديدة للتاريخ الاسلامي و لم يكن لدي الامام علي سوي الصمت و الصبر فضل طيلة ربع قرن جليس بيته و لاهم له سوي وحدة الدولة السالامية ارضا و شعبا.

ان كل الدراسات الاجتماعية في تلك الفترة تؤكد بان الامام كان مرجعا فكريا و قضائيا و انه ملأ فراغا كبيرا هذا الفراغ الذي نجم عن رحيل النبي صلي الله عليه وآله وسلم الي الرفيق الأعلي.

[ صفحه 48]

لا نريد الاسترسال في هذه الفترة لكننا نشير الي أن الحسن قد بلغ مرحلة الشباب في زمن الخليفة الثاني و أن الأخير و ضمن سياسيه في توزيع العطاء فرض للحسن و لأخيه عطاء البدريين و هو خمس آلاف درهم. [26] .

و بعد حادثة الاغتيال التي تعرض لهاالخليفة الثاني تشكل بأمر منه مجلس للتشاور في مصير الخلافة و انتخاب أحد أعضائه و هو مجلس شكل بدقة متناهية بحيث تفضي المداولات الي انتخاب خليفة ينسجم مع الوضع النفسي الذي وصلت اليه الامة الاسلامية آنذاك، و ما يثير التساؤل أن الخليفة الثاني الزم فيما ألزم في هذه التشكيلة حضور الحسن اجتماعات مجلس الشوري.

ولذا فقد عاش الشاب تجربة أخري من تجارب السياسية و شهد عن قرب ظهور الاطماع و التهافت علي حطام الدنيا و رأي موقف والده الثابت الذي لايري في الخلافة قيمة الا في اطار المسؤولية و اقامة حكم الله و ما عد ذلك فهي لاتساوي عنده حذاء متهرئا. [27] .

و عندما آلت الخلافة علي عثمان بن عفان علق الأمام بأسي:

[ صفحه 49]

ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل و الله

المستعان علي ما تصفون.

و غادر المسجد و هو يقول: سيبلغ الكتاب أجله.

في الأعوام بين 25 الي 27 ه شارك الامام الحسن الذي اجتاز العشرين بسنوات في حركة الفتوح في أفريقيا و شمال ايران و قد أورد المؤرخون ذلك لدي ذكرهم المناطق الجديدة التي فتحت علي أيدي قوات الاسلام.

حكام الكوفة

من الأفضل أن نتحدث في هذا الجانب علي أساس أن الكوفة سوف يكون لها النصيب الأوفر من الاهتمام و قد ذكرنا أن الكوفة التي تأسست في سنة 17 كان حاكمها هو القائد العام للجيوش الاسلامية في الشرق سعد بن أبي وقاص، و نظرا لبعض الشكاوي فقد أقصي عن الحكم بذريعة عدم كفائته السياسية و اسند المصنب الي عمار بن ياسر الذي لم يلبث فيه الا قليلا بسب نقائه و استقامته و طهره، و وقع اختيار عمر علي المغيرة بن شعبة لأنه داهية في السياسية لايتورع عن الغدر و الفجور و قد استمر في حكومة الكوفة مدة طويلة الي أن جاء عثمان للخلافة فاسند حكومة الكوفة الي سعد بن أبي وقاص ثم الي أخيه في الرضاعة الوليد بن عقبة و قد اشتهر الأخير بانحرافاته الاخلاقية

[ صفحه 50]

و فسقه و كذبه [28] .

و قصة شربه الخمر و سكره و أدائه صلاة الصبح سكران مشهورة فقد صلي أربع ركعات و التفت الي المصلين قائلا أتريدون المزيد؟!

و قد انبري الصحابي الجليل عبد الله بن معسود فضربه بحذائه علي وجهه وتطورت الحادثة الي ارسال و فد من سكان الكوفة يحمل خاتم الوليد للشهادة علي ما فعله حاكم الكوفة و من المؤسف ان الخليفة قام بانتهار أعضاء الوفد و طردهم مما اضطرهم الي الاجتماع بالامام

علي و قد هب الأمام لتنفيذ حكم الله و تحمل مسؤوليته بالرغم من استياء الخليفة و ظل مشهد جلد الوالي الفاسق أمام أخيه الخليفة موقفا شجاعا في ذات الهل لابد و أن الوفد الكوفي سيذكره باعتزاز:

و قد اضطرار عثمان الي اقصاء الوليد عن حكومة الكوفة و اسنادها الي آخر من أقاربه و هو سعيد بن العاص و كان شابا مترفا [29] استخف بصحابة النبي صلي الله عليه وآله وسلم قد اصطدم مع هاشم بن

[ صفحه 51]

عتبة الصحابي الجليل و عيره بعينه العوراء مع انها اصيبت في معركة اليرموك الحاسمة و حدث الخلاف بسبب رؤية الهلال و قد اضطر الصحابي لها بناء علي رؤيته و فطر الناس، فأمر الحاكم الجديد باعتقاله و ضربه كما أمر باضرام النار في منزله فاحترقت الدار.

وقد كشر الامويون عن انيابهم في الكوفة و كشفوا عن سياسة تتناقض مع مبادي الاسلام اذ أعلن الحاكم في مناسبة من المناسبات بأن الكوفة و غيرها بستان القريش فنهض مالك الاشتر و رد عليه بقوة و كان هذه الحادثة بداية للحوادث المريرة التي أدت فيما بعد الي اعلان الثورة و مطالبة الخليفة بعزل الوالي و تنصيب وال آخر.

و قد اشتدت المحن في الأعوام الأخيرة من خلافة عثمان الذكري تنكر لرفاقه في الجهاد و صب العذاب علي بعضهم صبا و لم يرحم شيخوختم فكان لابي ذر النصيب الأوفر اذ توفي في منفاه «الربذة» تلك المنطقة الصحراوية القاحلة فيما تعرض عبدالله بن مسعود الي الضرب المبرح فتوفي متأثرا بجراحه و نال عمار بن ياسر نصيبه من العذاب كما حاول نفي الامام علي ثم تراجع بعد أن تلقي تحذيرات من تبعات

هذه الخطوة المتهورة!

و علي كل حال فقد تفاقمت الاوضاع سوء و كان مروان بن الحكم الذي يعد من أعداء الاسلام القدامي هو الخليفة الفعلي

[ صفحه 52]

الذي يقود البلاد الي الهاوية و قد انفجر الوضع في المدينة بعد أن زاد تسلط الامويين علي مقدرات البلاد و اذلالهم العباد، فتدفقت الوفود من مقاطعات الدولد الاسلامية من مصر و الكوفة و البصرة و كانت حركة الوفود قد استجابت لاستغاثة و جهها الصحابة لتدارك حرمة الدين الاسلامي التي باتت تنتهك كل يوم بل ان الصحابة و جهوا رسائل عديدة الي الحاميات الاسلامية في الحدود من أجل القدوم الي عاصمة الاسلام بعد أن باتت الحصون مهددة من داخلها. [30] .

و استنجد عثمان بمعاوية لقمع الثائرين و لكن معاوية كان يعرف من أين تؤكل الكتف فتكلأ في الاستجابة منتظرا قميصه الملطخ بالدم ليكون و سيلته للاستيلاء علي الخلافة.

لم تكن المعارضة تمثل تيارا واحدا بل جمعت تحت لوائها تيارات عديدة و التقت فيها بواعث كثيرة فهناك الناقمون بسبب حرمانهم الامتيازات كعمرو بن العاص و هناك الطامعون بالخلافة بعد أن نفخت الشوري في نفوسهم أوهام الأهلية و الجدارة (طلحة و الزبير) و هناك الجماهير المتذمرة التي وجدت نفسها مهدورة الكرامة، و هناك الي جانب كل ذلك الضمير الاسلامي المتمثل في أجلاء الصحابة بدء بأبي ذر و انتهاء بعمار بن ياسر.

[ صفحه 53]

و قد برز الامام علي وسط هذه الاجواء المظلمة ليمثل موقفا فريدا اذ حاول تفادي الكارثة فحاز ثقة الجميع حتي عثمان نفسه اما زوجة عثمان فقد كانت تؤمن ايمانا عميقا بأن عليا هو وحده الذي سينقذ زوجها من الهاوية

شرط أن يستمع الأخير للنصائحه.

و أحدقت حشود الثائرين و هي تقدر بالألوف بقصر عثمان و أعلنت مطالبها الواضحة:

- العودة الي سياسة النبي في العطاء و التي تنهض علي مبدأ المساواة و الغاء الامتيازات التي سنها الخليفة الثاني و جيرها عثمان لصالح الامويين.

- تطهير المؤسسة الحكومية من العناص الفاسدة و خاصة مروان بن الحكم.

- الحد من اطماع الأمويين و احتكار المناصب الحكومية و حصرها بهم.

- وقف الاجراءات الكيفية التي يمارسها الولاة في الأقاليم الاسلامية ازاء رعايا الدولة والحد من صلاحيات الحكام في التصرف بالأموال العامة.

و عندما تفاقمت الأوضاع برفض الخليفة لمطالب الثائرين و ظهرت نذر الانفاجار استنجد الجميع بعلي ليقوم بمهمة السفارة.

و اجتمع الامام بعثمان و دار الحوار التالي:

علي: الناس و رائي و قد كلموني فيك...و والله ما أدري ما أقول

[ صفحه 54]

لك...و ما أعرف شيئا تجهله...و لاأدلك علي أمر لاتعرفه..انك لتعلم ما نعلم..و ما سبقناك الي شي ء..فنخبرك عنه...و لاخلونا بشي ء فنبلغه...و ما خصصنا بأمر دونك...

فالله الله في نفسك فانك و الله ما تبصر من عمي و ما تعلم من جهل، و ان الطريق لواضح بين...

و ذكر الامام الخليفة بخطر مروان..فقال:

لا تكن لمروان سيقة يسوقك حيث يشاء.

و أضاف في حديثه الي ان الولاة يسيئون سياسة الناس و ينسبون ذلك الي عثمان: ان معاوية يقتطع الامور دونك فيقول للناس هذا أمر عثمان فيبلغك و لاتغير علي معاوية.

و لقد حثت «نائلة» زوجها عثمان علي الاصغاء الي نصائح علي فهو وحده الذي يمكنه أن يقنع الثوار بالعودة: لهذا قال عثمان صادقا:

يا أبا الحسن: ائت هؤلاء القوم فادعهم الي

كتاب الله و سنة نبيه صلي الله عليه وآله.

قال الامام مشترطا:

نعم...ان اعطيتني عهد الله و ميثاقه علي انك تفي لهم بكل ما اضمنه عنك.

اجاب عثمان:

[ صفحه 55]

نعم.

و اخذ علي عليه السلام العهود علي الخليفة باصلاح الامور و خرج علي يبشر الجماهير المحتشدة و علت الهتافات من كل صوب:

ما وراءك؟

فأجاب الامام:

بل أمامي...تعطون كتاب الله و تعتبون من كل ما سخطتم.

و في هذه الكلمات او جز الامام كل مطاليبهم التي ثاروا من اجل تحقيقها...

و تساءل زعماء الثورة:

اتضمن ذلك عنه.

فقال عليه السلام:

نعم.

رضينا.

و هكذا تقرر اجتماع بعض زعماء الثائرين بعثمان لتحرير ما أعلن الخليفة الثالث.

و هذه صيغة التعهد كما ورد في كتب التاريخ:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب من عبدالله عثمان أمير المؤمنين..

لمن نقم عليه من المؤمنين و المسلمين..

ان لكم أناعمل فيكم بكتاب الله و سنة نبيه صلي الله عليه وآله.

[ صفحه 56]

يعطي المحروم.

و يؤمن الخائف.

و يرد المنفي.

و لاتجمر البعوث «لاتبقي مرابطة في أرض العدو».

و توفر الفي ء.

و علي بن أبي طالب ضمين المؤمنين و المسلمين علي عثمان بالوفاء في هذا الكتاب.

الشهود: الزبير بن العوام / طلحة بن عبيدالله / سعد بن ابي وقاص / عبدالله بن عمر / زيد بن ثابت / سهل بن حنيف / أبو أيوب الأنصاري / خالد بن زيد، و قد حرر الكتاب في ذي القعدة سنة 35 ه و نصح الامام علي الخليفة عثمان بن عفان بان يواجه الجماهير شخصيا و يعلن علي الملأ العام سياسته الجديدة.

و نهض عثمان ليواجه الجماهير، و

في قلبه عزم علي أن يعود الي جادة الصواب:

سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: من زل فلينب...

و أنا أول من اتعظ...فاذا زللت فليأتي اشرافكم فليردوني برأيهم..فوالله لو ردني الي الحق عبد لاتبعته، و ما عن الله مذهب الا اليه...

و اشرقت وجوه الجماهير بالفرحة و الأمل....

و خرج الامام علي فتحدث الي الوفد المصري الذي فضل

[ صفحه 57]

العودة الي دياره بعد أن حممل نسخة من كتاب الخليفة.

و هنا تدخل مروان فاجهض كل تلك المساعي الطيبة...اذ سطر كتابا باسم الخليفة و مهره بخاتم الخليفة وسلمه الي غلام الخليفة! و اركبه جملا تعود مليكته للخليفة المغلوب علي أمره؛ و قد بلغ من خبث مروان انه طوي الكتاب و وضعه في انبوب مصنوع من الرصاص، و وضع الانبوب في قارورة و وضع القارورة في قربة ملاي بالماء...و قال للغلام:

حث السير حتي تصل مصر فتسلمه الي عبدالله بن سعد، و تشاء الأقدار أن يكتشف الوفد المصري و هو في طريق العودة الي دياره..المبعوث المشبوه و بعد تفتيش دقيق عثر أحد اعضاء الوفد علي انبوبة الرصاص و فيها كتاب ينضج بالدم الموت، اما بعد...

فاذا قدم عليك عمرو بن بديل فاضرب عنقه و اقطع يدي ابن عديس و كنانة و عروة ثم دعهم يتشحطون في دمائهم حتي يموتوا.ثم أوثقهم الي جذوع النخل [31] .

و ثارت ثائرة الوفد المصري الذي قرر العودة [32] الي المدينة و الاطاحة بعثمان.توجه الوفد المصري الي علي الذي ضمن

[ صفحه 58]

الخليفة؛ و شعر علي بالغضب و هو يتأمل كتاب عثمان و أوامره بتصفية زعماء الوفد..

و انطلق الامام الي قصر

عثمان، و قد فوجي الأخير بالكتاب و اقسم انه لايعلم منه شيئا و انه لم يكتبه و لم يأمر بكتابته و لكنه اعترف قائلا:

- اما الخط فخط كاتبي..و الختم خاتمي...

- و كان لابد من اتهام أحد بحبك هذه المؤامرة...فسأل علي:

- فمن تتهم...

لقد انفتحت أمام عثمان فرصة رائعة..للتحقيق في الأمر و من ثم الثأر لكرامته التي اهدرها مروان بتصرفاته الحمقاء...و لكننا نجد عثمان و مع بالغ الأسف يجيب دون روية قائلا:

- اتهمك واتهم كاتبي!!

و نهض علي غاضبا..و شعر بأن دوره كوسيط قد انتهي و أن عثمان قد مات...منذ زمن..منذ الأيام التي سلم فيها أموره الي مروان وراح ينقاد وراءه.

تمتم علي بحزن:

- ما يريد عثمان أن ينصحه أحد...اتخذ بطانة غش ليس منهم أحد الا و قد تسيب بطائفة من الأرض يأكل خراجها و يستذل اهلها.

[ صفحه 59]

الحصار الثاني

تدهورت الأوضاع بسرعة مثيرة،: و هتف المصريون بعثمان و لوحوا بالكتاب:

- يا عثمان أهذا كتابك؟

و انكر عثمان ذلك و أقسم.

فصاح المصريون:

- هذا شر، يكتب عنك بما لاتعلم، مثلك لايليق بالخلافة فاخلع نفسك عنها.

اجاب عثمان و قد سد جميع أبواب السلام:

- ما كنت لانزع قميصا سر بلنيه الله!

و هذا فرض الحصار مرة أخري و تأزمت الأحداث و قد أو شك الوضع علي الانفجار.

و تقدم شيخ قد هدته السنون من اصحاب [33] النبي صلي الله عليه وآله، و ناشد عثمان باطفاء نار الفتنة باعتزاله الخلافة و الحكم، و فيما هو يحاور عثمان انطلق سهم فاصاب من الشيخ الصحابي مقتلا فهوي شهيدا..و انفجر الوضع و تعالت هتافات الجماهير بتسليم القاتل، و رفض عثمان

الاستجابة كعادته قائلا:

- لم أكن لاقتل رجلا نصرني...

[ صفحه 60]

و في فورة غضب اندفعت الجماهير باتجاه باب القصر فاحرقته...

و وقعت عدة اشتباكات عنيفة...و مما دفع بالأموين الي القتال.و مواجهة الجماهير بالعنف اخبار عن زحف قوات عسكريا من الشام [34] باتجاه المدينة؛ و مع كل هذا فقد تخلي مروان عن الخليفة وفر مع بعض الأمويين و تركوا عثمان يواجه مصيره المحتوم وحيدا..ولقي عثمان مصرعه تحت ضربات المهاجرين و الأنصار، و هكذا اسدل الستار علي حياة الخليفة الثالث..الذي ترك ثلاثة أيام بلا دفن و تضاربت الأنباء حول غسله و رفضت الجماهير فيما بعد دفنه في مقبرة البقيع فدفن كما اجمعت مصادر التاريخ في بقعة تدعي «حش كوكب» كان اليهود يدفنون فيها موتاهم، و اذا كان لمعاوية فضل علي عثمان فهو في هدم الحائط الذي يفصل بين «البقيع» و «حش كوكب» و الحاق الأخيرة بمقبرة المسلمين.

موقف امة

لخص الامام علي الحوادث التي انتهت بمقتل عثمان في حديثه مع بعض الثائرين قائلا:

[ صفحه 61]

ان عثمان استأثر فاساء الأثرة، و جزعتم فاسأتم الجزع، و لله حكم واقع في المستأثر و الجازع.

كما و او جز سيرة عثمان في خلافته بقوله:

الي ان قام ثالث القوم نافجا حضنيه (من كان سيره تكبرا) بين نثيله (الروث) و معتلفه (موضع العف) و قام معه بنو اميه يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع الي ان انتكث عليه قتله وأجهزه عليه عمله وكبت به بطنته.

و اعقب مصرع عثمان ان عمت الفوضي المدينة المنورة، و اندفعت الجماهير الي منزل الامام علي تطاله بتحمل مسؤولياته في الحكم و الخلافة في واحدة من اكثر المنعطفات

التاريخية حساسية و خطورة.

و لكن الامام رفض بشدة [35] و هتفت الجماهير تستنجد به:

يا أبا الحسن ان هذا الرجل قد قتل و لابد للناس من امام، و لانجد اليوم أحق بهذا الأمر منك..لاأقدم سابقة، و لاأقرب من رسول الله.

[ صفحه 62]

فقال الامام:

لا تفعلوا، و لاأفعل، فاني لكم وزير خير لكم من أمير.

و تشبثت الجماهير به كما تتشبث بطوق النجاة:

انت لنا أمير.

فقال الامام،

لا حاجة لي في امركم....ايها الناس أنا معكم فمن اخترتم رضيت به.

و احدقت به الجماهير من كل صوب و قد زادهم اصرار علي الامتناع اصرار علي التشبث به و هتفت الامام مرة اخري:

دعوني و التمسوا غيري..

و أردف مشيرا الي ان زمن الفتن قد بدأ:

انا مستقبلون أمرأ له وجوه..و له الوان، لاتثبت له العقول، و لاتقوم له القلوب.

و ارتفع صوت مخلص من بين الجماير يناشد الامام:

ننشدك الله...ألا تري ما نري؟!

الا تري ما حدث في الاسلام؟

ألا تخاف الفتنة؟

ألا تخاف الله؟!

و هنا سكت الامام...و حبست الجماهير انفاسها فقال:

اني ان اجبتكم ركبت فيكم ما أعلم، و ان تركتوني فانما أنا

[ صفحه 63]

كأحدكم..بل أنا من اسمعكم، و اطوعكم لمن وليتموه أمركم.

فردت الجماهير بحماس:

ما نحن بمفارقيك حتي نبايعك!

و اخيرا اعلن الامام استجابته و اشاره الي المسجد البقعة التي صنعت تاريخ الاسلام من قبل:

ان كان لابد من ذلك ففي المسجد..فبيعتي لاتكون خفية...و لاتكون الا عن رضي المسلمين و في ملأ جماعتهم.

و في اليوم التالي كان المسجد الجامع يموج بالجماهير التي احتشدت لمبايعة» علي»...

و لو قدر للمرة أن يري

مشهدا واحدا من ذلك اليوم العظيم - عندما هبت الجماهير تبايع انسانا رأت في ملامحه وجد المنقذ...رأت فيه الشمس التي اشرقت بعد ليالي الزمهرير الطويلة - لرأي رجالا و نساء و اطفالا صغارا...و قد اشرقت الوجوه تنتظر لحظات المهد الجديد..ولرأي أيضا شيوخا قد هدتهم السنون و الأيام و لكنهم تحاملوا علي انفسهم فجاءوا يعاهدون عليا...

و جاء علي في الصباح و قد اشرقت الشمس و غمرت المدينة بالنور و الدف..كان يرتدي قميصا و عمامة من خز..يحمل في يده نعليه..يتوكا علي قوسه. [36] .

[ صفحه 64]

و في يوم الثامن عشر من ذي الحجة ارتقي علي المنبر ليواجه الجماهير المحتشدة:

أيها الناس: اني كنت لامركم كارها...فأبيتم الا أن اكون عليكم...رضيتم بذلك؟

وعلت هتافات الامة:

نعم..نعم...نعم.

فرفع الامام طرفه الي السماء و قال:

اللهم اشهد عليهم...

و في فرع عارم بدأت مراسم البيعة...و امتدت أول يد و كانت شلاء [37] لتعاهد عليا علي الوفاء..و تدافعت الجماهير تبايع عليا..واشرقت وجوه الفقراء و المقهورين..لقد بدأ عهد جديد..عهد تتنفس فيه العدالة مل ء رئتيها..و احتفلت الامه بهذا اليوم السعيد ليكون لها عدا..و بدأت كلمات الفرح و الثناء و المجد تنثال لتملأ أذن الزمان..اذ انبري ذوالشهادتين خزيمة بن ثابت ليسجل شهادته أمام الناس و التاريخ و الأجيال:

ما اصبنا لأمرنا غيرك..و لاكان المنقلب الا اليك و لئن صدقنا انفسنا فيك لأنت أقدم الناس ايمانا..اعلم الناس بالله..و أول المؤمنين برسول الله..لك ما لهم...و ليس لهم ما لك..

[ صفحه 65]

و نهض الصحابي صعصعة بن صوحان فقال و هو يري اجمل منظر في الاسلام:

والله يا أميرالمؤمنين..لقد زينت الخلافة، و ما زانتك و رفعتها و ما رفعتك، ولهي

اليك احوج منك اليها.

و اندفع مالك الاشتر يهتف بحماس الجندي المخلص للاسلام:

ايها الناس، هذا وصي الاوصياء..و وارث علم الأنبياء..العظيم البلاء، الحسن العناء..الذي شهد له كتاب الله بالايمان و رسوله بجنة الرضوان..من كملت فيه الفضائل..و لم يشك في سابقته و علمه و فضله الأواخر و الأوائل... [38] .

ولم يتخلف عن البيعة الشعبية سوي مجموعة تعد بالاصابع في طليعتها: سعد بن ابي وقاص، اسامة بن زيد، ابي سعيد الخدري، و عبدالله بن عمر بن الخطاب، و حسان بن ثابت الشاعر: و لم يتعرض الامام الي أي منهم، و ترك لهم الخيار بحرية...فقد أحضر سعد الي المسجد ليبايع و لكنه رفض ذلك قائلا:

لا...حتي يبايع الناس..والله ما عليك مني بأس.

فقال الامام:

[ صفحه 66]

خلوا سبيله...

و قال عبداله بن عمربن الخطاب [39] مثل قول سعد:

فقال الامام:

ائتني بكفيل.

قال:

لاأري كفيلا.

فقال الامام:

دعوه..أنا كفيله.

و في كل الأحوال فان مبايعة علي كانت تعني الاعراض عن مباهج الدنيا و الترف و حياة القصور، و لم يكن هذا يسيرا علي الذين انغمسوا فيها و غرقوا في أوحالها حتي الحضيض.

العهد الجديد

و بصعود علي عليه السلام المنبر بدأ فصل جديد من التاريخ..لقد بدأ.

[ صفحه 67]

فصل الربيع و زمن العدالة و المساواة والأخوة...الجماهير و التاريخ و الضمير الانساني تصغي الي كلمات تتدفق من روح عظيمة...روح انصهرت في بوتقة النبوات..ها هو علي ربيب محمد صلي الله عليه وآله يعلن انبعاث الرسالة و من جديد..و عودة شمس الاسلام ها هو يخاطب التاريخ و الحضارة و الانسانية:

ألا لايقولن رجال منكم قد غمرتم الدنيا فاتخذوا العقار..و فجروا الأنهار...و ركبوا الخيل الفارهة..و اتخذوا الوصائف الروقة...فصار

ذلك عليهم عارا وشنارا..اذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه و أصرتهم الي حقوقهم التي يعلمون..فينقمون ذلك و يستنكرون...و يقولون حرمنا ابن ابي طالب حقوقنا...

واردف معلنا القاعدة التي تنهض عليها حقوق المواطن المسلم:

و ايما رجل استجاب لله و رسوله...فصدق ملتنا و دخل في ديننا، و استقبل قبلتنا..فقد استوجب حقوق الاسلام و حدوده فانتم عباد الله...

و المال مال الله..

يقسم بينكم بالسوية..

لا فضل لاحد علي احد؛ و للمتقين غدا حسن الجزاء و فضل الثواب...

و اضاف قائلا:

[ صفحه 68]

و ذا كان غدا - ان شاء الله - فاغدوا علينا..فان عندنا مالا نقسمه فيكم، و لايتخلفن احد منكم، عربي و لاأعجمي....كان من أهل العطاء أولم يكن..اذا كان مسلما حرا الا حضر...

اقول قولي هذا و استغفر الله العظيم لي و لكم.

هل هي مصادفة أن يتولي علي بن أبي طالب عليه السلام الخلافة في الثامن عشر من ذي الحجة الحرام...و هل تذكر بعض صحابة النبي صلي الله عليه وآله يوم غديرخم [40] .

عندما هبط جبرئيل يعلن ولاية علي علي كل مسلم و مسلمة و كل مؤمن و مؤمنة.

ان الفترة التي اعقبت رحيل النبي صلي الله عليه وآله و اقصاء الامام علي عن حقه هي من أكثر الفترات مأساوية، و التأمل في مواقف الامام و تصريحاته [41] ابان تلك الفترة تكشف عن عمق المحنة التي

[ صفحه 69]

عاشها وصي النبي ازاء قريش التي حاربت النبي صلي الله عليه وآله ما يقارب ربع قرن من الزمن و هي مدة الدعوة و الدولة، و اقصت وصيه عن حقه في القيادة مدة ربع قرن أيضا.

حوادث يوم السبت 19 ذي الحجة 35 ه

بويع الامام علي عليه السلام بالخلافة

يوم الجمعة..و تجلت سياسته في اليوم التالي.فاذا علي هو صوت العدالة و الانسانية، و هو الاسلام الذي لايعرف افضلية لعربي علي اعجمي و لاأبيض علي اسود الا بالتقوي.

اصدر الخليفة الجديد أمره الي الصحابي عمار بتوزيع «العطاء» علي الناس:

قم يا عمار الي بيت المال، فاعط الناس ثلاثة دنانير لكل انسان [42] و ادفع لي ثلاثة دنانير.

و انطلق عمار و أبوالهيثم و جماعة من المسلمين الي بيت المال...مضي علي الي مسجد قباء أول مسجد في تاريخ الاسلام.مضي ليصلي..

و هناك في البيت الذي يضم خزائن الدولة حدث ما لايستوعبه العقل البشري...لقد وجد عمار أن بيت المال يحوي

[ صفحه 70]

ثلاثمئة ألف دينار كان أهل العطاء مئة ألف انسان؛ و لم يبق دينار واحد!!

و التفت عمار الي حوله و في عينيه بريق و خشوع قائلا:

جاء والله الحق من ربكم..والله ما علم بالمال و لابالناس و ان هذه لآية..و جبت عليكم بها طاعة الرجل.

من هنا مر الشيطان

و اذا كانت سياسة العطاء قد كشفت عن الوجه الانساني، و الاسلامي لعلي بن أبي طالب عليه السلام، فأنها قد فجرت في الوقت نفسه الأحقاد والاطماع..و فوجي بها بعض المقربين اليه..جاء سهل بن حنيف و هو من اصحابه فقال مذهولا:

يا أمير المؤمنين:...هذا غلامي بالأمس..و قد اعتقته اليوم.فقال الامام:

نعطيمه كما نعطيك!

و اثارت هذه السياسة حفيظة عدد من الزعامات في طليعتهم، طلحة بن عبدالله...الزبير بن العوام..عبدالله بن عمر..مروان بن الحكم [43] ،...سعيد بن العاص...و بدأت أول التكتلات

[ صفحه 71]

المناهضة لعلي و سياسته: وقد امتنع هؤلاء عن حضور توزيع العطاء...و بذلك سجلوا أول استياء ضد العدالة.تبلورت المعارضة لتجتمع تحت لواء المصالح و الاطماع

و الاحقاد الدفينة [44] ،..و في المسجد جاء الوليد بن عقبة و هو يمثل التكتل الأموي لمساومة علي فقال:

يا أبا الحسن: انك قد وترتنا جميعا، أما أنا فقد قتلت ابي يوم بدر، و خذلت أخي يوم الدار بالأمس.

و أما سعيد (بن العاص) فقتلت أباه يوم بدر، و كان ثور قريش.

و أما مروان فسخفت أباه عند عثمان اذ ضمه اليه...

و نحن اخوانك و نظراؤك..و نحن نبايعك اليوم علي أن تضع عنا ما اصبناه منالمال في عهد عثمان..و أن تقتل قتلة عثمان، و انا ان خفناك تركناك و التحقنا بالشام.

قال الامام واضعا النقاط علي الحروف:

اما ما ذكرتم من و تري اياكم فالحق وتركم.

و اما وضعي عنكم ما اصبتم فليس لي ان اضع حق الله عنكم و لا عن غيركم.

و اما قتلة عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس، و لكن

[ صفحه 72]

لكم علي ان خفتموني أن أؤمنكم، و أن خفتكم أن اسيركم.

و عندما انتهت مراسم توزيع العطاء، انطلق علي عليه السلام الي العمل في بئر الملك. [45] .

و قد رفض كل من طلحة و الزبير، و عبدالله بن عمر استلام حقوقهم من العطاء، و جاءوا يطلبون الاجتماع بعلي.

قال طلحة حانقا:

هذا منكم أو من صاحبكم؟ [46] .

اجاب عمار:

هذا أمره لانعمل الا بامره.

- استأذوا لنا عليه.

ما عليه آذن هو في بئر الملك يعمل.

و من المدهش أننا نري هؤلاء الثلاثة يستمرون في غيهم فيمتطون خيولهم متوجهين الي «بئر الملك».

[ صفحه 73]

كان الجو حارا و كان علي يعمل في الأرض مع أجير له و قد

تصببا عرقا؟ قال طلحة متضايقا:

ان الشمس حارة فارتفع معنا الي الظل..

و استجاب الامام الي رغبتهم فجلس اليهم تحت ظلال شجرة ابتدا طلحة الحديث فقال:

لنا قرابة من نبي الله و سابقة جهاد...و انك اعطيتنا بالسوية..و لم يكن عمرو و لا عثمان يفعلان ذلك..كانوا يفضلوننا علي غيرنا.

اجاب الامام مذكرا اياه بطريقة ابي بكر:

فهذا قسم ابي بكر..و هذا كتاب الله فانظروا ما لكم من حق فخذوه.

اجاب الزبير:

فسابقتنا؟!

قال أمير المؤمنين موجها خطابه لطلحة و الزبير.

- انتما اسبق مني؟

- لا..فقرابتنا منه.

- أقرب من قرابتي؟

- لا..فجهادنا.

- اعظم من جهادي؟

- لا.

- و الله ما أنا في هذا المال و اجيري الا منزلة سواء.

[ صفحه 74]

و مع كل هذه الحجج المقنعة الا أن طلحة و الزبير كما يبدو قد ركبا رأسيهما و رفضا الا نصياع للأر الواقع لقد بنيا مجديهما علي تلك الامتيازات الوهمية وراحا ينظران الي كل شي ء من خلال تلك الأوهام.

و شهد اليوم التالي انفجارا في المسجد عندما حاول عمار الدخول معها في حوار [47] و رفض طلحة باسلوب عنيف الحديث صارخا:

اعرف أن في كل واحد منكم خطبة...

و اساء عبدالله بن الزبير الأدب في خطابه لشيخ الصحابة عمار فاخرج من المسجد..و هنا غادر الزبير المسجد منزعجا و تأزمت الأوضاع، و قد ذر الشيطان قرنية..و احيط الامام علما بحركة الانشقاق...و التي تتخذ من القدم في اعتناق الاسلام ذريعة للحصول علي امتيازات دنيوية زائلة...

