الامام الحسن بن علي عليهما السلام

اشارة

المولف:مجله حوزه
الناشر:مجله حوزه

اهداء

اليك يا ابن رسول الله
اليك يا سيد شباب أهل الجنة
اليك يا من وصفه رسول الله بالسيادة
اليك يا ابن فارس الاسلام
اليك يا ابن سيدة نساء أهل الجنة
اليك يا خامس الراشدين
اليك يا سيدي الامام الحسن بن علي
أشراف باهداء هذه الدراسة
و كلي أمل من ربي - جل جلاله - أن يتقبلها

[ صفحه 9]

تقديم

سيدنا الامام الحسن هو: أبومحمد الحسن بن علي بن أبي‌طالب بن عبدالمطلب بن هاشم، و أمه السيدة فاطمة الزهراء بنت سيدنا و مولانا رسول الله، محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم، ولده عبدالمطلب مرتين، كما ولد هاشم أباه عليا مرتين، فكان له ذلك الشرف العظيم الذي يتيه به علي الأجيال.
و كان امامنا العظيم أول مولود ذكر في أشرف بيت عربي، عريق في النسب و العزة، فألقته الزهراء البتول - عليهماالسلام - الي الحياة، في منتصف رمضان، ثلاث انقضت من الهجرة، فأشرقت الوجوه استبشارا، و انطلقت الحناجر حمدا و شكر لله تعالي.
و كان جده المصطفي صلي الله و عليه و سلم قد بشر به قبل ولادته، أخرج البغوي في معجمه، و ابن الأثير في أسد الغابة، و ابن‌عساكر في تاريخه، و الامام أحمد في مسنده عن جابر، أن أم‌الفضل امرأة العباس بن عبدالمطلب قالت: يا رسول الله، كأن عضوا من أعضائك في بيتي، فقال صلي الله و عليه و سلم: «خير رأيتيه، تلد فاطمة غلاما فترضعيه بلبن قثم، فولدت فاطمة الحسن، فأرضعته بلبن قثم».
هذا وقد عق سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم عن حفيده الحسن بن علي، بنفسه فذبح كبشا، أخرج الامام أحمد عن عبدالله بن بريدة قال: سمعت أبي يقول:

[ صفحه 10]

ان رسول الله صلي الله عليه و سلم عق عن الحسن والحسين»، و عن الامان جعفر الصادق - شيخ علماء الأمة - قال: عق رسول الله صلي الله عليه و سلم عن الحسن بيده، و قال: بسم الله عقيقة عن الحسن، و قال: «اللهم اجعلها وفاء لمحمد و آل محمد»، و في رواية: عق عنه بكبشين أملحين، و أعطي القابلة فخذا و دينارا، و قال: يا فاطمة احلقي رأسه، و تصدقي بزنة شعره فضة، و أجري صلي الله عليه و سلم له الختان في اليوم السابع من ولادته.
و لا ريب في أن نسب سيدنا الامام الحسن، انما هو أعظم نسب في الدنيا، و كفي الامام الحسن - و شقيقه الامام الحسين - فخرا، أن جدهما سيد ولد آدم، محمد رسول الله صلي الله عليه و سلم، و أن أباهما أميرالمؤمنين، الامام علي بن أبي‌طالب، كرم الله وجهه في الجنة، و أن أمهما سيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء، بضعة رسول الله صلي الله عليه و سلم، و أن جدتهما السيدة خديجة بنت خويلد، صديقة النساء، و من أقرأها جبريل السلام من ربها، و أن عمهما جعفر الطيار، و عم أبيهما حمزة بن عبدالمطلب، أسد الله و أسد رسول الله، و سيدالشهداء، وجدهما أبوطالب ناصر رسول الله صلي الله عليه و سلم و المدافع عنه، و المتحمل الأذي في سبيله، وجد أبيهما عبدالمطلب شيبة الحمد، جد النبي صلي الله عليه و سلم و سيد البطحاء، وجد جدهما هاشم، معطم الحجيج، و هاشم الثريد، و سيد قريش.
أخرج عبدالرازق في مصنفه، و الطبراني في معجمه، و ابن‌عساكر في تاريخه، و الحاكم في مستدركه عن ابن‌عباس قال: صلي رسول الله صلي الله عليه و سلم صلاة العصر، فلما كان في الركعة الرابعة، أقبل الحسن و الحسين، حتي ركبا علي ظهره، فلما سلم وضعهما بين يديه، و أقبل علي الحسن فحمله علي عاتقه الأيمن، و الحسين علي عاتقه الأيسر، ثم قال: «أيها الناس، ألا أخبركم بخير الناس جدا وجدة، ألا أخبركم بخير الناس عما و عمة، ألا أخبركم بخير الناس خالا و خالة، ألا أخبركم بخير الناس أبا و أما، الحسن و الحسين، جدهما رسول الله، وجدتهما خديجه بنت خويلد، و أمهما فاطمة بنت رسول الله، و أبوهما علي بن أبي‌طالب، و عمهما جعفر بن أبي‌طالب، و عمتهما أم‌هاني‌ء بنت أبي‌طالب

[ صفحه 11]

و خالهما القاسم بن رسول الله، و خالاتهما، زينب و رقية و أم‌كلثوم، بنات رسول الله، وجدهما في الجنة، و أبوهما في الجنة، و أمهما في الجنة، و عمهما في الجنة، و عمتهما في الجنة، و خالاتهما في الجنة، و هما في الجنة، و من أحبهما في الجنة».
و يعلق الشيخ ابن‌طلحة هذا الحديث الشريف بأن الله شرف الحسن و الحسين بما لم يشرف به أحد غيرهما، فهما سبطا النبي صلي الله عليه و سلم و ريحانتاه، و سيدا شباب أهل الجنة، جدهما سيد الأنبياء و المرسلين محمد رسول الله صلي الله عليه و سلم، و أبوهما الامام علي، و أمهما الطاهرة البتول فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم، و هكذا كان نسبهما تتضاءل عنده الأنساب، فالحسن و الحسين، عليهماالسلام، دوحة الفضل و النبوة التي طالبت فرعا أو أصلا، و شعبة الرسالة التي سمت رفعة و نبلا، قد اكتفها العز و الشرف، ولازمهما السؤدد، فماله عنهما منصرف.
هذا و قد نشأ الامام الحسن في بيت الوحي، و تربي في مدرسة النبوة، و شاهد جده المصطفي صلي الله عليه و سلم الذي هو أكمل انسان ضمه هذا الوجود، جمع الناس علي كلمة التوحيد، و توحيد الكلمة، فتأثر الحسن السبط بذلك كله، و انطلق يسلك خطي جده النبي صلي الله عليه و سلم، و يهتدي بهديه.
و بدهي أن امامنا الحسن بن علي، انما قد تأثر كذلك بأمه السيدة فاطمة الزهراء، فلقد كانت سيدة النساء أهل الجنة، تعني كثيرا بولديها، الحسن و الحسين، لأنها كانت تخاف عليهما من مستقبل جائر، يصفه جدهما صلي الله عليه و سلم، و هو الذي لا ينطق عن الهوي، كما كانت شديدة التعلق بهما، حتي أنها كثيرا ما كانت تضطرب، اذا ما فارقاها، أو انصرفا عن البيت الي جدهما صلي الله عليه و سلم أو أبيهما، فهي كانت تلازمهما لتنشي‌ء فيهما المعرفة و الآداب النبوية، و لتحليهما بالعادات و التقاليد التي تنفق و مكانة سبطي رسول الله صلي الله عليه و سلم، كما هو معروف، فان التربية الحقة انما تبدأ في عهد الأمومة، حيث يمارس الولد المحبة و الطاعة و المحافظة علي الواجبات و الحقوق، و من ثم فقد بدأت الزهراء، عليهاالسلام، تغرس تعاليم بيت النبوة في ولديها، لتجعلهما صافي النفس، و لتصرفهما بكليتيهما الي

[ صفحه 12]

السماء، فينشأ الواحد منهما مجبولا علي طبائعها، فضلا عما أوتيه من شبه بها و بجده النبي صلي الله عليه و سلم و بأبيه الامام علي، كرم الله وجه في الجنة،
و هكذا عملت الزهراء علي تنشأتهما النشأة الصالحة، كسبطين لرسول الله صلي و الله و آله و سلم، و ولدين للامام علي المرتضي، سلام عليهم أجمعين، و هكذا رغم قصر الفترة التي عاشها الامامان الحسن و الحسين في حضانة الزهراء، فقد جعلتهما متمرسين بفكرة الله والدين، و لا عجب من أن يكون الحسنان كذلك، فقد ربيا و نشآ في ظل رجلين و امرأة، هم أعظم من أظلت السماء.
و ما أن ينتقل النبي و الزهراء الي الرفيق الأعلي، حتي أصبحا الحسنان في كنف الامام علي، فكان لهما نعم الأب، و نعم الموجه، كما كان في نفس الوقت نعم القدوة الحسنة، كان دائم السهر علي راحتيهما، يشملهما برعايته، و يتعهدهما بحبه، و يشرح لهما الأمور بفصاحته، و يزودهما بمعارفه، و يطلعهما علي ما طوي صدره من علم و حكمة، و يهتم بهما أشد الاهتمام، خاصة و هو يري حوله أوضاعا مزعزعة، و أحقادا مستعرة
و تمر الأيام و يكبر الامام الحسن، و يصبح هو - و أخوه الامام الحسين - عيني أبيهما الامام علي، و يشاركه الرأي، و يكون معه في يوم الجمل، في ميمنة الجيش، و أخوه في الميسرة، و الراية بيد الأخ الثالث - محمد بن الحنفية - و كان الامام علي يقذف بمحمد، و يكف عن الحسن و الحسين، فقيل لمحمد: لم يغرر بك أبوك في الحرب، و لا يغرر بأخويك؟ فأجاب: انهما عيناه، و أنا يمينه، فهو يدفع عن عينيه بيمينه، و هكذا كان الحسن من أركان الحرب عند أبيه، و من أمراء جيشه، و هو منه ساعد قوي، و معوان عظيم، فالامام يزحف و أولاده من حوله، يشدون أزره، و يسندون ظهره، و كلهم ليث قاصم الضربة، و هكذا أصبح الامام الحسن شريك أبيه في أمره، يدعو و يثبط، و ينقض و يبرم، و كعبه علي كعبه، الي الجمل فصفين فالخوارج فالنهروان، لأنه موضع ثقة أبيه.
و تمضي الأيام، و ينتقل الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، الي الرفيق الأعلي، و يختار الناس ولده الامام الحسن أميرا للمؤمنين بعده، و سواء أكان

[ صفحه 13]

ذلك بوصية من الامام علي، فيما تري الشيعة، أو باختيار الناس، فيما يري أهل السنة، فان البيعة - كما يقول ابن العربي في العواصم و القواصم - للامام الحسن منعقدة، و هو أحق من معاوية بن أبي‌سفيان و من كثير غيره، و كان خروجه لمثل ما خرج اليه أبوه من دعاء الفتنة الي الانقياد للحق، و الدخول فيه.
و تروي المصادر أن الامام الحسن قد خطب بعد وفاة أبيه أميرالمؤمنين علي بن أبي‌طالب، فقال: «لقد قبض الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل، و لا يدركه الآخرون بعمل، و لقد كان يجاهد مع رسول الله صلي الله عليه و سلم فيقيه بنفسه، و لقد كان يوجهه برايته، فيكتنفه جبريل عن يمينه، و ميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتي يفتح الله عليه، و لقد توفي في الليلة التي عرج فيها بعيسي بن مريم، و توفي فيها يوشع بن نون، وصي موسي، و ما خلف صفراء و لا بيضاء، الا سبعمائة درهم بقيت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادما لأهله»، ثم حنقه العبرات فبكي و بكي الناس، ثم قال: «أيها الناس من عرفني فقد عرفني، و من لم يعرفني فأنا الحسن بن علي، و أنا ابن النبي، و أنا ابن البشير النذير، و أنا ابن الداعي الي الله عزوجل باذنه، و أنا ابن السراج المنير، و أنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، و أنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم علي كل مسلم، فقال تعالي لنبيه صلي الله عليه و سلم «قل لا اسألكم عليه أجرا الا المودة في القربي، و من يقترف حسنه نزد له فيها حسنا»، فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت».
و هكذا تضمن خطاب الامام الحسن دعوة الناس الي مبايعته، و قد كانت دعوة رائعة، بكل ما للروعة من معني، فهو قد عرف الناس - و هم يعرفون - أنه ابن النبي، و ابن الداعي الي الله، و ابن السراج المنير، و أنه الان رأس البيت الذي أذهب الله عنه الرجس و الأباطيل، و من ثم فهو أحق الناس بالخلافة بعد أبيه، فبابعة الناس، و كان أول من بايع قيس بن سعد الأنصاري.
و هكذا أصبح الامام الحسن خامس الراشدين، رغم أن كتب التاريخ انما اعتادت علي أن تقدم لنا الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز، علي أنه خامس

[ صفحه 14]

الراشدين، و نحن - مع تقديرنا العظيم للخليفة الزاهد و الحاكم و العادل، المحب لآل البيت [1] - نري أن ذلك خطأ تاريخي و ديني، فلقد تحققت بالامام الحسن و عليه معجزة جده سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم في قوله الشريف «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا عضوضا»، و صدق سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم، و صدقت معجزته، فكان للامام الحسن منها قرابة ستة أشهر تتميما لها، أو سبعة أشهر واحد عشر يوما، فيما يروي ابن‌عساكر، و من ثم فالامام الحسن هو خامس الراشدين، حيث كملت الثلاثون بخلافته، فلقد نزل عن الخلافة لمعاوية بن سفيان في ربيع الأول سنة احدي و أربعين، و ذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلي الله عليه و سلم، فانه توفي في ربيع الأول سنة احدي عشرة من الهجرة، و هذا من دلائل النبوة، و معجزات الرسول صلي الله عليه و سلم، و من ثم فقد كانت آخر ولاية الحسن - كما يقول ابن خلكان - تمام ثلاثين سنة من أول خلافة أبي‌بكر الصديق.
ثم هناك معجزة أخري للنبي صلي الله عليه و سلم تحققت بحفيده الحسن و عليه، ذلك أن من أبرز مناقب الامام الحسن ظهورا، و أبعدها أثرا في حياته، و في حياة أمة الاسلام بأسرها في ذلك الحين، هو زهده في الامارة، و كراهيته للعلو في الدنيا، شأنه في ذلك شأن أبيه العظيم الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، لم

[ صفحه 15]

يكن له أي هوي في تحمل أمر المسلمين، فقد بايعه الناس - كما بايعوا أباه من قبل - علي غير رغبة منه و رضي، و من ثم فقد سعت اليه الخلافة، و هو الجدير بها، و لم يسع اليها، و اضطر الي قبولها حتي لا يصير أمر الناس الي فوضي، و تظهر عظمة ابن رسول الله صلي الله عليه و سلم في أوجها، و تبرز من أعماق نفسه القوة الكامنة في أروع صورها، حين دانت له العراق و ماوراءها من خراسان، و اجتمعت له الكتائب أمثال الجبال، كما يروي البخاري، و مع ذلك لم تغلبه نفسه، و لم تفتنه الامارة، و لم تخدعه الدنيا باقبالها و سلطانها، فتنازل عنها لمعاوية، زهدا فيها، و كراهية المنازعة عليها، و ما قد يجره ذلك من سفك الدماء، و تفرق الكلمة، و ما أصدقه حين يقول: «أيها الناس ان الأمر الذي اختلفت فيه، أنا و معاويه، انما هو حق أتركه لاصلاح الأمة، و حقن دمائها.»
و ليس هناك من ريب في أن الحديث الشريف الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي‌بكرة، قال: سمعت النبي صلي الله عليه و سلم علي المنبر، و الحسن الي جانبه، ينظر الي الناس مرة، و اليه مرة، و يقول: «ان ابني هذا سيد، و لعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين»، انما قد وقع من نفس الامام الحسن موقعا عظيما، و قد ذكره حين ثارت الفتنة، و قد اجتهد في مواطن و أوقات متعددة أن يصلح بين هاتين الفئتين من المسلمين، فيحقق نبوة جده المصطفي صلي الله عليه و سلم، و من ثم فقد كان هذا الحديث بالذات من أهم الأسباب التي دفعت الامام الحسن الي قبول الصلح مع معاوية، و بذلك فقد تحققت فيه و به معجزة أخري لجده المصطفي صلي الله عليه و سلم، و أصلح الله به بين فئتين من المسلمين.
و هذا و سيدنا الامام الحسن - كواحد من أهل بيت النبي صلي الله عليه و سلم - انما قد أكرمه الله تعالي، بكل ما أكرم به أهل بيت، و بالتالي فهو واحد من هؤلاء الطاهرين و المطهرين الذين جاءت في حقهم آيتا الاحزاب (56، 33) و آية الشوري (23) و غيرها، فضلا عن الأحاديث الشريفة التي جاءت في فضائل أهل البيت، تحض المسلمين علي مودتهم و موالاتهم، و تنفر من بغضهم و كراهيتهم، بل و تعلن أن حب آل النبي من حب النبي صلي الله عليه و سلم، و أن بغضهم من

[ صفحه 16]

بعضه، و أنه لا أمل لمن يكره آل النبي في رضائه صلي الله عليه و سلم في الدنيا، و في شفاعته في الآخرة.
و كان سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم يحب الحسن كثيرا، روي البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب، قال: رأيت النبي صلي الله عليه و سلم و الحسن بن علي، علي عاتقه يقول: «اللهم اني أحبه فأحبه»، و روي الامام أحمد و الروياني و ابن‌عساكر عن أبي‌بكرة قال: كان رسول الله صلي الله عليه و سلم يصلي بالناس، فاذا سجد وثب الحسن علي ظهره أو علي عنقه، فرفع رأسه فيضعه وضعا رقيقا لئلا يصرع، فعل ذلك غير مرة، فلما قضي صلاته ضمه اليه، و جعل يقبله، فقالوا: يا رسول الله انك لتفعل بهذا شيئا ما رأيناك تفعله بأحد، فقال: «ان ابني هذا ريحانتي في الدنيا، و ان ابني هذا سيد، و سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين».
و أخرج الحافظ ابن‌كثير و الترمذي بسنده عن ابن‌عباس قال: خرج رسول الله صلي الله عليه و سلم و هو حامل الحسن علي عاتقه فقال له رجل: يا غلام نعم المركب ركبت، فقال رسول الله صلي الله عليه و سلم: «و نعم الراكب هو».
و بعد: فالله أسأل أن يكون في هذه الدراسة بعض النفع، ولله العزة و لرسوله و للمؤمنين، «و ما توفيقي الا بالله عليه توكلت و اليه أنيب».
و صلي الله علي سيدنا و مولانا و جدنا محمد رسول الله، و علي آله الطيبين الطاهرين، و الحمدلله حمدا يليق بجلاله، و يقربنا الي مرضاته سبحانه، ليتفضل علينا - بمنه و كرمه - فيقبلنا عنده في أمة سيدنا محمد صلي الله عليه و سلم، عبادا لله قانتين، و تابعين للنبي الأمي الكريم، و بأخلاقه مقتدين، انه سميع قريب مجيب الدعوات، رب العالمين.
مكة المكرمة في 12 ربيع الأول عام 1407 ه.
14 نوفمبر عام 1986 م.
دكتور محمد بيومي مهران
الاستاد بكلية الآداب - جامعة الاسكندرية و كلية الشريعة - جامعة أم القري بمكة المكرمة

[ صفحه 17]

في رحاب النبي

مولد الحسن

تتفق المصادر، أو تكاد، علي أن الامام الحسن انما ولد في الخامس عشر من رمضان من العام الهجري الثالث (15 فبراير 624 م) في المدينة المنورة، و امامنا الحسن هو فلذة كبد سيد البشر مولانا محمد رسول الله صلي الله عليه و سلم، و ريحانة قلب المصطفي، و شبيه جده الرسول المجتبي، و قرة عين الزهراء سيدة نساء العالمين، و ابن الامام علي، و هو أميرالمؤمنين، سبط رسول الله صلي الله عليه و سلم و سيد شباب أهل الجنة، أبومحمد الحسن بن علي بن أبي‌طالب بن عبدالمطلب بن هاشم، و أمة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم، و هو أكبر أولادها، أخبر رسول الله صلي الله عليه و سلم بولادته قبل أن يولد، فلقد أخرج البغوي في معجمه، و ابن‌الأثير في أسد الغابة، و ابن‌عساكر في تاريخه، و الامام أحمد في مسنده، عن جابر، أن أم‌الفضل امرأة العباس بن عبدالمطلب قالت: يا رسول الله كأن عضوا من أعضائك في بيتي، فقال صلي الله عليه و سلم: «خير رأيتيه، تلد فاطمة غلاما فترضعيه بلبن قثم، فولدت فاطمة الحسن فأرضعته بلبن قثم». هذا وقد اختلفت الروايات في سبب تسمية الحسن و الحسين باسميهما، فلقد روي أبونعيم الأصفهاني في «حيلة الأولياء» عن سودة بنت سرج قالت: كنت ممن حضر فاطمة حين ضربها المخاض فأتانا رسول الله صلي الله عليه و سلم فقال: كيف هي؟ كيف هي؟ ابنتي فديتها، قلنا انها لتجهد، قال: فاذا وضعت فلا تحدثي شيئا حتي

[ صفحه 18]

تؤذنيني، قالت: فلما وضعته سررته و لففته في خرقة صفراء، فجاء رسول الله صلي الله عليه و سلم فقال: ما فعلت ابنتي فديتها؟ و حالها؟ و كيف هي؟ قلت يا رسول الله، قد وضعت غلاما، و أخبرته بما صنعت، فقال: لقد عصيتني، قلت: أعوذ بالله، من معصية الله و رسوله، سررته يا رسول الله، و لم أجد من ذلك بدا، فقال: ائتني به، فأتيته به، فألقي عنه الخرقة الصفراء، و لفه في خرقة بيضاء، و تفل في فيه، و أرضعه بريقه، ثم قال: ادعي لي عليا فدعوته فقال: ما سميته يا علي، فقال سميته جعفرا، قال: لا، لكنه حسن، و بعده حسين، و أنت يا علي أبوالحسن و الحسين، و في لفظ: و أنت أبوالحسن الخير.
وفي رواية للطبراني و الامام أحمد، و ابن أبي‌شيبة و ابن جرير و ابن‌حبان و الحاكم و الدولابي في كتابه «الذرية الطاهرة» أنه صلي الله عليه و سلم سمي الأول حسنا، فلما ولد الثاني سماه حسينا، فلما ولد الثالث سماه محسنا، و قال: اني سميتهم بأسماء ولد هارون: شبر و شبير و مشبر.
و أخرج الطيالسي في مسنده و الامام أحمد في مسنده، و ابن عبدالبر في الاستيعاب، والهيثمي في مجمع الزوائد و البزار و الطبراني، عن هاني‌ء بن هاني‌ء عن علي، قال: لما ولد الحسن سميته حربا، فجاء رسول الله صلي الله عليه و سلم فقال: أروني ابني ما سميتموه؟ قال قلت: حربا، قال: بل هو حسن، فلما ولد الحسين سميته حربا، فجاء رسول الله صلي الله عليه و سلم فقال: أروني ابني ما سميتموه؟ قالت قلت: حربا، قال بل هو حسين، فلما ولد الثالث سميته حربا، فجاء النبي صلي الله عليه و سلم فقال: أروني ابني ما سميتموه؟ قلت: حربا، قال: بل هو محسن، ثم قال: سميتهم بأسماء ولد هارون: شبر شبير و مشبر.
و أخرج الامام أحمد و الهيثمي و أبويعلي و البزار و الطبراني عن محمد بن علي عن علي قال: لما ولد الحسن سماه حمزة، فلما ولد الحسين سماه بعمه جعفر، قال: فدعاني رسول الله صلي الله عليه و سلم فقال: اني أمرت أن أغير اسم هذين، فقلت: الله و رسوله أعلم، فسماهما: حسنا و حسينا.
و روي أن النبي صلي الله عليه و سلم ما أن علم أن الزهراء قد وضعت وليدها المبارك حتي

[ صفحه 19]

أسرع الي بيتها و نادي: يا أسماء هاتيني ابني، فاسرعت اسماء و دفعته اليه في خرقة صفراء، فقال: ألم أعهد اليكم ألا تلفوا المولود في خرقة صفراء، و أذن صلي الله عليه و سلم في أذنه اليمني، و أقام في اليسري، و كان أول صوت سمعه المولود الجديد هو صوت جده صلي الله عليه و سلم، و كانت أنشودة هذا الصوت «الله اكبر، لا اله الا الله» ثم التفت رسول الله صلي الله عليه و سلم الي الامام علي، الذي تاه فرحا، اذ صار لرسول الله صلي الله عليه و سلم ذرية منه يفخر بنسبتها اليه علي كافة الناس، و قال صلي الله عليه و سلم لعلي: هل سميت الوليد المبارك، فقال الامام: ما كنت لأسبقك يا رسول الله، و ما هي الا لحظات، و اذا بالوحي يناجي الرسول صلي الله عليه و سلم و يحمل له التسمية من الحق تعالي، يقول له جبريل: سمه حسنا، و هو اسم لم يعرف في الجاهلية، و قال السيوطي في تاريخ الخلفاء: أخرج ابن‌سعد «الحسن و الحسين اسمان من أسماء الجنة، ما سمت العرب بهما في الجاهلية»، و جاء فيه كذلك: «أن الله حجب اسم الحسن و الحسين حتي سمي بهما النبي صلي الله عليه و سلم ابنيه».
و روي ابن‌عقيل عن علي بن الحسين رضي الله عنه قال: لما ولدت فاطمة حسنا قالت: يا رسول الله، ألا أعق عن ابني بدنة، قال: لا، ولكن احلقي رأسه و تصدقي بوزن شعره فضة علي المساكين، ففعلت، ثم انه صلي الله عليه و سلم عق عنه و ذبح كبشا، تولي ذلك بنفسه الشريفة، أخرج الامام أحمد عن عبدالله بن بريدة قال: سمعت أبي يقول: «ان رسول الله صلي الله عليه و سلم عق عن الحسن و الحسين»، و عن جعفر الصادق قال: عق رسول الله عن الحسن بيده، و قال: بسم الله عقيقه عن الحسن، و قال: «اللهم اجعلها وفاء لمحمد و آل محمد»، وفي رواية: عق عنه بكبشين أملحين و أعطي القابلة و فخذا و دينارا و قال يا فاطمة احلقي رأسه و تصدقي بزنة شعره فضة، و أجري صلي الله عليه و سلم الختان في اليوم السابع من ولادته، و عنه صلي الله عليه و سلم «طهروا أولادكم يوم السابع، فانه أطيب و أطهر و أسرع لنبات اللحم و أن الأرض تنجس من بول الأغلف أربعين يوما».

نسب الحسن

هو الحسن بن علي بن أبي‌طالب بن عبدالمطلب بن هاشم، و أمه فاطمة

[ صفحه 20]

بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم، و هذا اعظم نسب عرفته الدنيا، و كفي الامام الحسن و الامام الحسين أن جدهما سيد ولد آدم محمد رسول الله صلي الله عليه و سلم، و أباهما أميرالمؤمنين الامام علي المرتضي، و أمهما فاطمة الزهراء، سيدة النساء، و بضعة رسول الله صلي الله عليه و سلم وجدتهما خديجة بنت خويلد، و عمهما جعفر الطيار، و عم أبيهما حمزة أسد الله و أسد رسول الله و سيدالشهداء، وجدهما أبوطالب ناصر الرسول صلي الله عليه و سلم و المدافع عنه و المتحمل الأذي في سبيله، وجد أبيهما عبدالمطلب شيبة الحمد و سيد البطحاء، وجد وجدهما هاشم مطعم الحجيج و هاشم الثريد و سيد قريش، أخرج الترمذي و الطبراني في المعجم الكبير و ابن‌مردويه و أبونعيم و البيهقي معا في الدلائل عن ابن‌عباس أنه قال، قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: ان الله قسم الخلق قسمين: فجعلني في خيرهما قسما، فذلك قوله: (و أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين، و أصحاب الشمال ما أصحاب الشمال)، و أنا من أصحاب اليمين، و أنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين أثلاثا، فجعلني في خيرها ثلثا، فذلك قوله: «فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة و أصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة، و السابقون)، فأنا من السابقين و أنا خير السابقين، ثم جعل الأثلاث قبائل، فجعلني في خيرها قبيلة، و ذلك قوله (و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا أن أكرمكم عندالله أتقاكم)، و أنا أتقي ولد آدم و أكرمهم علي الله تعالي و لا فخر، ثم جعل القبائل بيوتا، فجعلني في خيرها بيتا، فذلك قوله: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا)، فأنا و أهل بيتي مطهرون من الذنوب».
و أخرج عبدالرزاق في مصنفه، و الطبراني في معجمه، و ابن‌عساكر في تاريخة، و الحاكم في مستدركه عن ابن‌عباس قال: صلي رسول الله صلي الله عليه و سلم صلاة العصر، فلما كان في الركعة الرابعة، أقبل الحسن و الحسين حتي ركبا علي ظهره، فلما سلم وضعهما بين يديه، و أقبل علي الحسن فحمله علي عاتقه الأيمن، و الحسين علي عاتقه الأيسر، ثم قال: «أيها الناس، ألا أخبركم بخير الناس جدا وجدة، ألا أخبركم بخير الناس عما و عمة، ألا أخبركم بخير الناس خالا و خالة، ألا أخبركم

[ صفحه 21]

بخير الناس أبا و أما؟ الحسن و الحسين، جدهما رسول الله، وجدتهما خديجة بنت خويلد، و أمهما فاطمة بنت رسول الله، و أبوهما علي بن أبي‌طالب، و عمهما جعفر بن أبي‌طالب، و عمتهما أم هاني‌ء بنت أبي‌طالب، و خالهما القاسم بن رسول الله و خالاتهما زينب و رقية و أم‌كلثوم بنات رسول الله، وجدهما في الجنة، و أبوهما في الجنة، و أمهما في الجنة، و عمهما في الجنة، و عمتهما في الجنة، و خالاتاهما في الجنة؛ و هما في الجنة، و من أحبهما في الجنة» و يعلق بعض العلماء علي هذا الحديث الشريف بأن الله شرف الحسن و الحسين بما لم يشرف به أحد غيرهما، فهما سبطا رسول الله صلي الله عليه و سلم و ريحانتاه، و سيدا شباب أهل الجنة، جدهما رسول الله صلي الله عليه و سلم و أبوهما الامام علي، و أمهما الطاهرة البتول فاطمة بنت الرسول الله صلي الله عليه و سلم، و هكذا كان نسبهما تتضاءل عنده الأنساب، فالحسن و الحسين، عليهماالسلام، دوحة الفضل و النبوة التي طابت فرعا و أصلا، شعبة الرسالة التي سمت و رفعة و نبلا، قد اكتفهما العز و الشرف، و لازمهما السؤدد، فما له عنهما منصرف.
و روي الحاكم في المستدرك، و الهيثمي في فضائل أهل بيت، أن الامام الحسن نفسه انما يقول، معبرا عن هذا الشرف: «ايها الناس من عرفني فقد عرفني، و من لم يعرفني، فأنا الحسن بن علي، و أنا ابن النبي، و أنا ابن الوصي، و أنا ابن البشير، و أنا ابن النذير، و أنا ابن الداعي الي الله باذنه، و أنا ابن السراج المنير، و أنا من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا»، و زاد أبوالفرج في «مقاتل الطالبيين»، و «و الذين افترض الله مودتهم في كتابه اذ يقول (و من يقترف حسنة نزد له فيها حسنا)، فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت».
و أخرج ابن‌عساكر في تاريخه، و الحافظ ابن‌كثير، بسندهما عن المدايني، قال: كان عمرو بن العاص، و جملة من الأشراف، من أكرم الناس، فقال معاوية: من أكرم أبا و أما، وجدا وجدة، و خالا و خالة. و عما و عمة، فقام النعمان بن العجلان، فأخذ بيد الحسن، فقال هذا، أبوه علي، و أمه بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم، وجده رسول الله صلي الله عليه و سلم وجدته خديجة، و عمه جعفر، و عمته أم هاني‌ء بنت أبي‌طالب، و خاله القاسم، و خالته زينب، فقال عمرو بن العاص: أحب بني

[ صفحه 22]

هاشم دعاك الي ما عملت؟، فقال ابن‌العجلان: يا ابن‌العاص: ما عملت؟ أنه من التمس رضاء مخلوق بسخط الخالق، حرمه الله أمنيته، و ختم له بالشفاء في آخر عمره، بنوهاشم أنضر قريش عودا، و أقعدها سلما، و أفضلها أحلاما».

كنيته و القابه و صفاته

كني الامام الحسن بأبي‌محمد، كناه بذلك جده رسول الله صلي الله عليه و سلم و أما ألقابه فكثيرة، منها التقي و الزكي و الطيب و الوفي و الولي و السبط، و السيد و أميرالمؤمنين و الحجة و الزاهد و المجتبي، و أشهرها السبط، و أعلاها رتبة و أولاها به، ما لقبه به جده سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم «السيد»، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي‌بكرة، فقلد روي البخاري في صحيحه بسنده عن أبي‌موسي عن الحسن عن أبي‌بكرة رضي الله عنه: أخرج النبي صلي الله عليه و سلم ذات يوم الحسن فصعد به علي المنبر فقال: «ابني هذا سيد، و لعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين» (249:4 ط الشعب).
و أخرج الامام أحمد عن الحسن بن الحسن، قال: حدثنا أبوبكرة، كان رسول الله صلي الله عليه و سلم يصلي بالناس، و كان الحسن بن علي يثب علي ظهره اذا سجد، ففعل ذلك غير مرة، فقالوا له: و الله انك لتفعل لهذا شيئا ما رأيناك تفعله بأحد، قال المبارك، فذكر شيئا ثم قال: ان ابني هذا سيد، و سيصلح الله تبارك و تعالي به بين فئتين من المسلمين، فقال الحسن: «فوالله و الله بعد أن ولي و لم يهرق في خلافته مل‌ء محجمة من دم»، و ما أجمل قول ابن عبدالبر في الاستيعاب عن هذا بأن الآثار الصحاح و قد تواترت عن النبي صلي الله عليه و سلم بأنه قال للحسن «ان ابني هذا سيد»، و لا أسود ممن سماه رسول الله صلي الله عليه و سلم «سيدا».
و أما صفته فقد كان، كما ذكر و اصفوه، أبيض مشربا بحمرة، أدعج العينين،سهل الخدين، كث اللحية، ذا وفرة كأن عنقه ابريق فضة، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، ربعة ليس بالطويل و لا بالقصير جعد الشعر، حسن البدن، و يخضب بالسواد، مليحا من أحسن الناس وجها، غير أن أهم

[ صفحه 23]

صفات الحسن انما كان شبهه الكبير بسيدنا و مولانا رسول الله صلي الله عليه و سلم، فلقد كانت ملامح الحسن تحاكي جده العظيم صلي الله عليه و سلم و من ثم فقد وصفه و اصفوه فقالوا «لم يكن أحد أشبه رسول الله صلي الله عليه و سلم من الحسن بن علي، عليه‌السلام، خلقا و خلقا و هيأة و هديا و سؤددا»، و قد أخرج البخاري عن أنس أنه قال: لم يكن أحد أشبه بالنبي صلي الله عليه و سلم من الحسن بن علي، و أخرج الترمذي و الامام أحمد عن أبي‌جحيفة قال: «رأيت رسول الله صلي الله عليه و سلم أبيض قد شاب، و كان الحسن بن علي يشبه»، و عن الامام الغزالي في الاحياء، و أن النبي صلي الله عليه و سلم قال للحسن، رضي الله عنه، «أشبهت خلقي و خلقي»، و أخرج الامام الترمذي و ابن‌حنبل في المسند و الفضائل عن هاني‌ء بن هاني‌ء عن علي قال: «الحسن أشبه برسول الله صلي الله عليه و سلم ما بين الصدر الي رأس، و الحسين أشبه بالنبي ما كان أسفل ذلك».
و أخرج الامام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك قال: «لم يكن أحد أشبه برسول الله صلي الله عليه و سلم من الحسن بن علي و فاطمة، صلوات الله عليهم أجمعين»، و عن أنس كذلك: «كان الحسن بن علي أشبههم وجها برسول الله صلي الله عليه و سلم»، و أخرج أبوداود الطياسلي و الامام أحمد عن ابن أبي‌مليكة قال: كانت فاطمة تنقز الحسن بن علي، و تقول: بأبي شبيه النبي ليس شبيها بعلي، و روي ابن‌حجر في الاصابة عن البهي مولي الزبير، قال: تذاكرنا من أشبه النبي صلي الله عليه و سلم من أهله، فدخل علينا عبدالله بن الزبير فقال أنا أحدثكم بأشبه أهله به و أحبهم اليه، الحسن بن علي»، و أخرج البخاري عن ابن أبي‌مليكة عن عقبة بن الحارث، قال: صلي ابوبكر رضي الله عنه العصر، ثم خرج يمشي فرأي الحسن يلعب مع الصبيان فحمله علي عاتقه و قال: «بأبي شبيه بالنبي صلي الله عليه و سلم لا شبيه بعلي، و علي يضحك».

بنوة الحسن للنبي

شرف رسول الله صلي الله عليه و سلم الامام الحسن، كما شرف أخاه الامام الحسين، بأن نسبهما اليه بالنبوة، و ان كانا من صلب الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة،

[ صفحه 24]

روي الترمذي بسنده عن أسامة بن زيد قال: طرقت النبي صلي الله عليه و سلم في بعض الحاجة فقال: «هذان ابناي و ابنا ابنتي، اللهم اني أحبهما فأحبهما و أحب من يحبهما»، و أخرج ابن‌عساكر و الحاكم في المستدرك، علي شرط البخاري و مسلم، أن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال: «الحسن و الحسين ابناي، من أحبهما أحبني، و من أحبني أحبه الله، و من أحبه الله أدخله الجنة، و من أبغضهما أبغضني، و من أبغضني أبغضه الله، و من أبغضه الله أدخله النار»، و روي الحافظ العراقي عن جابر أنه قال، قال رسول الله صلي الله عليه و سلم للحسن: «ان ابني هذا سيد، يصلح الله به بين فئتين من المسلمين»، و أخرج ابن‌عساكر و الحاكم في المستدرك بسنده عن أبي‌رافع عن فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم أنها أتت بابنيها، الحسن و الحسين رضي الله عنهما، الي رسول الله في شكواه الذي توفي فيه، فقالت: يا رسول الله، هذان ابناك فورثهما شيئا، قال: أما الحسن فقد نحلته حلمي و هيئتي و أما الحسين فقد نحلته نجدتي وجودي»، و أخرج ابن‌عساكر و ابن أبي‌خيثمة عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ان النبي صلي الله عليه و سلم كان يأخذ حسنا ثم يضمه اليه ثم يقول: «اللهم ان هذا ابني و أنا أحبه، فأحبه و أحب من يحبه»، و روي أنس بن مالك قال: «دخل الحسن علي النبي صلي الله عليه و سلم فأردت أن أميطه عنه فقال صلي الله عليه و سلم: ويحك يا أنس، ابني و ثمرة فؤادي، فان من آذي هذا فقد آذاني، و من آذاني فقد آذي الله.
و من أجل كل هذا فقد كان يقال لكل من السبطين، و الحسن والحسين، «يا ابن‌المصطفي»، و قد قال الامام الحسن نفسه عن نفسه «أنا الحسن بن محمد صلي الله عليه و سلم، أنا ابن‌البشير، و أنا ابن‌النذير، أنا ابن الداعي الي الله عزوجل باذنه، و أنا ابن‌السراج المنير»، كما كان الحسن و الحسين يعتزان بأبوته صلي الله عليه و سلم و يهتفان به، فيقول كل منهما للنبي صلي الله عليه و سلم «يأ أبت»، فاذا هتف الحسن بأبيه علي، قال له «يا أباالحسين»، و اذا هتف الحسين بأبيه قال له «يا أباالحسن»، فلما انتقل جدهما صلي الله عليه و سلم الي الرفيق الأعلي كانا يقولان لأبيهما الامام علي «يا أبت»، و لعل مما تجدر الاشارة اليه ان البنوة التي شرف بها سيدنا و مولانا رسول الله صلي الله عليه و سلم الحسن في قوله الشريف «ان ابني هذا سيد»، و قوله الشريف «انما هما ابناي

[ صفحه 25]

و ابنا ابنتي» أيدها القرآن الكريم في آية المباهلة (آية 61 آل عمران)، ففي العام العاشر من الهجرة وفد الي النبي صلي الله عليه و سلم سادة نصاري نجران، فدعاهم الي الاسلام، و لما أصروا علي المكابرة و العناد دعاهم صلي الله عليه و سلم الي المباهلة، فوافق القوم، فلما خرج اليهم رسول الله صلي الله عليه و سلم و معه فاطمة و علي و الحسن و الحسين، عليهم‌السلام، و قال: «ان أنا دعوت فأمنوا، غير أن القوم تراجعوا و قالوا: هذه وجوه لو أقسمت علي الله أن يزيل الجبال لأزالها»، و هكذا عدل نصاري نجران عن المباهلة و صالحوا النبي صلي الله عليه و سلم علي الجزية، خشية أن يصيبهم عذاب الله.

نشاة الامام الحسن

نشأ الحسن في بيت الوحي و تربي في مدرسة التوحيد، و شاهد جده صلي الله عليه و سلم الذي هو أكمل انسان ضمه هذا الوجود، جمع الناس علي كلمة التوحيد و توحيد الكلمة، فتأثر الحسن السبط بذلك كله، و انطلق يسلك خطي جده صلي الله عليه و سلم في نصح الناس و ارشادهم، يروي أنه اجتاز، مع أخيه الحسين السبط، و هما في دور الطفولة علي شيخ لا يحسن الوضوء، فلم يدعهما سمو النفس و حسن الخلق و حب الخير للناس أن يتركا الشيخ علي حاله، فأحدثا نزاعا صوريا أمامه، و جعل كل منهما يقول للآخر: «أنت لا تحسن الوضوء، ثم طلبا من الشيخ أن يحكم بينهما، قائلين له: يا شيخ كل واحد منا يتوضأ أمامك، و انظر أي الوضوئين أحسن»، فتوضآ أمامه، و جعل الشيخ يمعن في ذلك فتنبه الي قصوره، و قال لهما: «كلاكما يا سيدي تحسنان الوضوء، ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لا يحسن، و قد تعلم الآن منكما وثاب علي يديكما»، و تدل هذه الواقعة، فيما يري الأستاذ أبوعلم، علي اتجاه الرسول صلي الله عليه و سلم الي الهداية بالطرق السلمية و الأخلاق الرفيعة، و قد انطبعت في ذهن الامام الحسن عليه‌السلام، و هو في دور الصبا حتي صارت من خصائصه و من طبائعه، مما يدل علي تأثيره بالبيئة الصالحة التي تكونت من أسرته و من صلحاء المسلمين.
هذا و قد تحدث الرواة عن نبوغ الامام الحسن المبكر، فقد ملك

[ صفحه 26]

بمقتضي ميراثه من الذكاء، و سمو الادراك ما لا يملكه غيره، فكان لا يمر عليه شي‌ء الا حفظه، و كان يحضر مجلس جده صلي الله عليه و سلم فيحفظ الوحي فينطلق الي أمه فيلقيه عليها، فتحدث به الامام عليا فيتعجب و يقول: من أين لك هذا، فتقول «من ولدك الحسن»، و قد روي عن جده عدة أحاديث شريفة، سنشير اليها في مكانها من هذه الدراسة.
هذا و قد تأثر الامام الحسن كذلك بأمه السيدة فاطمة الزهراء، فلقد كانت سيدة نساء العالمين، تعني بولديها الحسن و الحسين كثيرا، لأنها كانت تخاف عليهما من مستقبل جائر يصفه جدهما صلي الله عليه و سلم، و هو الذي لا ينطق عن الهوي، و كانت شديدة التعلق بهما، حتي أنها كانت تضطرب اذا ما فارقاها أو انصرفا عن البيت الي غير جدهما صلي الله عليه و سلم أو أبيهما، فهي تلازمهما لتنشي‌ء فيهما المعرفة و الآداب النبوية، و لتحليهما بالعادات التي تتفق و مكانة سبطي رسول الله صلي الله عليه و سلم، و كما هو معروف فان التربية الحقة انما تبدأ في عهد الأمومة، حيث يمارس الولد المحبة و الطاعة و المحافظة علي الواجبات و الحقوق، و من ثم فقد بدأت الزهراء، عليهاالسلام، تغرس تعاليم بيت النبوة في ولديها لتجعلهما صافي النفس، و لتصرفهما بكليتيهما الي السماء، فينشأ الواحد منهما مجبولا علي طبائعها، فضلا عما أويته من شبه بها و بالنبي صلي الله عليه و سلم، و هكذا عملت الزهراء علي تنشأتهما النشأة الصالحة كسبطين لرسول الله صلي الله عليه و سلم و ولدين للامام علي المرتضي، سلام الله عليهم أجمعين، و هكذا رغم قصر الفترة التي عاشها الامامان الحسن و الحسين في حضانة الزهراء فقد جعلتهما متمرسين بفكرة الله والدين، و لا عجب في أن يكون الحسنان كذلك، فقد ربيا و نشأ في ظل رجلين و امرأة هم أعظم من أظلت السماء.
غير أن ارادة الله شاءت، و لا راد لمشيئته، أن تحرم الحسنان من جدهما و أمهما، و هما طفلان، لم يتجاوز الحسن، و هو الأكبر، الثامنة من عمره، حيث فقدا جدهما المصطفي صلي الله عليه و سلم أولا، ثم ما أن تمضي بضعة أشهر حتي يفقدا أمهما، فلقد خرج الحسن و الحسين من بيتهما يوما ما، ثم عادا فوجدا أمهما قد

[ صفحه 27]

فارقت الحياة، و هكذا فقدا أنبل و أشرف أم، و أصبحا يتيمين من جدهما النبي صلي الله عليه و سلم و من أمهما فاطمة البتول، و محرومين الا من رحمة الله و أبيهما، و ليستظلا ببيت ليس فيه جد رحيم، و لا أم رؤوم، ولكن أباهما لم يجعل لليأس الي قلبيهما سبيلا، بل انتشلهما من ذل اليتم و جعلهما في كنف وارف، و ظل ظليل، في كنف الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، فكان لهما نعم الأب، و نعم الموجه، كما كان في نفس الوقت نعم القدوة الحسنة.
كان الامام علي دائم السهر علي ولده، يشمله برعايته، و يتعهده بحبه، و يشرح له الأمور بفصاحته المشهورة، يزوده بمعارفه، و يطلعه علي ما طوي صدره من علم و حكمة، قال له مرة «يا بني احفظ عني أربعا و أربعا، لا يضرك ما عملت معهن، ان أغني الغني العقل، و أكبر الفقر الحمق، و أوحش الوحشة العجب، و أكرم الحسب حسن الخلق، يا بني اياك و مصادقة الأحمق، فانه يريد أن ينفعك فيضرك، و اياك و مصادقة البخيل فانه يقعد عنك أحوج ما تكون اليه، و اياك و مصادقه الفاجر فانه يبيعك بالتافه، و اياك و مصادقة الكذاب فانه كالسراب يقرب عليك البعيد، و يبعد عنك القريب»، و كان الحسن يسأل أباه كثيرا عما خفي عنه من الأمر، فلقد سأله يوم النهروان: يا أميرالمؤمنين، أكان رسول الله تقدم اليك في أمر هؤلاء بشي‌ء؟ فأجابه، أن رسول الله أمرني بكل حق، و من الحق أن أقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين، هكذا كما نهل الحسن من بحر جده صلي الله عليه و سلم رحيقا صافيا، فانه نهل من معين والده فراتا عذابا سائغا، حتي نشأ، و هو بين أحضان جده صلي الله عليه و سلم يكرع و ينهل، و بين يدي والده يرتشف و يرتوي، حتي أصبح و كأنه يلهم عن وحي، و يغترف من بحر.
و كان الامام علي، رضي الله عنه، و كرم الله وجهه في الجنة، حريصا، الحرص كل الحرص، علي حياة الحسن و الحسين، لأن في بقائهما حفظ لذرية النبي صلي الله عليه و سلم، يروي أنه في واقعة الجمل، كان الحسن في ميمنة الجيش، و الحسين في الميسرة، و الراية بيد الأخ الثالث محمد بن الحنفية، وكان الوالد الامام يقذف بمحمد، و يكف الحسن و الحسين، فقيل لمحمد: لم يغرر بك

[ صفحه 28]

أبوك في الحرب، و لا يغرر بأخويك؟ فأجاب: «انهما عيناه و أنا يمينه، فهو يدفع عن عينيه بيمينه»، فالحسن عند أبيه ساعد قوي، و الامام علي يزحف و أولاده من حوله، يشدون أزره و يسندون ظهره، و قد كان الحسن يدفع بأبيه الي السيوف، دون أن ينسي موعظة نفسه، و دون أن يدرأ عنها الخطر به، فقد كان مع أخيه الحسين يبذلان النفس رخيصة بين يدي المبدأ عندما رأيا المكروه يحدق بأبيهما فراحا يستأذناه و يرتميان في المهالك غضبا لله،، وذبا عن الامام و حزبه، الي أن ألجأه أن يقول لأصحابه «املكوا عني هذين الغلامين فاني أنفس بهما عن القتل، والله اني لسخي بنفسي عن الدنيا، طيب النفس بالموت، و لقد هممت بالاقدام علي القوم فنظرت الي هذين قد ابتدراني، يعني الحسن و الحسين، و نظرت الي هذين قد استقدماني، يعني عبدالله بن جعفر و محمد بن الحنفية، فعلمت أن هذين (الحسن و الحسين) ان قتلا انقطع نسل رسول الله صلي الله عليه و سلم من هذه الأمة، و كرهت ذا، و أشفقت علي هذين أن يهلكا».

مكانة الحسن عند النبي

أحاط النبي صلي الله عليه و سلم الحسن و الحسين بمزيد من رعايته، و أفاض عليهما من شفقته و عطفه، أخرج أبوداود و النسائي و الترمذي و الامام أحمد في المسند عن عبدالله بن بريدة، قال: «سمعت أبي‌بريدة يقول كان رسول الله صلي الله عليه و سلم يخطبنا فجاء الحسن و الحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان و يعثران فنزل رسول الله صلي الله عليه و سلم من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله (انما أموالكم و أولادكم فتنة) نظرت الي هذين الصبيين، يمشيان و يعثران فلم أصبر حتي قطعت حديثي و رفعتهما»، و أخرج مسلم عن أبي‌هريرة عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال للحسن: اللهم اني أحبه، فأحبه و أحب من يحبه»، و روي كذلك أن النبي صلي الله عليه و سلم كثيرا ما كان يركب الحسن و الحسين معه بغلته الشهباء، هذا قدامه، و هذا خلفه، حتي يدخل بهما حجرته»، و أخرج الترمذي عن اياس بن سلمة عند أبيه قال: لقد قدت نبي الله صلي الله عليه و سلم و الحسن و الحسين علي بغلته الشهباء حتي أدخلته حجرة النبي صلي الله عليه و سلم، هذا قدامه، و هذا خلفه.

[ صفحه 29]

هذا وقد بلغ من حنان النبي صلي الله عليه و سلم علي الحسن و الحسين، وحدبه عليهما، ما رآه المسلمون رأي العين، حينما كان صلي الله عليه و سلم يصلي العشاء فاذا سجد وثب الحسن و الحسين، رضي الله عنهما، علي ظهره، فاذا رفع رأسه، أخذهما أخذا رقيقا فيضعهما علي الأرض، فاذا عاد عادا، حتي اذا قضي الصلاة أقعدهما علي فخذيه، أخرج الامام أحمد و الهيثمي و البزار عن أبي‌هريرة قال: «كنا نصلي مع رسول الله صلي الله عليه و سلم العشاء، فاذا سجد وثب الحسن و الحسين علي ظهره، فاذا رفع رأسه أخذهما بيده من خلفه أخذا رقيقا و يضعهما علي الأرض، فاذا عاد عادا، حتي قضي صلاته، أقعدهما علي فخذيه، قال: فقمت اليه فقلت يا رسول الله، أردهما، فبرقت برقة، فقال لهما: الحقا بأمكما، قال: فمكث ضؤها (يعني البرقة) حتي دخلا»، و أخرج النسائي بسنده عن عبدالله بن شداد عن أبيه قال: «خرج علينا رسول الله صلي الله عليه و سلم لصلاة العشاء، و هو حامل الحسن، رضي الله عنه، فتقدم النبي صلي الله عليه و سلم للصلاة فوضعه ثم كبر وصلي فسجد بين ظهراني صلاته سجدة فأطالها، قال: فرفعت رأسي، فذا الصبي علي ظهر رسول الله صلي الله عليه و سلم و هو ساجد، فرجعت الي سجودي، فلما قضي رسول الله صلي الله عليه و سلم صلاته، قال الناس: يا رسول الله صلي الله عليه و سلم سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها، حتي ظننا أنه قد حدث أمر، و أنه يوحي اليك، فقال صلي الله عليه و سلم كل ذلك لم يكن، ولكن ارتحلني الحسن فكرهت أن أعجله حتي ينزل» (روي مثله أبويعلي عن أنس، و البزار و أبويعلي عن عبدالله بن مسعود، و الطبراني عن البراء بن عازب).
هذا وقد بين النبي صلي الله عليه و سلم أن مكانة الحسن و الحسين منه، و سيادتهما بين الناس، لا تقف عند حد الدنيا، و لا تقتصر علي قومهما، بل تمتد الي الدار الآخرة، و تشمل الناس جميعا في كل زمان و مكان، فيقول «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»، و بدهي أن النبي صلي الله عليه و سلم لم يكن في كل ذلك مدفوعا بحبه لحفيديه العظيمين، و انما كان مأمورا بوحي من الله، كي يعلم المسلمون ما يجب عليهم نحو أهل البيت عامة، و الحسن و الحسين خاصة، من صدق

[ صفحه 30]

المحبة، و خفض الجناح، و معرفة حقهم، و استشعار كل الاجلال و التقدير لأهل هذا البيت الذي أذهب عنه الرجس و طهره تطهيرا، و في نفس الوقت فلقد حرص رسول الله صلي الله عليه و سلم علي التحذير من مغبة معاداتهم و مشاقتهم، لأنهما معاداة و مشاقة لله و رسوله، و صدق الله حيث يقول «و من يشاقق الله و رسوله فان الله شديد العقاب»، و تاكيدا لهذا المعني، و زيادة في ايضاحه يقول رسول الله صلي الله عليه و سلم للحسن و الحسين «أنا حرب لمن حاربكم، سلم لمن سالمكم»، كما بلغ من تكريم النبي صلي الله عليه و سلم للحسنين أنه لم يبايع صغيرا الا هما و ابن‌عباس و ابن‌جعفر روي الطبراني بسنده أن النبي صلي الله عليه و سلم بايع الحسن و الحسين و عبدالله بن عباس و عبدالله بن جعفر، و هم صغار، قال ابن‌عباس «و لم يبايع صغيرا الا منا».

