مع المصطفي عليه الصلاة والسلام‌

اشارة

‏سرشناسه : بنت الشاطي عائشه
Bint al - Shati
‏عنوان و نام پديدآور : مع المصطفي عليه الصلاة والسلام عائشة عبدالرحمن
‏مشخصات نشر : بيروت : دارالكتاب العربي ، ۱۴۰۳ق = ۱۹۸۳م = ۱۳۶۲.
‏مشخصات ظاهري : ص ۳۳۵
‏وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي
‏يادداشت : كتابنامه به‌صورت زيرنويس
‏موضوع : محمد (ص ، پيامبر اسلام ۵۳ قبل از هجرت - ۱۱ق -- سرگذشتنامه
‏موضوع : اسلام -- تاريخ -- از آغاز تا ق‌۴۱
‏رده بندي كنگره : BP۲۲/۹/ع‌۲۲۷م‌۶
‏شماره كتابشناسي ملي : م‌۸۱-۲۰۹۱۱

هذا الكتاب

مع المصطفي عشت من يوم مولدي، آيات معجزته كانت أول ما يصل إلي سمعي مع نور الفجر، يتلوها والدي التقي العابد، في تهجده وصلاته. وأحاديثه الشريفة كانت مع آيات القرآن، الزاد الروحي الذي تعيش به بيئتي المتدينة، من قبل أن أعرف الدنيا. وسيرته الزكية العطرة، كانت أنس دنيانا، من قبل أن تحل عني تمائم الصبا. والمدائح النبوية والاناشيد الصوفية، كانت أول ما لمس وجداني وأرهف إحساسي، من يوم بدأت خطوتي الاولي علي درب الحياة. ومع المصطفي عشت وأنا أستقرئ ما وعي التاريخ من تراجم سيدات بيت النبوة، فأجتلي ملامح شخصيته صبيا في (أم النبي) [ صفحه 10] وزوجا في (نساء النبي) وأبا في (بنات النبي). وأتمثل حياته صلي الله عليه وسلم في بيته، حيث تلاقت البشرية بالنبوة، واتصلت الارض بالسماء. ثم، مع المصطفي نبيا رسولا، أمضيت حياتي العلمية منذ استشرف بي أستاذي (أمين الخولي) إلي الافق الرحب الذي طمحت إليه في دراساتي القرآنية، وقاد خطاي علي الطريق الصعب لاجتلي أسرار البيان المعجز. وإذ بسر الله وأعان، فقدمت إلي المكتبة الاسلامية محاولتي المنهجية في (التفسير البياني للقرآن الكريم) ودراستي القرآنية (مقال في الانسان) وأتممت دراستي لما شغلني أعواما من (الاعجاز البياني للقرآن). استروحت إلي صحبة المصطفي عليه الصلاة والسلام، فإذا بي في فيض من سناه، قد طويت أبعاد المكان وآماد الزمان، إلي مسرح الاحداث الكبار التي بدأ بها عصر جديد للانسان، وعشت بوجداني وفكري مع المصطفي من مهد مولده إلي غار حراء، ثم إلي مثواه في المدينة المنورة. ثم لم أشأ، بل لم أستطع، أن أنصرف عن هذه الصحبة مع المصطفي، فكأني إذ أعكف علي كتابتها أطيل مدي أنسي بها، وألتمس من مشاركة أصدقائي القراء، ما يضاعف لي عطاءها السخي. [ صفحه 11] وما أقدمه إلي قومي من حديث هذه الرحلة (مع المصطفي) عليه الصلاة والسلام، ليس التاريخ وليس السيرة، وانما هي مشاهد مما اجتليت سيطرت علي وجداني، ومواقف شدت إليها تأملي بجاذبية آسرة، وارتبط فيها الماضي الحي بالحاضر المشهود، فما تتجلي لنا رؤيا الامس إلا في غمرة من ظلال اليوم، ولا نستروح عطر التاريخ مع المصطفي، إلا مشوبا بأنفاس الواقع الكابي الذي تعيشه أمة الاسلام، في صراعها مع أعداء النور وأولياء الشيطان: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا). صدق الله العظيم [ صفحه 15]