و شعر الامام بالغضب..و غادر منزله الي المسجد فالقي خطابا مريرا انتقد فيه هذه الظاهرة المؤسفة قائلا:

يا معشر المهاجرين و الأنصار! اتمنون علي الله و رسوله باسلامكم؟

بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان ان كنتم صادقين.

[ صفحه 75]

و ارتفعت نبرة الامام و هو يهتف بغضب:

انا أبوالحسن..ألا أن هذه الدنيا التي تتمونها و ترغبون فيها..اصبحت تغضبكم و ترضيكم ليست بداركم و لامنزلكم الذي خلقتم له، فلا تغرنكم..و اما هذا الفي ء فليس لاحد اثرة..فقد فرغ الله من قسمته..هو مال الله و انتم عباد الله المسلمون..و هذا كتاب الله، به أقررنا و له اسلمنا و عهد نبينا بين اظهرنا..

و نزل الامام و صلي ركعتين..و بعث عمارا لاستدعاء الزبير و طلحة لاجراء حوار معهما؟

قال علي:

- نشدتكما الله هل جئتماني طائعين للبيعة و دعوتماني اليها و اني كاره؟

- نعم.

-غير مجبورين؟

- نعم.

- فما دعاكما الي ما أري؟

- أعطيناك بيعتنا علي أن لاتقضي في الأمور دوننا..و لنا من الفضل علي غيرنا ما قد علمت.

و شعر الامام بالغضب..لقد تمكن الشيطان من نفخ روحه فيهما و قديما رفض ابليس السجود لادم قائلا: انا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين!

[ صفحه 76]

قال علي و هو يحاول قهر الشيطان فيهما:

- لقد نقمتما يسيرا و ارجأتما كثيرا..فاستغفر الله يغفر لكما..

الا تخبراني..ادفعتكما عن حق واجب لكما فظلمتكما اياه؟

- معاذ الله.

- فهل استأثرت من هذا المال بشي؟

- معاذ الله.

- أوقع حكم أو حد من المسلمين فجهلته أو ضعفت فيه؟

- معاذ الله.

و انطلقت صرخة مظلوم ظلت مكبوتة ربع قرن:

- فما الذي كرهتما من أمري حتي رأيتما خلافي؟

- خلافك عمر في القسمة..انك جعلت حقنا في القسم كحق غيرنا و سويت بيننا و بين غيرنا.

و ذكرهم الامام بان السابقة و الجهاد في الاسلام لايمكن أن تكون قاعدة تنهض عليها الامتيازات الدنيوية انها اذا خلصت لله فستكون المجد و المستقبل الحقيقي للمسلم في الآخرة:

- أما قولكما جعلت فيئنا و أسيافنا و رماحنا سواء بيننا و بين غيرنا، فقدميا سبق الاسلام قوم، و نصروه بسيوفهم و رماحهم، فلا فضلهم رسول الله بالقسم و لاآثر بالسبق، و الله موف السابق

[ صفحه 77]

المجاهد يوم القيامة..

و وصل الحوار الي طريق مسدود، لقد وضعت الاصابع في الاذان و لم يعد للمواعظ معني في زمن يبرق المعدن الأصفر فيخلب العقول و الأبصار.

الطريق الي البصرة

تسارعت الأحداث..و شهد ليل المدينة رجالا ملثمين يجتمعون في الظلام يتآمرون للاطاحة بالعهد الجديد..لوأد الشمس التي اشرقت بعد ليالي الشتاء الطويل.لقد تحول عثمان بين ليلة و ضحاها الي مظلوم بعد أن كان ظالما، ها هو طلحة الذي انفق اموالا طائلة و قدم مساعدات كبيرة من اجل الاطاحة بعثمان يتهيأ للفرار الي مكة من اجل المطالبة بدم عثمان، لقد اصبح عثمان مظلوما..

لأنهم فقدوا بغيباه الدنيا الجميلة..دنيا القصور و الامتيازات و الليالي الجميلة!

و وصلت الحوادث منعطفا خطيرا عندما دخلت عائشة زوج النبي أم المؤمنين قلب الأحداث لترفع فيما بعد راية التمرد علي الشرعية؛ حتي عائشة التي كانت بالأمس تهاجم عثمان بقسوة باتت تهتف بظلامة اليوم...

و هنا يتوقف التاريخ مذهولا..فاذا بالذين قتلوا عثمان في

[ صفحه 78]

الخامس عشر من ذي الحجة الحرام يرفعون لواء المطالبة بدمه من علي. [48] .

و هكذا وجد مروان بن الحكم ان الظروف تسير في صالحه ففر الي مكة و معه بنوأمية فاجتمعت الاحقاد و الاطماع و المصالح تحت راية عائشة

لاحبا بعثمان و لكن كرها لعلي...و انفق الامويون أموالا طائلة لتجهيز جيش المتمردين الذي تحرك صوب البصرة بقيادة عائشة [49] زوج النبي صلي الله عليه وآله.

واصيب البصريون بالدهشة و هم يرون عائشة و طلحة و الزبير قد جاءوا الي البصرة للطلب بدم عثمان الذي قتل في المدينة!

و في البصرة حدثت اشتباكات عنيفة مع انصار الامام وقع فيها عشرات القتلي و الجرحي.

[ صفحه 79]

و تحرك الامام بقواته باتجاه العراق، و عسكر في منطقة «ذي قار» ينتظر وصول الامدادات من الكوفة، غير أن الوالي [50] و كان عثماني الهوي قد وقف الي جانب عائشة، و راح يحث الناس علي نكث البيعة و عدم مساندة الامام؛ و قد وصل الحسن بن علي و عمار لحث الكوفيين علي الالتحاق بجيش الامام، و ظل الموقف علي ما هو عليه و لم تجد خطابات نجل الامام و لاصاحبه في تغيير الموقف، و هنا وصل مالك الأشتر علي جناح السرعة

، فاقتحم قصر الامارة بالقوة، و طرد الوالي غادر القصر مذموما مدحورا.

العجل الجديد

و في يوم الخميس العاشرمن جمادي الاولي سنة 36 ه شهدت منطقة «الخريبة» [51] من ارض البصرة حشودا عسكرية هائلة و كان جيش الامام علي يضم ثمانين «بدريا» و مئتين و خمسين صحابيا شاكروا في بيعة الرضوان [52] وتقدمت عائشة علي جمل و عن يمينها و شمالها الزبير و ابنه عبدالله و طلحة و مروان بن الحكم و سعيد بن العاص! و قد حاول الامام علي عليه السلام

[ صفحه 80]

التوصل الي حل سلمي و ذكر الزبير بن العوام بحديث لرسول الله. [53] و كاد الزبير ان يتراجع في اللحظات الأخيرة قبل

اشتعال المعركة لولا تدخل ابنه عبدالله الذي اتهم أباه بالجبن...

و عرض الامام مرة اخري التحاكم الي كتاب الله و حق الدماء، و لكن المتحمسين للحرب في جيش عائشة أمطروا الشاب الذي حمل القرآن في منطقة القتال بوابل من السهام فسقط شهيدا كما سقط بعض الجرحي في جيش الامام.

هنالك دعا علي ابنه محمدا و سلمه راية الجيش العظمي و كانت راية رسول الله، و قال:

يا بني هذه راية ما ردت قط و لاترد..يا أباالقاسم!

قد حملت الراية و انا اصغر منك..

و كثف جيش الناكثين هجومه بالسهام..فاصدر الامام أمره بالهجوم العام..و اشتبك الفريقان في معارك ضارية، و تحول الجمل في نوبة من نوبات الجنون الوثني الي عجل جديد..اذا دارت حوله اعنف الاشتباكات و قد كان الهودج مصفحا بالحديد وهتف الامام و هو يري عنف المعارك حوله:

[ صفحه 81]

اعقروا الجمل و الا فنيت العرب.

و بسقوط الجمل [54] خفت حدة المعارك و بدأت جبهات الناكثين تتزلزل بشدة تحت وقع ضربات المحاربين.

و أمر علي ربيبه محمد بن أبي بكر أن يبادر الي الهودج و يحمي أخته! و حسم جيش علي المعركة في ساعات معدودة [55] .

و فوجئت عائشة بيد تمتد داخل الهودج فصاحت:

- من أنت؟!

- أبغض اهلك اليك.

- ابن الخثعمية؟!

- نعم و لم تكن دون امهاتك.

- لعمري بل هي شريفة..دع عنك هذا..الحمد الله الذي سلمك.

- قد كان ذلك ما تكرهين.

- يا أخي لو كرهته ما قلت الذي قلته.

[ صفحه 82]

- كنت تحبين الظفر واني قتلت؟

- كنت أحب ذلك فاكفف.

و جاء الامام فقرع الهودح بالرمح و قال

بلهجة فيها غضب و حزن:

- يا حميراء! بهذا اوصاك رسول الله؟!

اجابت عائشة:

- يا ابن ابي طالب: ملكت فاصفح.

فقال الامام و هو يطلق آهة حري:

- و الله ما ادري متي اشفي غيظي؟

احين أقدر علي الانتقام فيقال لي لو غفرت؟!

أم حين اعجز فيقال لي لو صبرت؟

غير أن الامام لايجد سوي الصبر سلاحا..و الصبر سلاح الأنبياء:

- بلي اصبر فان لكل شي زكاة و زكاة القدرة العفو! و التفت الامام الي محمد بن أبي بكر [56] و قال:

[ صفحه 83]

شأنك باختك لايدنو منها احد سواك.

لقد اسفرت معارك الجمل الضاربة عن سقوط ما يقارب من خمسة و عشرين ألف مقاتل ستة الاف من جيش علي عليه السلام.

وقد لقي طلحة مصرعه خلال احتدام المعارك [57] و تضاربت الانباء حول انسحاب الزبير من أرض المعركة هل كان قبل احتدام المعارك أو بعدها، و في كل الأحوال فقد اغتيل في «وادي السباع» [58] و كانت دوافع القال الاطماع فقد حمل رأسه و سيفه و جاء يبشر عليا عليه السلام..و تناول الامام سيف الزبير و تمتم أسفا:

- سيف اعرفه..طالما لاالكرب عن وجه رسول الله.

و اردف الامام مخاطبا «ابن جرموز»!

- و الله ما كان ابن صفية جبانا و لالئيما، و لكنه الحين و مصارع السوء.

قال ابن جرموز و هو يتطلع الي المكافأة!

- الجائزة يا أمير المؤمنين؟

و انبعثت في اعماق الامام نبوءة قديمة:

[ صفحه 84]

- اما اني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: بشر قاتل ابن صفية بالنار.

و اصدر الامام علي عليه السلام عفوا عاما [59] اثر توقف العمليات الحربية، و منع أخذ غنائم الجيش المهزوم

سوي ما استخدم للحرب من اسلحة و وسائط نقل.

وطالب بعضهم الامام بالسبي فرفض ذلك فقالوا مستنكرين:

- كيف تحل لنا دماءهم و تحرم علينا سبيلهم!

فاجاب الامام:

- كيف تحل لكم ذرية ضعيفة في دار هجرة الاسلام؟!

و عندما رأي اصرارهم قال:

- فاقرعوا علي عائشة اذن.

فهتفوا عندها مستغفرين:

- نستغفر الله يا أمير المؤمنين!

لقد كشفت معركة الجمل و الحوادث التي تلتها عن مستويات متدنية من الوعي الديني..و عمقت التيارات المتناقضة التي استشرت في فكر الأمة و ضميرها، و مهدت الطريق امام كارثة صفين.

[ صفحه 85]

حوار مع الاصفر

و دخل الامام بيت المال، و رأي دنان الذهب و الفضة قال:

يا صفراء غري غيري، و القي نظرة فاحصة و قال فرقوه خمسمئة خمسمئة، و اخذ الامام نصيبه اسوة بجنوده فجاء رجل و قال: كنت شاهدا بقلبي و ان غاب عنك جسمي.

فاعطاه علي نصيبه و انصرف صفر اليدين حامدا الله اذ لم يحصل علي شي ء من الفي ء..و لما عوتب علي التسوية في العطاء قال: أتأمروني أن اطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟! و الله لااطور به ما سمر سمير، و ما ام نجم في السماء نجما؛ لو كان المال لي لسويت بينهم فيكف و انما المال مال الله [60] .

و القي الامام نظرة حزن علي جثت القتلي، و مر بطلحة [61] .

[ صفحه 86]

و هو جثة هامدة و قد مر الظلام الاشياء فقال بأسي:

لقد اصبح «أبومحمد» بهذا المكان غريبا! أما والله لقد كنت اكره ان تكون قريش قتلي تحت بطون الكواكب

مشهد في البصرة

و خلال مكوثه في البصرة توجه الامام الي منزل احد اصحابه و هو العلاء بن زياد الحارثي ليعوده في علة المت به..و تأمل الامام سعة الدار فقال لصاحبه و هو يحاوره:

- ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا، وانت اليها في الآخرة كنت أحوج؟ و يجيب الامام ليفتح الطريق أمام الأغنياء الصالحين فيقول:

- بلي ان شئت بلغت بها الآخرة تقري بها الضيف و تصل فيها الرحم و تطلع منها الحقوق مطالعها..فاذا انت قد بلغت بها الآخرة...

قال العلاء بصوت واهن و قد وجد له فرصة ليشكو اليه أخاه:

- يا أمير المؤمنين اشكو اليك أخي عاصم.

قال الامام:

- ما له؟

-

لبس العباءة و تخلي عن الدنيا.

[ صفحه 87]

و انبري لامام ليواجه ظاهرة التصوف:

- علي به!

لقد حدد علي موقفه من الغني فيا تري ماذا سيكون موقفه مع الذين يتركون الدنيا و يديرون وجوههم لها؟

جاء عاصم أخو العلاء...كان يرتدي عباءة صوف رثة.

قال الامام بلهجة فيها عتب خفيف:

- يا عدي [62] نفسه! لقد استهام بك الخبيث.

اما رحمت أهلك و ولدك!

أتري الله احل لك الطيبات و هو يكره أن تأخذها؟

أنت أهون علي الله من ذلك.

نظر عاصم الي ثياب أميرالمؤمنين ربما كانت أكثر رثاثة من ثيابه فقال:

- يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك و جشوبة مأكلك.

قال الامام و هو يفلسف له الحاكم القدوة:

- ويحك أني لست كأنت...ان الله تعالي فرض علي ائمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كلا يتبيغ [63] الفقير بفقره.

[ صفحه 88]

العاصمة الجديدة

كان الامام يدرك ان الخطر القادم يكمن في الشام حيث يمارس معاوية بن أبي سفيان سياسته المشبوهة في غسل الادمغة، و تزوير الحقائق، و توجيه الرأي العام الجهة التي تخدم مصالحه و تحقق طموحاته الشخصية.و من هنا اختار الامام الكوفة عاصمة جديدة للدولة الاسلامية لموقعها الاستراتيجي و وفرة مواردها الاقتصادية.

غادر أميرالمؤمنين عليه السلام مدينة البصرة بعد أن عين عليها واليا جديدا هو عبدالله بن عباس، و في البصرة قال كلمته الخالدة:

ارضكم قريبة من الماء بعيدة عن السماء و التي اثارت التساؤلات لدي سامعيها عقودا طويلة من الزمن.

واتجه الامام الي الكوفة فهمس و قد لاحت من بعيد باسقات النخيل:

ويحك يا كوفان؛ ما اطيب هواءك و اغذي ترتبك الخارج منك بذنب، و

الداخل اليك برحمة؛ لاتذهب الأيام و الليالي حتي يجي ء اليك كل مؤمن، و يبغض المقام بك كل فاجر، و تعمرين حتي ان الرجل من أهلك ليبكر الي الجمعة فلا يلحقها من بعد المسافة.

و قد وصل الامام الكوفة يوم الاثنين الثاني و العشرين من رجب سنة 36 ه [64] .

[ صفحه 89]

و عرض علي الامام أن ينزل في قصر الامارة فرفض قائلا:

هذا قصر الخبال لاحاجة لي في نزوله.

واتجه الي المسجد الأعظم فصلي فيه ركعتين..و في يوم الجمعة القي الامام خطابا و عظيا حذر فيه المؤمنين من الدنيا جاء فيه:

أوصيكم عباد الله بتقوي الله...

احذروا من الله ما حذركم من نفسه..و اشفقوا من عذاب الله، فانه لم يخلقكم عبثا، و لم يترك شيئا من امركم سدي..قد سمي آثاركم و علم اسراركم، و احصي اعمالكم، كتب آجالكم..فلا تغرنكم الدنيا فانها غرارة لاهلها، و المغرور من اغتر بها، و الي فناء ما هي، و ان الدار الآخرة هي دار القرار. [65] .

بواعث انتخاب الكوفة عاصمة للاسلام

قبل أن ندخل في تفاصيل هذا الموضع نشيرالي أن معركة الجمل في بعض جوانبها اعتبرت صراعا بين البصرة و الكوفة.

فبعد مصرع الخليفة الثالث فر عبدالله بن عامر الحاكم البصرة الي مكة بعد أن سرق خزانة الدولة و هناك التقي الزبير

[ صفحه 90]

و طلحة و عائشة و مروان و حدث جدل حول المكان الذي يتجه اليه الناكثون للبيعة، يعلنون فيه التمرد و كان هناك تفكير في الشام و لكن استبعد أولا لان في الشام معاوية و هو يحكم سيطرته علي البلاد، فهي منطقة مضمونة التأييد لأي خطوة ضد الامام علي كما كانت

هناك هواجس في أن يتحكم بهم معاوية و يتخذ منهم وسائل للضغط و تحقيق مكاسب شخصية.و في غمرة الجدل طرح والي البصرة الهارب فكرة التوجه اليها و تعبئة أهلها ضد الامام و أصبح عثمان بين ليلة و ضحاها خليفة مظلوما و شهيدا و حمل الناكثون الامام مسؤولية قتله!!

لقد انتخب الناكثون قاعدة عسكرية هي البصرة ولذا وجه الامام نفسه مضطرا للاستعانة بالكوفة التي كانت يومها من مراكز الصحابة و قاعدة لها وزنها العسكري و القتالي.

و اثر انتهاء معركة فوجي الكثيرون بعد أن رأوا الامام يولي وجهه شطر الكوفة و لاتخاذها مركزا للخلافة.

فما هي بواعث هذا القرار؟

لا نستطيع أن نحدد سببا وحيدا يقف وراء انتخاب هذه المدينة التي لم يمض علي نشوئها عقدان من السنين لكننا نستطيع أن نحدد مجمل مقومات الكوفة لتي تجعل منها موقعا استراتيجيا حساسا.

فمن الناحية الجغرافية و الجغرافية البشرية تقع الكوفة في

[ صفحه 91]

قلب العالم الاسلامي.

كما أنها تشرق علي أربع مناطق استراتيجية هي ايران، الحجاز، الشام و مصر اضافة الي قربها من المناطق ذات التركيز السكاني و يشكل مجموع ذلك عمقا استراتيجيا لمواجهة التحديات و الاعتداءات الاجنبية.

و من الناحية الاجتماعية تمتاز الكوفة بالكثافة السكانية و وجود عدد لابأس به من صحابة النبي صلي الله عليه وآله وسلم و كثير منهم بدريون اضافة الي زعماء القبائل، و في حساب الولاءات يمكن القول ان وجود تيار قوي داخل الكوفة يؤيد الامام علي بحماس و مجموع هذه النقاط اجتماعيا يوفر حالة أمنية لمركز القيادة.

أما الجانب العسكري فلا يوجد من يناقش في وجود نسبة كبيرة من أبطال الاسلام، فالكوفة ما تزال قاعدة عسكرية كبري

مستعدة لاستئناف التقدم في الشرق و الهجوم علي الامبراطورية الساسانية، و هذا ما يمنح الكوفة قدرة تعبوبة و لاننسي أن الامام كان ينظر الي الشام كخطر قادم و الكوفة في موقعها الفريد يمكنها تأديب الخارجين علي الشرعية و لاشك أن حاكم الشام يخشي القدرات العسكريات التي أنزلت الهزائم الساحقة في جيوش الامبراطورية الساسانية.

كما أن العراق بشكل عام من الاقاليم الغنية اقتصاديا، من حيث وفرة المياه و وجود نهرين عظيمين يرويان مناطق زراعية

[ صفحه 92]

واسعة، كما أن اختيار الكوفة عاصمة وقربها من اقليم ايران الثري الذي ما يزال يقدم دعما نقديا يتمثل بضريبتي الجزية و الخراج كل ذلك يمكن الخلافة من تغطية الجهد العسكري و نفقات الحرب.

و يمكننا أن نضيف و بشكل عام الوعي السياسي الذي أهل الكوفة الي أن تكون مركزا ثوريا متقدما بعكس البصرة آنذاك التي ظلت سطحية في التفكير تماما و واضح أن الامام كان يحمل هما اصلاحيا كبيرا و برنامجا واسعا لن يجد له التأييد المطلوب في الحجاز.

و من الطبيعي أنه لايمكن الجزم بأن الامام سوف ينتخب الكوفة مركزا للخلافة لو شطبنا علي الخطر الذي يمثله معاوية و هو يلوح بقميص عثمان الملطخ بالدم.

و من الطبيعي أن يبدو قدوم الامالي الي الكوفة انما كان لمواجهة التهديد الجديد في الشام و تعبئة الكوفة لمواجهة التمرد الخطير و لعله سيعود الي المدينة في حالة انتهاء أو القضاء علي العصيان.

ان الظروف الدقيقة و المثيرة قد اضطرته علي كل حال الي انتخاب عاصمة جديدة للخلافة اذ وجد نفسه في غضون اسابيع وجها لوجه أما خطرين كبيرين: خطرالتمرد في العراق و بالتحديد في البصرة و خطر التمرد

في الشام، و كان علي الامام انا يختار

[ صفحه 93]

موقعا مؤهلا لضبط اقليمين كبيرين هما الشام و العراق.

و لم يكن الحجاز ليستطيع مواجهة أي من الاقليمين فالمدينة التي تعد أفضل نقاط الحجاز كانت عاجزة عن اشباع سكانها فكيف يمكنها اشباع جيش جرار!! أنها و من الناحية التعبوية لاتستطيع النهوض بما يمكنها من مواجهة التحديات فاكبر رقم سجله التاريخ للقوات التي تحركت مع الامام لمواجهة الناكثين في البصرة كا اربعة آلاف فقط و حتي هؤلاء الآلاف لايمكن ضمان ولاءهم الي النهاية، اضافة الي وجود عدد من الصحابة لم يكونوا علي علاقة طيبة مع الامام من قبيل عبدالله بن عمرو سعد ابن ابي وقاص، زيد بن ثابت و آخرين.

و بشكل عام شهدت المدينة المنورة جنوحا لدي سكانها الي حياة الدعة خاصة بعد الامتيازات التي حصلوا عليها في عهد الخليفة الثاني و الثالث كان النصيب الأوفر لشخصيات كانت ذات يوم تناصب الاسلام العداء، بل ان حكام الاقاليم انتخبوا و مع بالغ الاسف من هؤلاء وابنائهم فمعاوية حكم الشام واليا مدة عشرين سنة بعد أخيه يزيد بن أبي سفيان و سلمت الكوفة الي الوليد بن عقبة ثم الي سعيد بن العاص و هذا الوضع الشاذ يرفضه الامام رفضا قاطعا و لايتساهل فيه.

أما الهزة الروحية التي أحدثها النبي صلي الله عليه وآله وسلم كما في النفوس فقد بدأت تنحسر و بدأ البعض ينظر الي الامام بروح من الحقد

[ صفحه 94]

والانتقام و الكراهية بسبب مصرع اخوانهم أو آبائهم في معارك الاسلام الأولي من بدر الي حنين.

أما البيعة الشعبية للامام و مشاهد تدفق الجماهير لمناشدة الامام في تصديه لمسؤولية الخلافة

فسببها كان واضحا جدا و هو يعود الي الثقل الجماهيري الذي كونته الوفود القادمة من الاقاليم الاسلامية المتململة و هؤلاء سوف يعودون بعد أنقضاء مهمتهم في حسم مسألة الخلافة.

و يجب التأكيد علي ان موقف قريش كان متشنجا الي حد كبيرازاء الامام و يعود الي ما ذر آنفا لان ذا الفقار قد وترهم جميعا و هزمهم.

كما أن تمركز الوجود القرشي في المدينة في عهد عثمان و بالخصوص الجناح الأموي قد أدي بالأضافة الي أسباب أخر الي هجرة أعداد كبيرة من الصحابة خارج المدينة المنورة حبا في الجهاد و طهارة الثوب و النقاء و الابتعاد عن مغريات الحياة الدنيا.

و قد فضل كثير من الصحابة السكني في مدينة الكوفة مما جعل لها ثقلا دينيا كبيرا و موقفا مؤثرا في الضمير الاسلامي.

و مما يدعو للتأمل اننا لانجد في الولاة الذي عينهم الامام علي عليه السلام أحدا من المهاجرين باستثناء بني عمه و ما عدا هؤلاء سنجد شخصيات بارزة من الانصار كعثمان بن حنيف و أخيه سهل، و الانصار، و منذ حادثة السقيفة هضمت حقوقهم و اتبعت ضدهم

[ صفحه 95]

سياسيات اتسمت بالتعسف خاصة في عهد الخليفة الثالث، فقد انبعثت الأحقاد القديمة في النفوس المريضة و بدأ الامويون بعد أن امسكوا بزمام الحكم باضطهادم.

يكفي أن نذكر بالحادث الذي سبق معركة الجمل عندما احتلت البصرة من قبل الناكثين و بخديعة ثم شن أحد ابناء المهاجرين غارة ليلية علي الوالي من قبل الامام عثمان بن حنيف و تم اعتقاله و التنكيل به وعومل معاملة قاسية بعيدة كل البعد عن الأخلاق فقد نتف شعر رأسه و لحيته و حاجبيه و هموا بقتله لولا مخاوف من قيام

أخيه سهل حاكم المدينة بخطوة انتقامة تقضي علي مصالحهم.

ان مجموع العوامل الآنفة الذكر تؤيد منطقية انتخاب الكوفة في واحد من اكثر منعطفات التاريخ ثارة و حساسية.

و بالرغم مما عاناه الامام في العالمين الأخيرين من حياته الا أن الكوفة ظلت املا في استمرار حركة التصحيح و الوعي حتي و لو بعد حين.

عود علي بدء

لقد وجدت من الضروري اقتباس قسم من الفصل الأير في كتاب الا علي لأنه سيسهم في رسم زاوية من المشهد العام لمدينة الكوفة و حلقات الصراع مع تمرد اقليم الشام و خروجه علي

[ صفحه 96]

الشرعية.

و كان الامام قد وصل الكوفة يوم الاثنين الثاني و العشرين من رجب سنة 36 ه. [66] .

ارهاصات الحرب

شهدت دمشق بعد مصرع عثمان بدء الاستعدادات علي قدم و ساق للقيام بأوسع تمرد ضد الشريعة، و تصاعدت و تيرة النشاط بعد حرب الجمل و ما تمخض عنها من جراح في اعماق الامة.

و عرف مكعاوة من أين ستؤكل الكتف، فرفع قميص عثمان ليكون افضل ذريعة لاعلان الحرب علي الامام.

و بدأ معاوية نشاطا محموما في تعبئة كل ما يمكن تعبئته ضد علي عليه السلام و كثف من مراسلاته للشخصيات و الزعامات في مختلف مناطق الدولة الاسلامية.

و في تلك الفترة تبلورت في ذهن معاوية التحالف مع عمرو ابن العاص ضد أميرالمؤمنين عليه السلام. [67] .

و كان الامام علي عليه السلام قد ارسل مبعوثه جرير بن عبدالله

[ صفحه 97]

البجلي لأخذ البيعة و اجتمع جرير بمعاوية و سلمه رسالة الامام و قد جاء فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبدالله علي أمير المؤمنين الي معاوية بن أبي سفيان.

أما بعد...

فقد لزمك و من قبلك من المسلمين بيعتي؛ و انا بالمدينة و انتم بالشام.

لأنه بايعني الذين بايعوا أبابكر و عمر و عثمان...فليس للشاهد أن يختار، و لاللغائب أن يرد، و انما الأمر في ذلك للمهاجرين و الأنصار، فاذا اجتمعوا علي رجل مسلم، فسموه اماما كان ذلك لله رضي فان خرج من أمرهم أحد بطعن فيه

أو رغبة عنه رد الي ما خرج منه؛ فان أبي علي اتباعه غير سبيل المؤمنين، ولاه الله ما تولي، و يصله جهنم و ساءت مصيرا.

فادخل فيما دخل فيه المهاجريون و الأنصار، فان احب الأمور فيك و فيمن قبلك العافية، فان قبلتها و الا فائذن بحرب.

و قد أكثرت في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم الي، احملك و اياهم علي ما في كتاب الله و سنة نبيه....

فاما تلك التي تريدها [68] فانما هو خدعة الصبي عن

[ صفحه 98]

الرضاع. [69] .

كان معاوية يهدف الي كسب المزيد من الوقت ريثما يصل عمر و بن العاص. [70] .

علي أن ذلك لم يمنع معاوية من الاحتفاء بجرير و اكرامه و محاولة كسبه الي جانبه.

و يبدو أن سياسته قد نجحت فقد تأخر جرير في عودته من مهمته.

و في الكوفة شعر بعضهم بالقلق ازاء ما يجري في الشام فاشاروا علي الامام بالاستعداد و اعلان الحرب؛ غير ان الامام لم يجد ذلك مناسبا لأنه سوف يئدكل مشروع خير فقال:

- ان استعدادي لحرب أهل الشام و جرير عندهم، اغلاق للشام و صرف لأهله عن خير ارادوه، و لكن وقت لجرير وقتا لايقيم بعده الا مخدوعا أو عاصيا [71] و الرأي عندي مع الأناة.

[ صفحه 99]

الحلف الدنس

وصل عمرو بن العاص دمشق و دخل مع معاوية علي الفور في مفاوضات مكشفوة انتهت بتحالف دنس.

لقد عرف كل منهما صاحبه، فمعاوية يحتاح الي عقل ذكي و شخصية يمكنها أن تلبس الاشياء غير ثوبها الحقيقي، شخصية متلونة وصولية، انتهازية لاتعرف شيئا مقدسا.و عمرو بن العاص يحتاج هو

الآخر الي من يمكنه من تحقيق طموحاته و أطماعه و بكلمة واحدة يصنع له دنياه.

لنتأمل في جانب من حوار الرجلين:

قال معاوية:

- يا أبا عبدالله، طرقتنا في هذه الأيام ثلاثة امور، ليس فيها ورد و لاصدر.

- ما هن؟

- اما أولهن: فان محمد بن حذيفة [72] كسر الجسن و هرب الي مصر فيمن كان معه من اصحابه و هو من اعدي الناس لنا.

[ صفحه 100]

و اما الثانية: فان قيصر الروم قد جمع الجنود ليخرج الينا ليحاربنا علي الشام.

و اما الثالثة: فان جريرا قدم رسولا لعلي بن ابي طالب يدعون الي البيعة له أو ايذان بحرب.

لنري الآن اجوبة ابن العاص، و رؤيته في معالجة المشكلات، و كيفية نفوذه لتحقيق غاياته، قال عمرو:

- اما ابن حذيفة فما يغمك من خروجه من سجنه في اصحابه، فارسل في طلبه الخيل، فا نقدرت عليك فذاك و ان لم تقدر عليه لم يضرك.

و أما القيصر [73] فاكتب اليه تعلمه انك ترد عليه جميع من في يديك من اسري الروم، و تسأله المصالحة.

و اما علي بن ابي طالب...

سكت عمرو لخطات ليسدد سهامه فقال:

- ان المسلمين لايساووق بينك و بينه...

قال معاوية مقاطعا:

[ صفحه 101]

- انا مالا علي قتل عثمان، و اظهر الفتنة، و فرق الجماعة.

و تظاهر عمرو بتأييد تخرصات معاوية و قال:

- انه و ان كان ذلك..فليست لك مثل سابقته و قرابته، و برقت في عينيه الاطماع فاردف قائلا:

و لكن ما لي ان شايعتك الي أمرك حتي تنال ما تريد؟

أعطي معاوية صاحبه صكا مفتوحا:

- حكمك.

قال عمرو قد سال

لعابه لمملكة الفراعنة:

- اجعل لي مصر طعمة ما دامت لك ولاية.

سكت معاوية ان مفاوضه يريد مصر لمقة خالصة له لايشاكره فيها أحد، قال بعد لحظات صمت:

- لو شئت أن أخدعك خدعتك.

قال عمرو قد برقت عيناه كثعلب:

- ما مثلي يخدع.

- ادن مني اسارك.

و ارهف عمرو أذنيه لمعاوية الذي قال:

- هذه خدعة، هل تري في البيت غيري و غيرك.

و أردف:

- اما تعلم أن مصر مثل العراق؟

قال عمرو بخبث:

[ صفحه 102]

- غير انها انما تكون لي اذا كانت لك الدنيا، و انما تكون لك ان غلبت عليا.

و في النهاية تمت الصفقة، و تأسس الحلف الدنس بين رجلين جمعتهما المصالح و الاطماع.