[ صفحه 31]

الامام الحسن و الخلفاء و الراشدون

الامام الحسن و الصديق

كان انتقال سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم الي الرفيق الأعلي حدثا مهولا مذهلا، دارت منه رؤوس الملأ الذين عاشوا في صحبته صلي الله عليه و سلم و فزعت له أفئدتهم، و انفطرت منه قلوبهم، فما بالك بآل البيت، السيدة فاطمة و الامام علي و الحسن و الحسين، فقد كانوا أكثر الناس مصيبة، كان الامام الحسن ينظر عقب وفاة جده العظيم صلي الله عليه و سلم الي الحزن البهيم الذي حل بأمه الزهراء، فيتصدع من هول الفادحة قلبه، و يذرف من الدموع ما ساعدته الجفون، ثم سرعان ما تجد أمور تزيد من حيرة الصبي، فمن المعروف أن أباه الامام علي كان يرشح لخلافة جده النبي الرسول، و كانت وجهة نظره، فيما يري بعض العلماء، أنه مادام الرسول صلي الله عليه و سلم لم يعهد بالخلافة الي أحد بذاته، فان البيت الذي اختارته السماء ليكون منه النبي المصطفي، هو البيت يختار منه المسلمون خليفتهم، مادام في رجال هذا البيت من يتمتع بالكفاية الكاملة لشغل منصب الخلافة، و بدهي أننا هنا لسنا بصدد مناقشة رأي الامام في خلافة الصديق، فذلك أمر ناقشناه بالتفصيل في كتابنا عن الامام علي، و ان كان لا يفوتنا هنا أن نقرر عن يقين، لا يشوبه شائبة من ريب، أن الامام علي في موقفه هذا، لم يكن مدفوعا برغبته الشخصية في منصب الخلافة، كما أنه لم يكن ينفس علي أبي‌بكر الصديق هذا المنصب،

[ صفحه 32]

و انما كان يدافع عن رأي رآه و اعتقده، و لم يكن لديه موضع شك أو ريب فيه.
و كانت الزهراء، عليهاالسلام، علي نفس الرأي، كانت تري أن زوجها الامام علي أحق الناس بالخلافة، فهو ربيب النبي صلي الله عليه و سلم و ابن عمه، و زوج ابنته، و أبوسبطيه الحسن و الحسين، و أول الناس اسلاما، و أطولهم في الجهاد باعا، و هو فتي قريش علما و فضلا و شجاعة، و كان النبي صلي الله عليه و سلم يحبه أشد الحب و يؤثره أعظم الايثار، استخلفه حين هاجر من مكة الي المدينة علي ما كان عنده من الودائع حتي ردها الي أصحابها، و أمره فنام في مضجعه ليلة ائتمرت قريش بقتله، فكان أول من شري نفسه في سبيل الله، ثم هاجر حتي لحق بالنبي صلي الله عليه و سلم في المدينة، فآخي النبي بينه و بين نفسه،ثم شهد مع النبي صلي الله عليه و سلم مشاهده كلها، و كان صاحب رايته في أيام البأس، و قال النبي صلي الله عليه و سلم يوم خيبر «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله، و يحبه الله و رسوله»، فلما أصبح دفع الراية الي علي، و قال النبي صلي الله عليه و سلم يوم استخلفه علي المدينة و علي أهله عندما سار الي غزوة تبوك «أنت مني بمنزلة هارون من موسي، الا أنه لا نبي بعدي»، و أعطاه سورة براءة ليقرأها علي أهل الموسم، فلما قيل له: يا رسول الله لو بعثت بها الي أبي‌بكر، قال: «لا يؤد عني الا رجل من أهل بيتي»، و قال النبي صلي الله عليه و سلم للمسلمين في طريقه الي المدينة من حجة الوداع «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه»، و من ثم فان الزهراء ما أن علمت بما حدث في اجتماع سقيفة بني‌ساعدة، و اختيار المجتمعين للصديق خليفة للمسلمين، و أبوها سيد الأنبياء و المرسلين لم يقبر بعد، حتي بكت بكاء حارا، فلما جاءها بعض الصحابة معزين، و فيهم أبوبكر و عمر و أبوعبيدة، قالت: «تركتم رسول الله صلي الله عليه و سلم جنازة بين أيدينا و قطعتم أمركم بينكم و لم تستأمرونا»، فبكي الصديق حتي علا نشيجه، و بكي من كان في الدار من المهاجرين ممن كانوا يساعدون الامام عليا في تجهيز سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم، و فيهم الزبير و سلمان و أبوذر و المقداد و عمار بن ياسر.
و لا ريب في أن ما استقر في نفس الامام علي، و فاطمة الزهراء، و آل

[ صفحه 33]

البيت، من الاستياء من صرف الخلافة عن الامام علي، رغم قرابته القريبة من النبي صلي الله عليه و سلم لأنه فرع النبوة، بل ان آل البيت انما هم شجرة النبوة، و محط الرسالة، لا شك أن ذلك انما قد استقر في نفس الامام الحسن، فجعله لا يرضي عن من احتل مركز أبيه النبي صلي الله عليه و سلم، روي ابن أبي‌الحديد في شرح النهج، و ابن‌حجر الهيثمي في الصواعق، أن الحسن دخل المسجد، و كان الصديق يخطب علي المنبر، فقال له: «انزل عن منبر أبي و اذهب الي منبر أبيك، فأجابه أبوبكر: صدقت، والله انه لمنبر أبيك، لا منبر أبي»، ثم حدثت بعد ذلك أمور، ربما أقلقت الصبي كثيرا أو قليلا، منها اختلاف رأي أهل البيت عن رأي الصديق في سهم ذي القربي من غنائم المسلمين، و الذي تحدثت عنه الآية 41 من سورة الأنفال، ثم هناك قضية ميراث الزهراء من أبيها النبي صلي الله عليه و سلم، و كل تلك أمور قد ناقشناها بالتفصيل في كتابنا عن الامام علي، و في كتابنا عن الزهراء من قبل.
و علي أي حال، فما أن تمضي بضعة شهور علي انتقال سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم الي الرفيق الأعلي، حتي تلحق الزهراء بأبيها النبي الرسول، و يفقد الحسن أمه، كما فقد جده صلي الله عليه و سلم من قبل، و بذا غدا يتيم الأم و الجد، و أي أم وأي جد، انهما سيد ولد آدم، و سيدة نساء العالمين، ولكن رحمة الله و رعاية الأب، لم تجعل لليأس الي قلب الحسن سبيلا، ولكن الحسن سرعان ما بدأ يحس، و هو بين ظهراني مجتمع جديد، مجتمع غير الذي ألفه علي أيام جده صلي الله عليه و سلم، و مكانة غير التي كانت له علي أيام النبي المصطفي صلي الله عليه و سلم، و زاد من حيرة الصبي ظهور حروب الردة، فبدأ يري أوضاعا متقلبة، و حروبا دائمة، و أمة خاصمة مخصومة، و وسطا لا عهد له به فيه اجلاب ما تعود سماعه من قبل، فيجمع احساساته المشتتة، و بدأت تتحرك في نفسه يقظة تختلف عن لا مبالاة الطفولة الهادئة، انه الآن لا يري جده العظيم صلي الله عليه و سلم الذي أفاض تعاليمه علي الدنيا لتملأها حبا و عدلا و سلاما، ثم لا يري أمه البتول التي كان يركن اليها كثيرا فتشمله بعطفها و حبها و رعايتها، و من ثم فقد قضي حينا من الدهر لا يجد ايناسا الا

[ صفحه 34]

بجوار قبر الجد النبي، و الأم الزهراء البتول.
علي أن الذي لا شك فيه أن المسلمين، و قد شاهدوا جميعا مبلغ حب النبي صلي الله عليه و سلم لابنيه، الحسن و الحسين، و مبلغ حرصه عليهما و رعايته لهما، لا شك في أنهم كانوا يجلون الحسن و الحسين أعظم الاجلال، و يكرمونهما كل الاكرام، لمقامهما من جدهما النبي صلي الله عليه و سلم، و لما يسطع فيهما من أنوار النبوة، و لما يرونه فيهما من مخايل النجابة، و مميزات الرجولة، و لا شك كذلك في أن الخليفة الأول أبابكر الصديق رضي الله عنه انما كان علي رأس المسلمين الذين أحبوا الامام الحسن و أنزلوه المنزلة اللائقة به كسبط للنبي صلي الله عليه و سلم، فكان الصديق علي يقين من فضل الحسن، يعرف منزلته و يحدب عليه و يقلد النبي صلي الله عليه و سلم في الحنين اليه، حتي أنه كان يخطب الناس و يحضهم علي احترامه و احترام ذويه من آل محمد صلي الله عليه و سلم، روي البخاري بسنده عن أبي‌بكر الصديق أنه قال «أرقبوا محمدا صلي الله عليه و سلم في أهل بيته و الذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلي الله عليه و سلم أحب الي من قرابتي»، و روي البخاري و مسلم و أبوداود و الترمذي و النسائي عن عائشة، رضي الله عنها، عن أبي‌بكر الصديق أنه قال «و الذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلي الله عليه و سلم أحب الي أن أصل من قرابتي»، و هكذا كان لقرابة رسول الله صلي الله عليه و سلم عند الخليفة الأول من التعظيم و الاكبار و ما لم يكن لأحد غيرهم، فالصديق يقسم بالله، و هو صادق، أن قرابة رسول الله صلي الله عليه و سلم أحب اليه من قرابته، و أنه يحب أن يصلهم أكثر مما يصل قرابته، و بدهي أن الحسن و الحسين كانا علي رأس قرابة النبي صلي الله عليه و سلم.
و يحدثنا رواة الحديث أن الصديق خرج يوما، مع الامام علي، بعد صلاة العصر، و بعد انتقال الرسول صلي الله عليه و سلم الي الرفيق الأعلي، فيلقي الحسن يلعب مع الغلمان فيحمله علي عنقه، ثم يقول له: بأبي شبيه بالنبي، ليس شبيها بعلي، و الامام علي ينظر اليهما و يضحك، و أخرج البخاري بسنده عن علقمة بن الحارث قال: صلي أبوبكر، رضي الله عنه، العصر، ثم خرج يمشي، فرأي الحسن يلعب مع الصبيان فحمله علي عاتقه و قال: «بأبي شبيه بالنبي، لا شبيه بعلي، و علي يضحك».

[ صفحه 35]

الامام الحسن و الفاروق

كان الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يؤثر الحسن و الحسين خاصة، و بني‌هاشم عامة، علي جميع المسلمين، و ذلك لقرابتهم من سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم، تلك القرابة التي كان الفاروق دائما يرعي لها حرمتها، بل و جعلها مدخلا للسبق في كل حال و مقام، فلما أراد أن ينشي‌ء الديوان الذي يحدد للناس فيه أعطياتهم من بيت المال، أشار اليه بعض الصحابة أن يبدأ بنفسه، فقال: «بل أبدأ بقرابة رسول الله صلي الله عليه و سلم، فبدأ بالعباس، عم النبي صلي الله عليه و سلم ثم نساء النبي، ثم الامام علي، ابن عم النبي، ثم الأقرب فالأقرب الي رسول الله صلي الله عليه و سلم، ثم أهل بدر، و ألحق بأهل بدر أربعة من غيرهم، هم الحسن و الحسين و أبوذر و سلمان، ثم جعل الناس طبقات، وفق ما لهم من فضل و سابقة في الاسلام، و وفق حاجتهم، فقال: «لكل و سابقته لكل و عمله و بلاؤه، لكل و حاجته»، ففضل السابقين من المهاجرين و الأنصار، ثم من أسلم قبل فتح مكة، ثم من أسلم بعده، ثم المجاهدين حتي آخر معركة»، ثم فرض للحسن و الحسين خمسة آلاف كأهل بدر، كما أشرنا آنفا، بل لقد كان الفاروق يقدم الحسن و الحسين علي ولده، و لقد قسم يوما فأعطي الحسن و الحسين كل واحد منهما عشرة آلاف درهم، و أعطي ولده عبدالله ألف درهم، فعاتبه ولده قائلا: لقد علمت سبقي في الاسلام و هجرتي، و أنت تفضل علي هذين الغلامين، فقال عمر: ويحك يا عبدالله جدهما رسول الله صلي الله عليه و سلم و أبوهما علي، و أمهما فاطمة، وجدتهما خديجة، و خالهما ابراهيم ابن رسول الله صلي الله عليه و سلم و خالاتاهما زينب و رقية و أم‌كلثوم، و عمهما جعفر بن أبي‌طالب، و عمتهما أم‌هاني‌ء بنت أبي‌طالب، وقد نسبهما و انتسب فما ساوي واحدا بواحد، و أقنع الفاروق ولده عبدالله ببساطة و منطق سيال، حتي أصبح بعد ذلك يعترف بحقهما و يذب عنهما، حتي اتهمه البعض بمغالاته في الهاشميين جميعا.
هذا و قد بلغ من تعظيم الفاروق للحسن و الحسين، و تقديره لمكانتهما عندالله و رسوله، ما رواه المحب الطبري في «الرياض النضرة»، أنه عرض له

[ صفحه 36]

ذات يوم من البكاء ما كان يعرض له بين حين و آخر، حين يتذكر مسؤوليته عن أمة الاسلام، و يشفق من تقصيره في القيام بها، فقال له الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، «والله انك لتعدل في كذا و كذا، و تعدل في كذا و كذا، ولكن الفاروق استمر في بكائه، فتكلم الحسن، عليه‌السلام، بما شاء الله، فذكر من ولايته و عدله ما ذكر، ثم تكلم الحسين، عليه‌السلام، بمثل كلام أخيه، و عنئذ انقطع بكاء الفاروق، و قال لهما: أتشهدان بذلك بني أخي، فنظرا الي أبيهما، فقال علي، كرم الله وجهه في الجنة، «اشهدا و أنا معكما من الشاهدين».
و روي ابن‌عساكر في التاريخ الكبير أنه قدم علي عمر رضي الله عنه حلل من اليمن، فكسا الناس، فراحوا في الحلل، و هو بين القبر و المنبر جالس، و الناس يسلمون عليه، فخرج الحسن و الحسين من بيت فاطمة في جوف المسجد، و ليس عليهم شي‌ء من تلك الحلل، فقال عمر: و الله ما هنأني ما كسوتكم، قالوا: لم يا أميرالمؤمنين، قال: «من أجل هذين الغلامين، يتخطيان الناس، ليس عليهما مما كسوت الناس شي‌ء»، ثم كتب لصاحب اليمن: أن ابعث الي بحلتين لحسن و حسين، و عجل، فلما كساهما عمر، قال: «الآن طابت نفسي» و روي أن الفاروق قال لقومه من بني عدي «و الله ما أدركنا الفضل في الدنيا الا بمحمد، و لا نرجو ما نرجو من الآخرة و ثوابها الا بمحمد صلي الله عليه و سلم، فهو شرفنا، و قومه أشرف العرب، ثم الأقرب فالأقرب»، و قال مرة في قرابة رسول الله صلي الله عليه و سلم: «ان عيادة بني‌هاشم فريضة، و زيارتهم نافلة».
و روي الدراقطني عن الفاروق أنه قال: «تحببوا الي الأشراف و توددوا، و اتقوا علي أعراضكم من السفلة، و اعلموا أنه لا يتم شرف الا بولاية علي بن أبي‌طالب»، و في رواية أنه قال: «أيها الناس ان الشرف و المنزلة، و الولاية لرسول الله صلي الله عليه و سلم و ذريته فلا تذهبن بكم الأباطيل»، و روي أنه كان ينتظر الامام الحسين في بعض الأيام، فذهب اليه الحسين، فوجد عبدالله بن عمر، و عرف منه أنه استأذن علي الخليفة فلم يؤذن له، فرجع الحسين، ثم لقيه عمر معاتبا، و قال: «و ما منعك يا حسين أن تأتيني، فأخبره الحسين بما حدث، فعز ذلك علي عمر،

[ صفحه 37]

و قال: «و أنت عندي مثله، و أنت عندي مثله، و هل أنبت الشعر علي الرأس غيركم.»
و في عام الرمادة (عام 17 ه)، أجدب الناس و حبس المطر عن جزيرة العرب، فاستسقي الناس فلم يسقوا فقال عمر: لأستسقين غدا بمن يسقي الله به، و لما أصبحوا غدا عند العباس، عم النبي صلي الله عليه و سلم و قال: أخرج بنا حتي نستسبقي بك، فقال العباس: يا عمر اقعد في بيتي ثم أرسل الي بني‌هاشم أن يتطهروا و يلبسوا من صالح ثيابهم، فأتوه، فأخرج طيبا فطيبهم، ثم خرج العباس، و علي أمامه و الحسن عن يمينه و الحسين عن شماله، و بنوهاشم خلف ظهره، و دعا العباس الله فسقي بهم، و هكذا صدقت فراسة عمر في الاستسقاء بآل رسول الله صلي الله عليه و سلم، فاستجاب الله للمسلمين وغاثهم الغيث.

الامام الحسن و ذوالنورين

كان الامام الحسن علي أيام الخليفة الراشد ذي النورين، عثمان بن عفان رضي الله عنه شابا يافعا قد نيف علي العشرين، و هو عمر يسمح لصاحبه أن يخوض معترك الحياة، و أن يقوم بدور فيها، و هكذا كان الامام الحسن شابا يقظا تجلله نورانية الايمان، بما هذب منه جده رسول الله صلي الله عليه و سلم و صقل منه أبوه الامام علي، و أرهفت منه فاطمة الزهراء، و في هذا الدور دخل الحسن ميدان الجهاد في سبيل الله، فانضم الي المجاهدين حيث اتجهت ألويتهم الفاتحة الي الشمال الافريقي، حيث كان هو و أخوه الحسين، من بين رجال الجيش الذي بعثه الخليفة عثمان من المدينة الي المغرب الأقصي، و كان يضم، كما يقول صاحب «الاستقصا لأخبار المغرب الأقصي» جماعة من كبار الصحابة، منهم الحسن و الحسين و عبدالله بن عباس و عبدالله بن عمر و عبدالله بن الزبير، فسار الي افريقية مددا لأمير مصر عبدالله بن أبي‌سرح عام 27 ه، فهزموا الروم في طرابلس، ثم هزموهم مرة أخري علي مبعدة مسيرة يوم و ليلة من سبيطلة، و قتلوا مليكهم «جرجير» ثم تابعوا زحفهم الي المغرب الأقصي، و كان الحسنان فيمن

[ صفحه 38]

دخلوه من الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين.
و يروي الطبري و ابن‌كثير أن الامامين الحسن و الحسين قد اشتركا عام 30 ه في الجيش الذي غزا طبرستان، بامرة سعيد بن العاص أمير الكوفة، فساروا الي جرجان فصالحهم أهلها علي مائتي ألف، ثم أتوا «طميسة» في تخوم جرجان، فقاتلهم أهلها، حتي صلوا صلاة الخوف، و هم يقتتلون، ثم حاصرهم المسلمون حتي طلبوا الأمان فأعطاهم سعيد بن العاص عهدا أن لا يقتل منهم رجلا واحدا، ففتحوا الحصن مستسلمين، فقتلهم الا رجلا واحدا.
هذا و قد شارك الامامان الحسن و الحسين في الدفاع عن الخليفة الشهيد عثمان بن عفان، بأمر أبيهما الامام علي، حيث أمرهما أن «اذهبا بسيفكما حتي تقوما علي باب عثمان، فلا تدعا أحدا يصل اليه بمكروه»، و فعلا ما أمر به الامام، مع جماعة من أبناء كبار الصحابة، و لما بدأ الثوار يرمون بيت الخليفة بالسهام من كل جانب، أصيب الامام الحسن بسهم فخضبه الدم، و شج قنبر مولي الامام علي، و خاف الثوار أن تغضب بنوهاشم للحسن، و من ثم كفوا عن رمي السهام، ولكنهم اقتحموا دار الخليفة من الدور التي حوله، و فعلوا فعلتهم النكراء، و فوجي‌ء الحسن و الحسين بمن يصرخ «قتل أميرالمؤمنين»، فدخلا الدار، فوجدوا الخليفة الشهيد قتيلا، و ما أن بلغ الخبر الامام عليا حتي أتي الي دار الخليفة ثائرا غاصبا، و رغم أنه رأي ولديه مخضبين بالدم، فانه لم يتمالك نفسه غضبا، فصاح بهما «كيف يقتل أميرالمؤمنين و أنتما علي الباب»، ثم رفع يده فلطم الحسين، و ضرب صدر الحسن، و خرج غضبان أسفا.
هذا و رغم أن الشيعة يرون أن الامام الحسن كان من جملة الناقدين للخليفة، لأنه رأي ما لاقاه حزب أبيه من التحطيم و التعذيب و الارهاب من الأمويين، و شاهد ما لاقاه أبوه الامام علي من الاستهانة بحقه، غير أن الدكتور محمد الصادقي انما يذهب في كتابه «علي و الحاكمون» الي أنه لما عظم تفاقم الخطر علي من في دار الخليفة المحاصر، تخلي عنه حتي أبناء عائلته الأمويين الذين كانوا هم السبب الرئيسي فيما صار اليه أمره و أمر المسلمين، فآثروا أن

[ صفحه 39]

يهربوا خفية الي الشام، حيث ينتظرهم هناك معاوية عامل الخليفة عليها، و بقي الحسن و الحسين علي رأس القوم الذين يلازمون أبواب دار الخليفة لعلهم يمنعون عنه الأذي، و هكذا كان الامام الحسن، كما يقول الدكتور طه حسين، رجل صدق، قد كره الفرقة و آثر اجتماع الكلمة و خاض غمرات الفتنة علي كره منه في أكبر الظن، قاوم الفتنه ما وسعته مقاومتها أيام عثمان فلم يخض فيما خاض الناس فيه من حديثها، و لم يشارك المعارضة حين عظم الشر، و كان من الذين أسرعوا الي دار عثمان فقاموا دون الخليفة يريدون حمايته، ولكن الخليفة قتل علي الرغم من ذلك، لأن خصمه تسوروا عليه الدار، الأمر الذي ناقشناه في كتابنا عن «امام علي».

الامام الحسن في خلافة ابيه الامام علي

كان الامام الحسن متعلقا بأبيه أشد التعلق، يكاد لا يفارقه، بخاصة بعد انتقال جده صلي الله عليه و سلم و أمه الي الرفيق الأعلي، يتعهده بالتربية، و يعطيه من خبرته و علمه الكثير، حتي اذا ما اكتملت مداركه بدأ يشاركه الرأي، و تذهب الروايات الي أن الامام الحسن لم يكن يري أن يشترك أبوه في شي‌ء من أمر الفتنة من قرب أو من بعد، و انما أشار عليه أن يعتزل الناس و أن يترك المدينة فيقيم في ماله بينبع، فلم يسمع الامام له، و انما رأي أن مكانه في المدينة حيث يستطيع أن يأمر بمعروف أو ينهي عن المنكر أو يصلح بين الناس، فلما قتل الخليفة عثمان لم ير الحسن لأبيه أن يقيم في المدينة و لا أن يتعرض للبيعة، و لا أن يقبلها، و ان عرضت عليه، و لو استطاع الحسن لاعتزل الفتنة اعتزالا، كما فعلت تلك المعتزلة من أصحاب النبي صلي الله عليه و سلم، ولكنه عرف لأبيه حقه عليه، فأقام معه و شهد مشاهده كلها، علي غير حب لذلك أو رغبة منه فيه، ثم لم يكن الحسن يري لأبيه أن يترك مهاجره في المدينه، و أن يرحل الي العراق للقاء طلحة و الزبير و السيدة عائشة، و انما كان يؤثر له أن يبقي في مهاجره مجاورا للنبي صلي الله عليه و سلم، و يكره له أن يذهب الي دار غربة و يتعرض للموت بمضيعة، و كان أبوه يعصيه في كل ما كان يشير عليه من ذلك.

[ صفحه 40]

و يروي المؤرخون أن ذلك كان في «الربذة»، و أن الامام عليا انما رد علي ولده الحسن، فقال، فيما يروي الطبري، أي بني، أما قولك لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان، فوالله لقد أحيط بنا، كما أحيط به، و أما قولك لا تبايع حتي تأتيك بيعة الأمصار، فان الأمر أمر أهل المدينة، و كرهنا أن يضيع هذا الأمر، و أما قولك حين خرج طلحة و الزبير، فان ذلك كان وهنا علي أهل الاسلام، و الله مازلت مقهورا مذ وليت، منقوصا لا أصل الي شي‌ء مما ينبغي، و أما قولك اجلس في بيتك، فكيف لي بما قد لزمني أو من تريدني، أتريد أن أكون مثل الضبع التي يحاط بها، و يقال دباب دباب، ليست هنا حتي يحل عرقوبها ثم تخرج، و اذا لم أنظر فيما يلزمني من هذا الأمر و يعنيني، فمن ننظر فيه، فكف عني أي بني»، و قد ناقشنا هذا الأمر بالتفصيل في كتابنا عن «الامام علي».
و علي أي حال، فلقد أرسل الامام علي من الربذة ثلاث سفارات الي أبي موسي الأشعري، و اليه علي الكوفة، ولكن أباموسي لم يستجب لدعوة الامام، رغم أنه بايع الامام، و أخذ له البيعة من أهل الكوفة، و هذه البيعة بداهة تفرض عليه نصرة الامام بنفسه و بأهل الكوفة، فاذا تحرج من ذلك، استقال الامام و ترك عمله، انضم الي أولئك المعتزلين، فاجتنب من الفتنة ما يجتنبون، فاما أن يكون قد بايع الامام عليا، و قبل أن يكون له واليا، ثم يأبي بعد ذلك أن ينفر مع أهل مصره، حين استنفرهم الامام، فشي‌ء لا يكاد يستقيم، و أيا ما كان الأمر، فلقد اضطر الامام الي أن يرسل له سفارة رابعة من كبار الصحابة، الامام الحسن و عبدالله بن عباس و عمار بن ياسر و قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، و لما خرج اليهم أبوموسي، قال له الامام الحسن: «لم تثبط الناس عنا، فوالله ما أردنا الا الاصلاح، و لا مثل أميرالمؤمنين يخاف علي شي‌ء» فأجاب أبوموسي: صدقت بأبي أنت و أمي، ولكن المستشار مؤتمن، سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: «انها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، و القائم خير من الماشي، و الماشي خير من الراكب، و قد جعلنا الله اخوانا و حرم علينا دماءنا

[ صفحه 41]

و أموالنا» فرد عليه عمار بن ياسر، و قال: أيها الناس: انما قال له وحده، أنت فيها قاعدا خير منك قائما».
و قام الامام الحسن فقال: أيها الناس، أنا جئنا ندعوكم الي الله و الي كتابه و الي سنة رسوله، و الي أفقه من تفقه من المسلمين، و أعدل من تعدلون، و أفضل من تفضلون، و أوفي من تبايعون، و من لم يعبه القرآن و لم تجهله السنة، و لم تقعد به السابقة، الي من قربة الله تعالي قرابتين، قرابة الدين و قرابة الرجم، الي من سبق الناس الي كل مأثرة، الي من كفي الله به رسوله و الناس متخاذلون، فقرب منه و هم متباعدون، و صلي معه و هم مشركون، و قاتل معه و هم منهزمون، و بارز معه و هم محجمون، و صدقه و هم يكذبون، الي من لم ترد له شهادة و لا تكافأ له سابقة، و هو يسألكم النصر و يدعوكم الي الحق و يأمركم بالمسير اليه، لتؤازروه علي قوم نكثوا راية بيعته، و قتلوا أهل الصلاح من أصحابه، و مثلوا بعماله، و انتهبوا بيت ماله، فأشخصوا اليه رحمكم الله، فآمروا بالمعروف و انهوا عن المنكر، و احضروا بما يحضر به الصالحون».
غير أن بعض المغرضين انما يتوهمون خطأ، و ربما حقدا، انما كان شابا هينا لينا، لا يستجيب لظروف أبيه و اذا تراءت ايجابية فالي قسط بسيط يشبه السلبية، و الحقيقة غير ذلك، فان تصرف الامام الحسن انما جاء بخير ما يرجي منه، و من ثم فقد برهن علي طول باع، اذا رافق القضية و راعي تطورها بعقل رصين حصيف، و هكذا نراه عندما يشم ريح النكوص من أبي‌موسي الأشعري، و اذا يتحقق ذلك بنفسه، انما يقول له بعزة و حزم الهاشمي «اعتزلنا لا أم لك، و دع منبرنا»، و هكذا أنفذ الحسن و كتاب أبيه الي أبي‌موسي، و الذي جاء فيه «اعتز عملنا يا ابن الحائد مذموما مدحورا، فما هذا أول يومنا منك، و ان لك فيها لهنات و هينات»، غير أن أباموسي لم يعتزل الا بعد نهب متاعه و اقتحم قصره، و كاد أن يبطش به، فاعتزل العمل و خرج من الكوفة فأتي مكة و أقام فيها مع المعتزلين، حتي كانت خدعة التحكيم، و قام فيها بدور، ليس في صالح الامام علي، علي أية حال.

[ صفحه 42]

هذا و قد شهد الحسن مع أبيه مشاهده كلها، في يوم الجمل و في صفين و في النهروان، فكان علي يمين أبيه، كما كان الحسين علي شماله، و كان أخوهما محمد بن الحنفية حامل رايته العظمي، و كان الامام علي يضن دائما بالحسن و الحسين علي الخطر، مخافة أن يصيبهما شر فتنقطع ذرية النبي صلي الله عليه و سلم، كان يقيهما بنفسه و بأخيهما محمد بن الحنفية، و كان يشتد علي محمد هذا، و يعنف به ان رأي منه في الحرب أناة أو تقصيرا حتي كلمه في ذلك بعض أصحابه، و كما أشرنا من قبل، أن محمدا سئل: «لم يغرر بك أبوك في الحرب و لا يغرر بأخويك، فأجاب انهما عيناه و أنا يمينه، فهو يدفع عز عينيه بيمينه»، و هكذا كان الامام علي أشد الناس ايثارا للحسن و الحسين لمكانهما من النبي صلي الله عليه و سلم، و كان أصحابه يصنعون صنيعه في ذلك، فيؤثرونهما بالخير و البر.
هذا و رغم أن الامام الحسن كان كارها للفتنة منذ ثارت، و أنه كان يأمل أن يحقق نبوءة جده المصطفي صلي الله عليه و سلم فيه، يوم أجلسه علي المنبر، و جعل ينظر اليه مرة، و ينظر الي الناس مرة أخري، يفعل ذلك مرارا، ثم قال صلي الله عليه و سلم: «ان ابني هذا سيد، و لعل الله أن يصلح به بين فئتين كبيرتين من المسلمين، و لا ريب أن هذا الحديث الشريف قد وقع في نفس الحسن موقعا عظيما، و كأنه ذكره حين ثارت الفتنة، بين هاتين الفئتين من المسلمين فيحقق نبوءة جده النبي صلي الله عليه و سلم، مع ذلك كله، فما تخلي الحسن عن أبيه لحظة، و كما أشرنا أكثر من مرة، فقد شهد مشاهده كلها، كما كان الي جانبه في كل أمره، و بقي كذلك حتي آخر لحظة في حياة أميرالمؤمنين الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة

[ صفحه 43]

الامام الحسن خامس الراشدين

توليته الخلافة

بويع الامام الحسن أميرا للمؤمنين بعد استشهاد أبيه مولانا الامام علي بن أبي‌طالب كرم الله وجهه في الجنة، علي خلاف بين السنة و الشيعة في كيفية هذه البيعة، فالمؤرخون و المحدثون من أهل السنة يذهبون الي أن الامام عليا أبي أن يستخلف حين طلب اليه ذلك بعد أن أصيب، روي الطبري أن جندب بن عبدالله دخل علي علي فسأله فقال: يا أميرالمؤمنين ان فقدناك، و لا نفقدك، فنبايع الحسن، فقال: «ما آمركم و لا أنهاكم، أنتم أبصر»، و في رواية ابن‌كثير أن عليا رضي الله عنه لما ضربه ابن‌ملجم، قالوا له: استخلف يا أميرالمؤمنين فقال: لا، ولكن أدعكم كما ترككم رسول الله صلي الله عليه و سلم، يعني بغير استخلاف، فان يرد الله بكم خيرا يجمعكم علي خيركم، كما جمعكم علي خيركم بعد رسول الله صلي الله عليه و سلم، و روي الامام أحمد في المسند بسنده عن عبدالله بن سبع قال: سمعت عليا يقول (و ذكر أنه سيقتل)، قالوا: فاستخلف علينا، قال: لا، ولكن أترككم الي ما ترككم اليه رسول الله صلي الله عليه و سلم، قالوا: فما تقول لربك اذا أتيته، قال أقول: «اللهم تركتني فيهم ما بدا لك ثم قبضتني اليك و أنت فيهم، فان شئت أصلحتهم، و ان شئت أفسدتهم»، و قال ابن العربي في العواصم من القواصم: «ما عهد (أي الامام علي) الي أحد، ولكن البيعة

[ صفحه 44]

للحسن منعقدة، و هو أحق من معاوية و من كثير من غيره، و كان خروجه لمثل ما خرج اليه أبوه من دعاء الفتنة الي الانقياد للحق و الدخول في الطاعة».
علي أن الشيعة انما يرون أن الامام علي استحلف الحسن نصا، و ذلك حين دفع اليه سلاحه و سائر تراث الأنبياء و الأوصياء و سلمه الاسم الأعظم، و أن عليا جمع أولاده بعد طعنه، و كانوا اثني عشر ذكرا فقال لهم: يا بني ان الله عزوجل قد أبي الا أن يجعل في سنة يعقوب اذا دعا ولده، و كانوا اثني عشر ذكرا، فأخبرهم بصاحبهم، ألا و اني أخبركم بصاحبكم، الا ان هذين ابنا رسول الله صلي الله عليه و سلم، و أشار الي الحسن و الحسين فاسمعوا لهما و أطيعوا، و ذودوا عنهما، فاني ائتمنتهما علي ما ائتمنني رسول الله، مما ائتمنه الله عليه من خلقه، و هكذا فان امامة الحسن، من وجهة نظر الشيعة، واجبة لا محيص عنها، من حيث أنه السبط الأكبر لرسول الله صلي الله عليه و سلم، و أول الأئمة من ذرية الرسول صلي الله عليه و سلم فهو اذا همزة الوصل بين الرسول صلي الله عليه و سلم و بين أي امام منتسب الي آل البيت.
و علي أي حال، فالامام الحسن، دونما ريب، انما هو الخليفة الطبيعي لأبيه أميرالمؤمنين علي بن أبي‌طالب، كرم الله وجهه في الجنة، فهو ريحانة رسول الله صلي الله عليه و سلم، و سيد شباب أهل الجنة، و هو امام، ان قام أو قعد، فقد قال جده رسول الله صلي الله عليه و سلم: «الحسن و الحسين امامان، ان قاما و ان قعدا»، و قد هذبه الله عن كل نقص و رجس، كما دلت علي ذلك آية التطهير (آية 33 الأحزاب)، هذا فضلا عن توافر جميع ما تتطلبه الخلافة من الصفات الرفيعة في شخصه كالعلم و التقوي و الحزم و الجدارة.
روي أبوالفرج بسنده في «مقاتل الطالبيين»، و المحب الطبري في ذخائر العقبي (و قال أخرجه الدولابي) و غيرهما كالطبري و ابن‌الأثير و ابن أبي‌الحديد و الشيخ المفيد و ابن‌الجوزي في صفوة الصفوة، و أن الحسن بن علي خطب بعد وفاة أميرالمؤمنين علي بن أبي‌طالب، فقال: «لقد قبض الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل، و لا يدركه الآخرون بعمل، و لقد كان يجاهد مع رسول الله صلي الله عليه و سلم فيقيه بنفسه، و لقد كان يوجهه برايته فيكتنفه جبريل عنه يمينه، و ميكائيل عن يساره، فلا

[ صفحه 45]

يرجع حتي يفتح الله عليه، و لقد توفي في هذه الليلة التي عرج فيها بعيسي بن مريم، و لقد توفي فيها يوشع بن نون، وصي موسي، و ما خلف صفراء و لا بيضاء الا سبعمائة درهم بقيت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادما لأهله»، ثم خنقته العبرات فبكي و بكي الناس، ثم قال: «أيها الناس من عرفني فقد عرفني، و لم يعرفني فأنا الحسن بن علي، و أنا ابن النبي، و أنا ابن‌البشير النذير، و أنا ابن الداعي الي الله عزوجل باذنه، و أنا ابن‌السراج المنير، و أنا من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، و أنا من أهل البيت الذين افترض مودتهم علي كل مسلم فقال تعالي لنبيه صلي الله عليه و سلم: (قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربي، و من يقترف حسنة نزد له فيها حسنا)، فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت».
و هكذا تضمن خطاب الامام الحسن دعوة الناس الي مبايعته، و قد كانت دعواه رائعة، بكل ما للروعة من معني، فهو قد عرف الناس، وهم يعرفون، أنه ابن النبي، و ابن الداعي الي الله و ابن السراج المنير، و أنه الآن رأس البيت الذين أذهب عنهم الحزن و الأباطيل، و من ثم فهو أحق الناس بالخلافة بعد أبيه.
روي أبومخنف عن رجاله: ثم قام عبدالله بن عباس فدعا الناس الي بيعته و قال: «معاشر المسلمين هذا ابن نبيكم و وصي امامكم فبايعوه»، فاستجابوا و قالوا: ما أحبه الينا و أحقه بالخلافة فبايعوه، و هكذا تمت البيعة و هم انما يبايعون الله و رسوله، و ثم يستعرض ابن‌عباس في خطابه مزايا أهل البيت و حقهم الصريح في الأمر، فيقول: «نحن حزب الله الغالبون و عترة رسوله الأقربون، و أهل بيته الطيبون الطاهرون، و أحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله في أمته».
و هكذا بدأت البيعة للامام الحسن، روي الطبري و ابن الأثير، أنه في سنة أربعين للهجرة، بويع للحسن، عليه‌السلام: بعد مقتل أبيه، و كان أول من بايعه قيس بن سعد الأنصاري، قال له: ابسط يدك أبايعك علي كتاب الله عزوجل و سنة نبيه، و قتال المحلين، فقال له الحسن: علي كتاب الله و سنة رسوله، فانهما يأتيان علي كل شرط، فبايعة و سكت و بايع الناس، و قال ابن‌كثير: لما توفي الامام

[ صفحه 46]

علي، و صلي عليه ابنه الحسن لأنه أكبر بنيه، و كان أول من تقدم الي الحسن، قيس بن سعد فبايعه و بايعه الناس بعده، و كان ذلك يوم مات الامام علي في يوم الجمعة السابع عشر من رمضان عام 40 ه، و هكذا تجمع الروايات أو تكاد، علي أن المسلمين قد فزعوا بعد موت الامام و أجمعوا أمرهم علي مبايعة الامام الحسن، فاجتمعوا في جامع الكوفة في صباح يوم 16 (و قيل 21) من رمضان المبارك سنة أربعين للهجرة و قدمه للخلافة و بايعه، قيس بن سعد، و عبدالله بن عباس، و أما الأول فهو أعظم قواد الامام علي الذين بقوا علي قيد الحياة، بعد موت عمار بن ياسر و الأشتر، فكانت بيعته بيعته الأنصار، و أما الثاني فكانت بيعته بيعة بني‌هاشم و آل النبي صلي الله عليه و سلم.
و لعل من الأهمية بمكان الاشارة الي تلك الدعوي الكذوب التي نادي بها البعض، و هي أن الامام الحسن قد تسرع في قبول الخلافة في مثل الظرف الذي بايعه فيه الناس، بما كان يؤذن به هذا الظرف من زعازع و نتائج بعضها ألم، و بعضها خسران، و يرد الشيخ راضي آل ياسين في كتابه «صلح الحسن»، فيما يروي أبوعلم، علي بطلان هذا الزعم بأدلة منها (أولا) أنه لما كان من الواجب علي الناس الانقياد الي بيعة الامام المنصوص عليه، كان الواجب علي الامام، مع قيام الحجة علي وجود الناصر، قبول البيعة من الناس، و منها (ثانيا) أن هذه الدعوي انما تنظر الي قضية الامام الحسن من ناحيتها الدنيوية، و الأنسب النظر اليها من ناحيتها الدينية، و كثير هو الفرق بين الدنيا و الدين في نظر امام، و من ثم فهي ظفر لا خسارة، رغم ما فيها من متاعب، و من أولي من الحسن بالاسلام و تحمل آلامه فهو نبت بيته الطاهر، بيت النبوة، و منها (ثالثا) لم يكن الامام الحسن، في رفعة مكانة بين المسلمين، و في نسبه الشريف، و مركزه العلمي، بالذي يستطيع الفراغ، و ان أراده عن عمد، و لا بالذي يتركه الناس و ان أراد هو أن يتركهم، و كان لابد للرجات العنيفة في المجتمع الاسلامي أن تتدافع اليه، تستدعيه للوثوب، احقاقا للحق، و انكارا للمنكر، كما وقع من بعد لشقيقه الامام الحسين، و منها (رابعا) أنه لو ترك الناس و بيعتهم أو تركه الناس و أعفوه خلافتهم،

[ صفحه 47]

فلن يتركه المتغلبون علي الناس، و أنهم لينظرون اليه دائما، و كأنه شبح مخيف لهم، بما يدور حوله من الدعوة الي الاصلاح أو النقمة الصارخة علي الوضع التي كان يتطوع لها الساخطون و المعارضون و الدعاة لله من مختلف الطبقات، و لن يجد هؤلاء و أولئك يومئذ ملجأ يفيئون اليه خيرا من ابن رسول الله صلي الله عليه و سلم الامام المحبوب، الحسن بن علي، و لنتذكر أنه مات مسموما، و لماذا يقتلونه سما، و قد صالحهم علي الأمر، و ترك لهم الدنيا برمتها، لولا أنهم خافوه علي سلطانهم، و رأوا من وجوده حاجزا يمنعهم من النفوذ الي قلوب الناس، مما يدل علي انقياد الناس، في عقيدتهم، اليه دونهم، و أخيرا فان الخلافة في أصلها انما هي مقام أبيه و ميراثه و ميراث أخيه، علي حد تعبير الامام علي بن موسي بن جعفر، عليهم‌السلام، و أما الزعازع التي لوح بها هذا النقد، فما كانت الا خطط المناوئين في الكوفة، و ليس شي‌ء منها بالذي يضير الحسن ابان نشاط الناس معه، كما هو في ابان بيعته، و أي خليفة أو زعيم ليس له مناوئون، فلم لا يكون قبول البيعة هو الأرجح علي مختلف الوجوه، بل هو الواجب لضرورة الوقت و للمصلحة العامة و لاحقاق الحق.

الامام الحسن خامس الراشدين

لا ريب في أن الامام الحسن انما هو أحد الخلفاء الراشدين بعد أبيه الامام علي، تحققت به و عليه معجزة جده سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم في قوله الشريف «الخلافة بعدي ثلاثون سنة»، و صدق سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم و صدقت معجزته، فكان للامام الحسن منها قرابة ستة أشهر تتميما لها، أو سبعة أشهر و أحد عشر يوما، فيما يري ابن‌عساكر، و من ثم فهو خامس الراشدين، أخرج ابن‌حبان و الامام أحمد عن سفينة مولي رسول الله صلي الله عليه و سلم قال سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا عضوضا»، و يقول الحافظ ابن‌كثير عن خلافة الامام الحسن، «أن أهل الشام بايعوا معاوية بايلياء (القدس) لأنه لم يبق له عندهم منازع، فعند ذلك أقام أهل العراق الحسن بن علي رضي الله عنه ليمانعوا به أهل الشام، فلم يتم لهم ما أرادوه و حاولوه، و انما كان خذلانا لهم من قبل تدبيرهم و آرائهم المختلفة المخالفة لأمرائهم، ولو كانوا يعلمون لعظموا ما أنعم الله به

[ صفحه 48]

عليهم من مبايعتهم ابن بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم و سيد المسلمين، و أحد علماء الصحابة و حلمائهم و ذوي آرائهم، و الدليل علي أن الحسن أحد الخلفاء الراشدين، الحديث الذي أوردناه في دلائل النبوة من طريق سفينة مولي رسول الله صلي الله عليه و سلم و الذي رواه الامام أحمد و الترمذي و أبويعلي و ابن‌حبان: أن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا»، و انما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي، فانه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول سنة احدي و أربعين، و ذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلي الله عليه و سلم، فانه توفي في ربيع الأول سنة احدي عشرة من الهجرة، و هذا من دلائل النبوة، صلوات الله و سلامه عليه و سلم تسليما، و قد مدحه رسول الله صلي الله عليه و سلم علي صنيعه هذا، و هو تركه الدنيا الفانية، و رغبته في الآخرة الباقية، و حقنه دماء هذه الأمة، فنزل عن الخلافة، و جعل الملك بيد معاوية حتي تجتمع الكلمة علي أمير واحد».
و روي المسعودي أنه صح عن رسول الله صلي الله عليه و سلم أنه قال «الخلافة بعدي ثلاثون سنة»، لأن أبابكر رضي الله عنه تقلدها سنتين و ثلاثة أشهر و ثمانية أيام، و عمر رضي الله عنه عشر سنين و ستة أشهر و أربع ليال، و عثمان رضي الله عنه احدي عشرة سنة و أحد عشر شهرا و ثلاثه عشر يوما، و علي رضي الله عنه أربع سنين و سبعة أشهر، الا يوما، و الحسن رضي الله عنه ثمانية أشهر و عشرة أيام، فتكون ثلاثون سنة»، و أخرج ابن‌عساكر في التاريخ بسنده، أخرج الحافظ عبدالله بن الامام أحمد بن حنبل عن سفينة عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة»، ثم قام رجل كان حاضرا في مجلس عبدالله فقال: «قد دخلت في هذه الثلاثين سنة شهور في خلافة معاوية»، فقال من حضر: «ان تلك الشهور كانت فيها البيعة للحسن، بايعه أربعون ألفا، و اثنان و أربعون ألفا»، و لما قتل علي رضي الله عنه بايع أهل الكوفة الحسن بن علي رضي الله عنه و أطاعوه، و أحبوه أشد من حبهم لأبيه، و كان قد ولي الخلافة سبعة أشهر، و أحد عشر يوما، و كان التقاؤه بمعاوية بمسكن من أرض العراق، فتصالحا في ربيع الأول سنة احدي و أربعين»، و يقول ابن‌خلكان في وفيات الأعيان: «و كان آخر ولاية الحسن رضي الله عنه تمام

[ صفحه 49]

ثلاثين سنة من أول خلافة أبي‌بكر الصديق رضي الله عنه»، و يقول ابن‌تيمية في رسالته «فضل أهل البيت و حقوقهم» بعد أن ذكر الحديث الشريف الذي رواه سفينة «الخلافة ثلاثون سنة ثم تصير ملكا»: فكان آخر الثلاثين حين سلم سبط رسول الله صلي الله عليه و سلم الحسن بن علي رضي الله عنهما، الأمر الي معاوية، و كان معاوية أول الملوك».
و هكذا يتفق العلماء علي أنه لم يكن في الثلاثين سنة التي حددها النبي صلي الله عليه و سلم للخلافة بعده، الا الخلفاء الراشدون الأربعة (أبوبكر و عمر و عثمان و علي) و كملت الثلاثون سنة بخلافة الحسن المدة التي مكث فيها خليفة حق، و امام عدل، تحقيقا لما أخبر به جده المصطفي صلي الله عليه و سلم بقوله: «الخلافة بعد ثلاثون سنة»، و من ثم فقد كانت خلافة الحسن بن علي، منصوصا عليها، و ان كانت محدودة الأجل، ثم يبدأ الملك العضوض بمعاوية بن أبي‌سفيان، فلقد أخرج ابن أبي‌شيبة في المصنف، عن سعيد بن جمهان، قال قلت لسفينة (مولي رسول الله صلي الله عليه و سلم) ان بني‌أمية يزعمون أن الخلافة فيهم، قال: «كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوك و من أشد الملوك، و أولهم معاوية».
و روي ابن‌الأثير و غيره: لما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه سعد بن أبي‌وقاص رضي الله عنه فقال: السلام عليك أيها الملك، فضحك معاوية و قال: ما كان عليك يا أبااسحاق لو قلت: يا أميرالمؤمنين، فقال: «أتقولها جذلان ضاحكا، والله ما أحب أني وليتها بما وليتها به»، و يسمي ابن‌تيمية في كتابه «منهاج السنة» معاوية بالملك، و ليس الخليفة، فيقول: «لم يكن من ملوك الاسلام ملك خيرا من معاوية، و لا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية»، و قد أشرنا آنفا الي رواية ابن‌كثير التي فرق فيها بين عهد الامام الحسن، و عهد معاوية، فسمي عهد الأول خلافة، و الثاني ملكا، حيث قال: «و قد مدحه (أي الحسن) رسول الله صلي الله عليه و سلم علي صنيعه، و هو ترك الدنيا الفانية، و رغبته في الآخرة الباقية، و حقنه دماء هذه الأمة، فنزل عن الخلافة، و جعل الملك بيد معاوية» بل ان معاوية نفسه انما كان يقول عن نفسه «أنا أول الملوك»، هذا فضلا

[ صفحه 50]

عن أن الجملة التي ينسبها أنصار معاوية و مريدوه الي عبدالله بن عباس، علي أنها مديح لمعاوية، لا تعدو وصفه بالملك و ليس الخلفة، و هي قوله «ما رأيت رجلا كان أخلق بالملك من معاوية»، بل ان ابن العربي الذي كتب كتابه «العواصم من القواصم» للدفاع عن معاوية و بني‌أمية، انما يتحدث فيه عن مراتب الولاية، علي أنها: خلافة ثم ملك، فتكون ولاية الخلافة للأربعة (ابوبكر و عمر و عثمان و علي)، و تكون ولاية الملك لابتداء معاوية»، و علي أي حال، فان المؤرخين يذهبون الي أن معاوية قد أحاط نفسه بكل مظاهر الملك، فقد لازم الخلافة في عهده طابع سياسي أكثر منه دينيا، و أصبحت كلمة ملك بمعني الحاكم المطلق (أؤتوقراطي) يطلقها المؤرخون عليه و علي خلفائه، و هو نفسه الذي قال «أنا أول الملوك»، و قد استحدث أمورا للخلافة لم تكن من قبل، فبني لنفسه قصرا في دمشق سماه «الخضراء»، كما اتخذ السرير أو العرش و جعل الحراس تمشي بالحراب بين يديه، و أوجد الشرطة لحراسته، و كان اذا صلي في المسجد جلس في بيت منفرد بجدران عرف بالمقصورة، و أخيرا فقد استحدث معاوية في الاسلام بدعة ولي العهد، فاستخلف ابنه يزيد من بعده علي سلطان المسلمين، فغير بذلك السنة الموروثة تغييرا خطيرا، الأمر الذي أدي الي مذبحة كربلاء التي راح ضحيتها أهل بيت النبي صلي الله عليه و سلم و ذبحت ذريتة، فضلا عن الاستباحة الخليعة لحرم رسول الله صلي الله عليه و سلم بالمدينة، و الاعتداء علي حرم الله الآمن بمكة المكرمة.
و هكذا يبدو واضحا أن خلافة الامام الحسن انما كانت نهاية الخلافة، كما أخبر جده صلي الله عليه و سلم و من ثم فهو خامس الراشدين، حيث تنتهي بعهده عهد الخلافة، و يبدأ عصر الملوك، و صدق رسول الله صلي الله عليه و سلم فيما رواه الطبراني عن معاذ بن جبل و أبي‌عبيدة بسنده، أن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال: ان هذا الأمر بدأ رحمة و نبوة، ثم يكون رحمة و خلافة، ثم كائن ملكا عضوضا، ثم كائن عتوا و جبرية و فسادا في الأرض، يستحلون الحرير و الفروج و الخمور، و يرزقون علي ذلك و ينصرون حتي يلقوا الله عزوجل».

[ صفحه 51]

سياسة الامام الحسن

وضع و الحسن لبيعته خاصة، و قبض يده عما أريد معها من قيود، و أرادها هو علي السمع و الطاعة و الحرب لمن حارب و السلم لمن سالم، فكان عند ظن المعجبين ببلاغته الادارية بما ذكر من الحرب، و لوح بالسلم، فأرضي الفريقين من أحزاب الكوفة، دعاة الحرب و دعات السلم، و قد كان لديه من الوضع العام في الكوفة ما يكفيه لاتخاذ مثل هذه الحيطة الحكيمة لوقت ما، غير أن بعض الروايات انما تذهب الي أنه طفق، كما يقول الزهري، يشترط علي الناس أن يسمعوا و يطيعوا، و يحاربوا من حارب، و يسالموا من سالم، فلما سمع الناس منه تكراره لأمر السلم ارتابو و ظنوا أنه يريد الصلح، و قال بعضهم لبعض: ليس هذا لكم بصاحب و انما هو صاحب صلح، بل ان البعض انما ذهب الي أنهم قد أتوا أخاه الامام الحسين و قالوا له: ابسط يدك نبايعك علي ما بايعنا عليه أباك، و علي حرب الحالين الضالين أهل الشام، فقال الامام الحسين: «معاذ الله أن أبايعكم مادام الحسن حيا، فانصرفوا الي الحسن و لم يجدوا بدا من بيعته علي شرطه»، ولكن الحقيقة أن الغالبية العظمي من القوم انما كانت تناصر الامام الحسن، لأنه اين رسول الله صلي الله عليه و سلم و ابن ابنته، و لأن من شرط الايمان مودته، و من شرط البيعة طاعته، و كما يقول ابن‌كثير «و أحبوه أشد من حبهم لأبيه»، و علي رأس هؤلاء جمهرة من المهاجرين و الأنصار الذين كان لهم من صحبتهم لرسول الله صلي الله عليه و سلم ما يفرض لهم المكانة الرفيعة بين الناس، و كان منهم قيس بن سعد الأنصاري، و حجر بن عدي الكندي، و عمرو بن الحمق الخزاعي، و سعد بن قيس الهمداني، و حبيب بن مظاهر الأسدي، و عدي بن حاتم الطائي، و المسيب بن نجية و زياد بن صعصعة و غيرهم.
هذا و قد زاد الامام الحسن، فيما يقول أبوالفرج و ابن أبي‌الحديد، المقاتلة مائة مائة، و كان ذلك أول شي‌ء استحدثه حين الاستخلاف، فتبعه الخلفاء من بعده عليه، هذا فضلا عن أن الامام الحسن انما مكث بعد البيعة شهرين أو قريبا من شهرين لا يذكر الحرب و لا يظهر استعدادا لها، حتي ألح

[ صفحه 52]

عليه قيس بن سعد و عبيدالله بن العباس، و كتب اليه عبدالله بن العباس من مكة يحرضه علي الحرب، و يلح عليه في أن ينهض فيما كان ينهض فيه أبوه، و ان كان هناك من يري أن ابن‌عباس انما كتب رسالته هذه الي الحسن و هو ما يزال بعد واليا علي البصرة من قبل الحسن، كما كان واليا عليها من قبل أبيه، الأمر الذي ناقشناه في كتابنا عن «الامام علي»، و علي أية حال، فلقد جاء في هذه الرسالة، كما أوردها ابن أبي الحديد في شرح نهج‌البلاغة، «أما بعد، فان المسلمين ولوك أمرهم بعد علي، عليه‌السلام، فشمر للحرب و جاهد عدوك، و قارب أصحابك، و اشتر من الظنين دينه بما لا يلثم لك دنياه، وول أهل البيوت و الشرف تستصلح به عشائرهم حتي يكون الناس جماعة، فان بعض ما يكره ما لم يتعد الحق، و كانت عواقبه تؤدي الي ظهور العدل و عزالدين، خير من كثير مما يحبه الناس اذا كانت عواقبه تؤدي الي ظهور الجور، انه لا يصلح الكذب، الا في حرب أو اصلاح بين الناس، فان الحرب خدعة، و لك في ذلك سعة، اذ كنت محاربا، ما لم تبطل حقا، و اعلم أن عليا أباك انما رغب الناس عنه الي معاوية أنه آسي بينهم في الفي‌ء و سوي بينهم في العطاء فثقل عليهم، و اعلم أنك تحارب من حارب الله و رسوله في ابتداء الاسلام حتي ظهر أمر الله فلما وحد الرب و محق الشرك و عز الدين، أظهروا الايمان و قرأوا القرآن مستهزئين بآياته، و قاموا الي الصلاة و هم كسالي،و أدوا الفرائض و هم كارهون، فلما رأوا أنه لا يعز في الدين الا الأتقياء الأبرار، توسموا بسيمي الصالحين ليظن المسلمون بهم خيرا، فيما زالوا بذلك حتي شركوهم في أماناتهم و قالوا حسابهم علي الله، فان كانوا صادقين فاخواننا في الدين، و ان كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا هم الأخسرين، و قد منيت بأولئك و بأبنائهم و أشباههم، و الله ما زادهم طول العمر الا غيا، و لا زادهم ذلك لأهل الدين الا مقتا، فجاهدهم و لا ترض دنية و لا تقبل خسفا، فنا عليا أباك لم يجب الي الكوفة حتي غلب علي أمره، فأجاب و انهم يعلمون، أنه أولي بالأمر ان حكموا بالعدل، فلما حكموا بالهوي رجع الي ما كان عليه حتي أتي اليه أجله، و لا تخرجن من حق أنت أولي به حتي يحول الموت دون ذلك، و السلام».