اليتيم الهاشمي

ام القري، والبيت العتيق

(وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام ابراهيم مصلي، وعهدنا إلي إبرهيم واسمعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود. (صدق الله العظيم) تاريخ الاديان يعي تماما، ما سبق الاسلام من بوادر آذنت بوشك فجر جديد لا بد أن ينسخ ما تراكم علي أفق الدنيا من ظلمات ليل طال... ولكنه قد يضع هذا السؤال: لماذا كانت مكة أرضا لمبعث خاتم الانبياء، وقد كانت مركز [ صفحه 16] الوثنية العربية، وليست في ظاهر الحال أولي من بلاد أخري كانت مهدا للانبياء، ومبعثا لرسالات دينية سبقت الاسلام ؟ المؤمنون لا يترددون في أن يتلوا كلمته تعالي: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) ثم لا يجدون حرجا في أن يتدبروا، كما أمرهم دينهم، حكمته تعالي في سننه، وأن ينظروا في واقع الحياة قبل المبعث، وموضع منزل الوحي في عالم كان، حينذاك، يريد أن ينقض ! وتاريخنا الديني يمكن أن يعطينا ما ندرك منه الحكمة في اصطفاء مكة لمبعث خاتم المرسلين. وقد كانت من قديم العصور والآباد حرما مقدسا، وعلي أرضها قام أول بيت عبد فيه الله سبحانه علي الارض. ولا ندري تماما، الظروف التي تداعي فيها بنيان ذلك البيت العتيق، ونفذت إليه ظلال وثنية دنست حرمه، حتي تلقي (ابرهيم الخليل) أمر ربه بأن يرفع، هو وولده اسماعيل، القواعد من البيت ويطهراه للطائفين والعاكفين والركع السجود. وبأمر الله تعالي، أذن ابرهيم في الناس بالحج إلي البيت العتيق، فأتوه رجالا وعلي كل ضامر يأتين من كل فج عميق. ومن ذلك الزمن الموغل في الماضي السحيق، رسخت مكانة مكة في تاريخنا الديني. ولكن الوثنية عادت فتسللت إلي حرمها، مع أوثان وأصنام كانت في أول الامر رموزا للخالق المعبود، ثم فقدت رمزيتها وصارت معبودات. [ صفحه 17] وظل لمكة مع ذلك، مركزها الديني لا تنازعها فيه بلدة أخري. وبقيت مثابة حج العرب في الجاهلية الوثنية، علي مر الحقب والادهار. وكأنما كان البيت العتيق فيها، ذكري شاخصة من عهد إيمانها القديم، يحمي بقية من الوعي كامنة في العمق الغائر من ضمير الجاهليين، عبدة الاوثان والكواكب: (ولئن سألتهم من خلق السموات والارض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله). ومع رسوخ الوثنية العربية في مكة إبان الجاهلية، لم تستطع قط أن تطوي تماما ذكريات ماضيها الديني وتلقي به في متاهة النسيان. وكان الزمن كلما تقدم بها هزتها رجفة الوعي فخامرها ريب في تلك الاوثان التي تكدست في حرم بيتها العتيق، لم تنس بها خالقها، وإن أشركتها معه، سبحانه، في التعبد. وكانت القبائل العربية تحج إلي الكعبة في الموسم، وتطيف كل قبيلة بوثنها ضارعة ملبية، فتذكر الله من حيث تدري أو لا تدري، وترفع إليه الضراعة والنجوي، إما بمنطق الشرك كتلبية أهل فدك، وفيها أصنام: لبيك إن