و في جو محموم حرر الطرفان صيغة الاتفاق و اصبحت مصر شعبا و مقدرات و ثروات (طعمة) لعمرو بن العاص بموجب ذلك الاتفاق.

و بدأ الطرفان منذ ذلك التاريخ التخطيط لمواجهة الخطر القادم من العراق.

و لقد حاول الامام علي اسداء النصح الي عمرو بن العاص قبل أن ينغمس في دنيا معاوية فبعث اليه برسالة هذا نصها:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبدالله علي أمير المؤمنين الي عمرو بن العاص...

اما بعد...

فان الدنيا مشغلة عن غيرها، صاحبها منهوم فيها، لايصيب منها شيئا الا ازداد عليها حرصا، و لم يستغن بما نال عما لايبلغ، و من وراء ذلك فراق ما جمع؛ و السعيد من اتعظ بغيره فلا تحبط عملك بمجاراة معاوية في باطله، فانه سفه الحق و اختار الباطل....و السلام. [74] .

[ صفحه 103]

غير ان ابن العاص كان قد سقط في حبائل الشيطان و لم

يعد يبصر امامه شيئا سوي «مصر»..

و هكذا بدأ التحضير لتفجير الصراع مع علي وفق خطة مدروسة بعناية.و من خلال الحوادث التي رافقت انفجار الاوضاع في صفين يبرز وجه عمرو بن العاص كعقل مدبر و سياسي ماكر؛ فقد اشار علي معاوية بعد عودة مبعوث الامام الي الكوفة الا يعلن نفسه خليفة ابدا، و أن يبذل قصاري جهده في اشارعة أكبر اكذوبة في تاريخ الاسلام و هي مسؤلية علي عليه السلام الكاملة عن مقتل عثمان؛ و أن المطالبة بدمه سوف توحد الرأي العام في الشام لصالحه. [75] .

و قد رتب معاوية خطة ماكرة في كسب علية القوم في الشام حتي باتوا اكثر حماسا من معاوية نفسه في مناوئة أهل العراق و رفض خلافة علي عليه السلام.

و في هذا قال علي عليه السلام في احدي المناسبات: «ألا و أن معاوية قاد لمة من الغواة و عمس عليهم الخبر حتي جعلوا نحورهم

[ صفحه 104]

أغراض المنية» وراح ابن العاص يطلق الأكاذيب تلو الأكاذيب ضد علي علي طريقة كذب ثم كذب حتي يصدقك الناس؛ حتي راحت اكاذيبه تزكم الانوف، و وصلت اخبارها العراق فقال لعي:

عجبا لان النابغة!! يزعم لأهل الشام أن في دعابة و اني امرؤ تلعابة!...لقد قال باطلا..و نطق آثما...أما - و شر القول الكذب - انه ليقول فيكذب و يعد فيخلف و يسأل فيبخل، و يستأل فيلحف، و يخون العهد و يقطع الأل...

و يفلسف الامام مهجه الاخلاقي و سيرة خصمه فيقول:

اما و الله اني ليمنعني من اللعب ذكر الموت، و انه ليمنعه من قول الحق نسيانه الآخرة...ثم يفضح تحالفه مع معاوية قائلا:

انه لم يبايع معاوية حتي شرط أن يؤتيه آتية

و يرضخ له علي ترك الدين رضيخة.

و هكذا أوجز علي تحالف ابن العاص مع معاوية بعبارة بليغة أنها صفقة الدنيا مقابل الدين؛ و لقد باع عمرو بن العاص دينه بدنيا غيره. [76] .

و قد لجأ الكثير الي المعاوية لاحبا به و لكن كرها لعلي فرارا من وجه العدالة [77] غير مدركين أن العدل هو الاساس الذي ينهض

[ صفحه 105]

عليه الرخاء و الأمن الاجتماعي، «أن في العدل سعة و من ضاق عليه العدل فالجور عليه اضيق» [78] .

الطريق الي صفين

يشعر المرء و هو يستكشف حوادث تلك الحقبة التاريخية من الزمن [79] بعمق التغيرات النفسية و التحولات الفكرية و الاجتماعية التي المت بالمجتمع الاسلامي و الأمة نذاك و التي ادت فيما بعد الي ظهور تيارات فكرية متناقضة و من ثم تنامي التيار «السفياني» اذا صح التعبير و استيلائه علي مقدرات الدولة الاسلامية بل و انحرافه بالمسار الحضاري للاسلام منذ كارثة صفين. [80] .

[ صفحه 106]

يقول علي و هو يقسم مجتمعة الي خمسة اصناف و يصف زمانه:

«أيها الناس..انا قد اصبحنا في دهر عنود..و زمان كنود...يعد فيه المحسن مسيئنا..و يزداد الظالم فيه عتوا..و لاننتفع بما علمنا و لانسأل عما جهلنا و لانتخوف قارعة حتي تحل بنا...

و الناس علي اربعة اصناف:

منهم: من لايمنعه الفساد في الأرض الا مهانة نفسه و كلالة حده...

و منهم: المصلت لسيفه و المعلن بشره و المجلب بخيله و رجله...

قد اشرط نفسه، و أوبق دينه...لحطام ينتهزه، أو مقنب يقوده..أو منبر يفرعه...و لبئس المتجر أن تري الدنيا لنفسك ثمنا و مما لك عن الله عوضا.و منهم: من يطلب الدنيا بعمل الآخرة و

لايطلب الآخرة بعمل الدنيا.

قد طامن من شخصه و قارب من خطوه، و شمر من ثوبه، و زخرف من نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة الي المعصية.

و منهم: من ابعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه و انقطاع سببه فقصرته الحال علي حاله فتحلي باسم القناعة، و تزين بلباس الزهادة...»

[ صفحه 107]

و هنا يأتي دور الصنف الخامس و هو الذي يمثل الضمير المقهور في اعماق الامة، فيقول:

و بقي رجال غض ابصارهم ذكر المرجع، و أراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد ناد...و خائف مقموع، و ساكت مكعوم، وداع مخلص، و ثكلان موجع، قد اخملتهم التقية و شملتهم الذلة، فهم في بحر أجاج، أفواههم ضامزة (ساكنة) و قلوبهم قرحة، قد وعظوا حتي ملوا و قهروا حتي ذلوا، و قتلوا حتي قلوا. [81] .

طبول الحرب

وصلت المراسلات [82] بين الامام و معاوية الي طريق مسدود..و دوت في دمشق طبول الحرب...و لم يجد الامام بدا من معالجة الانحراف بالقوة و سمع أمير المؤمنين يقول و قد استنفد كل الوسائل السلمية مع والي الشام الطموح:

«...و لقد ضربت أنف هذا الأمر و عينه...و قلبت ظهره و بطنه فلم أر

فيه الا القتال أو الكفر بما جاء به محمد صلي الله عليه و آله...».

و في عاصمة الخلافة أعلن الامام حالة النفير الامام...

[ صفحه 108]

وتجمعت الألوف و خرجت طلائع جيش الامام الي «النخيلة» التي اصبحت منطقة تحشد عسكرية مذ ذلك التاريخ...

و لنحاول أن نتخيل الامام و هو يتقدم من فرسه و قد وضع رجله في الركاب...فيتذكر كلمات قالها سيدنا محمد صلي الله عليه وآله قبل اكثر من ثلاثين سنة..رنا

الامام بناظرية الي السماء...الي العالم اللانهائي وردد ذات الكلمات قائلا:

«اللهم اني اعوذبك من وعثاء السفر...و كآبة المنقلب..و سوء المنظر في الأهل و المال و الولد...اللهم أنت الصاحب في السفر و أنت الخليفة في الأهل...»

و هنا يضيف الامام من بنات افكاره لتنفتح «لباب» علي «المدينة» [83] فيقول:

«و لايجمعها غيرك، لان المستخلف لايكون مستصحبا و المستصحب لايكون مستخلفا» [84] .

فتتوحد المسيرة التي ابتدأها رسول الله و استأنفها وصيه..

انها اخلاق محمد صلي الله عليه و آله تتألق في علي..و معاني رسالته تنبض في مفردات ابدعها مؤسس البلاغة في دنيا العرب.

[ صفحه 109]

النخيلة

استخلف الامام علي علي الكوفة الصحابي أبا مسعود الأنصاري [85] و اتجه الي النخيلة [86] و كان عمار بن ياسر شيخ المهاجرين قد سبق الامام اليها؛ و من النخيلة بعث الامام برسائله الي ولاته علي المدن و الاقاليم الاسلامية بالقدوم.

و بدأت الحشود العسكرية تتجمع من مختلف الأقاليم و في طليعة من استجاب لدعوة الامام مدينة البصرة، حيث لبي الأحنف ابن قيس نداء الامام.

و في النخيلة القي الامام خطابا أوضح فيه خطته في الزحف باتجاه الشام قائلا: الحمد لله كلما وقب ليل و غسق...و الحمد لله كلما لاح نجم و خفق...و الحمد لله غير مفقود الانعام؛ و لامكافأ الافضال.

اما بعد...

فقد بعثت مقدمتي و أمرتهم بلزوم هذا الملطاط (شاطي الفرات) حتي يأتيهم امري...

و قد رأيت أن اقطع هذه النطفة (نهر الفرات) الي شرذمة منكم، موطنين أكناف دجلة، فأنهضم معكم الي عدوكم و اجعلهم

[ صفحه 110]

من امداد القوة لكم. [87] .

و انطلقت مقدمة الجيش تطوي المسافات، و كانت المقدمة تتألف

من 12000 مقاتل في قوتين منفصلتين يقودهما كل من زياد ابن النضر و شريح بن هاني و زودهما بتعليماته الحربية التي يغلب عليها استراتيجيته في الدفاع و تفادي الاصطدام ما امكن.

قال الامام و قد وقف القائدان امام باحترام:

ليسركل واحد منكم منفردا عن صاحبه؛ فان جمعتكما حرب فأنت يا زياد الأمير...و اعلما أن مقدمة القوم عيونهم، و عيون المقدمة طلائعهم، فاياكما أن تسأما عن توجيه الطلائع..و لاتسيرا بالكتائب و القبائل من لدن مسيركما الي نزولكما الا بتعبية و حذر، و اذا نزلتماه بعدو أو نزل بكم، فليكن معسكركم في اشرف المواضع، ليكون ذلك كم حصنا حصينا، و اذا غشيكم الليل، فحفوا عسكركم بالرماح و الترسة، و ليليهم الرماة، و ما اقمتم فكذلك فكونوا..لئلا يصاب منكم غرة، واحرساه عسكركما بأنفسكما، و لاتذوقا نوا الا غرارا و مضمضمة، و ليكن عني خبركما، فاني و لاشي ء الا ما شاء الله حثيث السير في اثركما، و لاتقاتلا حتي تبدأ أو يأمتيكما أمري ان شاء الله..

[ صفحه 111]

و مرت ثلاثة أيام علي تحرك مقدمة الجيش، و في اليوم الثالث تحرك جيش الامام بكل فيالقه التي ناهز عدد مقاتلها الثمانين ألف...حتي اذا أطلت علي خرائب مدينة «بابل» [88] أمر الامام بالاسراع في اجتيازها قائلا:

«ان هذه مدينة قد خسف بها مرارا، فحركوا خيلكم، و أرخوا اعنتها حتي تجوزوا موضع المدينة، لعلنا ندرك العصر خارجا منها».و في مدينة الرقة عبر الامام بجيشه نهر الفرات؛ و في مكان يدعي سور الروم اصطدمت مقدمة جيشه بفرسان الشام يقودهم أبو الأعور السلمي؛ و وصلت انباء ذلك للامام علي فأمر قائده الشجاع مالك الاشتر بالاسراع و قيادة المقدمة.

و

اشتبك الفريقان الي الليل...

و في غمرة الظلام فضل قائد مقدمة الشام الانسحاب...

و العودة الي معاوية و كان جيوشه قد بسطت سيطرتها عي مصادر المياه في شواطي الفرات في وادي صفين [89] الفسيح، و يبدو من خلال ما ورد في بعض المصادر التاريخية ان المنطقة التي احتلتها كتائب من جيش معاوية كانت منطقة مشجرة كثيفة، ما خلا طريق مرصوف بالحجارة يتوسط تلك المنطقة المليئة

[ صفحه 112]

بالاوحال؛ و من هنا فان احتلال ذلك الطريق يعني السيطرة علي منابع المياه، و هذا ما فعله جيش معاوية؛ فكشف بذلك عن اخلاقية هابط في مبادي الحرب؛ علما بان الامام و حتي تلك اللحظة لم يعلن الحرب، و كان يؤكد علي وجود فرصة للتفاهم و حل الأزمة بالطرق السلمية.

وصلت جيوش الخلافة وادي صفين فوجدت قوات [90] معاوية قد احتلت القرية [91] .

و سيطرت علي الطريق الوحيد الذي يؤدي الي ضفاف الفرات.

الظامئون

ارسل الامام صعصعة بن صوحان و كان صحابيا جليل القدر الي معاوية و حملة رسالة شفهية قائلا:

«ايت معاوية فقل له: انا سرنا اليكم لنعذر قبل القتال فان قبلتم كانت العافية احب الينا....و أراك قد حلت بيننا و بين الماء، فان كان اعجب اليك أن تدع ما جئنا له، و نذر الناس يقتتلون علي الماء حتي يكون الغالب هو الشارب فعلنا».

و اجتمع معاوية مع اركان حربه للتدارس حول الموضوع،

[ صفحه 113]

و سيطرت علي الاجتمع روح من الحقد الدفين و الدناءة و الغدر و القسوة..باستثناء عمرو بن العاص الذي اعتبر خطوة معاوية خطوة حمقاء قائلا:

أري أن تخلي عن الماء، فان القوم لن يعطشوا و انت

ريان.

غير أن معاوية الذي عجنت روحه بالاطماع و الغدر استجاب الي آراء تنضح حقدا و انتقاما [92] .

و ادرك موفد علي عليه السلام أن معاوية سوف يشدد قبضته علي النهر...فعاد الي المام يحيطه علما.

و تمر الساعات بطيئة قلقة...و قد استبد بجنود الامام الظمأ...و كان علي من يريد الماء أن يقطع مسافة 12 كم من اجل الحصول قطرات تطفي ء لهيب الأعماق في ذلك الصيف الملتهب. [93] .

و مرت ثلاثون ساعة، و قد لاحت في الافق ملامح الكارثة - و في اللحظات الأولي من الفجر ألقي الامام في كتيبة مالك الأشتر المؤلفة من الفرسان كلمات تتألق بسالة.

قد استطعموكم القتال...فاقروا علي مذلة و تأخير محلة..أو رووا السيوف من الدماء ترووا من الماء..

[ صفحه 114]

ثم دوت كلماته الخالدة:

فالموت في حياتكم مقهورين و الحياة في موتكم قاهرين.

و شن سلاح الفرسان هجوما صاعقا و دارت معركة ضارية، و بدأت خطوط العدو تزلزل لعنف الهجمات،و اقتحم المهاجمون شواطي النهر، و غمست خيول لعي اقدامها في المياه الباردة.

علي... المجد الأخلاقي

اضاف علي بن أبي طالب عليه السلام نصرا خلاقيا كبيرا الي مجده العسكري...فاصدر أوامره الي قواته المرابطة في «الشريعة» [94] بالتزود بالماء و الانسحاب و فتح الطريق امام جنود الخصم بارتياد النهر.

تلقي معاوية نبأ هزيمة قواته بهلع، فلقد اصبح مصيره و طموحاته علي كف عفريت؛ فاستدعي علي الفور مستشاره و معاونه عمرو بن العاص و قال بقلق:

ما ظنك بعلي؟!

اجاب ابن العاص و هو يدرك تماما اخلاقية علي:

ظني أنه لايستحل منك ما استحللت منه..لأنه أتاك في غير الماء.

[ صفحه 115]

و شهدت الطريق المرصوفة بالحجارة «السقائين» من الفريقين و

هم يتجهون الي شواطي ء الفرات للتزود بما يلزمهم من المياه [95] و قد احدثت مواقف الامام الانسانية أثرا محدودا في صفوف الشاميين اذ شهدت ليالي صفين محاولات تسلل من المواقع الشامية الي معسكر الامام، و في كل الأحوال فالذين اختاروا الدنيا كانوا يتطلعون الي معاوية أما الذين أرادوا الآخرة و سعوا لها سعيها فكانوا يجدون طريقهم علي خطي علي عليه السلام مع التأكيد علي وجود المخدوعين و هم الغالبية في جيش معاوية و وجود الحمقي و الأغبياء في جيش الامام و كان هؤلاء يمثلون شريحة فاعلة لها شأنها.

تقارير من قلب المعركة

عاد الهدوء المشوب بالحذر مرة أخري الي أرض صفين و لم تحدث اشتباكات تذكر.و جرت خلال تلك الفترة مراسلات بين الفريقين لم تسفر عن نتيجة: و من الطبيعي أن تصطدم المطامع و الأهواء بالمبادي و القيم و الدين الحق؛ و لهذا لم يجد الامام حلا مع هذا الوالي المتمرد الا الحرب أوالكفر بما جاء به محمد صلي الله عليه وآله كما عبر عن ذلك

[ صفحه 116]

الامام في مناسبة من الصراع المرير.

و خلال الفترة التي سبقت الأشهر الحرم شد وادي صين ما يقرب من ثمانين اشتباك محدود علي مستوي الكتائب، و كان «القراء» [96] في كل مرة يتدخلون لوقف القتال و البحث عن طريق سلمي لحل الصراع.

انسلخت الاشهر الحرم، واطل شهر صفر، و تمر الأيام، دون أن تلوح في الافق بوادر للحرب، و يبدو أن اصحاب الامام قد استبطأوا قيادتهم في اصدار الأوامر بالهجوم، و انتشرت شائعات حول شك الامام في مشروعة قتلا «القاسطين» [97] و قد رد الامام علي ذلك بقوله:

اما قولكم أكل ذلك كراهية الموت؟ فو الله ما أبالي

دخلت الي الموت أو خرج الموت اليل، و اما قولكم شكا في أهل الشام! فو الله ما دفعت الحرب يوما الا و أنا اطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي، و تعشوا الي ضوئي، و ذلك احبي الي من أقتلها علي ضلالها و ان كانت تبوء بآثامها.

و في الغروب وقف جندي جهوري الصوت قريبا من معسكر القاسطين و هتف بأعلي صوته ناقلا انذار الامام:

[ صفحه 117]

انا امسكنا لتنصرم الأشهر الحرم، و قد تصرمت، و انا ننبذ اليكم علي سواء، ان الله لايحب الخائنين.

و اعلنت في المعسكرين حالة التعبئة العامة، و ا شتعلت النيران، ايذانا بخوض حرب شاملة.

و ما أن اشرقت شمس اليوم التالي حتي كان الجيشان يقفان علي اهبة الاستعداد، و قد سيطرت حالة من الوجوم و الرهبة، أن من يقف فوق الروابي المشرفة علي الوادي الفسيح سوف يري كتائب الجيشين تصطف في شكل لخطوط قتالية و لرأي في كل جيش سبعة خطوط، سيري خطين في الجناح الأيمن، و خطين في الجناح الأيسر و ثلاثة خطوي في القلب.

عين الامام علي سلاح الفرسان في جيشه الصحابي الكبير عمار بن ياسر [98] الذي لم تمنعه شيخوخته [99] من الاشتراك في المعارك بحماس المؤمن المجاهد الذي لايساوره الشك في عدالة قضيته.

و عين علي المشاة عبدالله بن بديل، و دفع الراية العظمي الي هاشم بن عتبة المرقال.

و في جيش معاوية كان عمرو بن العاص يقود سلاح الفرسان

[ صفحه 118]

أما مسلم بن عقبة [100] الذي اشتهر في التاريخ بمجرم بن عقبة فقد تصدي لقيادة المشاة.

و لم يحدث اشتباك ذلك اليوم [101] ثم حدث اشتباك

محدود في صباح اليوم الذي يليه.

و خرج في يوم آخر عمار بن ياسر يقود مجموعة من الفرسان فتصدي له عمرو بن العاص و في يده راية سوداء و صاح:

هذا لواء عقده رسول الله.

فعلق الامام قائلا:

انا اخبركم بقصة هذا اللواء: هذا لواء عقده رسول الله صلي الله عليه وآله و قال من يأخذه بحقة؟ فقال عمرو: و ما حقه يا رسول الله؟ قال: «لاتفر به من كافر و لاتقاتل به مسلما»..و لقد فر به من الكافرين في حياة رسول الله و قد قاتل به المسلمين اليوم.

و خرج عبدالله بن بديل و كان من افاضل اصحاب الامام يقود مجموعة من فرسان العراق فانبري اليه أبو الأعور السلمي في مثل ذلك من أهل الشام و جرت معارك بين الفريقين، و في تلك اللحظات و الاشتباكات مستمرة قام عبدالله بحركة جريئة اذ الهب ظهر حصانه بالسوط و شن هجوما صاعقا مخترقا خطوط العدو

[ صفحه 119]

و لم يتمكن أحد من اعتراضه و كان هدفه اقتحام مقر القيادة [102] .

حتي اذ وصل قريبا منها تعرض الي عشرات الصخور فسقط شهيدا...و لقد أثار هجومه الجري اعجاب الجميع بما في ذلك معاوية نفسه اذ قال و هو يقف متأملا جثمانه الطاهر:

هذا كبش القوم.

فروسية

عرض الامام علي عليه السلام علي معاوية و قد آلمه سقوط القتلي من الفريقين.قائلا: لم نقتل الناس بيني و بينك؟ ابرز الي فأينا قتل صاحبه تولي الأمر.و استشار معاويةابن العاص:

ما تري.

قال ابن العاص بخبث:

قد انصفك الرجل.

فقال معاوية بحقد:

اتخدعني عن نفسي، و لم ابرز اليه و دوني «عك و الاشعرون» لقد كان معاوية يدك تماما بان مواجهة علي تعني

مواجهة الموت

[ صفحه 120]

الأحمر.

و يبدو أن معاوية قد ازعجه موقف ابن العاص و شكك في نواياه تجاهه، و لم يجد الأخير بدا و من اجل اعادة المياه الي مجاريها من أن يقول لمعاوية بعد أيام من البرود في العلاقات:

سأخرج الي علي غدا.

كان عمرو قد اعد عدته و كان يعرف نقطة الضعف في خصمه العظيم.انها تمكن في مجده الأخلاقي الذي يستمده من معلمه الأول..و برز عمرو بن العاص متحديا عليا:

يا أباالحسن اخرج الي أنا عمر بن العاص...

و خرج بطل الاسلام، و قد تألق ذو الفقار في قبضة الفارس الذي لايهزم؛ و ما اسرع أن زج ابن العاص بسلاحه السري! فكشف عن عورته و اظهر سوأته، و نجا من الموت المحقق!

و فر عمرو مذعورا و ربما مسرورا.

و تلقي معاوية قائد فرسانه! بلهجة فيها تهكم و سخرية قائلا:

احمد الله و سوداء استك يا عمرو. [103] .

[ صفحه 121]

بدء الحرب الشاملة

تصاعدت حدة المعارك بين الفريقين، و سري شعور بالرهبة بعد أن اشيع عن نية الامام في بدء الهجوم العام، فقد خطب عشية الهجوم قائلا:

ألا انكم ملاقو القوم غدا بجميع الناس، فاطيلوا الليلة القيام و اكثروا تلاوة القرآن و سلو الله الصبر و العفو و القوهم بالجد...»

و في الجانب الآخر ضاعف معاوية رواتب قبائل عك والاشعرين [104] التي اقسمت علي الصمود حتي النفس الأخير. [105] .

أدي الامام صلاة الفجر في لحظاته الأولي و قام بجولة لاستطلاع كتائب العدو، و اجري تغييرات في صفوف قواته.و لأول مرة منذ اندلاع المعارك قاد الامام سلاح الفرسان المؤلف من اثني عشر ألف مقاتل في هجوم

مدمر، و دوت في الفضاء هتافات: الله أكبر..و ارتجت الأرض تحت اقدام المحاربين....و كانت خطة الهجوم تقضي بالاندفاع الكاسح حتي مركز القيادة، و قد تمكن المهاجمون من تمزيق صفوف العدو حتي أن معاوية أمر بتجهيز فرسه للفرار بعد أن جرت الاشتباكات قريبا منه.

و استمرت المعارك حي الليل و قد اسفرت الاشتباكات العنيفة عن سقوط عشرات القتلي و الجرحي؛ و في طليعتهم

[ صفحه 122]

الصحابي البطل عمار بن ياسر. [106] .

و في صباح اليوم التالي استمر وقف القتال لانتشال جثث القتلي و مواراتهم الثري.

و في عشية ذلك اليوم خطب الامام ايضا حاثا قواته علي الاستبسال:

ايها الناس اغدوا علي مصافكم، و ازحفوا الي عدوكم، غضوا الأبصار، و اخفضوا الأصوات، و اقلوا الكلام، و اثبتوا، و اذكرو الله كثيرا، و لاتنازعوا فتفشلوا، و تذهب ريحكم، و اصبروا ان الله مع الصابرين.

و في اليوم التالي اشتبكت الفيالق في ملحمة عظيمة و اندفع الجناح الأيسر في جيش الشام في هجوم عنيف لم يصمد له الجناح الأيمن في جيش الامام، فأمر الامام أحد قادته [107] باسناد

[ صفحه 123]

الجناح الايمن و دارت معارك رهيبة، و كلف الامام قائده الشجاع الاشتر باعادة قطعاته الي مواقعها، فنجح في مهمته بعد أن قاد هجوما جريئا اجبر فيه العدو علي التراجع.

كان الوقت اصيلا عندما هدأت حدة القتال و جاء الامام فأنب قواته في الجناح الأيمن علي تقهقرهم في بدء المعركة و اشاد باستعادتهم زمام المبادرة:

و قد رأيت جولتكم، و انحيازكم عن صفوفكم، تحوزكم الجفاة الطغام و أعراب أهل الشام، و انتم لهاميم العرب، و يآفيخ أن رأيتكم و الأنف المقدم،

و السنام الأعظم و لقد شفي و حاوح صدري أن رأيتكم بأخرة تحوزونهم كما حازوكم، و تزيلونهم عن واقفهم كما أزالوكم حسا بالنصال، و شجرا بالرماح، تركب أولادهم أخراهم كالابل الهيم المطرودة ترمي عن حياضها و تذاد عن مواردها [108] .

و اشتعلت المعركة مرة اخري و عندما كامت الشمس تجنح للمغيب قاد الامام بنفسه قواته في هجوم كاسه و كان هدفه احتلال مركز قيادة العدو، كان معاوية يراقب المعركة بذعر و هو يري تقدم المهاجمين فاستشار عمرو بن العاص قائلا:

ما تري؟

[ صفحه 124]

اجاب ابن العاص:

أري أن تخلي سرادقك.

و انسحب معاوية الي مكان أكثر أمنا.

و ماهي الا لحظات حتي وصل الامام و معه قواته [109] فاطبقوا علي مركز القيادة و حولوه الي انقاض..و غمر الأرض الظلام فتوقفت المعارك.

و جي ء الي الامام باحد الاسري فقال الاسير متضرعا:

لا تقتلني صبرا.

فقال الامام:

لا اقتلك صبرا اني اخاف الله رب العالمين.

و اردف و هو يحاول اضائة قنديل في قلب اسيره:

خلوا سبيله... [110] .

و انطلق الأسير و قد هزته المفاجاة.

الموت من اجل الخلود

اشتعلت المعارك مرة أخري، و كانت كفة النصر تميل الي جانب الحق [111] و شوهد الامام و هو يقاتل ببسالة و كانت اقوي

[ صفحه 125]

ضربات بعد مصرع عمار بن ياسر.

و هتف الامام: من يبايعني علي الموت...فتقدم العشرات يبايعون الامام علي الموت الأحمر من اجل خلود اخضر حتي وصل عددهم تسعا و تسعين...

فقال الامام و هو يترقب تحقق نبوءة ابن عمه العظيم:

أين تمام المئة؟...اين الذي وعدت به؟

و جاء رجل عليه اطمار صوف..كان محلوق الرأس لكأنه عاد توا

من حج البيت العتيق...تقدم فبايع الامام علي الموت قتلا...

فسأله الامام عن هويته، فأجاب: أنا أويس القرني. [112] .

[ صفحه 126]

الليلة الطويلة

و صلت الحرب اخطر منعطفاتها، و األقي الامام خطابا يزخر حماسا و ايمانا جاء فيه:

معاشر المسلمين! استشعروا الخشية...و تجلببوا السكينة و عضوا علي النواجذ، فانه انبي للسيوف عن الهام...و اكملوا اللأمة..و قلقوا السيوف في اغمادها قبل سلها...و اعلموا أنكم بعين الله، و مع ابن عم رسول الله، فعادوا الكر و استحيوا من الفر، فانه عار في الأعقاب و نار يوم الحساب...و طيبوا عن انفسكم نفسا و امشوا الي الموت مشيا سحجا...

و مرة أخري أكد الامام هدف الهجوم القادم:

و عليكم بهذا السواد الأعظم، و الرواق المطنب؛ فاضربوا ثبجه، فان الشيطان كامن في كسره، و قد قدم للثوبة يدا و أخر للنكوص رجلا، فحمدا حمدا! حتي ينجلي لكم عمود الحق «و أنتم الأعلون و الله معكم و لن يتركم اعمالكم»

و في غبش الفجر بدأ الهجوم الشامل، و تزلزلت خطوط الدفاع في جيوش الشام، و كان الامام قد خرج في اجمل منظر...فقد ركب فرسا للنبي يسمي «الريح» و قدم بين يديه بغلة النبي «الشهباء» و ارتدي عمامة رسول الله، و توهجت في اذهان المؤمنين ذكريات مضيئة لرسول السماء، و ها هو علي يقودهم في ذات الطريق التي سار عليها نبيهم العظيم.

[ صفحه 127]

و استبد بمعاوية الهلع و هو يري تقهقر قواته تحت ضربات المهاجمين، و امسك بزمام فرسه و قد قفز قلبه الي حنجرته وراح يدق بعنف كطبل مجنون..

و لم تفلح أوامر معاوية و لاصيحاته بعمرو أن يقدم قبائل «عك الاشعرين» في تغيير الموقف.

و

استمرت المعارك ستة و ثلاثين ساعة لايسمع فيها سوي «الهرير» [113] و بين الفينة و الأخري كانت تدوي هتافات علي: الله أكبر [114] حتي بلغت اكثر من خمسمئة.

و لم تفلح مساعي معاوية في وقف القتال و توقيع هدنة مؤقته...

و الي جانب معاوية قف الرجل الذي باع آخرته بدنيا غير..

كان يفكر فقتل كيف فكر ثم قتل كيف فكر...

التفت معاوية الي صاحبه و قد استبد به يأس قاتل:

ما تري؟...فانما هو يومنا هذا و ليلتنا هذه!

و هنا نفث الشيطان فقال و هو يعرف كيف يطعن عليا في خاصرته:

اني اعددت حيلة ادخرتها لمثل هذا اليوم.

[ صفحه 128]

قال معاوية متلهفا:

ما هي؟

تدعوهم الي كتاب الله حكما بينك و بينهم...

و اضاف بمكر:

فان قبلوه اختلفوا، و ان ردوه تفرقوا.

و اتسعت عينا معاوية دهشة و اصحبتنا أكثر جحوظا [115] .

و علي وجه السرعة جمعت المصاحف في واحدة من اكبر المهازل في التاريخ...و ظهر مصحف دمشق الأعظم تحمله خمسة رماح طويلة.

مهزلة التحكيم

كان لظهور المصاحف علي الرماح [116] الأثر البالغ في شل العمليات الحربية، و بدأت كلمات الاستنكار تشق طريقها ترشق الذي يريدون للحرب أن تستمر، و ما اسرع أن ظهر تيار عنيف يدعو الي وقف القتال فورا، و حدث النشقاق خطير في صفوف جيش الخلافة، ما لبث أن تحول الي كتلة عسكرية تهدد و تتوعد القيادة العليا.

[ صفحه 129]

و بذل الامام قصاري جهده في توضيح خفايا «اللعبة» قائلا:

عباد الله! امضوا علي حقكم و صدقكم في قتال عدوكم، فان معاوية و عمرو بن العاص و ابن ابي معيط و حبيب بن مسلمة و

ابن ابي سرح و الضحاك بن قيس...ليسوا باحصاب دين و لا قرآن....

انا اعرف بهم منكم..قد صحبتهم اطفالا، و صحبتهم رجلا فكانوا شر اطفال و شر رجال...

و يحكم! انهم ما رفعوها لكم الا خدعة و مكيدة!

غير أن الذين لا يدركون من الامور الا مظاهرها الفارغة قد جعلوا اصابعهم في آذانهم و اصموا اسماعهم، وازدادوا عنفا و شراسة فاحدقوا بالامام و قد برق الشر في عيونهم. [117] .

و قد حدث تماسك مدهش في صفوف أهل الشام اثر ارتفاع ذلك الشعار البراق..في مقابل تمزق مريع في جيش الامام.