[ صفحه 53]

المراسلات بين الامام الحسن و معاوية

يروي أبوالفرج و الشيخ المفيد، أنه لما بلغ معاوية وفاة أميرالمؤمنين علي، و بيعة الناس لابنه الحسن، دس رجلا من بني حمير الي الكوفة، و رجلا من بني القين الي البصرة، يكتبان اليه بالأخبار، فدل علي الحميري عند لحام جرير، و علي القيني بالبصرة، فأخذا و قتلا، و كتب الحسن الي معاوية: «أما بعد، فانك دسست الي الرجال كأنك تحب اللقاء، و ما أشك في ذلك فتوقعه ان شاء الله، و قد بلغني أنك شمت بما لا يشمت به ذوالحجي» (يشير الي ما أظهره معاوية من الفرح بمقتل الامام علي)، فكتب اليه معاوية «أما بعد، فقد وصل كتابك و فهمت ما ذكرت فيه، و لقد علمت بما حدث فلم أفرح و لم أحزن، و لم أشمت و لم آس».
و أرسل الامام الحسن رسالة أخري الي معاوية يدعوه الي مبايعته و طاعته و الدخول فيما دخل فيه المسلمون، وقد أرسلها مع الحارث بن سويد التميمي و جندب الأزدي، و هما من عيون المؤمنين و ثقات الاسلام، و هاك نص الرسالة، كما رواها أبوالفرج و ابن أبي‌الحديد، «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبدالله الحسن أميرالمؤمنين الي معاوبة بن أبي‌سفيان، سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا اله الا هو، أما بعد، فان الله تعالي عزوجل بعث محمدا صلي الله عليه و سلم رحمة للعالمين، و منة علي المؤمنين، و كافة الي الناس أجمعين «لينذر من كان حيا و يحق القول علي الكافرين»، فبلغ رسالات الله، و قام علي أمر الله حتي توفاه الله غير مقصر ولا و ان، حتي أظهر الله به الحق، و محق به الشرك، و نصر به المؤمنين، و أعز به العرب، و شرف به قريشا خاصة «و انه لذكر لك و لقومك»، فلما توفي صلي الله عليه و سلم تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته و أسرته و أولياؤه، و لا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد في الناس و حقه، فرأت العرب أن القول كما قالت قريش، و أن الحجة لهم في ذلك علي من نازعهم أمر محمد صلي الله عليه و سلم فأنعمت لهم العرب و سلمت ذلك، ثم حاحجنا نحن قريش بمثل ما حاجت به العرب، فلم تنصفنا قريش انصاف العرب لها، انهم أخذوا هذا الأمر

[ صفحه 54]

دون العرب بالانتصاف و الاحتجاج، فلما صرنا أهل بيت محمد و أوليائه الي محاجتهم، و طلب النصفة منهم باعدونا و استولوا بالاجتماع علي ظلمنا و مراغمتنا، و العنت منهم لنا، فالأمر لله، و هو الولي النصير، و قد تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا و سلطان نبينا صلي الله عليه و سلم و ان كانوا ذوي فضيلة و سابقة في الاسلام، فأمسكنا عن منازعتهم مخافة علي الدين أن يجد المنافقون و الأحزاب بذلك معمزا يثلمونه به، أو يكون لهم بذلك سبب لما أرادوا من فساده، فاليوم فليعجب المتعجب من توثبك يا معاوية علي أمر لست من أهله، لا بفضل في الدين معروف، و لا أثر في الاسلام محمود، و أنت ابن‌حزب من الأحزاب، و ابن أعدي قريش لرسول الله صلي الله عليه و سلم ولكن الله خيبك و سترد فتعلم لمن عقبي الدار، تالله لتلقين عن قليل ربك، ثم ليجزينك بما قدمت يداك و ما الله بظلام للعبيد».
«ان عليا، رضوان الله عليه، لما مضي لسبيله - رحمه الله، يوم قبض، و يوم من الله عليه بالاسلام، و يوم يبعث حيا - و لاني المسلمون الأمر بعده، فاسأل الله أن لا يزيدنا في الدنيا الزائلة شيئا ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامته، و انما حملني علي الكتاب اليك الاعذار فيما بيني و بين الله سبحانه و تعالي في أمرك، و لك في ذلك ان فعلت الحظ الجسيم، و للمسلمين فيه صلاح، فدع التمادي في الباطل، و ادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فانك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عندالله و عند كل أواب حفيظ، من الله له قلب منيب، واتق الذه ودع البغي، و احقن الدماء، فوالله ما لك من خير أن تلقي الله من دماء المسلمين بأكثر مما أنت لاقيه به، فادخل في السلم و الطاعة، و لا تنازع الأمر أهله، و من هو أحق به منك، ليطفي‌ء الله العداوة بذلك، و تجمع الكلمة، و تصلح ذات البين، و ان أنت أبيت الا التمادي في غيك، نهدت اليك المسلمين، فحاكمتك حتي يحكم الله بيننا، و هو خير الحاكمين».
فكتب معاوية الي الامام الحسن «بسم الله الرحمن الرحيم»، من عبدالله أميرالمؤمنين الي الحسن بن علي، سلام عليك، فاني أحمد اليك الذي لا اله

[ صفحه 55]

الا هو، أما بعد، فقد بلغني كتابك، و فهمت ما ذكرت به رسول الله صلي الله عليه و سلم من الفضل، و هو أحق الأولين و الآخرين بالفضل كله، قديمه و حديثه، و صغيره و كبيره، فقد والله بلغ فأدي، و نصح و هدي، حتي أنفذ الله به من التهلكة، و أنار به من العمي، و هدي به من الضلالة، فجزاه الله أفضل ما جزي نبيا عن أمته، فرأيتك صرحت بتهمة أبي‌بكر الصديق، و عمر الفاروق و أبوعبيدة الأمين، و حواري الرسول صلي الله عليه و سلم و صلحاء المهاجرين و الأنصار، فكرهت ذلك لك، فانك امرؤ عندنا و عند الناس غير ظنين، و لا المسي‌ء و لا اللئيم، و أنا أحب لك القول السديد و الذكر الجميل».
«ان هذه الأمة اختلفت بعد نبيها لم تجهل فضلكم و لا سابقتكم و لا قرابتكم من النبي صلي الله عليه و سلم و لا مكانتكم في الاسلام و أهله، فرأت الأمة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانتها من نبيها، و رأي صلحاء الناس من قريش و الأنصار و غيرهم من سائر الناس و عامتهم، أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها اسلاما، و أعلمها بالله، و أحبها له و أقواها علي أمر الله، فاختاروا أبابكر، و كان ذلك رأي ذوي الحجي و الدين و الفضيلة و الناظرين للأمة، فأوقع ذلك في صدوركم التهمة، و لم يكونوا بمتهمين، و لا فيما أتوا بمخطئين، و لو رأي المسلمون فيكم من يغني غناءه أو يقوم مقامه أو يذب عن حريم الاسلام ذبه، ما عدلوا بذلك الأمر الي غيره رغبة عنه، ولكنهم عملوا في ذلك بما رأوه صلاحا للاسلام و أهله، فالله يجزيهم عن الاسلام و أهله خيرا، و قد فهمت الذي دعوتني اليه من الصلح، و الحال فيما بيني و بينك اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم و أبوبكر بعد النبي صلي الله عليه و سلم، و لو علمت أنك أضبط مني للرعية، و أحوط علي هذه الأمة، و أحسن سياسة، و أقوي علي جمع المال و أكيد للعدو، لأجبتك الي ما دعوتني اليه، و رأيتك لذلك أهلا، ولكني قد علمت أني أطول منك ولاية، و أقدم منك لهذه الأمة تجربة، و أكثر منك سياسة، و أكبر منك سنا، فأنت أحق أن تجيبني الي هذه المنزلة التي سألتني، فادخل في طاعتي و لك الأمر من بعدي، و لك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ تحمله الي حيث أحببت، و لك خراج

[ صفحه 56]

أي كور العراق شئت، معونة لك علي نفقتك يجبيها لك أمينك، و يحملها لك في كل سنة، و لك ألا يستولي عليك بالاساءة و لا تقضي دونك الأمور، و لا تعصي في أمر أردت به طاعة الله، عزوجل، أعاننا الله و اياك علي طاعته، انه سميع مجيب الدعاء، و السلام».
قال جندب بن عبدالله الأزدي، رسول الحسن الي معاوية: فلما أتيت الحسن بن علي بكتاب معاوية قلت له: «ان الرجل سائر اليك، فابدأ أنت بالمسير حتي تقابله في أرضه و بلاده و عمله، فاما أن تقدر أنه يتناولك فلا والله حتي يري يوما أعظم من يوم صفين، فقال أفعل، ثم قعد عن مشورتي و تناسي قولي».
هذا و يعلق الدكتور أحمد رفاعي علي رسالة معاوية هذه في كتابه «عصر المأمون»، بأن هذه الرسالة قد حوت بعض المغالطات، فقد جاء فيها: «ان هذه الأمة لما اختلفت بعد نبيها لم تجهل فضلكم ولا سابقتكم في الاسلام، و لا قرابتكم من النبي صلي الله عليه و سلم... الخ»، و من يتتبع الأحداث التي وقعت بعد النبي صلي الله عليه و سلم عرف أن العترة الطاهرة واجهت بعد النبي صلي الله عليه و سلم أشق المحن و الخطوب، فان الجرح لما يندمل، و الرسول صلي الله عليه و سلم لما يقبر، استبد القوم بالأمر، و عقدوا اجتماعهم في السقيفة، و تغافلوا عترة نبيهم، و كان لهذا كله الأثر الذي ظهر بعد خمسين عاما من وفاة النبي صلي الله عليه و سلم فقد تتابعت عليهم الخطوب، فاذ المسلمون من موكب جهير يجوب البيداء من بلد الي بلد، و هم يحملون رؤوس أبناء النبي صلي الله عليه و سلم علي أطراف الرماح»، بعد مذبحة كربلاء المشهورة و التي تشهد بوضوح الي ما وصل اليه القوم من الانحطاط الديني و الخلقي، و كيف هان آل بيت النبي صلي الله عليه و سلم علي بني‌أميه الذين جعلت منهم نبوة محمد صلي الله عليه و سلم شيئا مذكورا في تاريخه، ما كانوا بدونه الا عدما أو شيئا من العدم.
ثم ان رسالة معاوية هذه انما تفضح عن صاحبها، و تظهر نواياه في السلطان التي طالما أخفاها تحت ستار الأخذ بثأر عثمان علي أيام الامام علي، فطالما كتب اليه الامام يطلب منه الدخول فيما دخل فيه المسلمون من البيعة

[ صفحه 57]

لعلي، بعد أن خذله هواه الشخصي، فخرج علي الامام بغير حق، لأنه كان ملزما، و هو بالشام، ببيعة الامام علي الذي بايعه أهل الحل و العقد بالمدينة من المهاجرين و الأنصار و أهل بدر و هم الذين بايعوا أبابكر و عمر و عثمان، و رضي معاوية ببيعتهم، ولكنه كان يأبي و يحتج بأنه انما يطالب بدم عثمان الخليفة الشهيد، و تلك دعوي حق أريد بها باطل، ذلك لأن أقل ما كان يجب علي معاوية أن يبايع للامام ثم يطالبه بأن يمكنه من القصاص لعثمان رضي الله عنه، لكن معاوية لم يبايع الامام الذي بايعه المهاجرون و الأنصار، و مع هذا فهو يطالبه بالقصاص من قتلة عثمان، و الا فلا بيعة و لا سمع و لا طاعة، و التناقص واضح في موقف معاوية، فلو أنه بايع الامام لكان له وجه حق فيما طالب به، ولكنه يحجب عنه بيعته و طاعته، ثم يعود فيلزمه ما يلزم ولي الأمر من رد المظالم فذلك ما لا يستقيم علي منطق أو واقع، لكن دم عثمان لم يكن عند معاوية هدفا لذاته، و انما كان وسيلة لوصول معاوية الي الحكم و السطان، فلما وصل الي الملك و السلطان، لم يبادر بالقصاص لدم عثمان، و انما رضي بما غنمه من ملك الدنيا، و أرضي ورثة عثمان بالفتات و ببعض الكلمات.
ثم ها هو الآن مع الامام الحسن بن علي يسلك نفس الطريق، و ان اختلفت الوسيلة، فهو يري نفسه، دون ابن رسول الله صلي الله عليه و سلم الحسن بن علي، أنه أضبط للرعية و أحوط للأمة و أحسن للسياسة و أقوي علي جمع الأموال و أكيد للعدو، و حجته في ذلك أنه أطول ولاية و أقدم تجربة و أكثر سياسة و أكبر سنا، ولو طبقنا مبدأ معاوية هذا في أية دولة، قديما أو حديثا، لكان معناه أن أقدم موظفي الدولة، أولي برياستها من صاحب الحق الشرعي فيها، و لكان أكبر المواطنين سنا أولي بالملك من غيره، و هذا ما لم يقل به أحد، فضلا عن أن الامام الحسن يتمتع بصفات ليس لمعاوية منها نصيب، و لعل المتحذلقين و الكارهين لذرية النبي صلي الله عليه و سلم و آل بيته الطارهين، يتذكرون الأحاديث الشريفة التي رويت عن النبي صلي الله عليه و سلم في حق الامام الحسن، فهو ابن النبي، و هو السيد، و هو امام ان قام أو قعد، ثم ان أسلوب معاوية المعروف من استمالة الناس بالأموال و اغرائهم

[ صفحه 58]

بالمناصب، انما يريد أن يطبقه حتي مع الامام الحسن فهو يعرض عليه الأمر من بعده، ثم له ما شاء من مال العراق بالغا ما بلغ، و خراج أي كور العراق بعد ذلك ثم الأمان لنفسه و أهله، و ألا تقضي الأمور بدونه، و ألا يعصي في أمر يريد به طاعة الله، الأمر الذي لم يف به معاوية حين وصل الي الملك و السلطان، كما سنري من هذه الدراسة، لأن هدف معاوية انما كان اقامة ملك يورثه لمن بعده من آل أبي‌سفيان، حتي و ان أدي ذلك الي محاربة آل بيت النبي صلي الله عليه و سلم و مقتل الآلاف من المسلمين، بل مذبحة دنيئة يقوم بها ولده من بعده، يكاد يقضي فيها علي ذرية رسول الله صلي الله عليه و سلم، ثم تستباح بعد ذلك مدينة رسول الله صلي الله عليه و سلم ثم بلد الله الحرام مكة المكرمة.
و علي أي حال، فان معاوية سرعان ما بدأ يتصل بزعماء العراق من الطامعين في دنياه، و أخذ يمنيهم بالمال و الولاية، فلما استيقن منهم، فضلا عن انقطاع الأمل في اجابة الامام الحسن له، أرسل اليه رسالة، ربما كانت أقرب الي التهديد و الوعيد، منها الي الرجاء و الأمل، حامل فيها أن يحذره من الخلاف عليه، و يمينه بالخلافه من بعده، ان تنازل له عن الأمر، و قد جاء فيها «أما بعد، فان الله عزوجل، يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه و هو سريع الحساب»، فاحذر أن تكون منيتك علي يد رعاع من الناس، و ايئس من أن تجد فينا غميزة، و ان أنت أعرضت عما أنت فيه و بايعتني وفيت لك بما وعدت، و أجزت لك ما شرطت... ثم الخلافة لك من بعدي، فأنت أولي الناس بها، و السلام» غير أن الامام الحسن لم يكثرث بتهديده، فكتب اليه يقول «أما بعد، فقد وصل الي كتابك تذكر فيه ما ذكرت، و تركت جوابك خشية البغي عليك، و بالله أعوذ من ذلك، فاتبع الحق تعلم أني من أهله، و علي اثم أن أقول فأكذب، و السلام».
و كانت هذه آخر الرسائل بين الامام الحسن و معاوية، و علي أثرها علم معاوية أن وسائله المعروفة لا تجدي، و أن مغالطاته السياسية لا تنفع، و أن الامام الحسن مصمم علي حربه، فاتجه الي هذا الطريق، بل استعجل

[ صفحه 59]

الحرب، لأنه اتصل اتصالا وثيقا بمرضي القلوب من زعماء العراق و رؤساء القبائل، و مناهم بالوظائف و أغدق عليهم من أموال المسلمين، فأجابوه سرا الي تنفيذ منذ بيعة الامام الحسن في اقامة جسر بين الكوفة و دمشق، و كان حزب النفعيين هذا أقساما، فالحزب الأموي، و علي رأسه، عمرو بن حريث، و عمارة بن الوليد بن عقبة، و حجر بن عمرو، و عمر بن سعد بن أبي‌وقاص، و أبوبردة بن أبي‌موسي الأشعري، و اسماعيل و اسحاق ابنا طلحة بن عبيدالله، فكتبوا الي معاوية بالسمع و الطاعة في السر، و استحثوه علي المسير نحوهم، و ضمنوا له تسليم الحسن اليه عند دنوهم من عسكره أو الفتك به، و يقول المسعودي: ان أكثرهم أخذوا يكاتبون معاوية سرا، و يتبرعون له بالمواعيد، و يتخذون عنده الأيادي، و جاء في «علل الشرائع» أن معاوية دس الي عمرو بن حريث و الأشعث بن قيس و حجار بن أبحر و شبث بن ربعي، دسيسة، و آثر كل واحد منهم بعين من عيونه: أنك اذا قتلت الحسن فلك مائة ألف درهم، و جند من أجناد الشام، و بنت من بناتي، فبلغ الحسن ذلك فاستلأم (لبس الأمة) و لبس درعا و كفرها، و كان يحترز و لا يتقدم للصلاة بهم الا كذلك، فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت فيه لما عليه من اللأمة».
و هكذا بدأ الاستعداد للحرب، و من ثم فقد كتب الي عماله علي النواحي رسالة من صورة واحدة، جاء فيها «من معاويه أميرالمؤمنين الي فلان، و من قبله من المسلمين، سلام عليكم، فاني أحمد الله الذي لا اله الا هو، أما بعد فالحمدلله الذي كفاكم مؤونة عدوكم و قتل خليفتهم، ان الله بلطفه و حسن صنيعه أتاح لعلي بن أبي‌طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين، و قد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم و عشائرهم، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم و جندكم و حسن عدتكم، فقد أصبتم بحمدالله الصبر، و بلغتم الأمل، و أحل الله أهل البغي و العدوان، و السلام.»

[ صفحه 60]

و بدهي أن في رسالة معاوية هذه أمورا تلفت النظر، منها أن ينسب معاوية البغي و العدوان للامام علي، مع أن معاوية و جنوده هم الباغون لقتلهم الصحابي الجليل عمار بن ياسر، الذي قال له رسول الله صلي الله عليه و سلم تقتلك الفئة الباغية»، و منها شماتة معاوية في قتل الامام علي، و قد فعل ذلك من قبل، فكتب الحسن «و قد بلغني أنك شمت بما لم يشمت به ذوو الحجي»،و قد رد معاوية «لم أفرح و لم أحزن و لم أشمت و لم آسي»، و ها هو يعيد الشماتة مرة أخري، و هل هناك شماتة في الموت؟ و منها جمعه الجموع و تحريضهم علي حرب ريحانة رسول الله صلي الله عليه و سلم و سبطه، و قد قال رسول الله صلي الله عليه و سلم لعلي و فاطمة و الحسن و الحسين، فيما أخرجه الامام أحمد و غيره عن أبي‌هريرة «أنا حرب لمن حاربكم و سلم لمن سالمكم» و قال رسول الله صلي الله عليه و سلم، عن الحسن و الحسين، فيما أخرجة أحمد و ابن‌ماجة، عن أبي‌هريرة قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول من أحبهما فقد أحبني، و من أبغضهما فقد أبغضني»، و لست أدري ماذا يقول أنصار معاوية في هذه الأحاديث الشريفة و غيرها، و ما حكم من يكون رسول الله حربا عليه، و ما حكم من يبغضه رسول الله صلي الله عليه و سلم؟

خروج الامام الحسن للحرب

وصل معاويه بن أبي‌سفيان بجيشه الجرار الي جسر منبج، و هنا علم الامام الحسن بذلك، فأمر بعض أصحابه أن ينادي في الكوفة «الصلاة جامعة»، و المراد جمع الناس في جامع البلد، فنودي بذلك، و اجتمع الناس، و اعتلي الامام الحسن المنبر فقال: أما بعد، فان الله كتب الجهاد علي خلقه، و سماه كرها ثم قال لأهل الجهاد من الؤمنين «و اصبروا ان الله مع الصابرين»، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون الا بالصبر علي ما تكرهون، انه بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا علي المسير اليه فتحرك لذلك فاخرجوا رحمكم الله الي معسكركم بالنخيلة حتي ننظر و تنظروا و نري و تروا»، لما انتهي الامام من خطابه وجم الحاضرون و لم يجبه أحد، و لما رأي «عدي بن حاتم الطائي» ذلك وقف و قال: «أنا ابن‌حاتم، سبحان الله ما أقبح هذا المقام، ألا تجيبون امامكم، و ابن بنت

[ صفحه 61]

نبيكم، أين خطباء مضر، أين الخواضون من أهل المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة، فاذا جد الجد فرواغون كالثعالب، أما تخافون مقت الله، و لا عيبها و لا عارها» ثم استقبل الحسن بوجهه فقال: «أصحاب الله بك المراشد، و وفقك لما يحمد ورده و صدره، فقد سمعنا مقالتك، و انتهينا الي أمرك، و سمعنا منك و أطعنا فيما قلت و ما رأيت، و هذا وجهي الي معسكري، فمن أحب أن يوافيني فليوافي»، ثم خرج لوجهه، فخرج من المسجد و دابته بالباب فركبه و مضي الي النخيلة، و أمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه، و كان عدي أول الناس عسكرا.
ثم قام قيس بن سعد الأنصاري و معقل بن قيس الرياحي، و زياد بن صعصعة التيمي، فأنبوا الناس و لاموهم و حرضوهم، و كلموا الحسن بمثل كلام عدي بن حاتم في الاجابة و القبول، فقال لهم الحسن: صدقتم رحمكم الله، مازلت أعرفكم بصدق النية، و الوفاء بالقول و المودة الصحيحة، فجزاكم الله خيرا، ثم نزل.
و هكذا خرج الامام الحسن لرد عدوان معاوية، و استخلف من الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب، ثم أمره بحث الناس علي الجهاد و اشخاصهم اليه في النخيلة، ثم الي «دير عبدالرحمن» فأقام به ثلاثه أيام ليلتحق به المختلفون من جنده، و رأي أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع علي حال العدو، و اختار في مقدمة جيشه خلاصة أصحابه من الباسلين، كان عددهم اثني عشر ألفا، و أعطي القيادة العامة لابن عمه عبيدالله بن العباس، و أوصاه قائلا: يا ابن العم اني باعث معك اثني عشر الفا من فرسان العرب، و قراء المصر، الرجل منهم يزيد الكتيبة، فسر بهم، و ألن لهم جانبك، و ابسط لهم وجهك، و افرش لهم جناحك و أدنهم من مجلسك فانهم بقية ثقات أميرالمؤمنين علي، و سر بهم علي شظ الفرات ثم امض حتي تستقبل بهم معاوية، فان لقيته فاحتبسه حتي آتيك فاني علي أثرك وشيكا، وليكن خبرك عندي كل يوم، و شاور هذين قيس بن سعد، و سعيد بن قيس، و اذا لقيت معاوية فلا تقاتله

[ صفحه 62]

حتي يقاتلك فان فعل فقاتله، و ان أصبت فقيس بن سعد علي الناس، و ان أصيب فسعد بن قيس علي الناس».
علي أن هناك خلافا بين المؤرخين في عدة أمور، بشأن جيش الامام الحسن هذا، منها سبب اختيار عبيدالله بن عباس قائدا لهذا الجيش؟ و منها هل فعلا كان عبيدالله هو القائد أم قيس بن سعد؟ و أما سبب اختيار عبيدالله بن عباس للقيادة، وفي الجيش أعلام من سرأة الناس و ذوي السوابق والذكريات المجيدة الذين لا يهضمون الخلق المزهو، و لا الخشونة الآمرة الناهية في الفتي الهاشمي الذي لا يزيدهم كفاءة، و لا يسبقهم جهادا، و لا يفضلهم تقوي و لا يكبرهم سنا، فقد كان عبيدالله وقت ذاك في التاسعة و الثلاثين من عمره، هذا فضلا عن وجوه قيس بن سعد الأنصاري في هذا الجيش، و هو الرجل المعترف بكفاءته العسكرية، و باخلاصه الصحيح لأهل البيت و بأمانته.
و الاجابة علي ذلك، فيما يري صاحب «صلح الحسن»، تتلخص في أسباب، منها (أولا) أن الامام الحسن عندما أراد عبيدالله للقيادة علي المقدمة فرض عليه استشاره قيس بن سعد، و سعيد بن قيس، كما رأينا، فخرج بذلك من الايثار، ان كان في ايثاره لعبيدالله تبعة يخاف منها علي مصلحة الموقف، و أصبحت القيادة بذلك شوري بين ثلاثه هم أليق رجال الجيش لها، و منها (ثانيا) أن تقديم قيس بن سعد علي صاحبيه و علي غيرهما من صحابة و زعماء، و ايثاره بالقيادة وحده، انما كان وقت ذاك فيه فطنة لتنافس الأكفاء الآخرين في الجيش، قيادة وجهادا و سابقة، من أمثال أبي‌أيوب الأنصاري و حجر بن عدي، و عدي بن حاتم الطائي و أضرابهم، و من ثم كان تقديم ابن عم الامام، بل ابن عم رسول الله صلي الله عليه و سلم و تعيينه اسما، ثم الافادة من قيس و صاحبه، انما كان تخلصا لبقا من الامام لا ينبغي الخلاف فيه، و التنافس عليه، و منها (ثالثا) أن صور التخاذل في قضية الامام الحسن في الكوفة انما أوحت أن يكون قائد جيشه هاشميا، ثم أنه لن يكون غير عبيدالله بن عباس، أشد حنقا و لا أعنف تأليبا علي معاوية منه، كأب قتل ولداه الصبيان صبرا، فيما أملته فاجعة «بسر بن

[ صفحه 63]

ارطاة» يوم غارته علي اليمن، و من ثم كان اختياره لقتال قاتل ولديه اختيارا مناسبا جدا، و منها (رابعا) أن جيش الامام علي عليه‌السلام الذي أعده في الكوفة لحرب أجناد الشام ثم توفي عنه، انما كان قائده قيس بن سعد الأنصاري، و لهذه السوابق أثرها في توثيق الشخصية بين القائد و الجنود، تجعل من السهل علي القائد النافذ من جنوده أن يجنح متي شاء الي حرية التصرف، دون اتصال بالقائد الأعلي، و هو ما كان يجب التحفظ منه، فكان من الاحتياط أن يكون القائد غيره، و أن يكون هو المستشار للقائد لكفاءته و دهائه، و هو ما فعله الامام الحسن.
علي أن كثيرا من المؤرخين، كالطبري و ابن‌الأثير و ابن‌كثير، يرون أن قيس بن سعد الأنصاري هو الذي كان قائد مقدمة جيش الامام الحسن، فالطبري يروي عن اسماعيل بن راشد فيقول: بايع الناس الحسن بن علي، عليه‌السلام، بالخلافة، ثم خرج بالناس حتي نزل المدائن، و بعث سعد بن قيس علي مقدمته في اثني عشر ألفا.
هذا و قد اختلف المؤرخون كذلك في عدد جيش الامام، فرواية تذهب الي أن العدد كان عشرين ألفا، كان جيش المقدمة اثني عشر ألفا، ثم أربعة الآف من متطوعي الكوفة بعد ذلك، ثم الفصائل التي تواردت علي الامام في دير عبدالرحمن، و كل ذلك قرابة عشرين ألفا، علي أن رواية أخري تذهب الي أنهم أربعون ألفا، روي ذلك الطبري و ابن‌الأثير، كما يروي ابن أبي الحديد عن المسيب بن نجيه أنه قال للحسن عليه‌السلام: «ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية و معك أربعون ألفا»، و الأمر كذلك بالنسبة لابن‌كثير، غير أن ابن‌قتيبة يروي عن سليمان بن صرد قوله للحسن «فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية، و معك مائة ألف مقاتل من أهل الفرق»، و علي أي حال، فان الاختلاف في عدد الجيش ليس بذي أهمية، مهما كان عدده كبيرا، اذا كان مختلف الأهواء، فلابد أن ينهزم، فالنصر لا يجي‌ء الا بالاخلاص و الايمان و العقيدة و وحدة الكلمة.

[ صفحه 64]

و أيا ما كان الأمر، فلقد خرج عبيدالله بن عباس، حتي أتي شينور ثم أتي شاهي، ثم لزم الفرات و الفالوجة حتي أتي «مسكن» فأقام بها، و أصبح أمام العدو وجها لوجه، حيث كان معاوية نزل قرية الحبوبية بمسكن، و بدأت خيل معاوية تغير علي جيش عبيدالله الذي نجح في ردهم الي معسكرهم، و هنا بدأ معاوية في نشر المخاوف و الأراجيف بين جند عبيدالله، و كانت دسيسته الأولي «أن الحسن يكاتب معاوية علي الصلح، فلم تقتلون أنفسكم»، و تمكن بهذه الوسيلة من الاتصال بعبيدالله و جذبه اليه، فكتب اليه «ان الحسن قد راسلني في الصلح، و هو مسلم الأمر الي، فان دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعا، و الا دخلت و أنت تابع، و لك ان أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم، أعجل لك في هذا الوقت نصفها، و اذا دخلت الكوفة النصف الآخر» و كما يقول أبوعلم - (نقلا عن مجلة العالم العربي - العدد الثاني السنة 11)- «أن ايمان معاوية بالسفالة البشرية ايمانا لا حد له، و هو ايمان يقوم علي الاعتقاد بأن أقوم الناس خلقا و أشدهم عزما، و أتقاهم فضيلة، قد تستغويه الأطماع و يذله الحرص في ساعة من ساعات الضعف الذي يطرأ علي النفوس، في فترة من فترات الشك الذي لا ينفك عن مطاردة الناس، و لا يسلم من غوائه أفاضل الناس و أعالي البشرية»، و في الواقع فلقد حذر الامام علي زيادا من معاوية، و قال له، فيما يروي ابن الأثير «و ان معاوية يأتي الانسان من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله فاحذر ثم احذر»، و هكذا نجح معاوية في اغواء الفتي الهاشمي بأبشع صور الخيانة و الحطة و النذالة، ففي غلس الليل البهيم تسلل عبيدالله الي معاوية و معه بضعة الآف من جنده، دخل دخول المهزوم المخذول الذي يعلم في نفسه أي اثم عظيم أتاه، و أي عار جلبه علي الهاشميين، و يري الكثيرون أن في عنق عبيدالله بن عباس تقع المسئولية الكبري، لكل ما سيحدث بعد ذلك، فلقد أدي تركه للجيش الي زعزعة الثقة و تفلل وحداته و اضطرابه، ثم أصبحت البقية الباقية فلا تجد من يصلي بها صلاة الصبح، و رحم الله قيس بن سعد الأنصاري الذي قام فصلي بالناس و هدأ من روعهم، و أطفأ بعضا من نار غضبهم

[ صفحه 65]

ثم خطبهم فقال «أيها الناس: لا يهولنكم و لا يعظمن عليكم ما صنع هذا الرجل الوله الورع (الجبان)، ان هذا و أباه و أخاه لم يأتوا بيوم خير قط... و ان هذا ولاه أميرالمؤمنين علي علي اليمن، فهرب من بسر بن أرطأة، و ترك ولده، حتي قتلوا، و صنع الآن هذا الذي صنع»، فتنادي الناس «الحمدلله الذي أخرجه من بيننا، فانهض بنا الي عدونا فنهض بهم».
و لا ريب في أن خذلان عبيدالله بن عباس هذا، انما كان العامل الأساسي في تفكك الجيش و تخاذله، فلقد طعن الجيش و فتح باب الخيانة و الغدر، و مهد السبيل للكثيرين للالتحاق بمعاوية، و من ثم وجد ذوالنفوس المريضة مجالا واسعا لخيانة الامام، متخذين من غدر عبيدالله وسيلة و مثلا، فهو ابن عم الامام و من أقرب الناس اليه، و لا ريب كذلك في أن غدر عبيدالله هذا انما كان له في نفس الامام الحسن و أخيه أشد الحزن و أكبر الأسي، فان عبيدالله لم يرع الدين و لا الوتر و لا الرحم الماسة من رسول الله صلي الله عليه و سلم، و لا من قائده الأعلي، و لا الميثاق الذي واثق الله عليه في البيعة و لا الخوف من حديث الناس و نقمة التاريخ، فكان فعله هذا سبة في جبين بني‌العباس أبدا.
لم يكتف معاوية بغدرة عبيدالله بل زادته مكرا و خديعة، فبدأ يتلون تلونا مخيفا، فعمد الي سلة أكاذيب يختار منها ما يشاء، ثم يبعث بها الي معسكر الامام، فكان يدس الي معسكره في المدائن من يتحدث بأن قيسا بن سعد، قد صالح كذلك معاوية، كما صالحه عبيدالله، و في نفس الوقت الي معسكر قيس من يتحدث بأن الامام الحسن نفسه انما قد صالح معاوية و أجابه، ثم ينشر اشاعة أخري في معسكر المدائن «ألا ان قيس بن سعد قد قتل فانفروا»، و هكذا بلغ معاوية بفتنته ما أراد، فنفر القوم بسرادق الحسن فنهبوا متاعه، حتي نازعوه بساطا كان تحته، و يقول بعض المؤرخين ان رجلا طعنه فلم يصب منه مقتلا، و ان هذا الرجل كان من أصحابه، غير أن آخرين يرون أنه كان من الخوارج، و انه قال للامام الحسن و هو يهم به: أشركت كما أشرك أبوك، فازداد الحسن لهم بغضا، و منهم ذعرا، و دخل المقصورة البيضاء بالمدائن، و كان الأمير علي

[ صفحه 66]

المدائن سعد بن مسعود الثقفي، عم المختار بن أبي‌عبيد، فقال المختار، و هو غلام شاب، هل لك في الغني و الشرف، قال و ما ذاك، قال: توثق الحسن و تستأمن به الي معاوية، فقال له عمه سعد: عليك لعنة الله، أثب علي ابن بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم و أوثقه، بئس الرجل أنت، و هكذا بدأ الامام الحسن يفكر في الصلح الذي دعاه اليه معاوية، و ان كان علي حد قوله «ليس فيه عز و لا نصفة»، روي ابن‌الأثير: أن معاوية لما راسل الحسن في تسليم الخلافة اليه خطب الحسن الناس فقال: انا والله ما يثنينا عن أهل الشام شك و لا ندم، و انما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة و الصبر، فشيبت السلامة بالعداوة، و الصبر بالجزع، و كنتم في مسيركم الي صفين و دينكم أمام دنياكم و أصبحتم اليوم و دنياكم أمام دينكم، الا و قد أصبحتم بين قتيلين، قتيل بصفين تبكون عليه، و قتيل بالنهروان تطلبون ثأره، و أما الباقي فخادل، الا و ان معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز و لا نصفة، فان أردتم الموت رددناه عليه و حاكمناه الي الله عزوجل بظبي السيوف، و ان أردتم الحياة قبلناه و أخذنا لكم الرضي، فناداه الناس من كل جانب: البقية البقية، و أمضي الصلح».

[ صفحه 67]

صلح الامام الحسن

معاوية يطلب الصلح

اختلف المؤرخون، و ما يزالون مختلفين، فيمن بادر بطلب الصلح، أهو الامام الحسن، أم معاوية بن أبي‌سفيان، ففريق يري، و منهم الطبري و ابن‌الأثير، أن معاوية هو الذي طلب الصلح و أنه أرسل الي الحسن صحيفة بيضاء مختوما أسفلها بختمه، و كتب اليه «أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك»، علي أن فريقا آخر يري أن الحسن هو الذي طلب الصلح.
و الرأي عندي أن كلا من الطرفين كان راغبا في الصلح، غير أن معاوية هو الذي بدأ بطلب الصلح، اعتمادا علي أمور، منها (أولا) أن الطبري انما يروي أن الامام الحسن، بعد أن زادت الفرقة بينه و بين المتمردين من جنده، كاتب معاوية، و أرسل اليه بشروطه للصلح، و كان معاوية قد أرسل قبل هذا الي الحسن بصحيفة بيضاء مختوم علي أسفلها و كتب اليه أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك، هذا الي أن رواية ابن الأثير لا تختلف عن ذلك، انما تتفق مع الطبري، و ان اختلفت في بعض ألفاظها، و منها (ثانيا) أن الرسائل التي كانت بين الحسين و معاوية، عقب بيعة الحسن اماما للمسلمين، انما كان كل منها يطلب أن يسمع الآخر له و يطيع، غير أن رسائل

[ صفحه 68]

معاوية انما كانت دائما تعرض علي الحسن الصلح، علي أن يكون له الأمر من بعده، و هذا ما انتهت اليه بعض شروط الصلح، و منها (ثالثا) رواية عمرو بن دينار، كما جاءت في سير أعلام النبلاء للذهبي، من أن معاوية كان يعلم أن الحسن أكره الناس للفتنة، فلما توفي علي بعث الي الحسن فأصلح ما بينه و بينه سرا، و اعطاه معاوية عهدا ان حدث به حدث، و الحسن حي، ليسمينه، و ليجعلن هذا الأمر اليه، و منها (رابعا) روي البخاري عن أبي‌موسي، قال سمعت الحسن البصري يقول: استقبل الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص اني لأري كتائب لا تولي حتي تقتل أقرانها، فقال له معاوية، و كان و الله خير الرجلين، أي عمرو، ان قتل هؤلاء هؤلاء، و هؤلاء هؤلاء، من لي بأمور الناس، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم، فبعث اليه برجلين من قريش من بني عبدشمس، عبدالرحمن بن سمرة و عبدالله بن عامر بن كريز، فقال: اذهبا الي هذا الرجل (أي الحسن) فاعرضا عليه و قولا له و اطلبا اليه، فأتياه فدخلا عليه فتكلما و قالا له و طلبا اليه، فقال لهما الحسن بن علي: انا بنو عبدالمطلب قد أصبنا من هذا المال، و ان هذه الأمة قد عاثت في دمائها، قالا: فانه يعرض عليك كذا و كذا، و يطلب اليك و يسألك، قال فمن لي بهذا، قالا نحن لك به، فما سألهما شيئا الا قالا: نحن لك به، فصالحه».

اسباب الصلح

لعل من أبرز مناقب الامام الحسن، فيما يقول الأستاذ حسين يوسف، ظهورا، و أبعدها أثرا في حياته، بل و في حياة الأمة الاسلامية بأسرها في ذلك الحين، هو زهده في الامارة، و كراهيته للعلو في الدنيا، شأنه في ذلك شأن أبيه العظيم الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، لم يكن له أي هوي في تحمل أمر المسلمين، فقد بايعه الناس كما بايعوا أباه من قبل، علي غير رغبة منه و رضي، و من ثم فقد سعت اليه الخلافة، و هو الجدير بها، و لم يسع اليها، و اضطر الي قبولها حتي لا يصير أمر الناس الي فوضي، و تظهر عظمة ابن رسول الله صلي الله عليه و سلم في أوجها، و تبرز من أعماق نفسه القوة الكافية في أروع صورها، حين

[ صفحه 69]

دانت له العراق و ما وراءها من خراسان، و اجتمعت له الكتائب أمثال الجبال، كما يروي البخاري، و مع ذلك لم تغلبه نفسه، و لم تفتنه الامارة، و لم تخدعه الدنيا باقبالها و سلطانها، فتنازل عنها لمعاوية، زهدا فيها و كراهية المنازعة عليها، و ما قد يجره ذلك من سفك الدماء، و تفرق الكلمة، حتي أنه ليقول، فيما يروي ابن عبدالله البر في الاستيعاب «و الله ما أحببت، منذ علمت ما ينفعني و يضرني، أن ألي أمر أمة محمد صلي الله عليه و سلم علي أن يهراق في ذلك محجمة دم»، و هكذا كان في استطاعة الامام الحسن، و هو ينظر الي جيوشه في الحديد، تقطر أسيافهم جدا و حرصا علي قتل أهل الشام، أن تندفع هذه الجيوش في حرب ضروس ليصبح في النهاية أميرالمؤمنين و خليفة المسلمين، ولو فعل ما أصابه لوم، فلم يكن أحد علي وجه الأرض وقت ذلك، أحق بالخلافة منه، ولكنه لم يفعل، بل قال مستنكرا، فيما يروي ابن‌حجر في الاصابة، «أضرب هؤلاء بعضهم ببعض في ملك من ملك الدنيا، لا حاجة لي به».
هذا و يضيف المؤرخون و رجال الحديث الي ذلك أسبابا أخري، منها (أولا) أن الامام الحسن، كما يقول الدكتور طه حسين، كان رجل صدق، قد كره الفرقة و آثر اجتماع الكلمة، و خاض غمرات الفتنة علي كره منه، قاوم الفتنة أيام عثمان، ما وسعته مقاومتها، فلم يخض فيما خاض الناس فيه من حديثها، و لم يشارك في المعارضة حين عظم الشر، و لو استطاع الحسن لاعتزل الفتنة اعتزالا، كما فعلت تلك المعتزلة من أصحاب النبي صلي الله عليه و سلم، ولكنه عرف لأبيه حقه عليه، فأقام معه، و شهد مشاهده كلها، علي غير حب لذلك أو رغبة منه فيه، و منها (ثانيا) الحديث النبوي الشريف الذي رواه البخاري عن أبي‌بكرة قال:رأيت النبي صلي الله عليه و سلم علي المنبر، و الحسن بن علي معه، و هو يقبل علي الناس مرة، و عليه مرة، و يقول: «ان ابني هذا سيد، و لعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين»، و قد وقع هذا الحديث الشريف من نفس الامام الحسن موقعا عظيما، و قد ذكره حين ثارت الفتنة، و قد اجتهد عندما حاول أن يشير علي والده

[ صفحه 70]

الامام علي في مواطن و أوقات متعددة أن يصلح بين هاتين الفئتين من المسلمين فيحقق نبوءة جده المصطفي صلي الله عليه و سلم، و الرأي عندي، بل اليقين، أن هذا الحديث الشريف بالذات انما كان أهم الأسباب التي دفعت الامام الحسن الي قبول الصلح مع معاوية، فقد كان الامام يميل الي السلم بتأثير حديث جده رسول الله صلي الله عليه و سلم الذي أنبأ فيه أن ابنه الحسن سيصلح بين فئتين كبيرتين من المسلمين.
و منها (ثالثا) اختلاف أهل الكوفة و فرقتهم، روي ابن‌الأثير أنه قيل للحسن: ما حملك علي ما فعلت (يعني الصلح) قال: «كرهت الدنيا، و رأيت أهل الكوفة قوما لا يثق بهم أحد الا غلب، ليس أحد منهم يوافق آخر في رأي و لا هوي، مختلفين لا نية لهم في خير و لا شر، لقد لقي أبي منهم أمورا عظاما، فليت شعري لمن يصلحون بعدي، و هم أسرع البلاد خرابا»، و في ذلك يقول ابن‌كثير: و أقام أهل العراق الحسن بن علي رضي الله عنه ليمانعوا به اهل الشام، فلم يتم لهم ما أرادوا، و انما كان خدلانهم من قبل تدبيرهم و آرائهم المختلفة المخالفة لأمرائهم، و لو كان يعلمون لعظموا ما أنعم الله به عليهم من مبايعتهم ابن بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم و سيد المسلمين»، و منها (رابعا) أنه في الوقت الذي ظل فيه جيش معاوية محتفظا بالولاء لحكومته، مني جيش الامام الحسن بالتفكك و التمرد، كما أن حروب صفين و النهروان قد أضعفت جيش الامام الحسن كثيرا، بخاصة و أنه لم يربح شيئا من العتاد و الأموال في تلك الحروب، هذا الي جانب فقده لكثير من قياداته من أعلام الاسلام الذين آمنوا بحق أهل البيت و عرفوا فضلهم.
و منها (خامسا) الأثر السيي‌ء الذي تركه استشهاد الامام علي في نفس ولده الحسن، فقد قتل الامام علي غير مال احتجبه، و لا سنة في الاسلام غيرها، و لا حق اختص به دونهم، و كان يعيش بينهم حياة الفقراء، و يسعي جادا في اقامة العدل، فعمدوا ال اغتياله، و لم يحفظوا له حرمته و لا حرمة رسول الله صلي الله عليه و سلم، و قد رأي الحسن بعد ارتكابهم لهذه الجريمة النكراء أنه يمكن اصلاحهم، فزهد في ولايتهم، و قد قال «يا أهل العراق، انه سخي بنفسي عنكم ثلاث، قتلكم

[ صفحه 71]

أبي، و طعنكم اياي و انتهابكم متاعي»، و منها (سادسا) ما يراه الشيعة، كما يقول ابن أبي الحديد، أن الامام علي قد أنبأ ولده الحسن في أكثر من مرة، أن معاوية لا يموت حتي يملك ما تحت قدميه، و لما عوتب الامام الحسن من أصحابه في أمر الصلح، قال: «سمعت أبي عليا رحمه الله يقول: سيلي أمر هذه الأمة رجل واسع البلعوم كبير البطن، فسألته من هو، قال معاوية، كذلك تنبأ النبي صلي الله عليه و سلم بملك بني‌أمية، اذا رآهم في المنام يعلون منبره واحدا واحدا، فشق ذلك عليه، فأنزل الله سبحانه و تعالي (و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك الا فتنة للناس و الشجرة الملعونة في القرآن)، كما تنبأ النبي صلي الله عليه و سلم أن ملكهم سيدوم ألف شهر، فأعطي الله النبي ليلة القدر، هي خير من ألف شهر، و منها (سابعا) رغبة الامام الحسن في حقن دماء المسلمين و عدم اراقتها، و لو فتح باب الحرب مع معاوية لضحي بشيعته و أهل بيت النبي صلي الله عليه و سلم و يجتث بذلك الاسلام من أصله، و قد صرح عليه‌السلام بذلك في جوابه عن دوافع صلحه فقال: «اني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض، فأردت أن يكون للدين ناعي»، و قال مرة: «ما أردت بمصالحتي معاوية الا أن أدفع عنكم القتل»، و قال في المدائن عن الصلح «أيها الناس، ان الأمر الذي اختلفت فيه أنا و معاوية، انما هو حق أتركه لاصلاح أمر الأمة و حقن دمائها».
و منها (ثامنا) ما وصل الي الامام، من أنه ان حارب معاوية فقد يسلمه العراقيون اليه أسيرا، و أغلب الظن أنه لن يقتله، بل يخلي عنه و يسجل لنفسه بذلك مكرمة و فضيلة، و يسدي يدا بيضاء الي كل الهاشميين، و يغسل عن نفسه عار أنه طليق بن طليق، و قد صرح الامام الحسن بهذه الخاطرة فقال «و الله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتي يدفعوني اليه سليما، و الله لئن أسالمه و أنا عزيز، أحب الي من أن يقتلني و أنا أسير، أو يمن علي فتكون سبة علي بني‌هاشم الي آخر الدهر، و لمعاوية لا يزال يمن بها هو و عقبه علي الحي منا و الميت»، و قد رأينا من قبل كيف حاول المختار بن أبي‌عبيدة أن يغري عمه سعد بن مسعود والي المدائن بأن يوثق الحسن و يسلمه لمعاوية فزجره عمه.

[ صفحه 72]

و منها (تاسعا) خيانة بعض زعماء جيشه، و اتصالهم السري بمعاوية، بل و خيانة قائده و ابن عمه عبيدالله بن العباس، لما أشرنا من قبل، و منها (عاشرا) عدم اطمئنان الامام الحسن علي حياته بين أهل العراق، حتي وصل الأمر الي الاعتداء عليه، روي ابن‌سعد عن أبي‌جميلة أن الحسن لما استحلف حين قتل علي رضي الله عنه، بينما هو يصلي اذ وثب عليه رجل من بني‌أسد، ء و هو ساجد، فطعنه بخنجر، و يزعمون أن الطعنة وقعت في وركه فمرض منها أشهر، ثم لما بري‌ء فقد علي المنبر فقال: «يا أهل العراق اتقوا الله فينا فانا أمراؤكم و ضيفانكم، الذين قال الله عزوجل فيهم «انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا»، قال فمازال يقول ذلك حتي ما أري أحد من أهل المسجد الا و هو يحن البكاء، قال هلال: فما سمعت يوما قط أكثر باكيا و مسترجعا من يؤمئذ»، و جمع يوما رؤساء أهل العراق في قصر البيضاء بالمدائن ثم قال: و استلابكم ثقلي و ازاري عن عاتقي....»
و منها (حادي عشر) أنه قد تبين للامام الحسن أن أنصار معاوية كانوا من أهل الدنيا تلعب الأموال بأهوائهم، قد عرف معاوية علتهم فنثر عليهم الذهب و الفضة نثرا، فوجدوا في يد معاوية ما يشتهون، و كان معاوية صالحا لأهل الدنيا، و كان أهل الدنيا صالحين لمعاوية، و قد قال عمرو بن العاص: «لا يصلح لهذا الأمر الا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما، و يطعم بالآخر»، و قال معاوية «لاستميلن بالدنيا ثقاة علي و لأقسمن فيهن الأموال حتي تغلب دنياي آخرته»، أما أنصار الحسن فهم أنصار أبيه الامام علي، و قد وصفهم بقوله: «أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة اهواؤهم»، و قد طلب الأمام الحسن خلافة الراشدين، و خاف الله كأبيه في أموال المسلمين، فلم ينثر علي جنوده الأموال نثرا، و انما أراد أن يقاتل الناس معه انتصارا للحق و طلبا للآخرة، فلم يتحمس لذلك الا أهل الصدق و الوفاء، و الحق و الدين، و قليل ما هم، و لقد خذله في وقت الجد قائد مقدمته و ابن عمه عبيدالله بن العباس، و انضم الي معاوية مع عشرات الألوف من أهل الدنيا، و عبدة الدرهم و الدينار.

[ صفحه 73]

و منها (ثاني عشر) أنه استجابة لقدر الله تعالي، و تنفيذا لقضائه سبحانه، و تحقيقا لاخباره صلي الله عليه و سلم بالمعجزة، معجزة «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا و عضوضا، وافق الامام الحسن علي الصلح مع معاوية، و لا ريب في أن المسلمين جميعا عرفوا و يعرفون دائما و أبدا، أن سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم، و هو الناطق المعصوم، و الصادق الأمين، لا ينطق الا عن وحي، و لا يخبر الا عن حق، و صدق، فاخباره التزام و اعجاز، و بيانه اتيان و اقرار «و ما آتاكم الرسول فخذوه، و ما نهاكم عنه فانتهوا»، و قد أتانا رسول الله صلي الله عليه و سلم و أخبرنا، أن الخلافة بعدي ثلاثون سنة فقط، فلا تكون معجزة له صلي الله عليه و سلم الا بصدق مدتها، و لا يتحقق صدقها الا باثبات دقة وقتها، و مدة الخلافة بعد انتقاله صلي الله عليه و سلم الي الرفيق الأعلي، و منذ أن تولاها أبوبكر الصديق رضي الله عنه ثم عمر ثم عثمان علي، رضي الله عنهم أجمعين، و حتي آخر لحظة من حياة الامام علي، انما هي تسعة و عشرين سنة، بضعة أشهر، ثم تكون المدة التي قضاها الامام الحسن في الخلافة حتي وقت صلحه انما هي تتمة «الخلافة بعدي ثلاثون سنة»، و علي حد تعبير ابن‌خلكان «و كانت آخر ولاية الحسن تمام ثلاثين سنة من أول خلافة أبي‌بكر الصديق، رضي الله عنهما، و روي الطبري عن معاذ بن جبل و أبي‌عبيدة أن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال: «ان هذا الأمر بدأ رحمة و نبوة، ثم يكون رحمة و خلافة، ثم كائن ملكا غضوضا، ثم كائن عتوا و جبرية، و فسادا في الأرض، يستحلون الحرير و الفجور و الخمور، و يرزقون علي ذلك و ينصرون حتي يلقوا الله عزوجل» (رواه أبوداود الطيالسي، و ابن‌كثير و قال اسناده جيد).
و أما دوافع معاوية للصلح فكثير، منها (اولا) أنه كان يري أن الامام الحسن، عليه‌السلام، انما هو صاحب الحق في الأمر، و لا سبيل الي اقتناص هذا الأمر الا عن طريق اسكات الحسن بالصلح، و هناك الكثير من الأدلة علي اعتقاده في أحقية الحسن بخلافة المسلمين، من ذلك قوله مراسلاتهم «انك أولي بهذا الأمر، و أحق به»، و قوله مرة لابنه يزيد من أهل البيت «يا بني ان الحق حقهم» كما كان يعترف للحسن بأنه «سيد المسلمين»، و هل سيد المسلمين الا

[ صفحه 74]

امامهم، و منها (ثانيا) أن معاوية انما كان يتظاهر في حروبه ضد الامام علي بأنه انما يطالب بالقصاص من قتلة عثمان، غير أن هذه الحجة لا يمكن قبولها مع الحسن، الذي اشتهر بأنه قاوم الفتنة ما وسعته مقاومتها أيام عثمان، فلم يخض فيما خاض الناس فيه من حديثها، و لم يشارك من المعارضة حين عظم الشر، و كان علي رأس الذين أسرعوا الي دار عثمان فقاموا دون الخليفة يريدون حمايته، بينما لم يفعل معاوية شيئا للدفاع عن عثمان، رغم أنه كان يملك كل وسائل الدفاع عنه، هذا فضلا عن أن كثيرين انما وصفوا الحسن بأنه كان عثمانيا، و أن حزنه لم يفارقه علي عثمان بعد استشهاده، و منها (ثالثا) أن معاوية، علي كثرة الوسائل الطيعة لأمره، كان شديد التوجس من نتائج حربه مع الحسن، و لم يكن كتوما حين وصف خصومه العراقين «فوالله ما ذكرت عيونهم تحت المغافر بصفين الا لبس علي عقلي»، و يوم قال «ما لهم غضبهم الله بشر ما قلوبهم الا كقلب رجل واحد» و من ثم فقد كان يري الصلح وسيلته لعدم منازلتهم.
و منها (رابعا) أن معاوية كان يهاب موقع الامام الحسن من جده رسول الله صلي الله عليه و سلم و قد قال فيه النبي صلي الله عليه و سلم ما قال، فهو ابن رسول الله و سبطه، و هو سيد المسلمين و أحد سيدا شباب أهل الجنة، هذا فضلا عن مكانة فريدة للحسن من الناس، و مقام روحي أعظم من العقيدة الاسلامية، و كفي الامامان الحسن و الحسين أن يعلن صلي الله عليه و سلم للناس كافة أن حبهما من حبه، و بغضهما من بغضه، أخرج الامام أحمد و ابن‌ماجه عن أبي‌هريرة بسنده أنه قال: «سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: من أحبهما فقد أحبني، و من أبغضهما فقد أبغضني»، و أخرج الترمذي عن عبدالرحمن بن أبي نم قال: «سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: ان الحسن و الحسين هما ريحانتاي من الدنيا»، و منها (خامسا) أن معاوية كان قد حبس أهل الشام علي التعرف علي أحد من كبار الصحابة، خارج الشام، حتي لا يتعرفوا علي فضائل أهل البيت، و قرابتهم القريبة من رسول الله صلي الله عليه و سلم، حتي روي المسعودي أن عبدالله بن علي العباسي نزل الشام بعد مقتل مروان آخر حكام بني‌أميه عام

[ صفحه 75]

132 ه، و وجه الي السفاح بعض أرباب النعم و الرياسة من سائر أجناد الشام، فحلفوا لأبي العباس السفاح أنهم ما علموا لرسول الله صلي الله عليه و سلم قرابة و لا أهل بيت يرثونه غير بني‌أمية حتي و ليتم الخلافة»، و رغم كل هذا التجهيل لأهل الشام فقد كان معاوية يخشي أن يقيض الله لمعسكر الشام من ينبههم الي حقيقة أمر الامام الحسن و قرابته لرسول الله صلي الله عليه و سلم فتستيقظ ضمائرهم و ينقلبون عليه، و قد كان معاوية يتذكر دائما ما قاله له النعمان بن جبله في صفين، فيما يروي المسعودي، «و الله لقد نصحتك علي نفسي، و آثرت ملكك علي ديني، و تركت لهواك الرشد و أنا أعرفه، وحدت عن الحق و أنا أبصره، و ما وفقت لرشد، و أنا أقاتل عن ملكك ابن عم رسول الله صلي الله عليه و سلم و أول مؤمن به و مهاجر معه، ولو أعطيناه ما أعطيناك، لكان أرأف بالرعية و أجزل من العطية، ولكن بذلنا لك الأمر، و لابد من اتمامه، كان غيا أو رشدا و حاشا أن يكون رشدا، و سنقاتل عن تين الغوطة و زيتونها، اذ حرمنا أثمار الجنة و أنهارها»، و هكذا خوفا من أن يتكرر ذلك، و يعرف غير النعمان ما لآل بيت النبي صلي الله عليه و سلم من حق و فضل، كان الصلح لمعاوية خيرا.
و منها (سادسا) كان يقصد من وراء الدعوة للصلح علي ظاهرها التمهيد لغده القريب الذي ستكشف عنه نتائج الحروب بينه و بين الحسن، و كان أحد الوجهين المحتلين أن يدال للشام من الكوفة، و أن تقضي الحروب و ذيولها علي الحسن و الحسين و علي من معهما من أهل البيت و شيعتهما، و لا تدبير يومئذ للعذر من هذه البائقة الكبري أروع من أن يلقي معاوية مسئوليتها الامام الحسن نفسه فيقول للناس «اني دعوت الحسن للصلح ولكنه أبي الا الحرب، و كنت أريد له الحياة، ولكنه أراد لي القتل، و أردت حقن الدماء ولكنه أراد هلال الناس بيني و بينه»، و لعل من سخرية القدر أن ما كان يخشاه معاوية، فعله ولده الفاجر يزيد في مذبحة كربلاء التي راح ضحيتها جل آل البيت و علي رأسهم الامام الحسين و ولده علي الأكبر، و عبدالله و القاسم و أبوبكر من أبناء الامام الحسن، هذا الي جانب خمسة من أبناء الامام علي، غير الامام الحسين.

[ صفحه 76]

شروط الصلح

اختلف الباحثون في شروط الصلح التي ثم بمقتضاها تنازل الامام الحسن عن الأمر لمعاوية بن أبي‌سفيان، فلقد ذكر الشعراني في كشف الغمة، و ابن‌حجر في الصواعق أن جماعة من المؤرخين ذكروا نص وثيقة الصلح التالية: هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي‌طالب، معاوية بن أبي‌سفيان، صالحة علي أن يسلم اليه ولاية أمر المسلمين، علي أن يعمل فيهم بكتاب الله و سنة رسوله صلي الله عليه و سلم و سيرة الخلفاء الصالحين، و ليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده، بل يكون الأمر من بعده شوري بين المسلمين، و علي أن الناس آمنون حيث كانوا في أرض الله في شامهم و عراقهم و حجازههم و يمنهم،ء علي أن أصحاب علي و شيعته آمنون علي أنفسهم و أموالهم و نسائهم و أولادهم، و علي معاوية بن أبي‌سفيان عهد الله و ميثاقه، و ما أخذ الله علي أحد من خلقه بالوفاء، و بما أعطي الله علي نفسه، و علي ألا يبغي للحسن بن علي، و لأخيه الحسين بن علي، و لا لأحد من أهل بيت رسول الله صلي الله عليه و سلم غائلة سرا و لا جهرا، و لا يخيف أحد منهم في أفق من الآفاق، شهد عليه فلان ابن فلان...، و كفي بالله شهيدا».
علي أن فريقا آخر من الباحثين، انما يفرق بين شروط الامام الحسن، و شروط معاوية، أما شروط الحسن فيرونها كالتالي: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما صالح عليه الحسن بن علي معاوية بن أبي‌سفيان، صالحه علي أن يسلم اليه ولاية المسلمين، علي أن يعمل فيها بكتاب الله تعالي و سنة رسول الله صلي الله عليه و سلم و سيرة الخلفاء الصالحين، و علي أنه ليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده عهدا، بل تكون الخلافة للحسن من بعده، أو أن يكون الأمر شوري بين المسلمين، و علي أن الناس آمنون حيث كانوا في أرض الله تعالي، في شامهم و عراقهم و أموالهم و نسائهم و أولادهم حيث كانوا، فلا يتعرض لأحد منهم بسوء، و علي أن لا ينبغي للحسن بن علي، و لا لأخيه الحسين، و لا لأحد من أهل بيت رسول الله صلي الله عليه و سلم غائلة سرا و لا جهرا، و لا يخيف أحد منهم في أفق من الآفاق، و علي أن يوصل لكل ذي حق حقه، و علي أن يوفر للحسن حقا قدره خمسون ألف ألف درهم في كل سنة، و علي

[ صفحه 77]

أن يقضي له جميع ديونه، و علي أن لا يطالب أهل الحجاز و العراق بشي‌ء مما كان أيام أبيه، و علي أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة و هو خمسة الآف ألف درهم، و علي أن يكون له خراج دار أبجرد بفارس أو كورين من كور البصرة، و علي معاوية بذلك عهد الله ميثاقه، شهد عليها، عبدالله بن الحارث و عمرو بن سلمة و غيرهما، و كفي بالله شهيدا».
و أما شروط معاوية للامام الحسن فهي: لك (أي للحسن) الخلافة من بعدي، فأنت أولي الناس بها، و لك بذلك عهد الله و ميثاقه و ذمته و ذمة رسوله صلي الله عليه و سلم و أشهد ما أخذه الله علي أحد في خلقه من عهد و عقد، و لك (أي للحسن) ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ، تحمله الي حيث شئت، و لك خراج أي كور العراق شئت، معونة علي نفقتك، يجبيها أمينك، و يحملها اليك في كل سنة، و علي أن لا يستولي عليك بالاساءة، و لا أبغيك غائلة و لا مكروها و لك ألا تقضي الأمور دونك، و أن يتبع أحدا بما مضي بالسب أو القذف، و أن لا تعصي في أمر أردت فيه طاعة الله و أن لا يذكر علي الا بخير، و أن تكون الولاية للحسين، و ان حدث بنا حدث، و لك (أي للحسن) خراج دار الحرب من أرض فارس، و خراج أبجرد أيضا، و لك في كل سنة خمسون ألف ألف درهم».
و انطلاقا من كل هذا، فيمكن اجمال شروط الصلح في النقاط التالية:
1 - تسليم الأمر لمعاوية علي أن يعمل بكتاب الله و سنة رسوله صلي الله عليه و سلم و سيرة الخلفاء الصالحين.
2 - ليس لمعاوية أن يعهد بالأمر لأحد من بعده و انما الأمر من بعده للحسن، فان حدث به حدث فالأمر للحسن، و في رواية ابن أبي‌خيثمة أن الحسن سار في أهل العراق، و سار معاوية في أهل الشام، فلما التقوا كره الحسن القتال، و بايع معاوية علي أن يجعل العهد لأخيه الحسين من بعده، و روي ابن‌حجر في الاصابة عن ابن‌شوذب قال: «لما قتل علي سار الحسن في أهل العراق، و معاوية في أهل الشام، فالتقوا فكره الحسن القتال، و بايع معاوية علي أن يجعل العهد له من بعده»، و روي ابن عبدالبر في الاستيعاب، أنه لا خلاف بين العلماء أن الحسن انما

[ صفحه 78]

سلم الخلافة لمعاوية في حياته لا غير، ثم تكون له من بعده، و علي ذلك انعقد بينهما ما انعقد من ذلك، و رأي الحسن ذلك خيرا من اراقة الدماء في طلبها، و ان كان نفسه أحق بها»، و قد تعهد معاوية في شروطه التي شرطها علي نفسه بأن الخلافة من بعده للحسن، فهو أولي الناس بها، و للحسن بذلك عهد الله و ميثاقه و ذمته و ذمة رسوله صلي الله عليه و سلم و أشد ما أخذه الله علي أحد من خلقه في عهد و عقد.
3 - الأمن العام للناس جميعا، حيث كانوا في أرض الله.
4 - أن يترك معاوية سب أميرالمؤمنين الامام علي و أن لا يذكره الا بخير.
5 - الأمن العام لشيعة أميرالمؤمنين علي، و أنهم آمنون علي أنفسهم و اموالهم و نسائهم و أولادهم حيث كانوا، فلا يتعرض معاوية لأحد منهم بسوء.
6 - أن يوصل معاوية لكل ذي حق حقه.
7 - أن يفرق الحسن في أولاد من قتل مع أبيه في يوم الجمل و صفين ألف ألف درهم من خراج دار أبجرد، و أن يعطي معاوية للامام الحسن ما في بيت مال الكوفة، و يقضي عنه ديونه، و أن يدفع اليه في كل عام خمسين ألف ألف درهم، و أن يكون له خراج دار أبجرد بفارس أو كورين من كور البصرة.
غير أن هذه الشروط لم تنفذ، أو لم يف معاوية بمعظمها، روي أبوالفرج، و هو أموي، في «مقاتل الطالبيين» عن عمرو بن ثابت عن أبي‌اسحاق قال: سمعت معاوية بالنخيلة يقول: ألا ان كل شي‌ء أعطيته الحسن بن علي، تحت قدمي هاتين، لا أفي به، قال أبواسحاق: «و كان و الله غدارا» و علي أي حال، فان معاوية لم يف بشروطه، من غير شرط المال، فأما شرط خلافة الحسن له (ثم الحسين ان مات الحسن في حياة معاوية، علي رأي بعض الروايات) فلم يف به معاوية فيما بعد، حيث أوصي بعد ذلك بالخلافة لابنه يزيد، علي الرغم مما اشتهر عنه من أمور لا تتفق و شأن خلافة المسلمين و امامتهم، وقد أحاطت الشبهات حول اشتراكه في سم الامام الحسن، الأمر الذي سنناقشه في مكانه من هذه الدراسة، و أما شرط الأمان لأنصار الامام علي في أنفسهم و أموالهم و نسائهم و أنبائهم، فلم يف به كذلك، فلقد أساء كثيرا الي أنصار الامام علي و مريديه فأخاف البعض

[ صفحه 79]

و سجنهم، وروع الآخرين و شردهم، بل و تمادي في التشفي فقتل بعضهم، و لأول مرة في الاسلام، صبرا، و الأمثلة علي ذلك أكثر من أن تحصي، نذكر منها، علي سبيل المثال، محمد بن أبي‌حذيفة و عبدالله بن هاشم المرقال، و عبدالله بن خليفة الطائي، و صعصعة بن صوحان، و عدي بن حاتم الطائي، ثم الصحابي الجليل حجر بن عدي و أصحابه، و أما سب الامام علي علي منابر المسلمين، فتلك بدعة سيئة بدأها معاوية، و استمرت طول عهد بني‌أمية، ما عدا عهد عمر بن عبدالعزيز، روي ابن الأثير أن الامام الحسن طلب من معاوية أن لا يشتم عليا، فلم يجبه الي الكف عن شتم علي، فطلب أن لا يشتم و هو يسمع، فأجابه الي ذلك ثم لم يف له به أيضا، و أما خراج دار أبجرد، فان أهل البصرة منعوه منه (أي الحسن) و قالوا: و هو فيئنا لا نعطيه لأحد، و كان منهم بأمر معاوية أيضا».