الحمد لك - والملك لا شريك لك إلا شريك هو لك - تملكه وما ملك أبو بنات بفدك أو علي وجه الملاذ إليه وحده في الحج، وترك أصنامهم، في [ صفحه 18] منازل القبيلة، ابتغاء رضوانه، كتلبية (همدان) في الجاهلية لبيك رب همدان - من شاحط ومن دان جئناك نبغي الاحسان - بكل حرف مذعان نطوي إليك الغيطان - نأمل فضل الغفران لبيك مع كل قبيل لبوك - همدان أبناء الملوك تدعوك قد تركوا أصنامهم وانتابوك - فاسمع دعاء في جميع الاملوك [1] ومؤرخو الاسلام يذكرون ما راج في المنطقة قبل المبعث، من إرهاصات عن نبي آن مبعثه، ولا نجادل من يستريب من أبناء عصرنا في هذه المرويات ويحملها علي منحولات الرواة وإضافات السمار، غير أن الواقع التاريخي يؤكد أنها، علي أي وجه رضيناه لها وحملناه عليها، تكشف عن تطلع الحياة قبيل الاسلام، إلي تحول جديد وحاسم. وتاريخ الاديان العام، يمكن أن يضيف إضاءة أخري إلي ما قدمه مؤرخونا عن أرض المبعث: الجزيرة العربية عرفت بصورة أو بأخري، كل الاديان والعقائد التي كانت البشرية تعتنقها قبل الاسلام. عرفت المسيحية في نجران والحيرة وغسان وتخوم الحبشة، [ صفحه 19] واليهودية في يثرب وما حولها من مستعمرات يهود شمال الحجاز. وعرفت الصابئة عبدة النجوم والكواكب، وسمعت عن المجوسية بحكم اتصال إمارة المناذرة العربية بالفرس... وتلاقت هذه الاديان الوافدة، مع الوثنية العربية، ومع البقية من دين ابرهيم قاومت الضياع قرونا وأدهارا، فتمثلت في قلة من الحنفاء رفضوا عبادة الاوثان في أخريات الجاهلية، وتجد أخبارهم بتفصيل، في الجزء الاول من (السيرة النبوية لابن هشام). والتقاء هذه الاديان والعبادات في المنطقة الواحدة، يمنحها فرصة التنبه إلي ما بينها من مظاهر التفاوت والخلاف، ومثار الخصومة والتنازع. كما أن توزع أهل الجزيرة العربية بين هاتيك الاديان، في فترة من حياتهم كانت تقتضي التجمع والترابط لمواجهة التهديد الخارجي من فرس وروم وحبشة، أرهف حسهم لما داخل تدين كل طائفة من شوائب الانحراف والتعصب. فإن لم يصل بهم إلي مستوي التمييز، فأدني أثره أن يجعل المنطقة في حيرة وتردد، لا تدري أي تلك الطوائف علي حق وأيها علي باطل. ولم تكن الفطرة العربية، قد أفسدها ما تسلط علي الفرس والروم من ترف باذخ وانحلال منهك، ولا قهرها ما تسلط علي شعوب المناطق حولها - في الشام ومصر وما وراءها من أقطار الشمال الافريقي - من باهظ الاحتلال الذي جثم عليها قرابة ألف عام، لم تنج منه سوي [ صفحه 20] الجزيرة العربية التي اعتصمت بمنعتها الطبيعية، وحمتها بواديها الجرداء من مطامع الغزاة. وإنما ألقت الوثنية غشاوة علي بصيرة العربي، فتابع آباءه علي دينهم تعصبا وتوقيرا، لا يريد أن يتصور أن أسلافه الكرام كانوا جميعا علي سفه وضلال. وتراث الشعر الجاهلي لقرنين قبل الاسلام، يؤكد مع ذلك، ما كان يجتاح الوجدان العربي من قلق وحيرة، وتطلع إلي نور جديد يمزق الغشاوة ويسقط أقنعة الزيف عن