كان الجناح الأيمن بقيادة مالك الأشتر ما يزال يقاتتل بضراوة و يتقدم نحو احراز النصر النهائي في خطي واسعة، و لكن التصدع كان قد عم جبهة الامام مما انذر بوقوع انهيار عام؛ و من تلك

[ صفحه 130]

اللحظات المثيره بدأت مأساة الاسلام و انهيار الحضارة. [118] .

وازدادت الأمور سوء بعد أن أصبح الامام في قبضة تلك الطغمة من الحمقي، و بات علي القائد الأعلي للقوات المسلحة أن يستجيب الي مواقفهم، و ها هو الامام يتعب من ذلك فيقول:

لقد اصبحت الامم تخاف ظلم رعاتها؛ و اصبحت اخاف لم رعيتي.

و من تلك اللحظة شعر الامام بأن الباطل سوف يكسب الجولة الي حين:

اما و الذي نفسي بيده: ليظهرن هؤلاء القوم عليكم، ليس لانهم أولي بالحق منكم، و لكن لاسراعهم الي باطل صاحبهم، و ابطائكم عن حقي..».

و أخذ تيار التمرد يتصاعد بشكل مخيف لينذر بوقوع كارثة بعد ان اطلقت تهديدات بقتل الامام اذا لم يصدر أوامره الي الاشتر بوقف العمليات الحربية و الانسحاب فورا.

و هكذا توقفت المعارك في صفين...و نشطت الوفود

للاعداد من اجل توقيقع وثيقة التحكيم.

[ صفحه 131]

التاريخ يعيد نفسه

يعيد التاريخ نفسه احيانا فتظهر الحوادث و كأنها قد انبعثت من جديد، حتي في بعض التفاصيل..لقد وضعت الحرب أوزارها في صفين، و بدأ الاعداد لتوقيع وثيقة سلام بين الفريقين المتصارعين؛ و هنا يطل التاريخ ليعيد ذكريات صلح قديم بين الاسلام و الوثنية، في وادي الحديبية [119] قريبا من مكة المكرمة.

ها هو أبوسفيان يرسل سهيل بن عمرو ممثلا للوثنية لتوقع معاهدة سلام مع النبي صلي الله عليه وآله؛ و اليوم بعث معاوية بن أبي سفيان عمرو ابن العاص ممثلا للقاسطين لتوقيع هدند مع وصي النبي و أول [120] من اسلم من الرجال.

جاء عمرو دخل خيمة الامام، و بدأ الكاتب في تحرير وثيقة التحكيم فكتب:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما تقاضي عليه أميرالمؤمنين علي بن ابي طالب و معاوية ابن ابي سفيان.و هنا تدخل عمرو بن العاص معترضا علي الكاتب:

هو اميركم أما أميرنا فلا...بل اكتب اسمه و اسم ابيه.

[ صفحه 132]

و تردد الوفد العراقي و اصيب بما يشبه اللوعة.قال الأحنف ابن قيس: لاتمحو أميرالمؤمنين..يا أميرالمؤمنين.

فقال علي عليه السلام: الله أكبر سنة بسنة رسول الله...و الله اني لكاتب رسول الله صلي الله عليه وآله يوم الحديبية.فكتب محمد رسول الله فقالوا: لست برسول الله و لكن اكتب اسمك و اسم ابيك، فأمرني رسول الله أن أمحوها فقلت: لااستطيع، فمحاها بيده..ثم قال لي: انك ستدعي الي مثلها فتجيب.

و تناول الامام وثيقة التحكيم و محا اميرالمؤمنين منها...

فقال عمرو بخبث:

سبحان الله اتشبهنا بالكفار و نحن مؤمنون. [121] .

فقال علي بغضب:

يابن النابغة و متي لم تكن للفاسقين وليا و للمؤمنين عدوا؟

فنهض ابن العاص منزعجا:

و الله

لايجمع بيني و بينك مجلس بعد اليوم.

أجاب الامام:

اني لاارجو أن يطهر الله مجلسي منك و من أشباهك.

و هكذا حررت وثيقة التحكيم.

[ صفحه 133]

الأربعاء 13 صفر سنة 38 ه.مصرع حضارة

هل كان الاشعث [122] يمثل نفسية مجتمع لم يعد يستسيغ عدل علي لكي يظهر بكل هذه القوة فيقف في وجه علي؟.

هل كان الأشعث يمثل ارادة امة اخلدت الي الأرض و كانت تنتظر الي السماء فاذا بها تجعل منم معاوية ندا لعلي [123] ؟ ها هو علي يجلس في خيمته ليوقع وثيقة التحكيم:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما تقاضي عليه علي بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان قاضي علي علي أهل العراق و من معهم و قاضي معاوية أهل الشام و من معهم..

اننا ننزل عند حكم الله و كتابه..فنحيي ما أحيا و نميت ما أمات فما وجد الحكما في كتاب الله وهما أبوموسي الأشعري عبد الله بن قيس و عمرو بن العاص، عملا به، و ما لم يجدا في كتاب الله فالسنة العادلة.

و اخذ الحكمان من علي و معاوية و من الجندين المواثيق انهما امينان علي انفسهما و اهلهما و الأمة لهما انصار علي الذي

[ صفحه 134]

يتقاضيان عليه و أجلا القضاء الي رمضان من هذه السنة [124] و ان احبا أن يؤخراه أخراه.

كتب في يوم الأربعاء 13 صفر سنة 38 ه

و بعد توقيع الوثيقة انسحبت الجيوش، و عاد علي الي الكوفة و رفضت بعض الفضائل دخول الكوفة و «خرجت» عن طاعة الامام. [125] .

و منذ تلك اللحظة و علي يتلقي الطعنات المسمومة فيتأوه وحيدا.

الكارثة

اجتمع الحكمان في «دومة الجندل» التي اختيرت جغرافيا كمكان وسط بين «العراق و الشام» بين علي و معاوية فاختارها «التاريخ» ليمسك بالحضارة الاسلامية و يقذفها باتجاه الحضيض.

فما بين «صفين و «دومة الجندل» انفجرت كل اسباب الانحطاط في حضارة الاسلام

و ظهرت للعيان دمامل الجسد

[ صفحه 135]

الاسلامي بعد أن ظللت مستورة مدة ربع قرن أو تزيد. [126] .

سوف لن نواكب مسار المفاوضات بين عمرو بن العاص و أبي موسي الأشعري، لان تأمل عابر في شخصية الرجلين سوف يكشف بوضوح تام ما اسفرت عنه المباحثات التي لعبت فيها الأهواء و المطامع الدور أول و الأخير في تحديد النتيجة.

لقد اجبر الامام علي انتخاب الأشعري كممثل له كما اجبر من قبل علي وقف القتال والحق علي ابواب النصر الساحق؛ و مراجعة بسيطة لتاريخ الأشعري تكشف عن مدي الحقد الذي يكنه الأخير للامام.

ان احداثا كبري و وقائع مزلزلة و ملابسات لا حد لها هي التي ادت الي وقف القتال و بدء سلسلة من المآسي انتهت بمصرع الامام علي علي ذلك النحو المؤسف و تنازل الامام الحسن عن الخلافة و من ثم استيلاء معاوية علي دفة الأمور في الدولة الاسلامية.

و اذا كان الاشعث قد تصدر الأحداث في تلك الحقبة من

[ صفحه 136]

الزمن، و لعب دورا في تصدع جبهة الامام واحداث انهيار في الأوضاع لصالح معاوية فان ذلك لايدل علي قابليات ذاتية بقدر ما يدل علي مجمل التغيرات النفسية و الفكرية و الاجتماعية التي طبعت عصر الامام. [127] .

رياح الزمهرير

شهدت دومة الجندل بدء المباحثات السرية بين عقليتين ماكرة و غيبتة، تتحركان في اطار دنيوي رخيص، و قد وضح منذ البداية انهما وضعا كتاب الله فوق الرف.فممثل أهل الشام يتحرك باتجاه مصر، يريد ابتلاعها كجزء من الاسلاب؛ و أبوموسي كان

[ صفحه 137]

يتحرك باتجاه صهره [128] علي ابنته ليكون خليفة للمسلمين، و هكذا اجتمعت الارادتان

علي اقصاء علي، كما اقصي عن حقه من قبل.

لم يواجه عمرو بن العاص داهية العرب أية صعوبة في احتواء عقيلة ابي موسي الفارغة، و قيادته باتجاه النقطة اليت يريد.لقد ادرك ابن العاص كيف يتغلغل في اعماق صاحبه و يأخذ بناصيته.و بدأ سير المحادثات كما وصفها احد المؤرخين. [129] .

عمرو بن العاص يتفنن في ابراز آيات الاجلال لابي موسي فيقول:

صحبت رسول الله صلي الله عليه وآله قبلي و انت أكبر سنا مني..

قال الأشعري و هو يدخل في صلب الموضوع:

يا عمرو: هل لك فيما فيه صلا الأمة و رضي الله؟

ما هو؟

نولي عبدالله بن عمر، فانه لم يدخل نفسه في شي ء من هذه الحروب.

قال عمرو بخبث:

أين أنت من معاوية؟

ما معاوية موضعالها، و لا يستحقها بشي من الأمور.

[ صفحه 138]

الست تعلم أن عثمان قتل مظلوما؟

بلي.

فان معاوية ولي عثمان، و بيته بعد في قريش ما قد علمت، فان قال الناس: لم ولي الأمر و ليست له سابقة؟ فان لك في ذلك عذرا تقول: اني وجدته ولي عثمان و الله تعالي يقول: «و من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا»...و هو مع هذا أخو أم حبيبة زوج النبي صلي الله عليه وآله..و هو أحد اصحابه..

أجاب أبوموسي:

اتق الله يا عمر..اما ما ذكرت من شرف معاوية، فلو كان يستوجب بالشرف الخلافة، فكان احق الناس بها أبرهة بن الصباح فانه من ابناء ملوك اليمين التبابعة الذين ملكوا شرق الأرض و غربها...ثم أي شرف لمعاوية مع علي بن ابي طالب؟ و اما قولك ان معاوية ولي عثمان فأولي منه ابنه عمرو، و لكن ان طاوعتني احيينا سنة عمر بن الخطاب

و ذكره بتوليتنا ابنه عبدالله الحبر..

و هنا ينبري ابن العاص ليدفعه بالاتجاه البعيد:

فما يمنعك من ابني عبدالله مع فضله و صلاحه و قديم هجرته و صحبته؟

ان ابنك رجل صدق، و لكنك قد غمسته في هذه الحروب غمسا...هلم نجعلها للطيب بن الطيب عبدالله بن عمر.

يا أباموسي انه لايصلح لهذا الأمر الا رجل له ضرسان

[ صفحه 139]

يأكل باحدهما و يطعم بالآخر.

و يحك يا عمرو! ان المسلمين قد اسندوا الينا امرا بعد أن تقارعوا بالسيوف و تشاكوا بالرماح، فلا نردهم في فتنة.

و تظاهر عمرو بن العاص بانه يبحث عن حل:

فما تري؟

قال الأشعري:

أري نخلع هذين الرجلين عليا و معاوية ثم نجعلها شوري بين المسلمين، يختارون لانفسهم من احبوا.

وكاد عمرو أن يصفق فرحا، فتظاهر بصمت المغلوب:

رضيت بذلك..و هو الرأي الذي فيه صلاح الناس.

و بالرغم من كل التحذيرات حول مكر الن العاص و غدره و لكن الأشعري كان قد أصم أذنيه عن سماع أية نصيحة [130] .

و في يوم شتائي و الريح تعوي في الصحراء تقدم الأشعري ليرقي المنبر و يعلن ما اتفق عليه الحكمان ان اللحظة التي ارتقي

[ صفحه 140]

فيها الاشعري المنبر ليخلع عليا هي لحظة رهيبة، عوت فيها ريح الشتاء، و قد انقض قابيل علي أخيه، و دل الاسخريوطي فيها علي ابن مريم. [131] .

و فر أبوموسي الي مكة يحمل معه عار الأبد و سبة الدهر؛ و عاد عمرو بن العاص الي دمشق ليسلم علي «صاحبه» بالخلافة.

غارات الشتاء

و من تلك اللحظة بدأت حالة التداعي لامة فقدت صوابها فهي تتخبط في طريق الهاوية.و لم يتمكن الامام

من وقف حالة التداعي التي عصفت بالامة بعد أن فقدت وعيها و بصيرتها؛ لنصغي الي ما يقوله الامام في ذلك المقطع التاريخي الهام:

كم ادريكم كما تداري البكار العمدة [132] و الثياب المداعية

[ صفحه 141]

كلما حيصت من جانب تهتكت من آخر..الذليل و الله من نصرتموه.

و الامام يدرك الطريق الذي يصلح هذا القطيع و لكن:

و أني لعالم بما يصلحكم و يقيم أودكم..و لكن لا أري أصلاحكم بافساد نفسي..

موقف الامام

تلقي الامام بحزن مرير انباء «دومة الجندل» هنا يقف امير المؤمنين موقف التسليم الكامل لارادة الله فالحياة رحلة الي الله:

الحمد لله و ان أتي الدهر بالخطب الفادح، و الحدث الجليل..

و اشهد أن لا اله الا الله لا شريك له ليس معه الي غيره...و ان محمد عبده و رسوله، صلي الله عليه وآله.

اما بعد...

فان معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة و تعقب الندامة.

و قد كنت امرتكم في هذه الحكومة أمري..

و نخلت لكم مخزون رأيي، لو كان يطاع لقصير أمر [133] فابيتم علي اباء المخالفين الجفاة، و المنابذين العصاة، حتي ارتاب

[ صفحه 142]

الناصح بنصحه، و ضن الزند بقدحه فكنت و اياكم كما قال أخو هوازن [134] :

امرتكم امري بمنعرج اللوي

فلم تستبينوا النصح الا ضحي الغد

الخوارج

و لقد استيقظ الخوارج و لكن في ضحي الغد، و كانت يقظتهم عنيفة مجنونة مدمرة، و انطلقت صيحاتهم تهز دنيا الاسلام تريد اجتثاث شجرته من الجذور:

لا حكم الا الله!!

و بدأت العاصفة تزمجر لتطيح بالصرح الاسلامي بأسره، و انبري الامام ليفقأ عين الفتنة و يوقف حالة التداعي و يفضح شعارهم الذي تحول الي وثن تذبح عنده الضحايا؛ قال الامام:

كلمة حق يراد بها باطل! نعم انه لا حكم الا الله، و لكن هؤلاء يقولون: لا امرة الا لله، و ان لا بد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في امرته المؤمن و يستمع فيها الكافر، و يبلغ اله فيها الأجل و يجمع به الفي، و يقاتل به العدو، و تأمن به السبل، و يؤخذ به للضعيف من القوي، حتي يستريح بر ويستراح من

فاجر» [135] .

[ صفحه 143]

العودة الي صفين

أدان الامام موقوف الحكمين، و اعتبر ذلك منافيا للاسلام، و بدأ يتأهب للعودة الي صفين حيث انفجر الصراع من قبل [136] .

و فيما كان الامام يعبي ء قواته لاستئناف الحرب بدأ الخوارج تحركهم، و تعدوا نطاق التنديد بالتحكيم و الخلافة و نظرية القيادة و انتقلوا الي دائرة التخريب، و اعلنوا حربا شعواء علي كل من لا يشاطرهم آراءهم و بدأوا يشكلون خطرا داهما لايقل عن خطر العدو المتربص في دمشق.

و كان من رأي الامام تأجيل مشكلة الخوارج الي ما بعد تصفية الحساب مع معاوية، و لكن الانباء المثيرة التي وصلت حول الفظائع التي ينفذها الخوارج غيرت من مسار الأحداث الي نقطة انهيار دامية، و مرة أخري حاول الامام أن يتفادي الاصطدام بهم، و ارسل اليهم يدعوهم للالتحاق لمحاربة العدو المشترك.

[ صفحه 144]

و وصل الحوار معهم الي طريق مسدود، و كان لا بد من مواجهتهم بعد أن استباحوا أمن المجتمع الاسلامي [137] و هكذا غيرت الجيوش طريقها باتجاه النهروان حيث عسكر الخوراج.

و حاورهم الامام بنفسه و تمكن من اقناع قطاع كبير منهم اعلن توبته و عودته الي دائرة الشرعية فيما اصر أربعة الاف منهم علي القتال.و وقف الامام يوجه لهم انذاره النهائي:

فأنا نذير لكم أن تصبحوا صرعي باثناء هذا النهر، و باهضام هذا الغائط علي غير بينة من ربكم، و لاسلطان مبين معكم: قد طوحت بكم الدار،و احتبلكم المقدار، و قد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم علي اباء المنابذين، حتي صرفت رأيي الي هواكم؛ و انتم معاشر اخفاء الهام سفهاء الأحلام.

و اشتعلت المعركة عند جسر «النهروان» [138]

و كانت النتيجة مذهلة، فقد ابيد المارقون الا تسعة نفر فروا من ساحة المعركة و لم يسشتهد من جيش الامام سوي تسعة نفر.

و عندما قال أحدهم: يا أمير المؤمنين! هلك القوم باجمعهم!

[ صفحه 145]

اجاب الامام و هو ينظر الي المدي البعيد:

كلا والله انهم نطف في اصلاب الرجال و قرارات النساء، كلما نجم منهم قرن قطع، حتي يكون آخرهم لصوصا سلابين.

و بالرغم من تكفيرهم للامام فأنه أوصي الأمة بعدم قتالهم بعده مشيرا الي مصدر الخطر الداهم: لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه.

كان الامام يتحرك في ضوء النور المنبعث من اعماق السماء النور الذي اضاء فوق جبل حراء و لم يكن ليأبه نالي ما يعده المنجمون من خرائط للسماء، و لتقترن الكواكب كيف تشاء و لينكفأ الميزان و لتنقدح الابراج بالنيران [139] ، فطريق علي هو طريق

[ صفحه 146]

الاسلام و طريق الرسالة.

غارات الزمهرير

ذر الشيطان قرنيه فراح يعربد و يدمر ها هي عواصف الزمهرير تهب من جهة الشام حيث جثم القاسطون علي ارض الاسلام؛ لقد أخلد الذين آمنوا الي الأرض، و رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا.

و من هنا بدأت تأوهات الامام و هو يعيش في زمن جائر.

بدأت غارات الزمهرير، و الامام يقاوم العواصف وحيدا لقد اخلدت الأمة الي الأرض و ها هي الحضارة تتجه نحو الهاوية كشمس تجنح للمغيب في يوم شتائي.

سقطت مصر [140] في قبضة ابن العاص و قد انشب معاوية مخالبه في اهلها و ثرائها.

و هكذا توالت الغارات، تعصف بالمدن و الحواضر الاسلامية

[ صفحه 147]

كريح مجنونة

[141] منذ أن حكم الحكمان بما خالف كتاب الله و سنة رسوله. [142] .

لنصغي الي الامام علي و هو يشهد تلك الجرائم فلا يجد له ناصرا ها هو يواجه الأمة و قد دكت خيول الغارات الأنبار هيت:

ألا و اني دعوتكم الي قتال هؤلاء القوم ليلا و نهارا و سرا و اعلانا و قلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فو الله ما غزي قوم في

[ صفحه 148]

عقر دارهم الا ذلوا..فتواكلتم و تخاذلتم حتي شنت عليكم الغارات، ملكت عليكم الاوطان.

و هذا أخوغامد و قد وردت خيله الانبار، و قد قتل حسان بن حسان البكري، و ازال خيلكم [143] عن مسالحها...و لقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل علي المرأة المسلمة و الأخري المعاهدة [144] ، فينتزع حجلها و قلبها و قلائدها ورعثها، ما تمنع منه الا بالاسترجاع و الاسترحام ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم [145] ، لا أريق لهم دم فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما بل كان عندي جديرا.

ثم يعرب الامام عن عمق دهشته ازاء هذه الحالة المريرة، التي وصلت اليها الأمة:

«فيا عجبا!...عجبا..و الله يميت القلب و يجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم علي باطلهم، و تفرقكم عن حقكم، فقبحا لكم و ترحا حين صرتم غرضا يرمي.يغار عليكم و لا تغيرون، و تغزون و لا تغزون، و يعصي الله و ترضون!...

و هنا تبلغ الآلام ذروتها فينفجر القلب الكبير و يتشظي حمما فيخاطب الضمير النائم بلهجة كلها غضب:

[ صفحه 149]

«يا اشباه الرجال و لارجال! حلوم الاطفال..و عقول ربات الحجال لوددت اني

لم اركم و الم اعرفكم معرفة و الله جرت ندما و اعقبت ساما...قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحا و شحنتم صدري غيظا، و جرعتموني نغب التهام انفاسا...»

ثم يعبر عن مظلوميته و ضياع عقله الكبير وسط نقيق الحمقي، فيقول:

و افسدتم علي رأيي بالعصيان و الخذلان، حتي لقد قالت قريش: ان ابن ابي طالب رجل شجاع، و لكن لاعلم له بالحرب: لله أبوهم، و هل أحد منهم اشد لها مراسا..و اقدم فيها مقاما مني! لقد نهضت فيها و ما بلغت العشرين، وهأنذا قد ذرفت علي الستين...و لكن لارأي لمن لايطاع.

و ها هو الامام يقف حائرا، يتساءل عما ألم بالأمة، بينما الضحاك بن قيس يغير علي قوافل الحجيج في الشهر الحرام، ليبث الرعب في أيام ارادها الله أن تكون مفعمة بالسلام:

أيها الناس المجتمعة ابدانهم..المختلفة أهواؤهم؛ كلامكم يوهي الصم الصلاب و فعلكم يطمع فيكم الاعداء!

تقولون في المجالس كيت و كيت، فاذا جاء القتال قلتم حيدي حياد؟ ما عزت دعوة من دعاكم، و لااستراح من قاساكم، أعاليل باضاليل و سألتموني التطويل، دفاع ذي الدين المطول...».

و تنفجر تساؤلات الامام لامظلوم:

[ صفحه 150]

لايمنع الضيم الذلول..و لايدرك الحق الا بالجد!..أي دار بعد داركم تمنمعون؟ و مع أي امام بعدي تقاتلون؟..المغرور و الله من غررتموه..و من فاز بكم فقد فاز - و الله - بالسهم الأخيب..

و من رمي بكم فقد رمي بأفوق ناصل...اصبحت و الله لااصدق قوكم؛ لااطمع في نصركم؛ و لاأوعد العدو بكم...ما بالكم؟! ما دواؤكم؟! ما طبكم أ؟!

و تبقي تساؤلات الامام دون جواب؛ فيغضب من اجل الله و يحاول هز الضمير المثقل بالخدر..المصفد باغلال الخوف.

ما بالكم؟ أمخرسون أنتم؟!

و

جاءه جواب واهن:

يا أميرالمؤمنين! ان سرت سرنا معك!!

يا لهذه الأمة؟! تطلب من امامها أن يترك كل شي ء ليتصدي الي الغارات هنا و هناك، بينما معاوية يربض في دمش يخطط كيف يقضم «تراث محمد صلي الله عليه وآله»:

ما بالكم لاسددتم لرشد: و لاهديتم لقصد! أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج؟! و انما يخرج في مثل هذا رجل ممن ارضاه من شجعانكم و ذوي بأسكم، و لايبنغي لي ان أدع الجند و المصر و بيت المال و جباية الأرض و القضاء بين المسلمين والنظر في حقوق المطالبين، ثم أخرج في كتيبة اتبع أخري..و انما أنا قطب الرحا تدور علي و أنا بمكاني.

[ صفحه 151]

لقد بدأ عصر التيه وسوف تتوه امة الاسلام كما تاه قوم موسي من قبل تاهوا اربعين سنة، لنصغ الي الامام و هو يبشر بالتيه و الضياع لامة لم تعرف قدر امامها و راعيها فترته وحيدا في مواجهة القاسطين!

ايها الناس لو لم تتخاذلوا نعن نصر الحق، و لم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، و لم يقو من قوي عليكم...لكنكم تهتم متاه بني اسرائيل..

و لعمري ليضعفن لكم التيه من بعدي اضعافا بما خلفتم الحق وراء ظهوركم.

و هكذا غطت الامه في نوم عميق، و ضرب علي آذانها فلم تعد تسمع كلمات آخر الاوصياء في التاريخ.

ها هو الامام يستنهض فيهم بقايا الروح..يدعوهم لمواجهة الزمهرير القادم من ارض الشام حيث ربض الشيطان.

و لكن لاشي ء سوي صمت المقابر.و قام رجل ليقول:

هأنذا و أخي فمرنا بأمرك..

فيقول الامام متأسفا:

و اين تقعان مما أريد؟

بل لقد وصل الامر أن دعاهم للجهاد و

قد عصفت الغارات بالمدن و قتل نسوة و اطفال..

فلم يستجب أحد...فأخذ الامام سلاحه و مضي صوب

[ صفحه 152]

النخيلة وحيدا! [146] .

و لكن عليا لم يكن الرجل الذي يخشي شيئا حتي لوظل وحيدا، و ها هي كلماته و هو يخاطبه اخاه و قد خوفه عواقب الطريق الذي سلكه دون مساومة أحد: «لايزيدني كثرة الناس حولي عزة و لاتفرقهم عني وحشة، و لاتحسبن ابن ابيك و لو اسلمه الناس متضرعا متخشعا، و لامقرا للضيم واهنا.

و هو الذي قال مرة:

«و الله لو تظاهرت العرب علي قتالي لما وليت عنها».

الجمعة 12 رمضان سنة 40 ه

اطل رمضان بوجهه الكريم ليدخل الانسان المؤمن عوالم الملكوت، رياح شباط تجوس خلال المدينة المشهورة بالغدر. [147] .

صام علي بدأ رحلته الي الملكوت، يتضور جوعا، الجسد الآدمي يذوب أمام سطوح الروح و هي تتوهج كلما اقتربت ليلة القدر.

ها هو علي يرتقي المنبر...فكأنه يتأهب للرحيل..كان

[ صفحه 153]

يرتدي قيمصا من صوف...في رجليه نعلان من ليف خصفهما بنفسه...جبينه يتألق نورا من اثر السجود...حبس التاريخ انفاسه و هو يصغي الي كلمات رجل علي و شك الرحيل:

«الحمد لله الذي الية مصائرالخلق...و عواقب الأمر...»

«...لم يولد سبحانه فيكون في العز مشاركا.و لم يلد فيكون موروثا...و لم يتقدمه وقت و لازمان..»

ها هو يذكر الناس بالرحيل..لقد أزفت الساعة:

أوصيكم عبادالله بتقوي الله الذي البسكم الرياش، و اسبغ عليكم المعاش؛ فلو أن احدا يجد الي البقاء سلما او لدفع الموت سبيلا لكان ذلك سليمان بن داود عليه السلام؛ الذي سخر له ملك لاجن و الانس مع النبوة و عظيم الزلفة، فلما استوفي طعمته و استكمل مدته، رمته قسي الفناء بنبال

الموت اصبحت الديار منه خالية و المساكن معطلة، و ورثها قوم آخرون و أن لكم في القرون السالفة لعبرة!...

و هنا يفجر اسئلة التاريخ ليتساءل عن مصير حضارات سادت ثم بادت:

«أين العمالقة و ابناء العمالقة؟ اين الفراعنة و ابناء الفراعنة؟ اين اصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين، و اطفؤوا سنن المرسلين، و احيوا سنن الجبارين؟!./..اين الذين ساروا بالجيوش و هزموا بالألوف و عسكروا العساكر و مدنوا المدائن؟»

[ صفحه 154]

و ها هو يذكرهم بأنه و ريث الأنبياء و أنه آخر الأوصياء فهل ينتظرون من هو أهدي سبيلا:

ايها الناس: اني قد بثثت لكم المواعظ التي و عظ الأنبياء بها اممهم، و أدتي اليكم ما دت الأوصياء الي من بعدهم..لله انتم اتتوقعون اماما غيري يطأبكم الطريق و يرشدكم السبيل؟!

لقد بدأ عصر الانحطاط في اللحظة التي هوي فيها الشهداء في «صفين»؛

ألا انه قد ادبر من الدنيا ما كان مقبلا، و اقبل منها ما كان مدبرا، و ازمع الترحال عباد الله الأخيار، و باعوا قليلا من الدنيا لايبقي بكثير من الآخرة لايفني...

ما ضر اخواننا الذي سفكت دماؤهم - و هم بصفين - ألا يكونوا اليوم أحياء؟ يسيغون الغصص و يشربون الرنق!...

ككأن الامام يتلفت هنا و هناك يبحث عن اخوان له طووا معه الطريق الي صفين: «اين اخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا علي الحق؟

أين عمار؟

و أين ابن التيهان؟

و أين ذو الشهادتين؟

و أين نظراؤهم من اخوانهم الذين تعاقدوا علي المنية و أبرد برؤوسهم الي الفجرة؟!»

[ صفحه 155]

و هنا يصل الامام الي ذروة التأثر، فيضرب علي لحيته الكريمة..و يستغرق في البكاء من

أجل كل الذين رحلوا وجباههم الي الشمس فتنتعبث من أعماق قلبه الكسير آهة حري:

أوه علي اخواني الذي تلو القرآن فاحكموه، و تدبروا الفرض فأقاموه..أحيوا السنة و أماتوا البدعة...دعوا للجهاد فأجابوا، و وثقوا بالقائد فاتبعوه..

ثم اطلق صيحاته كأنه يخاطب التاريخ و الأجيال:

«الجهاد الجهاد عبادالله!...

ألا و اني معسكر في يومي هذا؛ فمن أراد الرواح الي الله فليخرج!» [148] .

صفين... هاجس العودة

سوف تبقي «صفين» ارض التاريخ..نقطة للحضارة و ميدانا للصراع..الصراع الخالد بين الخير و الشرور...و علي الذين يريدون توجيه حضارة الاسلام من جديد أن يعودا الي صفين؛ اي خنادق الصراع..خلف «القائد» [149] .

ها هو علي يطالب الامة بالعودة الي صفين...لتحطيم

[ صفحه 156]

الاوثان البشرية...لاحراق العجل..و ليشهد رمضان انتصار الروح..انتصار محمد من جديد..و هزيمة ابناء الأحزاب [150] .

ليالي البرد

رياح شباط الباردة ما تزال تجوس الازقة، ها هو آخر الأوصياء في التاريخ...يخطو باتجاه الرحيل..ليالي رمضان تتألق بنور عجيب لاتستمده من ضوء القمر..و الاسحار تزخر بالنجوم كقلوب و اهنة تنبض من بعيد...تراقب من أغوارها السحيقة انسانا يحمل ميراث الأنبياء.

الرجل الذي طهرته السماء، يمضي لياله الأخيرة في بيوت ابنائه وبنات...خاوي البطن [151] لايفطر الي علي كسيرات من خبز..الجسد البشري يذوب تحت وهيج الروح العظيم...

الخميس 18 رمضان 40 هجري

أفلت الشمس الخميس سريعا كطبعها في أيام شباط..نسائم

[ صفحه 157]

باردة تهب من ناحية الشمال تبشر بليالي الزمهرير الطويلة؛ و كان الافق الغربي شاحبا فكأنه يعلن عن غد غائم.

السحر ظلمات يتراتكم بعضها فوق بعض...و النجوم تشتد سطوعا في سماء غارقة في الليل...

الامام جالس في المحراب، قد أوهنه السهر و الانتظار...هومت عيناه..ليلج عالما آخر..عالما شفافا...تدفق شلال من نور محمد...اضاءت روحه المترعة بالحزن ابتسامة آخر الأنبياء..حبيب الله..خف علي للقاء الحبيب يشكو اليه و يلات الأرض...همس علي بأسي: يا رسول الله، ماذا لقيت من امتك من الأود و اللدد؟! [152] .

قال محمد صلي الله عليه وآله لأخيه:

ادع عليهم!

و وجد علي نفسه يتضرع الي السماء يشكوها ظلم الأمة:

أبدلني الله بهم خيرا منهم، و أبدلهم بي شرا لهم مني.

لقد استشري الانحراف في روح الأمة و باتت الأشياء تري بالمقلوب، و من هنا كانت محنة علي، و هو يشق طريقه علي هدي محمد صلي الله عليه وآله في درب قل سالكوه فاذا هو بين فريقين احدهما يكفر به و يكفره، و آخر يعبده [153] .

[ صفحه 158]

اغتيال الشمس

تطلع علي الي السماء الزاخرة بالنجوم..الفضاء مشحون بشي ء عجيب..لكأن السماء تمس الأرض، أو أن الأرض تتعلق بالسماء..هتف علي و الناس نيام:

انها الليلة التي وعدت فيها! و الله ما كذبت و لاكذبت..الظلمة تتكاثف الفجر مايزال يمزق حجب الظلام..و علي يتخطي باحة المنزل و قد ولي وجهه شطر المسجد الأعظ..صاح الوز..كأنه يطلق استغاثة أو يحذر من المجهول؛ تمتم علي:

صوائح تتبعها نوائح..

و مضي علي يشق طريقه في ظلمة الفجر..ازفت لحظة الرحيل..هناك في زاوية من المسجد سيف مسموم..سيف يشبه ثعبانا منتفخا

بالسم..

هتف امير المؤمنين ليوقظ النيام:

الصلاة! الصلاة! عباد الله!