مكان الصلح و زمانه

اختلف المؤرخون في مكان الصلح، و زمانه، الا أن أرجح الآراء أنه تم في «مسكن» بناحية الأنبار، أو في المدائن، و ان رآه البعض في القدس أو في أذرح، و أما متي تم الصلح، فقد ذهبت آراء الي أن ذلك انما كان عام 40 ه، غير أن أرجح الأراء أنه كان في ربيع الأول عام 41 ه، و ربما في جمادي الأول عام 41 ه، روي ابن عبدالبر في «الاستيعاب في معرفة الأصحاب» أن الحسن مكث نحوا من ثمانية أشهر، لا يسلم الأمر الي معاوية، و حج بالناس في تلك السنة، سنة أربعين للهجرة، المغيرة بن شعبة، من غير أن يؤمره أحد، و كان بالطائف، و سلم الأمر الحسن الي معاوية في النصف من جمادي الأولي من سنة احدي و أربعين للهجرة (661 م) فبايع الناس معاوية حينئذ، و معاوية يومئذ ابن ست و ستين الا شهرين، و هذا أصح ما روي عن عام الجماعة، و عليه أكثر أهل هذه الصناعة من أهل السير و العلم بالخير، و كل من قال ان الجماعة كانت سنة أربعين فقد و هم و لم يقل بعلم، و الله أعلم، و لم يختلفوا أن المغيرة حج عام أربعين، علي ما ذكر أبومعشر، و لو كان لاجماع علي معاوية قبل ذلك لم يكن كذلك، و الله أعلم.
و يذهب ابن‌الأثير و الطبري الي أن المغيرة بن شعبه حج بالناس عام 40 ه،

[ صفحه 80]

يعني من العام الذي قتل فيه علي، عليه‌السلام، فقد كتب المغيرة بن شعبة كتابا افتعله علي لسان معاوية، فأقام الناس الحج سنة أربعين، و يقال انه عرف يوم التروية، و نحر يوم عرفة، خوفا أن يفطن بمكانه، و قد قيل انه انما فعل ذلك المغيرة لأنه بلغه أن عتبة بن أبي‌سفيان مصبحه واليا علي الموسم، فعجل الحج من أجل ذلك.

دخول معاوية الكوفة

اتفق الامام الحسن عليه‌السلام، و معاوية بن أبي‌سفيان، علي أن يعلنا الصلح رسميا في الكوفة، روي الطبري أن الحسن بن علي، عليه‌السلام، سلم الي معاوية الكوفة فدخلها معاوية لخمس بقين من ربيع الأول، و يقال في جمادي الأولي سنة احدي و أربعين للهجرة، و هناك في النخيلة، علي مشارف الكوفة، خطب معاوية، فقال، فيما يروي الشعبي، «ما اختلفت أمة بعد نبيها، الا ظهر أهل باطلها علي أهل حقها، ثم انه انتبه فندم، فقال: «الا هذه الأمة فانها، و انها»، و روي عن عمرو بن ثابت عن أبي‌اسحاق، قال: سمعت معاوية بالنخيلة يقول: ألا ان كل شي‌ء أعطيته الحسن بن علي، تحت قدمي لا أفي به، قال أبواسحاق: و كان و الله غدارا» و روي الطبري و أبوالفرج بسنده عن سعيد بن سويدان أنه قال: صلي بنا معاوية بالنخيلة الجمعة في الصحن، ثم خطبنا فقال «اني و الله ما قاتلتكم لتصلوا، و لا لتصوموا لا لتحجوا، و لا لتزكوا، انكم لتفعلون ذلك، و انما قاتلتكم لأتأمر عليكم، و قد أعطاني الله ذلك، و أنتم كارهون، قال شريك في حديثه هذا هو التهتك»، و روي بسنده عن حبيب بن أبي‌ثابت قال: لما بويع معاوية خطب، فذكر عليا، فنال منه، و نال من الحسن، فقام الحسين ليرد عليه، فأخذ الحسن بيده فأجلسه، ثم طلب معاوية من الحسن أن يعتلي منصة الخطابة ليبين للناس تنازله عن الأمر، فقام الامام الحسن فحمد الله و أثني عليه بما هو أهل له، ثم صلي علي سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم ثم قال:
«أما بعد، فوالله اني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله و منه، و أنا

[ صفحه 81]

أنصح خلق الله لخلقه، و ما أصبحت محتملا علي مسلم ضغينة و لا مريدا له سوءا و لا غائلة، ألا و ان ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا و اني ناظر لكم خيرا من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري و لا تردوا علي رأي، غفر الله لي ولكم، و أرشدني و اياكم لما فيه المحبة و الرضا، ثم قال: قد علمتم أن الله هداكم بجدي محمد صلي الله عليه و سلم، فأنقذكم به من الضلالة، و رفعكم به من الجهالة، و أعزكم به بعد المذلة، و كثركم به بعد القلة، ان معاوية نازعني حقا هو لي دونه، فنظرت لصلاح الأمة، و قطع الفتنة، و قد كنتم بايعتموني علي أن تسالمون من سالمت، و تحاربون من حاربت، فرأيت أن أسالم معاوية و أضع الحرب بيني و بينه، وقد بايعته، و قد رأيت أن أحقن الدماء خير من سفكها، و لم أرد بذلك الا صلاحكم و تقاءكم «و أن أدري لعله فتنة لكم و متاع الي حين»، ان معاوية زعم لكم أني رأيته للخلافة أهلا، و لم أر نفسي لها أهلا، و نحن أولي الناس في كتاب الله عزوجل، و علي لسان نبيه صلي الله عليه و سلم، و لم نزل أهل البيت، مظلومين منذ قبض الله نبيه صلي الله عليه و سلم فالله بيننا و بين من ظلمنا، ثم قال «فوالذي بعث محمدا صلي الله عليه و سلم بالحق، لا ينقص من حقنا أهل البيت أحد، الا نقصه الله في عمله، و لا تكون علينا دولة الا و تكون لنا العافية، و لتعلمن نبأه بعد حين».
ثم التفت الامام الحسن الي معاوية، فرد عليه سبه لأبيه، فقال له: أيها الذاكر عليا، أنا الحسن و أبي علي، و أنت معاوية و أبوك صخر، و أمي فاطمة و أمك هند، و جدي رسول الله صلي الله عليه و سلم و جدك عتبة بن ربيعة، و جدتي خديجة، و جدتك قتيلة، فلعن الله أخملنا ذكرا، و ألأمنا حسبا، و شرنا قديما و حديثا، و أقدمنا كفرا و نفاقا»، فقال، طوائف من أهل المسجد: آمين، قال فضل: فقال يحيي بن معين، و نحن نقول آمين، قال أبوعبيد: و نحن نقول آمين، قال أبوالفرج: و أنا أقول آمين، و كاتب هذه السطور يقول: آمين آمين آمين.
و روي ابن عبدالبر في الاستيعاب بسنده عن ابن‌شهاب قال: لما دخل معاوية الكوفة حين سلم الأمر اليه الحسن بن علي، كلم عمرو بن العاص،

[ صفحه 82]

معاوية، أن يأمر الحسن بن علي، فيخطب الناس، فكره ذلك معاوية و قال: لا حاجة بنا الي ذلك، فقال عمرو ولكني أريد ذلك ليبدو عيه، فانه لا يدري هذه الأمور ما هي، و لم يزل بمعاوية حتي طلب من الحسن أن يخطب، و قال له: قم يا حسن، فكلم الناس فيما جري بيننا، فقام الحسن فتشهد، و حمد الله و أثني عليه ثم قال في بديهته: أما بعد، أيها الناس، فان الله هداكم بأولنا، و حقن دماءكم بآخرنا، و ان لهذا الأمر مدة، و الدنيا دول، و ان الله عزوجل يقول (و ان أدري أقريب أم بعيد ما توعدون، انه يعلم الجهر من القول و يعلم ما تكتمون، و ان أدري لعله فتنة لكم و متاع الي حين)، فلما قالها له معاوية: اجلس، فجلس، ثم قام معاوية فخطب الناس، ثم قال لعمرو: هذا من رأيك (يعني ما قاله الامام الحسن)، هذا و روي ابن عبدالبر كذلك عن الشعبي قال: لما جري الصلح بين الحسن بن علي و معاوية، قال له معاوية: قم فاخطب الناس و اذكر ما كنت فيه، فقام الحسن فخطب فقال: الحمدلله الذي هدي بنا أولكم، و حقن بنا دماء آخركم، ألا ان أكيس الكيس التقي، و أعجز العجز الفجور، و ان هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا و معاوية، اما أن يكون كان أحق به مني، و اما أن يكون حقي فتركته لله، و لاصلاح أمة محمد صلي الله عليه و سلم و حقن دمائهم، ثم التفت الي معاوية فقال: (و ان أدري لعله فتنة لكم و متاع الي حين) ثم نزل، فقال عمرو لمعاوية: «ما أدرت الا هذا»، و روي أبوالفرج بسنده عن اسماعيل بن عبدالرحمن: أن معاوية أمر الحسن أن يخطب، و ظن أنه سيحضر، فقال في خطبته «انما الخليفة من سار بكتاب و سنة نبيه صلي الله عليه و سلم، و ليس الخليفة من سار بالجوار، ذلك ملك ملك ملكا، يمتع به قليلا، ثم تنقطع لذته و تبقي تبعته (و ان أدري لعله فتنة لكم و متاع الي حين).
و أخرج ابن‌عساكر و اليعقوبي بسنده قال: خطب الحسن رضي الله عنه حينما قال له معاوية بعد الصلح، اذكر فضلنا، فقام فحمدالله و أثني عليه، و صلي علي محمد النبي و آله، ثم قال: من عرفني فقد عرفني، و من لم يعرفني، فأنا الحسن بن رسول الله، أنا ابن البشير النذير، أنا ابن المصطفي

[ صفحه 83]

بالرسالة، أنا ابن من صلت عليه الملائكة، أنا ابن من شرفت به الأمة، أنا ابن من كان جبريل السفير من الله اليه، أنا ابن من بعث رحمة للعالمين، صلي الله عليه و آله أجمعين»، فلم يقدر معاوية أن يكتم عداوته و حسده فقال: يا حسن عليك بالرطب فانعته لنا، قال نعم يا معاوية: الريح تلفحه و الشمس تنفخه، و الحر ينضجه و الليل يبرده، ثم أقبل علي منطقه فقال: أنا ابن المستجاب الدعوة، أنا ابن من كان من ربه كقاب قوسين أو أدني، أنا ابن مكة و مني، أنا ابن من خضعت له قريش رغما، أنا ابن من سعد تابعه و شقي خاذله، أنا ابن من جعلت الأرض له طهورا و مسجدا، أنا ابن من كانت أخبار السماء اليه تتري، أنا ابن من أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، فقال معاوية أظن نفسك يا حسن تنازعت الي الخلافة، فقال الامام الحسن: ويلك يا معاوية انما الخليفة من سار بسيرة رسول الله صلي الله عليه و سلم و علم بطاعة الله، و لعمري انا لأعلام الهدي، و منار التقي، ولكنك يا معاوية ممن أبار السنين و أحياء البدع، و اتخذ عباد الله خولا، و دين الله لعبا، فكان قد أخمل ما أنت فيه، فعشت يسرا، و بقيت عليك تبعاته، يا معاوية، و الله لقد خلق الله مدينتين، احداهما بالمشرق، و الأخري بالمغرب، أسماهما جابلقا و جابلسا، ما بعث الله اليها أحد غير جدي صلي الله عليه و سلم».
و دخل معاوية الكوفة بعد فراغه من خطبته بالنخيلة، و بين يديه خالد بن عرفطة، و معه رجل يقال له: حبيب بن عمار، يحمل رايته حتي دخل الكوفة، فصار الي المسجد، فدخل من باب الفيل، فاجتمع الناس اليه، و هنا تذكر الناس نبوءة الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، فلقد روي أبوالفرج و ابن أبي الحديد، عن عطاء بن السائب عن أبيه، قال: بينما علي، عليه‌السلام، علي المنبر، اذ دخل رجل قال يا أميرالمؤمنين: مات خالد بن عرفطة، فقال الامام: لا والله ما مات، اذ دخل رجل آخر، فقال يا أميرالمؤمنين مات خالد بن عرفطة، فقال الامام لا و الله ما مات و لا يموت حتي يدخل من باب هذا المسجد (يعني باب الفيل) براية ضلالة، يحملها له حبيب بن عمار، قال فوثب رجل، فقال يا أميرالمؤمنين: ان حبيب بن عمار، و أنا لك شيعة، قال الامام: فانه كما أقول، فقدم خالد بن عرطفة علي مقدمة معاوية، يحمل رايته حبيب بن عمار».

[ صفحه 84]

موقف آل البيت و انصار الامام من الصلح

اختلف المؤرخون في موقف الامام الحسين من صلح أخيه الامام الحسن مع معاوية، فذهب فريق الي أن الامام الحسين قد أنكر هذا الصلح، و ذهب فريق الي أنه قبله، كما قبله أخوه، يروي ابن‌حجر في الاصابة عن ابن‌سعد بسنده الي عمرو بن دينار، ان معاوية كان يعلم أن الحسن كان أكره الناس للفتنة، لما توفي علي رضي الله عنه بعث اليه فأصلح الذي بينه و بينه سرا، و أعطان عهدا، ان حدث به حدث و الحسن حي، ليسمينه و ليجعلن هذا الأمر اليه، فلما توثق منه الحسن، قال ابن‌جعفر: «والله اني لجالس عنده اذ أخذت لأقوم، فجذب ثوبي و قال: يا هناه اجلس، فجلست، و قال اني قد رأيت رأيا و اني أحب أن تتابعني عليه، قلت ما هو، قال قد رأيت أن أعهد الي المدينة فأنزل لها، و أخلي بين معاوية و هذا الحديث، فقد طالت الفتنة و سفكت فيها الدماء، و قطعت فيها الأرحام، و قطعت السبل، و عطلت الفروج، فقال ابن‌جعفر: جزاك الله عن أمة محمد خيرا، و أنا معك، فبعث الي الحسين فأتاه فقال: أي أخي اني رأيت رأيا، و أحب أن تتابعني عليه، فقال ما هو، فقص عليه الذي قال لابن‌جعفر. فقال له الحسين، رضي الله عنه، أعيذك بالله أن تكذب عليا في قبره، و تصدق معاوية، فقال الحسن: و الله ما أردت أمرا قط، الا قد خالفتني الي غيره، و الله لقد هممت أن أقذفك قي بيت فأطينه عليك حتي أقضي أمري، فلم يزل به حتي رضي، و في احدي الروايات: فلما رأي الحسين غضبه قال: أنت أكبر ولد علي، و أنت خليفتي، و أمرنا لأمرك تبع، فافعل ما بدا لك».
علي أن هناك فريقا آخر انما يذهب الي أن موقف سيدالشهداء الامام الحسين، عليه‌السلام، من قضية الصلح، كموقف أخيه الامام الحسن، عليه‌السلام، فكان يري ضرورة المهادئة و لزوم المسألة، و أنه ليس من الحكمة و لا من الصالح فتح باب الحرب مع معاوية، فان يعود بالمضاعفات السيئة علي الاسلام، و يجر الويلات و الخطوب للمسلمين، و ذلك لتضلل الجيش الذي نزح معهم، و يدلل هذا الفريق علي موافقة الامام الحسين علي الصلح أنه حين أبرم الصلح أقبلت الي

[ صفحه 85]

الامام الحسين طائفة من الزعماء و الوجوه يطلبون منه أن ينقض ما أبرمه أخوه و يناجز معاوية فأبي و امتنع، و لو كان معارضا لرأي أخيه لأجابهم الي ذلك و ربما لأن الحسين ما كان يرضي أن يسود الناس و الحسن حي، و من ثم فقد رأيناه حين اشترط الامام الحسن أن تنص بيعته علي أن يحاربوا من حارب، و يسالموا من سالم، فأتي المخالفون الامام الحسين و قالوا له: أبسط يدك نبايعك علي ما بايعنا عليه أباك يوم بايعناه، و علي حرب الحالين الضالين أهل الشام، فقال الحسين: معاذ الله أن أبايعكم ما دام الحسن حيا»، و من ثم فاننا نقول، مع الأستاذ أبوعلم، أنه مما لا شك فيه أن الصلح قد ترك في نفس الامام الحسين أسي مريرا، و حزنا مرهقا، كما ترك في نفس الحسن أيضا لوعة و حزنا، ولكنهما سلام الله عليهما، ماذا يصنعان و الظروف لم تكن مواتية لهما حتي يقوما بمناجزة معاوية.
و أما أنصار آل البيت و مريدهم، فلا ريب أن كثيرا منهم انما كان يعارض الصلح، و لم يبايع لمعاوية الا مضطرا، و من هؤلاء قيس بن سعد و كما يقول أبوالفرج: فلما أرادوا أن يدخلوه اليه قال: «اني قد خلفت أن لا ألقاه الا بيني و بينه الرمح و السيف، فأمر معاوية برمح أو سيف، فوضع بينه و بينه ليبر يمينه»، و مع ذلك لم يبايع حتي أحله الحسن من بيعته، روي أبومخنف أن قيسا أقبل علي الحسن، فقال: أنا في حل من بيعتك، قال نعم، فألقي لقيس كرسي و جلس معاوية علي سريره، فقال له معاوية: أتبايع يا قيس، قال نعم فوضع يده علي فخذه و لم يمدها الي معاوية، فجثا معاوية علي سريره، و أكب علي قيس حتي مسح يده علي يده، فما رفع اليه قيس يده.»
علي أن فريقا من أنصار أهل البيت و مريديهم لم يستطيعوا أن يكبحوا جماح أنفسهم، و أن يلتزموا جانب الأدب مع الامام الحسن، حتي أنه لقي منهم عنتا شديدا، و حتي أنه كان اذا مر بجماعه من أشد أصحابه حماسة في نصرته و نصرة أبيه الامام علي من قبله يتلقونه قائلين «يا عار المؤمنين»، فكان يجيبهم في هدوء و وقار، و يقول «العار خي من النار»، ذلك لأن الصلح، فيما يقول الدكتور طه حسين، قد أسخط علي الحسن جماعة من أصحابه الذين أخلصوا له و لأبيه في بغض معاوية

[ صفحه 86]

و أهل الشام، ورأوا في الصلح نوعا من التسليم لم يكن يلائم ما بذلوا أيام الامام علي من جهد، و لم يلائم كذلك أيديهم من قوة، فمنهم من كان يقول للحسن يا مذل المؤمنين أو يا مذل العرب، ولكن الامام الحسن لم يحفل بشي‌ء من ذلك، و انما رضي عن خطته كل الرضا، رأي فيها حقنا للدماء، و وضعا لأوزار الحرب، و جمعا لكلمة الأمة، و تمكينا للمسلمين من أن يستقبلوا أمورهم مؤتلفين لا مختلفين و متفقين لا متفرقين، و من أن يفرغ أهل الثغور لثغورهم، يردون عنها طمع العدو فيها و فيما وراءها، و من أن يفرغ الجند للفتح يستأنفونه من حيث وقفته الفتنة.
و روي ابن عبدالبر في الاستيعاب بسنده عن أبي الغريف أحد أنصار الحسن أنه قال: كنا في مقدمة الحسن بن علي اثني عشر ألفا بمسكن مستميتين تقطر أسيافنا من الجرد و الحرص علي قتال أهل الشام و علينا «أبوالعمير طه»، فلما جاءنا صلح الحسن بن علي كأنما كسرت ظهورنا من الغيظ و الحزن، فلما جاء الحسن الكوفة أتاه شيخ منا يكني أباعامر شعبان بن أبي‌ليلي، فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين، فقال: «لا تقل يا أباعامر فاني لم أذل المؤمنين، ولكني كرهت أن أقتلهم في طلب الملك»، بل ان «حجر بن عدي» و الذي دفع حياته فيما بعد فداء لحبه للامام علي و آل البيت الطاهرين، قد أقبل علي الحسن، و قد مشت الرعدة بأوصاله و استولي عليه الحزن، فقال: «أما والله لوددت أنك مت في ذلك اليوم و متنا معك و لم نر هذا اليوم، فانا رجعنا راغمين بما كرهنا، و رجعوا مسرورين بما أحبوا»، و يعلق الأستاذ باقر القرشي في كتابه «الامام الحسن» علي هذا القول «لا أدري كيف فاه حجر بهذا الكلام القاسي، و هو أعلم بمركز الامام من غيره، و أدري بالظروف العصيبة و المصاعب الشديدة التي أحاطت بالامام حتي اضطرته الي الصلح، ولكن عذره أن لوعة المصاب و ذهول النفس، قد تخرج الانسان عن موازين الاعتدال و الاستقامة.
و لعل من أكثر الأمور اثارة أن نسمع كلمة «مذل المؤمنين» من رجل جليل من أصحاب الامام الحسن، و نعني به «سليمان بن صرد»، كما سنشير فيما بعد، و هناك المسيب بن نجية، و هو من خيار الصالحين الذين عرفوا بحب آل

[ صفحه 87]

البيت، فلقد تأثر بالصلح، و أقبل علي الامام الحسن، محزون النفس، مكلوم القلب، فقال: «ما ينقضي تعجبي منك، بايعت معاوية و معك أربعون ألفا، و و لم تأخذ لنفسك وثيقة و عهدا ظاهرا أعطاك أمرا فيما بينك و بينه، ثم قال ما قد سمعت (يعني انكار معاوية لعهوده مع الحسن) و الله ما أراد غيرك، فقال الحسن: ما تري، قال: أري أن ترجع الي ما كنت عليه،فقد كان نقض ما بينك و بينه، فقال الامام الحسن: «يا مسيب اني لو أردت بما فعلت الدنيا، لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء، و لا أثبت عند الحرب مني، ولكني أردت صلاحكم و كف بعضكم عن بعض»، و هناك الصحابي الجليل «عدي بن حاتم الطائي» الذي ذابت حشاه من الحزن و انكار الصلح، فقال للامام الحسن: «يا ابن رسول الله، لوددت أني مت قبل ما رأيت، أخرجتنا من العدل الي الجور، فتركنا الحق الذي كنا فيه، و دخلنا في الباطل الذي كنا نهرب منه، و أعطينا الدنية من أنفسنا و قلبنا الخسيس التي لم تلق بنا»، فقال له الامام الحسن: يا عدي اني رأيت هوي معظم الناس في الصلح، و كرهوا الحرب، فلم أحب أن أحملهم علي ما يكرهون، فرأيت دفع هذه الحروب الي يوم ما، فان الله قال: (كل يوم هو في شأن).
و هكذا استمرت هذه الثورة المكبوتة في نفوس الناس ضد هذا الصلح، روي الترمذي و أبوداود الطيالسي عن يوسف بن سعد بسنده أنه قال، قال رجل للحسن، بعدما بايع معاوية «سودت وجوه المؤمنين أو يا مسود وجوه المؤمنين، فقال الحسن: لا تؤنبني رحمك الله، فان النبي صلي الله عليه و سلم أري بني‌أمية علي منبره فساءه ذلك، فنزلت: (انا أعطيناك الكوثر) يا محمد، يعني نهرا في الجنة، و نزلت: (انا أنزلناه في ليلة القدر، و ما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر) يملكها بعدك بنوأمية يا محمد، قال الفضل: «فعددنا فاذا هي ألف شهر لا تزيد يوما و لا تنقص».
و يروي ابن‌كثير أن الحسن قد ترحل و معه أخوه الحسين و بقية اخوتهم و ابن عمهم عبدالله بن جعفر، من أرض العراق الي أرض المدينة المنورة،

[ صفحه 88]

علي ساكنها أفضل الصلاة و السلام، و جعل كلما مر بحي من شيعتهم يبكتونه علي ما صنع من نزوله عن الأمر لمعاوية، و هو في ذلك، هو البار الراشد الممدوح، و ليس يجد في صدره حرجا و لا تلوما و لا ندما، بل هو راض بذلك مستبشر به، و ان كان هذا قد ساء خلقا من ذويه و أهله و شيعتهم، و لاسيما بعد ذلك بمدد، و هلم جرا الي يومنا هذا، و الحق في ذلك اتباع السنة و مدحه فيما حقن به دماء الأمة، كما مدحه علي ذلك رسول الله صلي الله عليه و سلم، كما تقدم في الحديث الصحيح، الذي أخرجه البخاري عن أبي‌بكرة قال: أخرج النبي صلي الله عليه و سلم ذات يوم الحسن، فصعد به علي المنبر فقال: «ابني هذا سيد، و لعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين».
و انتهي الامام الحسن الي المدينة، فلقي من أهلها اثر وصوله اليها من لامه في الصلح، كما لامه فيه أهل الكوفة فكان يقول للائميه: «كرهت أن ألقي الله عزوجل، فاذا سبعون ألفا أو أكثر تشخب أوداجهم دما، يقول كل منهم: يا رب فيم قتلت».
و تمضي الأيام، و يسير ولاة معاوية في العراق بما لا يرضي أهل العراق، و يبدأ أهل الكوفة يذكرون حياتهم علي أيام الامام علي، فيحزنون عليها، و يندمون علي ما كان من تفريطهم في جنب خليفتهم، و يندمون كذلك علي ما كان من الصلح بينهم و بين أهل الشام، و جعلوا كلما لقي بعضهم بعضا تلاوموا فيما كان، و أجالوا الرأي فيما يمكن أن يكون، و لم تكد تمضي أعوام قليلة حتي جعلت وفودهم تفد الي المدينة للقاء الحسن و القول له و الاستماع منه، و جاء يوم وفد علي رأسه «سليمان بن صرد»، و هو من صفوة أصحاب الامام، و يقال انه لم يكن حاضرا في المدائن حين جري الصلح، و عاتب الامام علي الصلح، مع أن معه أربعين ألف مقاتل، ثم جاءت وفود أخري، و كلها تطالب الحسن بأن يعيد الحرب جذعة، و كان رد الحسن، فيما يروي البلاذري «أنتم شيعتنا و أهل مودتنا، فلو كنت بالحزم في أمر الدنيا أعمل، و لسلطانها أعمل و أنصب، ما كان معاوية بأبأس مني بأسا، ولا أشد شكيمة و لا أمضي عزيمة، ولكني أري غير ما

[ صفحه 89]

رأيتم، و ما أردت فيما فعلت الا حقن الدماء، فارضوا بقضاء الله و سلموا و ألزموا بيوتكم و أمسكوا و كفوا أيديكم حتي يستريح بر أو يستراح من فاجر».

عام الجماعة

يجمع المؤرخون، أو يكادون، علي أن الامام الحسن انما سلم الأمر لمعاوية في الخامس و العشرين من شهر ربيع الأول عام 41 ه (661 م)، علي أن يكون الأمر من بعده للحسن علي رأي، و هو الأرجح، أو أن يكون الأمر شوري بين المسلمين يولون عليهم من أحبوا، علي رأي ثان، و أيا ما كان الأمر، فلقد أصبح معاوية منذ ذلك اليوم صاحب السلطان المطلق في جميع الولايات الاسلامية، و من ثم فقد سمي هذا العام (41 ه) «عام الجماعة»، غير أن هناك من يري غير ذلك تماما في هذا العام، فالأستاذ العقاد يقول: فليس أضل ضلالا، و لا أجهل جهلا من المؤرخين الذين سموا سنة «احدي و أربعين هجرية» بعام الجماعة، لأنها السنة التي استأثر فيها معاوية بالخلافة فلم يشاركه أحد فيها، لأن صدر الاسلام لم يعرف سنة تفرقت فيها الأمة، كما تفرقت في تلك السنة، و وقع فيها الشتات بين كل فئة من فئاتها، كما وقع فيها.
و الجاحظ يقول: «فعندها استولي معاوية علي الملك، و استبد علي بقية الشوري، و علي جماعة المسلمين من المهاجرين و الأنصار في العام الذي سموه «عام الجماعة»، و ما كان عام جماعة، بل كان عام فرقة و قهر، و جبرية و غلبة، و العام الذي تحولت فيه الامامة ملكا كسرويا، و الخلافة منصبا قيصريا»، و يقول ابن‌كثير «قد تقدم الحديث أن الخلافة بعده عليه الصلاة و السلام ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا، و قد انقضت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي، فأيام معاوية أول الملك، فهو أول ملوك الاسلام».
هذا و يذهب فريق من الباحثين و منهم نيكلسون، كما يقول الدكتور حسن ابراهيم في تاريخ الاسلام السياسي، الي أن كثيرا من المسلمين اعتبروا هذا العام الذي انتصر فيه بنوأمية، برياسة معاوية، انما هو انتصار للأرستقراطية

[ صفحه 90]

الوثنية التي ناصبت الرسول صلي الله عليه و سلم و أصحابه العداء، و التي جاهدها رسول الله صلي الله عليه و سلم حتي قضي عليها، و صبر معه المسلمون علي جهادها و مقاومتها حتي نصرهم الله، فقضوا عليها و أقاموا علي أنقاضها دعائم الاسلام، ذلك الدين السمح الذي جعل الناس سواسية في السراء و الضراء، و أزال سيادة رهط كانوا يحتقرون الفقراء، و يستذلون المستضعفين، و يبتزون الأموال، و من ثم فلا عجب، اذا كره المسلمون بني‌أمية و غطرستهم و كبرياءهم، و اثارتهم الأحقاد القديمة، و نزوعهم للروح الجاهلية، و لاسيما و أن جمهور المسلمين كانوا يرون بين الأمويين رجالا كثيرين لم يعتنقوا الاسلام الا سعيا وراء مصالحهم الشخصية، كما كان معاوية يرمي الي جعل الخلافة ملكا كسرويا، و ليس أدل علي ذلك من قوله هو نفسه «أنا أول الملوك»، و كان سعيد بن المسيب يقول: فعل الله بمعاوية و فعل، فانه أول من أعاد هذا الامر ملكا.
و لعل أهم ما كان يميز سياسة معاوية في ولايته و ملكه هي سياسة «فرق تسد»، كما يقولون في عصرنا الحاضر، فقد كان معاوية، لو استطاع، أن يجعل كل رجل في دولته حزبا منابذا لغيره من رجال الدولة كافة، لفعل، و لو حاسبه التاريخ حسابه الصحيح لما وصفه بغير «مفرق الجماعات»، و من عجب أن نجد بين المؤرخين من يسمي عامه حين انفرد بالدولة «عام الجماعة»، مع أنه قد فرق الأمة شيعا شيعا، فلا تعرف كيف تتفق، اذا حاولت الاتفاق، و كانت خطته في التفرقة عامة، لا يفرق فيها بين الخصوم و الأعوان، و كأنها غرض مقصود لذاته، أو كأنها خير مطلق لا شر فيه، حتي حاول ذلك في البيت الأموي نفسه، من غير السفيانيين.
فلم يكن معاوية ليهدأ أو يستريح حتي يوقع بين آل عمومته الأقربين من بني‌العاص، و طبقا لرواية الطبري، فكان يأمر سعيد بن العاص بهدم بيت مروان، ثم يأمر مروان بهدم بيت سعيد، و قد هم مروان أن يفعل، لولا أن كشف سعيد خدعة معاوية، كما كان يغري أبناء عثمان رضي الله عنه بالمروانيين، كما يغري المروانيين بأبناء عثمان، و الأمر كذلك بالنسبة الي رجال دولته من غير

[ صفحه 91]

بني‌أمية، كما كان يحدث بين المغيرة بن شعبة و عمرو بن العاص، فكان يسمع لكل منهما في الآخر، و يطيع كل منهما في دسه و اغرائه ليعلم كل منهما بما صنعه من الكيد لصاحبه، فلا يتفقان عليه.
و هكذا عمل علي أن يضرب الشيعة بالخوارج، و يضرب الخوارج بالشيعة، فضلا عن التفرقة بين العشائر العربية بمداولة التقريب و الاقصاء لعشيرة منهم بعد عشيرة، كما حاول أن يفرق المهاجرين و الأنصار، و سمح للأخطل الشاعر النصراني، أن يهجو الأنصار و يمدح قريشا فقال:

ذهبت قريش بالمكارم كلها
و اللؤم تحت عمائم الأنصار

ثم عمد الي أهل مكة و الطائف، ففرق بينهما حين آثر الثقفيين بزلفاه، و سن لمن بعده سنة هذا الايثار، حتي كانت الطائف علي عهد معاوية و خلفائه كالحرس علي أهل مكة ممن بقي فيها من غير الأمويين و السفيانيين، و فرق بين المضرية و اليمنية، فكان يميل تارة الي هؤلاء، و تارة الي اولئك، و كان هو نفسه من المضريين، ولكنه كان يبدو في بعض الأحيان، و كأنه من أبناء اليمن عدو لأبناء مضر، و فرق بين العرب و الموالي، و أوشك أن ينكل بالموالي، ليقصيهم عن مناصب الدولة، و عن الاقامة في عواصمها، ثم اتبع خطة التفرقة هذه حتي بين أهل الشام الذين تمهدت له ولايتهم، فاستخلص لنفسه فرقة منهم لا تخرج من الشام، ولا تلتقي بأحد من دعاة العراق أو مصر أو الحجاز أو افريقية، ثم نقل الي الشام طوائف شتي من غير أهلها، فنقل اليها طوائف الزط و السيابجة من البصرة، و نقل الي الأردن و صور طوائف من الفرس و الموالي، و نقل الي أنطاكية أساورة المواني‌ء بالعراق، و خلط العرب بالعجم، و هؤلاء بسلالة الشاميين في كل بقعة من البلاد السورية، كما كانت تعرف قديما، و ان لم ينجح في استخلاص قبيلة «كلب» كلها، لأن منهم أنصار عثمان و بيت مروان، و من ثم فقد استخلص منهم أخوال يزيد فحسب، فأصبحت «كلب» بالتالي فريقين، الواحد يدعو الي خالد بن يزيد، و الآخر يدعو الي مروان [2] .

[ صفحه 93]

اجتهادات معاوية و شروط الصلح

اشاره

لعل من الأفضل أن نشير هنا مرة أخري الي شروط الصلح التي تمت بين الامام الحسن و معاوية، و هي تلزم كل منهما بأمور، تلزم الامام الحسن أن يسلم الأمر لمعاوية، و تلزم معاوية بأمور، منها أن يعلم بكتاب الله و سنة نبيه صلي الله عليه و سلم و سيرة الخلفاء الراشدين، و منها أن لا يعهد معاوية بالأمر الي أحد من بعده، و انما الأمر من بعده للحسن، فان حدث به حدث فالأمر للحسين (أو أن يكون الأمر شوري بين المسلمين يولون عليهم من أحبوا)، و منها أن يترك سب أميرالمؤمنين علي، و ألا يذكره الا بخير، و منها أن يعطي الامام الحسن خراج دار أبجرد، يفرقه في أولاد من قتل مع أبيه في يوم الجمل و صفين، و منها أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة و يقضي عنه ديونه، و يدفع اليه كل عام مائة ألف، و منها أن لا يبغي للحسن أو الحسين و لا لأهل البيت غائلة سرا و لا جهرا، و لا يخيف أحدا منهم في أفق من الآفاق، و منها الأمن العام لشيعة الامام علي و ألا يتعرض لهم بمكروه، الي غير ذلك من شروط.
و لنحاول الآن، جهد الطاقة، أن نناقش مدي التزام كل من الامام الحسن و معاوية بشروط الصلح:
أولا: الامام الحسن
كان الشرط الوحيد من شروط الصلح الذي كان لمعاوية علي الحسن هو

[ صفحه 94]

أن يسلم اليه الأمر، و تجمع المصادر كلها علي أن هذا الشرط هو الشرط الوحيد الذي حظي بالوفاء من شروط الصلح و لم يحدث من الامام الحسن، أو من أخيه الامام الحسين، و أو من آل بيته الطاهرين، أية محاولة لنقض هذا الشرط بل حتي مجرد التفكير فيه، و رغم أن معاوية أعلن التخلي عن شروطه فقال «ألا ان كل شي‌ء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين، لا أفي به»، و رغم أن أنصار الامام الحسن قد عرضوا عليه، بعد عودته للمدينة المنورة، أنفسهم و أتباعهم للجهاد بين يديه، و وعده الكوفيون منهم باخلاء الكوفة من عاملها الأموي، و ضمنوا له السلاح لاعادة الكرة علي الشام، فلم تهزه العواصف و لا أقلقته حوافز الأنصار المتوثبين، و قال لهم «ليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته، مادام معاوية حيا، فان يهلك، و نحن و أنتم أحياء، سألنا الله العزيمة علي رشدنا، و المعونة علي أمرنا، و ألا يكلنا الي أنفسنا، فان الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون، بل ان بعض هؤلاء الأنصار، ذهب الي الامام الحسين، بعد أن فشل مع الامام الحسن، و قال له: يا أباعبدالله، شربتم الذل بالعز، و قبلتم القليل و تركتم الكثير، أطعنا اليوم و أعصنا الدهر، دع الحسن و ما رأي من هذا الصلح، و أجمع اليك شيعتك من أهل الكوفة و غيرها، و ولني و صاحبي هذه المقدمة فلا يشعر ابن هند الا و نحن نقارعه بالسيوف»، فرد الامام الحسين عليه (نعني عدي بن حاتم و صاحبه عبيدة بن عمر) قائلا «انا قد بايعنا و عاهدنا، و لا سبيل لنقض بيعتنا».
و هكذا ظل الامام الحسن، كما يقول الدكتور طه حسين، وفيا لمعاوية ببيعته، حفيظا علي عهده، مستعينا به ان احتاج الي معونة، ولكنه علي ذلك كان معارضا، و لم يكن يستخف بمعارضته، و انما كان يظهر منها ما يشاء في المدينة حيث كان يقيم، وفي مكة حين كان يلم بها أثناء الموسم، و كانت الفرص تواتيه أحسن المواتاة و أيسرها، فهو كان عذب الروح حلو الحديث، كريم المعاشرة حسن الألفة محببا الي الناس، يحبه أترابه من شباب قريش و الأنصار لهذه الخصال، و يحبه الشيوخ من أصحاب النبي صلي الله عليه و سلم لهذه الخصال،

[ صفحه 95]

و لمكانه من النبي صلي الله عليه و سلم، و يحبه عامة الناس لكل هذا، و لسخائه وجوده و اعطائه المال حين يسأل و حين لا يسأل، و كان يصبح فيصلي الصبح و يجلس في مكانه، حتي اذا ارتفعت الشمس طاف بأمهات المؤمنين. زائرا لهن متحدثا اليهن، يبرهن و يبررنه، و يهدي اليهن و يهدين اليه، ثم يفرغ لبعض شأنه، فاذا صليت الظهر جلس للناس في المسجد فأطال الجلوس يسمع منهم و يقول لهم، يعلم من احتاج منهم الي العلم، و يؤدب من احتاج منهم الي الأدب، و يسمع من شيوخ الصحابة من يفيده علما و أدبا، و كان في أثناء هذا كله، اذا ذكر السلطان أو ذكر السلطان عنده، يعرف الخير و ينكر الشر في أرق لفظ و أعذبه، ولكنه كان يشتد حتي يبلغ القسوة، ان ذكر أبوه بغير ما يحب، أو لقي من بعي أباه الغوائل أو سعي اليه بمكروه.
ثانيا: معاوية
لا ريب في أن معاوية لم يف بشروط الصلح كلها، أو لم يف بكثير منها، و لنحاول أن نناقش ذلك بشي‌ء من التفصيل، و خاصة فيما يتصل بترك الأمر من بعده للحسن أو أن يكون شوري بين المسلمين يولون عليهم من أحبوا، ثم ترك سب الامام علي، و اعطاء الحسن خراج دار أبجرد، فضلا عن الأمان العام لأنصار الامام علي، و أن لا يبغي غائلة للحسن أو الحسين سرا أو جهرا.

بيعة يزيد

كان أول الشروط التي شرطها معاوية علي نفسه للامام الحسن، أن له الأمر من بعده، و قد كرر معاوية هذا الشرط أو الوعد في كل رسائلة التي كتبها للأمام يطلب فيهما أن يتنازل له عن الأمر، علي أن يكون له من بعده، و قد أجمع المؤرخون، فيما يقول الأستاذ أبوعلم، علي أن العهد الذي أعطاه معاوية للحسن في شروط الصلح هو أن لا يعهد بالأمر من بعده لأحد، و هذا يعني رجوع الأمر من بعده الي صاحبه الشرعي، و هو الحسن بن علي، فان لم يكن فللحسين أخيه، تمشيا مع مفهوم الشرط، كما أجمعوا كذلك علي أن معاوية نقض هذا العهد علنا، و عهد من بعده لابنه يزيد، و في الواقع

[ صفحه 96]

فلقد كشف معاوية بعمله هذا أحد وجوه القضية الجليلة التي قاتل الامام علي دونها، هذا الوجه المتمثل في أن لا تصير خلافة المسلمين الي طلقاء بني‌أمية أبدا، و أن تظل في الصالحين الأولين من المهاجرين و الأنصار.
غير أن وجود الامام الحسن، و هو الذي تعهد معاوية أن يخلفه في أمر المسلمين، و شرط علي نفسه بذلك، انما كان يمثل عقبة كؤود، تقف دون البيعة ليزيد، و من ثم فقد رأينا الأحنف بن قيس، حين استشاره في الأمر، «قد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك، فان تف فأنت أهل الوفاء، و ان تغدر تعلم و الله أن وراء الحسن خيولا جيادا، و أذرعا شدادا، و سيوفا حدادا، ان تدن له شبرا من غدر، تجد وراءه باعا من نصر، و انك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك، و لا أبغضوا عليا و حسنا منذ أحبوهما، و ان السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلي عواتقهم، و القلوب التي أبغضوك بها بين جوانحهم، و ايم الله ان الحسن لأحب الي أهل العراق من علي»، و من هنا لم يكن مكان الحسن من معاوية محببا اليه، فقد كان معاوية رجلا بعيد النظر، لم يكد يطمئن الي الخلافة و يري أنها قد اطمأنت اليه، حتي فكر في أن يجعلها تراثا بعده لآل أبي‌سفيان، و كان يفكر في ابنه يزيد دائما، فيري أن الحسن هو الحائل بينه و بين ما يريد من ذلك، فهو قد تعجل الصلح مع الحسن، فعرض عليه ولاية الأمر من بعده، و من الحق، فيما يري البعض، أن الحسن لم يقبل منه ذلك، و انما اشترط عليه أن تكون الخلافة بعده شوري بين المسلمين يختارون لها من أحبوا، و كان الحسن، في أكبر الظن يري أن المسلمين لن يعدلوا به أحدا، بعد وفاة معاوية، و كانت الشيعة تؤمن بذلك أشد الايمان، و تدعو له فتلح في الدعاء، و علي أي حال، فسواء كان معاوية قد شرط علي نفسه أن يكون الأمر من بعد للامام الحسن، و سواء أكان الحسن قد قبل ذلك أو اشترط أن تكون الخلافة بعد معاوية شوري بين المسلمين، فالذي لا شك فيه أن الامام الحسن قد أصبح عقبة في تتابع ملول آل أبي‌سفيان، و كما يقول أبو

[ صفحه 97]

الفرج في «مقاتل الطالبيين»، «و أراد معاوية البيعة لابنه يزيد، فلم يكن شي‌ء أثقل من أمر الحسن بن علي، و سعد بن أبي‌وقاص، فدس اليهما سما فماتا منه»، الأمر الذي سنناقشه فيما بعد، و مع ذلك فقد خشي معاوية أمر الامام الحسين، رغم أن الحسين لم ينصب نفسه للبيعة، و لم يكن اماما للمسلمين، و لم يكن معاوية قد صالحه و لا وعده و لا شرط له، و ان كان مفهوم شرط الحسن علي أن يكون له الأمر بعد معاوية، و انما ينطبق، فيما يري البعض، علي الحسين، تمشيا مع مفهوم الشرط، لا حرفيته.
و أيا ما كان الأمر، فقد هم معاوية أن ينحي الامام الحسين عن مكانه شيئا لتلخص له الطريق من ابني فاطمة الزهراء، و سبطي النبي صلي الله عليه و سلم، و سيدي شباب أهل الجنة، و ريحانتي رسول الله صلي الله عليه و سلم، و يروي أنه قال ذات يوم، بعد موت الحسن، لعبدالله بن عباس ممازحا، و هو يريد الجد: أنت سيد قومك بعد الحسن، ولكن عبدالله بن عباس لم ينخدع له، و أجابه في صراحة «أما و أبوعبدالله (يعني الحسين) حي فلا»، و مع ذلك فلم يتردد معاوية، كما سنري، في أن يبايع بولاية العهد لابنه يزيد، و أكره الامام الحسين، كما أكره غيره من شباب المهاجرين علي أن يسكتوا عن هذه البيعة التي كانوا ينكرونها أشد الانكار.
و هكذا استحدث معاوية في الاسلام أمرا جديدا، غير به السنة الموروثة تغييرا خطيرا، و لم يكره المسلمون شيئا في الصدر الأول من أيامهم، كما كرهوا وراثة الخلافة، فقد عهد أبوبكر الي عمر، رضي الله عنهما، و لم يخطر له أن يعهد الي أحد من بنيه، و زجر الفاروق رضي الله عنه من طلب اليه أن يعهد لولده عبدالله، و لم يخطر لعثمان رضي الله عنه أن يعهد الي أحد و لا ينبغي أن يقال أعجل عثمان عن ذلك، فلقد لبث في الخلافة اثني عشر عاما، و أبي الامام علي رضي الله عنه أن يستخلف، و قال لأصحابه حين سألوه: أترككم كما ترككم رسول الله صلي الله عليه و سلم و سأله الناس: أيبايعون الحسن ابنه، فقال لا آمركم و لا أنهاكم، كما أشرنا من قبل، و كان المسلمون يذكرون الكسروية و القيصرية، يريدون بذلك حكم القياصرة و الأكاسرة، و لم تكن وراثة الملك عندهم الا لونا

[ صفحه 98]

من الحكم الأعجمي، و لو وقف عند هذا الحد، لكان من الممكن أن يقال: اجتهد للناس، فأخطا أو أصاب ولكنه قاتل الامام عليا علي دم عثمان من جهة، و علي أن يرد الخلافة شوري بين المسلمين، من جهة أخري، فلما استقام له السلطان نسي ما قاتل عليه أو أعرض عما قاتل عليه، و لما أراد مصالحة الحسن عرض عليه أن يجعل له ولاية الأمر من بعده فقبل الحسن، و ان ذهب رأي الي أنه اشترط أن يعود الأمر بعد معاوية شوري بين المسلمين يختارون لخلافتهم من أحبوا، فقبل ذلك معاوية فيما قبل من شروط، فهو اذا كان يري الشوري في أمر الخلافة قبل أن يستقيم له الأمر، ثم نسي هذا كله بأخرة.
و يذهب بعض المؤرخين الي أن فكرة البيعة ليزيد انما أشار بها المغيرة بن شعبة، كما أشار من قبل للفاروق بالبيعة لولده عبدالله فزجره، و ذلك حين أحس أن معاوية انما يفكر في عزله عن ولاية الكوفة، فوسوس الي يزيد أن يطلب الي أبيه تسميته لولاية العهد، و زين له الأمر، و كان معاوية، كما رأينا، يعد العدة لذلك، ولكنه يكتمه، فما أن علم بمشورة المغيرة، و أنه سيكفيه أمر الكوفة، و يكفيه زياد البصرة، حتي طلب منه أن يعمل ذلك سرا وفي تؤده، فما كان أحد من المسلمين من أهل التقوي يقبل بولاية يزيد، و لا ندري كيف سمحت نفس المغيرة له أن يفعل ذلك، مع ثقته، علي حد قوله أنه فتق علي أمة محمد فتقا لا يرتق أبدا، كما روي ابن الأثير و غيره، ولكنها السياسة يرمي بها بعض الناس الي أن ينالوا لأنفسهم من ورائها غنما أو كسبا، لا يعنيهم مغبتها علي الناس، و سار المغيرة حتي قدم الكوفة، و حدث بعض من يثق فيهم و يعلم أنهم من شيعة بني‌أمية، فأجابوه فأوفد منهم عشرين الي معاوية، اشتراهم بدراهم، و كان ذلك أسلوب معاوية، يعرفه و يوعز به و يغري عليه، و لهذا قال لموسي بن المغيرة، و كان علي رأس الوفد، بكم اشتري أبوك من هؤلاء دينهم؟ فقال ابن‌المغيرة: بثلاثين ألفا، فقال معاوية: لقد هان علي الناس دينهم، غير أن ذلك انما من عزم معاوية علي البيعة ليزيد، مادامت الذمم تباع رخيصة، و العهود تشتري بالقليل، و معاوية يملك من المال الكثير، و من ثم بدأ يرشوا

[ صفحه 99]

الناس بالمال، و ان أخطأت رشوته طريقها في بعض الأحيان، و من ذلك أنه أرسل الي عبدالله بن عمر، مأتة ألف درهم، فقبلها عبدالله علي أنها معونة خالصة لوجه الله، و لم يكن يدري أنها ثمن البيعة ليزيد، فما أن علم حتي قال: ان ديني عندي اذا لرخيص، و امتنع عن البيعة، و أخذ يقول: «ما أجدني آسي علي شي‌ء فاتني في حياتي، الا علي أني لم أقاتل مع علي الفئة الباغية»، كما ثار كذلك كبار الصحابة و أبنائهم و جمهور كبير من أهل الورع و التقوي، و غلي رأسهم الامام الحسين و عبدالله بن الزبير و عبدالرحمن بن أبي‌بكر، الذي قال لمروان بن الحكم، عندما عرض البيعة ليزيد في مسجد رسول الله صلي الله عليه و سلم: كذبت والله يا مروان و كذب معاوية، ما الخيار أردتما لأمة محمد صلي الله عليه و سلم ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية، كلما مات هرقل قام هرقل».
و روي ابن‌كثير في تفسيره (الآية 17 من الأحقاف) روي ابن أبي‌حاتم عن عبدالله المديني قال: اني لفي المسجد حين خطب مروان فقال: ان الله تعالي قد أري أميرالمؤمنين (أي معاوية) في يزيد رأيا حسنا، و أن يستخلفه فقد استخلف أبوبكر عمر رضي الله عنهما، فقال عبدالرحمن بن أبي‌بكر، رضي الله عنهما: أهرقلية، أن أبابكر رضي الله عنه، و الله ما جعلها في أحد من ولده، و لا أحد من أهل بيته، و لا جعلها معاوية في ولده الا رحمة و كرامة لولده، فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه: أف لكما، فقال عبدالرحمن رضي الله عنه ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلي الله عليه و سلم أباك، قال: و سمعتهما عائشة رضي الله عنها فقالت يا مروان، أنت القائل لعبدالرحمن رضي الله عنه كذا و كذا، و كذبت، ما فيه نزلت، ولكن نزلت في فلان بن فلان، ثم انتحب مروان، ثم نزل عن المنبر، حتي أتي باب حجرتها فجعل يكلمها حتي انصرف» (رواه البخاري باسناد آخر و لفظ آخر).
و أخرج النسائي في سننه عن محمد بن زياد قال قال: لما بايع معاوية رضي الله عنه لابنه قال مروان: سنة أبي‌بكر و عمر، رضي الله عنهما، فقال عبدالرحمن بن أبي‌بكر، رضي الله عنهما، سنة هرقل و قيصر، فقال مروان: هذا

[ صفحه 100]

الذي أنزل الله تعالي فيه «و الذي قال لوالديه أف لكما»، فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت: «كذب مروان، و الله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله صلي الله عليه و سلم لعن أبامروان، و مروان في صلبه، فمروان فضض من لعنة الله» (أي قطعة من لعنة الله)
هذا و قد وصل الغضب علي هذه البيعة الي بني‌أمية أنفسهم، و منهم مروان نفسه، و سعيد بن عثمان بن عفان، روي الطبري و ابن الأثير و ابن‌كثير، أن سعيد بن عثمان قال لمعاوية: «لقد اصطنعك أبي حتي بلغت باصطناعه المدي الذي لا تجاري اليه و لا تسامي، فما شكرت بلاءه و لا جازيته، فقدمت هذا، يعني يزيد، و بايعت له، و الله لأنا خير منه أبا و أما و نفسا»، و أرضاه معاوية بولاية خراسان.
و روي ابن الأثير أن معاوية قال للضحاك بن قيس الفهري: اذا اجتمعت الوفود عندي، فاني متكلم فاذا سكت فكن أنت الذي تدعوا الي بيعة يزيد و تحثني عليها، و تكلم معاوية، و تكلم الضحاك يطلب البيعة ليزيد، ثم تكلم غيره، حتي قام يزيد بن المقنع العذري فقال: هذا أميرالمؤمنين، و أشار الي معاوية، فان هلك فهذا، و أشار الي يزيد، و من أبي فهذا، و أشار الي سيفه، فقال معاوية: اجلس فأنت سيد الخطباء، ثم سافر الي المدينة فخطب و مدح ولده يزيد، فقال: من أحق منه بالخلافة في فضله و عقله و موضعه، و ما أظن أن قوما بمنتهين حتي تصيبهم بوائق تجتث أصولهم، و قد أنذرت ان أغنت النذر»، و هكذا أصبح يزيد بسلطان أبيه و بأموال المسلمين التي اشتري بها أبوه ضمائر البعض، أحق الناس بالخلافة و أنه صاحب فضل و عقل، فضلا عن أنه ابن‌معاوية، ثم لا ينتهي معاوية عند هذا الحد، و انما يتهدد و يتوعد من يخالف رأيه.
و علي أي حال، فان المؤرخين يرون أن أربعة نفر من قريش، و هم الامام الحسين و عبدالله بن عمر و عبدالله بن الزبير و عبدالرحمن بن أبي‌بكر و زاد فريق عبدالله بن العباس، و لم يبلغ منهم معاوية شيئا بالوعد أو الوعيد، صارحه

[ صفحه 101]

بعضهم بعدم البيعة ليزيد، و التوي عليه بعضهم الآخر، و أخيرا عرضوا عليه ثلاث خصال، روي ابن‌الأثير، أن معاوية أقبل علي ابن‌الزبير، فقال: هات لعمري انك خطيبهم، فقال نعم، نخيرك بين ثلاث خصال، قال: أعرضهن، قال تصنع كما صنع رسول الله صلي الله عليه و سلم أو كما صنع أبوبكر أو كما صنع عمر، قال معاوية: ما صنعوا، قال قبض رسول الله صلي الله عليه و سلم و لم يستخلف أحدا، فارتضي الناس أبابكر، قال ليس فيكم مثل أبي‌بكر و أخاف الاختلاف، قالوا صدقت، فاصنع كما صنع أبوبكر، فانه عهد الي رجل من قاصية قريش، ليس من بني أبيه فاستخلفه، و ان شئت فاصنع كما صنع عمر، جعل الأمر شوري في ستة نفر، ليس فيهم أحد من ولده و لا من بني أبيه، قال معاوية: «هل عندك غير هذا، قال لا، ثم قال فأنتم، قالوا قولنا قوله، قال: فانني قد أحببت أن أتقدم اليكم، انه قد أعذر من أنذر، اني كنت أخطب فيكم فيقوم القائم منكم فيكذبني علي رؤوس الناس، فأحمل ذلك و أصفح، و اني قائم بمقالة فاقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع اليه كلمة غيرها حتي يسبقها السيف الي رأسه فلا يبقين رجل الا علي نفسه».
هذا و يذهب بعض المؤرخين الي أنه أقام علي رؤوسهم شرطا، حين خطب الناس، و تقدم الي هؤلاء الشرط في أن يضربوا عنق أيهم كذبه فيما يقول، ثم خطب الناس فذكر بيعة يزيد بولاية العهد، و أن الناس قد أجمعوا علي قبول ما اختار لهم، و أن هؤلاء النفر من أعلام قريش و سادتها قد دخلوا فيما دخل فيه الناس فبايع الناس و انصرف هؤلاء النفر يحلفون لمن لامهم، ما بايعوا و ما قبلوا، و هكذا استكره معاوية هؤلاء النفر علي الصمت، بعد أن لم يستطع أن يستكرههم علي البيعة، و هو بعد لم يؤامر الأمة فيما اختار لخلافتها، علي أي نحو من المؤامرة، و انما شاور قوما من خاصته و الطامعين في سلطانه و ماله، فكلهم أغراه بذلك و حببه اليه، و لم يستطع أحد من خاصة الناس و لا من عامتهم أن ينكر علي معاوية مما أراد شيئا.
و انطلاقا من كل هذا، يمكن القول ان أربعين سنة سلخها معاوية في

[ صفحه 102]

حكم الشام الي جوار امبراطورية الروم، و في ديارها السابقة، قد انحرفت به عن أن يسلك الطريق الاسلامي في أمر الحكم، و الذي رأينا أساليب مختلفة له في عهد الراشدين، و انما سلك طريقا رومانيا، و أراده أسلوبا ملكيا علي أسلوبهم، و انتوي نية فطفق يتألف لها الناس، و يهيي‌ء لها الأمور، و هكذا استقر في الاسلام، و لأول مرة، بجهود معاوية و علي يديه، هذا الملك الذي يقوم علي البأس و البطش، و الذي يرثه الأبناء عن الآباء، أصبحت الأمة و كأنها ملك لصاحب السلطان ينقله الي من أحب من أبنائه، كما ينقل اليه ما يملك من سائل المال و جامده، و هكذا أحدث معاوية في المسلمين بدعة جديدة طالما أنكروها من قبل، و هي توريث الملك، و كانت عاقبة هذه البدعة وبالا علي المسلمين، أي وبال، فما أكثر ما استحل الملوك من المحارم، و ما أكثر ما سفكوا من الدماء، و أهدوا من الحقوق، وضحوا بمصالح الأمة في سبيل ولاية العهد، و ما أكثر ما كاد بعض الأمراء من أبناء الملوك لبعض في سبيل هذا التراث الذي لم يبحه لهم كتاب و لا سنة، و لا عرف مألوف من صالحي المسلمين، و هكذا انتقلت الدولة من نظام الخلافة الذي يعتمد علي الشوري، و يستند الي الدين، الي النظام الملكي الذي يقوم أساسا علي التوريث و يستند الي السياسة أولا، و الي الدين ثانيا.
و لعل سائلا أن يتساءل: هل يمكن أن يكون معاوية في كل هذا مجتهدا، فلقد أخذ البيعة لولده يزيد، نابذا الشوري وراء ظهره، مع اشتهار يزيد بفسقه و فجوره، في وقت كان ابن رسول الله صلي الله عليه و سلم الامام الحسين علما خفاقا علي ظهر الأرض، يتمني الناس امامته، و لم يكن معاوية يجهل أن استخلاف يزيد فيه خروج عن حدود الله، و فيه خروج علي شروط الصلح مع الامام الحسن، الذي عرض عليه معاوية أن يكون الأمر من بعده، سواء قبل أو رأي أن يكون الأمر شوري بين المسلمين.
هذا فضلا عن أن الله تعالي يقول في كتابه العزيز (و اعلموا أنما من أموالكم و أولادكم فتنة، و أن الله عنده أجر عظيم)، و يقول ابن تيمية في

[ صفحه 103]

«السياسة الشرعية» (ط ابريل 1960) تعليقا علي الآية الكريمة فان الرجل لحبه لولده أو لعتيقه قد يؤثره في بعض الولايات أو يعطيه ما لا يستحقه، فيكون قد خان أمانته، و كذلك قد يؤثره زيادة في ماله أو حفظه بأخذ ما لا يستحقه أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات، فيكون قد خان الله و رسوله و خان أمانته.
و روي الحاكم بسنده عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال «من ولي من أمر المسلمين شيئا، فولي رجلا و هو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله و رسوله، و في رواية: و من قلد رجلا عملا علي عصابة، و هو يجد في تلك العصابة أرضي منه، فقد خان الله، و خان رسوله، و خان المؤمنين»، و روي بعضهم - فيما يقول ابن‌تيمية - أنه من قول عمر، لابن‌عمر، روي ذلك عنه، و قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه «من ولي من أمر المسلمين شيئا فولي رجلا لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله و رسوله و المسلمين». و في الصحيحين عن النبي صلي الله عليه و سلم أن قوما دخلوا عليه فسألوه ولاية، فقال: «انا لا نولي أمرنا هذا من طلبه،» و قال لعبدالرحمن بن سمرة: يا عبدالرحمن لا تسأل الامارة، فانك أعطيتها من غير مسأله أعنت عليها، و ان أعطيتها من مسأله و كلت اليها».
هذا و قد دلت سنة رسول الله صلي الله عليه و سلم علي أن الولاية أمانة يجب أداؤها في مواضعها، مثل قوله لأبي‌ذر رضي الله عنه في الأمارة «انها أمانة و انها يوم القيامة خزي و ندامة، الا من أخذها بحقها، و أدي الذي عليه فيها» (رواه مسلم)، و روي البخاري في صحيحه بسنده عن أبي‌هريرة عن النبي صلي الله عليه و سلم قال: «اذا ضيعت الأمانة انتظر الساعة، قيل يا رسول الله: و ما اضاعتها؟ قال: اذا و سد الأمر الي غير أهله، فانتظر الساعة» و قال صلي الله عليه و سلم «ما من راع يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت و هو عاش لها، الا حرم الله عليه رائحة الجنة» (أنظر: ابن‌تيمية: السياسة الشرعية ص 15 - 10).
و علي أية حال، فلقد أراد معاوية أن يؤسس ملكا لآل أبي‌سفيان يرثونه واحدا بعد الآخر، فمعاوية لا يكتفي باغتصاب الخلافة، ثم لا يرغب، و هو علي و شك لقاء ربه، أن يترك أمر المسلمين للمسلمين، و انما يعمل علي

[ صفحه 104]

تحويل الخلافة الي ملك عضوض، و الي مزرعة أموية، فيأخذ البيعة لولده يزيد، يأخذها بالذهب و السيف، ولكن الله أراد أن يموت يزيد في شبابه، بعد أعوام أربعة من حكمه، و ربما أقل، ثم يتحول ملك معاوية سريعا الي مروان و بنيه، و لم يكن ذلك ليسر معاوية، و خاصة أن مروان عارضه بشدة في بيعة يزيد، و قال له: «فأقم الأمر يا ابن أبي‌سفيان، و اهدأ من تأميرك الصبيان، و اعلم أن لك في قومك نظرا، و أن لهم علي منأوتك وزراء».
و هكذا تمت بيعة يزيد خليفة لأبيه معاوية، أو قل وليا لعهد أبيه الملك، علي حد وصف معاوية لنفسه، أو وصف سعد بن أبي‌وقاص له، و هكذا بدأ نظام توريث الملك في الدولة الاسلامية، و غير معاوية نظام الخلافة الراشدة الي النظام الملكي، و من ثم فقد أصبحت خلافة الأمويين أشبه بنظام الأكاسرة و القياصرة، منه بخلافة المسلمين، و بالتالي فقد حرم الأمويون، و العباسيون و من جاء بعدهم، المسلمين من حقهم الطبيعي في الشوري، التي ألفها العرب، و جاء بها القرآن، و أيدتها الأحاديث النبوية، و غلا القوم حتي أصبحوا يولون عهدهم اثنين، بل ثلاثة.
و قد تم ذلك سنة ست و خمسين للهجرة، أي قبل ينتصف القرن علي انتقال سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم الي الرفق الأعلي، و رحم الله الحسن البصري، فقد كان يقول، فيما يروي الطبري، «أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه علي هذه الأمة بالسفهاء حتي ابتزها أمرها بغير مشورة منهم، و فيهم بقايا الصحابة و ذو الفضيلة، و استخلافه ابنه بعده، سكيرا خميرا، يلبس الحرير و يضرب بالطنابير، و ادعاؤه زيادا، و قد قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: الولد للفراش، و للعاهر الحجر، و قتله حجر، ويل له من حجر و أصحاب حجر، ويل له من حجر و أصحاب حجر».
و رغم أننا نقول، مع الدكتور طه حسين، لا نشارك الحسن في أن هذه الخصال كلها أو بعضها قد أوبقته، فأمر ذلك الي الله وحده، و هو القائل عزوجل (ان الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر من دون ذلك لمن يشاء) ولكننا في الوقت

[ صفحه 105]

نفسه نتساءل: هل كان معاوية في كل هذا مجتهدا؟ الا أن يكون هذا الاجتهاد في بناء دولة بني‌أمية، و في القضاء علي نظام الخلافة الراشدة، و بداية الملك العضوض، الذي ما رفضه معاوية أبدا، رغم محاولة ابن‌خلدون أن يحسبه بقية الراشدين، ولكن معاوية نفسه يقول: أنا أول الملوك، و يدخل عليه سعد بن أبي‌وقاص فيحييه قائلا «السلام عليك أيها الملك»، و روي الطبري عن عبدالله بن المبارك بسنده عن عبدالله بن مسعده أن معاوية مرت عليه يوما القطرات و الحائل و الجواري و الخيول، فقال: رحم الله أبابكر لم يرد الدنيا و لم ترده، و أما عمر، أو قال ابن‌حنتمة، فأرادته الدنيا و لم يردها، و أما عثمان فأصاب من الدنيا و أصابت الدنيا منه، و أما نحن فتمرغنا فيها، ثم كأنه ندم فقال: و الله انه لملك آتانا الله اياه»، و هكذا كانت خلافة المسلمين في نظره ملكا آتاه الله اياه، بل ان الطبري انما يقدم لنا الكثير من الروايات التي تبين مدي سعادة معاوية بملكه، حتي أنه ترك لضعاف النفوس من الناس يلقبونه، نفاقا أو رعبا، بألقاب النبوة و غيرها، دون أي حساب أو عقاب، أو حتي توجيه (أنظر تاريخ الطبري 5: 334، 332، 330 و غيرها).