عقم الوثنية ومهانة الشرك وخلل الاوضاع. لا في ديوان المتحنفين فحسب، ولكن في ديوان تلك الفترة بوجه عام. وفيها كان (قس بن ساعدة) يقف في سوق عكاظ بالموسم، فيهز الضمير العربي بحكمته ومواعظه. وفيها كانت آفاق الجزيرة ترجع ما يأتيها من أسواق أم القري في مواسم الحج، مثل قول (زهير بن أبي سلمي): فلا تكتمن الله ما في نفوسكم - ليخفي، ومهما يكتم الله يعلم يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر - ليوم الحساب أو يعجل فينقم وأعلم علم اليوم والامس قبله - ولكنني عن علم ما في غد عم [ صفحه 21] ومن هاب أسباب المنايا ينلنه - ولو رام أسباب السماء بسلم ومن يوف لا يذمم ومن يهد قلبه - إلي مطمئن البر لا يتجمجم ومهما تكن عند امرئ من خليقة - وإن خالها تخفي علي الناس تعلم ألا ليت شعري هل يري الناس ما أري - من الامر أو يبدو لهم ما بدا ليا بدا لي أن الله حق فزادني - إلي الحق تقوي الله ما كان باديا وأني متي أهبط من الارض تلعة - أجد أثرا قبلي، جديدا وباليا أراني إذا ما بت بت علي هوي - وأني إذا أصبحت أصبحت غاديا إلي حفرة أهدي إليها مقيمة - يحث إليها سائق من ورائيا كأني وقد خلفت تسعين حجة - خلعت بها عن منكبي ردائيا أراني إذا ما شئت لاقيت آية - تذكرني بعد الذي كنت ناسيا [ صفحه 22] ألم تر أن الله أهلك تبعا - وأهلك لقمان بن عاد وعاديا وأهلك ذا القرنين من قبل ما تري - وفرعون جبارا طغي والنجاشيا الا لا أري ذا إمة أصبحت به - فتتركه الايام وهي كما هيا ألم تر للنعمان كان بنجوة - من الشر لو ان امرءا كان ناجيا فغير منه ملك عشرين حجة - من الدهر يوم واحد كان غاويا فلم أر مسلوبا له مثل ملكه - أقل صديقا باذلا أو مواسيا وقول (النابغة الذبياني) في اعتذاره للنعمان بن المنذر: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة - وليس وراء الله للمرء مذهب لئن كنت قد بلغت عني وشاية - لمبلغك الواشي أغش وأكذب وقول (لبيد بن ربيعة): بلينا وما تبلي النجوم الطوالع - وتبقي الديار بعدنا والمصانع [ صفحه 23] وما المرء إلا كالشهاب وضوئه - يحور رمادا بعد إذ هو ساطع وما المال والاهلون إلا ودائع - ولا بد يوما أن ترد الودائع وكانت حرمة البيت العتيق تفرض علي العرب جميعا حرمة حماه في أم القري، ورسخ في اعتقادهم (أن مكة لا تقر فيها ظلما ولا بغيا، ولا يبغي فيها أحد علي أحد إلا أخرجته، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك مكانه. فيقال إنها ما سميت ببكة، إلا لانها كانت تبك - تكسر - أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها شيئا) . وبلغ من حرمة مكة عند القوم، أن تناقلت الاجيال إلي عصر المبعث ما تذكره السيدة عائشة أم المؤمنين فتقول: (ما زلنا نسمع أن أسافا ونائلة - من أصنام العرب في الجاهلية - كانا رجلا وامرأة من جرهم، أحدثا في الكعبة فمسخهما الله تعالي حجرين) [2] وكانت لمكة أشهر حرم لا يحل فيها قتال، وشهدت قبيل المبعث (حلف الفضول) في دار ابن جدعان، حيث تحالفت عشائر قريش [ صفحه 24] - وفيها الوظائف الدينية بالحرم - ألا يوجد بمكة مظلوم من أهلها أو غيرهم، إلا كانت معه علي ظالمه حتي ترد مظلمته. في هذه البلدة المرهفة الحس الديني، المضناة بالقلق والحيرة، المتطلعة إلي حياة جديدة، كان مولد محمد بن عبدالله ومبعث نبي الاسلام عليه الصلاة والسلام. [ صفحه 25]