تحرك الثعبان...تلوي...ظهر صوت يشبه فحيح الافاعي..صوت ابليس و هو ينفخ..صفير موحش و بريق مخيف..و سيف جبان يهوي باتجاه و جه ما سجد لغيره الله و تفجرت الآلام و هتف علي و قد هوي في المحراب: و قد غمرت وجهه و لحيته الدماء:

فزت و رب الكعبة: و ظهر ابليس ينظر بحقد الي آدم و قد اجتباه ربه...وبدا قابيل يتشظي غيظا و هو يري قربان اخيه ترفعه

[ صفحه 159]

السماء...فسولت له نفسه قتل اخيه فقتله..فاظلمت الأرض و هبت عاصفة الزمهرير..

انطفأت قناديل المسجد..انكفأت الشموع..و فر الربيع و بدا محراب المسجد الاعظم خاويا تغمره ظلمة مخيفة..و علي في منزله يذوب جسده تحت وهج الروح و هي تتأهب للرحيل..

همسات قبل الرحيل

رغم كل الضجيج و الصخب الذي ضجت به تلك الحقبة من الزمنم...حيث عربدة الخنازير، و صخب الشهوات...و حمي اللذائذ..و كلن علي كان يصغي الي نداءات قادمة من بعيد..انها نداءات الرحيل ها هو علي يفلسف الحياة...يفضح كل بهارج الدنيا بكلمتين:

الرحيل و شيك [154] .

حتي ان المرء ليحس سرعة الرحيل..من ايقاع الكلمة لكأنها سهم يخطف قرب الأذن...لاتشعر به و لاتسجل سوي صوت قصير..قصير للغاية...

و ها هو ينادي شهود عصره:

تجهزوا رحمكم الله! فقد نودي فيكم بالرحيل!..

[ صفحه 160]

لقد عاش علي غريبا في عصره..لم تكن غربته غربة وطن لقد فقد احبته..انه يحن اليهم يتمني لقياهم..فيقول:

فقد الاحبة غربة..

كلمات تنضح حزنا و أسي..و لوعة و..

و عاش علي يحارب الشرور...انه يعرف كيف يكافحها..يعرف أن ميدانها الأول في اعماق النفس الانسانية..لهذا تراه يهمس بصوت هادي:

احمد الشر من صدر غيرك بقلعه

من صدرك...

و علي يكشف للانسانية مأساة العقل البشري أنها تكمن في الاطماع..و ها هي العقول تتساقط أمام الاطماع..عندما تتحول الطموحات الرخيصة الي صواعق تنقض علي العقول فتطفي فيها و هجها السماوي فيقول:

اكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع.

و يقول:

الطمع رق مؤبد..

و يقول:

الطامع في وثاق الذل.

و يلتفت الي رفاقه و قد مر بمزبلة فيقول:

هذا ما كنتم تتنافسون فيه بالأمس....

و هذا ما بخل به الباخلون.

[ صفحه 161]

و علي يرسم اطريق لمن يريد أن يحيا كريما فيهمس في الآذان الواعية:

من أشرف اعمال الكريم غفلته عما يعلم.

ويعلن رأيه في الثراء الحقيقي قائلا:

كفي بالقناعة ملكا، و بحسن الخلق نعيما.

و علي يرفع لواء الرحيل لأن:

الدنيا دار ممر لادار مقر..

و المجد لمن وعي كلمات علي..فوهب لنفسه الحرية.

و علي يثير اسئلة الانسان حول ظاهرة محيرة...عندما يسكت الانسان يفقد قدرته علي النطق و التعبير؛ و يسكت خاشعا في حضرة الموت...عندما يجلس الكائن البشري و قد استسلم بذل؛ يتساءل علي و هو يخاطب الانسان:

هل تحس به اذا دخل منزلا؟ أم هل تراه اذا توفي احدا؟ بل كيف يتوفي الجنين في بطن امه؟!...أيلج عليه من بعض جوارحها؟ أم الروح اجابته باذن ربها؟!...أم هو ساكن معه في احشائها؟!...

و ينظر علي الي السماء فتمتلي روحه اجلالا للواحد القهار فيقول:

كيف يصف اليه من يعجز عن صفة مخلوق مثله؟!

و ستبقي لحظة الموت ميعادا و موعدا...لغزا يحير الانسان.

و ستبقي النفس البشرية عاجزة عن اكتشاف ذلك المجهول

[ صفحه 162]

و قد قال خالق النفس و باري الروح: (و ما تدري نفس ما ذا

تكسب غدا و ما تدري نفس باي ارض تموت).

و ها هو علي يخاطب الانسانية جمعاء:

«ايها الناس! كل امري لاق ما يفر منه في فراره.الأجل مساق النفس؛ و الهرب منه موافاته..»

كلما امعن الانسان في فراره من الموت كلما اسرع في خطاه نحو معانقة ما يفر منه..حتي لو اخفي نفسه في البروج المشيدة.

فيقول علي:

كم اطردت الأيام ابحثها عن مكنون هذا الأمر، فأبي الله الا اخفاءه! هيهات! علم مخزون!.

ويلتفت عليالي الذين تحلقوا حوله..و قد أوشك علي الرحيل فيقول:

أنا بالأمس صاحبكم، و أنا اليوم عبرة لكم؛ و غدا مفارقكم..

لقد انتهي كل شي ء و سوف يرحل آخر الأوصياء في التاريخ، مازال يتكلم فتتدفق ينابيع الحكمة و يلخص وجوده قائلا:

و أنما كنت جارا جاوركم بدني أياما..

و ستعقبون مني جثة خلاء..

ساكنة بعد حراك..

و صامتة بعد نطق...

ليعضكم هدوي و خفوت اطراقي..و سكون اطرافي..

[ صفحه 163]

و ستكشفت الانسانية عليا بعد رحيله...و هو يعرف ذلك فيهتف عاليا:

غدا ترون أيامي و يكشف لكم عن سرائري..و تعرفونني بعد خلو مكاني..و قيام غيري مقامي..

حديث مع الأجيال

رياح شباط تهب مجنونة..تنخر في العظام تبشر بالويل و الثبور..الامام يتأهب للرحيل..لقد مضي عهده السلام..

اجري الطبيب فحوصاته..لقد استشري السم...و أميرالمؤمنين مهدد بالموت بين لحظة و أخري..الروح العظيم يتوهج..فيذوب الجسد الآدمي..و الجبين الذي لامس الشمس ينضح عرقا..الشمس تهوي في هوة الأفول...رمق علي ولديه...سبطي محمد و ريحانتيه من الدنيا..

علي يتحدث يوصي الأجيال و قد توقف التاريخ يصغي لميراث آخر الأوصياء:

اوصيكما بتقوي الله! و الا تبغيا الدنيا و أن بغتكما...

و لاتحزنا علي شي ء منه زوي عنكما...و قولا بالحق..و اعملا للأجر..

و كونها للظالم خصما

و للمظلوم عونا..

و هنا يهمس في أذن الأجيال القادمة فيقول:

أوصيكما و جميع ولدي و أهلي...

[ صفحه 164]

و من بلغه كتابي....

بتقوي الله..و نظم امركم..و صلاح ذات بينكم...فاني سمعت جدكما صلي الله عليه وآله يقول: «صلاح ذات البين افضل من عامة الصلاة الصيام»، ثم يتدفق النبع الانساني الذي يبني العالم الأخضر:

«و الله..الله في الايتام فلا تغبوا افواههم..و لايضيعوا بحضرتكم..و الله الله في جيرانكم..فانهم وصية نبيكم مازال يوصي بهم حتي ظننا انه سيورثهم..

والله الله في القرآن لايسبقكم بالعمل به غيركم...

والله الله في الصلاة فاننا عمود دينكم..

والله الله في بيت ربكم لاتخلوه ما بقيتم فانه ان ترك لم تناظروا..

والله و الله في الجهاد باموالكم و انفسكم و السنتكم في سبيل الله...

و عليكم بالتواصل و التباذل: و اياكم و التدابر و التقاطع...لاتتركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيولي عليكم شراركم..ثم تدعون فلا يستجاب لكم..

و هنا يوجه الامام خطابه الي بني عبدالمطلب حتي لايصنعوا من ثيابه الملونه بدم الشهادة قميصا آخر فيقول:

«يا بني عبدالمطلب لاالفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا تقولون: «قتل اميرالمؤمنين...ألا لاتقتلن بي الا قاتلي..».

[ صفحه 165]

و هو يرد أن يغلق الي الأبد ملف الحادثة:

انظروا اذا أنامت من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة..و لاتمثلوا بالرجل..فاني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول، «اياكم و المثلة و لو بالكلب العقور».

و سكت علي..ليتحدث فيما بعد بلغة الصمت..ليبقي قبره المجهول عشرات السنين [155] يرسم علامة استفهام كبري علي العهود المظلمة التي تلك اغتيال الشمس.

نبوءات الزمن القادم

و علي يستشرف صفحات الغد القادم..و يري الافاق البعيدة: ويلات الحروب..و امواج الفتن..و عواصف الزمهرير:

- سيأتي عليكم من بعدي زمان ليبس فيه شي ء اخفي من الحق...و لااظهر من الباطل..و لااكثر من الكذب علي الله و رسوله.

و ليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب اذا تلي حق تلاوته..و لاانفق منه اذا حرف عن مواضعه..و لا في البلاد شي ء انكر من المعروف، و لا أعرف من المنكر..

فالكتاب و أهله في ذلك الزمان في الناس و ليسا فيهم..

و معهم و ليسا معهم..

[ صفحه 166]

لان الضلالة لاتوافق الهدي و ان اجتمعا...فاجتمع القوم علي الفرقة و افترقوا علي الجماعة..كأنهم أئمة الكتاب، و ليس الكتاب امامهم...فلم يبق عندهم منه الا اسمه.

- و يبشر الامام بعواصف الزمهرير التي ستهب من الشام بعد حين فتقول:

«اما انه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم..مندحق البطن...يأكل ما يجد و يطلب ما لايجد...فاقتلوه، و لعن تقتلوه!...ألا و انه سيأمركم بسبي و البراءة مني، فاما السب فسبوني فانه الي زكاة، و لكم نجاة، و أما البراءة فلا تتبرأوا مني، فاني ولدت علي الفطرة، و سبقت الي الايمان و الهجرة.

- وسوف يبدأ زمن السقوط و الانحطاط عندما ينقض اعداء الاسلام القدامي علي دين الله الحق....و تبدأ الحقبة الأموية المظلمة:

«والله لايزالون حتي لايدعو لله محرما الا استحلوه، و لاعقدا الا حلوه» و ستعم المأساة المدن و البوادي:

«حتي لايبقي بيت مدر و لا وبر الا دخله ظلمهم».

و سيبدأ زمن البكاء:

«و حتي يقوم الباكيان يبكيان: بالك يبكي لدينه، و باك يبكي لدنياه».

و سيبدأ زمن الويلات، عندما تشتعل الحروب المدمرة، و ها

[ صفحه 167]

هي البصرة [156] تحترق في أتون المعارك: و ستملي ء الأهوار بالجماجم:

يا احنف كأني به و قد سار بالجيش الذي لايكون له غبار و لالجب و لاقعقعة لجم، و لاحمحمة خيل يثيرون الأرض بأقدامهم، كأنهم اقدام النعام..

و سوف تتهدم البيوت و تخر سقوف المنازل:

ويل لسككم العامرة و الدور المزخرفة...التي لها اجنحة كأجنحة النسور و خراطيم كخراطيم الفيلة..من أولئك الذين لايندب قتيلهم، و لايفقد غائبهم..انا كاب الدنيا لوجهها، و قادرها و بقدرها، و ناظرها بعينها..

و ها هي الاقوام في آسيا الصغري تترك مراعيها لتجتاج بلاد الاسلام:

كأني أراهم قوما كأن وجوههم المجان المطرقة..يلبسون الرق و الديباج و يعتقبون الخيل العتاق، و يكون هناك استحرار قتل..حتي يمشي المجروح علي المقتول، و يكون المفلت أقل من المأسور!

[ صفحه 168]

و يشعر شهود ذلك العصر بالرهبة، و قد انكشفت أمامهم صفحات من الغد القادم..فيقول احدهم و كان كلبيا:

لقد اعطيت يا أميرالؤمنين علم الغيب!

و يبتسم علي قائلا: يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب، و انما هو تعلم من ذي علم، و انما علم الغيب علم الساعة، و ما عدد الله سبحانه بقوله: (ان الله عنده لم الساعة و ينزل الغيث و يعلم ما في الأرحام و ما تدري نفس ماذا تكسب غدا و ما تدري نفس بأي أرض تموت...) فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو انثي، و قبيح أو جميل، و سخي أو بخيل، و شقي أو سعيد، و من يكون في النار حطبأ أو في الجنان للنبيين مرافقا...فهذا علم الغيب الذي لايعلمه احد الا الله..و ما سوي ذلك فعلم علمه الله نيه فعلمنيه؛ و دعا لي بأن يعيه صدري و تضطم عليه جوانحي.

ليلة القدر

و في ليلة الحادي

و العشرين من شهر رمضان المبارك رحل علي..و في قلب الليل خرج رجال يعدون بالاصابع يحملون الجثمان العظيم ليطووا مسافة خمسة أميال خارج الكوفة...و هناك في بقعة طاهرة جرت مراسم دفن [157] آخر الاوصياء في التاريخ...لقد قاب علي

[ صفحه 169]

عن دنيا الوقائع ليسطع اسمه في ضمير الأجيال..و يبقي خالدا في وجدان الانسانية علي مر العصور و الأيام..

و في تلك الليلة عرجت روح ذلك العظيم تتخطي السموات في الليلة التي توفي فيها موسي بن عمران و رفع فيها عيسي ابن مريم [158] .

و هكذا انطفأت الشمس التي اضاءت العالم حينا من الدهر و غمرته بالنور و الدف ء ليبدأ زمن الزمهرير..و تضج الأرض بعواء الذئاب. [159] .

هبوب العاصفة

الكوفة بكل المقاييس ترتدي اليوم (21 رمضان 40 ه) حلة الحداد العام لقد رحل انسان عظيم ترك وراءه فراغا هائلا لمن يملأه أحد من العالمين.في المسجد الجامع في هذه المدينة العجيبة يرتقي أعود المنبر شاب في السابعة و الثلاثين من عمره..شاب

[ صفحه 170]

يشبه النبي و ما تبقي من صحابة النبي صلي الله عليه وآله يتذكرون في رؤيته الرسول صلي الله عليه وآله الذي رحل عنه قبل ثلاثين سنة و ربما تتداعي في أذهانهم صور طفولة الحسن يوم كان جده يحمله أو يقبله أو يشمه و يقول: ان ابني هذا سيد و لعل الله اين يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين [160] فهم يحبونه لأنه سمعوا حبيبهم رسول الله يقول: اللهم اني أحبه فاحببه.

هذا الرجل السيد هو الآن فوق اعواد منبر والده الراحل يواجه عاصفة التاريخ و زوابع المحن و بواجه وحيدا كل عوامل الانحطاط في حضارة الاسلام؛

فالعراق بكل ثقلة الثقافي و السياسي و العسكري اثبت بما لايقبل الشك جنوحه الي النوم في صفين، بل أن المجتمع الاسلامي كله قد طرأت عليه تغيرات نفسية شديدة، تشده الآن الي الأرض و قد كان ينظر الي السماء.

هذا الرجل المهيب يستعد لأول خطاب يفتتح به خلافته و الجماهير محدقة به تنظر اليه و تملأ عيونها منه...وجهه أبيض و قد لوحه الشمس ناكسة حمرة خفيفة ادعج العينين سهل الخدين كث اللحية جعد الشعر ذو وفرة كأن عنقه ابريق فضة بعيد ما بين المنكبين ربعة ليس طويلا و لاقصيرا مليح الوجه و قد أحاطته هالة من الهيبة و الوقار جديرةبأبناء الانبياء.

[ صفحه 171]

كان ينظر الي الافق المشحون بالعاصفة..عاصفة الشيطان انه هناك في نقطة ما يتربص في أعماق البشر، لقد أنطفأ السراج الذي كان يشير الي طريق الحق...لقد رحل علي عن العالم من أجل هذا كان الحسن يختنق بكلمته و هو يؤبن الراحل العظيم:

-..لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الألون بعمل، و لم يدركه الآخرون بعمل، لقد كان يجاهد مع رسول الله فيقيه بنفسه، و كان رسول الله يوجهه برايته فيكنفه جبرائيل عن يمينه و ميكائيل عن شماله، لايرجع حتي يفتح الله، و لقد توفي في هذه الليلة التي عرج فيها عيسي بن مريم و قبض فيها يوشع بن نون وصي موسي و ما خلف صفراء و لابيضاء الا سبعين درهم فضلت من عطائه، أراد أن يتباع بها خادما لأهله.

و شعر سبط الرسول بالعبرة تخنقه و لم يعد يستطع الكلام فاجهش بالبكاء و انفجر الحاضرون يبكون العزة و الكرامة و الانسانية و شهدت تلك اللحظات جداول من الدموع...دموع المؤمنين الذين

ادركوا حجم الخسارة، و استأنف سبط النبي خطابه فأعلن للعالم عزمه و ارادته و ابعاد شخصيته و رسالته!

-..أيهاالناس! من عرفني فقد عرفني، و من لم يعرفني فأنا الحسن بن علي، و أنا ابن النبي، و أنا ابن الوصي، و أنا ابن البشير النذير، و أنا ابن الداعي الي الله باذنه، و أنا ابن السراج المنير، و أنا من اهل البيت الذي كان جبريل ينزل الينا، و يصعد من عندنا، و أنا من

[ صفحه 172]

أهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجل و طهرهم تطهيرا، و أنا من أهل بيت افترض الله مودتهم علي كل مسلم فقال تبارك و تعالي لنبيه: (قل لاأسألكم عليه أجرا الاالمودة في القربي و من يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت و كان هذا الخطاب دعوة رائعة لبيعته من أجل مواصلة الطريق..طريق المقاومة و تحقيق العدالة الانسانية.و نهض الصحابي قيس بن سعد فكان أول انسان يبايعه فانبري الي الحسن قائلا:

-«ابسط يدك ابايعك علي كتاب الله و سنة نبيه و قتال المحلين».

فرد الامام بأدب الانبياء:

- علي كتاب الله و سنة نبيه فأنهما يأتيان علي كل شرط.

و أدرك قيس أحقيقة ابن النبي و أن كتاب الله و سنة رسوله الكريم هما السراج الذي يضي ء الطريق لمن يبحث عن الحقيقة.

و ربما خطر في تلك اللحظة علي ذهن الحسن أن مأسأة صفين و كارثة التحكيم لم تك لتحصل لولا روح التمرد التي نفذت في أعماق شعبه و عدم احترامهم لقائدهم، لهذا أراد أن يرسخ روح الطاعة في نفوس شعبه فكان يواجه حشود المبايعين بقوله:

- و تبايون علي السمع و

الطاعة، تحاربون من حاربت و تسالمون من سالمت.

و من المؤسف أن قطاعات واسعة ممن صنعت مأساة

[ صفحه 173]

التحكيم و بعدها حادثة النهروان ما تزال اسيرة النظرة السطحية للأمور فكانت تتعجل الحرب مع معاوية للانتقام.

و كانت خيبة الأمل أنهم رأوا انسانا لايريد أن يصغي لعنادهم و لايثق بعقولهم و لاينقاد لارادتهم.

و عندما رأي الخوارج ان الحسين هو الآخر لايتسجيب لمطالبهم عادوا الي الحسن فبايعوه علي مضض، و هكذا حصل أول تصدع في الثقة بين القائد و جنوده.

وانها لمحنة حقيقية أن يجد الحسن نفسه مسؤولا عن قيادة حركة المقاومة و صيانة المجتمع الاسلامي و حماية كرامة الانسان و الدفاع عن القرآن، ثم يلتفت ليري أن جنوده ليسوا سوي خوارج يحقدون عليه و علي أبيه و سوي الأشراف من أصحاب الثراء و هؤلاء بدأوا ينظرون الي مصالحهم فلا يجدونها تتحق الا بالتفاهم مع معاوية و بني أمية، أما بسطاء الناس فهم لايعرفون سوي الطاعة لزعيم القبيلة.

ان انصار الحسن الحقيقين كانوا عدة قليلة لايمكنها أن تقف في مواجهة العاصفة..و في مثل هذه الظروف نهض ابن الانبياء يواجه الشيطان.

و كان أول شي ء فعله الخليفة الجديد أعلانه موقفه و رسالته و كنا هدفه الاسمي و حدة الامة و صيانة دينها من جميع الاخطار، و كان الخطر الذي يهددها هو استمرار التمرد في اقليم الشام.

[ صفحه 174]

وقد حاول الامام الحسن التعامل مع مشكلة الشام بروح جديدة فدعا الوالي المتمرد الي انهاء تمرده و ايقاف نزف الدم و الحفاظ علي وحدة المجتمع الاسلامي.

أما في جبهته التي لاتبعث علي التفاؤل فقد أمر عليه السلام بمضاعفه مرتبات القوة العسكرية

التي سيناط بها مسؤولية الدفاع عن الشرعية.

مبادرة السلام

و بعث الخليفة الذي بايعة معظم اقاليم الدولة الاسلامية برسالة الي معاوية تضمنت دعوة الي الاسلام من خلال انهاء التمرد و الطاعة للشرعية كما فلسف فيها الامام مشروعية خلافته [161] .

و كان معاوية قد تلقي انباء مبايعة الامام بالقلق و عصفت به الهواجس..هواجس المواجهة و تجسدت للحظة أمام عينه مشاهد من معارك صفين الضاريه و سرت الرعدة في نفسه و هو يستعيد منظر العيون العراقية وراء المغافر و هي ترسل شرر المقاومة و الاستبسال [162] .

و كان ابنه يزيد يلاعب قرده «أبي قبيس فقال له: مالك يا أبي

[ صفحه 175]

اراك يعصف بك القلق قال معاوية و قد اراد أن يجره الي عمل سياسي بعيدا عن قردته و كلابه و صقوره.

انه الحسن و الناس يعرفون حقه فهو ابن رسول الله.

قال يزيد و قد قاتلت من قبل أباه فنصرك الله عليه.

و ارتاح معاوية الي هذا الغباء لكنه أراد أن يطلع ابنه علي الحقيقة فقال: يا بني ان الحق حقهم [163] و هو سيد المسلمين عليه السلام و مضي يزيد الذي تأفف من حديث والده مضي يلاعب قرده و ظل معاوية اقدا يديه وراء ظهره يفكر و يفكر فيما عسي أن يفعل انه لن يستطيع أن يستمر بذريعة الطلب بدم عثمان..لقد انتهي دور قميص عثمان و عليه أن يفكر بوسيلة أخري.

غمغم معاوية في نفسه و هو يذرع بلاط قصر الكبير ان عمرو بن العاص يعرف العراقيين لقد مزقهم بمكيدة و أحدث في جبههة علي انشقاقا و فتقا لارتق له عشرون ألف أو يزيدون هددوا عليا بالقتل اذا لم يوقف الحرب، ثم جاءت

النهروان لتزيد الطين بلة..ان الكوفة لم تعد ما هي بالأمس انها ممزقة..

فلم لايرسل جواسيسه و عيونه تستطلع آخر الأخبار، سيما و أنه يستطيع مراسلة شخصيات عديدة من زعماء الكوفة فيها عروض بالتحالف معه ضدالحسن ان شخصيات مثل: شبث بن

[ صفحه 176]

ربعي، شمر بن ذي الجوشن، عمر بن سعد، حجار بن ابجر، قيس بن الاشعث، عمرو بن حريث، عروة بن قيس و أسماء بن خارجة، يمن شراؤها بسهولة، كما أن الخوارج و ان كانوا يعادون معاوية فأنهم لن ينسوا ثأرهم في النهروان و لن يكتفوا باغتياله عليا و سيثبون بالحسن في أول فرصة...انهم خطر يهدد الكوفة من داخل حصوها و مع كل ذلك فانه سيكون حذرا جدا في صراعه مع العهد الجديد و لن يقوم بأية خطوة حتي يحصل علي معلومات اكيدة و لذا قام بارسال جاسوسين أحدهما الي البصرة و الآخر الي الكوفة لانشاء شبكة تحيطه بما يجري في العراق.

في أواخر نيسان سنة 661 م القي القبض جاسوسين خطيرين كانت مهمتهما نقل الأخبار و الاتصال ببعض الزعماء في الكوفة و البصرة و تمت ادانتهما واعدما علي الفور.

و قد ارسل الامام الحسن رسالة الي معاولة بهذه المناسبة يحذره فيها من التآمر. [164] .

كما تلقي معاوية رسالة مماثلة من حاكم البصرة عبدالله بن عباس [165] كما و أرسل عبدالله بن عباس رسالة الي الامام الحسن يطلب فيما منه اجراء تغييرات أساسية علي سياسة والده و الافادة

[ صفحه 177]

الي حد ما من سياسات معاوية من قبيل شراء بعض الضمائر علي أساس ان الغالية اسامية تبرر الوسيلة [166] ! و تعد هذه الرسالة وثيقة تكشف عن

المستوبات الخطيرة التي وصلت الأوضاع في العراق و الانقلاب في الكثير من المعايير الأخلاقية و تراجع القيم الانسانية.

و لم يورد التاريخ ان الامام الحسن ارسل رسالة جوابية الي واليه علي البصرة غير ان الايام كشفت عن شخصية الحسن التي لاتعرف التساوم و السحق علي المبادي فكانت مواقفه سلسلة من الاباء و الشعور بالمسؤولية و التضحية التي وصلت ذورتها في تجاوز اعتبارات الذات و المجد الشخصي.

عودة الي الوراء

و ينظر الامام الحسن الي الافق فيراه مكفهرا لايبشر بخير فيلتفت الي الماضي لانه يدرك ان مجتمعه المعاصر يحصد ما قد زرعه بالأمس الجيل الذي يوشك علي الرحيل.

كان يدرك ان عاصفة الاطماع و التهافت علي الدنيا قد بدأ هبويها منذ أيام عمر بن الخطاب، فقد فتحت حركة الفتوح الأبواب علي مصاريعها و تألفت كنوز الذهب و الفضة و الجواهر و المزارع

[ صفحه 178]

الخضراء الفسيحة..آه ما أحلي الرخاء في هذه الدنيا العريضة [167] .

و بدأت مظاهر الترف تظهر علي ملامح الناس الذين كانوا بالأمس يربطون حجر المجاعة علي بطونهم، و كانت مآدب الطعام تحفل بكل مالذ و طاب. [168] .

و بدأ بعض الصحابة يثرون ثراء فاحشا و يطمعون للمزيد انه لاينسي الزبير الذي يمتلك الأراضي و المزارع الواسعة في العراق و الحجاز و مصر و كان عنده من العبيد ألف عبد و أمة يعملون في مزارعه الواسعة، أما أمواله فبلغت في مجموعها 000 / 000 / 35، أما طلحة فقد بلغ معدل أرباحه الصافية التي ترد من العراق 1000 درهم يوميا.

و رأي الحسن كيف نهض هذان الصحابيان ضد والده الذي كان يحيا حياة دون مستوي خط الفقر بكثير و كان همه

نشر العدالة و اعادة الامة الي هويتها الحقيقية أو أعادة الهوية الاسلامية الي الأمة.

رأي عبدالرحمن بن عوف يدفع الخلافة الي عثمان علي أمل أن يعيدها اليه ذات يوم..عبدالرحمن ذلك الصحابي ثم التاجر البسيط ثم الثري الكبير! الذي يوجد في اسطلبه مئة فرس و له

[ صفحه 179]

ألف بعير و عشرة آلاف شاة من الغنم [169] ثم خلف بعد وفاته من الذهب ما كسر بالفؤوس حتي مجلت أيدي الرجال [170] و ازدادت حدة التهافت علي الدنيا بعد أن رأي الناس خليفتهم عثمان سباقا في هذا المجال.

و اصبحت ثروة عثمان بين للة و ضحاها الملايين من الدنانير و الدراهم و كان عنده جيش من العبيد يبلغ الألف عبدو ترك وراءه من الأبل آلاف و قطعان من الغنم.

و انتقلت ثقافة حب الدنيا الي الولاة و الحكام علي الاقاليم فكان معاوية أولهم و أكثرهم جشعا و طمعا و انفتحت شهيته علي اقتطاع المزيد المزيد حتي بدأ يرنو الي الخلافة و امتلاك كل الأرض الاسلامية بلادا و عبادا!

و في عهد عثمان انتشرت ظاهرة الترف التي عادة ما تقود الي ممارسات تتنافي مع الدين فبدأ بعض الناس يلعبون القمار و يحتسون كؤوس الخمر [171] .

و تفاقم نفوذ الأمويين و ظهر اعداء الاسلام القدامي فاصبحوا هم الحكام في الاقاليم و الولايات، و قد مارس الولاة من بني أمية

[ صفحه 180]

صنوف الظلم «الاضطهاد و التمييز العنصري و القبلي» [172] .

و كانت لمعاوية حصة الأسد من الولايات فقد ضم اليه عثمان جميع الولايات السورية فاصبحت الشام كلها في قبضته. [173] .

و كان مروان عدو النبي صلي الله عليه وآله

وسلم بمثابة الخليفة الفعلي الذي يمارس نفوذه المطلق في مصير الامة و مقدرات البلاد الاسلامية و كانت نظرته الي أموال الأمة باعتبارها ملكا للخليفة الاموي عثمان و أن الخلافة ملك خالص للامويين لاينافسهم فيه أحد. [174] .

فكانت ايرادات سوق المدينة تذهب مباشرة الي جيب الحكم بن ابي العاص، و كانت الجوائز والهبات تنهال علي أقارب عثمان كالمطر حتي اضطر خازن بيت المال الي تقديم استقالته بعد أن أعلن في المسجد أه خازن للمسلمين وليس لعثمان و عشيرة عثمان [175] ، و في عهد عثمان و خاصة في السنوات الأخيرة ظهرت ملامح الحرمان علي كثير من الأسر الفقيرة بعد التغير الذي طرأ علي نظام جمع الزكاة. [176] .

و قد أدت سياسة عثمان الي تفاقم التململ ليس في المدينة

[ صفحه 181]

وحدها بل و في كثير من الاقاليم الاسلامية و في طليعتها مصر و الكوفة والبصرة.

و عندما تفاقم الوضع و اصبح الجو في المدينة المنورة ينذر بالانفجار الوشيك استنجد عثمان بالامام علي الذي لم يترددد في الوساطة بين الجماهير الغاضبة.و اسفرت جهود الامام عن خروج عثمان علي الامة معتذرا تائبا و وقف أمام الناس هاتفا: «استغفر الله عما فعلت و أتوب اليه فمثلي نزع و تاب») [177] .

غير أن مروان الذي احتل مركزا مرموقا في الجهاز الحكومي قد احبط خطوة الخليفة الذي خانته الشجاعة في اتخاذ أي موقف حازم أزاء صهره المنحط، و ادرك الامام علي الا جدوي من وراء عثمان الذي اضحي العوبة في يد مروان او «سيفه» علي حد تعبير علي عليه السلام و هكذا بدأت الاحداث تتسارع بشكل مخيف نحو الانفجار الذي وصل ذروته في اقتحام قصر عثمان

و قتله.

و قد خلقت الثورة و ما نجم عنها أوضاعا في غاية الحساسية و الخطورة و أدت الي تفاقم حدة الصراع بين التيار الذي يدعو الي العدالة في التوزيع و التصرف بالثروة و بين تيار حقق امتيازات واسعة خلال العهود السابقة و بالتحديد منذ تنفيذ الخليفة الثاني سياسته المالة التي تنهض علي التمييز.

[ صفحه 182]

و كانت معركة الجمل بالرغم من كل الشعارات التي رفعها الناكثون و حملتهم الدعائية كانت أول اصطدام عنيف بين التيارين: تيار الدعاة الي العدالة الاجتماعية و من خلفهم رجال القبائل العراقيين (الكوفة) و بين الاثرياء الطموحين و الخائفين علي مصالحهم من رجل العهد الجديد الذي عرفت عنه عدالته و عدم تساهله.

و قد ذكرنا المبررات التي دفعت الاما علي عليه السلام الي اتخاذ الكوفة عاصمة جديدة لمواجهة الخطر القادم الذي يتجلي في وجود اقليم واسع ثري خاضع لسياسة هدفة و برنامج دقيق ألا و هو اقليم الشام بقيادة معاوية ابي سفيان.

و مع أن أغلب المهاجرين و الانصار وقفوا الي جانب علي عليه السلام ألا أن قيام شريحه منهم بالاعتزال قد ترك آثار سيئة علي مدي السنوات القادمة و هؤلاء هم الذين وصفهم الامام عليه السلام بأنهم خذلوا الحق و لم ينصروا الباطل و خلال فترة و جيزية نسبيا تبلورت جبهتان قويتان عبرعنهما عقيل في مجلس معاوية عندما ضحك و سئل عن السبب الذي أضحكه فقال: «اضحك اني كنت انظر اصحاب علي يوم أتيته، فلم أر معه الا المهاجرين و الانصار و ابناءهم، و التفت الساعة فلم أر معه الا المهاجرين و الانصار و ابناءهم، و التفت الساعة فلم أر الا ابناء الطلقاء و بقايا الأحزاب» [178] .