سب الامام علي

كان من شروط صلح الامام الحسن مع معاوية أن يترك معاوية سب أميرالمؤمنين الامام علي، كرم الله في الجنة، و ألا يذكره الا بخير، فقد كان معاوية، فيما يروي ابن‌الأثير، «اذا قنت سب عليا و ابن‌عباس و حسن و حسين و الأشتر»، و كان الناس يحبون لمعاوية و عصبته من بني‌أمية حين ملكوا و أن يعفوا، ولكن الذي بدا منهم غير عفيف، و غير كريم، لا يتفق مع الاسلام كدين و لا مع العروبة كحسب و نسب، فلقد أخذ معاوية بعد ابرام الصلح مباشرة في سب الامام علي، و بالغ في انتقاصه، و لم يمنعه عنه انتقال الامام الي جوار ربه، و كان الباعث الي ذلك أن معاوية علم أنه لا يستقيم له أمر، الا بانتقاص الامام و النيل منه، و بهذه الطريقة يريد أن يشيد ملكه، و يقرر في أنفس الناس أن بني‌هاشم لا حظ لهم من هذا الأمر، و أن سيدهم الذي به يصولون، و بفخره

[ صفحه 106]

يفخرون (غير النبي بطبيعة الحال) هذا حاله، و هذا مقداره، فيكون من ينتمي اليه و يدل به عن الأمر أبعد، و عن الوصول اليه أشحط و أنزح، هذا فضلا عن احساس عميق من بني‌أمية، بأن القلوب ما تزال تمسك كثيرا من الميل الي الامام علي و آل بيته الطاهرين المطهرين، و من أجل ذلك راحوا يحاربون الناس حربين، حربا باللسان، و حربا بالسيف، يخيفونهم بالأولي فيحملونهم علي الطاعة قسرا، و يزعزعون عقيدتهم بالثانية فيشوشون عليهم أفكارهم و يبلبلون عليهم خواطرهم.
بل انهم ليدفعونهم علي الخروج علي سنة رسول الله صلي الله عليه و سلم، و التنكر لما أوصي به صلي الله عليه و سلم من حق أهل البيت الطاهرين المطهرين، و قد قال رسول الله صلي الله عليه و سلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحة بسنده عن يزيد بن أرقم، قال: قام رسول الله صلي الله عليه و سلم يوما فينا خطيبا بماء يدعي خما بين مكة و المدينة، فحمد الله و أثني عليه، و وعظ و ذكر، ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس فانما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، و أنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله فيه الهدي و النور، فخذوا بكتاب الله و استمسكوا به، فحث علي كتاب الله و رغب فيه، ثم قال: و أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي».
هذا و يذهب الأستاذ العلايلي فيه كتابه «الامام الحسين» الي أن معاوية انما كان يرمي من سبه للامام علي و آل البيت القضاء علي الاثنين، يرمي بهذه الخطة الاستفزازية الي القضاء علي بقايا أنصار الامام علي من الرجالات الموهوبين، ذلك لأن سب الامام انما سيثير أنصاره، و هم فلول، و يؤكد هذا عنفه في أخذ «حجر بن عدي» و سواه من الكثيرين، لما أظهروا الاستياء من السب العلني، و النيل الخالي من الذوق الديني و الأدبي، و في نفس الوقت كانت الخطة تهدف الي الهاشميين، و بالأخص الامام الحسن و الامام الحسين و عبدالله بن جعفر، و بذلك يقضي معاوية علي النزاع التاريخي بين بني‌هاشم و بني‌أمية.

[ صفحه 107]

هذا و قد بدأت هذه العادة الخسيسة، منذ اللحظة الأولي لتنازل الامام الحسن لمعاوية، و طبقا لرواية أبوالفرج في «مقاتل الطالبيين»، فلقد خطب معاوية لما بويع فذكر عليا فنال منه، و نال من الحسن، فقام الحسن ليرد عليه فأخذ الحسن بيده، ثم قال فقال: «أيها الذاكر عليا، أنا الحسن، و أبي‌علي، و أنت معاوية، و أبوك صخر، و أمي فاطمة، و أمك هند، وجدي رسول الله صلي الله عليه و سلم وجدك حرب، وجدتي خديجة، وجدتك قتيلة، فلعن الله أخملنا ذكرا، و ألأمنا حسبا، و شرنا قدما، و أقدمنا كفرا و نفاقا، فقال طوائف من أهل المسجد: آمين، قال فضل، فقال يحيي بن معين: نحن نقول آمين، قال أبوعبيد: و نحن أيضا نقول: آمين، قال أبوالفرج، و أنا أقول آمين».
و بدهي لئن كانت حرمة الصحابة واجبة، فالذي لا شك فيه أن حرمة آل بيت رسول الله صلي الله عليه و سلم أوجب، و بخاصة أن الحق كان علي الدوام في جانبهم، كما كانوا هم علي الدوام في جانب الحق، لا شبهة في ذلك، فاذا كانت قريش قد حاجت العرب و أهل الأمصار بالنبوة، فآل النبي صلي الله عليه و سلم هم بيت النبوة، و لا شك أن بدعة سب الامام علي و آل بيته، انما هي بدعة خسيسة دنيئة، لا تخرج عن أصل كريم، أو حتي عدو شريف، و قد أقام معاوية و خلفؤه من بعده من بني‌أمية منابر يتناوب عليها الخطباء في سب الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، و في افتراء الأباطيل للنيل منه و الزراية عليه، و قد روي أن معاوية عزل سعيد بن العاص عن ولاية المدينة لأنه امتنع عن سب الامام علي علي منبر رسول الله صلي الله عليه و سلم، كما روي ذلك أن معاوية كان يقول في آخر خطبته «اللهم ان أباتراب (و أبوتراب أطلقه النبي علي الامام علي) ألحد في دينك وصد عن سبيلك فالعنه لعنا وبيلا، و عذبه عذابا أليما»، و كتب بذلك من عماله معاوية الذين فعلوا ذلك المغيرة بن شعبة، يترضي معاوية بالطعن في الامام علي، ثم لا يقف عند هذا، بل يلعنه علي المنابر، ثم يجاوز ذلك الي أن يغري الناس بلعنه، حتي يحتفظ بولاية الكوفة، و روي الطبري أن معاوية لما أولي المغيرة الكوفة عام 41 ه دعاه فقال له: أردت ايصاءك بأشياء كثيرة فأنا تاركها اعتمادا

[ صفحه 108]

علي بصرك... و لست تاركا ايصاءك بخصلة، لا تتم (لا تتورع) عن شتم علي و ذمه، و الترحم علي عثمان و الاستغفار له، و العيب علي أصحاب علي، و الاقصاء لهم، و ترك الاستماع منهم... و أقام المغيرة (واليا علي الكوفة) سبع سنين و أشهرا، و لا يدع شتم علي و لا الوقوع فيه»، و روي الجاحظ في بعض رسائله قال، قال المغيرة بن شعبة، و هو عامل معاوية يؤمئذ، لصعصعة بن صوحان، قم فالعن عليا، فقام فقال: «ان أميركم هذا أمرني أن ألعن عليا، فالعنوه، لعنه الله، و هو يضمر المغيرة»، و روي الطبري أن المغيرة قال لصعصعة بن صوحان العبدي: «اياك أن يبلغني عنك أنك تذكر شيئا من فضل علي علانية، فانك لست ذاكرا من فضل علي شيئا أجهله، بل أنا أعلم بذلك، ولكن هذا السلطان قد ظهر، و قد أخذنا باظهار عيبه، أي عيب الامام علي، للناس، فنحن نذكر شيئا مما أمرنا به، و نذكر الشي‌ء الذي لا نجد منه بدا، ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقية»، و روي ابن‌الأثير أن المغيرة لما ولي الكوفة استعمل «كثير بن شهاب» علي الري، و كان كثير يكثر سب علي علي منبر الري، و بقي عليها الي أن ولي زياد الكوفة فأقره عليها»، و هناك بسر بن أرطأه الذي ولاه معاوية البصرة، روي الطبري أنه خطب علي منبر البصرة فشتم عليا، عليه‌السلام، ثم قال: «نشدت الله رجلا علم أني صادق الا صدقني أو كاذب الا كذبني، فقال أبوبكرة: اللهم انا نعلمك الا كاذبا، قال فأمر به فخنق، فقام أبولؤلؤة الضبي فرمي بنفسه عليه فمنعه، فقيل لأبي‌بكرة ما أردت لما صنعت، قال: أيناشدنا بالله ثم لا نصدقه».
و روي الحافظ السيوطي أنه كان في أيام بني‌أمية أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها ابن أبي‌طالب، و ذلك بما سنه لهم معاوية، و في الواقع لقد كان مجهود معاوية في هذه السبل ما طفحت به السير و التواريخ و هو أول من سن الجهر بسب صحابة رسول الله صلي الله عليه و سلم و أول من فتح هذا الباب علي مصراعيه، و هكذا طل بنوأمية طيلة عهد دولتهم، التي استمرت قرابة تسعين عاما، يسبون الامام علي و أهل البيت علي منابر المسلمين، - الا أيام عمر بن عبدالعزيز -،

[ صفحه 109]

فما نالوا من ذلك منالا،و لا حولوا أحدا عن حب الامام و آل البيت الكرام علي تعاقب الزمن و اختلاف العصور، يقول أبوجعفر الاسكافي في كتابه «نقض رسائل العثمانية للجاحظ»، فكان الأمويون لا يألون جهدا في طول ملكهم أن يخمدوا ذكر علي، عليه‌السلام، و ولده، و يطفئوا نورهم، و يكتموا فضائلهم و مناقبهم و سوابقهم،و يحملوا الناس علي سبهم و لعنهم علي المنابر، فلم يزل السيف يقطر من دمائهم، مع قلة عددهم، و كثرة عدوهم، فكانوا بين قتيل و أسير، و شريد و هارب، و مستخف و خائف مترقب، حتي أن الفقيه و المحدث و القاص و المتكلم، ليتقدم اليه و يتوعد بغاية الابعاد و أشد العقوبة، ألا يذكر شيئا من خصائصهم،و لا يرخصوا لأحد أن يطيف بهم، و حتي بلغ من تقية المحدث اذ ذكر حديثا شريفا، رواه علي، عليه‌السلام، عن رسول الله صلي الله عليه و سلم، كني عن ذكر الامام علي، فقال، قال رجل من قريش، و فعل رجل من قريش، و لا يذكر الامام عليا و لا يتفوه باسمه، ثم ان بعض المختلفين قد حاولوا نقض فضائلة و وجهوا الحيل و التأويلات نحوها، و من خارجي مارق، و ناصبي حنق، و ناشي‌ء معاند، و منافق مكذب، يعترض فيها و يطعن، و معتزلي قد نظر في الكلام، و أبصر علم الاختلاف و عرف الشبه و مواطن الطعن و ضروب التأويل، قد التمس الحيل في ابطال مناقبه، عليه‌السلام، و تأويل مشهور فضائله، فمرة يتأولها بما لا يحتمل، و مرة يقصد أن يضع من قدره بقياس منتقص، و لا يزداد مع ذلك، الا رفعة و علوا، و وضوحا و استنارة»، و قد روي صاحب العقد الفريد أن بعض العلماء قال لولده: يا بني ان الدنيا لم تبن شيئا الا هدمه الدين، و ان الدين لم يبن شيئا فهدمته الدنيا، ألا تري أن قوما لعنوا عليا ليخفضوا منه، فكأنما أخذوا بناصيته جرا الي السماء».
هذا و قد أثار سب الامام علي، كرم الله وجه في الجنة، سخط الأخيار من المسلمين، و أهل التقوي و الورع منهم، فضلا عن كرام الحسب، و أصحاب الأخلاق الكريمة، هذا فضلا عن أن سب المسلم من أفحش المحرمات، فقد أثر عن رسول الله صلي الله عليه و سلم أنه قال «سباب المسلم فسوق»،

[ صفحه 110]

و قال «لا يكون المؤمن لعانا»، و روي عن الصحابي الجليل زيد بن أرقم أنه رأي المغيرة بن شعبة يسب أميرالمؤمنين علي رضي الله عنه فانبري له منكرا سبه للامام قائلا: «يا مغيرة ألم تعلم أن رسول الله نهي عن سب الأموات، فلم تسب عليا، و قد مات»، هذا و قد كان سعد بن أبي‌وقاص رضي الله عنه من أوائل صحابة رسول الله صلي الله عليه و سلم الذين غضبوا لسب الامام علي، فلقد أخرج مسلم في صحيحه، و الامام النسائي في فضائل الامام علي، و الترمذي في الجامع عن عامر بن سعد بن أبي‌وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي‌سفيان سعدا، فقال ما منعك أن تسب أباتراب، فقال: أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلي الله عليه و سلم فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهن أحب الي من حمر النعم، سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول له، خلفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول الله، خلفتني مع النساء و الصبيان، فقال له رسول الله صلي الله عليه و سلم: أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي، الا أنه لا نبوة بعدي، و سمعته يقول يوم خيبر، لأعطين الراية رجلا يحب الله و رسوله، و يحبه الله و رسوله، قال فتطاولنا لها، فقال أدعو لي عليا، فأتي به أرمد، فبصق في عينيه و دفع الراية له، ففتح الله عليه، و لما نزلت هذه الآية (فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم...) (آل عمران 61) دعا رسول الله صلي الله عليه و سلم عليا و فاطمة و حسنا و حسينا، فقال: اللهم هؤلاء أهلي».
و لعل هذا الحديث الشريف، (و غيره مما سيأتي) يقطع كل حجة لمن يعتذرون لمعاوية، بأنه ربما لم يكن علي معرفة بمكانة الامام علي في الاسلام - و قد أسلم يوم فتح مكة - أما الآن، و قد ذكره سعد بن أبي‌وقاص (أحد العشرة المبشرين بالجنة و أحد و الستة الذين ذكروا في الشوري)، فهل كف معاوية بعد ذلك، عن سب الامام علي، رضي الله عنه و كرم الله وجهه في الجنة، و الجواب يعرفه جيدا أولئك المتعصبون لبني‌أمية (و انظر الآيات و الأحاديث التي وردت في فضل الامام علي، في كتابنا عن الامام علي).
و روي المسعودي و الطبري أنه لما حج معاوية طاف البيت و معه سعد بن أبي‌وقاص، فلما فرغ معاوية انصرف الي دار الندوة، فأجلسه معه علي سريره،

[ صفحه 111]

و وقع معاوية في علي و شرع في سبه، فزحف سعد ثم قال: «أجلستني معك علي سريرك ثم شرعت في سب علي، و الله لأن تكون في خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحب الي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، و الله لأن أكون صهر رسول الله صلي الله عليه و سلم و أن لي من الولد ما لعلي أحب الي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، و الله لأن يكون رسول الله صلي الله عليه و سلم قال لي ما قاله يوم خيبر، و الله لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله، و يحبه الله و رسوله، ليس بفرار يفتح الله علي يديه، أحب الي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، و الله لأن يكون رسول الله صلي الله عليه و سلم قال لي في غزوة تبوك: ألا ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي، الا أنه لا نبي بعدي، أحب الي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، و ايم الله لا دخلت لك دارا ما بقيت، ثم نهض»، و روي أن سعدا لما قال ذلك لمعاوية و نهض ليقوم ضرط له و قال له: أقعد حتي تسمع جواب ما قلت: ما كنت عندي ألأم منك الآن، فهلا نصرته، و لم قعدت عنه، فاني لو سمعت من النبي صلي الله عليه و سلم ما سمعت فيه لكنت خادما لعلي ما عشت، فقال سعد: و الله اني لأحق بموضعك منك، فقال معاوية: يأبي ذلك بنوعذرة، و كان سعد، فيما يقال لرجل من بني‌عذرة.
علي أن ابن عبدربه انما يروي أن معاوية لما حج دخل المدينة و أراد أن يعلن عليا علي منبر رسول الله صلي الله عليه و سلم فقيل له ان ها هنا سعد بن أبي‌وقاص، و لا نراه يرضي بهذا، فابعث اليه و خذ رأيه، فأرسل اليه و ذكر لك ذلك، فقال: ان فعلت لأخرجن من المسجد، لا أعود اليه، فأمسك عن لعن علي حتي مات سعد، فلما مات لعنه علي المنبر، و كتب الي عماله يلعنونه علي المنابر ففعلوا، فكتبت أم المؤمنين أم‌سلمة الي معاوية: «انكم تلعنون الله و رسوله علي منابركم، و ذلك أنكم تلعنون عليا بن أبي‌طالب و من أحبه، و أنا أشهد أن الله أحبه و رسوله، فلم يلتفت معاوية الي كلامها».
و أخرج الامام أحمد و الحاكم الهيثمي و الطبري و أبويعلي عن عبدالله الجدلي قال: دخلت علي أم‌سلمة، فقالت لي: أيسب رسول الله صلي الله عليه و سلم فيكم،

[ صفحه 112]

فقلت معاذ الله (أو سبحان الله أو كلمة نحوها)، قالت سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: «من سب عليا فقد سبني.»
و في رواية للحاكم في المستدرك: قالت (أي أم المؤمنين أم‌سلمة): سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: من سب عليا فقد سبني و من سبني فقد سب الله. (و ذكره المتقي في كنز العمال و قال: أخرجه ابن أبي‌شيبة)، و روي المحب الطبري في الذخائر عن عمرو بن شاش الأسلمي أنه قال قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: من أحب عليا فقد أحبني، و من أبغض عليا فقد أبغضني، و من آذي عليا فقد آذاني، و من آذاني الله عزوجل. (قال: اخرجه أبوعمر النمري).
و روي أن ابن‌عباس مر بقوم ينالون من الامام علي و يسبونه فقال ابن‌عباس لقائده (و كان قد فقد بصره): أدنني منهم، فلما أدناه منهم، قال لهم: أيكم الساب لله، فقالوا نعوذ بالله أن نسب الله، فقال لهم أيكم الساب لرسول الله صلي الله عليه و سلم فقالوا نعوذ بالله أن نسب الله صلي الله عليه و سلم، فقال لهم أيكم الساب لعلي بن أبي‌طالب، قالوا: أما هذه فنعم، فقال لهم: أشهد أني سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: «من سبني فقد سب الله، و من سب عليا فقد سبني»، فأطرق القوم و لم يتكلموا فوجلوا»، و هكذا كان نتيجة للضغط السياسي، و اغراء الناس بمال، و تخويفهم بالوعد و الوعيد، و تأويلهم الأحداث طبقا لهوي معاوية و بقية قومه الأمويين، أصبح الناس يرون رضي معاوية و طاعته، انما تظهر في سب الامام علي كرم الله وجهه في الجنة، و بمرور الأيام رأوا طاعة معاوية في جعل لعن الامام علي و سبه (و العياذ بالله) سنة ينشأ عليها الصغير، و يهلك عليها الكبير، روي ابن‌حجر الصواعق المحرقة، أن رجلا من أهل الشام كان يلعن عليا كل يوم ألف مرة، و في يوم الجمعة الآف المرات، و أولاده معه، فرأي النبي صلي الله عليه و سلم في المنام، فبصق في وجهه، فأصبح وجهه وجه خنزير.
هذا و قد بلغ بنوأمية في الاصرار علي لعن الامام علي (و العياذ بالله) أن غيروا سنن الدين في الصلاة، و ابتدعوا فيه ما ليس فيه، حتي روي أن معاوية (و قيل مروان بن الحكيم) قدم خطبة العيد علي الصلاة، و كان النبي صلي الله عليه و سلم

[ صفحه 113]

يؤخرها، و ذلك لأن معاوية - أو مروان، و هذا ما نميل اليه - انما كان يصر علي لعن الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، علي المنبر في خطبته، فكان الناس ينصرفون بمجرد أن يفرغ من الصلاة، كي لا يسمعوا هجوه و لعنه لأشرف بيت في تاريخ الدنيا، فقدم الخطبة علي الصلاة ليحبس الناس و يضطرهم لسماع التشهير و اللعن للامام علي و آل بيته الطاهرين المطهرين، بل لقد بلغ كره الأمويين للامام علي و آل البيت الي درجة الاعتداء علي حرمة مولانا و سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم، روي السمهودي في «وفا الوفا بأخبار دار المصطفي» عن هارون بن عبدالملك بن الماجسون، و أن خالد بن الوليد بن الحارس بن الحكيم بن العاص الأموي، قام علي منبر رسول الله صلي الله عليه و سلم يوم جمعة، فقال: لقد استعمل رسول الله صلي الله عليه و سلم علي بن أبي‌طالب و هو يعلم أنه خائن، ولكن شفعت له ابنته فاطمة، و كان داود بن قيس في الروضة، فقال: آس أي يسكته قال فمزق الناس قميصا كان عليه شقائق حتي و تروه، و أجلسوه، حذرا عليه، ثم قال هارون بن عبدالملك، رأيت كفا خرجت من قبر رسول الله صلي الله عليه و سلم و هو يقول: «كذبت يا عدو الله، كذبت يا كافر، مرارا».
و روي عن عبدالله بن ظالم أنه قال: «لما بويع لمعاوية أقام المغيرة بن شعبة خطباء يلعنون عليا، فقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل (أحد العشرة المبشرين بالجنة): ألا ترون الي هذا الظالم أمر بلعن رجل من أهل الجنة»، و عن أبي‌بكر بن عبدالله الأصبهاني قال: كان لبني‌أمية دعي يقال له، خالد بن عبدالله القسري، لا يزال يشتم عليا، فلما كان يوم الجمعة، و هو يخطب الناس قال: و الله أن كان رسول الله ليستعمله، و انه ليعلم ما هو، ولكنه كان ختنه (صهره) و قد نعس سعيد بن المسيب ففتح عينيه و قال و يحكم، ما قال هذا الخبيث، رأيت القبر انصدع، و رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: كذبت يا عدو الله».
و هكذا، وفي عهد معاوية و ولده يزيد، و في ولاية الحجاج علي العراق، كان سبيل من يتهم بحب أهل بيت النبي صلي الله عليه و سلم القتل أو الضرب أو السجن أو التشريد، و رغم ذلك فقد ازداد الناس ايمانا و تمسكا بحبهم و ولائهم، و قد قتل

[ صفحه 114]

معاوية خلقا كثيرا ممن أبي أن يعلن الامام عليا أو يتبرأ منه أو عارض مبدأ اللعن و البراءة من أساس، و كان الامام علي كرم الله وجهه في الجنة، علي علم بما سيلحق بشيعته بعد وفاته، فقال لهم: ستدعون الي سبي فسبوني، ثم تدعون الي البراءة مني، فلا تتبرأوا مني، فاني لعلي دين محمد صلي الله عليه و سلم، أخرج الحافظ عبدالرزاق في المصنف عن حجر المدري قال، قال لي علي بن أبي‌طالب: كيف بك اذا أمرت أن تلعنني، قلت و كائن ذلك، قال نعم، فكيف أصنع، قال: العني و لا تتبرأ مني، و قال فأمرني محمد بن يوسف، أخو الحجاج، و كان أميرا علي اليمن، أن ألعن عليا، فقلت: «ان الأمير أمرني أن ألعن عليا، فالعنوه، لعنه الله، فما فطن لها الا رجل»، و مع ذلك فلقد فضل جماعة من أنصار أهل البيت القتل علي السب و اللعن و البراءة، بل فضلوا القتل علي أن يسمعوا من يمس مقام الامام علي بمكروه، و منهم الصحابي الجليل عمرو بن الحمق، فقتله معاوية، و أرسل برأسه الي امرأته، فوضعت الرأس في حجرها، و قالت لرسول معاوية: سترتموه عني طويلا، و أهديتموه لي قتيلا، فأهلا و سهلا من هدية، غير قالية و لا بمقلية، و منهم حجر بن عدي و أصحابه.
و روي ابن عبدربه، أن رجلا من أهل الشام دخل علي معاوية، فقام خطيبا، فكان آخر كلامه أن لعن الامام عليا، كرم الله وجهه في الجنة، فأطرق الناس، و تكلم الأحنف بن قيس، فقال يا أميرالمؤمنين ان هذا القائل لو يعلم أن رضاك في لعن المرسلين لعنهم، فاتق الله ودع عنك عليا، فقد لقي ربه، و أفرد في قبره، و خلا بعمله، و كان الله ما علمنا، المبرر بسبقه (الي الاسلام) الطاهر خلقه، الميمون نقيبته، العظيم مصيبته، فقال له معاوية: يا أحنف، لقد أغضيت العين علي القذي و قلت ما تري، و ايم الله لتصعدن المنبر فتلعنه، طوعا أو كرها، فقال له الأحنف يا أميرالمؤمنين ان تعفني فهو خير لك، و ان تجبرني علي ذلك، فوالله لا تجري فيه شفتاي أبدا، قال قم فاصعد المنبر، قال الأحنف: أما والله مع ذلك لأنصفنك في القول و الفعل، قال و ما أنت قائل يا أحنف ان أنصفتني، قال أصعد المنبر فأحمد الله بما هو أهله، و أصلي علي

[ صفحه 115]

نبيه صلي الله عليه و سلم ثم أقول: أيها الناس: ان أميرالمؤمنين معاوية أمرني أن ألعن عليا، و ان عليا و معاوية اختلفا فاقتتلا، و ادعي كل واحد منهما أنه بغي عليه و علي فئته، فان دعوت فأمنوا رحمكم الله، ثم أقول: اللهم ألعن أن و ملائكتك و أنبياؤك و جميع خلقك، الباغي منهما علي صاحبه، و العن الفئة الباغية اللهم العنهم لعنا كبيرا، أمنوا رحمكم الله، يا معاوية لا أزيد علي هذا و لا أنقص منه حرفا، و لو كان فيه ذهاب نفسي، فقال معاوية: اذا نعفيك يا أبابحر» و كان كثير بن السهمي الشاعر من أشد المنكرين لسب الامام علي، و في ذلك الوقت يقول:

لعن الله من يسب عليا
و حسينا من سوقة و امام

أيسب المطهرون جدودا
و الكرام الأخوال و الأعمام

يأمن الطير و الحمام و لا
يأمن آل الرسول عند المقام

طبت بيتا و طاب أهلك
أهل بيت النبي و الاسلام

رحمة الله و السلام عليهم
كلما قام قائم بسلام

و استمرت هذه المهزلة الأموية سبة في جبين صاحبها و قومه، و ليس في حق الامام علي، فهو أفضل عند الله من معاوية و قومه الأمويين جميعا، لو كانوا يعرفون للناس أقدارهم، و من عجب فقد خاض جميع خطباء المساجد في الدولة، دونما حياء أو خجل، و نفاقا و تزلفا لمعاوية و خلفائه، في سب ابن عم رسول الله صلي الله عليه و سلم و آل بيته، و جاوز خطباء بني‌أمية حد النهية و المروءة في الجهد بذلك، و نطق بها عبدالعزيز بن مروان علي منبر المسجد الجامع بفسطاط مصر، ولكنه كان فطنا فقلق و رجف، و تعثر و تلعثم كلما هم بها، و لو وجد من يكفه لكف، روي ابنه الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه فقال: كان أبي اذا خطب فنال من علي رضي الله عنه، تلجلج، فقلت يا أبت انك تمضي في خطبتك فاذا أتيت علي ذكر علي عرفت منك تقصيرا، قال أو فطنت الي ذلك، قلت نعم، قال يا بني ان الذين حولنا لو يعلمون من علي ما نعلم تفرقوا عنا الي أولاده»، غير أن عمر سرعان ما نسي ذلك عندما عاد الي المدينة لطلب العلم، فخاض في البدعة مع قومه، حتي نبهه الي ذلك معلمه عبيد

[ صفحه 116]

الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، فترك ذلك السفه الأموي اللئيم، و ما أن أصبح خليفة المسلمين (101 - 99) حتي قضي علي هذه الخسيسة الأموية، فلقد كان عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، رغم أنه أموي، علي غير سنة قومه، فلم يقترف بدعتهم هذه التي سنها لهم أول ملوكهم، و من ثم فقد ترك خسيسة لعن الامام علي منابر المسلمين، و جعل مكانها الآية 10 من سورة الحشر (ربنا اغفرلنا و لاخواننا الذين سبقونا بالايمان و لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا انك غفور رحيم)، و قيل بل الآية 90 من سورة النحل (ان الله يأمر بالعدل و الاحسان و اتياء ذي القربي و ينهي عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذكرون)، قيل بل جعلهما جميعا، فاستعمل الناس ذلك في الخطبة الي هذا اليوم، و بدهي أن هذه شهادة أموية ضد معاوية و باطله، فضلا عن شهادة أخري من حفيد معاوية نفسه و أعني به معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية، كما أنها في الوقت نفسه مكرمة للخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز لا تنسي، و من ثم فقد مدحه كثير من الشعراء علي ذلك، و منهم كثير عزة الذي يقول.

و ليت فلم تشتم عليا و لم تخف
بريا و لم تتبع مقاله مجرم

تكلمت بالحق المبين انما
تبيين آيات الهدي بالتكلم

و صدقت معروف الذي قلت بالذي
فعلت فأضحي راضيا كل مسلم

فلما أتم «كثيرة عزة» انشاده، قال عمر أفلحنا اذن و قال السيد الشريف الرضي:

يا ابن عبدالعزيز لو بكت الع
ين فتي من أمية بكيتك

غير أني أقول أنك قد طب
ت و ان لم يطب و يزك بيتك

أنت نزهتنا عن السب و القذ
ف فلو أمكن الجزاء جزيتك

و هناك مكرمة أخري للخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز، فلقد أمر برد فدك الي ورثة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم بجميع حدودها و حقوقها المنسوبة اليها و ما فيها من الرقيق و الغلات، كما أشرنا الي ذلك في كتابنا عن

[ صفحه 117]

«فاطمة الزهراء»، ثم مكرمة ثالثة، فلقد أرجع لموالي الامام علي و مريديه حقوقهم المشروعة، ذلك أن قومه الأمويين لم يكتفوا بسب الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، علي منابر المسلمين، و انما حرموا كذلك مجرد ذكر اسمه، كما أشرنا من قبل، يروي المؤرخون أن «رزيق» مولي الامام علي قد حفظ القرآن و الفرائض، ولكنه لم يرزق شيئا من بيت المال، فوفد علي عمر بن عبدالعزيز، شاكيا فلما سأله من أي الناس أنت، قال رجل من موالي بني‌هاشم، فقال عمر: مولي من، فسكت رزيق، فقال عمر: أتكتمني من أنت، قال رزيق بصوت خافت كأنه نجوي، مولي علي بن أبي‌طالب (قد خاف أن يجهر) فقال عمر رافعا صوته: و أنا مولي علي، أتكاتمني ولاء علي، حدثني سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي‌وقاص عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال: «من كنت مولاه، فعلي مولاه»، و روي عمر مورق أنه كان بالشام، و عمر يعطي الناس، فتقدم اليه، فلما سأله: من أنت، تردد، ثم قال من بني‌هاشم، قال من أيهم، قال مولي علي بن أبي‌طالب، فوضع يده علي صدره و قال: أنا مولي علي بن أبي‌طالب، حدثني عدة أنهم سمعوا النبي صلي الله عليه و سلم يقول «من كنت مولاه، فعلي مولاه» ثم قال يا مزاحم: كم تعطي أمثاله، قال مائة درهم أو مائتين، فقال: اعطه خمسين دينارا لولايته لعلي بن أبي‌طالب عليه‌السلام، ثم قال له عمر: «الحق ببلدك فسيأتيك مثل نظرائك».
و هكذا جهد الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز أن يزيل كل ما لحق بالامام علي و أهل بيته و مواليه من جرائم قومه، غير أن الأمور سرعان ما تعود الي ما كانت عليه قبل عهد الخليفة الزاهد، فعاد الأمويون مرة أخري الي سب الامام علي، و هكذا استمر بنوأمية منذ عهد معاوية، أول ملوكهم، و حتي نهاية دولتهم، ما عدا عهد عمر بن عبدالعزيز، يسيرون علي هذه البدعة الدنيئة في سب آل بيت النبي صلي الله عليه و سلم، و علي رأسهم الامام علي بقية النبوة، و الذي جعل الرسول صلي الله عليه و سلم حبه علامة صحة ايمان المؤمن، فلقد أخرج الترمذي بسنده عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال لعلي: «لا يحبك الا مؤمن و لا يبغضك الا منافق» و أخرج

[ صفحه 118]

الترمذي بسنده عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه كان يقول «لا يحب عليا منافق، و لا يبغضه مؤمن»، و أخرج الامام أحمد بسنده عن علي أنه قال «و الله انه مما عهد الي رسول الله صلي الله عليه و سلم أنه لا يبغضني الا منافق، و لا يحبني الا مؤمن».
و روي الامام مسلم في صحيحه بسنده عن عدي بن ثابت عن زر قال قال علي: و الذي فلق الحبة وبرأ النسمة، انه لعهد النبي الأمي صلي الله عليه و سلم الي، أن لا يحبني الا مؤمن، و لا يبغضني الا منافق، (و رواه أيضا الترمذي و النسائي و ابن‌ماجة و الامام أحمد و الخطيب و أبونعيم و المتقي الهندي)، و أخرج الطبراني بسنده عن أم‌سلمة قالت قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: من أحب عليا فقد أحبني، و من أحبني فقد أحب الله، و من أبغض عليا فقد أبغضني، و من أبغضني فقد أبغض الله، و أخرج الحاكم في المستدرك بسنده عن أبي‌ذر قال: ما كنا نعرف المنافقين الا بتكذيبهم الله و رسوله، و التخلف عن الصلوات، و البغض لعلي بن أبي‌طالب، و أخرج الامام أحمد في المناقب و الهيثمي في مجمع الزوائد و الطبراني في الأوسط و المحب الطبري في الذخائر و ابن عبدالبر الاستيعاب عن جابر بن عبدالله قال: ما كنا نعرف منافقينا معشر الأنصار، الا ببعضهم عليا.
و روي أنس عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال «عنوان صحيفة المؤمن حب علي بن أبي‌طالب»، و حق للامام علي أن يكون كذلك، فقد كان من رسول الله صلي الله عليه و سلم بمنزلة الأخ الذي يحمل معه عب‌ء الرسالة، و يشد أزره فيها، و هو كما قال له رسول الله صلي الله عليه و سلم: أنت مني بمنزلة هارون من موسي، الا أنه لا نبي بعدي»، و من ثم فحب الامام علي من حب مولانا و سيدنا و جدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم، و حب سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم من تمام الايمان، أما من كان في قلبه دخل، و في صدره ضيق و حرج من دين الله، فانه يلبس الاسلام تقية، و يأخذه مظهرا، ثم لا يجد ما ينفس به شنآنه للاسلام و استخفافه به، و هو مع ذلك محسوب علي المسلمين، الا بغض من يحبه رسول الله صلي الله عليه و سلم و انتقاص من يكرمه النبي صلي الله عليه و سلم و يدنيه منه، ففي هذا النفاق عاش و يعيش أولئك الذين يحاربون الله و رسوله، و يؤذون أولياء الله و رسوله أما من خلص قلبه من النفاق، فانه لا يجد في قلبه الا الحب الوثيق، و الولاء

[ صفحه 119]

المكين، لآل رسول الله صلي الله عليه و سلم و صحابته الذين صحبهم، و في مقدمة هؤلاء هؤلاء جميعا، ربيبه و ابن عمه و زوج ابنته الزهراء، و أبوسبطيه الحسن و الحسين، الامام علي رضي الله عنه و كرم الله وجهه في الجنة، أكرمنا بحب الله و رسوله، و حب الامام علي، و حب آل بيت النبي و صحابته الكرام البررة.

خراج دار ابجرد

كان من شروط صلح الامام الحسن التي اشترطها علي معاوية أن يعطيه خراج دار أبجرد يفرقه علي الفقراء و المعوزين من شيعته، و علي أبناء من قتلوا مع أبيه يوم الجمل و صفين، ولكن معاوية لم يف بذلك، يقول ابن‌الأثير: و أما خراج دار أبجرد، فان أهل البصرة منعوه منه و قالوا: هو فيئنا لا نعطيه لأحد، و كان منعهم بأمر معاوية أيضا، و هكذا سرعان ما طرد أهل البصرة عمال الحسن من الكورتين و أبوا أن يدفعوا اليه شيئا من خراجهما، و ان كان معاوية قد بر الحسن نفسه بالمال، فلم يجد في حياته عسرا و لا ضيقا، و ربما كان السبب في منع خراج دار أبجرد أن معاوية أراد أن يكون المال بيده، يبر به الامام الحسن ان شاء، و يمنعه ان أراد، كما أن الحسن أراد خراج دار أبجرد لينفق، كما أشرنا آنفا، علي الفقراء و المعوزين من شيعة آل البيت، هذا ما لا يريده معاوية أبا، بل هو لا يريد أن يكون لآل البيت شيعة أصلا، فضلا عن الانفاق علي الفقراء من هذه الشيعة.

الامان العام لشيعة علي و آل البيت

كان من شروط الصلح الأمان العام و عدم التعرض بسؤ لأنصار الامام علي علي الخصوص، و أنصار آل البيت بوجه عام، غير أن معاوية جعل من أهدافه القضاء علي هذه الطبقة المؤمنة بحق أهل البيت، و قد لاقي أنصار آل البيت من الأذي و الاضطهاد ما تنؤ بحملة الجبال، و كان أشدهم بلاء و أعظمهم محنة أهل الكوفة، فقد استعمل معاوية عليهم زيادا، بعد هلال المغيرة، و كان بهم عالما، لأنه و يا للعجب كان منهم قبل استلحاقه بأبي‌سفيان، فأشاع فيهم القتل

[ صفحه 120]

و شردهم، و قيل أن معاوية كتب الي جميع عماله «أنظروا الي ما قامت عليه البينة أنه يحب عليا و أهل بيته فامحوه من الديوان و اسقطوا عطاءه و رزقه»، و روي ابن أبي‌الحديد أن معاوية كتب الي عماله «برئت الذمة ممن يروي شيئا في فضائل علي و أهله بيته، و أن لا يجيزوا للشيعة شهادة، و أن يمحو كل شيعي من ديوان العطاء و ينكلوا به و يهدموا داره»، و امتثل العمال لأمر سيدهم، فقتلوا الشيعة و شردوهم و قطعوا الأيدي و سملوا الأعين و صلبوهم في جذوع النخل، و زاد الضغط بعد معاوية أضعافا، خاصة في عهد عبيدالله بن زياد، قاتل الامام الحسين، و الحجاج الثقفي هادم الكهبة، فقتلوا الشيعة كل قتلة، و أخذوا بكل ظنة و تهمة حتي أن الرجل ليقال له زنديق أو حتي كافر، أحب اليه من أن يقال له شيعي، و في ذلك يقول الامام الباقر رضي الله عنه: و قتلت شيعتنا بكل بلدة و قطعت الأيدي و الأرجل علي الظنة، و كان من يذكر بحبنا أو الانقطاع الينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره»، و هكذا أصبحت مودة أهل بيت النبي صلي الله عليه و سلم كفرا و الحادا، و مروقا عن الدين، و في هذا يقول الشاعر الكميت.

يشيرون بالأيدي الي قولهم
ألا خاب هذا و المشيرون أخيب

فطائفه قد كفرتني بحبكم
و طائفه قالوا مسي‌ء و مذنب

يعيبونني من خبهم و ضلالهم
علي حبكم بل يسخرون و أعجب

و قالوا ترابي هواه و رأيه
بذلك أدعي فيهم و ألقب

و يقول عبدالله بن كثير السهمي:

اني امرؤ أمست معايبه
حب النبي لغير ذي ذنب

و بني أبي حسن و والدهم
من طاب في الأرحام و الصلب

أيعد ذنبنا أن أحبهم
بل حبهم كفارة الذنب

و هكذا ما استقرت الأمور لمعاوية، و خلا الميدان الا منه، حتي أخذ ينتقم شر انتقام من أنصار الامام علي و آل بيت الطاهرين، ففريق منهم روع في ظلمات السجون، و بقي فيها يلاقي الأمرين حتي انتقل الي الرفيق الأعلي، كما

[ صفحه 121]

حدث مع محمد بن أبي‌حذيفة، و منهم من شرد في الأرض حتي مات منفيا عن وطنه و أهله كصعصعة بن صوحان، و منهم من قتل صبرا في الاسلام، من أمثال عمرو بن الحمق و حجر بن عدي و أصحابه، هذا و تصور محنة حجر و أصحابه محنة امتحن بها زياد الاسلام و المسلمين، و شاركه معاوية في هذا الامتحان، فتركت في نفوس المعاصرين لهما أقبح الأثر و أشنعه، و كانت صدمة عنيفة لمن بقي من خيار الناس في تلك الأيام، روي ابن‌حجر في الاصابة عن الحاكم أن ابن‌سعد و مصعب الزبيري، ذكرا أنه وفد علي النبي صلي الله عليه و سلم و أخوه هاني‌ء بن حجر، فهو اذن صحابي، و أن رأي آخرون أنه من التابعين، هذا و تكاد تجمع المصادر علي أنه شارك في حرب الشام و أحسن فيها البلاء، و كان في مقدمة الجيش الذي دخل «مرج عذراء» قريبا من دمشق، فكان هو الذي افتتحها ثم قتل فيها، كما يقول ابن‌حجر، و روي أن حجر لما عرف أنه بهذه القرية، حين أمر معاوية بقتله، قال «و الله اني لأول مسلم نبحته كلابها، و أول مسلم كبر بواديها» ثم تحول الي العراق مجاهدا في سبيل الله، فشارك في غزو بلاد الفرس، و أبلي أحسن البلاء في نهاوند، و رابط في الكوفة مع المرابطين بعد الفتح.
و كان حجر بن عدي رجلا حرا، صادق الدين، يأمر بالمعروف و ينهي عن المنكر، و يرضي عن السلطان ان أحسن، و يسخط عليه ان أساء، و كان بعد صلح الحسن معارضا لسلطان معاوية و عامله المغيرة بن شعبة، ولكنه لم يخلع يدا عن طاعة، و انما كان، كما كان عامة أهل الكوفة، يذعن للسلطان حتي يستريح بر أو يموت فاجر، و كان ينكر أشد الانكار سنة بني‌أمية في شتم الامام علي و أصحابه علي المنبر، و لم يكن يخفي انكاره، و انما كان يبادي به المغيرة بن شعبة، و كما أشرنا من قبل، أن معاوية كان قد أوصي المغيرة، و حين ولاه الكوفة، أن لا يترك شتم الامام علي و ذمه، و أن المغيرة أقام سبع سنين و أشهرا في الكوفة لا يدع شتم الامام علي و الوقوع فيه، و كان حجر اذا سمع المغيرة يشتم الامام علي لا يسكت، و انما كان هو و أنصاره، و هم جمهور أهل الكوفة، يردون عليه «بل اياكم قد ذمم الله و لعن»، و استمر الأمر كذلك المغيرة

[ صفحه 122]

شتم الامام علي و أنصاره، و حجر يرد عليه ولي زياد الكوفة بعد المغيرة، و كان لحجر صديقا، فقربه و نصح له بايثار العافية، و حذره من بأسه، ان جعل علي نفسه سبيلا، ولكن الأمر ما لبث أن فسد بين حجر و زياد، و ظهر هذا الفساد حين قتل عربي مسلم رجلا من أهل الذمة، فكره زياد أن يقيد من العربي المسلم لذمي، و قضي بالدية، و أبي أهل الذمي الدية و قالوا: كنا نخبر أن الاسلام يسوي بين الناس، و لا يفضل عربيا علي غير عربي، و غضب حجر لقضاء زياد و أبي أن يسكت علي امضائه، و قام الناس معه في ذلك حتي أشفق زياد من الفتنة ان أمضي قضاءه، فأمر بالقصاص علي كره منه، و كتب في حجر و أصحابه الي معاوية يشكو صنيعهم، فكتب اليه معاوية أن ينتظر به و بأصحابه أول حجة تقوم عليه.
ثم سرعان ما ازدادت الأمور سوءا بين حجر و زياد بسبب شتم الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، ثم أظهر زياد، كما يقول ابن عبدالبر في الاستيعاب، من الغلظة و سوء السيرة، ما أظهر خلعه حجر، و لم يخلع معاوية و تابعه جماعة من أصحاب علي و شيعته و حصبه يوما في تأخير الصلاة هو و أصحابه، فكتب فيه زياد الي معاوية فأمره أن يبعث به اليه، مع وائل بن حجر الحضرمي، في اثني عشر رجلا كلهم في الحديد»، غير أن زيادا انما طلب من أهل الكوفة كذلك أن يشهدوا علي حجر و أصحابه، و طبقا لروايه الطبري، فلقد شهد رؤوس الأرباع (عمرو بن حريث و خالد بن عرفطة و قيس بن الوليد بن عبدشمس و أبوبردة بن أبي‌موسي) علي أن حجرا جمع اليه الجموع و أظهر شتم الخليفة و دعا الي حرب أميرالمؤمنين، و زعم أن هذا الأمر لا يصلح الا في آل أبي‌طالب، و وثب بالمصر، و أخرج عامل أميرالمؤمنين، و أظهر عذر أبي‌تراب (يعني الامام علي) و الترحم عليه و البراءة من عدوه، و أهل حربه، و أن هؤلاء النفر الذين معه هم رؤوس أصحابه، و علي مثل رأيه و أمره»، و رغم ما في هذه الشهادة الكذوب من أباطيل و افتراءات علي حجر و أصحابه، فقد رأي زياد أن هذه الشهادة غير قاطعة، كما أحب أن يكون أكثر من أربعة، فكتب له ابن أبي

[ صفحه 123]

موسي الأشعري شهادة أخري، جاء فيها «هذا ما شهد عليه أبوبردة بن أبي‌موسي لله رب العالمين، شهد أن حجرا خلع الطاعة، و فارق الجماعة و لعن الخليفة، و دعا الي الحرب و الفتنة، و جمع اليه الجموع يدعوهم الي نكث البيعة و خلع أميرالمؤمنين معاوية، و كفر بالله عزوجل كفرة صلعاء» و هنا رضي زياد و طلب الي الناس أن يمضوا هذه الشهادة، فأمضاها خلق كثير، حتي بلغ الشهود سبعين رجلا، و كان منهم جماعة من أبناء المهاجرين، بينهم ثلاثة من بني طلحة، و عمر بن سعد بن أبي‌وقاص و المنذر بن الزبير، و لم يتحرج زياد من أن يكتب أسماء نفر لم يشهدوا و لم يحضروا هذه الشهادة، فمن هؤلاء من برأ نفسه أمام الناس، و منهم من كتب الي معاوية يبري‌ء نفسه من هذه الشهادة الكذوب، و منهم شريح القاضي، الذي كتب الي معاوية يشهد أن حجرا رجل صالح من المسلمين، يقيم الصلاة و يؤتي الزكاة و يصوم و يحج و يعتمر، و أن دمه حرام، فلما قرأ معاوية كتاب شريح لم يزد علي أن قال: «أما هذا فأخرج نفسه من الشهادة».
و حمل حجر و أصحابه الي معاوية، فأمر ألا يدخلوا دمشق و أن يحبسوا بمرج عذراء، و هي القرية التي كان حجر أول مسلم دخلها فكبر في بواديها، ثم أمر معاوية بقراءة كتاب زياد و شهادة الشهود، ثم استشار في الأمر من حضره من أشراف قريش و وجوه أهل الشام، فمنهم من أشار عليه بحبسهم، و منهم من أشار بتفريقهم في قري الشام، ولكن سرعان ما جاءه كتاب من زياد يقول: «ان كانت لك حاجة بالعراق فلا تردهم الي»، و هنا أمر معاوية نفر من أهل الشام أن يعرضوا عليهم البراءة من الامام علي و اللعن له، فان فعلوا و الا قتلوا، و رفض حجر و سبعة معه، و هنا يروي الطبري أن يزيد بن حجية أقبل حتي مر بهم بعذراء، فقال يا هؤلاء، أما و الله ما أري براءتكم، و لقد جئت بكتاب فيه الذبح، فمروني بما أحببتم مما ترون أنه نافع لكم أعمل به لكم و أنطق به، فقال حجر: أبلغ معاوية أنا علي بيعتنا، لا نستقيلها و لا نقيلها، و أنه انما شهد علينا الأعداء و الأظناء، فقدم يزيد بالكتاب الي معاوية فقراه، و بلغه يزيد مقالة حجر، فقال

[ صفحه 124]

معاوية: «زياد أصدق عندنا من حجر»، هذا كما أقبل كذلك عامر بن الأسود العجلي، و هو بعذراء، يريد معاوية، ليعلمه علم من بعث بهم زياد، فلما ولي ليمضي قام اليه حجر بن عدي يرسف في القيود، فقال يا عامر: «اسمع مني، أبلغ معاوية أن دماءنا عليه حرام، و أخبره أنا قد أو منا و صالحناه، فليتق الله و لينظر في أمرنا»، علي أن رواية أخري تذهب الي أن حجرا و أصحابه ذهبوا الي معاوية في دمشق، و أن حجرا، فيما يروي ابن‌حجر في الاصابة، و ابن عبدالبر في الاستيعاب، قال لمعاوية: السلام عليك يا أميرالمؤمنين، فقال معاوية: أو أميرالمؤمنين أنا، قال حجر: نعم فأمر بقتله، فقال حجر: «لا تطلقوا عني حديدا و لا تغسلوا عني دما فاني لاق معاوية بالجادة و اني مخاصم، و روي الروياني و الطبراني و الحاكم من طريق أبي‌اسحاق، قال رأيت حجر بن عدي، و هو يقول: «ألا اني علي بيعتي لا أقيلها و لا أستقيلها».
و قام جماعة من أهل الشام فشفعوا عند معاوية في بعض أصحاب حجر، و قبل معاوية شفاعتهم، حتي لم يبق منهم الا ثمانية عرضت عليهم البراءة من الامام علي فأبوا، ثم قبل رجل أن يعلن البراءة من الامام، فأظهرها بلسانه، ثم شفع فيه شافع من أهل الشام، فحبسه معاوية شهرا ثم ألزمة الاقامة في الشام، و حرم عليه العراق، فأقام في الموصل حتي مات، ثم عرضت البراءة علي رجل آخر فأبي و أسمع معاوية في نفسه ما يكره، فرده معاوية الي زياد و أمره أن يقتله شر قتلة، فأمر به زياد فدفن حيا، و أما حجر، و بقية أصحابه الستة، فقد أصر معاوية علي قتلهم بدمشق أو بعذراء، رغم من تشفعوا في حجر عند معاوية من خاصته و من كانوا معه في حربه ضد الامام، و روي ابن‌حجر في الاصابة عن ابراهيم بن الجنيد في كتاب الأولياء أن حجر بن عدي أصابته جنابة، فقال للموكل به أعطني شرابي أتطهر به، و لا تعطني غدا شيئا، فقال: «أخاف أن تموت عطشا فيقتلني معاوية، قال، فدعا الله فانسكبت له سحابة بالماء، فأخذ منها الذي احتاج اليه، فقال له أصحابه: ادع الله أن يخلصنا، فقال اللهم خر لنا، فقتل هو و طائفة منهم»، و روي الطبري و ابن عبدالبر، أن حجرا طلب قبل

[ صفحه 125]