المولد

(إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد).محمد بن عبدالله في مكة كان مولده، وضعته أمه بشرا سويا في دار أبيه (عبدالله بن عبدالمطلب الهاشمي) بجوار البيت العتيق. ونور الفجر يبشر بصبح جديد، والدنيا تتفتح لموكب الشروق، وتستقبل مع أنفاس الصبح أنفاس ألوف وألوف من بني البشر، ولدتهم أمهاتهم من مختلف الاجناس وشتي البقاع، في تلك الليلة القمراء من ربيع الاول. [ صفحه 26] منهم من ولدوا في قصور مصر والشام وفارس والروم. ومنهم من ولدوا في مجاهل القفر ونجوع البوادي وأدغال الغابات وكهوف الجبال.. تباعدت بهم الاصول والانساب. وتفاوتت الالوان والاجناس، وتناءت الطبقات وجمعتهم بنوتهم للبشر، وتماثلت فيهم آية الخلق، وتشابهت مخاطر الحمل وآلام المخاض ولم تر فيهم الفطرة الانسانية إلا انتصارا لارادة البقاء وامتدادا للحياة، علي ما بينهم من تفاوت بعيد. وما كان أحد ليلتفت إلي وليد منهم، وضعته أمه يتيما في حي بني هاشم بجوار الحرم المكي، في تلك الليلة التي بوركت به، لولا أن حفت بمولده ظروف غير مألوفة، جعلت أم القري تتلقي البشري بكثير من التأمل والتفكير، ثم تحرص علي أن تستوعب كل ما حف بها أو لابسها من ظروف، وأن تتابع سير الحياة بهذا الوليد إلي أن بلغ أشده واصطفي خاتما للانبياء. وحين آن للتاريخ العام أن ينصرف عن أحداث الدنيا في فجر المبعث ليرقب هذا المصطفي للنبوة، وجد في ذاكرة أم القري ما [ صفحه 27] يملا صفحات المرحلة ما بين مولده ومبعثه. الليلة من بدئها كانت مقمرة واعدة. ينيرها قمر أوشك أن يكتمل بدرا وتؤنسها أطياف ورؤي، ظلت تتجلي لآمنة بنت وهب، طوال شهور حملها، فتعينها علي احتمال تجربة المخاض. فمنذ حملت بهذا الجنين، وهي لا تكف عن التفكير فيما كان من أمرها وأمره، بعد أن مات أبوه (عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم) في طريق أوبته إليها من رحلة صيف إلي بلاد الشام. ولم يكن حين ودعها، قبل بضعة أشهر، يتوجس خيفة من عائق يطيل أمد غيابه في رحلته، عن ميعادها الموقوت. ولا كانت (آمنة) في هواجس وحشتها لفراقه، تتوقع أمرا يحبسه عنها بعد انتهاء الرحلة. في عنفوان قوته وفتوة شبابه ونضرة حيويته، مضي مع قافلة قريش إلي الشام. ومكة ما تزال تتجاوب بأصداء الاحتفال المشهود بعرسه، وتجتر مشاهد القصة المثيرة لافتدائه من الذبح قربانا لرب الكعبة، وفاء بنذر أبيه عبدالمطلب. كان عبدالمطلب منذ ولي شرف السقاية لوفود الحجيج إلي البيت العتيق، يشغله هم التفكير