[ صفحه 183]

و يجب الاعتراف أن الظروف العامة كانت تسير لصالح معاوية فقد التحق بمعسكره كل من يريد الدنيا و كانت الدنيا تخطف البابهم، فما أن يلوح معاوية لأحدهم حتي يأتيه و كان الرجل ذكيا في استخدام جميع الوسائل المتاحة و الوعود المعسولة، فيما كانت الروح الدينية تتراجع يوما بعد آخر أمام الأطماع و الطموحات.

و جاءت معركة صفين لتضع العالم الاسلامي أمام خطر التمزق و كان الامام علي عليه السلام حساسا ازاء أي حركة انفصالية، فعندما عرض عليه معاوية انهاء التمرد مقابل موافقة علي علي استقلاله باقليم الشام رفض الامام علي مدركا خطر هذه النزعة الانفصالية سياسيا و اجتماعيا.

و قد خدمت الظروف معاوية كما ذكرنا فقد كان سكان الشام أكثر تماسكا و تضامنا من سكان العراق و هذا يعود الي تحضر أهل الشام و استقرارهم في أرض خصبة و سياسة معاوية في استرضاء زعمائهم اضافة الدعاية القوية لاجهزة معاوية التي تطرح الأخير أمينا علي الوحي و كاتب الرسول و خال المؤمنين، فيما كانت النزعات القبلية في العراق تهدد وحدتهم و قد ظهرت النعرة القبلية في مسألة التحكيم لتزيد من محنة الامام علي الذي وجد نفسه مضطرا للتنازل لآرائهم التافهة في اختيار أبي موسي الاشعري ممثلا عنه في المفاوضات مع عمرو بن العاص و لك أن تكتشف

[ صفحه 184]

النتيجة في جلوس ثعلب ماكر مع حمار و يكون مصير العالم الاسلامي متوقفا علي نتيجة التفاوض!

ثم حصل انهيار آخر في جبهة العراق عندما ظهر تيار الخوارج عنيفا مدمرا يهدد كل الثوابت و كانت النهروان جرحا آخر يضاف للنزف العام.

و رأي علي عليه السلام نفسه في عام أربعين للهجرة

وحيدا لكنه لم ييأس فقام بآخر خطوة عندما القي خطابا حماسيا دفع بأربعين ألف عراقي الي مبايعته علي الموت غير أن القدر عاجله بقيام شقي معتوه باغتياله و هو يؤدي صلاة الفجر.

ان سقوط علي في محرابه مضرجا بدمائه يدل علي بشاعة الظروف التي عاشها ذلك القائد الذي رفع لواء العدالة و الانسانية عاليا و عاش حياة الزهد من أجل اعادة المجتمع الاسلامي الي مساره الصحيح و تصحيح حركة التاريخ.

و لهذا سنجد نجله الحسن ينظر بحذر الي مجتمعه الذي اغتال أباه، ذلك ان اغتيال علي هو في كل الحسابات عدوان صارخ علي كل القيم الاخلاقية و الانسانية ناهيك عن القيم الاسلامية.

صفير العاصفة

تأكد معاوية بان جبهة العراق تعاني من التمزق الشديد و وصلت أخبار كثيرة في هذا المضمار، حتي يكاد المرء يسمع دوي

[ صفحه 185]

الانهيارات، لهذا أرسل علي وجه السرعة رسالة تتضمن انذارا نهائيا [179] .

و مع تدهور الظروف فقد رد الامام بحز بما جعل معاوية يعيد ترتيب بعض الحسابات. [180] .

فقد أعلن معاوية الحرب و حشد جيشا جرارا جاوز الستين ألف جندي مجهز بمختلف أنواع السلاح اضافة الي انضباطه التام، ثم قام باجراء ذكي و هو اعلانه أيضا رغبته في السلام و يبدو أن معاوية كان متيقنا من تمزق الجبهة العراقية فتقدم بقواته نحو الحدود العراقية واثقا كل الثقة من كسب المعركة. [181] .

و وصلت أنباء الزحف الي الكوفة فأمر الامام بحشد الجماهير في المسجد لألقاء خطاب هام، و من علي أعواد منبر علي انطلقت صيحة الجهاد و المقاومة: «أما بعد..فان الله كتب الجهاد علي خلقه و سماه كرها.

ثم قال لأهل الجهاد: اصبروا ان الله

مع الصابرين، فلستم ايهاالناس نائلين ما تحبون الا بالصبر علي ما تكرهون، انه بلغني ان معاوية بلغه انا كنا ازمعنا علي المسير اليه فتحرك لذلك، اخرجوا رحمكم الله الي معسكركم في النخيلة حتي ننظر

[ صفحه 186]

و تنظرون، و نري و ترون» [182] .

و النخيلة هو المكان الذي تتجمع فيه الحشود العسكرية و يقع علي طريق الشام و لايبعد عن الكوفة كثيرا. [183] .

و خيم صمت ثقيل علي الجالسين ينظر بعضه مالي عيون بعض، و قد القي الخوف بظلاله علي الوجوه و انعكس في انطفاء العيون.

الشائعات قد فعلت فعلها في النفوس و قد نجح معاوية في الحاق هزيمة نفسية ساحقة قبل أن يقرر الزحف صوب العراق، ان طوابير من جيش معاوية موجودة في داخل الكوفة في تلك البيوت المذعورة أو البيوت التي تعصف بهاالاطماع؛ ان الكوفة مهددة من داخلها.

و عندما رأي عدي بن حاتم الطائي هذا المشهد القال انبري أمام الجماهير و هتف بحماس و بسالة: «أنا عدي بن حاتم! سبحان الله! ما أقبح هذا المقام!! ألا تجيبون امامكم و ابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين السنتهم كالمخاريق في الدعة، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب، أما تخافون مقت الله؟ ثم التفت الي القائد العالم يعلن امتثاله للأوامر، و أعلن

[ صفحه 187]

استجابته الفورية و امتطي حصانه متجها نحو النخيلة بعد أن أوصي غلامه أن يلحقه بما يحتاج و كان هذا الصحابي البطل أول من عسكر في النخيلة [184] .

و قد بعث هذا الموقف و موقف رجال آخرين الحماس في نفوس الكثيرين كما أمر الامام بعض الخطباء الحماسيين بالقيام بحملة تعبوية لتعبئة

الرأي العام من أجل مقاومة العدوان القادم.

أما هو عليه السلام فقد قرر التحرك نحو النخيلة بنفسه لنقل المعركة بعيدا عن الكوفة في ظروف تتطلب التحام عسكري سياسي لخوض حرب مصيرية.

و خلال عشرة أيام بلياليها لم يلتحق بالامام سوي أربعة ألاف فعاد الي الكوفة لتدارك الأوضاع ثم عاد سريعا الي النخيلة فغادرها الي دير عبدالرحمن و أنتظر بها ثلاثة أيام ريثما يلتحق به المتخلفون من الجنود.

وكانت الاحداث تتلاحق بسرعة و جيوش الشام تتقدم صوب الاراضي العراقية، وكاجراء فوري رأي سيدنا الحسن عليه السلام ارسال نخبة من قواته لوقف الزحف الشامي و حماية الاراضي الخصبة و الزراعية من السقوط في قبضة معاوية.

و في تلك الليلة الدامة اجتمع الامام الحسن بهيئة أركان

[ صفحه 188]

حربه و منهم عبيدالله بن العباس حاكم اليمن و قيس بن سعد وسعيد بن قيس.

و بعد حديث طويل قام الامام:

-«يا بن العم! اني باعث معك أثني عشر ألفا من فرسان العرب و قرأ المصر، الرجل منهم يزيد الكتيبة، فسر بهم و ألن لهم جانبك و ابسط لهم وجهك، و افرش لهم جناحك، و ادنهم من مجلسك، فافهم بقية ثقات أميرالمؤمنين، و سر بهم علي شط الفرات، ثم امض حتي تستقبل بهم معاوية، فان لقيته فاحتبسه حتي آتيك فاني علي أثرك و شيكا، و ليكن خبرك عندي كل يوم، و شاور هذين [185] و اذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتي يقاتلك، فان فعل فقاتله، و ان أصبت فقيس بن سعد علي الناس، فان اصيب فسعيد بن قيس علي الناس» [186] .

و في فجر اليوم التالي تحركت طلائع جيش الامام بقيادة عبيدالله و التي بلغ قوامها اثني عشر ألف

مقاتل.

و لزمت القوات الزاحفة شطان الفرات و هي تواصل تقدمها فتوقفت في «سينور» ثم في «شاهي» ثم «الفلوجة» ان وصلت «مسكن» فاستقرت في «القربة الجنوبية» ازاء مسكن و هناك

[ صفحه 189]

اصبح الجيشان وجها لوجه.

و كانت الليالي التي مرت علي جيش الطليعة مترعة بالحذر و الترقب و هواجس الخوف فقد مرت أيام و أيام و ليس هناك من خبر ينبي ء بوصول الامدادات العسكرية انهم يواجهون جيشا جرار بتميع بالانضباط الكامل و انظر عبيدالله الي معسكره فرأي نماذج من الفوضي و التمزق بل رأي بعض الخوارج ممن لايري وقارا للخليفة و لايري حرمة لاخوانه من الجنود...وانبعث سؤال رهيب في أعماقه كيف يتنسي له أن يواجه معاوية بهذه الحفنة...

و ما زاد في غيظ القائد العسكري قيام بعض الجنود بالتسلل ليلا نحو معسكر العدو.

اذن فهذه الاشباح التي تمرق بين الخيام في قلب الظلام انها هي رسل معاوية تحمل معسول الوعود و تحمل جرار الذهب فالضمائر تجارة اذن...بيع و شراء.

آه ان معاوية يستخدم بريق اذهب ليعمي البصائر و الابصار!!

و في المعسكر الآخر حيث تجثم قوات الشام كان الجنود يصغون بدهشة الي قهقهات معاوية تشق صمت الليل الي ساعة متأخرة.قليلون جدا يعرفون سر تلك الصحكات الرنانة..أكوام من الرسائل القادمة من الكوفة و من معسكر النخلية...رسائل من شخصيات قبلية معروفة كلها تساوم معاوية و تعلن استعدادها

[ صفحه 190]

الكامل في اغتيال الحسن أو خطفه و تسليمه أسيرا.رسائل من شبعث بن ربعي، شمر بن ذي الجوشن، حجار بن ابجر قيس بن الاشعث و آخرين و كان ما يثير دهشته أن كثيرا من الرسائل قد وصل من اشخاص مغمورين لايعرفهم

أحد..ان حمي هذه التجارة قد وصلت الي درجة رهيبة لاتصدق!

و بدأت شائعات لايعرف مصدرها أحد تأخذ طريقها الي خيام المعسكر العراقي تتحدث عن رسائل متبادلة بين معاوية و الحسن حول الصلح و السلام. [187] .

و كانت خيمة القيادة علي رابية تتيح للقائد عبيدالله أن يشرف علي قواته و أن يري عن بعد معسكر العدو المتربص، و اختلي القائد الي نفسه بعد منتصف الليل و قد جثم صمت رهيب فوق المكان و حاول ان يخدع نفسه حول صحة الشائعات، و لكنه يعرف جيدا أن الحسن ليس من الرجال الذين يساومون، و لكن فشل التعبئة العسكرية في الكوفة و تراجع حماس الجماهير و رغبتهم في السلام بأي ثمن قد جعله يتميز غيظأ من القدر الذي ساقه ليكون علي رأس جيش ممزق نفسيا.و هناك علي مرمي البصر كانت مشاعل الفرق الشامية تومض من بعيد و لم يكن عبيدالله يدري أن معاوية قد خلا الآخر في

[ صفحه 191]

خيمته يخطط..كان معاوية يسيطر رسالة خطيرة و لم تمض سوي ساعات حتي كانت الرسالة تسقط في حضن القائد الذي أمضي ليلته ساهرا.

و فض عبيدالله الرسالة التي لم يشك في أنها من معاوية و راح يغمغم بكلماتها: «ان السن قد راسلني في الصلح، و هو مسلم الأمر الي فان دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعا، و الا دخلت و أنت تابع، و لك ان اجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم أعجل لك في هذا الوقت نصفها، واذا دخلت الكوفة النصف الآخر» [188] .

صر القائد علي أصنانه: اللعنة انه يعرف مآزق أعدائه و يعرف كيف يستغلها...و يعرف أيضا أن سفالة الانسان لا حضيض لها

و أن أقوم الناس خلقا وانقاهم سلوكا قد تجره الاطماع و يذله الحرص في واحدة من لحظات الضعف البشري.

آه ان معاوية خبير في النفس الانسانية يعرف الكثير الكثير مما يموج في ذات البشر.

و اشتعلت في اعماقه مشاهد كثيرة لكنها كانت جميعا تخبو أمام وهج الذهب الذي سيقدمه له معاوية...حتي مشهد ابنيه الصغيرين اللذين ذبحهما بسر بن ارطاة في غارته علي اليمن و حتي مشهد زوجته التي جنت بسبب تلك الجريمة فهامت علي

[ صفحه 192]

نفسها في الازقة و الشوارع تندب ولديها.

حتي مجده العسكري و كرامته كقائد تضاءلا أمام اغراء معاوية.

تصاعدت حدة الوساوس في صدره ليته قدم استقالته قبل وصول الرسالة انه يجد نفسه شباك معاوية لايستطيع الخلاص أن مئات الآلاف من الدراهم ليست بالأمر الذي يمكن تجاوزه بسهولة.

و تمر ساعات الليل و كات خيمة القائد الذي اختلي بنفسه تشهد صراعا فريدا.

و في مطلع الفجر كان عبيدالله قد استحال الي كائن آخر لقد صرع في داخله الانسان..استحال الي جثة تتحرك...انه يرنو ببصره الي معسكر العدو و يخطط لفكرة الهروب...ان من يتأمل عينيه في تلك اللحظات لا بد و أن يري في عمقها بريق الخيانة و وهج الاطماع و الغدر و سيجد أيضا انطفاء الانسانية بكل معانيها النبيلة.

و ما أن حل المساء حتي سرت همسات لها مدلول واحد ان القائد يفكر باللجوء الي معاوية.

و كان عبيدالله قد أبلغ المقربين اليه ممن يشاركونه في طريقة تفكيره و نظرته الي احياة قد ابلغهم بقراره الخطير.

وتحت جنح الظلام شهدت قرية «الجنوبية» اكبر خيانة في

[ صفحه 193]

التاريخ العسكري فقد تخلي عبيدالله لكل قيم

الفروسية و الشهامة و الشرف الانساني.

و قبل مطلع الفجر وصل عدد الفازين من المعسكر الي ثمانية آلاف جندي.

و هكذا فضل القائد الدخول في معسكر معاوية ذليلا خانعا مجللا بالعار فاحتقرته الاجيال و التاريخ فلم يعد يذكر الا قي قائمة الخونة، فمات قبل أن يموت و قد كان في موقع يؤهله للخلود و المجد.

و كانت الخطوة التي قام بها القائد المتخاذل الذي باع مجده العسكري و كرامته بحفنة من الدراهم، بداية النهاية في الجبهة العراقية بعد أن استيقظ الجنود الذين تناقض عددهم الي اربعة آلاف جندي فلم يجدوا قائدهم كما لم يجدوا الآلاف من اخوانهم و عندما اكتشفوا حقيقة ما جري اسقط في ايديهم و شعروا بمرارة الهزيمة قبل خوض المعركة.

و في هذه الاجواء التي تنذر بالخطر و الانهيار بادر الصحابي البطل قيس بن سعد الي تحمل مسؤوليته التاريخية في ظرف عاصف فالقي خطابا ملتهبا في جنوده لايقاف حالة التصدع و الانهيار. [189] .

و في هذه الاجواء التي تنذر بالخطر و الانهيار بادر الصحابي البطل قيس بن سعد الي تحمل مسؤوليته التاريخية في ظرف عاصف فالقي خطابا ملتهبا في جنوده لايقاف حالة التصدع و الانهيار. [190] .

[ صفحه 194]

رياح الهزيمة

كان الامام الحسن عليه السلام قد وصل المدائن عندما وصلته انباء الكارثة في رسالة القائد قيس بن سعد و قد جاء فيها: «انهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها: «الجنوبية» بازاء «مسكن» و ان معاوية ارسل الي عبيدالله بن العباس يرغبه في المصير اليه، و ضمن له ألف ألف درهم.يعجل لها منها النصف، و يعطيه النصف الآخر عند دخوله الكوفة.فانسل عبيدالله في الليل، الي معسكر معاوية في خاصته، و اصبح

الناس قد فقدوا أميرهم، فصلي بهم قيس بن سعد و نظر في أمورهم» [191] .

و هكذا وصلت هزات الزلزال الي المدائن، و بكي بعضهم لوقع هذه الخيانة العظمي فيما راح آخرون يتندرون بان عبيدالله عندما هرب الي معسكر حمل معه راية الجيش. [192] .

و استمر معاوية يرسل سهام الاغراء فيصيب بها من يشاء و وصل به الأمر أن عرض بناته علي بعض الشخصيات التي لاتصغي لوعود الذهب و الفضة أو وعود المناصب العسكرية، كما لم ينس أن يهدد بعضهم بالانتقام اذا لم يتحالف معه الآن قبل اقتحام الكوفة بجنود لا قبل لهم بها.

[ صفحه 195]

و قام معاوية بخطوة تنضح نذالة عندما زور رسالة باسم قيس بن سعد تفيد بانه علي استعداد لمصالحة معاوية [193] .

و لم يعد أحد يكذب الشائعات و الاخبار الكاذبة بعد ما تحقق الجميع من فعلة عبيدالله المشينة.

و قد فتكت تلك الأخبار و الشائعات و مزقت في صفوف القوات المرابطة في مسكن و المدائن و اصبحت الجبهة العراقية العوبة بيد معاوية فتارة يبث خبرا في المدائن حول مقتل قيس بن سعد ويحثهم علي الاشتباك الفوري [194] .

و أخري ينشر خبرا كاذبا في «مسكن» حول مصالحة الحسن لمعاوية. [195] .

و لأول مرة شعرالامام الحسن بالخطر علي الكوفة من عملية اجتياح يقوم بها معاوية في هذه الظروف العاصفة، ان وحدة الامة الاسلامية في خطر كبير اذا ما استمرت الأوضاع سائرة في هذا الاتجاه، ذلك أن اصرار بضعة مئات علي مواجهة معاوية حتي النفس الأخير يعني تدفق عشرات الآلاف من جنود الشام الذين يضمرون احقادا دفينة منذ صفين ضد العراقيين و اذا ما قدر

لهم اقتحام الكوفة فلن يتورعوا عن انتهاك الحرمات و قتل العشرات من

[ صفحه 196]

صحابة الرسول الاكرم صلي الله عليه وآله وسلم.

ان معاوية قد أعمته شهوة الحكم والسلطان و الملك و لم يعد يري شيئا في طريقه..سوف يدوس علي كل المقدسات في سبيل تحقيق أهدافه و طموحاته و أطماعه.

و كان علي الحسن أن يفكر في عواقب الأمور...انه يري في الأفق نذرا لاتبشر الا بوقوع مجزرة كبري يعقبها شرخ هائل في نسيج الأمة و قد تسر الأحداث عن ردة عنيفة عن الاسلام الحنيف و عودة الناس الي عصور الجاهلية المظلمة.

فاذا كانت الكوفة ترغب في السلام بأي ثمن بعد كل هذه الحروب الطاحنة كما ان الاخطار الاجنبية تهدد الدولة الاسلامية و العدو الكافر يتربص بالمسلمين الدوائر و ينتظر الفرصة السانحة فلماذا هذا التقاتل من أجل حكم دنيوي و سلطان زائل؟!

و اضاءت في ذاكرة السبط كلمات جده الراحل يوم قال أمام الملأ من أصحابه: ان ابني هذا سيد و لعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين» [196] .

و فيما كانت الشائعات تمزق الجبهة العراقية في مسكن و المدائن قام معاوية بخطوة ذكية عندما ارسل و فدا يتألف من الداهية المعروف المغيرة بن شعبة و عبدالله بن عامر و عبدالرحمن

[ صفحه 197]

بن الحكم، و كان عبدالله بن عامر قد قام بحركة يهدف من ورائها تحطيم معنويات العراقيين فقاد مجموعة من فرسانه و أطلق تحذيرا يستبطين التهديد و يظهر حرصه علي السلام.

عندما صاح: يا أهل العراق! اني لم أر القتال، و انما أنا مقدمة معاوية و قد وافي الانبار في جموع أهل الشام،

فاقرؤا أبا محمد عني السلام و قولوا له: «أنشدك الله في نفسك و أنفس هذه الجماعة التي معك».

و ها هو الآن يأتي ضمن وفد للتفاوض، و يجتمع الرجال الثلاثة بالامام و لم يذكر التاريخ عما دار في خيمة الخليفة الشرعي، و لكن أعضاء الوفد و هم يغادرون يقومون بحركة ذكية و هي بثهم بن صفوف الجيش العراقي كلمات اشد من وقع السهام المسمومة و الخناجر الغادرة قائلين: «ان الله قد حقن الدماء بابن بنت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم و قد اجابنا الي الصلح».

و يبدو أن الأجواء كانت تشجع علي تصديق أية شائعة خاصة حول فكرة الصلح و السلام ذلك ان قطاعات واسعة كانت ترغب في السلام و لكل مبرراته فقطاع من الناس قد مل من الحروب و كوارثها الاجتماعية بعد نتج عنها حتي الآن الآف اليتامي و الأرامل و القتلي و المعوقين، لقد كانت الحرب بالأمس مصدر للغنائم و الرخاء الاقتصادي أما اليوم فقد أصبحت مصدرا للبؤس و الشقاء كما ان جراح الحرب الأهلية أشد ألما من جراح الحروب

[ صفحه 198]

في حركة الفتوح!

و تلقف العراقيون هذه الشائعة كما لو أنها حقيقة واقعة و بدأ بعضهم يتميز غيظا فيصر علي أسنانه و هو يقول: «لقد كفر الحسن كما كفر أبوه».

و صاح أحدهم بوقاحة: أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل».

و كانت عيون بعض الخوارج تبرق بالحقد و الكراهية و صمم بعضهم علي أغتياله في أول فرصة ممكنة.

و أراد الامام الحسن اختبار ولاء الجيش و تماسكه فأمر بحشد الجميع للصلاة، و وقف القائد خطيبا فانسابت كلماته معبرة:

- «الحمد لله كلما حمده حامد،

و أشهد أن لا اله الا الله، كلما شهد له شاهد و أشهد أن محمدا عبده و رسوله، أرسله بالحق و ائتمنه علي وحيه.أما بعد فاني و الله لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله و منه و أنا أنصح خلق الله لخلقه، و ما أصبحت متحملا علي مسلم ضغينة و لامريدا له بسوء، و لاغائلة و ان ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ألا و اني ناظر لكم خير من نظركم لأنفسكم فلاتخالفوا أمري و لاتردوا علي رأيي، غفر الله لي و لكم و ارشدني و اياكم خلما فيه المحبة والرضا».

و تصاعدت كلمات مسمومة من جنبات المكان:

[ صفحه 199]

- ماذا يعني بقوله؟

- انه يريد مصالحة معاوية و تسليم الخلافة اليه.

- لقد كفر اذن.

- انه يستحق الموت.

و عندما وقف الامام للصلاة اذا بسهم غادر ينطلق من مكان ما و لكن السهم يسقط لأن الامام الحسن قد احتاط بارتداء درع تحت ثيابه..لقد كان الامام يدري بان هناك من يخطط لاغتياله بعد ما وعد معاوية الكثيرين بجوائز مغرية..

و حاول أحاهم فيما بعد طعنه بخنجر أثناء الصلاة. [197] .

و بعد أن تعددت محاولات الاغتيال استدعي الامام بعض الزعامات التي يعرف طريقة تفكيرها و قال لهم بعد ان اتضح لديه غباؤهم:

- «ويلكم، والله ان معاوية لايفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي و اني أظن ان وضعت يدي في يده فأسالمه لم يتركني أدين بدين جدي، و اني اقدر أن أعبد الله عزوجل وحدي..

ثم اردف و كأنه يقرأ صفحات الغد القادم:

- «و لكن كأني أنظر الي أبنائكم واقفين علي أبواب

ابنائهم يستسقونهم و يستطعمونهم بما جعل الله لهم فلايسقون و لا

[ صفحه 200]

يطعمون، فبعدا و سحقا لما كسبته أيديهم و سيلعم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون».

ان سرعة الانهيار و التمزق لم تبق لأحد أذنا صاغية و أصبح العراقيون أمة مبعثرة ممزقة تعصف بهم الريح من كل مكان».

و حز في قلب الحسن أن يري الباطل جبهة متماسكة قوية ثم يلتفت الي جبهته فيراها خاوية علي عروشها، و لم تكن هذه المحنة وليدة اليوم انما تعود الي مهزلة التحكيم و ربما أبعد من ذلك بكثير الي تلك السقيفة التي أفرزت ثقافة جديدة في الحكم غير ثقافة يوم الغدير الخالد.

و رأي الامام الحسن أن خيار الحرب في هذه الفترة سيكون مغامرة عسكرية متهورة و ستفضي الي نتائج و خيمة لايعرف مداها التخريبي الا الله عزوجل.

و رأي الكوفة في مهب اعصار فيه نار..اعصار مجنون مترع بأحقاد قديمة ربما تعود الي بدر و أحد و حنين، لقد ظهر أعداء الاسلام القدامي من الطلقاء و أبناء الطلقاء ليثأورا من رسالة الاسلامي التي قضت علي امتيازاتهم.

و حاول الامام أن يبين لكل من يستاءل عن سياسته و فلسفة مواقفه ازاء الحرب و السلام فأمر مرة أخري بالاجتماع للصلاة فوقف خطيبا في الجموع قائلا:

...والله ما يثنينا عن أهل الشام شك و لاندم، و انما كنا نقاتل

[ صفحه 201]

أهل الشام بالسلامة و الصبر، فشيبت السلامة بالعداوة و الصبر بالجزع، و كنتم في مسيركم الي صفين و دينكم أما دنياكم، و أصبحتم اليوم و دنياكم أمام دينكم، ألا و قد اصبحتم بين قتيلين قتيل بصفين تبكون عليه و قتيل بالنهروان

تطلبون بثأره، و أما الباقي فخاذل».

ان أمر محنة تواجه القائد عندما يري الطابور الخامس يتضخم حتي لم يعد بمقدور أحد أن يعرف حدوده انه موجود في كل مكان من الكوفة بل و في العراق بأسره..

لقد أطلعه الوفد علي رسائل خطيرة من زعماء الكوفة و رؤساء بعض القبائل و كلها تعرض علي معاوية «السمع و الطاعة و يتبرعون له بالمواعيد، و يتخذون عنه الايادي، و يستحثونه علي المسير نحوهم، و يضمنون له تسليم الحسن عند دنوهم من عسكره أو الفتك به» [198] .

لقد تمعن في خطوط الرسائل و تأكد من تواقيع اصحابها، ان الظروف لاتسمح له بفضح هذه المؤامرات الدنيئة ولذا أعرض عن كل ذلك ليخاطب شعبه بكل ما فيه من عناصر الانحطاط ويضعهم أمام الحقيقة وجها لوجه؛ ان العراق يقف أمام امتحان صعب كالذي وقفه بصفين قبل أعوام فقل لهم بكل أمانة و أخلاص:

[ صفحه 202]

-«ألا و ان معاوية دعانا لأمر ليس فيه عزو لانصفة فان أردتم الموت، رددناه عليه و حاكمناه بظبات السيوف، و ان اردتم الحياة قبلنا و أخذناه بالرضا».

و تمر اللحظات مصيرية وانعكست في عيون الحاضرين الرغبة في الحياة بأي ثمن و لذا ارتفعت الاصوات من كل مكان:

- «البقية..البقية» [199] .

و هكذا اتضح للكثيرين بالرغم من وجود بعض المتحمسين للحرب انه لايمكن مواجة جيش الشام المنظم بقوات مهزومة نفسيا و انه لاأمل بالنصر أبدا بل لاأمل بالدفاع عن الكوفة.

و أحدث الخوارج الفوضي في المعسكر خاصة و أنهم يرون اسنباحة كل من يخالفهم في أفكارهم و حصلت حوادث نهب بل وصلت الفوضي درجة مهدت للبع الهجوم علي الامام؛ فاستدعي الامام قبيلة

«همدان» و «ربيعة» و أحدق به رجال من القبلتين لحمايته من أية عملية اغتيال.

و رأي الامام أن يغادر المكان خاصة و أن هناك من يخطط لاغتياله أو خطفه و تسليمه الي معاويشة ليقتله أسيرا أو يطلق سراحه و في كل هذا العار الذي ليس فوقه عار و الهزيمة المرة.

و في منعطف تكثر فيه الاشجار انطلقت صيحة غادرة و اذا

[ صفحه 203]

أحد الخوارج يهاجم الامام لاغتياله [200] .

و جرح الامام جرحا بليغا فنقل الامام الي المقصورة البيضاء للمعالجة.

هل أصاب الكوف مس من الجنون بالأمس اغتالوا أباه و اليوم ارادوا اغتياله ان المعايير قد تغيرت و لاشك، ان الكوفة تنسلخ عن هويتها انها تبيع دينها من أجل دنياها و هي لاتدري انها تفعل ذلك من أجل دنيا الآخرين و سوف تكتشف هذه الحقيقة المرة بعد فوات الأوان.

و غمرت الحيرة الجموع في المدائن، لايعرف فيها المرء عدوة من صديقه و سادت حالة اللاحرب و اللاسلام.

و دخل رجل جهني علي الامام و هو يعاني من آلام الطعنة الغادرة قال له:

- يابن رسول الله! ان الناس متحيرون.

فقال الامام بمرارة قائد يحارب بلاجنود:

- و الله أري معاوية خيرا لي...هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة ابتغوا قتلي و انتهبوا ثقلي و أخذوا مالي، و الله لئن آخذ من معاوية عهدا أحقن به دمي و آمن به علي أهلي و شيعتي خير لي من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي».

[ صفحه 204]

لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتي يدفعوني اليه سلما..

و الله لئن اسالمه و أنا عزيز أحب من أن يقتلني و أنا أسير أو يمن علي

فتكون سبه علي بني هاشم الي آخر الدهر..».

و ادرك الجهني معاناة الامام الذي وجد نفسه وحيدا كربان في سفينة سكر ملاحوها أو غرقوا في سبات عميق فيما الامواج المجنونة تهاجمها بعنف.

الخيار رقم صفر

و ارسل الامام سفيرين لاستماع عروض معاوية في السلام و يبدو ان سبط النبي صلي الله عليه وآله وسلم اختار رجلين أحدهما يمثله و عو عمرو بن سلمة الهمداني فهذه القبيلة و قفت الي جانب الشرعية عن ولاء للمبادي ء أما الآخر فكان يمثل بشكل عام الروح العامة للكوفة في تلك الايام و هو محمد بن الاشعث الكندي؛ جنوح نحو الحياة المادية، و المنافع السطحية، و بعد مفاوضات قام بها وفود متبادلة وقع الطرفان علي وثيقة السلام التي تضمنت بنودا اساسية:

1- يقوم الامام الحسن بن علي بالتنازل عن الحكم الصالح معاوية بن أبي سفيان علي أن يلزتم الأخير بالعمل بالقرآن الكريم و سنة النبي الأكرم صلي الله عليه وآله وسلم و سيرة الخلفاء الصالحين.

2- ليس من حق معاومية أن يعهد بالخلافة الي أحد بعده بل يكون الأمر شوري بين المسلمين.

[ صفحه 205]

3- الأمن و العفو العام و عدم ملاحقة الأفراد بسبب مواقف سابقة.

4- يتعهد معاوية بعدم التآمر علي الامام الحسن و أخيه الحسين و الا يخيف أحدا من أهل البيت عليهم السلام [201] .

و بعد توقيع اتفاقية السلام بدأ الامام يستعد للعودة الي النخيلة و منها الي الكوفة، و كان معاوية الذي اصبح خليفة عاما بقوة الحديد و النار هو الآخر يستعد لدخول الكوفة دخول الفاتحين.

و تفجرت ازمة جديدة عندما وصلت الانباء المدمرة الي قيس بن سعد الذي ظل ساهرا حتي الصباح يفكر فيما عساه أن

يفعل؟

أن من أصعب الأمور في حياة الأحرار رؤيتهم انتصار الباطل و غلبته و تراجع الحق، و لهذا خطب في جنوده في ذلك الصباح الكئيب يحيطهم لما بالكارثة فهتف بحزن مرير:

- اختاروا احدي اثنتين: اما قتال بغير امام، و امام أن تبايعوا بيعة ضلال!

و في فورة الحماس الذي غمر الجنود علت هتافات ملتهبة:

-«بل نقاتل».

و كان علي معاوية أن يعالج الموقف المتفجر قبل أن يتحرك نحو النخيلة و من ثم الاستعداد لدخول الكوفة رسميا.

[ صفحه 206]

و لذا أرسل الي قيس علي وجه السرعة رسالة تضمنت سؤالا وحيدا؟

«علي طاعة من تقاتل؟ و قد بايعني الذي أعطيته طاعتك»

و أرفق بالرسالة ورقة بيضاء لشروطه..