مقتله أن يتوضأ، فلما توضأ، قال: دعوني أصلي ركعتين، فأيمن الله ما توضأت قط الا صليت ركعتين، قالوا: لتصل، فصلي ثم انصرف فقال: و الله ما صليت صلاة قط أقصر منها، و لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لأحببت أن أستكثر منها، ثم قال: اللهم انا نستعديك علي أمتنا، فان أهل الكوفة شهدوا علينا، و أن أهل الشام يقتلوننا، أما و الله لئن قتلتموني بها (أي عذراء) اني لأول فارس من المسلمين هلل في واديها، و أول رجل من المسلمين نبحته كلابها، فمشي اليه الأعور بالسيف، فأرعدت خصائله، فقال كلا، زعمت أنك لا تجزع من الموت، فأنا أدعك، فابرأ من صاحبك (أي الامام علي) فقال حجر: «ما لي لا أجزع و أنا أري قبرا محفورا، و كفنا منشورا، و سبفا مشهورا، و اني و الله لئن جزعت من القتل، لا أقول ما يسخط الرب، فقتله، و أقبلوا يقتلونهم واحدا واحدا حتي قتلوا ستة»، و هكذا كان حجر بن عدي رضي الله عنه أول من قتل صبرا في الاسلام.
و هكذا انتهت هذه المأساة المنكرة، مأساة حجر و أصحابه، و التي استباح فيها أمير من أمراء المسلمين أن يعاقب الناس علي معارضة لا اثم فيها، و أن يكره وجوه الناس و أشرافهم علي أن يشهدوا عليهم زورا و بهتانا، و أن يكتب شهادة القاضي علي غير علم من هذا القاضي و رضي، حتي قال حجر، كما رأينا، حين قدم لتضرب عنقه «الله بيننا و بين أمتنا، شهد علينا أهل الكوفة، و قتلنا أهل الشام»، استباح أمير من المسلمين لنفسه هذا الاثم، و استحل هذا البدع، و استباح خليفة المسلمين لنفسه أن يقضي بالموت علي نفر من الذين عصم الله دماءهم، بشهادة كذوب، دون أن يراهم أو يسمع لهم أو حتي أن يأذن لهم في الدفاع عن أنفسهم، و ما أكثر ما أرسلوا اليه أنهم علي بيعتهم لا يقيلونها و لا يستقيلونها، و حين ألحوا في قلوبهم هذا، أصر علي قتلهم و قال، كما رأينا، «زياد أصدق عندنا من حجر»، و قد ذعر المسلمون في أقطار الأرض لهذه الجريمة المنكرة، و تلك المقتلة الجزاف، و آية ذلك، فيما يرويه ابن عبدالبر و الطبري و ابن‌الأثير، أن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، ما أن علمت

[ صفحه 126]

بتسيير هؤلاء الرهط من الكوفة حتي أرسلت عبدالرحمن بن الحارث بن هشام الي معاوية يراجعه في أمرهم، فوصل عبدالرحمن الي الشام فوجد القوم قد قتلوا، فقال لمعاوية: كيف ذهب عنك حلم أبي‌سفيان، فأجابه معاوية: «حين غاب عني أمثالك من حلماء قومي، حملني زياد فاحتملت»، فقال له، فيما يروي ابن عبدالبر: «و الله لا تعد لك العرب حلما بعد هذا أبدا، و لا رأيا، قتلت قوما بعث بهم اليك أساري من المسلمين»، و آية ذلك أيضا أن الخبر بقتل هؤلاء الرهط قد انتهي الي المدينة و سمعه عبدالله بن عمر فأطلق حبوته، و تولي و الناس يسمعون نحيبه، روي ابن‌حجر في الاصابة و ابن عبدالبر في الاستيعاب عن أبي‌الدنيا و الحاكم و عمر بن شيبة عن نافع قال: لما انطلق بحجر بن عدي كان ابن‌عمر يتخبر عنه فأخبر بقتله و هو بالسوق فأطلق حبوته و ولي و هو يبكي، و روي ابن‌حجر في الاصابة و السيوطي في الخصائص عن يعقوب بن سفيان في تاريخه و البيهقي و ابن‌عساكر عن أبي‌الأسود، قال: دخل معاوية علي عائشة فعاتبته في قتل حجر و أصحابه، و قالت: سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: «يقتل بعدي أناس يغضب الله لهم و أهل السماء»، و في رواية دخل معاوية علي عائشة فقالت: ما حملك علي قتل أهل عذراء، حجر بن عدي و أصحابه، قال رأيت قتلهم صلاحا للأمة، و بقاءهم فسادا للأمة، فقالت سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: «سيقتل بعذراء أناس يغضب الله لهم و أهل السماء»، فقال معاوية: «لم يكن حولي رشيد»، و أخرج البيهقي و ابن‌عساكر عن علي بن أبي‌طالب أنه قال: «يا أهل العراق سيقتل منكم سبعة نفر، مثلهم كمثل أصحاب الأخدود» فقتل حجر و أصحابه، و روي أن معاوية بن خديج انتهي اليه الخبر في افريقية، فقال لقومه الذين كانوا معه من كندة: «ألا ترون أنا نقاتل لقريش، و نقتل أنفسنا لنثبت ملكها، و أنهم يثبون علي بني عمنا فيقتلونهم».
و هكذا اهتز العالم الاسلامي هزة عنيفة لمقتل حجر و أصحابه، أورثته مبغضة أعنف لدولة بني‌أمية، و روي ابن عبدالبر عن ابن المبارك بسنده عن محمد بن سيرين أنه كان اذا سئل عن الركعتين عند القتل، قال «صلاهما خبيب

[ صفحه 127]

و حجر، و هما فاضلان»، و روي أن شبح الشهيد الوقور انما كان يساور معاوية الي يوم وفاته، فجاء في رواية لابن سيرين أن معاوية لما حضرته الوفاة جعل يقول: «يومي منك يا حجر طويل». و روي البلاذري أن معاوية كتب لزياد «أنه قد تلجلج في صدري شي‌ء من أمر حجر، فابعث الي رجلا من أهل المصر، له فضل دين و علم»، فأشخص اليه عبدالرحمن بن أبي‌ليلي، و أوصاه ألا يقبح له رأيه في حجر، و توعده بالقتل ان فعل، قال ابن أبي‌ليلي: فلما دخلت عليه رحب بي و قال: اخلع ثياب سفرك و البس ثياب حضرك، ففعلت، و أتيته، فقال: أما والله لوددت أني لم أكن قتلت حجرا، و وددت أني كنت حبسته و أصحابه و فرقتهم في كور الشام فكفتنيهم الطواعين أو مننت بهم علي عشائرهم، فقلت: وددت و الله أنك فعلت واحدة من هذه الخلال، فوصلني، فرجعت و ما شي‌ء أبغض الي من لقاء زياد، فلما قدمت الكوفة صليت في بعض المساجد، فلما انفتل الامام، اذا رجل يذكر موت زياد، فما سررت بشي‌ء سروري بموته، بل ان الرواة ليقولون ان قتل حجر كان له صدي حق في أعماق دار معاوية، فقد حدثنا البلاذري أن معاوية صلي يوما فأطال الصلاة، و امرأته تنظر اليه، فلما فرغ من صلاته قالت له امرأته: ما أحسن صلاتك يا أميرالمؤمنين لولا أنك قتلت حجرا و أصحابه.
هذا و كان ابن‌سيرين بعد مقتل حجر، اذا سئل عن الشهيد يغسل، حدثهم حديث حجر، مما يشير الي أن المسلمين كانوا يرون في حجر، المسلم الصادق الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر، قضي شهيدا في سبيل الجهر بالحق، ما خلع طاعة، و لا فارق جماعة، و انما أنكر علي ولاة معاوية لعنهم خيرة أصحاب رسول الله صلي الله عليه و سلم، و روي ابن عبدالبر في الاستيعاب أن الامام أحمد قال قلت ليحيي بن سليمان: أبلغك أن حجرا كان مستجاب الدعوة، قال نعم، و كان من أفاضل أصحاب النبي صلي الله عليه و سلم، و من ثم فقد هال قتل حجر و أصحابه كثيرا من الناس، حتي أن الربيع بن زياد الحارثي والي خراسان، قد بلغ من سخطه علي قتل حجر أن قال: «لا تزال العرب تقتل صبرا بعده، ولو نفرت عند

[ صفحه 128]

قتله لم يقتل رجل منهم صبرا، ولكنها أقرت الذل فذلت»، و أنه مل الحياة حتي أنه خرج يوم جمعة فقال: أيها الناس، اني مللت الحياة، و اني داع بدعوة فأمنوا، ثم رفع يديه بعد الصلاة فقال: «اللهم ان كان لي عندك خير فأقبضني اليك عاجلا»، و أمن الناس ثم خرج فما أن توارت ثيابه حتي سقط فحمل الي بيته فمات».
و لا ريب في أن هذا انما يمثل ضيق الناس بعسف معاوية، فما وجدوا الا أن يسألوا الله للأمة أمنا، ثم لأنفسهم خروجا من الحياة، و كان الناس يقولون: أول ذل دخل الكوفة موت الحسن بن علي، و قتل حجر، و دعوة زياد، و كان الامام الحسن البصري يقول: أربع خصال كن في معاوية، لولم تكن فيه الا واحدة، لكانت موبقة، انتزاؤه علي هذه الأمة بالسيف حتي أخذ الأمر من غير مشورة، و فيهم بقايا الصحابة و ذوو الفضيلة، و استخلافه بعده ابنه سكيرا خميرا يلبس الحرير و يضرب بالطنابير، و ادعاؤه زيادا، و قد قال: «رسول الله صلي الله عليه و سلم الولد للفراش و للعاهر الحجر» و قتله حجرا و أصحاب حجر، فيا ويلا له من حجر و أصحاب حجر».
هذا و قد فات معاوية كل عذر في مقتل حجر و أصحابه، حتي ما كان من عذر واه، كعذر ابنه في مقتل الامام الحسين رضي الله عنه فان يزيد قد أحال الذنب علي ابن‌زياد، و انعكست الآية في أمر معاوية و حجر، فكان زياد هو الذي نفض يديه من وزر هؤلاء الشهداء، و ألقاه علي معاوية، و ضاق معاوية في انتحال المعذرة بعد حين، فكان جوابه لسائليه مما يخجل الطفل بين الصغار، فضلا عن العاهل بين الساسة، و في ذمة التاريخ، قال له عبدالرحمن بن الحارث، كما رأينا، أين غاب عنك حلم أبي‌سفيان، فقال معاوية: حين غاب عني مثلك من حلماء قومي، و حملني ابن‌سمية فاحتملت، و سألته السيدة عائشة مثل هذا السؤال، فقال لم يكن حولي رشيد، و كانت السيدة عائشة، فيما يروي الطبري، تقول: «لولا أنا لم نغير شيئا الا آلت بنا الأمور الي أشد مما كنا فيه، لغيرنا قتل حجر، أما و الله ان كان ما علمت لمسلما حجاجا معتمرا»، و روي ابن

[ صفحه 129]

عبدالبر في الاستيعاب عن مسروق بن الأجدع قال: سمعت عائشة أم‌المؤمنين تقول: «أما و الله لو علم معاوية أن عند أهل الكوفة منعة ما اجترأ علي أن يأخذ حجرا و أصحابه من بينهم حتي يقتلهم بالشام، ولكن ابن آكلة الأكباد علم أنه قد ذهب الناس، أما و الله ان كانوا لجمجمة العرب عزا و منعة و فقها».
و لعل الذين ينادون باجتهاد معاوية يصمتون، فانه هو نفس لم يدع الاجتهاد، و انما ارتضي من معاذيره أن يقوده ابن‌سمية فينقاد، لأنه لم يجد حوله رجلا رشيدا.

سم الامام الحسن

كان من شروط الصلح أن لا يبغي معاوية للحسن، و لا لأخيه الحسين و لا لأهل البيت غائلة سرا و لا جهرا، و لا يخيف أحدا منهم في أفق من الآفاق، و قد أشرنا من قبل الي رواية أبي‌الفرج في «مقاتل الطالبيين» من أن معاوية لما أراد البيعة لابنه يزيد انما كان يخشي الامام الحسن، و من ثم فقد دس له من سقاه السم فمات، و علي أي حال، فان موت الامام الحسن مسموما انما هو أمر يتفق عليه أهل الحديث و التاريخ و السير، أو يكادون، و أما أن معاوية أو ولده يزيد هو الذي حرض علي سم الحسن، فذلك موضع جدل طويل.
روي ابن‌الأثير أنه في سنة (49 ه) توفي الحسن، سمته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي، و روي أبوالفداء في تاريخه توفي الحسن من سم سقته له زوجته جعدة بنت الأشعث، قيل فعلت بأمر معاوية، و قيل بأمر يزيد بن معاوية، و وعدها أن يتزوجها ان فعلت ذلك، فسقته السم و طالبت بأن يتزوجها فأبي، و قال الشيخ المفيد في الارشاد عن جرير عن المغيرة قال: أرسل معاوية الي جعدة بنت الأشعث: اني مزوجك ابني يزيد، علي أن تسمي الحسن، و بعث اليها مائة ألف درهم ففعلت و سمت الحسن عليه‌السلام، فسوغها المال و لم يزوجها من يزيد، و في رواية المسعودي: أن معاوية و في لها بمال، و أرسل اليها: أنا نحب حياة يزيد، و لولا ذلك لوفينا لك بتزويجه، و ذكر

[ صفحه 130]

أن الحسن قال عند موته: لقد حاقت شربته، و الله لا وفي لها بما وعد، و لا صدق فيما قال. و روي ابن عبدالبر في الاستيعاب بسنده عن قتادة قال: دخل الحسين و علي الحسن، رحمهما الله تعالي، فقال يا أخي اني سقيت السم ثلاث مرار لم أسق مثل هذه المرة، اني لأضع كبدي، فقال الحسين من سقاك يا أخي، قال: «ما سؤالك عن هذا أتريد أن تقاتلهم، أكلهم الي الله»، و روي ابن‌حجر في الاصابة عن عمير بن اسحاق بسنده قال: «دخلت أنا و صاحب لي علي الحسن بن علي، فقال لقد لفظت طائفة من كبدي، و اني قد سقيت السم مرارا، فلم أسق مثل هذا، فأتاه الحسين بن علي فسأله من سقاك فأبي أن يخبره رحمه الله تعالي»، و قال الامام جعفر الصادق: اشترك الأشعت في دم أسير المؤمنين علي، و سمت ابنته جعدة الحسن، و اشترك ابنه محمد في دم الحسين، و قال السيوطي في تاريخ الخلفاء توفي الحسن مسموما بالمدينة سمته زوجته جعدة بنت الأشعث، و أورد ابن‌كثير ما رواه أبوبكر بن أبي‌الدنيا بسنده عن عمير بن اسحاق قال: دخلت أنا و رجل آخر من قريش علي الحسن بن علي، فقام فدخل المخرج ثم خرج فقال: لقد لفظت طائفة من كبدي أقلبها بهذا العود، و لقد سقيت السم مرارا، و ما سقيت مرة أشد من هذه، قال و جعل يقول لذلك الرجل: سلني قبل أن لا تسألني، فقال ما أسألك شيئا، يعافيك الله، قال: فخرجنا من عنده ثم عدنا اليه في الغد، و قد أخذ في السوق، فجاء حسين حتي قعد عند رأسه، فقال أي أخي: من صاحبك، قال تريد قتله، قال نعم، قال «لئن كان صاحبي الذي أظن، لله أشد نقمة، و في رواية، فالله أشد بأسا و أشد تنكيلا، و ان لم يكنه ما أحب أن تقتل بي بريئا»، و روي الواقدي كذلك أن الامام الحسن مات مسموما، كما رواه كذلك محمد بن سعد عن أم‌موسي قالت: «ان جعدة بنت الأشعث بن قيس سقت الحسن السم، فاشتكي منه شكاة، فكان يوضع تحته طشت و يرفع آخر، نحوا من أربعين يوما»، و روي أبونعيم في حلية الأولياء ما رويناه آنفا عن عمير بن اسحاق، و أخرج ابن‌كثير عن الواقدين و ابن‌سعد عن أم‌بكر بنت المسور قالت: الحسن سقي مرارا، كل ذلك يفلت منه، حتي كانت المرة الأخيرة التي مات فيها، فانه كان يختلف

[ صفحه 131]

كبده، فلما مات أقام نساء بني‌هاشم عليه النوح شهرا، و روي الواقدي عن عائشة قالت: حد نساء بني‌هاشم علي الحسن بن علي سنة.
و روي الحاكم في المستدرك عن عمران بن عبدالله قال: «رأي الحسن بن علي، فيما يري النائم، بين عينيه مكتوبا، قل هو الله أحد، فقصها علي سعيد بن المسيب فقال: ان صدقت رؤياك فقد حضر أجلك، قال: فسم في تلك السنة، و مات رحمة الله عليه».
علي أن هناك خلافا بين الباحثين حول من قام بهذه الجريمة النكراء، فرغم أن الروايات تكاد تجمع علي أن من سم ابن رسول الله صلي الله عليه و سلم الحسن بن علي انما هو زوجه جعدة بنت الأشعث، الا أن هناك رواية ضعيفة تجعلها هند بنت سهيل بن عمرو، ذلك الذي سفر عن قريش الي النبي صلي الله عليه و سلم في صلح الحديبية، بينما ذهبت رواية ثالثة الي أنه خادم الحسن، فلقد أخرج ابن‌كثير بسنده عن عمران بن عبدالله قال: سمعت بعض من يقول: كان معاوية قد تلطف لبعض خدمه (أي الحسن) أن يسقيه سما، علي أن أكثر الآراء و ربما أرجحها تميل الي أن جعدة بنت الأشعث هي التي فعلت تلك الجريمة النكراء بسبط رسول الله صلي الله عليه و سلم، فهي من تلك الأسرة التي كثيرا ما تظهر الحب لآل البيت و تبطن غير ذلك، و قد روي عن الصادق، كما أشرنا آنفا، قوله: اشترك الأشعث في دم أميرالمؤمنين علي، و سمت ابنته جعدة الحسن، و اشترك ابنه محمد في دم الحسين، ثم هي كذلك تحب المال و تهوي السلطان، و من ثم فقد استجابت لطلب يزيد، أو معاوية في بعض الروايات، بسم الحسن، في مقابل مائة ألف درهم و زواجها من يزيد، و بعد أن أخذت المواثيق و المواعيد علي الوفاء لها بتلك الشروط، أخذت تدبر أمرها، و تضع خطتها، و كانت قد علمت أن الحسن قد تزوج من خولة بنت منظور، و أنها تعلقت به تعلقا شديدا، و من ثم فما أن جاء الحسن الي بيتها حتي بكت في حضرته بكاء مرا، و أظهرت من ضروب الحب و الشوق و الاخلاص و اللوعة، ما جعله يقبل علي الطعام و الشراب عندها، فلما أصبح الصباح أحس ألما في أمعائه أخذ يزداد حتي خيل اليه أنه يلفظ كبده،

[ صفحه 132]

و قيل انه التفت اليها و قال: «يا عدوة الله قتلتني قتلك الله، و الله لا تصيبن مني خلفا، و لقد غرك (يعني معاوية) و سخر منك يخزيك الله و يخزيه»، و لقد أخزاها الله فأصبحت مضرب الأمثال للسوء و الخيانة و الخزي و الاثم، حتي أصبحت عارا لذريتها و أبنائها من غير الامام، فقد و صموا بأبناء «مسممة الأزواج» ثم سخر منها معاوية فلم يف لها بزواج يزيد، و قال «انا نحب حياة يزيد، و لولا ذلك لوفينا لك بتزويجه»، و أخيرا فان غالبية من قالوا بأن الحسن مات مسموما، انما نسبوا سمه الي جعدة هذه، قال بذلك ابن‌الأثير و الامام جعفر الصادق، و قاله ابن عبدالبر و السيوطي و أبوالفرج الأصفهاني، و رواه ابن‌كثير عن أم‌موسي، كما قال بذلك غير هؤلاء كثير.
و أما المحرض علي سم الامام الحسن، فلا شك أنه صاحب المصلحة في اختفاء الامام الحسن من الميدان، في وقت بدأ فيه معاوية يعد العدة لبيعة ولده يزيد وليا للعهد، ناقضا بذلك أحد شروط الصلح التي تجعل الأمر من بعده للحسن، أو حتي تجعلها شوري بين المسلمين، و من ثم فقد حامت الشبهات حول معاوية و ولده يزيد، و قال ابن البر في الاستيعاب: «و كان معاوية قد أشار بالبيعة ليزيد في حياة الحسن و عرض بها، ولكنه لم يكشفها و لا غرم عليها الا بعد موت الحسن»، و كان أبوالفرج الأصفهاني، و هو من بني‌أمية، من أوائل من رأوا أن معاوية هو الذي حرض علي سم الحسن، فهو يروي بسنده عن مغيرة أنه قال: أرسل معاوية الي ابنة الأشعث اني مزوجك بيزيد ابني، علي أن تسمي الحسن بن علي، و بعث اليها بمائة ألف درهم، فقبلت و سمت الحسن، فسوغها المال و لم يزوجها منه، فخلف عليها من آل طلحة فأولدها، فكان اذا وقع بينهم و بين بطون قريش كلام عيروهم و قالوا: «يا بني مسممة الأزواج»، كما يروي أبوالفرج كذلك عن أبي‌بكر بن حفص قال: «توفي الحسن بن علي و سعد بن أبي‌وقاص في أيام، بعد ما مضي من امارة معاوية عشر سنين، و كانوا يرون أنه سقاها سما». و روي الواقدي كذلك أن معاوية قد تلطف لبعض خدمه (أي الحسن) أن يسقيه سما.

[ صفحه 133]

و يروي المسعودي أن امرأته (أي الحسن) جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي سقته السم، و كان معاوية قد دس اليها: أنك ان احتلت في قتل الحسن وجهت اليك بمائة ألف درهم، و زوجتك من يزيد، فكان ذلك الذي بعثها علي سمه، فلما مات الحسن و في لها معاوية بالمال، و أرسل اليها: اننا نحب حياة يزيد، و لولا ذلك لوفينا لك بتزويجه، و روي أن الحسن قال عند موته: «لقد حاقت شربته، و بلغ أمنيته، و الله لا وفي لها بما وعد، و لا صدق فيما قال»، و روي ابن عبدالبر في الاستيعاب، قال: «قتادة و أبوبكر بن حفص، سم الحسن بن علي، سمته امرأته بنت الأشعث بن قيس الكندي، و قالت طائفة كان ذلك منها بتدسيس معاوية اليها و ما بذل في ذلك»، و روي عن الحسن بن أبي‌العلي عن جعفر بن محمد، قال الحسن بن علي لأهل بيته اني أموت بالسم، كما مات رسول الله صلي الله عليه و سلم فقال أهل بيته، و من الذي يسمك، قال جاريتي أو امرأتي فقالوا له: أخرجها من ملكك، عليها لعنة الله، فقال هيهات من اخراجها و منيتي علي يديها و ما لي منها محيص، و لو أخرجتها ما يقتلني غيرها، و كان قضاء مقضيا و أمرا واجبا من الله، فما ذهبت الأيام حتي بعث معاوية الي امرأته قال، فقال الحسن: «هل عندك من شربة لبن، فقالت نعم و فيه ذلك السم بعث به معاوية، فلما شربه وجد مس السم في جسده، فقال، يا عدوة الله قتلتني قاتلك الله، أما و الله لا تصيبن مني خلفا، و لا تنالين من الفاسق عدو الله اللعين خيرا أبدا».
هذا و لعل الذين يذهبون الي أن معاوية هو المحرض علي الامام الحسن، انما يعتمدون علي أمور، منها ما رواه ابن عبدالبر في الاستيعاب من أنه لما مات الحسن ورد البريد بموته علي معاوية فقال: يا عجبا من الحسن شرب شربة من عسل بماء رومة فقضي نحبه، و منها ما رواه الزمخشري في «ربيع الأبرار» أنه قيل لما بلغ معاوية موت الحسن رضي الله عنه، سجد و سجد من حوله، و كبر و كبروا معه، و منها ما روي من أن ابن‌عباس كان قد وفد علي معاوية و قال فوالله اني لفي المسجد، اذا كبر معاوية في الخضراء (قصر معاوية) فكبر أهل الخضراء، ثم كبر أهل لمسجد بتكبير أهل الخضراء، فخرجت فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل من خوخة لها

[ صفحه 134]

فقالت: سرك الله يا أميرالمؤمنين، ما هذا الذي بلغك فسررت له، قال موت الحسن بن علي، قالت انا لله و انا اليه راجعون، ثم بكت و قالت: مات ابن بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم، فقال معاوية: نعما و الله ما فعلت، انه كان كذلك أهلا لأن يبكي عليه، ثم بلغ الخبر ابن‌عباس رضي الله عنه فدخل علي معاوية، فقال معاوية، علمت يا ابن‌عباس أن الحسن قد توفي، قال ابن‌عباس: ألذلك كبرت، قال نعم، قال ابن‌عباس، و الله ما موته بالذي يؤخر أجلك، و لا حفرته بسادة حفرتك، و لئن أصبنا به، فقد أصبنا بسيد الأوصياء، فجبر الله تلك المصيبة، و رفع تلك العبرة، فقال معاوية: «ويحك يا ابن‌عباس ما كلمتك الا وجدتك معدا»، و منها أن رواية المسعودي في مروج الذهب و ابن‌خلكان في وفيات الأعيان انما تشير بوضوح الي سرور معاوية بموت الحسن و اطمئنانه الي أن الأمور ستسير في البيعة لولده يزيد، كما يريد، و قد زالت العقبة الكؤود أمام هذه البيعة، روي ابن‌خلكان أنه لما كتب مروان الي معاوية بشكاته (أي الحسن) كتب اليه معاوية أن أقبل المطي الي بخبر الحسن، و لما بلغه موته سمع تكبيرا من الخضر، فكبر أهل الشام لذلك التكبير، فقالت فاختة زوجة معاوية، أقر الله عينك يا أميرالمؤمنين، ما الذي كبرت له، قال مات الحسن رضي الله عنه، قالت: أعلي موت ابن‌فاطمة تكبر، قال: و الله ما كبرت شماتة بموته، ولكن استراح قلبي، و كان ابن‌عباس بالشام، فدخل عليه، فقال يا ابن‌عباس هل تدري ما حدث في أهل بيتك، قال لا أدري ما حدث، الا أني أراك مستبشرا، و قد بلغني تكبيرك و سجودك قال مات الحسن رضي الله عنه، قال انا الله و انا اليه راجعون، يرحم الله أبامحمد (ثلاثا) ثم قال: «و الله يا معاوية لا تسد حفرته حفرتك، و لا يزيد نقص عمره في يومك، و ان كنا أصبنا بالحسن، لقد أصبنا بابن امام المتقين، و ابن خاتم النبيين، فسكن الله تلك العبرة، و جبر تلك المصيبة، و كان الله الخلف علينا من بعده.».
و منها أن الموت بالسم قد عرف علي أيام معاوية علي نحو غريب مريب، مات الأشتر، فيما يقول المؤرخون، مسموما في طريقة الي ولاية مصر، فخلصت مصر لمعاوية، و قال عمرو بن العاص «ان لله لجندا من عسل»، و مات عبد

[ صفحه 135]

الرحمن بن خالد بن الوليد مسموما بحمص، و طبقا لرواية الطبري و ابن‌الأثير، فان سبب موته أن شأنه قد عظم عند أهل الشام و مالوا اليه، لمآثر أبيه و لغنائه في بلاد الروم و شدة بأسه، فخافه معاوية و خشي منه، فأمر ابن‌آثال النصراني أن يحتال في قتل فسمه، و هكذا مات الحسن بن علي و الأشتر و عبدالرحمن بن خالد، أعداء معاوية بغير علة موصوفة في الموعد الذي يبغيه معاوية، و تترتب عليه سياسته التي كان يرجئها الي مواعيدها، فالحسن يموت قبل بيعة يزيد كي لا يخرج معاوية علي شرطه المكتوب، و الأشتر يموت علي أبواب مصر، و عبدالرحمن بن خالد يموت، و هو في أوج سمعته بين قوم أعجبوا من قبل بأبيه، و يوشك أن يتجمع حوله الناقمون من أهل الشام و الكوفة و الحجاز، و كثيرا ما يتحدث المؤرخون بأن الامام الحسن قال لبعض عائدية في مرضه الأخير: «لقد سقيت السم مرات، ولكن لم أسق قط سما أشد علي من هذا الذي سقيته هذه المرة، و لقد لفظت آنفا قطعة من كبدي»، و منها ما روي أن الحسن في لحظاته الأخيرة حضر في ذهنه غدر معاوية، فقال «لقد حاقت شربته،و الله ما وفي بما وعد، و لا صدق فيما قال»، و هكذا تكاد الروايات تتواتر بأن معاوية أغري جعدة امرأة الحسن بسمه، و وعدها أن يزوجها يزيد، و يعطيها مائة ألف درهم، فوفي بوعد المال، و لم يوف بوعد الزواج.
علي أن هناك من يدفع التهمة عن معاوية، فابن خلدون يقول: و ما ينقل أن معاوية قد دس السم الي الامام الحسن علي يد زوجته جعدة بنت الأشعث، فهو من أحاديث الشيعة، و حاشا لمعاوية ذلك، و أنكر القاضي ابن العربي كذلك سم معاوية للحسن،لأن معاوية ما كان ليتقي من الحسن بأسا، و قد سلم الأمر، ثم ان ذلك أمر مغيب لا يعلمه الا الله، و الرأي عند ابن تيمية، كما في منهاج السنة، أن ذلك لم يثبت ببينة شرعية، و لا اقرار معتبر، و لا نقل يجزم به، ثم ان الحسن مات بالمدينة و معاوية بالشام، ثم افترض عدة احتمالات منها أن الحسن كان مطلاقا لا يدوم مع امرأة، و أضاف في «المنتقي»، و (مختصر منهاج السنة) فلعلها (أي امرأة الحسن) سمته لغرض، والله أعلم بحقيقة الحال، و قد قيل «ان أباها الأشعث بن قيس أمرها بذلك، فانه كان يتهم بالانحراف في الباطن عن علي و ابنه

[ صفحه 136]

الحسن، و اذا قيل ان معاوية أمر أباها كان ظنا محضا»، و أما ابن‌كثير فيري أن سم الحسن عن طريق يزيد أو معاوية ليس بصحيح، و ان لم يذكر أسبابا لذلك.
و هكذا تتلخص حجج المعارضين في أمور، منها أن معاوية ما كان ليتقي من الحسن بأسا و قد سلم الأمر اليه، و هذا غير صحيح فان شروط الصلح، كما أشرنا عدة مرات، تقضي بأن يسلم معاوية الأمر من بعده للحسن أو أن يجعله شوري بين المسلمين، و من ثم فلم يكن معاوية يستطيع أن يعهد بولاية العهد لولده يزيد، و الامام الحسن ما زال علي قيد الحياة، و من ثم دس السم له، كما يقول أبوالفرج و غيره، و أما أنه أمر مغيب لا يعلمه الا الله، فتلك حقيقة، غير أن ظواهر الأمور انما تشير الي صاحب المصلحة في موت الامام الحسن، و منها ما ذهب اليه ابن‌تيمية من أن ذلك لم يثبت ببينه شرعية و لا اقرار معتبر... الخ، فلست أدري ماذا كان يريد الامام ابن‌تيمية، هل يريد اقرارا من معاوية أو يزيد، أو حتي من جعدة بذلك، ما أظن ذلك في الامكان، فضلا عن تعارضه مع المنطق فمن أرادوا موت الحسن أرادوا منه مصلحة لانفسهم، و لن تتحقق لهم هذه المصلحة ان اعترفوا، بل العكس هو الصحيح، و أما أن معاوية كان بالشام و الحسن مات بالمدينة، فلم يقل أحد أنه أو يزيد هو الذي سم الحسن بنفسه، و انما قيل أنهما حرضا علي ذلك، و بديهي أن المحرض ليس بالضرورة أن يكون في مكان الجريمة، بل ربما كان من الحكمة أن يكون بعيدا حتي بعيدا حتي يبعد عن نفسه الشبهات، و أما قول ابن‌تيمية أن الحسن كان مطلاقا لا يدوم مع امرأة، و أن امرأته سمته لغرض، فتلك غمزات في الامام الحسن، ما كنا نرجو أن يقع فيها ابن‌تيمية، ثم ان جعدة، أو حتي غيرها، لن تستفيد من سمه في هذه الحالة، فهو لن يخلص لها وحدها، بل لن يخلص لها أبدا، ثم أليس ذلك ظنا محضا، و هذا ما رفضه ابن‌تيمية، اعتمادا علي الحديث الشريف «اياكم و الظن فان الظن أكذب الحديث»، و أما أن أباها الأشعث هو الذي أمرها أو أن معاوية هو الذي أمر أباها، فهذا ما لم يقل به أحدا.
و علي أي حال، فلا شك أن الامام الحسن، كما تقول الروايات المتعددة،

[ صفحه 137]

مات مسموما، و هنا كما يقول الدكتور طه حسين يختلف المؤرخون و الرواة، فأما الشيعة فيرون أن معاوية قد دس اليه من سمه، ليخلو له و لابنه وجه الخلافة، و أما مؤرخو الجماعة من أهل السنة فيرون ذلك و يكثرون من روايته، ولكنهم لا يقطعون به، و من المحدثين من يرويه ولكنه يراه بعيدا، و لا لشي‌ء الا لأن معاوية قد صحب النبي صلي الله عليه و سلم فلا يليق به أن يأتي هذا الأمر البغيض.
علي أن الامام السيوطي انما يذهب في تاريخ الخلفاء الي أن الامام الحسن قد توفي مسموما بالمدينة، سمته زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس، دس اليها يزيد بن معاوية أن تسمه فيتزوجها ففعلت، فلما مات الحسن بعثت الي يزيد تسأله الوفاء، فقال: «انا لم نرضك للحسن، أفنرضاك لأنفسنا»، و روي ابن‌كثير أن بعضهم روي أن يزيد بن معاوية بعث الي جعدة بنت الأشعث أن سمي الحسن و أنا أتزوجك بعده، ففعلت، فلما مات الحسن بعثت اليه فقال: «انا و الله لم نرضك للحسن، أفنرضاك لأنفسنا»، و ذهب الأستاذ موسي محمد علي أن سبب وفاة الامام الحسن رضي الله عنه ما كان يخشاه يزيد بن معاوية، من رجوع الأمر الي الحسن، بعد وفاة معاوية، ذلك أن معاهدة الصلح التي أبرمت بين الامام الحسن و معاوية، كانت كفيلة برجوع الأمر الي الحسن بعد موت معاوية، فشروط الصلح التي تمت بين الطرفين عليها امضاء معاوية و هو الخليفة، و كان ذلك تحت يد الامام الحسن رضي الله عنه حسبما تم الاتفاق بينهما علي ذلك، و كان يزيد بن معاوية لا يتمتع بسمعة طيبة، عكس ما عليه الامام الحسن من حب الناس له، و تقديرهم اياه و قرابته لسيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم، من أجل ذلك فكر يزيد و قدر، و رتب أموره و أحكم خطته، ودس لاحدي زوجات الامام الحسن رضي الله عنه و هي جعدة بنت الأشعث و عاهدها و وعدها و مناها أنها، ان أنفذت أمره و حققت رغبته، و قتلت الامام الحسن، ليتزوجها، و بذل لها يزيد مائة ألف درهم، و استجابت لنزعاته و أحكمت خطتها، و دبرت مكرها فأطعمته رضي الله عنه السم، فمرض لمدة أربعين يوما، ثم كان ما كان من وفاته، فمات حميدا شهيدا رضي الله عنه و بعثت ليزيد بعد موت الامام الحسن رضي الله عنه تطلب منه الوفاء

[ صفحه 138]

بما وعدها، ولكن الله لا يهدي كيد الخائنين، فقال لها يزيد لم تصنعي الخير مع ابن رسول الله صلي الله عليه و سلم و من هو خير مني، فكيف تصنعينه معي، فباءت بالخيبة جزاء ما صنعت بالخيانة و جنت ثمار الغدر بما ارتكبته بالمكر و الاجرام.
هذا و يعتمد الذين يذهبون الي أن يزيد هو المحرض علي سم الحسن، و ليس أبوه معاوية، علي أمور، منها أنه لما عرف أن أباه معاوية يريد أن يقلب الخلافة الي ملك و يجعله و راثيا يتعاقبه ولد عن والده، و صادف ذلك هوي في نفس يزيد لأنه يتوق اليه و يتمناه، و اختمرت الفكرة في نفس يزيد و استبد به حب الملك عقب مقابلة المغيرة بن شعبة، و ترغيبه في أن يكون ولي عهد أبيه، و من ثم فقد قصد أباه و قال له: «يا أبتاه ما أراك صنعت لبنيك شيئا من بعدك، و ما دبرت لهم أمرا، و عهدي بك داهية العجم و العرب و رجل السياسة و التجارب»، فابتسم له أبوه و قال: يا بني لم أغفل عن أمر، ولكني مرتبط بعهد كتابي بيني و بين الحسن بن علي، علي أن تكون له الخلافة بعدي، اذا أنا قبضت قبله، فانتظر لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، و انصرف يزيد يفكر و يدبر، فهداه تفكيره الي أن يتخلص من العقبة التي تعترض ولايته للملك بعد أبيه، فأرسل يزيد من يفاوض جعدة بنت الأشعث زوج الحسن في أن تسمه، مقابل مائة ألف درهم، و أن يتزوجها يزيد بعد موت الحسن، و بمعني آخر أن يزيد انما هو صاحب المصلحة في موت الحسن، و منها أن يزيد كان يتوعد الامام الحسن و يهدده، أخرج الحافظ ابن‌كثير بسنده عن زيد بن أسلم قال: دخل رجل علي الحسن بن علي، و هو بالمدينة، وفي يده صحيفة، فقال ما هذه، فقال: ابن‌معاوية يعدنيها و يتوعد، قال: «كنت علي النصف منه، قال أجل، ولكن خشيت أن يجي‌ء يوم القيامة سبعون ألفا، أو ثمانون ألفا أو أكثر أو أقل، تنضح أوداجهم دما، كلهم يستعدي الله فيم هريق دمه».

[ صفحه 139]

في رحاب الامام الحسن

تواضعه و عفوه

عرف الامام الحسن، من بين ما عرف به من مكارم الأخلاق، بالتواضع، و هي صفة، تدل دون شك، علي كمال النفس و سموها و شرفها، و في الحديث الشريف «ان التواضع لا يزيد العبد الا رفعة، فتواضعوا يرحمكم الله»، و عملا بحديث جده صلي الله عليه و سلم كان امامنا الحسن، رغم ما كان له من مكانة في النفوس و هيبة من الأعين، و متواضعا مع الناس جميعا، كأنه واحد منهم، روي الشيخ الصبان في اسعاف الراغبين في سيرة المصطفي و آل بيته الطاهرين «أن الامام الاحسن مر ذات يوم بصبيان يأكلون كسرا من الخبز، فاستضافوه، فنزل و أكل معهم ثم حملهم الي منزله، و قدم لهم ألوانا من الطعام، و كساهم بألوان من الثياب و قال: اليد لهم (أي الفضل لهم) لأنهم لم يجدوا غير ما أطعمونا، و نحن نجد كثيرا مما أعطيناهم».
هذا و قد كان من مكارم الامام الحسن و حسن أخلاقه، و أنه كان يقابل الاساءة بالاحسان، فقد كان عنده شاة، فوجدها يوما قد كسرت رجلها، فقال لغلامه: من فعل هذا بها، قال أنا، قال و لم ذاك، قال: لأجلب لك الهم و الغم، فتبسم الامام الحسن، و قال له: لأسرك، فأعتقه و أجزل له في العطاء، و أخرج الراغب الأصبهاني في محاضراته، فقال: جني غلام للحسن رضي الله عنه فأمر الحسن بعقابه، فقال الغلام: يا مولاي ان الله قد مدح قوما مكن منهم، فقال

[ صفحه 140]

«و الكاظمين الغيظ، فقال الحسن: خلوا سبيله، قال و قد قال «والله يحب المحسنين»، قال الامام الحسن: «أنت حر لوجه الله، و لك من المال كذا»، و قد روي أن رجلا من أهل الشام، ممن غذاهم معاوية الكراهة و الحقد علي آل البيت الطاهرين، اجتاز علي الامام الحسن، فأخذ يكيل له السب و الشتم، و الامام ساكت لم يرد عليه شيئا من مقالته، و بعد فراغه التفت الامام اليه فخاطبه بناعم القول ثم قال له: «أيها الشيخ أظنك غريبا، لو سألتنا أعطيناك، و لو استرشدتنا أرشدناك، و لو استحملتنا حملناك، و ان كنت جائعا أطعمناك، و ان كنت محتاجا أغنيناك، و ان كنت طريدا آويناك»، و ما زال الامام يلاطفه ليقلع روح الشر من نفسه، حتي ذهل، و بقي حائرا خجلا لا يعرف كيف يعتذر للامام، و طفق يقول «الله أعلم حيث يجعل رسالته»، و أخرج الفقيه ابن‌خلكان في وفيات الأعيان بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: ان رجلا من أهل الشام قال: دخلت المدينة، علي ساكنها أفضل الصلاة و السلام، فرأيت رجلا راكبا علي بغلة، لم أر أحسن وجها و لا سمتا و لا ثوبا و لا دابة منه، فمال قلبي اليه، فسألت عنه فقيل: هذا الحسن بن علي بن أبي‌طالب، فامتلأ قلبي له بغضا، و حسدت عليا أن يكون له ابن مثله، فصرت اليه و قلت له: أأنت ابن علي بن أبي‌طالب، قال: أنا ابنه، قلت فعل الله بك و بأبيك كذا و كذا، أسبهما، فلما انقضي كلامي، قال لي: أحسبك غريبا، قلت أجل، قال: «مل بنا، فان احتجت الي منزل أنزلناك، أو الي مال آسيناك أو الي حاجة عاوناك، قال: فانصرفت عنه، و ما علي الأرض أحب الي منه، و ما فكرت فيما صنع و صنعت، الا شكرته و خزيت نفسي».
و روي أن الامام الحسن كان جالسا عند باب داره في الكوفة، اذا جاء أعرابي فسبه و سب أباه و أمه، فنهض الحسن بن علي قائلا: أيها الأعرابي: أجوعان أنت حتي أطعمك، أم ظمآن حتي أرويك، أم ماذا بك؟، فلم يلتفت الأعرابي اليه، بل استمر في سبابه، فأمر الحسن عبده أن يأتي بكيس من الفضة، ثم أعطاه للرجل قائلا: «عفوا أيها الأعرابي، فليس لدي غيره، ولو كان لدي المزيد لأعطيتك»، و عندما سمع الأعرابي منه ذلك القول، صاح «أشهد أنك ابن بنت النبي صلي الله عليه و سلم فقد

[ صفحه 141]

جئت اختبرك»، ثم قال: «هكذا يكون أولياء الله الحقيقيون الذين لا يهمهم أمدحهم الناس أم لاموهم، و الذين يستمعون اللوم هادئين، فيستوي عندهم مدح الخلق لهم أو قدحهم فيهم»، و هكذا كان الامام الحسن مثالا للانسانية الكريمة، و رمزا للخلق العظيم، لا يثيره الغضب، و لا يزعجه المكروه، قد وضع نصب عينيه قول الله تعالي «ادفع بالتي هي أحسن، فاذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم»، و قد قابل كل ما لاقاه من سوء أو أذي أو مكروه من الحاقدين عليه بالصبر و الصفح الجميل، حتي اعترف ألد خصومه، مروان بن الحكم، بسمو حلمه و عظيم خلقه، أخرج ابن‌حجر في تهذيب التهذيب بسنده قال قال جويرة: لما مات الحسن بن علي بكي مروان في جنازته، فقال الحسين: أتبكيه و قد كنت تجرعه ما تجرعه، فقال: «اني كنت أفعل ذلك الي أحلم من هذا، و أشار بيده الي الجبل»، و وصف اليافعي الامام الحسن في مرآة الجنان فقال: «و مناقبه بالأنساب و الاكتساب و القرابة و النجابة و المحاسن، في الظاهر و الباطن، معروفة مشهورة، وفي تعدادها غير محصورة، و كان مع نهاية الشرف و الارتفاع في غاية التلطف و الارتفاع».

كرمه و جوده

كان الامام الحسن، عليه‌السلام، كريما شجاعا، لا يعرف للمال قيمة، و لا يري له أهمية، سوي ما يرد به جوع جائع أو يكسو به عاريا أو يغيث به ملهوفا، أو يفي به دين غارم، كان ندي الكف، مبسوط اليدين بالعطاء، و متمسكا بأهداف السخاء، بعيدا عن البخل و ضروبه، فقد كان السخاء عنصرا من عناصر ذات الحسن و مقوما من مقومات مراجه، و كان الكرم غريزة موصلة فيه، لاتنفك عنه و لا تنقطع منه، و كان الجود سجية وجدت مع وجوده، لا تبرح عنه لحظة و لا تتخلي عنه آونة، و قد أقر عنه أنه ما قال لسائل: لا، قط، و أخرج أبونعيم في حلية الأولياء بسنده: «أن الحسن بن علي رضي الله عنه خرج عن ماله مرتين، و قاسم الله تعالي ماله ثلاث مرات».
و روي الشبلنجي في نور الأبصار، و ابن‌خلكان في وفيات الأعيان، أن

[ صفحه 142]

الامام الحسن سئل لأي شي‌ء نراك لا ترد سائلا، و ان كنت علي فاقة، فقال: «اني لله سائل، و فيه راغب، و أنا أستحي من أن أكون سائلا، و أرد سائلا، و ان الله تعالي عودني عادة، عودني أن يفيض نعمة علي، و عودته أن أفيض نعمه علي الناس، فأخشي ان قطعت عادتي، أن يمنعني عادته»، و أخرج ابن‌كثير عن محمد بن سيرين قال: «ربما أجاز الحسن بن علي الرجل الواحد بمائة ألف»، و قال سعيد بن عبدالعزيز: سمع الحسن رجلا الي جانبه يدعو الله أن يملكه عشرة ألاف درهم، فقام الي منزلة فبعث بها اليه، و ذكروا أن الحسن رأي غلاما أسود يأكل من رغيف لقمة، و يطعم كلبا هناك لقمة، فقال له: ما حملك علي هذا، فقال اني أستحي منه أن آكل و لا أطعمه، فقال له الحسن: لا تبرح من مكانك حتي آتيك، فذهب الي سيده فاشتراه، و اشتري الحائط (البستان) الذي هو فيه، فأعتقه و ملكه الحائط، فقال الغلام: «يا مولاي، قد وهبت الحائط للذي وهبتني اليه».
و روي الشبلنجي أن رجلا شكا الي الامام الحسن حاله، فدعا الحسن رضي الله عنه وكيله، فجعل يحاسبه علي نفقاته و مقبوضاته حتي استقصاها، و أحضر له ما فاض عن ذلك، و قدره خمسون ألف درهم، ثم قال له: «ما فعلت بالخمسمائة دينار التي معك، قال عندي، قال الحسن رضي الله عنه فأحضرها، فلما أحضرها دفع الدراهم و الدنانير الي رجل، و اعتذر منه»، و أخرج اليافعي في مرآة الجنان: أن الامام الحسن قال للرجل: ايت بجمال تحمل لك فأتي بجمال فأعطاه طيلسانه و قال: «يكون كراء الجمال من قبلي».
هذا و قد روي أنه رضي الله عنه اشتري بستانا من الأنصار بأربعمائة ألف، ثم بلغه بعد ذلك أنهم قد احتاجوا الي ما في أيدي الناس، فرده اليهم، و بذلك أنقذهم من ذل السؤال، و هذا من أفضل أنواع السخاء، هذا و روي أن جارية له قد حيته بطاقة من ريحان، فقال لها: أنت حرة لوجه الله، فلامه أنس بن مالك علي ذلك فأجابه: أدبنا الله تعالي فقال «و اذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها»، و كان أحسن منها اعتاقها، و روي كتاب «الامام الحسن» أن الامام الحسن خرج مع سيدالشهداء الامام الحسين و ابن عمهما عبدالله بن جعفر، وافدين الي بيت.

[ صفحه 143]

الله الحرام في مكة المكرمة، و في أثناء الطريق أصابهم جوع و عطش، و قد سبقتهم أثقالهم، و ليس معهم شي‌ء، فانعطفوا الي بيت في الصحراء لم يروا فيه الا عجوزا، لم يك عندها سوي شاة، فاستضافتهم و قدمت لهم الشاة قائلة: دونكم هذه الشاة فاحلبوها و اشربوا لبنها، ثم أقسمت عليهم بعد ذلك أن يذبحها أحدهم حتي تهي‌ء الحطب لشيها، و بعد الفراغ من تناول الطعام عزموا علي الرحيل ثم عرفوها بأنفسهم قائلين: «يا أمة الله انا نفر من قريش نريد حج بيت الحرام، فاذا رجعنا سالمين فهلمي الينا لنكافئك علي هذا الصنيع الجميل» و انصرفوا فأقبل زوجها، و ما أن علم بالأمر حتي أنبها قاتلا: «ويلك أتذبحين الشاة لأناس لا تعرفينهم، ثم تقولين انهم نفر من قريش»، و مضت الأيام، و أصاب البادية قحط شديد، و اضطرت المرأة و زوجها الي النزوح عن البادية الي المدينة، و لم يجدا عملا سوي التقاط البعر من الطرقات و بيعه للناس، و في يوم من الأيام لمح الامام الحسن المرأة فعرفها، و قد حل وفاء الدين، و المعروف في ذمة الأحرار دين، فأمر غلامه باحضارها ثم سألها: أتعرفينني يا أمة الله، أنا أحد ضيوفك يوم كذا سنة كذا، قالت لست أعرفك، قال: ان لم تعرفينني فأنا أعرفك، ثم أمر غلامه فاشتري لها من غنم الصدقة ألف شاة و أعطاها ألف دينار، ثم أمر غلامه أن يذهب بها الي الامام الحسين، فما أن دخلت عليه حتي عرفها، و قال للغلام: كم أعطاها أخي، فأخبره الغلام، فوصلها بمثل ذلك، ثم بعث بها الي عبدالله بن جعفر، فأمر لها بألفي شاة و ألفي دينار، فأخذت ذلك كله، و تغير حالها من فقر مدقع الي غني و ثروة، كل ذلك من بر الامام الحسن و أخيه و ابن عمه و فضلهم آل بيت النبي صلي الله عليه و سلم.
هذا و قد روي أن مروان بن الحكم قال يوما: اني لمشغوف ببغلة الحسن بن علي فمن يأتيني بها، فقال ابن أبي‌عتيق، ان دفعتها اليك تقضي لي ثلاثين حاجة، قال نعم، قال: فاذا اجتمع الناس عندك العشية فاني آخذ من مآثر قريش، و أمسك عن الحسن، فلمني علي ذلك، فلما أخذ الناس مجالسهم أفاض في أولية قريش، فقال مروان: ألا تذكر أولية أبي‌محمد (أي الحسن) و له في هذا ما ليس

[ صفحه 144]

لأحد، فقال ابن أبي‌عتيق: انما كنا في ذكر الأشراف، و لو كنا في ذكر الأنبياء، لذكرنا فضائل أبي‌محمد، و لما خرج الامام الحسن ليركب تبعه ابن أبي‌عتيق، فقال له الحسن و تبسم: «ألك حاجة، قال نعم، البغلة، فنزل الامام عنها و دفعها اليه».

جرأته و شجاعته الادبية

اشتهر الامام الحسن بالحلم، حتي عرفه قوم بحليم آل البيت، و قد أشرنا من قبل كيف وصفه عدو آل‌البيت، مروان بأنه أحلم من الجبل، غير أن هذا الحلم سرعان ما ينقلب الي حده، و شدة، دونما خروج علي الحق، أو ايغال في الخصومة، خاصة اذا ما كان الأمر يتصل بأبيه الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة أو آل بيته الطاهرين المطهرين، أو يتصل بصون كرامته و مقامه بين الناس، روي ابن أبي‌الحديد في شرح نهج‌البلاغة عن ابن‌عباس رضي الله عنه أنه قال: دخل الحسن علي معاوية بعد عام الجماعة، و هو جالس في مجلس ضيق، فجلس عند رجليه، فتحدث معاوية ما شاء الله له أن يتحدث، ثم قال: عجبا لعائشة تزعم أني في غير ما أنا أهله، و أن الذي أصبحت فيه ليس لي بحق، و ما لها و لهذا، يغفر الله لها، انما كان ينازعنا في هذا الأمر، أبو هذا الجالس، وقد استأثر الله به، فقال الحسن: أو عجب ذلك يا معاوية، قال: أي و الله، و قال الحسن: أفلا أخبرك بما هو أعجب من هذا، قال ما هو، قال الحسن: جلوسك في صدر المجلس و أنا عند رجليك، قال: فضحك معاوية و قال: يا ابن أخي بلغني أن عليك دينا، قال: ان لعلي دينا، قال كم هو، قال: مائة ألف، قال: قد أمرنا لك بثلاثمائة ألف، مائة منها لدينك، و مائة تقسمها في أهل بيتك، و مائة لخاصة نفسك، فقم مكرما و اقبض صلتك، فلما خرج الحسن، عليه‌السلام قال يزيد لأبيه معاوية: تالله ما رأيت رجلا استقبلك بما استقبلك به، ثم أمرت له بثلاثمائة ألف، قال معاوية «يا بني ان الحق حقهم، فمن أتاك منهم فاحث له».
هذا و قد روي أن معاوية قام خطيبا علي المنبر، فتهكم علي أميرالمؤمنين

[ صفحه 145]

الامام علي، و قال: من علي؟ فقام الامام الحسن و قال: ان الله لم يبعث نبيا الا جعل له عدوا من المنافقين، و قال تعالي «و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين»، و أنا ابن‌علي، و أنت ابن‌صخر، و أمك هند، و أمي فاطمة، وجدتك قتيلة، و جدتي خديجة، و جدي رسول الله صلي الله عليه و سلم و جدك عتبة بن ربيعة، فلعن الله ألأمنا حسبا، و أخملنا ذكرا، و أقدمنا كفرا و أشدنا نفاقا، فصاح أهل المسجد آمين، قال الفضل، قال يحيي بن معين: و نحن نقول آمين، قال أبوعبيد: و نحن أيضا نقول آمين، قال أبوالفرج الأصفهاني الأموي: «و أنا أقول آمين».
و لا ريب في أن جرأة الامام الحسن انما هي صفة لازمته منذ الصغر، و قد أشرنا من قبل، الي أنه دخل مسجد جده رسول الله صلي الله عليه و سلم في طفولته، لم يكن قد بلغ الثامنة من عمره، فرأي أبابكر الصديق رضي الله عنه يخطب علي المنبر، فهتف به: «ليس هذا منبر أبيك، أنزل عن منبر أبي»، فابتسم له الصديق رضي الله عنه في حنان «يا ابن رسول الله صلي الله عليه و سلم صدقت و الله، ما كان لأبي منبر، و انه لمنبر أبيك».
و روي ابن عبد ربه في العقد الفريد أنه بينما معاوية جالس في أصحابه، اذ قيل له الحسن بالباب، فقال معاوية: ان دخل أفسد علينا ما نحن فيه، فقال له مروان بن حكم: ائذن لي، فاني أسأله ما ليس عنده فيه جواب، قال معاوية: لا تفعل فانهم قوم قد ألهموا الكلام، و أذن له، فلما دخل الحسن و جلس، قال له مروان: أسرع الشيب الي شاربك يا حسن و يقال أن ذلك من الخرف، فقال الحسن: ليس كما بلغك، ولكنا معشر بني‌هاشم، أفواهنا عذبة شفاهها، فنساؤنا يقبلن علينا بأنفاسهن و قبلهن، و أنتم معشر بني‌أمية فيكم بخر شديد، فنساؤكم يصرفن أفواههن و أنفاسهن عنكم الي أصداغكم، فانما يشيب منكم موضع العذار من أجل ذلك، قال مروان: ان فيكم يا بني‌هاشم خصلة سوء، قال و ما هي، قال: الغلمة (شدة الشهوة للجماع)، قال الحسن: أجل: نزعت الغلمة من نساءئنا و وضعت في رجالنا، و نزعت الغلمة من رجالكم و وضعت في نسائكم، فما قام لأموية الا هاشمي، فغضب معاوية و قال: «كنت أخبرتكم فأبيتم حتي سمعتم ما أظلم عليكم بيتكم، وقد أفسد عليكم مجلسكم».

[ صفحه 146]

و هناك الحوار العنيف المشهور بين الامام الحسن و بطانة معاوية في مجلس معاوية، ننقله عن ابن أبي‌الحديد في شرح النهج [3] ، و عن الطاهر بن عبدالسلام في حصن السلام، و الزبير بن بكار في كتاب المفاخرات.
روي أنه اجتمع الي معاوية رهط من شيعته المناوئين للامام الحسن و آل البيت، و هم عمرو بن العاص و عمرو بن عثمان بن عفان و الوليد بن عقبة بن أبي‌معيط و عتبة بن أبي‌سفيان و المغيرة بن شعبة، و كان قد بلغهم عن الامام الحسن بعض قوارص، و بلغه عنهم مثل ذلك، فقالوا لمعاوية: ان الحسن قد أحيا أباه و ذكره، قال فصدق، و أمر فأطيع، و خفقت له النعال، و ان ذلك لرافعه الي ما هو أعظم منه، و لا يزال يبلغنا عنه ما يسي‌ء الينا، فابعث اليه فليحضر، لنسبه و نسب أباه، و نوبخه و نخبره أن أباه قتل عثمان و نقرره بذلك، فقال لهم معاوية: اني لا أري ذلك و لا أفعله، فعزموا عليه فقال: لا تفعلوا، اني أخاف أن يقلدكم قلائد يبقي عليكم عارها حتي تدخلكم قبوركم، فوالله ما رأيته قط جالسا عندي، الا خفت مقامه و عيبه لي، ثم قال: انه ألسن بني‌هاشم، قالوا ابعث اليه علي كل حال، قال: ان بعثت اليه لأنصفنه منكم، فقال عمرو بن العاص: أتخشي أن يأتي باطله علي حقنا، قال: أما أني لو بعثت اليه لآمرنه أن يتكلم بلسانه كله، و اعلموا أنهم أهل بيت لا يعيبهم العائب و لا يلصق بهم العار، ولكن اقذفوه بحجره، تقولون له: أن أباك قتل عثمان و كره خلافة الخلفاء قبله.
و جاء رسول معاوية الي الامام الحسن فقال له: يدعوك معاوية، قال و من عنده، قال: عنده فلان و فلان، و سمي كلا منهم باسمه، فقال الحسن: ما لهم، خر عليهم السقف من فوقهم و أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، يا جارية أبلغيني ثيابي، ثم قال: اللهم اني أدرأ بك في نحرهم و أعوذ بك من شرورهم، و أستعين بك عليهم، فاكفنيهم بما شئت و أني شئت من حولك و قوتك يا أرحم الراحمين، فلما دخل علي معاوية أعظمه و أكرمه و أجلسه الي جانبه، و قد ارتاد القوم

[ صفحه 147]

و خطروا خطران الفحول بغيا في أنفسهم و علوا، ثم قال معاوية: يا أبامحمد: ان هؤلاء بعثوا اليك و عصوني ليقرروك أن عثمان قتل مظلوما، و أن أباك قتله، فقال الامام الحسن: سبحان الله، الدار دارك، و الاذن فيها انيك، و ان كنت أجبتهم لما أرادوا و ما في أنفسهم، اني لأستحي لك من الفحش، و ان كانوا غلبوك علي رأيك، اني لأستحي لك من الضعف، أما اني لو علمت بمكانهم جئت بمثلهم من بني عبدالمطلب، و ما لي أن أكون مستوحشا منك و لا منهم، ان ولي الله الذي نزل الكتاب و هو يتولي الصالحين، فقال معاوية: اني كرهت أن أدعوك، ولكن هؤلاء حملوني علي ذلك، و ان لك منهم النصف و مني، و انما دعوناك لنقررك أن عثمان قتل مظلوما، و أن أباك قتله فأجبهم و لا تمنعك وحدتك و اجتماعهم أن تتكلم بكل لسانك.
فتكلم عمرو بن عفان، فقال: ما سمعت كاليوم أن بقي من بني عبدالمطلب علي وجه الأرض من أحد بعد قتل الخليفة عثمان، و كان من ابن أختهم، و الفاضل في الاسلام منزلة، و الخاص برسول الله صلي الله عليه و سلم أثرة، فسفكوا دمه اعتداء و طلبا للفتنة و حسدا و نفاسة، و طلب ما ليسوا بأهل لذلك، مع سوابقه و منزلته من الله و رسوله و من الاسلام، فيا ذلاه أن يكون حسن و سائر بني عبدالمطلب و قتلة عثمان أحياء يمشون علي مناكب الأرض، و عثمان مضرج بدمه، مع أن لنا فيكم تسعة عشر دما بقتلي بني‌أمية ببدر.
و قال عمرو بن العاص: أي يا ابن أبي‌تراب، بعثنا اليك لنقررك أن أباك شتم أبابكر الصديق، و اشترك في قتل عمر الفاروق و قتل عثمان ذي النورين مظلوما، فادعي ما ليس بحق (أي الخلافة) و ذكر الفتنة وعيره بها، ثم قال: انكم بني عبدالمطلب لم يكن الله ليعطيكم الملك و علي قتلكم الخلفاء و واستحلالكم ما حرم الله من الدماء و حرصكم علي الملك و ايتانكم ما لا يحل ثم انك يا حسن تحدث نفسك أن الخلافة صائرة اليك، و ليس عندك عقل ذلك و لا لبه، فكيف و قد سلبته و تركت أحمق قريش، و انما دعوناك لنسبك و أباك، ثم أنت لا تستطيع أن تعتب علينا، و لا أن تكذبنا في شي‌ء به، فان كنت تري أنا كذبناك في شي‌ء، و تقولنا عليك بالباطل، و ادعينا خلاف الحق فتكلم، و الا فاعلم أنك و أباك من شر

[ صفحه 148]

ما خلق الله، أما أبوك فقد كفانا الله قتله و تفرد به، و أما أنت فلو قتلناك ما كان علينا اثم من الله و لا عيب من الناس.
و قال الوليد بن عقبة: يا بني‌هاشم: كنتم أخوال عثمان فنعم الولد كان لكم فعرف حقكم، و كنتم أصهاره فنعم الصهر كان لكم، فكنتم أول من حسده، فقتله أبوك ظالما، فكيف ترون الله طلب بدمه، و الله ان بني‌أمية خير لبني‌هاشم من بني‌هاشم لبني‌أمية.
و قال عتبة بن أبي‌سفيان: يا حسن كان أبوك شر قريش لقريش، أسفكه لدمائها و أقطعه لأرحامها، طويل السيف و اللسان، يقتل الحي و يعيب الميت، و أما رجاؤك الخلافة فلست في زندها قادحا، و لا في ميزانها راجحا، و انكم يا بني‌هاشم قتلتم عثمان، و ان في الحق أن نقتلك و أخاك به، و أما أبوك فقد كفانا الله أمره.
و تكلم المغيرة بن شعبة: فشتم عليا، و قال و الله ما أعيبه في قضية يخون، و لا في حكم يميل، ولكنه قتل عثمان، ورد الامام الحسن بن علي فقال، بعد أن حمدالله و أثني عليه، و صلي علي رسوله صلي الله عليه و سلم، أنا بعد: يا معاوية، انه لعمر الله يا أزرق ما شتمني غيرك، و ما هؤلاء شتموني، و لا سبني غيرك، و ما هؤلاء سبوني، ولكنك شتمتني فحشا ألفته، و سوء رأي عرفت به، و خلقا سيئا ثبت عليه، و بغيا و عدوانا و حسدا علينا، و عداوة منك لمحمد صلي الله عليه و سلم و أهله، قديما و حديثا، و انه والله لو كنت أنا و هؤلاء يا أزرق، مثاورين في مسجد رسول الله صلي الله عليه و سلم و حولنا المهاجرون و الأنصار، ما قدروا أن يتكلموا بمثل ما تكلموا به، و لا استقبلوني بما استقبلوني به، ولكن اسمع يا معاوية و اسمعوا، فلا قولن فيك و فيهم ما هو دون ما فيكم، أنشدكم الله أيها الرهط، هل تعلمون أن الذي شتمتوه منذ اليوم (يعني الامام علي كرم الله وجهه في الجنة) صلي القبلتين كليهما، و أنت يا معاوية بهما كافر، تراها ضلالة و تعبد اللات و العزي غواية، و بايع البيعتين، بيعة الرضوان و بيعة الفتح، و أنت باحداهما كافر، و بالأخري ناكث، و أنشدكم بالله، هل تعلمون أنه أول الناس ايمانا، و انك يا معاوية و أباك من المؤلفة قلوبهم، تسرون الكفر و تظهرون

[ صفحه 149]

الاسلام و تستمالون بالأموال، و أنه كان صاحب راية النبي صلي الله عليه و سلم يوم بدر، و أن راية المشركين كانت مع معاوية، يعبد اللات و العزي، و يري حرب رسول الله و المؤمنين فرضا واجبا، ثم لقيكم يوم أحد و يوم الأحزاب و معه راية رسول الله صلي الله عليه و سلم و معك و مع أبيك راية الشرك، و في كل ذلك يفتح الله عليه، و يفلج حجته و ينصر دعوته و يصدق حديثه، و رسول الله صلي الله عليه و سلم في كل تلك المواطن عنه راض، و عليك و علي أبيك ساخط، و بات يحرس رسول الله صلي الله عليه و سلم من المشركين، و فداه بنفسه ليلة الهجرة حتي أنزل فيه (و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله)، و أنزل فيه (انما وليكم و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون).
«ثم أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله، و يحبه الله و رسوله، كرارا غير فرار، ثم لا يرجع حتي يفتح الله عليه، فتعرض لها المهاجرون و الأنصار، و علي يومئذ أرمد شديد الرمد، فدعاه رسول الله صلي الله عليه و سلم فتفل في عينيه فبري‌ء من الرمد، فأعطاه الراية، فمضي و لم يثن حتي فتح الله عليه بمنه و طوله، و أنت يومئذ بمكة عدو لله و رسوله، فهل يسوي بين رجل نصح لله و رسوله، و رجل عادي الله و رسوله، ثم أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله صلي الله عليه و سلم استخلفه علي المدينة في غزوة تبوك، و لا أسخطه ذلك و لا كرهه، و تكلم فيه المنافقون، فقال: لا تخلفني يا رسول الله، فاني لم أتخلف عنك قط، فقال رسول الله صلي الله عليه و سلم: أنت وصيي و خليفتي في أهلي، و أنت مني بمنزلة هارون من موسي، الا أنه لا نبي بعدي، ثم أخذ بيد علي ثم قال: أيها الناس من تولاني فقد تولي الله عزوجل، و من تولي عليا فقد تولاني، و من أطاعني فقد أطاع الله، و من أطاع عليا فقد أطاعني، و من أحبني فقد أحب الله، و من أحب عليا فقد أحبني، أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال في حجة الوداع: أيها الناس اني تركت فيكم ما لم تضلوا بعده، كتاب الله، فأحلوا حلاله و حرموا حرامه، و اعملوا بمحكمة و آمنوا بمتشابهه، و قولوا آمنا بما أنزل الله في الكتاب، و أحبوا أهل بيتي و عترتي، و والوا من والاهم، و انصروهم علي من عاداهم، و أنهما لم يزالا فيكم حتي يردا علي الحوض يوم القيامة، ثم دعا عليا و هو

[ صفحه 150]

علي المنبر، فاجتذبه بيده فقال: اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه، اللهم من عادي عليا فلا تجعل له في الأرض مقعدا، و لا في السماء مصعدا، أنشدكم بالله هل تعلمون، أن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال له: أنت الذائد عن حوضي يوم القيامة، تذود عنه كما يذود أحدكم الغريبة من وسط ابله، أنشدكم بالله هل تعلمون أن عليا دخل علي رسول الله صلي الله عليه و سلم في مرضه الذي توفي فيه، فبكي رسول الله صلي الله عليه و سلم فقال علي: ما يبكيك يا رسول الله، فقال يبكيني أني أعلم أن لك في قلوب الرجال من أمتي ضغائن لا يبدونها حتي أتولي عنك، أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله صلي الله عليه و سلم حين حضرته الوفاة و اجتمع أهل بيته قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي و عترتي: اللهم وال من والاهم، و انصرهم علي من عاداهم، و قال: انما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من دخل فيها نجا، و من تخلف عنها غرق، أنشدكم بالله هل تعلمون، و أن أصحاب رسول الله صلي الله عليه و سلم قد سلموا عليه (أي الامام علي) بالولاية في عهد رسول الله صلي الله عليه و سلم و في حياته، أشهدكم بالله هل تعلمون أن عليا أول من حرم الشهوات كلها علي نفسه من أصحاب رسول الله صلي الله عليه و سلم فأنزل الله عزوجل «يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم و لا تعتدوا ان الله يحب المعتدين، و كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا و اتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون»، و كان عنده علم المنايا و علم القضايا و فصل الخطاب و رسوخ العلم و منزل القرآن، و كان في رهط و لا نعلمهم يتمون عشرة أنهم مؤمنون، و أنتم في رهط قريب من عدة أولئك لعنوا علي لسان نبيه صلي الله عليه و سلم.
ثم التفت الي معاوية و قال: أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله صلي الله عليه و سلم بعث اليك لتكتب لبني خزيمة حين أصابهم خالد بن الوليد، فانصرف اليك الرسول، فقال: هو يأكل، فأعاد اليك الرسول ثلاث مرات، كل ذلك ينصرف الرسول و هو يقول: هو يأكل، فقال رسول الله صلي الله عليه و سلم: اللهم لا تشبع بطنه، فهي و الله في نهمتك و أكلك الي يوم القيامة، و أنشدكم بالله هل تعلمون انما أقول حقا أنك يا معاوية كنت تسوق بأبيك علي جمل أحمر، و يقوده أخوك هذا القاعد، و هذا يوم الأحزاب، فرآكم رسول الله صلي الله عليه و سلم، فلعن الراكب و القائد و السائق، فكان أبوك

[ صفحه 151]

الراكب، و أنت يا أزرق السائق، و أخوك هذا القاعد القائد، ثم أتنسي يا معاوية الشعر الذي كتبته لأبيك لما هم أن يسلم تنهاه عن الاسلام.

يا صخر لا تسلمن يوما فتفضحنا
بعد الذين ببدر أصبحوا مزقا

خالي و عمي و عم الأم ثالتهم
و حنظل الخير قد أهدي لنا الأرقا

لا تركن الي أمر تقلدنا
و الراقصات به في مكة الخرقا

فالموت أهون من قول العداة لقد
حاد ابن‌حرب عن العزي اذا فرقا

و أنتم أيها الرهط: أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله صلي الله عليه و سلم لعن أباسفيان في سبعة مواطن، لا تستطيعون ردها: أولها: يوم لقي رسول الله صلي الله عليه و سلم خارجا من مكة الي الطائف يدعو ثقيفا الي الدين، فوقع به و سبه و سفهه و كذبه و توعده و هم أن يبطش به، و الثانية يوم العير، اذ عرض لها رسول الله صلي الله عليه و سلم و هي جاثية من الشام، فطردها أبوسفيان و ساحل بها و لم يظفر بها المسلمون، و لعنه رسول الله صلي الله عليه و سلم و دعا عليه، فكانت وقعة بدر لأجلها، و الثالثة يوم أحد، قال رسول الله صلي الله عليه و سلم الله مولانا، و لا مولي لكم، و قال أبوسفيان: اعل هبل مرارا، لنا العزي و لا عزي لكم، فلعنه رسول الله صلي الله عليه و سلم عشر مرات و لعنه المسلمون، و الرابعة يوم الأحزاب، اذ جاء أبوسفيان يجمع قريش و هوازن، و جاء عيينة بغطفان و اليهود، فلعنه رسول الله صلي الله عليه و سلم و ابتهل، فردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا، هذا قول الله عزوجل في سورتين كلتيهما يسمي أباسفيان و أصحابه كفارا، و أنت يومئذ يا معاوية مشرك علي رأي أبيك بمكة، و علي يومئذ مع رسول الله صلي الله عليه و سلم و علي رأيه و دينه، و الخامسة يوم الحديبية، يوم جاء أبوسفيان في قريش يوم صدوا رسول الله صلي الله عليه و سلم عن المسجد الحرام، و الهدي معكوفا أن يبلغ محله، فلعن رسول الله صلي الله عليه و سلم القادة و الأتباع، فقيل يا رسول الله: أفما يرجي الاسلام لأحد منهم، قال: لا تصيب اللعنة أحدا من الأتباع يسلم، و أما القادة فلا يفلح منهم أحد، و السادسة يوم الجمل الأحمر، و السابعة يوم وقفوا لرسول الله صلي الله عليه و سلم يوم الثنية في العقبة ليستنفروا ناقته، و كانوا اثني عشر رجلا، منهم أبوسفيان، هذا لك يا معاوية.
و أما أنت يا عمرو بن عثمان، فلم تكن حقيقا لحمقك أن تتبع هذه الأمور،

[ صفحه 152]

و اني و الله ما شعرت أنك تحسن أن تعادي لي، فيشق علي ذلك، و اني لمجيبك في الذي قلت، ان سبك عليا أبنقص في حسبه أو تباعده من رسول الله صلي الله عليه و سلم أو بسوء بلاء في الاسلام، أو بجور في حكم أو رغبة في الدنيا، فان قلت واحدة منها فقد كذبت، و أما قولك ان لك فينا تسعة عشر دما بقتلي بدر من مشركي بني‌أمية، فان الله و رسوله قتلهم، و لعمري ليقتلن من بني‌هاشم تسعة عشر، و ثلاثة بعد تسعة عشر، ثم يقتل من بني‌أمية تسعة عشر، و تسعة عشر في موطن واحد، سوي ما قتل من بني‌أمية لا يحصي عددهم الا الله، فان رسول الله صلي الله عليه و سلم قال: اذا بلغ ولد الوزغ ثلاثين رجلا، أخذوا مال الله بينهم دولا، و عباده خولا، و كتابه دغلا، فاذا بلغوا ثلاثمائة و عشرا حقت عليهم اللعنة و لهم، فاذا بلغوا أربعمائة و خمسة و سبعين كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة، فأقبل الحكم بن أبي‌العاص، و هم في ذلك الذكر و الكلام، فقال رسول الله صلي الله عليه و سلم: اخفضوا أصواتكم فان الوزغ يسمع، و ذلك حين رآهم رسول الله صلي الله عليه و سلم و من يملك بعده منهم أمر هذه الأمة (يعني في الرؤيا) وساءه ذلك و شق عليه، فأنزل الله عزوجل في كتابه «ليلة القدر من ألف شهر»، فأشهد لكم و أشهد عليكم، ما سطلانكم بعد قتل علي، الا ألف شهر، التي أجلها الله في كتابه.
و أما أنت يا ابن النابغة (عمرو بن العاص) فأول أمرك ان أمك لبغية، و أنك ولدت علي فراش مشترك، فتحاكمت فيك أهل قريش، منهم أبوسفيان بن حرب و الوليد بن المغيرة و عثمان بن الحارث و النضر بن الحارث بن كلدة، و العاص بن وائل، كلهم يزعم أنك ابنه، فغلبهم عليك من بني‌قريش ألأمهم حسبا، و أخبثهم منصبا و أعظمهم بغية، ثم قام أبوك فقال أنا شاني‌ء محمد الأبتر، فأنزل الله فيه (ان شائنك هو الأبتر)، و قاتلت رسول الله صلي الله عليه و سلم في جميع المشاهد و هجوته و آذيته بمكة و كدته، و كنت من أشد الناس له تكذيبا و عداوة، ثم خرجت تريد النجاشي لتأتي بجعفر و أصحابه، فلما أخطأك ما رجوت و رجعك الله خائبا و أكذبك واشيا، جعلت جدك علي صاحبك عمارة بن الوليد، فوشيت به الي النجاشي، ففضحك الله و فضح صاحبك، فأنت عدو بني‌هاشم في الجاهلية

[ صفحه 153]

و الاسلام، و هجوت رسول الله صلي الله عليه و سلم بسبعين بيتا من الشعر، فقال اللهم اني لا أقول الشعر و لا ينبغي لي، اللهم العنه بكل حرف ألف لعنة، فعليك اذا من الله ما لا يحصي من اللعن، و أما ما ذكرت من أمر عثمان فأنت سعرت عليه الدنيا نارا، ثم لحقت بفلسطين، فلما أتاك قتله قلت: «أنا أبوعبدالله اذا نكأت قرحة أدميتها»، ثم حبست نفسك الي معاوية و بعت دينك بدنياه، فلسنا نلومك علي بغض و لا نعاتبك علي ود، و الله ما نصرت عثمان حيا و لا غضبت له مقتولا، ويحك يا ابن العاص، ألست القائل لما خرجت الي النجاشي:

تقول ابنتي أين هذا الرحيل
و ما السير مني بمستنكر

فقلت ذريتي فاني امرؤ
أريد النجاشي في جعفر

لأكويه عنده كيه
أقيم بها نخوة الأصعر

و شآني‌ء أحمد من بينهم
و أقولهم فيه بالمنكرا

و أجري الي عتبة جاهدا
و لو كان كالذهب الأحمر

و لا أنثني عن بني‌هاشم
و ما استطعت في الغيب و المحضر

فان قبل العتب مني له
و الا لويت له مشغري

و أما أنت يا وليد بن عقبة: فما أنت و ذكر قريش، انما أنت علج من أهل صفورية، يقال له ذكوان، ولو سألت أمك من أبوك، اذ تركت ذكوان و ألصقتك بعقبة بن أبي‌معيط، فاكتست بذلك عند نفسها سناء و رفعة، مع ما أعد الله لك و لأبيك و أمك من الخزي و العار في الدنيا و الآخرة، و لأنت و الله أكبر في السن ممن تدعي له في النسب، و أما قولك انا قتلنا عثمان، فوالله ما استطاع طلحة و الزبير و عائشة أن يقولوا ذلك لعلي بن أبي‌طالب، و أنا و الله ما ألومك علي بغض علي، و قد قتل أباك بين يدي رسول الله صلي الله عليه و سلم صبرا، و جلدك ثمانين في الخمر، لما صليت بالمسلمين سكران، و فيك يقول الحطيئة:

شهد الحطيئة حين يلقي ربه
ان الوليد أحق بالغدر

نادي و قد تمت صلاتهم
أأزيدكم سكرا و ما يدري


[ صفحه 154]


ليزيدهم اخري و لو قبلوا
لأتت صلاتهم علي العشر

فأبوا أباوهب و لو قبلوا
لقرنت بين الشفع و الوتر

حبسوا عنانك اذ جريت ولو
تركوا عنانك لم تزل تجري

و سماك الله في كتابه فاسقا، و سمي أميرالمؤمنين (الامام علي) مؤمنا، حيث تفاخرتما فقلت له: أسكت يا علي، فأنا أشجع منك جنانا، و أطول منك لسانا، فقال لك علي: أسكت يا وليد فأنا مؤمن و أنت فاسق، فأنزل الله تعالي في موافقته قوله تعالي (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون)، ثم أنزل فيك (ان جاءكم فاسق ينبأ فتبينوا)، و مهما نسيت فلا تنس قول الشاعر فيك و فيه:

أنزل الله و الكتاب عزيز
في العلي و في الوليد قرآنا

فتبوأ الوليد اذ ذاك فاسقا
و علي مبؤا ايمانا

ليس من كان مؤمنا - عمرك الله -
كمن كان فاسقا خوانا

سوف يدعي الوليد بعد قليل
و علي الي الحساب عيانا

فعلي يجزي بذاك جنانا
و وليد يجزي بذاك هوانا

رب جد لعقبة بن ابان
لابس في بلادنا تبانا

و أما أنت يا عتبة بن سفيان، فوالله ما أنت بحصيف فأجيبك، و لا عاقل فأحاورك و أعاتبك، و ما عندك خير يرجي، و لا شر يتقي، و ما عقلك و عقل أمتك الا سواء، و ما يضر عليا لو سببته علي رؤوس الأشهاد، و أما وعيدك اياي بالقتل، فهلا قتلت اللحياني اذ وجدته علي فراشك، فقال فيك نصر بن حجاج:

يا للرجال و حادث الأزمان
و لسبة تخزي أباسفيان

نبئت عتبة خانة في عرسه
جبس لئيم الأصل من لحيان

ألفاه معها في الفراش فلم يكن
فحلا و أمسك خشية النسوان

لا تعتبن يا عتب نفسك حبها
ان النساء حبائل الشيطان

و كيف ألومك علي بغض علي، و قد قتل خالك الوليد مبارزة يوم بدر، و شرك حمزة في قتل جدك عتبة، و أوجدك من أخيك حنظلة في مقام واحد».

[ صفحه 155]

و أما أنت يا مغيرة بن شعبة، فلم تكن بخليق أن تقع في هذا و شبهه، و انما مثلك مثل البعوضة اذ قالت للنخلة استمسكي فاني طائرة عنك، فقالت النخلة: هل علمت بك واقعة علي، فاعلم بك طائرة عني، و الله ما نشعر بعداوتك ايانا، و لا اغتممنا اذ علمنا بها، و لا يشق علينا كلامك، و ان حد الله عليك في الزنا و لقد درأ عنك عمر حقا لله، و لقد سألت رسول الله صلي الله عليه و سلم هل ينظر الرجل الي المرأة يريد أن يتزوجها، فقال صلي الله عليه و سلم لا بأس بذلك يا مغيرة، ما لم ينو الزنا، لعلمه بأنك زان.
و أما فخركم علينا بالامارة، فقد ملك فرعون مصر، و موسي و هارون نبيان يلقيان و ما يلقيان، و هو ملك يعطيه الله للبر و الفاجر، و قد قال تعالي (و ان أدري لعله فتنة لكم و متاع الي الحين) و قال (و اذ أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).
ثم قال الامام الحسن فنفض ثيابه و انصرف، فتعلق عمرو بن العاص بثوبه، و قال يا أميرالمؤمنين: قد شهدت قوله في قذف أمي بالزنا، و أنا مطالب بحد القذف، فقال معاوية: خل عنه لا جزاك الله خيرا، فتركه و انصرف الامام الحسن و تركهم يتميزون غيظا و يحسون كمدا، و قال معاوية: قد أنبأتكم أنه ممن لا تطاق عارضته و نهيتكم أن تسبوه، و الله ما قام حتي أظام علي البيت، قوموا عني فقد فضحكم الله و أخزاكم بترككم الجزم، و عدو لكم عم أي الناصح المشفق.
و عام مروان بن الحكم بما حدث، فأتي القوم و طلب منهم أن يدعو الحسن ليسبه و يسب أباه و أهل بيته، فأرسلوا الي الامام الحسن، فلما جاءه الرسول قال: ماذا يريد هذا الطاغية مني، و الله لئن أعاد الكلام لأوقرن مسامعه، ما يبقي عليه عاره و شناره الي يوم القيامة، فلما أن جاءهم وجدهم بالمجلس علي حالتهم التي تركهم عليها، غير أن مروان قد حضر، ثم مشي الحسن الي السرير فجلس مع معاوية و عمرو، و قال لمعاوية: لم أرسلت الي، فقال لست أنا، ولكن مروان هو الذي أرسل اليك، فقال مروان: أنت يا حسن السباب رجال قريش، فقال الامام: و ماذا أردت، فقال مروان لأسبنك و أباك و أهل بيتك.
فقال الامام الحسن: أما أنت يا مروان، فلست أنا سببتك و لا سببت أباك،

[ صفحه 156]

ولكن الله عزوجل لعنك و لعن أباك و أهل بيتك و ما خرج من صلب أبيك الي يوم القيامة علي لسان نبيه محمد صلي الله عليه و سلم، و الله يا مروان ما تنكر أنت و لا أحد ممن حضر هذه اللعنة من رسول الله صلي الله عليه و سلم لك و لأبيك من قبلك، و ما زادك الله بما خوفك الا طغيانا كبيرا، صدق الله و رسوله، اذ يقول تعالي (و الشجرة الملعونة في القرآن و نخوفهم فما يزيدهم الا طغيانا كبيرا)، و أنت يا مروان و ذريتك الشجرة الملعونة في القرآن، عن رسول الله صلي الله عليه و سلم، فوثب معاوية فوضع يده علي فم الحسن عليه‌السلام، و قال: يا أبامحمد ما كنت فاحشا، فنفض الحسن ثوبه و خرج، فتفرق القوم عن المجلس بغيظ و حزن، و وجوه سود.

هيبته و وقاره

كان الامام الحسن سيدا في حداثته، سيدا في شبابه، سيدا في رجولته و شيخوخته، بل كان سيدا في الدنيا، و سيكون سيدا في الآخرة، فلقد روي البخاري بسنده عن أبي‌بكرة قال: أخرج النبي صلي الله عليه و سلم ذات يوم الحسن، فصعد به علي المنبر، فقال: «ابني هذا سيد، و لعلي الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين»، و أخرج الترمذي عن أبي‌بكرة قال: صعد رسول الله صلي الله عليه و سلم المنبر فقال: «ان ابني هذا سيد، يصلح الله علي يديه فئتين عظيمتين»، و يعلق ابن عبدالبر في الاستيعاب علي هذين الحديثين الشريفين بقوله: تواترث الآثار الصحاح عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال للحسن بن علي ان ابني هذا سيد «و لا أسود ممن سماه رسول الله صلي الله عليه و سلم سيدا»، و عن سعيد المقبري قال: كنا مع أبي‌هريرة فمر الحسن فسلم، فرددنا عليه، و لم يعلم به أبوهريرة فقلنا له: هذا الحسن بن علي، فتبعه فلحقه و قال له: و عليك السلام يا سيدي، و اني سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: انه سيد، و في رواية: «انه لسيد»، و روي الطبراني في الأوسط عن فاطمة ابنة رسول الله صلي الله عليه و سلم أنها أتت بالحسن و الحسين الي رسول الله صلي الله عليه و سلم في شكواه التي توفي فيها، فقالت يا رسول الله: هذان ابناك فورثهما شيئا، فقال: «أما حسن فله هيبتي و سؤدي، و أما حسين فله جرأتي وجودي».

[ صفحه 157]

و أما عن سيادة سيدنا الامام الحسن في الأخرة، فلقد أخرج الترمذي المناقب و الامام أحمد في المسند، عن أبي‌سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلي الله عليه و سلم «الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة».
و في الواقع فلقد كانت شخصية سيدنا الامام الحسن تملأ العيون و تهيمن علي النفوس، فقد التقت به عناصر الامامة، و تمثلت فيه هيبة النبي صلي الله عليه و سلم، حتي لقد كان معاوية، و هو في سلطانه، يهابه و يخشاه، و حتي كان ابن‌عباس، علي جلاله و هيبته و صحبته، يأخذ له الركاب اذا ركب، و يري في ذلك فرصة يتبرك بها هو و أرفع الصحابة كعبا و أدناهم من جده صلي الله عليه و سلم منزلة، روي الحافظ ابن‌كثير، أن ابن‌عباس (و هو الشريف الهاشمي، و ابن عم النبي) و كان يأخذ الركاب للحسن و الحسين اذا ركبا، و يري هذا من النعم عليه، و كانا (الحسن و الحسين) اذا طافا بالبيت يكاد الناس يحطمونهما مما يزدحمون عليهما للسلام عليهما، رضي الله عنهما، و كان ابن‌الزبير يقول: «والله ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي»، فلقد كان الامام الحسن يتمتع منذ طفولته الرشيدة بفطنة حادة، و حمية مهذبة متزنة، تميزة أشياء لا تتوافر في غير ابن النبي صلي الله عليه و سلم، بل تفرض علي محمد بن اسحاق (صاحب السيرة النبوية) أن يقول: «ما تكلم أحد كان أحب الي اذا تكلم ألا يسكت من الحسن بن علي، و ما سمعت منه كلمة فحش قط».
و روي الشبلنجي في نور الأبصار، أن الامام الحسن خرج ذات يوم من داره، و عليه حلة فاخرة، و وفرة ظاهرة و محاسن سافرة، و قد ركب بغلة فارهة، و وجهه الشريف يشرق حسنا و جمالا، و هيبة و جلالا، و قد حفت به خدمه و حاشيته، فعرض له في طريقه شخص من محاويج اليهود، و عليه مسح من جلود، قد أنهكته العلة و ركبته القلة و الذلة، و قد شوته شمس الظهيرة، و هو حامل جرة ما علي قفاه، فاستوقف الحسن رضي الله عنه و قال: يابن رسول الله، سؤال، قال ما هو، قال جدك يقول «الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر»، و أنت مؤمن، و أنا كافر، فما أري الدينا الا جنة لك تنعم بها، و ما أراها الا سجنا علي، قد أهلكني ضرها و أجهدني فقرها، فأجابه الامام الحسن: «يا هذا، لو نظرت الي ما أعد الله

[ صفحه 158]

لي في الآخرة، لعلمت أني في هذه الحالة بالنسبة الي تلك، في سجن، و لو نظرت الي ما أعد الله لك في الآخرة من العذاب الأليم، لرأيت أنك الآن في جنة واسعة»، فبهت اليهودي و لم يجد جوابا.
هذا و قد بلغ من هيبة الامام الحسن أنه كان يفرش له علي باب البيت، فاذا خرج و جلس انقطع الطريق، لأنه لا يمر أحد الا جلس اجلالا و اكبارا له، فاذا علم ذلك قام و دخل البيت، و أخرج اليعقوبي في تاريخه بسنده عن رجاء بن ربيعة قال: كنت بالمدينة بمسجد رسول الله صلي الله عليه و سلم في حلقة فيها أبوسعيد و عبدالله بن عمرو، فمر الحسن بن علي فسلم فرد عليه القوم، و سكت عبدالله بن عمرو، ثم أتبعه فقال: و عليك السلام و رحمة الله، ثم قال: هذا أحب أهل الأرض الي السماء، و الله ما كلمته منذ ليال صفين، فقال أبوسعيد: ألا تنطلق اليه فتعتذر اليه، قال نعم، قال فقام فدخل أبوسعيد فاستأذن له، ثم استأذن لعبدالله بن عمرو، فدخل فقال أبوسعيد لعبدالله بن عمرو، حدثنا بالذي حدثتنا به حيث مر الحسن، فقال نعم: أنا أحدثكم به، أنه أحب أهل الأرض الي السماء، قال فقال له الحسن: اذا علمت أني أحب أهل الأرض الي السماء، فلم قاتلتنا أو أكثرت يوم صفين، قال، أما أني والله ما أكثرت سوادا و لا ضربت معهم بسيف، ولكني حضرت مع أبي أو كلمة نحوها، قال أما علمت أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، قال بلي، ولكني كنت أسرد الصوم علي عهد رسول الله صلي الله عليه و سلم، فشكاني أبي الي رسول الله صلي الله عليه و سلم فقال يا رسول الله: ان عبدالله بن عمرو يصوم النهار، و يقوم الليل، قال صلي الله عليه و سلم صم و افطر، و صل و نم، فاني أنا أصلي و أنام و أصوم و أفطر، ثم قال لي: يا عبدالله، أطع أباك، فخرج يوم صفين و خرجت معه. (أي خرج عبدالله مع أبيه عمرو بن العاص في جانب معاوية، و ضد الامام علي و آل البيت).
هذا و قد كان من عظيم هيبة سيدنا الامام الحسن و مكانته في نفوس المسلمين أنه ما اجتاز مع أخيه الامام الحسين، علي ركب في حال سفرهما الي بيت الله الحرام ماشين، الا ترجل ذلك الراكب تعظيما و اكبارا لهما، حتي ثقل المشي علي

[ صفحه 159]

جماهير الحجاج، فكلموا سعد بن أبي‌وقاص رضي الله عنه في ذلك، فبادر الي الامام الحسن و قال له: يا أبامحمد ان المشي قد ثقل علي الحجاج لأنهم اذا رأوكما لم تطب نفوسهم بالركوب، فلو ركبتما رحمة لهم، فأجابه الامام: «لا نركب فقد عاهدنا الله أن نؤم بيته ماشين، ولكن نتنكب الطريق»، هذا و قد رأي هيبة الامام الحسن و وقاره بعض الأغبياء من الحاقدين علي آل البيت الطاهرين المطهرين فقال له: ان فيك عظمة، فأجابه الامام: ان في عزة، ثم تلا قوله تعالي (و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين)، و جاء في المناقب: أن الحسن كان يحاكي جده صلي الله عليه و سلم في هيبته و وقاره، و سؤدده، و صدق رسول الله صلي الله عليه و سلم حيث يقول «أما الحسن فان له هيبتي سؤددي، و أما الحسين فان له جرأتي و جودي»، و لعل من أوضح ما يفسر لنا ما قال ابن‌عباس رضي الله عنه حين مات الامام الحسن «ان أول ذل دخل علي العرب موت الحسن عليه‌السلام»، الأمر الذي يشير الي ما كان للامام الحسن من مكانة في المجتمع الاسلامي.
و في الواقع فان تلك المكانة، و تلك الكرامة، لم تكن للامام الحسن عند الناس فحسب، و انما كانت قبل ذلك و بعده، عندالله سبحانه و تعالي، و عند رسوله صلي الله عليه و سلم، و من ذلك قصته مع معاوية، عندما أراد أن يمنع عنه عطاءه في بيت المال، فلم يرسله له في حينه، و احتاج الحسن الي المال، وكان من أكرم الناس، و خطر بباله أن يكتب لمعاوية في ذلك، ولكنه، فيما يروي البيهقي و الحاكم و ابن‌عساكر و السيوطي و القاضي النبهاني، رأي، فيما يري النائم، جده صلي الله عليه و سلم يقول له: يا بني أتكتب لمخلوق في حاجتك، و علمه دعاء يدعو به، جاء فيه «اللهم اقذف في قلبي رجاءك و اقطع رجائي عمن سواك، حتي لا أرجو أحدا غيرك، اللهم ما ضعفت عنه قوتي، و قصر عنه عملي، و لم تنته اليه رغبتي و لم تبلغه مسألتي و لم يجر علي لساني، مما أعطيت أحدا من الأولين و الآخرين من اليقين، فخصني به يا أرحم الراحمين»، فلم يمض أسبوع يدعو فيه بهذا الدعاء، حتي بعث اليه معاوية بألف ألف و خمسمائة ألف (و قيل بمائتي ألف، و هذا ما نميل اليه) فقال: الحمدلله الذي لا ينسي من ذكره، و لا يخيب من دعاه، فرأي النبي صلي الله عليه و سلم فقال له: يا حسن

[ صفحه 160]

كيف أنت، قال بخير يا رسول الله، فقال صلي الله عليه و سلم: «يا بني هكذا من رجا الخالق، و لم يرج المخلوق» هذا و لم تقف كرامة الامام الحسن علي الله و رسوله عند حد الدنيا، بل انها امتدت الي ما بعد انتقاله منها، فلقد ذكر القاضي النبهاني في جامع كرامات الأولياء أن المناوي روي في الطبقات، قال: أخرج أبونعيم و ابن‌عساكر عن الأعمش: أن رجلا تغوط علي قبره فجن، و جعل ينبح كما ينبح الكلب ثم مات فسمع يعوي في قبره.

زهده و ورعه

كان الامام الحسن عابدا تقيا، زهدا ورعا، روي ابن‌عساكر في تاريخه، و أبونعيم في حلية الأولياء، و ابن‌كثير في البداية و النهاية، أنه رضوان الله عليه، و قاسم الله ماله ثلاث مرات، و خرج من ماله مرتين، و حج خمسا و عشرين مرة ماشيا، و ان النجائب لتقاد بين يديه، كما روي ذلك البيهقي عن ابن‌عباس، و قد علق البخاري في صحيحه أنه حج ماشيا، و النجائب تقاد بين يديه، و روي عن الامام جعفر الصادق عن أبيه الامام الباقر عن أبيه الامام زين العابدين، أنه قال: حج الحسن بن علي ماشيا، النجائب تقاد بين يديه، و نجائبه تقاد الي جنبه، و عن الامام الباقر عن أبيه الامام علي زين العابدين أنه قال، قال الحسن بن علي: أني لأستحي من الله أن ألقاه و لم أمش الي بيته، فمشي عشرين مرة من المدينة علي رجليه، و أخرج الحاكم عن عبدالله بن عبيد بن عمير، قال: لقد حج الحسن و خمسا و عشرين حجة ماشيا، و أن النجائب لتقاد معه، و روي ابن‌كثير أنه كان يقرأ في بعض خطبه سورة ابراهيم، و كان يقرأ في كل ليلة سورة الكهف قبل أن ينام، يقرؤها من لوح كان يدور معه حيث كان في بيوت نسائه، فيقرؤه بعد ما يدخل في الفراش قبل أن ينام رضي الله عنه.
و كان الامام الحسن اذا دخل المسجد رفع صوته قائلا: «الهي ضيفك ببابك يا محسن، قد أتاك المسي‌ء فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم»، و اذا شرع في الصلاة بدأ عليه الخوف و الخضوع و الخشوع حتي ترتعد جميع

[ صفحه 161]

فرائصه، ومن مظاهر عبادته وخوفه من الله أنه اذا ذكر الجنة و النار و اضطرب و اضطراب السليم، فسأل الله الجنة، و تعوذ من النار، و اذا ذكر الموت و ما يعقبه من بعث و نشور، بكي بكاء الخائفين والمنيبين، و اذا ذكر العرض علي الله شهق شهقة يغشي عليه منها، و أخرج ابن خلكان في وفيات الاعيان: كان الحسن اذا فزع من الوضوء تغير لونه، فقيل له في ذلك فقال: «حق علي من اراد ان يدخل علي ذي العرش ان يتغير لونه»، و اخرج ابن كثير أن الامام الحسن كان اذا صلي الغداة في مسجد رسول الله صلي الله عليه و سلم يجلس في مصلاة يذكر الله حتي ترتفع الشمس و يجلس اليه من يجلس من سادات الناس يتحدثون عنده، ثم يقوم فيدخل علي أمهات المؤمنين فيسلم عليهن و ربما أتحفنه (أو قد يهدي اليهن و يهدين اليه) ثم ينصرف الي منزله.
و أخرج ابن عبد البر في الاستيعاب: كان الحسن بن علي رضي الله عنه حليما كريما، ورعا فاضلا، دعاه ورعه و فضله الي ترك الملك و الدنيا، رغبة فيما عند الله، و كان يقول «والله ما أحببت منذ علمت ما ينفعني و ما يضرني أن ألي أمر أمة محمد صلي الله عليه و سلم علي أن يهراق في ذلك محجمة دم»، و من ثم نراه، حين ولي الخلافة بعد أبيه الامام علي، رضي الله عنهما، استقبل معاوية بكتائب كالجبال، لكثرتها و قوة بأسها، و مع أنه كان أحق الناس بالخلافة، و أقدرهم عليها، فقد رأي أنه لن يستقر له الأمر، الا بعد سفك دماء غريرة، فتنازل عن الخلافة لمعاوية، زهدا فيها، و تورعا من سفك دماء المسلمين بسببها، و حقق بذلك نبوءة جده المصطفي صلي الله عليه و سلم من أن الله سيصلح به بين فئتين كبيرتين من المسلمين، هذا وقد بلغ من رضائه و بالله تعالي في كل حال، أن قيل له، فيما أخرجه ابن عساكر في تاريخه، واليافعي في مرآته، و الذهبي في سير أعلام النبلاء، أن أباذر رضي الله عنه يقول «الفقر أحب الي من الغني، والقسم أحب الي من الصحة، فقال الامام الحسن: رحم الله أباذر، أما أنا فأقول: من اتكل علي حسن اختيار الله له، لم يتمن أنه في غير الحالة التي اختارها الله له»، و يعلق ابن عساكر علي هذا بقوله: «و هذا حد الوقوف علي الرضا بما يتصرف به القضاء»، و وصفه أبو نعيم في حلية الأولياء بقوله: «فأما السيد المحبب، و الحكيم المقرب، الحسن بن علي رضي الله عنه فله معاني المتصوفة الكلام المشرق المرتب، و المقام المؤنق المهذب».

[ صفحه 162]

مكانته العلمية

نشأ الامام الحسن في بيت الوحي، و تربي في مدرسة النبوة، فتتلمذ أولا علي يدي جده سيد الاولين و الآخرين محمد رسول الله صلي الله عليه و سلم ثم أكمل تربيته أبوه الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، و كفاه فخرا و أن يكون تلميذ النبي ثم الوصي، و صدق رسول الله صلي الله عليه و آله حيث يقول «أنا مدينة العلم، و علي بابها» (رواه الطبراني و البزار و الترمذي و السيوطي)، هذا و قد روي الامام الحسن عن جده صلي الله عليه و سلم، فيما يقول ابن حجر في الاصابة، أحاديث حفظها عنه، منها ما جاء في السنن الاربعة، فلقد اخرج الامام احمد في مسنده، و الحافظ ابن حجر العسقلاني في الاصابة بسنده الي أبي الحوراء: قال الحسن بن علي: علمني رسول الله صلي الله عليه و سلم كلمات أقولهن في الوتر «رب اهدني فيمن هديت، و عافني فيمن عافيت، و تولني فيمن توليت، و بارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، انك تقضي و لا يقضي عليك، و انه لا يذل من واليت، تباركت ربنا و تعاليت»، و أخرج الامام أحمد و ابن ماجة و أبو داود و الترمذي، من حديث أبو هريرة، و الحافظ ابن الحجر عن أبي الحوراء، قال قلت للحسن: ما تذكر من رسول الله صلي الله عليه و سلم قال: أذكر أني أخذت تمرة من تمر الصدقة فجعلتها في في، فنزعها رسول الله صلي الله عليه و سلم بلعا بها، فجعلها في التمر، فقيل يا رسول الله، و ما كان عليك من هذه التمرة لهذا الصبي، قال صلي الله عليه و سلم: «انا آل محمد لا تحل لنا الصدقة»، كما أخرج في رواية أخري من حديث أبي هريرة أنه صلي الله عليه و سلم قال: «كخ كخ، ارم بها، أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة»، و منها ما أخرجه الامام أحمد و النسائي أن الحسن روي عن جده صلي الله عليه و سلم قوله «دع ما يريبك الي ما يريبك، فان الصدق طمأنينة، و أن الكذب ريبة»، و منها قول الحسن: «و عقلت عنه صلي الله عليه و سلم الصلوات الخمس»، و من الأحاديث الصحيحة التي رواها الحسن عن جده صلي الله عليه و سلم عن سفيان الثوري بسنده عن عمير قال: سمعت الحسن بن علي يقول: سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: «من صلي صلاة فجلس في مصلاه حتي تطلع الشمس، كان له حجابا من النار».
هذا وقد وعي الامام الحسن أحاديث جده رسول الله صلي الله عليه و سلم، مع أنه كان في

[ صفحه 163]

الثامنة من عمره، و بدهي أنه كان للبيئة التي نشأ فيها الامام الحسن دورا كبيرا في ذلك، و لا غرو فهو شجرة النبوة، و عضو أهل بيت الرسالة و غصن أهل بيت الرحمة، و نقطة معدن العلم، آثره جده المصطفي صلي الله عليه و سلم بالتوحيد و الارشاد منذ نعومة الرحمة، و نقطة معدن العلم، آثره جده المصطفي صلي الله عليه و سلم بالتوجيه و الارشاد منذ نعومة أظفاره، فكان لذلك أكبر الأثر و أعظمه في تكوينه العلمي، و ثقافته الواسعة، ثم تولاه بعده أبوه الامام علي، فأكمل ثقافته و أتم تربيته، و الامام علي، كما نعلم، نشأ منذ طفولته و تربي في حجر النبي صلي الله عليه و سلم و غرق علمه في بحر النبوة الأصفي حتي امتلأ و صار، كما يقول الحسن البصري، «رباني هذه الأمة»، و كان الامام علي يتحدث بنعمة ربه فيقول «أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني، فوالله ما من آية في كتاب الله عزوجل، الا و أنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل»، و هكذا كان علم الامام الحسن علما موروثا بحق، و مغروفا من المنبع الأصفي، فكان علما خالصا، حرص الامام عليه، و نفع به الناس، و قدره حق قدره حتي روي عنه أنه كان يقول لبنيه و بني أخيه الامام الحسين «تعلموا العلم، فان لم تستطيعوا حفظه فاكتبوه وضعوه في بيوتكم».
و هكذا روي الامام الحسن الحديث الشريف عن صاحبه جده سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم، و عن أبيه الامام علي، و عن أخيه الامام الحسين، ابنه الحسن و عائشة أم المؤمنين و ابن أخيه علي بن الحسين، و ابناه و عبدالله و الباقر، و عكرمة و ابن سيرين و جبير بن نفير، و أبو الحوراء ربيعة بن شيبان و أبو مجلز، و هبيرة بن يريم و شيبان بن الليل و غيرهم.
و أخرج ابن عساكر بسنده: أن الحسن بن علي رضي الله عنه كان يجلس في مسجد رسول الله صلي الله عليه و سلم و يجتمع الناس حوله و يتكلم و بما يشفي غليل السائلين، و يقطع و حجج القائلين، من ذلك ما رواه الواحدي في تفسيره، أن رجلا قال: دخلت مسجد المدينة، فاذا أنا برجل يحدث عن رسول الله صلي الله عليه و سلم و الناس حوله، فقلت له: أخبرني عن شاهد و مشهود، فقال نعم، أما الشاهد فيوم الجمعة، و أما المشهود فيوم النحر، فجزته الي غلام كأن وجهه الدينار، و هو يحدث عن رسول

[ صفحه 164]

الله صلي الله عليه و سلم فقلت له: أخبرني عن شاهد و مشهود، فقال نعم، أما الشاهد فمحمد صلي الله عليه و سلم و أما المشهود فيوم القيامة، أما سمعته تعالي يقول «يا أيها النبي انا أرسلناك شاهدا»، و قال تعالي (ذلك يوم مجموع له الناس و ذلك يوم مشهود)، فسألت عن الأول، فقالوا: ابن عباس، و سألت عن الثاني فقالوا الحسن بن علي، رضي الله عنهما، و روي الشبلنجي القصة في نور الأبصار، و ان نسب تفسير ابن عباس الي ابن عمر، و أن ابن عباس وافقه في الشاهد و خالفه في المشهود، حيث رأي أنه يوم عرفة، واتفق مع ابن عساكر في تفسير الامام الحسن في أن الشاهد جده رسول الله صلي الله عليه و سلم و المشهود يوم القيامة، و أن الله قد وهب الحسن بصيرة و علما و هداية، فلقد عوضه سبحانه و تعالي عن الخلافة الظاهرة، التي تنازل عنها طائعا مختارا، و هو في مكان القوة و القدرة، حقنا لدماء المسلمين، و ذلك بالخلافة الباطنة، حتي ذهب قوم الي أن قطب الأولياء في كل زمان، لا يكون الا من أهل البيت الطاهرين المطهرين، و قد ناقشنا ذلك في الجزء الاول من هذه السلسلة بالتفصيل، و أوردنا الآراء المختلفة فيها، و منها أن قوما ذهبوا الي أن القطب في كل عصر لابد أن يكون من أهل البيت النبوي الشريف، و ان رأي ابوالعباس المرسي، كما نقل عنه تلميذه ابن عطاء، أن القطب قد يكون منهم، و قد يكون من غيرهم، و لكن قطب الأقطاب لا يكون الا منهم، لأنهم أزكي الناس أصلا، و أوفرهم فضلا، لأن مقام أهل البيت من غيرهم، مقام النجوم في السماء من أهل الأرض، فهم بيت النبوة و ذرية سيد الأولين و الآخرين سيدنا محمد صلي الله عليه و سلم.
هذا وقد كتب الحسن البصري رضي الله عنه الي الامام الحسن يسأله عن القضاء و القدر، فكتب اليه ابن رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: «من لم يؤمن بقضاء الله و قدره، خيره و شره، فقد كفر، و من حمل ذنبه ربه فقد فجر، و ان الله تعالي لا يطاع استكراها، و لا يعصي بغلبه، لأنه تعالي مالك لما ملكهم، و قادر علي ما أقدرهم، فان عملوا بالطاعة لم يحل بينهم و بين ما عملوا، فان لم يفعلوا فليس هو الذي أجبرهم علي ذلك، و لو أجبر الخلق علي الطاعة لأسقط عنهم العقاب، و لو أهملهم فان ذلك عجز في القدرة، و لكن الله له فيهم المشيئة التي غيبها عنهم، فان

[ صفحه 165]

عملوا بالطاعة، و ان عملوا بالمعصية فله الحجة عليهم».
و روي الشعراني في كشق الغمة، أن الامام الحسن قال في فضل القرآن: ان القرآن فيه مصابيح النور و شفاء الصدور، فليجل جال بضوئه، و ليلجم الصفة قلبه، فان التفكير حياة القلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور»، و روي الشبلنجي في نور الأبصار أن الامام الحسن قال: هلاك الناس في ثلاث: «الكبر و الحرص و الحسد، فالكبر به هلاك الدين و به لعن ابليس، و الحرص عدو النفس، و به أخرج آدم من الجنة، و الحسد رائد السوء، و به قتل هابيل و قابيل»، و روي أن الامام الحسن قال في المساجد: من أدام الاختلاف الي المسجد أصاب ثمان خصال: آية محكمة، و أخا مستفادا، و علما مستطرفا، و رحمة منتظرة، و كلمة تدل علي هدي أو تردي عن ردي، و تر ك الذنوب حياء أو خشية»، و قال في الدعاء: «ما فتح الله عزوجل علي احد باب مسألة فحزن (أغلق) عنه باب الاجابة، و لا فتح علي رجل باب عمل، فخزن عنه باب القبول، و لا فتح لعبد باب شكر، فخزن عنه باب المزيد»، و سئل الامام الحسن: من أحسن الناس عيشا، و فقال: من أشرك الناس في عيشه، فقيل من أشر الناس عيشا، قال: «من لا يعيش في عيشه أحد»، و قال الامام «فوت الحاجة خير من طلبهما الي غير أهلها، و أشد من المصيبة سوء الخلق، و العبادة انتظار الفرج».
و قال الامام الحسن في تقوي الله: ان الله لم يخلفكم عبثا، و ليس بتارككم سدي، كتب آجالكم و قسم بينكم معائشكم ليعرف كل ذي منزلة منزلته، و أن ما قدر له أصابه، و ما صرف عنه فلن يصيبه، قد كفاكم مؤنة الدنيا و فرغكم لعبادته، وحثكم علي الشكر، و افترض عليكم و أوصاكم بالتقوي، و جعل التقوي منتهي رضاه، و التقوي باب كل توبة، و رأس كل حكمة، و شرف كل عمل بالتقوي، فاز من فاز من المتقين، قال تبارك و تعالي: «ان للمتقين مفازا» و قال: «و ينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء و لا هم يحزنون)، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من يتق الله يجعل له مخرجا من

[ صفحه 166]

الفتن، و يسدده في أمره، و يهيء له رشده، و يفلحه بحجته، و يبيض وجهه، و يعطيه رغبته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين والشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا». وقال: «يا بني آدم عف عن محارم الله تكن عابدا، و أرض بما قسم الله تكن غنيا، و أحسن جوار من جاورك تكن مسلما، و صاحب الناس بما تحب أن يصاحبوك به تكن عادلا، انه كان بين أيديكم قوم يجمعون كثيرا، و يبنون مشيد أو يأملون بعيدا، أصبح جمعهم بورا، و عملهم غرورا، و مساكنهم قبورا، يا بن آدم انك لم تزل في هدم عمرك مذ سقطت من بطن أمك، فجد بما في يديك، فان المؤمن يتزود، و الكافر يتمتع، و كان يتلو عقب كلامه هذا أقوله تعالي: «و تزودوا فان خير الزاد التقوي».
و من حكمه رضي الله عنه: و «لا ادب لمن لا عقل له، و لا مودة لمن لا همة له، و لا حياء لمن لا دين له، و رأس العقل معاشرة الناس بالجميل، و بالعقل تدرك الدارين جميعا، و من حرم العقل حرمهما جميعا»، و روي جابر أنه سمع الامام الحسن يقول: «مكارم الأخلاق عشر: صدق اللسان، و صدق البأس، واعطاء السائل، و حسن الخلق، و المكافاة بالصنائع، و صلة الرحم، و التذمم علي الجار، و معرفة الحق للصاحب، و قري الضيف، و رأسهن الحياء»، و أخرج اليعقوبي في تاريخه بسنده أن معاوية قال للامام الحسن رضي الله عنه يا أبا محمد ثلاث خصال ما وجدت من يخبرني عنهن، قال الامام: و ما هن، قال: المروءة و الكرم و النجدة، قال الامام: «أما المروءة فاصلاح الرجل أمر دينه، و حسن قيامه علي ماله، و لين الكف، و افشاء السلام، و التحبب الي الناس، و أما الكرم، فالعطية قبل السؤال، و التبرع بالمعروف، و الاطعام في المحل، ثم النجدة: الذب عن الجار، و المحاماة في الكريهة، و الصبر عند الشدائد»، و زاد بعضهم الحزم، و هو طول الأناة، و الاحتراز من جميع الناس».
و روي أن معاوية قال في مجلسه يوما: «اذا لم يكن الهاشمي سخيا لم يشبه حسبه، و اذا لم يكن الزبيري شجاعا لم يشبه حسبه، و اذا لم يكن المخزومي تائها لم يشبه حسبه، و اذا لم يكن الأموي حليما لم يشبه حسبه،

[ صفحه 167]

فبلغ ذلك الامام الحسن فقال: والله ما أراد الحق، و لكنه أراد أن يغري بني هاشم بالسخاء فيفنون أموالهم و يحتاجون اليه، و يغري آل الزبير بالشجاعة فيفنون بالقتل، و يغري بني مخزوم بالتيه فيبغضهم الناس، و يغري بني أمية بالحلم فيحبهم الناس»، و من حكمه رضي الله عنه: «ما تشاور قوم الا هدوا الي رشدهم»، و قال: «اللؤم أن لا تشكر النعمة»، و قال لبعض ولده: «يا بني لا تآخ أحد حتي تعرف موارده و مصادره، فاذا استنبطت الخبرة، و رضيت العثرة، فآخه علي اقالة العثرة، والمواساة في العسرة»، و قال رضي الله عنه: «القريب من قربته المودة، و ان بعد نسبه، و البعيد من باعدته المودة، و ان قرب نسبه، لا شيء اقرب من يد الي جسد، و ان اليد تفل فتقطع و تحسم». و قال رضي الله عنه الخير الذي لا شر فيه، الشكر مع النعمة، و الصبر علي النازلة».

اسرة الامام الحسن

عرف الامام الحسن بحسن عشرته لأزواجه، فكان يمسكهن بمعروف، و يسرحهن باحسان، و كان الناس يرغبون في مصاهرته، لأنه ابن رسول الله صلي الله عليه و سلم و لانه كان بارا باهله، كريما في معاملته لهن، لا تفارقه امرأة، الا و هي تحبه و تصبوا اليه، و من عجب أن المؤرخين و الرواة انما يزعمون أن للامام الحسن انما كان مزواجا مطلاقا، حتي أنكر أبو عليه ذلك و نهي الناس عن تزويجه فلم ينتهوا، فقد كانوا يرون في الاصهار الي سبط النبي صلي الله عليه و سلم و ابن اميرالمؤمنين علي، شرفا أي شرف، و أن رجلا من همدان قال للامام علي: «و الله يا أميرالمؤمنين، لو خطب الينا كل يوم لزوجناه منا من شاء، ابتغاء صهر رسول الله صلي الله عليه و سلم»، و قام آخر فقال: «والله لنزوجنه، فما رضي أمسك، و ما كره طلق، و تابعه الجميع علي ذلك»، و هكذا زعم البعض أن زوجات الامام ربما بلغن التسعين، بل ان بعض المؤرخين و المحدثين لم يتورع في أن ينقل كعادته عن المستشرقين أن وفاته لعلها كانت بسبب اسرافه في حياة اللهو، و لست أدري من أين جاء هؤلاء المؤرخون بهذه الكثرة من الزوجات للامام الحسن، مع أن ما أخصوه هم أنفسهم، لم يزد عن خمسة عشر امرأة، و ليس سبعين أو تسعين، أو مائة، و هو

[ صفحه 168]

عدد لا يمت الي الكثرة المزعومة بصلة (قارن ذلك بما قيل مثلا عن المغيرة بن شعبة، حيث زعم المكثرون أنه تزوج ألف امرأة في حياته الطويلة، و زعم المقلون أنه تزوج مائة أو تسعا و تسعين، و توسط المعتدلون فزعموا أنه تزوج ثلاثمائة).
و أيا ما كان الأمر، و أيا ما كان عدد زوجات الامام الحسن، فلا ريب أن حفيد النبي صلي الله عليه و سلم لم يفعل ذلك، علي وجه اليقين، اشباعا لخط النفس، و هو المعروف بأنه التقي الورع، المشهود له بالزهد في الدنيا و العزوف عنها، و انما كان زواجه لأسباب منها أن عدد مرات زواجه عاديا مثل الذي كان يحدث في عصره، و منها أن الزواج في ذلك العصر انما كان يربط العصبيات و يزيد في قوة القبائل، كما كان تعدد الزواج أمرا مألوفا، بل مستحبا و هو في بيت النبوة أكثر استحبابا، و ليس مع الحلال تهمة، و من ثم فان الامام الحسن اذا كان قد تزوج أكثر من مرة، فيجب الحكم علي ذلك في ظل الظروف التي كان يعيش فيها الامام، و أعني بذلك أنه انما كان يهدف الي تعدد الاصهار الي كثير من القبائل، لأن الحاكم، علي حد تعبير ابن‌خلدون انما يستند الي عصبية، و منها أن الامام الحسن انما كان حريصا علي تكثير نسل النبي صلي الله عليه و سلم و ذريته، و لعله رأي، بما وهبه الله من نور البصيرة، ما سوف يتعرض له أهل البيت من تقتيل و تشريد، لا يحفظ منه سلالة الرسول صلي الله عليه و سلم من الاندثار و الانقراض، الا تعدد الزواج و كثرة النسل، و من ثم فقد أشفق علي الذرية الطاهرة من الفناء، هؤلاء الذين جعل الله وجودهم في الأرض رحمة للناس، و ما أشد حاجة الناس لائمة الهدي من ذرية النبي صلي الله عليه و سلم بنور الايمان الذي يرقونه من عرقهم الطاهر المطهر، و ينمونه في بيئتهم النقية الصالحة، و صدق الامام علي حينما قال في السادة الأشراف آل بيت النبي صلي الله عليه و سلم: «أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذبا و بغيا علينا، أن رفعنا الله و وضعهم، و أعطانا و حرمهم، و أدخلنا و أخرجهم، بنا يستعطي الهدي و يستجلي العمي»، و صدق الفرزدق حين قال:

ان عد أهل التقي كانوا أئمتهم
أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم


[ صفحه 169]

و أما زوجات الامام الحسن فهن: سلمي بنت امري‌ء القيس بن عدي الكلبي (و قد تزوج الامام علي أختها المحياة، و تزوج الامام الحسين أختها الثانية الرباب)، و خولة بنت منظور الفزارية، و كانت من سيدات النساء في وفور عقلها و كمالها، و قد بقيت عند الامام حتي توفي فجزعت عليه جزعا و شديدا، ثم جعدة بنت الأشعث بن قيس، و هي التي يكاد يجمع المؤرخون و المحدثون أنها هي التي سمت الامام الحسن، بايعاز من معاوية أو ولده يزيد، و منهن عائشة الخثعيمة، و قد طلقها الامام لاظهارها الشماتة في وفاة سيدنا الامام علي، حيث قالت للحسن: «لتهنك الخلافة»، فلما علم بشماتتها قال لها: «ألقتل علي تظهرين و الشماتة، اذهبي فأنت طالق»، و لم يذكر التاريخ أن الامام طلق غيرها، سوي أم‌كلثوم بنت الفضل بن عباس، التي تزوجها بعده أبوموسي الأشعري، و كذا امرأة من بني‌شيبان، و من زوجات الامام كذلك أم‌اسحاق بنت طلحة بن عبيدالله التميمي، و أم‌بشير بنت أبي‌مسعود الأنصاري، و هند بنت عبدالرحمن بن أبي‌بكر، ثم امرأة من بنات عمرو بن أهيم المنقري، و امرأة من ثقيف، و امرأة من بنات زارة، و امرأة من بني‌شيبان من آل‌همام بن مرة، و قد طلقها لأنها كانت تري رأي الخوارج، فقال: «اني أكره أن أضم الي نحري جمرة، من جمر جهنم»، ثم أم عبدالله بنت الشليل أخي جرير بن عبدالله البجلي، و أم القاسم، و هكذا يكون مجموع ما تزوجه الامام الحسن هذا العدد من النساء، و هو عدد لا يمت الي الكثرة المزعومة بصلة، و من ثم فلنا أن نتساءل: «أين كثرة الزواج و الطلاق التي طبل لها المؤرخون» و أما أولاد الامام الحسن فقد اختلف المؤرخون في عددهم، ما بين اثني عشر و ستة عشر، و ان اتفقوا أنه لم يعقب منهم سوي الحسن بن الحسن، و زيد بن الحسن، و أما القاسم و أبوبكر و عبدالله، و فقد استشهدوا في مذبحة كربلاء، مع عمهم سيدالشهداء الامام الحسين، و أما بقية الأبناء فماتوا دون عقب.