و واجه قيس لحظات مزلزلة أن روحه تأبي الاستسلام و لكن عقله الآن يضعه أمام حقيقة مرة أن مواجهة معاوية تعني الانتحار و ادرك حينئذ مرارة الامام الحسن و هو يضطر الي الصلح.

و بعد معركة داخل الاعماق المضطرمة بالثورة انتصر العقل المضي ء و امسك قيس بريشته ليسطر شرطا وحيدا: الأمن لجنوده.

و عندما طالبه معاوية بالبيعة رفض قيس قائلا: لقد عاهدت الله الا ألقي معاوية الا و بيننا الرمح و السيف.

و لم يتأخر معاوية في التحرك صوب النخيلة، فتحرك و قد حفت به كتائب من جيشه تضم مسلمين و مسيحيين، و انسحبت القوات المرابطة في المدائن و مسكن، و في النخيلة حيث اللقاء التاريخي بين الامام الحسن و معاوية تقابلا وجها لوجه و انتهز معاوية الفرصة و طالب قيس باللقاء و البيعة و لكن قيس كرر رفضه معلنا: لا والله لاتلقاني الا و بيني و بينك السيف و الرمح، و ابتسم معاوية

ابتسامة مكر و أمر باحضار سيف و رمح ثم وجه اليه من يدعوه و يخبره.

[ صفحه 207]

و اردك قيس ان معاوية لن يتركه حتي يبايع، فوافق علي الحضور.

و كانت لحظات عصيبة عندما كان قيس يتجه صوب خيمة معاوية الوضيع الذي اصبح بين ليلة وضحاها حاكما علي الامة الاسلامية، و اصطف العراقيون ينظرون الي قائد الطليعة مقهورا فسمعوه يردد كلمات الأسي و التأنيب: استبدلتم الذل من العز و الكفر من الايمان فاصبحتم بعد ولاية أميرالمؤمنين و سيد المسلمين كسره معاوية عندما هتف بصفاقة:

- أتبايع يا قيس؟

والتفت قيس صوب سيدة و قائده بالأمس و قال بصوت خافت يقطر حزنا.

- أفي حل أنا من بيعتك؟

فأجاب سبط آخر الانبياء؟

- نعم.

و أطرق قيس بعد أن بسط كفه فوق فخذه فقفز معاوية من علي سريره يمسح بيده فيما اعتصم قيس بالصمت، وقد دهش الحرس الشامي لاباء و شجاعة أنصارالحسن.

الكوفة تنتظر و ان كان لكل اسبابه الخاصة به فهذه أمرأة

[ صفحه 208]

تترقب عودة زوجها و تلك أم تنتظر عودة ابنها و أطفال خرجوا الي أطراف المدينة يتطلعون الي عودة آبائهم، و قد خيم حزن غامض منذ أن وصلت انباء التوقيع علي السلام حتي أولئك الذين ناصروا معاوية في فترة الصراع عجزوا عن أصفاء مسحة الفرح علي المدينة بالرغم من الضوضاء التي أحدثوها لاستقبال معاوية الظافر و المنتصر.

أجل الكوفة في حالة من الحزن و قد يري المرء فيها ابتسامة الشامت فالخوارج و ان كانوا يمقتون معاوية لكنه لم يخفوا شماتتهم بأهل البيت بعد انتصار عدوهم اللدود، و لذا نري بعضهم يحاول اظهار نقمته علي

الحسن و يحمله مسؤولية ما حصل، و في غمرة كل ذلك لايعدم أن يري تفاؤلا من الناس البسطاء بعودة السلام الي البلاد التي ارهقتها حروب أهلية مدمرة، و السلام يتعبه رخاء و الرخاء هدف انساني و حلم جميل.

ولذا هبت الكوفة بأسره لتستمع الي خطاب معاوية التاريخي الذي سيلقيه من فوق منبر علي!

و دخلت كتائب الشام و رأي الاطفال لأول مرة الوجوه الشقر التي تختلف عن وجوه آبائهم السمراء.وافتتح معاوية عهد بأن جلس علي المنبر ليسجل أول مخالفة لسنة النبي صلي الله عليه وآله وسلم و ثقافة الاسلام التي تلزم الخطيب بالوقوف. [202] .

[ صفحه 209]

و قد أهمل التاريخ فيما يبدو خطابه فسجل الفقرات الهامة فيه:

-أما بعد فانه لم تختلف أمة بعد نبيها الا غلب باطلها حقها، و انتبه معاوية الي فلتته فاردف علي الفور:

- «الا هذه الأمة، فان حقها غلب باطلها.

وكشر معاوية عن أنيابه ليظهر علي حقيقته و هتف:

- يا أهل الكوفة أترونني قاتلتكم علي الصلاة و الزكاة و الحج و قد علمت أنكم تصلون و تزكون و تحجون! لكني قاتلتكم لاتأمر عليكم و قد آتاني الله ذلك و أنتم كارهون.

ألا و ان كل دم أصيب في هذه الفتنة مطلول، و كل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين! و قد رآني أهلا للخلافة و لم ير نفسه فسلم الامر الي!! و لايصلح الناس الا ثلاث اخراج العطاء عند محله، و اقفال الجنود لوقتها و غزو العدو في داره، فان لم تغزوهم غزوكم.

و لم يترك معاوية هذه الفرصة فنال من علي و نجله الحسن. [203] .

و تحلي الامام الحسن بالصبر و اعتصم بالصمت

تاركا أهل الكوفة يكتشفون حقيقة الانسان الذي خدعوا به....أجل سوف

[ صفحه 210]

يكتشفون ذلك و لو بعد حين..

و كان عمرو بن العصا يراقب و فسر صمت الامام بانه ضعف بسبب ما يعانيه من مرارة الهزيمة فاقترح علي معاوية أن يطلب من الحسن القاء خطابه بهذه المناسبة ليتخذ الصلح صفة رسمية لدي الأمة، و كان معاوية يتوجس خيفة من خطاب الامام البليغ و لكن عمرو اقنعه بان الهزيمة التي حلت به صوف تعقد لسانه و انه ليس لديه ما يقوله في هكذا مناسبة!

و نهض الامام باتجاه منبره و منبر والده بالأمس فاعتلي درجاته ليقف شامخا وسط الجوع و قد شع وجهه بنور سماوي و نطق فاذا كلماته ترن في سمع التاريخ و ذاكرة الاجيال.

- «ايها الناس ان الله هداكم بأولنا وحقن دماكم بآخرنا، و ان لهذا الأمر مدة، و الدنيا دول.

قال الله عزوجل لنبيه محمد صلي الله عليه وآله وسلم: (ان أدري أقريب أم بعيد ما توعدون انه يعلم الجهر من القول و يعلم ما تكتمون و ان أدري لعله فتنة لكم و متاع الي حين)

و انفجر البركان بركان الحقيقة فوق المنبر المقهور:

- و ان معاوية زعم لكم اني رأيته للخلافة أهلا و لم أر نفسي أهلا فكذب معاوية.

نحن أولي الناس بالناس في كتاب الله عزوجل و علي لسان نبيه.

[ صفحه 211]

و لم نزل - أهل البيت - مظلومين منذ قبض الله نبيه، فالله بيننا و بين من ظلمنا، و توثب علي رقابنا، و حمل الناس علينا، و منعنا سهمنا من الفي ء، و منع أمنا ما جعل لها رسول الله، و

أقسم بالله لو أن الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله، لاعطتهم السماء قطرها و الأرض بركتها و لما طمعت فيها يا معاوية.فلما خرجت من معدنها، و تنازعتها قريش بينها فطمع في الطلقاء و أبناء الطلقاء، أنت و أصحابك، و قد قال رسول الله: ما ولت أمة أمرها رجلا و فيهم من هو أعلم منه، الا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتي يرجعوا الي ما تركوا.

فقد ترك بنو اسرائيل هارون و هم يعلمون انه خليفة موسي فيهم، و اتبعوا السامري، و تركت هذه الأمة أبي و بايعوا غيره و قد سمعوا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول له: انت مني بمنزلة هارون من موسي الا النبوة، و قد رأوا رسول الله نصب أبي يوم غديرخم، و أمرهم أن يبلغ أمره الشاهد الغائب.

و هرب رسول الله من قومه و هو يدعوهم الي الله، حتي دخل الغار، و لو وجد أعوانا لما هرب.

كف أبي يده حين ناشدهم و استغاث فلم يغث، فجعل الله هارون في سعة حين استضعفوه و كادوا يقتلونه، و جعل الله النبي في سعة حين دخل الغار و لم يجد أعوانا.

و كذلك أبي و أنا في سعة من الله حين خذلتنا هذه الأمة،

[ صفحه 212]

و انما هي السنن و الامثال يتبع بعضها بعضا».

ما يزال الصمت مهيمنا..أي انسان هو الحسن أي قائد وحيد يعلن بصوت هار ادانة لعصره الذي خذله في قضيته العادلة.

وقف التاريخ مشدوها يسجل كلماته الخالدة التي تعبر عن حقيقة مقهورة محاصرة:

- «فو الذي بعث محمدا بالحق، لاينتقص من حقنا - أهل البيت - أحد الا نقصه الله من عمله، و لاتكون علينا دولة

الا و تكون لنا العاقبة و لتعلمن نبأه بعد حين».

البركان ما يزال يواصل ثورته و قد بدأت حممه تتساقط فوق معاوية الذي تضاءل حتي أصبح جرذا مذعورا انه الآن وجها لوجه أما نجل سيد البلاغة في تاريخ العرب:

- ايها الذاكر عليا! أنا الحسن و أبي علي، و أنت معاوية و أبوك صخر، و أمي فاطمة و أمك هند، و جدي رسول الله و جدك عتبة بن ربيعة، و جدتي خديجة و جدتك فتيلة؛ فلعن الله أخملنا ذكرا، و الأمنا حسبا و شرنا قديما و حديثا، و أقدمنا كفرا و نفاقا».

و حدث مالم يتوقعه أحد عندما علت هتافات مجلجلة:

- آمين..آمين..آمين.

و خيل لبعض الحاضرين انه سمع أصوات آمين ترددها الملائكة و الناس أجمعون بل و قوافل الاجيال عبر التاريخ...

[ صفحه 213]

أجل، آمين أيها القائد المقهور انم تنازلك عن حقك و من أجل الحفاظ علي وحدة أمة جدك و من أجل حماية الناس الطيبين في المدينة التي خذلت يعد ادانة صارخة لعصرك.أو ادانة لكل الذين خذلوك و الذين باعوك بثمن بخس دراهم معدودة....

أجل آمين يا سيدي يا سبط آخر الانبياء في تاريخ الانسان سوف تعض الكوفة أصابع الندم حين اكتشفتك و حين اكتشفت حقيقة عدوك..و ستدفع ثمن ذلك ندما طويلا.و قفل الامام عائدا الي منزله يستعد للرحيل و العودة الي مدينة جده النبي صلي الله عليه وآله وسلم.

و بدأت مشاعر الذل تخامر الكثيرين من سكان الكوفة عندما رأوا مدينتهم اشبه بالمدن المحتلة و هي التي كانت بطلة الفتوح أكثر من ثلاثين سنة ثم اصبحت عاصمة الاسلام خمس سنين و ما تزال خطب علي تملأ فضاء الكوفة و

قد يمتد صداها عبر الزمان الي ما شاء الله.

لماذا يا سبط النبي

تركت خطوة الامام الحسن مرارة في قلوب المؤمنين صحابة و تابعين خاصة لدي الذين يعرفون حقيقة معاوية و يستشرفون سياسته المعادية لمبادي ء الدين و الانسانية، و قد سجل التاريخ النزر القليل من حوار الامام مع اولئك الزعماء

[ صفحه 214]

الابطال الذين كانوا يرفضون الظلم و يأبون حياة الذل، و كان من الطبيعي أن تبقي حواراتهم جزء من الاسرار الخطيرة التي كانت تكلفهم ثمنا غاليا أقله حياته الشخصية، فكان حجر بن عدي مثالا في وعي الكارثة التي حلت بالعالم الاسلامي، و لذا نراه يقول للامام بمرارة و لوعة: «أما و الله لوددت أنك متن في ذلك اليوم و متنا معك و لم نر هذا اليوم».

فقال له السبط: ليس كل انسان يحب ما تحب، و لارأيه كرأيك و اني لم أفعل الا ابقاء عليكم و الله تعالي كل يوم هو في شأن» [204] .

و يقول السبط في جوابه لعدي بن حاتم الطائي:

- «يا عدي! اني رأيت هوي معظم الناس في الصلح، و كرهوا الحرب فلم أحب أن أحملهم علي ما يكرهون، فرأيت دفع هذه الحروب الي يوم ما فان الله كل يوم في شأن».

و يقول لآخر: اني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض، فأردت ان يكون للدين ناعي».

و يقول لأحد زعماء الشيعة في الكوفة (بشير الهمداني):

- «ما أردت بمصالحتي الا أن أدفع عنكم القتل» [205] .

[ صفحه 215]

و يبدو أن بعضهم و قد رأي الحسين حزينا يعتصره الألم لهذه النهاية الفجعية التي ألمت بالاسلام فرأي فيها اعتراضا علي خطوة أخيه في أمضاء

السلام و ربما عرض بعضهم عليه فكرة قيادة الشيعة ضد معاوية و لكنه رفضها علي الفوز لنفس المبررات التي دفعت أخاه و شقيقه الي السلام الذي يبدو للوهلة الأولي هزيمة و لكنه في لغة الصراع مجرد انسحاب و تراجع أملته ظروف قاهرة.

و قبل الرحيل بأيام دخلت علي الامام الحسن اثنان من رجالات علي و من الذين وقفوا الي جانبه في محنته فقال الامام بعد حديث:

- «الحمد لله الغالب علي أمره، لو أجمع الخلق جميعا علي ان لايكون ما هو كائن ما استطاعوا».

أجل لقد كان ما حصل قدرا من أقدرا هذه الامة التي وقفت في صفين مترددة في الاختيار...الاختيار الحتم بين علي و معاوية بين مبادي ء الاسلام، و الانتهازية، و لكنها ارتكبت خطأ فادحا و مصيريا في مأساة التحكيم.

و أعرب أحدهما و هو المسيب بن نجبة الفزاري عن عميق حبه لأهل البيت فقال الحسين:

- يا مسيب نحن نعلم أنك تحبنا.

و قال الحسن مبشرا اياه:

[ صفحه 216]

- سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول: «من أحب قوما كان معهم».

و طلب المسيب من الامام البقاء في الكوفة فاعتذر له الامام قائلا:

- «ليس الي ذلك من سبيل» [206] .

وداعا أرض السواد

و في صبيحة يوم كئيب انتظمت قافلة أهل البيت تودع الكوفة.

و خرجت شرائح واسعة من سكان المدينة التي خلعت زي العواصم تودع خليفة الأمس و الرجل الذي ضحي بمجده الذاتي من أجل السلام و الأمن.

فلقد كان بتمكانه و هو يملك خزائن الدولة أن يرشي هذا و يشتري ذاك و ينفق من أجل الحرب كما فعل خصمه [207] و لكنه آثر السلام و أن يسلم

الزعامة السياسية الي من تكالبوا عليها و نجحوا في اغواء أمة بأسرها، فسلم الحكم ليبني عرشه في قلوب الأحرار و أصحاب المبادي ء...عرفوا كل ذلك في اللحظة التي جلس فيها معاوية علي منبر علي و قال: قاتلتكم لأتأمر عليكم و عرفوا ذلك

[ صفحه 217]

عندما سمعوه يعلن بوقاحة أنه سيضع كل شروط السلام تحت قدميه.وها هو الآن يغدر، فيطلب من أهل الكوفة الاستعداد لخوض الحروب مع الخوارج و شهدت الكوفة منذ ذلك التاريخ أول تمزق في النسيج الأخلاقي بعد أن ظهر للعيان التمزق في المشارب الفكرية بين صفوف القوات التي تحشدت في مسكن و في المدائن فبينا نجد مجاميع تشعق آل النبي صلي الله عليه وآله وسلم و تدين بالولاء لهم نجد آخرين ينظرون اليهم كما لو كانوا كفرة مشركين، و قد شجع الانتهازيون و ذوو الطموح التيار الثاني من أجل تحقيق المزيد من أهوائهم و أطماعهم، و سوف نجد ان هذا النسيج يستمر في التمزق الي أن ظهر بصورته البشعة في عاشوراء سنة 61 ه عندما نري الانتهازين بالأمس و قد أصبحوا قادة عسكريين لتنفيذ مجزرة ما عرف التاريخ لها نظيرا.

و دفع سكان الكوفة بعد عشرين سنة ثمن أخطائهم الاستراتيجية التي ارتكبوا يحق أهل البيت عليهم السلام.

و ما لنا نستبق الأحداث قبل وقوعها و نحن الآن في مطلع ربيع الثاني من سنة 41 ه حيث يستعد الامام الحسن للعودة الي مدينة جده الراحل.

و وسط آهات الناس الطيبين و دموع المخلصين انسابت القافلة لتغادر عاصمة علي، و فكر بعضهم بالهجرة الي المدينة المنورة ان الكوفة لم تعد وطنا لهم بعد أن غادرها القلب النابض

[ صفحه 218]

بالحب و السلام.

و مضت القافلة تطوي الفلاة الممتدة حتي اذا وصلت ديرا [208] بد من بعيد التفت الامام صوب الكوفة و لم يذكر غدرها و تخاذلها انما ذكر اصدقاءه المخلصين من الذين وقفوا الي جانبه في كل فصول الصراع فجاشت العاطفة الانسانية في أعماقه و قال بأسي:

و لان عن قلي فارقت دار معاشري

هم المانعون حوزتي و ذماري

و داعا أرض السواد..و داعا اصدقاء المحنة و داعا يا عاصمة الثورة و التحدي.

يوما سيولد جيل جديد...جيل يكتشف الحقيقة، و سيبحث عن علي من أجل العودة الي صفين و استئنائف الصراع من أجل تصحيح المسار.مسارالحضارة الاسلامية.

و أنت أيها السيد، ستبحث عنك المدن الخائفة..المدن الوحيدة كما تهددها طوفان الحرب و الدمار...و كلما لاحت في الأفق حمامات الدم..و داعا أيها السيد يا صوت السلام الذي همدت له طبول الحرب..

ربما تهيمن اصوات المدافع حينا من الزمن و لكن البقاء لخرير الجداول...لذلك الصوت الهادي ء الرقيق.

[ صفحه 219]

و داعا سوف تكتشف الاجيال و ستدرك مجدك...

يوما ما يعرف العالم حجم تضحيتك..ان ثروات الشرق الأوسط كلها لاتغتال توازنك...روح اسمي لأنها جذوة من روح محمد...محمد الذي تجلي من خلاله ناموس الوجود.

ان جيلك الذي اختار معاوية هو الذي يتحمل مسؤوليته أما التأريخ و الحضارة.دعهم أيها السيد يمدون أيديهم الي الشجرة المعلونة.

شجرة ظلالها ظلال و لمات و طلعها كأنه رؤوس الشياطين....

دعهم يجنون ثمارها المرة..

سوف تشهد الأجيال القادمة من رحم الأيامي علي مجدك...

لأنه مجد الانسان الذي صاغه أبوك محمد...وداعا يا سيدي...

هذه باقة ورد أقدمها بين يديك...و سلام عليك في العالمين.

[ صفحه 223]

ملحقات

النص الكامل لرسالة الامام الحسن الي معاوية

«من

الحسن بن علي أميرالمؤمنين، الي معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك فاني أحمد اليك الله الذي لا اليه الا هو.أما بعد فان الله جل جلاله بعث محمدا رحمة للعالمين، و منة للؤمنين، و كافة للناس أجمعين (لينذر من كان حيا و يحق القول علي الكافرين) [209] فبلغ رسالات الله و قام بأمر الله حتي توفاه الله غير مقصر و لا وان، و بعد أن أظهر الله به الحق و محق به الشرك، و خص به قريشا خاصة.فقال له: «و انه لذكرك لك و لقومك» فلما توفي تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته و أسرته و أولياؤه و لايحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد و حقه، فرأت العرب أن القول ما قالت قريش و ان

[ صفحه 224]

الحجة في ذلك لهم علي من نازعهم أمر محمد، فأنعمت لهم [210] و سلمت اليهم ثم حاججنا نحن قريشا بمثل ما حاججت به العرب فلم تنصفنا قريش انصاف العرب لها، انهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانصاف و الاحتجاج فلما صرنا أهل بيت محمد و أولياءه الي محاججتهم و طلب النصف [211] منهم باعدونا، و استولوا بالاجتماع علي ظلمنا و مراغمتنا [212] و العنت منهم لنا، فالموعد الله و هو الولي النصير.

و لقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا و سلطان بيتنا، و ان كانوا ذوي فضيلة و سابقة في الاسلام و أمسكنا عن منازعتهم مخافة علي الدين أن يجد المنافقون و الأحزاب [213] في ذلك مغمزا يثلمونه به، أو يكون لهم بذلك سبب الي ما أرادوا من افساده، فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية علي أمر لست من أهله.لابفضل في الدين

معروف،

[ صفحه 225]

و لاأثر في الاسلام محمود، و أنت ابن حزب من الأحزاب، و ابن أعدي قريش لرسول الله صلي الله عليه وآله وسلم و لكتابه، والله حسيبك، فسترد و تعلم لمن عقبي الدار، و بالله لتلقين عن قليل ربك ثم ليجزينك بما قدمت يداك، و ما الله بظلام للعبيد.

ان عليا لما مضي لسبيله - رحمة الله عليه يوم قبض، و يوم من اله عليه بالاسلام و يوم يبعث حيا - و لاني المسلمون بعده، فأسأل الله أن لايؤتينا في الدنيا لازائلة شيئا ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة، و انما حملني علي الكتاب اليك الاعذار فيما بيني و بين الله عزوجل في أمرك و لك في ذلك ان فعلته الحظ الجسيم، و الصلاح للمسلمين فدع التمادي في الباطل و ادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فانك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله و عند كل أواب [214] حفيظ و من له قلب منيب، و اتق الله ودع البغي، و احقن دماء المسلمين، فو الله ما لك خير في أن تلقي الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به وادخل في السلم و الطاعة و لاتنازع الأمر أهله و من هو أحق به منك ليطفي ء الله النائرة [215] بذلك و يجمع الكلمة، و يصلح

[ صفحه 226]

ذات البين، و ان أنت أبيت الا التمادي في غيك سرت اليك بالمسلمين فحاكمتك حيت يحكم الله بيننا و هو خير الحاكمين» [216] .

باقر شريف القرشي: حياة الامام الحسن: 56 -54.

[ صفحه 227]

مذكرة الامام الحسن

اشاره

اثر ارسال معاوية جواسيسه الي العراق

(أما

بعد: فانك دسست الي الرجال، كأنك تحب اللقاء، لاشك في ذلك فتوقعه ان شاء الله، و بلغني أنك شمت بما لم يشمت به ذوو الحجي [217] و انما مثلك في ذلك كما قال الأول:

فانا و من قد مات منا لكالذي

يروح فيمسي في المبيت ليغتدي

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضي

تجهز لأخري مثلها فكأن قد

جواب معاوية

(أما بعد: فقد وصل كتابك و فهمت ما ذكرت فيه، و لقد علمت بما حدث، فلم أفرح، و لم أحزن، و لم

[ صفحه 228]

أشمت، و لم آس [218] و ان عليا أباك لكما قال أعشي بني قيس بن ثعلبة [219] .

فأنت الجواد و أنت الذي

اذا ما القلوب ملأن الصدورا

جدير بطعنة يوم اللقا

يضرب منها النساء النحورا

[ صفحه 229]

و ما مزبد من خليج البحا

ريعلو الاكام و يعلو الجسورا [220] .

بأجود منه بما عنده

فيعطي الالوف و يعطي البدورا [221] .

باقر شريف القرشي: المصدر السابق: 46 -54.

[ صفحه 230]

النص الكامل لوثيقة السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

«هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب، معاوية بن أبي سفيان، صالحه لعي أن يسلم اليه ولاية أمر المسلمين علي أن يعمل فيهم بكتاب الله، و سنة رسوله، و سيرة الخفاء الصالحين، و ليس لمعاوية بن أبي سفيان ان يعهد الي أحد من بعده عهدا، بل يكون الأمر من بعده شوري بين المسلمين، و علي ان الناس آمنون حيث كانوا من ارض الله في شامهم و عراقهم و حجازهم و يمنهم، و علي ان اصحاب علي و شيعته آمنون علي انفسهم و أموالهم و نسائهم و أولادهم، و علي معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله و ميثاقه، و ما أخذ الله علي أحد من خلقه بالوفاء، و بما أعطي الله من نفسه، و علي أن لايبغي للحسن بن

[ صفحه 231]

علي، و لالأخيه الحسين، و لالأحد من أهل بيت رسول الله

صلي الله عليه وآله وسلم غائلة سرا و لاجهرا، و لايخيف أحدا منهم في أفق من الآفاق، شهد عليه فلان ابن فلان بذلك، و كفي بالله شهيدا» [222] .

باقر شريف القرشي: المصدر السابق: 228 -227.

[ صفحه 232]

رسالة عبدالله بن عباس للامام الحسن

و تتضمن اقتراحات خطيرة تكشف عن حجم التغيرات في نفسية المجتمع الاسلامي آنذاك:

«أما بعد: فان المسلمين و لوك أمرهم بعد علي عليه السلام فشمر للحرب و جاهد عدوك و قارب أصحابك، و اشتر من الظنين دينه بما لايثلم لك دنياه [223] و ول [224] أهل البيوت و الشرف تستصلح به عشائرهم حتي يكون الناس جماعة فان بعض ما يكره الناس ما لم يتعد الحق، و كانت عواقبه تؤدي [225] .

الي ظهور العدل و عز الدين خير من كثير مما يحبه الناس اذا كانت عواقبه تداعوا الي ظهور الجور و ذل المؤمنين و عز الفاجرين.

و اقتد بما جاء عن أئمة العدل فقد جاء عنهم أنه لايصلح

[ صفحه 233]

الكذب الا في حرب، أو اصلاح بين الناس فان الحرب خدعة [226] و لك في ذلك سعة اذا كنت محاربا ما لم تبطل حقا.

و اعلم أن عليا أباك انما رغب الناس عنه الي معاوية أنه آسي [227] بينهم في الفي ء و سوي بينهم في العطاء، فثقل عليهم، و اعلم أنك تحارب من حارب الله و رسوله في ابتداء الاسلام حتي ظهر أمر الله.فلما وحد الرب، و محق الشرك و عز الدين أظهروا الايمان و قرؤا القرآن مستهزئين بآياته، و قاموا الي الصلاة و هم كسالي و أدوا الفرائض و هم لها كارهون، فلما رأوا أنه لايعز في الدين الا

الأتقياء الأبرار توسموا بسيمي الصالحين ليظن المسلمون بهم خيرا فما زالوا بذلك حتي شركوهم في أماناتهم و قالوا حسابهم علي الله فان كانوا صادقين فاخواننا في الدين و ان كانوا كاذبين كانو بما ما اقترفوا هم الأخسرين، و قد منيت بأولئك و بأبنائهم و أشباههم، و الله ما زادهم طول العمر الا غيا، و لازادهم ذلك لأهل الدين الا مقتا فجاهدهم و لاترض دنية و لاتقبل خسفا [228] فان عليا أباك لم

[ صفحه 234]

يجب الي الحكومة حتي غلب علي أمره فأجاب و انهم يعلمون انه أولي بالأمر ان حكموا بالعدل فلما حكموا بالهدي رجع الي ما كان عليه حتي أتي عليه أجعله و لاتخرجن من حق أنت أولي به حتي يحول الموت دون ذلك و السلام [229] .

باقر شريف القرشي: المصدر السابق: 50 -49.

پاورقي

[1] ياقوت الحموي: معجم البلدان: 940:4 ط دار احياء التراث العربي لبنان 1399 ه.

[2] تاريخ الطبري حوادث سنة 17 ه.

[3] المصدر السابق.

[4] المصدر نفسه.

[5] تاريخ طبري: 4: 46 - 45 ط دار التراث لبنان.

[6] البلاذري فتوح البلدان ط القاهرة 1932 ص 227.

[7] فتوح البلدان: 523.

[8] تاريخ الطبري حوادث سنة 36 ه.

[9] كانت البصرة و الكوفة تدعي العراقين.

[10] حوار الامام علي مع ابن عباس.

[11] تاريخ اليعقوبي: 201:2.

[12] حياة الامام الحسن: 62:1 ط دار البلاغة 1993 لبنان.

[13] الشوري: الآية 23: (قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربي).

[14] الاحزاب: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت و يطهركم تطهيرا).

[15] البقرة: الآية 120.

[16] نور الابصار: 100.

[17] صحيح البخاري من كتاب بدء الخلق، صحيح الترمذي: 307:2.

[18] البداية و النهاية: 35:8.

[19] كنز العمال: 110:7.

[20] سنن الدارمي: 40:1.

[21] مسند

أحمد: 489:2.

[22] الامامة و السياسية: 12.

[23] شرح ابن أبي الحديد: 19:2 -134:1.

[24] أبوالنصر استاذ الأدب العربي في القاهرة: وسائل الشيعة و مستدركاتها: 31:1.

[25] توفيق أبوعلم - أهل البيت: 166.

[26] تاريخ ابن عساكر: 321:4.

[27] في ذي قار و هو يتأهب للزحف الي البصرة قال الامام لابن عباس ذلك!.

[28] راجع تفسير الطبري في تفسير الآية الكريمة: أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا.و الاستيعاب لابن عبدالبر: 62:2 في تأويل قوله تعالي: (يا أيها الذي امنوا ان جاءكم فاسق بنبا فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا علي ما فعلتم نادمين).

[29] طبقات ابن سعد 21:5.

[30] الامامة و السياسة: 1: 37-35.

[31] من يتأمل في صيغة الكتاب يلمس بوضوح ما يموج في نفسية مروان من دموية و وحشية.

[32] كان الوفد الذي قد وصل ايلة في اقصي شمال الحجاز.

[33] نيار بن عياض.

[34] تحركت بالفعل جيوش شامية بقيادة حبيب بن مسلمة الفهري و لكنها رابطت في منطقة الجرف قريبا من المدينة، و لم تتقدم اكثر بأوامر شخصية من معاوية، و عادت الي دمشق تحمل قميص عثمان!!.

[35] كان الامام علي علي علم تام باطماع طلحة السياسة و قد كان الأخير يهيأ نفسه لاستلام مقاليد الخلافة.و قد بلغ من اندفاعه انه صنع لخزائن الدولة مفاتيح جديدة؛ و ما يؤيد هذه النظرية أن أم المؤمنين عائشة، كانت في مكة عندما و صلتها انباء عن مصرع عثمان فقالت فرحة: بعدا لنعثل (عثمان) و سحقا ايه ذا الاصبع (طلحة) ايه أيا شبل! ايه ابن عم لله أبوك يا طلحة، فكأني انظر الي اصبعه و هو يبايع.

[36] هكذا سجل التاريخ تلك اللحظات.

[37] كان طلحة بن عبيدالله أول من بايع و أول من نكث البيعة.

[38] ستبقي بيعة الامام علي فريدة في تاريخ

الاسلام..فلم تكن فلتة كخلافة ابي بكر علي حد تعبيرعمر بن الخطاب نفسه، و لم تكن تعيينا في حالة اغماء كخلافة عمر..و لم تكن هوي كخلافة عثمان كما عبر عنها عبدالرحمن بن عوف مهندسها الأول.

[39] ان عبدالله بن عمر الذي رفض البيعة لعلي عليه السلام و هو أول من آمن بالرسالة نراه فيما بعد يبايع عبدالملك بن مروان في مشهد مذل فقد جاء الي الحجاج بن يوسف الجلاد المعروف ليبايع؛ و قد احتقره الحجاج و خاطبه بالاذلال:

لم لم تبايع أباتراب؟ و جئت تبايع آخر الناس لعبد الملك؟! انت احقر من أن امد اليك يدي...دونك رجلي فبايع..و نري عبدالله بن عمري يهوي علي رجل الحجاج و يبايع علي السمع و الطاعة!!.

[40] كانت الشعوب العربية في الشمال الافريقي في عهد الادراسة و الفاطميين تحتفل في يوم 18 ذي الحجة و تعده جزة من الأعياد الاسلامية الكبري فهو اليوم الذي كمل فيه الدين و تمت النعمة، ثم نسي شيئا فشيئا و ما يزال اتباع مذهب أهل البيت: يتخذون من يوم الغدير عيدا في كل من العراق و ايران و الهند و الباكستان و سوريا و لبنان.

[41] كقوله عليه السلام: «اللهم اني استعديك علي قريش و من اعانهم فانهم قطعوا رحمي و اكفؤوا انائي، و اجتمعوا علي منازعتي حقا كنت أولي به من غير و قالوا:

- ألا ان في الحق أن تأخذه و في الحق أن تمنعه..فاصبر مغموما أو مت متاسفا.

فنظرت فاذا ليس لي رافد و لاذاب و لامساعد الا أهل بيتي فضنت بهم عن المنية، فاغضيت علي القذي و جرعت ريقي علي الشجا و صبرت من كظلم الغيظ علي امر من العلقم، و آلم للقلب من و خز الشفار».و المقطع الأخير يكشف عن

عمق الآلام التي تجرعها الامام في تلك الحقية من الزمن.

[42] لقد عاش علي انسانا و مات انسانا و لهذا خلدته الانسانية.

[43] أن في بقاء مروان بن الحكم حرا طليقا في المدينة يكشف عن روح العهد الجديد في تحمله «الآخر» حتي لو كان نقيضا.

[44] ان المرة ليكاد يصعق و هو يشاهد الزبير بن العوام بماضيه المشرق مع مروان بن الحكم في جهة واحدة.

[45] كان الامام علي عليه السلام يعمل في حفر الآبار و العيون قبل الخلافة و استمر بعدها، و لم تغير الخلافة من حياته شيئا، و قد أوقفها جميعا علي الحجاج و المؤمنين، و هذه قائمة باوقافه:

- عين البيحر - عين جبير - عين خفيف ليلي - عين خيف بسطاس - بئر الملك - عيون المدينة - عين ابي نيزر - وادي قرعة قريبا من فدك - عين نولا - البغيبغة - أرينة.

[46] يكشف اسلوب الخطاب عن عدم اعترافهم بعلي كأمير للمؤمنين كما هو الحال في خطاب الوليد بن عقبة.

[47] خشي عمار من أن يلعب الأمويون بزعامة مروان بمشاعرها و جرهما الي تفجير الوضع مع الامام و هو ما حصل بعد ذلك.

[48] يقول عليه السلام: «انهم ليطلبون حقا هم تركوه و دما هم سفكوه..فلئن كنت شريكهم فيه فان لهم لنصيبهم منه، و لئن كانوا ولوه دوني فما التبعه الا عندهم..و ان اعظم حجتهم لعلي انفسهم...يرتضعون اما قد فطمت.. يحيون بدعة قد اميتت..ياخبية الداعي من دعا! و الام أجيب!!!.

[49] اقترح عبدالله بن عباس علي الامام أن يخرج معه أم سلمة زوج النبي صلي الله عليه وآله لتقوية موقفه و لكن الامام رفض ذلك قائلا:

- لاأري اخراجها من بيتها كما رأي الرجلان اخراج عائشة.و كانت أم سلمة من أكثر أزواج النبي صلي

الله عليه وآله اخلاصا للامام عليه السلام: و قد دختل في جدل مع عائشة حول العواقب الوخيمة التي سترتب علي تمردها و حمايتها للناكثين و اعلانها الحرب.

[50] أبوموسي الأشعري.

[51] بالقرب من انقاض مدينة فارسية قديمة و تعرف اليوم بمحلة الزبير حيث يوجد قبر طلحة.

[52] البيعة التي سبقت صلح الحديبية سنة 6 ه.و تعرف بيعة الشجرة.

[53] سأل رسول الله صلي الله عليه وآله الزبير ذات يوم في احدي المناسبات: التحب عليا؟ فقال الزبير: و ما يمنعني من حبه و هو ابن خالي!! فقال النبي صلي الله عليه وآله اما انك سنخرج عليه يوما و انت ظالم.

و كان الامام علي يقول: ما زال الزبير منا أهل البيت حتي شب ابنه المشؤوم.

[54] و في هذا خاطب الامام أهل البصرة منتقدا اياهم: «كنتم جند المرأة و اتباع البهيمة رغا فاجبتهم و عقر فهربتم، اخلاقكم دقاق و عهدكم شقاق و دينكم نفاق و ماؤكم زعاق».

و قد وصل تقديس بعضهم للجمل أنه كان يشم بعره قائلا: لريح بعره جمل امنا عائشه اطيب من المسك!!.

[55] بدأت المعركة في منتصف النهار و انتهت قبيل الغروب.

[56] محمد بن أبي بكر أمه اسماء بنت عميس الخثعمية زوجة جعفر الطيار بمؤتة تزوجها أبوبكر فانجبت له محمدا فتزوجها بعد وفاة أبي بكر و كان محمد بومها صغيرا فتربي في احضان علي عليه السلام و كان يقول فيه:

محمد ابني ولكنه من صلب أبي بكر؛ استشهد في مصر علي أيدي عملاء معاوية و احرق جثمانه.

[57] أغتاله مروان الذي يري أن قاتل عثمان الحقيقي طلحة، و قد اطلق باتجاهه سهامه قائلا:

اينما اصابت فتح.

[58] صفوان بالقرب من الحدود الكويتية.

[59] لاذ مروان بن الحكم بالحسن و الحسين و صفح عنه الامام؛ كما صفح عن عبدالله بن الزبير بالرغم من

شتائم لأخير للامام قبيل المعركة.

[60] قال عبدالله بن عباس (رض): دخلت علي أميرالمؤمنين عليه السلام ب (ذي قار) - المنطقة التي توقف فيها الامام منتظرا الامدادات الحربية القادمة من الكوفة - و هو يخصف نعله فقال لي: ما قيمة هذا النعل، فقلت: لاقيمة لها فقال عليه السلام: و الله لهي احب لي من امرتكم، الا أن اقيم حقا، أو أدفع باطلا، ثم خرج الامام فخطب في الحشود العسكرية.

[61] تحول طلحة في أواخر عمره الي شخصية عنيفة ترفض الحوار؛ يدل علي ذلك طريقته في حل الازمة مع عثمان، و حواره مع عمار عقيب تولي الامام مهام الخلافة و توجيه الامام لعبد الله بن عباس عندما بعثه الي زعماء الناكثين و فتح باب الحوار معهم يقول الامام: «لاتلقين طلحة، فانك ان تلقه تجده كالثور عاقصا قرنه؛ يركب الصعب و يقول هو الذلول..و لكن الق الزبير فانه الين عريكة فقل له..».

[62] تصغير عدو.

[63] يجتاحه احساس بالالم و المرارة.

[64] 14 كانون الثاني 657 م.

[65] من يتأمل في نهج البلاغة و هو يضم آثار الامام يلمس بوضوح نهج الامام في محاولة اعادة الروح الي الضمير المسلم من خلال تجسيد سنة النبي صلي الله عليه وآله قولا و عملا.

[66] كتاب الا علي: 209.

[67] اجتمع معاوية بأركان اسرته لتدارس الوضع فاقترح عتبة أخوه عليه استدعاء ابن العاص قائلا: استعن علي امرك بعمرو بن العاص.و كان الأخير مقيما في مقاطعاته في فلسطين.

[68] كان الامام يدرك منذ الأيام الأولي للأزمة أن معاوية انما يطمح للخلافة.

[69] الأخبار الطوال، ص 157.

[70] سرعان ما لبي بن العاص دعوة معاوية بل اصبحت الشام ملاذا لكل الطامعين في دنيا معاوية و الهاربين من وجد العدالة من ارباب السوابق و المجرمين.

[71] وقد صدق حدس

الامام اذ عاد الي الكوفة و هو يهول من قدرة أهل الشام و ضخامة قواتهم، و ما لبث جرير أن فر من الكوفة تحت جنح الظلام.

[72] محمد بن حذيفة عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، صحابي جليل القدر ولد في ارض الحبشة في عهد النبوة، استشهد أبوه في معارك اليمامة للقضاء علي مسيلمة الكذاب.

كان من ابرز المعارضين لسياسة عثمان، و هو صاحب القولة المشهورة يخاطب فيها جيوش الفتح الاسلامي قائلا: انا تركما الغزو و وراءنا - أي الجهاد ضد عثمان - القي معاوية القبض عليه و سجنه و فر من السجن و لكنه لقي مصرعه علي أيدي جلاوزة معاوية في مصر.

[73] فكر قسطنطين الثالث باستعادة سوريا و فلسطين مستغلا نشوب الحرب الأهلية و اندلاع الخلافات الداخلية، و بدأت حشود الرومان العسكرية بالتحرك، و اندفع معاوية الي بعد الحدود في الخنوع و الخيانة فلم يكتف باعادة الاسري الروم بل زاد علي ذلك تعهده في دفع أتاوة سنوية للقسطنطينية، كان من ضمنها تقديم ثمنمئة من الخيول العربية الاصيلة كل عام.

[74] الأخبارالطوال: ص 164.

[75] قال عمرو: «لست أري لك أن تدعو أهل الشام الي الخلافة فان في ذلك خطر عظيم، حتي تتقدم قبل ذلك بالتوطين للأشراف منهم....بأن عليا قتل عثمان، فانها كلمة جامعة لك اهل الشام.»

و لم يتوان معاويد في استثمار قميص عثمان لحظة واحدة؛ حتي يمكن لاقول أن معاوية لم يرتد قميص الخلافة الا بعد أن حصل علي ذلك القميص الملطخ بالدماء...

و لايملك الباحث من الأدلة المقنعة ما يمنعه من الاعتقاد باشتراك معاوية - و لو من وراء ستار - في التآمر علي قتل عثمان الذي بلغ من العمر عتيا!.

[76] توفي عمرو بن العاص

سنة 43 و لم يحكم مصر التي تهافت عليها سوي عامين و اشهر فخسر بذك دنياه أيضا و ذلك هو الخسران المبين.

[77] فر عبيدالله بن عمر بن الخطاب قاتل الهرمزان الي معاوية و لقي حتفه في صفين.

[78] كلمة مأثورة للامام علي عليه السلام.

[79] الحوادث التي انتهت بمصرع عثمان، و حتي استشهاد الامام علي عليه السلام.

[80] لم يكن ما حدث في صفين معركة عسكرية ضارية و أن بدت في هذا الاطار، و لم يكن صرعا سياسيا عنفا و أن اتخذ هذا الشكل الرهيب من الصراع..

انه تحول حضاري في مسار التاريخ الاسلامي أو تحول تاريخي في منحني الحضارة الاسلامية.

يقول المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي: «ان معركة مصفين في الواقع تمثل تذبذب المجتمع الاسلامي في الاختيار..الاختيار الحتم بين علي و معاوية...بين النظام الاسلامي الديمقراطي في المدينة و بين الحكم المستبد الغاشم في دمشق..

و لكن المجتمع الاسلامي و مع الأسف اختار الطريق الذي يؤدي به الي القابلية للاستعمار ثم الي الاستعمار / الفكرة الافروآسيوية: ص 111.

[81] نهج البلاغة: الخطبة 32.

[82] تبادل الطرفان العديد من الرسائل ورد بعضها في كتب التاريخ، و ضم نهج البلاغة العديد من رسائل الامام عليه السلام و هي توضع بما لايقبل الشك مدي انحراف معاوية و عناده.

[83] اشارة الي حديث النبي صلي الله عليه وآله: انا مدينة العلم و علي بابها.

[84] يقول الشريف الرضي: «و ابتداء هذا الكلام مروي عن رسول الله صلي الله عليه وآله و قد قفاه أمير المؤمنين عليه السلام بابلغ الكلام و تتمه باحسن تمام من قوله: «و لايجمعهما غيرك...» / نهج البلاغة.

[85] احد السبعين الذين بايعوا سيدنا محمد صلي الله عليه وآله في وادي العقبة قرب مكة.

[86] مكان في البادية علي طريق الشام.

[87] نهج البلاغة: الخطبة 48- و

قد عبر الامام عن نهر الفرات بالنطفة، و هذا ما جعل الشريف الرضي يعلق قائلا: بانها «من غريب العبارات و عجيبها».

[88] مدينة قديمة في وادي الرافدين ورد ذكرها في القرآن الكريم.

[89] يضم الوادي اطلال مدينة رومانية صغيرة بالقرب من ضفاف الفرات.

[90] بلغ تعدادها عشرة آلاف جندي.

[91] خرائب المدينة الرومانية.

[92] قال الوليد: امنعهم كما منعوه عثمان..اقتلهم عطشا...قتلهم الله و قال عبدالله بن سرح: امنعهم الماء الي الليل..لعلهم ينصرفوا الي طرف الغيظة، فيكون انصرافهم هزيمة.

[93] التي الجيشان في ربيع الثاني 37 ه - تموز / آب 657 م.

[94] شواطي ء الفرات.

[95] تذكر مصادر التاريخ أن جنود الطرفين كانوا يختلطون فيما بينهم في تلك المنطقة دون مشاكل و ربما تبادل بعضهم كلمات الود مع تمنيات في عدم وقوع الحرب و عودة السلام.

[96] قراء القرآن و كانوا طبقة محترمة آنذاك.

[97] جيش معاوية.

[98] كان وجود عمار بن ياسر في جبهة الامام علي قد شكل احراجا شديدا لمعاوية للحديث النبوي المشهور: عمار تقتله الفئة الباغية.

[99] بلغ من العمر الرابعة و التسعين.

[100] شخصية دموية و هو الذي اجتاح المدينة سنة 63 ه.

[101] جرت مبارزة فردية اذ خرج فارس مقنع من جيش الامام متحديا فخرج أبوه و هو لايعرفه و في اثناء الصراع عرف كل منهما الآخر و توقفا عن القتال.

[102] كان مركز القيادة فوق رابية مشرفة، و لم يشترك معاوية في المعارك طيلة الحرب مستعيضا بمولاه الحريث و كان يرتدي بزة معاوية موهما من يراه بأنه معاوية؛ و قد لقي حريث هذا مصرعه علي يد الامام بعد أن اغراه عمرو بن العاص بمبارزته.

[103] ظلت الحادثة موضع تندر لدي الفريقين أياما.

[104] قبائل ذات بأس.

[105] طرح مقاتلوها حجرا و قالوا: لانولي الدبر أو يولي معنا

هذا الحجر!.

[106] احدث استشهاده دويا في المعسكرين، و كان عمار ظامئا فطلب ماء فجاءته امرأة بقدح من لبن، فشرب منه مستبشرا وهتف:

اليوم القي الأحبة..محمد و حزبه..

واردف:

اخبرني رسول الله أن آخر رزقي من الدنيا صيخة لبن (مزيج من الحليب والماء) و قد استشهد عمار و هو في الرابعة و التسعين من عمره قضاه في الجهاد المستمر؛ و قد سبب استشهاده احراجا شديدا لمعاوية بعد أن وضح لكل ذي لب الباغي من الفريقين.

[107] سهل بن حنيف الأنصاري.

[108] نهج البلاغة: الخطبة 107.

[109] قبائل ربيعة.

[110] كنز العمال 348:10.

[111] تحول ميران المعركة لصالح أهل العراق بعد استشهاد عمار بن ياسر (رض).

[112] بشر به رسول الله صلي الله عليه وآله قبل رؤيته بقوله: ان خير التابعين رجل يقال له أويس، و تساءل السملمون عن هذ الرجل لم ير رسول الله بعد فقال صلي الله عليه وآله: يأتي عليكم أويس بن عامر مع امداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، و كان به برص فبرأ منه الا موضع الدرهم، له والدة هو بهابر لو اقسم علي الله لأبره..و التفت الي عمر ابن الخطاب فقال: «فان استطعت ان يستغفر لك فافعل.

ظهر أويس في زمن عمر و اختار الكوفة سكنا و عاش زاهدا عابدا...حتي اذا بويع الامام بالخلافة اذا بهذا التابعي الجليل ينتفض ليقف الي جانب علي..و كان الرجل رقم مئة من الذين بايعوا الامام علي الموت في صفين:

و عند ما هتف الامام معلنا بدأ الهجوم:

يا خيل الله اركبي و ابشري..

استل أويس سيفه و تقدم يقاتل الفئة الباغية فجاءه سهم غادر اصاب قلبه فهوي علي الأرض شهيدا / الاصابة: 117:1.

[113] صوت القوس و هو يشبه صوت الكلب دون نباح.

[114] كان علي لا يقتل أحدا الا كبر.

[115] كان

معاوية جاحظ العينين.

[116] رفع ما يقارب من خمسمئة مصحف! و علت هتافات في معسكر الشام تدعو الي السلام و وقف نزيف الدم!.

[117] يصف الامام تلك اللحظات الرهيبة بقوله:

فتداكوا علي تداك الابل الهيم، يوم وردها، و قد ارسلها راعيها و خلعت مثانيها حتي ظننت انهم قاتلي، أو بعضهم قاتل بعض لدي / نهج البلاغة الخطبة رقم 54.

[118] و في هذا يقول الامام: صاحبكم يطيع الله و انتم تعصونه، و صاحب أهل الشام يعصي الله و هم يطيعونه!

و تبلغ مرارة الامام الذروة عندما يقول: «لو ددت و الله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم و اعطاني رجلا منهم!».

[119] صلح الحديبية بين النبي و قريش سنة 6 ه.

[120] بعث سيدنا محمد صلي الله عليه وآله يوم الاثنين و صلي علي يوم الثلاثاء.

[121] «يقول عبدالله بن سلمة: رأيت عمارا يوم صفين شيخا كبيرا آدم طوالا أخذ الحربة بيده و يده ترعد و يقول: و الذي نفسي بيده لقد قاتلت هذه الراية مع رسول الله صلي الله عليه وآله ثلاث مرات و هذه الرابعة / البداية و النهاية،: 292.

[122] كل فساد كان في خلافة أميرالمؤمنين علي و كل اضطراب حدث فأصله الأشعث / ابن ابي الحديد 428: 1.

[123] قال الامام: انزلني الدهر حتي قيل معاوية و علي.

[124] سنة 38 ه.

[125] بدأ تيارا الخوارج بالظهور بعد لعبة رفع المصاحف مباشرة، و منذ تلك اللحظة بدأ أول تصدع عقائدي خطير في تاريخ الاسلام.

[126] من المؤسف اننا لم نجد لدي الضمير العربي المعاصر اهتماما يذكر بكارثة صفين فهي تمر بشكل عادي الي حد ما في مسار التاريخ؛ باستثناء ما يجده المرء لدي المفكر الراحل مالك بن نبي في كتابه «شروط

النهضة الجزائرية» عندما يجعل من سنة 38 منعطفا حضاريا في مسار التاريخ الاسلامي أو نقطة تحول كبري في طريق الحضارة الاسلامية.

[127] خطب الامام مرة فاعترض الاشعث علي بعض كلامه قائلا: يا أمير المؤمنين: هذه عليك لا لك.

فخفض الأمام عليه السلام اليه بصره و قال:

ما يدريك ما علي مما لي، عليك لعنة الله و لعنة اللاعنين! حائك ابن حائك!...منافق بن كافر!

و كشف الامام ماضيه التعيس:

و الله لقد اسرك الكفر مرة والاسلام آخري! فما فداك من واحدد منهما مالك و لاحسبك؛ و ان امرأ دل قومه السيف و ساق اليهم الحتف لحري أن يمقته الأقرب، و لا يأمنه الابعد.

و قد اشار الامام الي حوادث اليمامة عندما غدر الاشعث بقومه، باتفاقه مع خالد ابن الوليد، اذ غرر بقبيلته حتي أوقع بهم خالد، فسماه قومه «عرف النار» و هو لقب الغادر عندهم.

[128] عبدالله بن عمر بن الخطاب.

[129] الأخبار الطوال / أبوحنيفة الدينوري: ص 199.

[130] تحدث ابن عباس مع الأشعري علي انفراد قائلا:

ويحك يا أباموسي، أحسب و الله عمرا قد خدعك، فان كنتما قد اتفقتما علي شي ء فقدمه قبلك ليتكلم، ثم تكلم بعده فان عمرا رجل غدار، و لست آمن أن يكون قد اعطاك الرضي فيما بينك و بينه، فاذا قمت به في الناس خالفك.

و لم يزد الأشعري أن قال:

قداتفقنا علي أمر لايكون لأحدنا علي صاحبه فيه خلاف ان شاء الله!.

[131] صعد عمرو بن العاص المنبر كشر عن انيابه قائلا:

ان هذا قد قال ما سمعتم، و خلع صاحبه، ألا و أني قد خلعت صاحبه كما خلعه، و اثبت صاحبي معاوية.

فصاح أبوموسي، و قد شعر بالعار:

مالك لا وفقك الله، انما مثلك كثمل الكلب ان تحمل عليه يهلث أو تتركه يلهث.فرد ابن العاص ساخرا:

و

مثلك مثل الحمار يحمل اسفارا.

[132] الأبل المقصومة الظهر.

[133] لو كان يطاع لقصير أمر» مثل عربي.

[134] الشاعردريد بن الصمة.

[135] نهج البلاغة الخطبة: 40.

[136] شدد الامام مرة أخري علي رفضه مسألة التحكيم قائلا:

من دعا الي هذه الحكومة فاقتلوه و لو كان تحت عمامتي هذه، ثم فند شرعة النتائج التي تمخضت عن لقاء دومة الجندل:

الا ان هذين الرجلين الخاطئين اللذين اخترتموهما حكمين قد تركا حكم الله، و حكما يهوي انفسهما بغير حجة و لا حق معروف، فاماتا ما أحيان القرآن و احيا ما أماته...»

ثم اصدر أوامره بالاستعداد الاستئناف رحلة الجهاد ضد القاسطين:

فتأهبوا للجهاد و استعدوا للمسير و اصبحوا في عساكركم ان شاء الله / الطبري 43:6.

[137] ارتكب الخوارج جرائم يندي لها جبين لاانسانية، فلم يكتفوا بقتل الصحابي عبد الله بن خباب فعمدوا الي بقر زوجته و كانت حاملا فقتلوها مع جنين لم ير النور بعد، و قتلواامرأة اخري هي أم سنان الصيداوية.

[138] كانت التقارير قد أفادت بعبور الخوارج الجسر، فقال الامام: مصارعهم دون النطفة (النهر) و الله لايفلت منهم عشرة و لا يهلك منكم عشرة.

[139] عندما أراد الامام التحرك صوب «جسر النهروان» جاءه من يدعي العلم بالنجوم فقال: انك ان سرت يا أميرالمؤمنين في هذا الوقت، خشيت الا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم:

فاجاب الامام مستنكرا:

اتزعم انك تهدي الي الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء؟! تخوف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضر؟! فمن صدقك بهذا فقد كذب القرآن و استغني عن الاستعانة بالله في نيل المحبوب و دفع المكروه؛ و تبتغي في قولك للعامل بامرك أن يوليك الحمد دون ربه، لأنك - بزعمك - انت هديته الي الساعة التي نال فيها النفع و أمن

الضر!!! و التفت الامام الي جيشه وهتف: ايهاالناس اياكم و تعلم النجوم، الا ما يهتدي به في بر أو بحر، فانها تدعو الي الكهانة؛ و المنجم كالكاهن و الكاهن كالساحر و الساحر كالكافر و الكافر في النار؛ سيرا علي اسم الله.

[140] بدأ معاوية غاراته بتجريد حملة الي مصر بقيادة عمرو بن العاص، و في الوقت نفسه تمكن الاثنان من تدبير محاولة اغتيال ناجحة و تمت تصفية «الأشتر» و هو في طريقة لانقاذ مصر؛ و قد حاول محمد بن ابي بكر و الي مصر آنذاك الدفاع و لكنه خسر المعركة و القي القبض عليه في خربة مجردا من السلاح و قد بلغت وحشية معاوية بن خديج انه كان يتفنن في قتله و ادخل الشاب المؤمن في جوف حمار ثم اضرمت النار و هو ما يزال يحتضر..ان الحيوان المتوحش يأنف من ارتكاب هذه الفظائع، و قد تألم الامام لمصرعه علي هذا النحو المؤسف قائلا: «كان لي ربيبا و كان الي حبيبا».

[141] مع بداية عام 39 ه بدأ زمن الرعب عندما راح معاوية يشن الغارات التي تستهدف الاذلال و تمريغ الكرامة الاسلامية في الأوحال فقد:

- أغار النعمان بن بشير علي عين تمر.

- و اغار النعمان بن عوف علي هيت و الانبار و المدائن.وقام بعمليات نهب واسعة.

- و اغار عبدالله بن سعد علي تيماء.

- و اغار الضحاك بن قيس علي مناطق عديدة حددها معاوية، و أمر بقتل كل من يجده في طاعة علي أميرالمؤمنين.

- و تأتي غارة بسر بن ارطاة الجلاد المعروف لتشكل ذورة الارهاب، فقد اغار هذا الدموي علي المدينة و أجبر أهلها علي البيعة لمعاوية و هدم بعض الدور فيها، ثم النطلق الي مكة و منها الي اليمن

فارتكب مذبحة بحق الابرياء و اهتز الضمير الانساني لدي اقدام هذا المتوحش علي قتل طفلين صغيرين لالذنب سوي انهما ابنا عبيدالله ابن عباس، كما عرض الفتيات المسلمت للبيع في الأسواق / الطبري 81:6.

[142] طعنه الامام في نتائج التحكيم، انطلاقا من حيثيات الحكم ترك الحكمين للقرآن القاعدة الأساس في مسألة التحكيم نفسها يقول الامام: فلما ابيتم الا الكتاب اشترطت علي الحكمين أن يحييا ما احيا القرآن و أن يميتا ما أمات القرآن فان حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكما يحكم بما في القرآن، و أن أبيا فنحن من حكمها براء.

[143] حرس الحدود.

[144] الذمية.

[145] جرح.

[146] النخيلة منطقة تحشد عسكرية خارج الكوفة..و الحادثة مسجلة في نهج البلاغة.ك 261.

[147] عن سيدنا محمد صلي الله عليه وآله انه قال لعلي: «ان الامة ستغدر بك بعدي» / كنزل العمال 297: 11.

[148] آخر خطابات أميرالمؤمنين عليه السلام.

[149] اشارة الي الفقرة الأخيرة من الخطاب.

[150] بدأت الاستعدادات الحربية للعودة الي صفين..و تحركت الفراق العسكرية باتجاه «النخيلة» منطقة التحشد...حيث غادر الحسين عليه السلام الكوفة علي رأس عشرة الاف مقالت، و أعقبه قيس بن سعد علي رأس عشرة آلاف، و تلاهما أبوأيوب الانصاري علي عشرة آلاف مقاتل أيضا.

[151] كان يردد: انما هي ليال قلائل، و احب أن يأتي أمر الله و أنا خميص.

[152] الاعوجاج و الخصام.

[153] تصدي الامام بحزم الي الذين جعلوه الها، من دون الله! انه الجنون البشري الذي لم يتحمل وجود الانسان المثال فرفعه الي مصاف الا له!.

[154] نهج البلاغة: 187.

[155] ظل قبر الامام مجهولا حوالي قرن و نصف.

[156] في عام 255 ه اندلعت ثورة الزنوج في البصرة، و كان هؤلاء قد جلبوا من شرق افريقيا لاستصلاح الاراضي الزراعية في الأهوار جنوب العراق، و قد استمرت ثورتهم

حتي سنة 270 و خلال هذه الفترة التي تمتد الي 15 عاما وقعت عشرا المذابح و راح ضحيتها مئات الآلاف من الناس.

[157] تذكر بعض المصادر التاريخية انه وجد لوح خشبي عليه كتابات تعود الي لغة شعب عاش قبل الطوفان.

[158] كنز العمال 693: 13.

[159] قال نوف البكالي: «و عقد للحسين عليه السلام في عشرة آلاف، و لقيس بن سعد في عشرة آلاف و لأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف، و لغيرهم علي أعداد أخر و هو يريد الرجمة الي صفين..فما دارت الجمعة حتي ضربه الملعون ابن ملجم لعنه الله، فتراجعت العساكر، فكنا كأغنام فقدت راعيها، تتخطفها الذئاب من كل مكان..» / نهج البلاغة - هامش الخطبة: 182.

[160] الاصابة: 330:1، مسند أحمد: 44:5.

[161] باقر شريف القرشي: 2: 58-57 راجع الملحق رقم (1).

[162] يقول معاوية في وصف خصومه العراقيين: و «والله ما ذكرت عيونهم تحت المغافر بصفين الا لبس علي عقلي» المسعودي هامش ابن الاثير: 67:6.

[163] شرح النهج لابن أبي الحديد: 4: 72، 13، 5.

[164] الملحق رقم (2).

[165] المصدر السابق.

[166] المصدر نفسه.

[167] السيوطي في تاريخ الخلفاء: 156.

[168] ابن بكار، الموفقيات: 250.

[169] ابن سعد الطبقات: 53:3.

[170] المصدر نفسه: 96.

[171] الطبري: 398:4.

[172] البلاذري، انساب الاشراف: 26:5.

[173] الطبري: 289:4.

[174] المصدر السابق: 362.

[175] اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي: 156:2.

[176] السرخسي، المبسوط: 169:2.

[177] الطبري المصدر نفسه: 361:4.

[178] الزبير بن بكار، الاخبار الموفقيات، 335.

[179] باقر شريف: 63:2.

[180] المصدر السابق.

[181] باقر شريف: المصدر السابق: 68.

[182] شرح النهج: 13:4.

[183] معجم البلدان: 276:8.

[184] شرح النهج: 14:4.

[185] قيس بن سعد و سعيد بن قيس.

[186] باقر شريف القرشي، المصدر نفسه، 74:2.

[187] شرح النهج: 15:4.

[188] المصدر السابق: 28:4.

[189] باقر شريف: 144:2، مقاتل الطالبيين: 35.

[190] باقر شريف: 144:2، مقاتل الطالبيين: 35.

[191] الشيخ المفيد، الارشاد، 710.

[192] البحار:

114:10.

[193] اليعقوبي: 191:2.

[194] المصدر السابق.

[195] الطبري: 92:6.

[196] الاصابة: 12:2.

[197] ينابيع المودة: 292.

[198] اليعقوبي:191:2.

[199] باقر شريف المصدر نفسه: 2: 107 - 106.

[200] الارشاد: 170.

[201] الفصول المهمة: 125 (الملحق رقم 3).

[202] آل ياسين، صالح الحسين: 285 الهامش.

[203] شرح النهج: 16:4.

[204] مناقب ابن شهر آشوب: 169:2.

[205] الدينوري الاخبار الطوال: 203.

[206] شرح بن أبي الحديد: 6:4.

[207] راجع المحلق (4).

[208] دير هند يقع قريبا من الحيرة عاصمة المناذرة و هند هي بنت النعمان بن المنذر اختارت أن تكون راهبة فيه.

[209] يس: آية 70.

[210] أنعم له: أي قال له نعم.

[211] النصف: الانصاف.

[212] راغمهم: نابذهم و عاداهم.

[213] الأحزاب: هي التي تحزبت علي قتال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم من قريش و غطفان و بني مرة و بني أشجع و بني سليم و بني أسد في غزوة الأحزاب و هي غزوة الخندق و كان قائدهم العام أباسفيان و ذلك في السنة الخامسة من الهجرة.

[214] آب الي الله رجع عن ذنبه و تاب فهو أواب مبالغة.

[215] النائرة: العداوة و البغضاء.

[216] شرح ابن أبي الحديد: 12:4.

[217] الحجي: العقل و الفطنة.

[218] لم آس: اي لم أحزن و ذكر ابن كثير في البداية و النهاية أن معاوية أظهر الحزن و الأسي و لاتوجع بمقتل الامام أقول:

أولا: لايتفق مع ما ذكره معاوية من عدم حزنه بموت الامام.

و ثانيا: انه لايتفق مع سيرة معاوية و عدائه السافر للامام الذي جعل سبه فريضة من فرائض الاسلام و تتبع شيعه و اصحابه فقتلهم تحت كل حجر و مدر.

[219] أعشي بني قيس: هو الأعشي الكبير اسمه (ميمون) بن قيس ولد بقرية باليمامة يقال لها منفوحة و فيها داره و قبره يو قال انه كان نصرانيا و هو أول من سأل بشعره: وفد الي مكة يريد

النبي صلي الله عليه وآله وسلم و قد مدحه بقصيدة أولها:

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

و بت كما بات السليم مسهدا

و منها:

أجدك لم تسمع و صاة محمد

نبي الا له حين أوصي و أشهدا

اذا أنت لم ترحل بزاد من التقي

و لاقيت بعد لاموت من قد تزودا

ندمت علي ألا تكون كمثله

و أنك لم ترصد بما كان أرصدا

فلقيه أبو سفيان في الطريق فأخبره بقصته فجمع له مائة من الابل ورده عن قصده فلما صار بقاع منفوخة رمي به بعيره فقتله و من شعره:

قد يترك الدهر في خلقاء راسية

و هيا و ينزل منها الأعصم الصدعا

و كان شي ء الي شي ء ففرقه

دهر تعود علي تفريق ما جمعا

الخلقاء: لاصخرة الثابتة.

الأعصم: الذي في يده بياض.الصد.الفتي من الوعول جاء ذلك في معجم الشعراء للمرزباني (ج 2 ص 401).

[220] مزبد: مشتق من أزبد البحر ازبادا فهو مزبد (بالتحريك) و هو كالرغوة.الاكام: جمع أكمة كقصبة و هي التل.

[221] البدور: جمع مفرده بدرة كوردة و هي كيس فيه ألف أو عشرة آلاف درهم أو سبعة آلاف دينار.

[222] الفصول المهمة لابن الصباغ ص 145، كشف الغمة للأربلي ص 170.

[223] الظنين: المتهم.و يروي (و استر من الظنين ذنبه بما لايثلم دينك).

[224] و في رواية (و استعمل) و في أخري (و وال).

[225] وفي رواية (تدعو).

[226] الحرب خدعة: مثلثة الخاء، و بضمهان مع فتح الدال أي تنقضي بخدعة.

[227] آسي: أي سوي.

[228] خسفا: اي ذلا.

[229] شرح ابن أبي الحديد: 8:4، رسائل جمهرة العرب: 1:2.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.