وفاة الامام الحسن

اختلف المؤرخون في سنة وفاة الامام الحسن، و بالتالي في عمره يوم

[ صفحه 170]

وفاته، و علي أي حال، فهم يرونها في الأعوام 59، 58، 51، 50، 49، 48 ه، و يرجح البعض أنه توفي بالمدينة في يوم الخميس لليلتين بقيتا من صفر سنة خمسين من الهجرة (مارس 670 م)،و كان موقف بن أمية من تشييع جنازته موقفا مزريا، لا يصدر الا من بني‌أمية، مع أن المفروض أن يذكروا للامام فضل تنازله عن الخلافة، و بالتالي فقد سالمهم و حقن دماءهم و دماء المسلمين، و طبقا لرواية ابن عبدالبر في الاستيعاب، فلم يشهد جنازته من بني‌أمية الا سعيد بن العاص، و كان يومئذ أميرا للمدينة، فقدمه الحسين للصلاة عليه، و قال: «هي السنة، ثم خالد بن الوليد بن عقبة، ناشد بني‌أمية أن يخلوه يشاهد الجنازة فتركوه، فشهد دفنه»، و ان ذهبت بعض الروايات أن مروان شهدها كذلك، و ان كانت الأحداث لا تؤيدها،د كما سنري.
و روي الحاكم في المستدرك عن سالم بن أبي‌حفصة قال: سمعت أباحازم يقول: اني لشاهد يوم مات الحسن بن علي، فرأيت الحسين بن علي يقول لسعيد بن العاص، و يطعن في عنقه و يقول: تقدم فلولا أنها سنة ما قدمتك، و كان بينهم شي‌ء، فقال أبوهريرة: أتنفسون علي ابن نبيكم صلي الله عليه و سلم بتربة تدفنونه فيها، و قد سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: «من أحبهما فقد أحبني، و من أبغضهما فقد أبغضني».
علي أن حقد بني‌أمية و بغضهم لسيد بني‌هاشم و آل البيت الأطهار، لم يقف عند هذا الحد، روي المؤرخون أن الامام وصي أن يدفن عند النبي صلي الله عليه و سلم الا أن تخاف فتنة فينقل الي مقابر المسلمين، و روي ابن عبدالبر في الاستيعاب أن الامام الحسن أوصي أخاه الحسين قائلا: قد كنت طلبت الي عائشة أن تأذن لي فأدفن في بيتها مع رسول الله صلي الله عليه و سلم فقالت نعم، و اني لا أدري لعل ذلك كان منها حياء، فاذا مت فاطلب ذلك اليها، فان طابت نفسها فادفني في بيتها، و ما أظن القوم الا سيمنعوك اذا أردت ذلك، فان فعلوا فلا تراجعهم في ذلك و ادفني في بقيع الغرقد، فان فيمن فيه أسوة، فلما مات الحسن أتي الحسين عائشة فطلب ذلك اليها فقالت نعم و كرامة، فبلغ ذلك مروان، فقال مروان: «كذب و كذبت

[ صفحه 171]

و الله لا يدفن هناك أبدا، منعوا عثمان من دفنه في المقبرة، و يريدون دفن حسن في بيت عائشة»، و هذا ما نميل اليه و نرجحه، غير أن رواية المفيد ربما تشير الي أن السيدة أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) عارضت في دفنه مع جده صلي الله عليه و سلم، و ربما أشارت كذلك رواية يحيي بن الحسن التي جاءت في «مقاتل الطالبين»، و الأمر كذلك بالنسبة الي رواية لليعقوبي، جاء فيها: أن عائشة ركبت بغلة شهباء و قالت: «بيتي لا آذن فيه لأحد، فأتاها القاسم بن محمد بن أبي‌بكر، فقال لها: يا عمة، ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر، أتريدين أن يقال يوم البغلة الشهباء؟ فرجعت».
غير أن أباالفرج الأصفهاني نفسه يذهب الي أن الحسن بن علي أرسل الي عائشة أن تأذن له أن يدفن مع النبي صلي الله عليه و سلم فقالت: نعم ما كان بقي الا موضع قبر واحد، فلما سمعت بذلك بنوأمية اشتملوا بالسلاح هم و بنوهاشم للقتال، و قالت بنوأمية: «و الله لا يدفن مع النبي صلي الله عليه و سلم أبدا»، و قال: و جعل مروان يقول يا رب هيجا هي خير من دعة، أيدفن عثمان في أقصي البقيع، و يدفن الحسن في بيت رسول الله صلي الله عليه و سلم و الله لا يكون ذلك أبدا، و أنا أحمل السلاح، فكادت تقع الفتنة، و أبي‌الحسين الا أن يدفنه مع النبي صلي الله عليه و سلم، فقال له عبدالله بن جعفر: عزمت عليك بحقي ألا تكلم بكلمة فمضي به الي البقيع، و انصرف مروان بن الحكم.
و أخرج ابن‌عساكر في تاريخه أن الامام الحسن كان قد عهد الي أخيه أن يدفن مع رسول الله صلي الله عليه و سلم فان خاف أن يكون في ذلك شي‌ء فليدفنه بالبقيع، فأبي مروان أن يدعه و قال: ما كنت لأدع ابن أبي‌تراب يدفن مع رسول الله صلي الله عليه و سلم و قد دفن عثمان بالبقيع، و مروان يومئذ معزول، يريد أن يرضي معاوية بذلك، فلم يزل عدوا لبني‌هاشم حتي مات، و لما امتنع مروان من أن يدفن الحسن رضي الله عنه عند رسول الله صلي الله عليه و سلم لامه أبوهريرة و ذكر له فضل علي و الحسن، فقال له مروان: أنت و الله أكثرت علي رسول الله صلي الله عليه و سلم الحديث، فلا نسمع منك ما تقول، فهل من غيرك يعلم ما تقول، فقال له: هذا أبوسعيد الخدري، فقال

[ صفحه 172]

مروان: «لقد ضاع حديث رسول الله صلي الله عليه و سلم حين لا يرويه الا أنت و أبوسعيد، و الله ما أبوسعيد حين مات رسول الله صلي الله عليه و سلم الا غلام، و لقد جئت أنت من جبال دوس قبل وفاة رسول الله صلي الله عليه و سلم بيسير، فاتق الله يا أباهريرة، فقال له نعم، ما أوصيت به، و سكت عنه»، و في رواية ابن عبدالبر أن أباهريرة قال: «والله ما هو الا ظلم يمنع حسن أن يدفن مع أبيه، و الله انه لابن رسول الله».
و روي الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء، بعد أن روي وصية الحسن، و موافقة السيدة عائشة، و معارضة بني‌أمية، روي عن الحسن بن محمد بن الحنفية أنه قال: جعل الحسن يوعز للحسين رضي الله عنه قائلا: يا أخي اياك أن تسفك دما، فان الناس سراع الي الفتنة، فلما مات قالت عائشة: نعم و كرامه، فبلغ ذلك مروان الي معاوية بخبره، و أنهم يريدون دفنه مع النبي صلي الله عليه و سلم و لا يصلون الي ذلك أبدا و أنا حي، فانتهي حسين الي قبر النبي صلي الله عليه و سلم فقال: أحفروا، فنكب عنه سعيد بن العاص، أمير المدينة، فاعتزل، و صاح مروان في بني‌أمية و لبسوا السلاح، فقال له الحسين: يا ابن‌الزرقاء، ما لك و لهذا، أوال أنت؟ فقال مروان: لا تخلص الي هذا و أنا حي، فصاح الحسين بحلف الفضول، فاجتمعت بنوهاشم و زهرة و تيم و أسد في السلاح، و عقد مروان لواء، و كانت بينهم مراماة، و جعل عبدالله بن جعفر يلح علي الحسين و يقول: يا ابن عم، ألم تسمع الي عهد أخيك، أذكر الله أن تسفك الدماء، و هو يأبي، قال الحسن بن محمد بن الحنفية، فسمعت أبي يقول «لقد رأيتني يومئذ، و اني لأريد أن أضرب عنق مروان، ما حال بيني و بين ذلك، الا أن أكون أراه مستوجبا لذلك، ثم دفعت بأخي و ذكرته وصية الحسن فأطاعني».
و أخرج الحافظ ابن‌كثير عن الواقدي بسنده عن جابر بن عبدالله، قال: شهدنا الحسن بن علي يوم مات، و كادت الفتنة تقع بين الحسين بن علي و مروان بن الحكم، و كان الحسن قد عهد الي أخيه أن يدفن مع رسول الله صلي الله عليه و سلم فان خاف أن يكون في ذلك قتال أو شر فليدفن في البقيع، فأبي مروان أن يدعه، و مروان يومئذ معزول يريد أن يرضي معاوية، و لم يزل مروان عدوا لبني

[ صفحه 173]

هاشم حتي مات، قال جابر، فكلمت يؤمئذ حسين بن علي فقلت: «يا أباعبدالله، اتق الله و لا تثر فتنة، فان أخاك كان لا يحب ما تري، فادفنه بالبقيع»، و روي أن الامام الحسين قال يؤمئذ «والله لولا عهد الحسن و بحقن الدماء، و أن لا أهريق في أمره محجمة دم، لعلمتم كيف تأخذ سيوف الله منكم مأخذها، و قد نقضتم العهد بيننا، و أبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا»، و مضوا بالامام الشهيد الحسن بن علي، عليه‌السلام، فدفنوه بالبقيع عند جدته فاطمة بنت أسد أم الامام علي.
و هكذا عمل كبار الصحابة، و علي رأسهم سعد بن أبي‌وقاص و عبدالله بن عمر و جابر بن عبدالله و أبوهريرة، علي تهدئة الامام الحسين، فقبل رجاءهم، و تغاضي عن السفالة الأموية، و الخسة المروانية، التي ما كان في استطاعتها، لولا السلطة، و لولا وصية الامام الحسن، من أن تمنع ابن رسول الله من أن يدفن مع أبيه صلي الله عليه و سلم، و كما قال أبوهريرة: «أرأيتم لو مات ابن‌موسي عليه‌السلام، أما كان يدفن مع أبيه»، خاصة و أن صاحبة الدار أم‌المؤمنين عائشة قد رضيت مكان القبر الوحيد الذي ما يزال باقيا، و هكذا بدأ طغيان بني‌أمية يثير النفوس الأبيه ولكن الناس كانت تخشي الفتنة، و قد اكتوا بنارها سنين من قبل، مما زاد في طغيات الأمويين، حتي قيل لأبي‌اسحاق: متي ذل الناس، قال: «حين مات الحسن، و ادعي زياد، و قتل حجر بن عدي»، و علي أي حال، فلقد بعث بنوهاشم صائحا الي العوالي يصيح في كل قرية من قري الأنصار بموت الحسن، فنزل أهل العوالي و لم يتخلف أحد عنه، و روي أن الامام الحسين دعا بعض بني‌هاشم، ابن‌عباس [4] و عبدالرحمن بن جعفر و علي بن

[ صفحه 174]

عبدالله بن عباس، فأعانوه علي غسل أخيه الامام الحسن و حنطوه و ألبسوه أكفانه، و خرجوا به الي المسجد فصلوا عليه، و أخرج ابن‌كثير عن سفيان الثوري بسنده عن أبي‌حازم قال: رأيت الحسين بن علي قدم يومئذ سعيد بن العاص، فصلي علي الحسن، و قال: «لولا أنها سنة ما قدمته»، و عن ابن‌اسحاق عن مساور قال: رأيت أباهريرة قائما علي مسجد رسول الله صلي الله عليه و سلم يوم مات الحسن بن علي، و هو ينادي بأعلي صوته: يا أيها الناس مات اليوم حب رسول الله فابكوا، وقد اجتمع الناس لجنازته حتي ما كان البقيع يسع أحدا من الزحام، و قد بكاه الرجال و النساء سبعا، قال ثعلبة بن مالك: رأيت الناس بالبقيع، و لو طرحت ابرة ما وقعت الا علي انسان، و بكي عليه النساء و الرجال و الصبيان سبعة أيام بمكة و المدينة، و روي الحاكم في المستدرك أنه لما توفي الامام الحسن أقام نساء بني‌هاشم النوح عليه شهرا، و عن أبي‌جعفر قال: مكث الناس يبكون علي الحسن بن علي، و عطلت الأسواق، و روي الواقدي عن عائشة قالت: حد نساء بني‌هاشم علي الحسن بن علي سنة.

[ صفحه 175]

مناقب الامام الحسن

اشاره

من البدهي أن الامام الحسن انما هو من أهل البيت الذين فضلهم الله علي كثير من عباده تفضيلا، و من البدهي كذلك انما قد أكرمه الله سبحانه و تعالي بكل ما أكرم به أهل البيت، و من ثم فهو تنطبق عليه كل فضائل آل بيت النبي صلي الله عليه و سلم التي أشار اليها القرآن الكريم، و فصلتها الأحاديث النبوية الشريفة، الأمر الذي فصلناه في الجزء الأول من هذه السلسلة، و بالتالي فهو واحد من هؤلاء الطاهرين المطهرين الذين جاءت في حقهم آيتا الأحزاب (56، 33) و آية الشوري 23، و غيرها من آيات الذكر الحكيم، فضلا عن الأحاديث النبوية الشريفة التي تبين فضل آل البيت، و تحض المسلمين علي مودتهم و موالاتهم، و تنفر من بغضهم و كراهيتهم، بل و تعلن بوضوح و جلاء أن حب آل النبي من حب النبي صلي الله عليه و سلم، أن بغضهم من بغضه، و أنه لا أمل لمن يكره آ ل النبي صلي الله عليه و سلم في رضا المصطفي صلي الله عليه و سلم في الدنيا، و شفاعته في الآخرة، و أن مصيره أسوا مصير، و سوف نشرف هنا فقط يذكر الأحاديث النبوية الشريفة التي جاءت في فضل الامام الحسن، ثم تلك التي جاءت في فضل الحسن و الحسين معا، رضي الله عن سبطي رسول الله صلي الله عليه و سلم و ريحانتيه في الدنيا.

فضائل الامام الحسن

روي عن سيدنا و مولانا وجدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم عدة أحاديث في فضل سيدنا

[ صفحه 176]

الامام الحسن، عليه‌السلام، منها (اولا) روي البخاري و مسلم من طريق اسماعيل، و الامام أحمد و الطبراني عن أبي‌جحيفة قال: «رأيت رسول الله صلي الله عليه و سلم و كان الحسن بن علي يشبهه»، و منها (ثانيا) روي البخاري و مسلم و ابن‌ماجة من طريق عبيدالله بن زيد، و الامام أحمد في المسند و الفضائل عن أبي‌هريرة عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال للحسن: «اللهم اني أحبه فأحبه، و أحب من يحبه»، و أخرج ابن‌كثير عن البراء بن عازب بسنده، قال: رأيت رسول الله صلي الله عليه و سلم و الحسن بن علي علي عاتقه، و هو يقول «اللهم اني أحبه فأحبه»، و زاد علي بن الجعد بسنده عن البراء «و أحب من أحبه» و قال الترمذي حسن صحيح، و في رواية البخاري في صحيحه عن البراء قال: رأيت النبي صلي الله عليه و سلم، و الحسن بن علي علي عاتقه يقول: «اللهم اني أحبه فأحبه»، و منها (ثالثا) أخرج البخاري و الحاكم و الطبراني و العجلي و الامام أحمد في المسند و الفضائل عن عقبة بن الحارث، قال: خرجت مع أبي‌بكر في صلاة العصر بعد وفاة النبي صلي الله عليه و سلم بليال، و علي يمشي الي جنبه، فمر بحسن بن علي يلعب مع غلمان، فاحتمله علي رقبته، و هو يقول: و أبي شبه النبي، ليس شبيها بعلي، قال: و علي يضحك، و في رواية البخاري: صلي أبوبكر رضي الله عنه العصر، ثم خرج يمشي فرأي الحسن يلعب مع الصبيان، فحمله علي عاتقه، و قال: «بأبي‌شبيه النبي صلي الله عليه و سلم لا شبيه بعلي، وعلي يضحك»، و في رواية: «بأبي شبيه بالنبي صلي الله عليه و سلم و ليس شبيها بعلي، و علي يضحك».
و في رواية أخري في صحيح البخاري عن أنس قال: «لم يكن أحد أشبه النبي صلي الله عليه و سلم من الحسن بن علي»، و روي الترمذي عن أبي‌جحيفة قال: «رأيت رسول الله صلي الله عليه و سلم فكان الحسن بن علي يشبهه»، و روي الترمذي عن علي قال: «الحسن أشبه برسول الله صلي الله عليه و سلم ما بين الصدر الي الرأس، و الحسين أشبه برسول الله صلي الله عليه و سلم ما كان أسفل من ذلك»، و روي الحاكم في المستدرك عن أنس بن مالك قال: «لم يكن في ولد علي أشبه برسول الله صلي الله عليه و سلم من الحسن» و منها (رابعا) روي البخاري (في الصحيح و الأدب المفرد) و أبوداود الطيالسي و الترمذي و الطبراني في الكبير، و الامام أحمد في المسند و الفضائل عن البراء قال رأيت النبي صلي الله عليه و سلم

[ صفحه 177]

واضعا الحسن بن علي علي عاتقه و هو يقول «اللهم اني أحبه فأحبه»، و منها (خامسا) روي البخاري و الترمذي و النسائي و أبوداود و عبدالرازق و الطبراني و الامام أحمد عن أبي‌بكرة قال: رأيت رسول الله صلي الله عليه و سلم علي المنبر، و حسن معه، و هو يقبل علي الناس مرة، و يقول: «ان ابني هذا سيد، و لعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين»، و أخرج الترمذي عن أبي‌بكرة قال: «صعد رسول الله صلي الله عليه و سلم المنبر، فقال: ان ابني هذا سيد، يصلح الله علي يديه فئتين - يعني الحسن بن علي».
و روي الامام أحمد و الروياني و ابن‌عساكر عن أبي‌بكرة قال: كان رسول الله صلي الله عليه و سلم يصلي بالناس، فاذا سجد وثب الحسن علي ظهره أو علي عنقه، فرفع رأسه فيضعه وضعا رقيقا لئلا يصرع، فعل ذلك غير مرة، فلما قضي صلاته ضمه اليه و جعل يقبله، فقالوا: يا رسول الله انك لتفعل بهذا شيئا ما رأيناك تفعله بأحد، فقال: «ان ابني هذا ريحانتي من الدنيا، و ان ابني هذا سيد، و سيصلح الله به بين فئتين من مسلمين».
و منها (سادسا) أخرج الامام أحمد في الفضائل عن أنس يعني ابن‌سيرين قال قال الحسن بن علي يوم كلم معاوية، ما بين جابرس و جابرق (مدينتان بأقصي المشرق و المغرب) رجل جده نبي غيري، و اني رأيت أن أصلح بين أمة محمد صلي الله عليه و سلم و كنت أحقهم بذلك، ألا انا قد بايعنا معاوية، و لا أدري لعله فتنة لكم و متاع الي حين»، و منها (سابعا) أخرج الامام أحمد في المسند و الفضائل بسنده عن أبي‌هريرة (و ابن‌ماجة من طريق وكيع) قال: «رأيت النبي صلي الله عليه و سلم حامل الحسن بن علي علي عاتقه، و لعابه يسيل عليه»، و أخرج الامام أحمد عن البراء بن عازب بسنده قال: رأيت رسول الله صلي الله عليه و سلم و الحسن علي عاتقه، و هو يقول: «اللهم اني أحبه فأحبه»، و روي مسلم في صحيحه عن أبي‌هريرة عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال لحسن: «اللهم اني أحبه فأحبه، و أحبب من يحبه».
و منها (ثامنا) أخرج الامام أحمد و الطبراني و ابن‌حبان و ابن الاعرابي و الحاكم عن ابن‌عون عمير بن اسحاق، قال: كنت مع الحسن بن علي،

[ صفحه 178]

فلقينا أبي‌هريرة فقال: أرني أقبل منك حيث رأيت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقبل، قال فقال بقميصه، قال: «فقبل سرته».
و روي الحاكم عن أبي‌هريرة رضي الله عنه أنه لقي الحسن بن علي فقال: رأيت رسول الله صلي الله عليه و سلم قبل بطنك، فاكشف الموضع الذي قبل رسول الله صلي الله عليه و سلم حتي أقبله، و كشف له الحسن فقبله».
و منها (تاسعا) أخرج الامام أحمد في المسند و الفضائل و الطحاوي في شرح الآثار، و الهيثمي في مجمع الزوائد، و الطبراني في الكبير بسنده عن عيسي بن عبدالرحمن عن أبيه عن جده، قال: كنا عند النبي صلي الله عليه و سلم فجاء الحسن بن علي، عليه‌السلام، يحبو حتي صعد علي صدره، فبال عليه فابتدرناه لنأخذه، فقال النبي صلي الله عليه و سلم «ابني ابني، قال: ثم دعا بماء فصبه عليه».
و روي الطبراني عن أنس قال: بينا رسول الله صلي الله عليه و سلم راقد، اذ جاء الحسن يدرج حتي قعد علي صدره، ثم بال عليه، فجئت أميطه، فقال صلي الله عليه و سلم «ويحك يا أنس، دع ابني و ثمرة فؤادي، فان من آذي هذا، فقد آذاني، و من آذاني فقد آذي الله.»
و منها (عاشرا) روي الامام أحمد في المسند و الفضائل و الطبراني في الكبير و الحاكم في المستدرك عن شعبة عن عمرو، قال سمعت عبدالله بن الحارث يحدث عن زهير بن الأقمر قال: بينما الحسن بن علي يخطب، اذ قام رجل فقال: اني رأيت النبي صلي الله عليه و سلم واضعه في حبوته، و هو يقول: «من أحبني فليحبه، فليبلغ الشاهد الغائب، و لولا عزيمة رسول الله صلي الله عليه و سلم لما حدثت» و في رواية الحاكم: «و لولا كرامة رسول الله صلي الله عليه و سلم لما حدثت».
و منها (حادي عشر) أخرج الامام أحمد في الفضائل عن علي بن زيد أن فتية من قريش خطبوا بنت سهيل بن عمرو، و خطبها الحسن بن علي، فشاورت أباهريرة، و كان لنا صديقا، فقال أبوهريرة: «رأيت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقبل فاه، فان استطعتي أن تقبلي مقبل رسول الله صلي الله عليه و سلم فافعلي، فتزوجته»، و منها (ثاني عشر) أخرج الامام أحمد و البخاري و مسلم عن أبي‌هريرة قال: ما رأيت حسن قط الا

[ صفحه 179]

و دمعت عيني، جلس النبي صلي الله عليه و سلم في المسجد و أنا معه، فقال ادعوا لي لكع أو أين لكع (أي الصغير) فجاء الحسن يشتد حتي أدخل يده في لحية النبي صلي الله عليه و سلم فوضع النبي صلي الله عليه و سلم فمه علي فمه أو فمه علي فيه، ثم قال: «اللهم اني أحبه فأحب من يحبه».
و منها (ثالث عشر) أخرج الحافظ ابن‌كثير بسنده عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: «من سره أن ينظر الي سيد شباب أهل الجنة، فلينظر الي الحسن بن علي»، و منها (رابع عشر) أخرج الحافظ ابن‌كثير بسنده عن عكرمة عن ابن‌عباس (و رواه الترمذي عن ابن‌عباس أيضا) قال: خرج رسول الله صلي الله عليه و سلم و هو حامل الحسن علي عاتقه، فقال له رجل: «يا غلام نعم المركب ركبت، فقال رسول الله صلي الله عليه و سلم و نعم الراكب هو»، و منها (خامس عشر) أخرج الحافظ ابن‌كثير بسنده عن عبدالرحمن أبي‌عوف الجرشي عن معاوية قال: «رأيت رسول الله صلي الله عليه و سلم يمص لسانه أو قال شفته، و يعني الحسن بن علي، و أنه لن يعذب لسان او شفتان يمصهما رسول الله صلي الله عليه و سلم».
و روي ابن‌عساكر عن عبدالرحمن بن عوف قال: قال عمرو بن العاص و أيوب الأعور السلمي لمعاوية: «ان الحسن بن علي رجل عي، فقال معاوية: لا تقولا ذلك، فان رسول الله صلي الله عليه و سلم قد تفل في فيه، و من تفل رسول الله صلي الله عليه و سلم في فيه، فليس بعي».
و منها (سادس عشر) أخرج البخاري عن أبي‌موسي قال: سمعت الحسن (البصري) يقول: استقبل الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: اني لأري كتائب لا تولي حتي تقتل أقرانها، فقال له معاوية، و كان و الله خير الرجلين، أي عمرو، ان قتل هؤلاء هؤلاء، و هؤلاء هؤلاء، من لي بأمور الناس، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم، فبعث اليه رجلين من قريش من بني عبدشمس، عبدالرحمن بن سمرة، و عبدالله بن عامر بن كريز، فقال اذهبا الي هذا الرجل، فاعرضا عليه و قولا له و اطلبا اليه، فقال لهم الحسن بن علي: انا بنوعبدالمطلب قد أصبنا من هذا المال، و ان هذه الأمة قد

[ صفحه 180]

عاثت في دمائها، قالا: فانه يعرض عليك كذا و كذا، و يطلب اليك و يسألك، قال فمن لي بهذا، قالا نحن لك به، فما سألهما و شيئا الا قالا: نحن لك به، فصالحه، قال الحسن (البصري) و لقد سمعت أبابكرة يقول: رأيت رسول الله صلي الله عليه و سلم علي المنبر، و الحسن بن علي الي جنبه، و هو يقبل علي الناس مرة، و علي أخري، و يقول: «ان ابني هذا سيد، و لعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»، و في رواية للبخاري: «و لعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين».
و منها (سابع عشر) أخرج الامام أحمد في مسنده عن أبي‌بكرة قال كان رسول الله صلي الله عليه و سلم يصلي بالناس، و كان الحسن بن علي يثب علي ظهره اذا سجد، ففعل ذلك غير مرة، قالوا له: و الله انك لتفعل لهذا شيئا ما رأيناك تفعله بأحد، قال المبارك، فذكر شيئا ثم قال: و ان ابني هذا سيد و سيصلح الله تبارك و تعالي به، فئتين من المسلمين، فقال الحسن (أي الحسن البصري) فوالله والله بعد أن ولي لم يهرق في خلافته مل‌ء محجمة دم»، و منها (ثامن عشر) أخرج الامام أحمد و في مسنده عن أبي‌بكرة أن رسول الله صلي الله عليه و سلم كان يصلي، فاذا سجد و ثب الحسن علي ظهره و علي عنقه، فيرفع رسول الله صلي الله عليه و سلم رفعا رقيقا لئلا يصرع، قال: فعل ذلك غير مرة، فلما قضي صلاته، قالوا يا رسول الله رأيناك صنعت بالحسن شيئا ما رأيناك صنعته، قال صلي الله عليه و سلم «انه ريحانتي من الدنيا، و ان ابني هذا سيد، و عسي الله تبارك و تعالي أن يصلح به فئتين من المسلمين».
و منها (تاسع عشر) روي الحاكم في المستدرك عن سعيد بن سعيد المقبري قال: كنا مع أبي‌هريرة، فجاء الحسن بن علي بن أبي‌طالب علينا فسلم، فرددنا عليه‌السلام، و لم يعلم به أبوهريرة فقلنا له: يا أباهريرة هذا الحسن بن علي قد سلم علينا، فلحقه و قال: و عليك السلام يا سيدي،ثم قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: «انه سيد»، و منها (عشرون) روي ابن‌عساكر عن أبي‌جعفر قال: «بينما الحسن مع رسول الله صلي الله عليه و سلم اذ عطش ظمأه، فطلب له النبي صلي الله عليه و سلم ماء فلم يجد، فأعطاه لسانه، فمصه حتي روي.»

[ صفحه 181]

و منها (واحد و عشرون) روي ابن‌مندة و أبونعيم و ابن‌عساكر، و رجاله ثقات، عن سودة بنت مسرح و الكندية قالت: كنت فيمن حضر فاطمة حين ضربها المخاض، فجاء النبي صلي الله عليه و سلم كيف هي؟ ابنتي فديتها، قلت: انها لتجهد يا رسول الله، قال: فاذا وضعت فلا تحدثي شيئا حتي تؤذنيني، وفي لفظ فلا تسبقيني به بشي‌ء، قالت فوضعته فسررته و لففته في خرقة صفراء، فجاء رسول الله صلي الله عليه و سلم فقال: ما فعلت ابنتي فديتها و ما حالها و كيف هي؟ فقلت يا رسول الله: وضعته و سررته و جعلته في خرقة صفراء، قال لقد عصيتني، قلت: أعوذ بالله من معصية الله و معصية رسوله، سررته يا رسول الله و لم أجد من ذلك بدا، قال: ائتني به، فأتيته به، فألقي عنه الخرقة الصفراء، و لفه في خرقة بيضاء، و تفل في فيه، و ألبأه بريقه، ثم قال: أدعي لي عليا، فدعوته فقال: ما سميته يا علي، قال: سميته جعفر يا رسول الله، قال: «لا، ولكنه حسن، و بعده حسين، و أنت أبوالحسن و الحسين».
و روي الحاكم في المستدرك عن عبدالله بن عبيد بن عمير قال: «لقد حج الحسن بن علي خمسا و عشرين حجة ماشيا، و ان النجائب لتقاد معه»، و روي الحاكم عن عمران بن عبدالله قال: رأي الحسن بن علي، فيما يري النائم، بين عينيه مكتوبا: قل هو الله أحد، فقصها علي سعيد بن المسيب فقال: ان صدقت رؤياك فقد حضر أجلك، قال: «فسم الحسن في تلك السنة و مات رحمة الله عليه».
و روي الخطيب و ابن‌عساكر عن ابن‌مسعود قال قال رسول الله صلي الله عليه و سلم «خير رجالكم علي، و خير شبابكم الحسن و الحسين، و خير نسائكم فاطمة».

فضائل الامامين الحسن و الحسين

هناك الكثير من الأحاديث النبوية التي قالها سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم في حق سبطيه الحسن و الحسين معا، منها (أولا) أخرج الترمذي عن عبدالرحمن بن أبي نم قال سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: «ان الحسن و الحسين هما ريحانتاي

[ صفحه 182]

في الدنيا»، و روي الذهبي عن أبي‌أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: دخلت علي رسول الله صلي الله عليه و سلم و الحسن و الحسين يلعبان علي صدره، فقلت يا رسول الله: أتحبهما، قال: «كيف لا أحبهما، و هما ريحانتاي في الدنيا».
و روي أبونعيم عن سعد بن مالك قال: دخلت علي النبي صلي الله عليه و سلم و الحسن و الحسين يلعبان علي ظهره، فقلت يا رسول الله: أتحبهما، فقال: «و ما لي لا أحبهما، و انهما ريحانتاي في الدنيا».
و روي البخاري في صحيحه عن ابن أبي‌نعم قال: سمعت عبدالله بن عمر، و سأله رجل عن المحرم، قال شعبة و أحسبه يقتل الذباب، فقال: أهل العراق يسألون عن قتل الذباب، و قد قتلوا ابن بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم و قال النبي صلي الله عليه و سلم، هما ريحانتاي في الدنيا» (يعني الحسن و الحسين).
و منها (ثانيا) أخرج الامام أحمد و الترمذي عن أنس بن مالك بسنده قال سئل رسول الله صلي الله عليه و سلم أي أهل البيت أحب اليك، قال: «الحسن و الحسين، و كان يقول لفاطمة: ادعي لي ابني فيشمهما و يضمهما اليه»، و أخرج الطبراني عن ابن‌مسعود عن النبي صلي الله عليه و سلم قال: «من أحبني فليحب هذين - يعني الحسن و الحسين»، و منها (ثالثا) أخرج الامام أحمد و الطبراني عن أبي‌هريرة قال: نظر رسول الله صلي الله عليه و سلم الي علي و الحسن و الحسين و فاطمة، صلوات الله عليهم، فقال: «أنا حرب لمن حاربكم، سلم لمن سالمكم» و في رواية لأحمد الترمذي عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال لعلي و فاطمة و الحسن و الحسين: «أنا حرب لمن حاربتم، سلم لمن سالمتم»، و منها (رابعا) روي الامام أحمد في المسند و الفضائل و الترمذي عن علي أن رسول الله صلي الله عليه و سلم أخذ بيد الحسن و الحسين، فقال: «من أحبني و أحب هذين و أباهما و أمهما، كان معي في درجتي يوم القيامة»، و منها (خامسا) أخرج ابن عساكر عن أنس عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال: «لا يقومن أحد من مجلسه، الا للحسن و الحسين أو ذريتهما».
و منها (سادسا) أخرج الحارث بن أبي‌أسامة عن الباقر رضي الله عنه قال «اصطرح الحسن و الحسين عند رسول الله صلي الله عليه و سلم فجعل رسول الله يقول: هي

[ صفحه 183]

حسن، فقالت فاطمة يا رسول الله: تعين الحسن كأنه أحب اليك من الحسين، قال صلي الله عليه و سلم ان جبريل يعين الحسين، أنا أحب أن أعين الحسن (رواه السيوطي في الخصائص) و منها (سابعا) أخرج الامام أحمد و البزار و أبوداود الطيالسي و أبويعلي و الطبراني، بطرق مختلفة، عن علي أنه قال: دخل علي رسول الله صلي الله عليه و سلم و أنا نائم علي المنامة، فاستسقي الحسن أو الحسين، قال: فقام النبي صلي الله عليه و سلم الي شاة لنا بكي‌ء فحلبها فدرت، فجاء الحسن فنحاه النبي صلي الله عليه و سلم فقالت فاطمة يا رسول الله، كأنه أحبهما اليك، قال لا، ولكنه استسقي قبله، ثم قال: أنا و اياك و هذان و هذا الراقد في مكان واحد يوم القيامة، و منها (ثامنا) أخرج ابن‌سعد عن علي أنه قال: خبرني رسول الله صلي الله عليه و سلم أن أول من يدخل الجنة، أنا و فاطمة و الحسن و الحسين، قلت يا رسول الله: فمحبونا، قال: «من ورائكم»، و منها (تاسعا) أخرج الطبراني في المعجم الكبير عن واثلة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: «اللهم انك جعلت صلواتك و رحمتك و مغفرتك و رضوانك علي ابراهيم و آل ابراهيم، اللهم انهم مني و أنا منهم، فاجعل صلواتك و رحمتك و مغفرتك و رضوانك علي وعيهم،»، قال «يعني عليا و فامطة و حسنا و حسينا».
و منها (عاشرا) أخرج الترمذي عن أسامة بن زيد قال: طرقت النبي ذات ليلة في بعض الحاجة، فخرج النبي صلي الله عليه و سلم و هو مشتمل علي شي‌ء لا أدري ما هو، فلما فرغت من حاجتي، قلت ما هذا الذي أنت مشتمل عليه، قال فكشفه فاذا حسن و حسين، عليهماالسلام، علي و ركيه، فقال: «هذان ابناي، و ابنا ابنتي، اللهم اني أحبهما فأحبهما، و أحب من يحبهما»، و منها (حادي عشر) أخرج الامام أحمد و ابن‌ماجة و الهيثمي عن أبي‌هريرة قال قال رسول الله صلي الله عليه و سلم «من أحبهما فقد أحبني، و من أبغضهما فقد أبغضني، يعني حسنا و حسينا»، و منها (ثاني عشر) أخرج الترمذي و الامام أحمد عن أبي‌سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: «الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة»، و روي ابن‌ماجة في السنن عن ابن‌عمر قال قال رسول الله صلي الله عليه و سلم «الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة، و أبوهما خير منهما» (رواه أيضا الحاكم في المستدرك)، و في

[ صفحه 184]

رواية لابن‌عساكر عن علي و ابن عمر عن النبي صلي الله عليه و سلم قال: «ابناي هذان الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة، و أبوهما خير منهما»، و أخرج الطبراني و أبونعيم في فضائل الصحابة عن فاطمة عن النبي صلي الله عليه و سلم قال: «ما من نبي الا و ولد الأنبياء غيري، و ان ابنيك سيدا شباب أهل الجنة، الا ابني الخالة، يحيي و عيسي».
و منها (ثالث عشر) أخرج الامام أحمد عن أبي‌سعيد الخدري قال قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة، و فاطمة سيدة نسائهم، الا ما كان لمريم بنت عمران»، و روي الخطيب و ابن‌عساكر عن ابن‌مسعود قال قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: «خير رجالكم علي، و خير شبابكم الحسن و الحسين، و خير نسائكم فاطمة».
و منها (رابع عشر) أخرج الامام أحمد، و الت مذي عن حذيفة قال: سألتني أمي منذ متي عهدك بالنبي صلي الله عليه و سلم قال فقلت لها: منذ كذا و كذا و كذا، قال فنالت مني و سبتني، قال فقلت لها: دعيني فاني آتي النبي صلي الله عليه و سلم فأصلي معه المغرب، ثم لا أدعه حتي يستغفر لي و لك، قال فأتيت النبي صلي الله عليه و سلم فصليت معه المغرب، فصلي النبي صلي الله عليه و سلم العشاء ثم انفتل فتبعته، فعرض له عارض فناجاه ثم ذهب فاتبعته فسمع صوتي فقال: من هذا، فقلت حذيفة، قال مالك فحدثته بالأمر، فقال غفر الله لك و لأمك، ثم قال: «أما رأيت العارض الذي عرض لي قبيل، قال قلت بلي، قال فهو ملك من الملائكة لم يهبط الأرض قبل هذه الليلة، فاستأذن ربه أن يسلم علي و يبشرني أن الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة، أن فاطمة سيدة نساء اهل الجنة رضي الله عنهم»، و في رواية للامام أحمد عن الشعبي أن هذا الملك هو جبريل، قال رسول الله صلي الله عليه و سلم «فان جبريل جاء يبشرني أن الحسن و الحسين سيدا أهل الجنة».
و منها (خامس عشر) أخرج الامام أحمد في المسند و الفضائل، و أبوداود و الترمذي و النسائي و ابن‌ماجة، و ابن‌حبان بسنده عن عبدالله بن بريدة، قال سمعت أبا بريدة يقول: كان رسول الله صلي الله عليه و سلم يخطبنا فجاء الحسن و الحسين،

[ صفحه 185]

و عليهما قميصان أحمران يمشيان و يعثران، فنزل رسول الله صلي الله عليه و سلم من المنبر، فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: صدق الله و رسوله «انما أموالكم و أولادكم فتنة» نظرت الي هذين الصبيين يمشيان و يعثران، فلم أصبر حتي قطعت حديثي و رفعتهما»، و منها (سادس عشر) أخرج الامام أحمد و الترمذي عن ابن‌عباس قال: كان رسول الله صلي الله عليه و سلم يعوذ حسنا و حسينا فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان و هامة، و من كل عين لأمة، ثم يقول: «هكذا كان ابراهيم عليه‌السلام، يعوذ اسماعيل و اسحاق، عليهماالسلام»، و منها (سابع عشر) أخرج الطبراني في الأوسط، و الهيثمي عن فاطمة ابنة رسول الله صلي الله عليه و سلم أنها أتت بالحسن و الحسين الي رسول الله صلي الله عليه و سلم في شكواه التي توفي فيها، فقالت يا رسول الله: هذان ابناك فورثهما شيئا، فقال: «أما حسن فله هيبتي و سؤددي، و أما الحسين فله جرأتي وجودي»، و روي الطبري مثله أيضا بلفظ «و أما حسين فان له حزامتي وجودي».
و منها (ثامن عشر) أخرج الامام مسلم في صحيحه في باب فضائل أهل بيت النبي صلي الله عليه و سلم عن صفية بنت شيبة، قالت، قالت عائشة: خرج النبي صلي الله عليه و سلم غداة، و عليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه،ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال «انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا»، و منها (تاسع عشر) أخرج الامام أحمد في المسند و الفضائل و ابن‌جرير في تفسيره و الترمذي و الحاكم و السيوطي في تفسيره و الهيثمي في مجمع الزوائد، بطرق كثيرة (و الرواية هنا لأحمد في الفضائل) عن شداد أبي‌عمار، قال دخلت علي واثلة بن الأسقع، و عنده قوم فذكروا عليا فشتموه فشتمته معهم، قال لي: لم شتمت هذا الرجل، قلت رأيت القوم شتموه فشتمته معهم، فقال ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله صلي الله عليه و سلم قلت بلي، فقال أتيت فاطمة أسألها عن علي، فقالت توجه الي رسول الله صلي الله عليه و سلم فجلست أنتظره حتي جاء رسول الله صلي الله عليه و سلم و معه علي و حسن و حسين، آخذا كل واحد منهما بيده حتي دخل، فأدني عليا و فاطمة

[ صفحه 186]

فأجلسهما بين يديه، و أجلس حسنا و حسينا، كل واحد منهما علي فخذه، ثم لف عليهم ثوبا أو قال كساء، ثم تلا هذه الآية (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا) ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي، و أهل بيتي أحق».
و منها (عشرون) أخرج البزار و أبويعلي عن عبدالله بن مسعود قال: كان رسول الله صلي الله عليه و سلم يصلي، فاذا سجد و ثب الحسن و الحسين علي ظهره، فاذا أرادوا أن يمنعوهما أشار اليهم أن دعوهما، فاذا قضي الصلاة وضعهما في حجره، و قال: «من أحبني فليحب هذين»، و منها (واحد و عشرون) روي أبويعلي بسنده عن أنس قال: كان رسول الله صلي الله عليه و سلم يسجد،، فيجي‌ء الحسن و الحسين فيركب ظهره، فيطيل السجود، فيقال يا نبي الله: أطلت السجود، فيقول: «ارتحلني ابني فكرهت أن أعجله»، و روي النسائي في السنن عن عبدالله بن شداد رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلي الله عليه و سلم في احدي صلاتي العشي، و هو حامل حسنا أو حسينا، فتقدم النبي صلي الله عليه و سلم فوضعه ثم كبر للصلاة فصلي، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي فاذا الصبي علي ظهر رسول الله صلي الله عليه و سلم و هو ساجد، فرجعت الي سجودي، فلما قضي رسول الله صلي الله عليه و سلم الصلاة، قال الناس: يا رسول الله صلي الله عليه و سلم انك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتي ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحي اليك قال: «كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتي يقضي حاجته».
و منها (اثنان و عشرون) أخرج الامام أحمد و البزار و الهيثمي عن أبي‌هريرة قال: كنا نصلي مع رسول الله صلي الله عليه و سلم العشاء، فاذا سجد و ثب الحسن و الحسين علي ظهره، فاذا رفع رأسه أخذهما بيده من خلفه أخذا رقيقا و يضعهما علي الأرض، فاذا عاد عادا حتي قضي صلاته أقعدهما علي فخذيه، قال فقمت اليه فقلت يا رسول الله: أردهما، فبرقت برقة، فقال لهما: الحقا بأمكما، قال: «فمكث ضؤها (يعني البرقة) حتي دخلا».
و منها (ثلاثة و عشرون) أخرج الامام أحمد في المسند و الفضائل،

[ صفحه 187]

و البيهقي و في سننه و الحاكم في المستدرك و الطبراني و البزار بسنده عن يعلي بن مرة، أنه جاء حسن و حسين يستبقان الي رسول الله صلي الله عليه و سلم فضمهما اليه و قال: ان الولد مبخلة و مجبنة، و منها (أربعة و عشرون) أخرج الامام أحمد في الفضائل و أبونعيم في الدلائل و الواحدي في أسباب النزول و السيوطي في الدر المنثور و الحاكم في المستدرك، بطرق مختلفة، عن يونس عن الحسن قال: جاء راهبا نجران الي النبي صلي الله عليه و سلم فقال لهما رسول الله صلي الله عليه و سلم أسلما تسليما، فقالا قد أسلمنا قبلك، فقال النبي صلي الله عليه و سلم كذبتما، منعكما من الاسلام ثلاث: سجودكما للصليب، و قولكما اتخذ الله ولدا، و شربكما الخمر، فقالا فيما تقول في عيسي، قال فسكت النبي صلي الله عليه و سلم و نزل القرآن (ذلك نتلوه عليك من الآيات...) الي قوله تعالي (فنجعل لعنة الله علي الكاذبين) (آل عمران 61 - 58) قال فدعاهما رسول الله صلي الله عليه و سلم الي الملاعنة قال و جاء بالحسن و الحسين و فاطمة أهله و ولده، قال فلما خرجا من عنده، قال أحدهما لصاحبه: أقرر بالجزية و لا تلاعنه، قال فرجعا، فقالا: نقر بالجزية و لا نلاعنك، قال «فأقر بالجزية»، و منها (خمسة و عشرون) أخرج مسلم في صحيحه أنه لما نزلت آية المباهلة (آية 61 آل عمران) «فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا نرح أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و أنفسنا و أنفسكم و ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علي الكاذبين» دعا رسول الله صلي الله عليه و سلم عليا و فاطمة و الحسن و الحسين، رضي الله عنهم، و قال: «اللهم هؤلاء أهلي» (و روي ذلك القاضي عياض في الشفاء و مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي‌وقاص، و رواه ابن‌مردوية و الحاكم و الطيالسي عن الشعبي مرسلا، و رواه الزمخشري في الكشاف و غيره)، و منها (ستة و عشرون) روي الامام أحمد و ابن‌ماجة و الحاكم و الهيثمي و البزار عنذ أبي‌هريرة قال: خرج علينا رسول الله صلي الله عليه و سلم و معه حسن و حسين، هذا علي عاتقه، و هذا علي عاتقه، و هو يلثم هذا مرة، و يلثم هذا مرة، حتي انتهي الينا، فقال له رجل يا رسول الله: انك لتحبهما، فقال صلي الله عليه و سلم «نعم، من أحبهما فقد أحبني،، و من أبغضهما فقد أبغضني».
و منها (سبعة و عشرون) أخرج الطبراني و ابن‌عساكر بسنده عن النبي صلي الله عليه و سلم

[ صفحه 188]

أنه قال: «ألا أخبركم بخير الناس جدا و جدة، أالا أخبركم بخير الناس عما و عمة، ألا أخبركم بخير الناس خالا و خالة، و ألا أخبركم بخير الناس و أبا و أما الحسن و الحسين، جدهما رسول الله صلي الله عليه و سلم، وجدتهما خديجة، و أمهما فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم و أبوهما علي بن أبي‌طالب، و عمهما جعفر بن أبي‌طالب، و خالهما القاسم بن رسول الله صلي الله عليه و سلم و خالاتهما زينب و رقية و أم‌كلثوم بنات رسول الله صلي الله عليه و سلم، وجدهما في الجنة، و أبوهما في الجنة، و أمهما في الجنة، و عمهما في الجنة و عمتهما و خالاتهما في الجنة، و هما في الجنة، و من أحبهما في الجنة».
و منها (ثمانية و عشرون) روي ابن‌حبان في صحيحه عن أسامة قال قال رسول الله صلي الله عليه و سلم (عن الحسن و الحسين) هذان ابناي، و ابنا ابنتي، «اللهم اني أحبهما فأحبهما، و أحب من يحبهما» و منها (تسعة و عشرون) أخرج الطبراني في الأوسط عن عقبة عن النبي صلي الله عليه و سلم الحسن و الحسين سيفا العرش، و ليسا بمعلقين»، و منها (ثلاثون) أخرج الطبراني عن فاطمة، رضي الله عنها، عن أبيها النبي صلي الله عليه و سلم «كل بني‌آدم ينتمون الي عصبة، الا ولد فاطمة، فأنا وليهم، و أنا عصبتهم»، و في رواية للطبراني عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه و سلم: كل بني أنثي، فان عصبتهم لأبيهم، ما خلا ولد فاطمة، فاني انا عصبتهم، و انا أبوهم.»
و منها (واحد و ثلاثون) أخرج أبويعلي عن جابر قال قال رسول الله صلي الله عليه و سلم «من سره أن ينظر الي سيد شباب أهل الجنة، فلينظر الي الحسين بن علي»، و في رواية للحافظ ابن‌كثير عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلي الله عليه و سلم من سره أن ينظر الي سيد شباب أهل الجنة، فلينظر الي الحسن بن علي».
و منها (اثنان و ثلاثون) أخرج ابن‌عساكر عن سلمة عن النبي صلي الله عليه و سلم: «ويح الفراخ فراخ آل محمد من خليفة مستخلف مترف»، و أخرج الطبراني عن زيد بن أرقم مرفوعا: «اللهم اني استودعكهما و صالح المؤمنين، يعني الحسن و الحسين»، و منها (ثلاثة و ثلاثون) أخرج الطبراني عن سلمان عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال: «من أحب الحسن و الحسين أحببته، و من أحببته أحبه الله، و من أحبه الله

[ صفحه 189]

أدخله جنات النعيم، و من أبغضهما أو بغي عليهما، أبغضته، و من أبغضته أبغضه الله، و من أبغضه الله أدخله جهنم، و له عذاب مقيم».
و منها (أربعة و ثلاثون) روي ابن‌مردوية عن علي عن النبي صلي الله عليه و سلم قال: في الجنة درجة تدعي الوسيلة، فاذا سألتم الله، فسلو الي الوسيلة، قالوا: يا رسول الله من يسكن معك فيها، قال: «علي و فاطمة و الحسن و الحسين»، و منها (خمسة وثلاثون) روي أبويعلي و أبوشاهين في السنة عن عمر قال: رأيت الحسن و الحسين علي عاتقي النبي صلي الله عليه و سلم فقلت: نعم الفرس تحتكما، فقال النبي صلي الله عليه و سلم «نعم الفارسان هما»، و منها (ستة و ثلاثون) عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: جعل عمر بن خطاب عطاء الحسن و الحسين مثل عطاء أبيهما (رواه أبوعبيد في الأموال و ابن‌سعد)و منها (سبعة و ثلاثون) ما رواه ابن‌سعد في الطبقات عن جعفر بن محمد (أي جعفر الصادق شيخ علماء الأمة ابن‌تيمية) عن أبيه محمد الباقر، قال: قدم علي عمر حلل من اليمن فكسا الناس، فراحوا في الحلل، و هو بين القبر و المنبر جالس، و الناس يأتونه فيسلمون عليه و يدعون له، فخرج الحسن و الحسين من بيت أمهما فاطمة يتخطيان الناس، و ليس عليهما من تلك شي‌ء، و عمر قاطب صار بين عينيه، ثم قال: و الله ما هنأ لي ما كسوتكم، قالوا: يا أميرالمؤمنين، كسوت رعيتك فأحسنت، قال: «من أجل الغلامين يتخطيان الناس، و ليس عليهما منها شي‌ء، كبرت عنهما و صغرا عنها، ثم كتب الي اليمن أن ابعث بحلتين لحسن و حسين و عجل، فبعث اليه بحلتين فكساهما».
و منها (ثمانية و ثلاثون) روي الطبراني في الكبير عن سلمان عن البراء بن عازب قال: كنا حول النبي صلي الله عليه و سلم فجاءت أم‌أيمن فقالت: يا رسول الله، لقد ضل الحسن و الحسين، و ذلك راد النهار، يقول ارتفاع النهار، فقال رسول الله صلي الله عليه و سلم: قوموا فاطلبوا ابني، و أخذ كل رجل تجاه وجهه، و أخذت نحو النبي صلي الله عليه و سلم فلم يزل حتي أتي سفح جبل، و اذا الحسن و الحسين يلتزق كل واحد منهما صاحبه، و اذا شجاع قائم علي ذنبه فيخرج من فيه من شبه النار، فأسرع اليه رسول الله صلي الله عليه و سلم

[ صفحه 190]

فالتفت مخاطبا لرسول الله صلي الله عليه و سلم، ثم انساب فدخل بعض الأجحرة، ثم أتاهما فأفرق بينهم، و مسح وجوهما و قال: بأبي و أمي أنتما ما أكرمكما علي الله ثم حمل أحدهما علي عاتقه الأيمن، و الآخر علي عاتقه الأيسر، فقلت: طوبي لكما، نعم المطية مطيتكما، فقال رسول الله صلي الله عليه و سلم: «نعم الراكبان هما، و أبوهما خير منهما».
و منهم (تسعة و ثلاثون) روي ابن‌عساكر و ابن‌عدي في الكامل عن جابر قال: دخلت علي رسول الله صلي الله عليه و سلم و هو يمشي علي أربع، و علي ظهره الحسن و الحسين، و هو يقول: «نعم الجمل جملكما، و نعم العدلان أنتما»، و في رواية أخري لابن‌عساكر عن جابر قال: دخلت علي النبي صلي الله عليه و سلم و هو حامل الحسن و الحسين علي ظهره، و هو يمشي بهما، فقلت: نعم الجمل جملكما، فقال رسول الله صلي الله عليه و سلم «و نعم الراكبان».
و منها (أربعون) روي ابن‌عساكر عن ابن‌عباس قال: جاء العباس يعود النبي صلي الله عليه و سلم في مرضه، فرفعه فأجلسه علي السرير، فقال له رسول الله صلي الله عليه و سلم رفعك الله يا عم، ثم قال العباس: هذا علي يستأذن، فدخل و دخل معه الحسن و الحسين، فقال له العباس: هؤلاء ولدك يا رسول الله، قال: و هم ولدك يا عم، فقال: أتحبهم، فقال «أحبك الله كما أحببتهما».
و آخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين
و الصلاة و السلام علي المبعوث رحمة للعالمين
سيدنا و مولانا و جدنا محمد رسول الله
و علي آله الطاهرين الطيبين

پاورقي

[1] روي عن الامام الباقر أنه قال: ان لكل قوم نجية، و ان لكل قوم بني‌أمية عمر بن عبدالعزيز، و أنه يبعث يوم القيامة أمة وحده، و قالت فاطمة الامام الحسين: لو كان بقي لنا عمر بن عبدالعزيز، ما احتجنا بعده الي شي‌ء، و من المعروف أن عمر بن عبدالعزيز هو الذي أبطل البدعة الخسيسة التي ابتدعها معاوية بن أبي‌سفيان، و بسب الامام علي بن أبي‌طالب، كرم الله وجهه، علي منابر المسلمين، و أنها سارت في بلاد الاسلام حتي وقحت، فكشفت عن وجهها، ثم سارت تطأ كل المنابر، و تصرخ في كل الآذان، و لم تستح فصعدت في مسجد رسول الله صلي الله عليه و سلم و بين أهله و علي منبره، منذ أن ابتدعها معاوية، و أصدر أمره الي الولاة أن يجعلوها تقليدا في خطب الجمعة، ثم قدم معاوية الخطبة علي صلاة العيد، لأن الناس كانوا يكرهون سماع اللعن، فكانوا اذا أدوا الصلاة خرجوا من المسجد، فألزمهم بتقديم الخطبة، و سماع اللعن (انظر التفصيلان في مكانهما من هذه الدراسة، و كتاب عبدالعزيز سيد الأهل: الخليفة الزاهد - عمر بن عبدالعزيز - المملكة العربية السعودية - ط 1402 ص 215 - 205) ثم ان عمر بن عبدالعزيز هو الذي رد فدك الي ولد فاطمة عليهاالسلام، لما رد الي موالي الامام علي حقوقهم، التي لغيرهم من المسلمين.
[2] انظر عباس العقاد: معاوية بن أبي‌سفيان في الميزان ص 193 - 190.
[3] انظر النص الأصلي (ابن أبي‌الحديد: شرح نهج‌البلاغة 6: 294 - 285 - بيروت 1965). و انظر: الطاهر عبدالسلام: حصن السلام ص 111 - 99 - الدار البيضاء 1978.
[4] تذهب كثير من الروايات الي أن ابن‌عباس (اعني عبدالله بن عباس) كان في الشام عند موت الامام الحسن، و أن معاوية لما أتاه موت الحسن قال لابن‌عباس: ان حسنا مات، قال: انا لله و انا اليه راجعون، علي عظم الخطب، و جليل المصاب، أما و الله يا معاوية، لئن كان الحسن مات فما ينسي‌ء موته في أجلك، و لا يسد جسمه حفرتك، و لقد مضي الي خير، و بقيت علي شر، قال: لا أحسبه عد خلف الا صبية صغارا، قال: كلنا كان صغيرا فكبر، قال معاوية: بخ بخ يا ابن‌عباس، أصبحت سيد قومك، قال: «أما ما أبقي الله أباعبدالله الحسين بن رسول الله، فلا»، و قد أشرنا الي ذلك من قبل، و الي فرح معاوية بموت الامام الحسن و تكبيره، فارجع اليه.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.