فيما يتجشم ويتجشمون في الموسم، [ صفحه 28] من شح الماء في الوادي الاجرد غير ذي الزرع. وذكر بئر زمزم التي أنقذت جده (اسماعيل بن ابرهيم الخليل) من الهلاك ظمأ، وجذبت إلي مكة القوافل من العرب، فعمرت بهم بعد خراب. وقد طمرت زمزم رمال الزمن، فلو أن عبدالمطلب عثر علي موضعها، لكانت لسقاية الحجيج موردا مباركا. وقوي تعلقه بالامل في الاهتداء إلي موضعها، حتي صار مشغلة تفكيره ليل نهار. وخايلته الرؤي في منامه، تبشره بتحقيق أمله، وتوجه خطاه نحو موضع بعينه، بين وثني (أساف ونائلة). وغدا ذات صباح بمعوله إلي الموضع الذي وجهته إليه رؤياه، ومعه ابنه (الحارث) ليس له يومئذ ولد غيره. فلما هم بالحفر تصدت له قريش تأبي أن يحفر بين وثنيها، وتعجب لجرأته عليها وليس له غير ولد واحد. يومها، نذر عبدالمطلب: لئن ولد له عشرة أبناء ثم بلغوا معه بحيث يمنعونه، لينحرن أحدهم عند الكعبة قربانا. وتوافي بنوه عشرة، وكان أصغرهم (عبدالله) فتلبث أبوهم زمانا حتي بلغوا، ودعاهم إلي الوفاء بنذره، وخرج بهم إلي الكعبة وقد حمل كل منهم قدحا عليه اسمه. وقدموها إلي صاحب القداح هناك، وأبوهم ينقل بصره بينهم، فتستقر نظراته لحظة علي أصغرهم (عبدالله) فيفيض قلبه رقة ورحمة، ويتمني أن يخطئه السهم. [ صفحه 29] حتي ضرب صاحب القداح علي بني عبدالمطلب، فخرج القدح علي (عبدالله) وأبوه قائم يدعو في ضراعة وخشوع. ولم يملك الشيخ ان يتراجع، بل أمسك بيد صغيره الغالي وتقدم يريد الوفاء بنذره. ثم لم يكد يدني الشفرة من منحره حتي تكاثرت عليه قريش، وقد هالها أن يضع عبدالمطلب بتضحية ولده، تقليدا يؤثر ويتبع، (فما بقاء الناس علي هذا ؟. وما زالت به حتي قبل أن يستشيروا في أمره عرافة لهم بخيبر. سألتهم العرافة بعد أن سمعت القصة: - كم الدية فيكم ؟ قالوا: - عشرة من الابل. فكانت مشورتها أن يرجعوا إلي الكعبة فيضربوا القداح علي عبد الله وعلي عشر من الابل، فان خرج القدح عليه زادوا عشرا ثم عشرا حتي يرضي ربهم، وإن خرجت علي الابل نحروها عنه. وعادوا ففعلوا، فما زالوا يزيدون الابل عشرا بعد عشر، والقدح يخرج علي عبدالله. إلي أن بلغت الابل مائة، وخرج القدح لاول مرة عليها. هتف الجمع من قريش: - قد انتهي رضي ربك يا عبدالمطلب. لكنه، لصدق إيمانه، أبي إلا أن يكرر التجربة ثلاث مرات، والقدح يخرج علي الابل. وعندئذ اطمأن قلبه، ونحرت الابل [ صفحه 30] المائة ثم تركت في حمي الحرم، لا يصد عنها انسان ولا سبع [3] وانصرف عبد المطلب بولده عبدالله، فمضي إلي سيد بني زهرة نسبا وشرفا (وهب بن عبد مناف بن زهرة) [4] فخطب إليه ابنته (آمنة) عروسا لعبد الله المفتدي. وكانت قصة الفداء قد هزت قلوب المكيين تعلقا بالشاب الهاشمي الذي مست الشفرة منحره وهو صابر مستسلم، حتي إذا لم يبق بينه وبين الذبح إلا أن تتحرك الشفرة، أنقذه رب الكعبة بأغلي فدية عرفها العرب. وأضيئت المشاعل في أم القري، وسهرت مسامر البلدة المباركة تسترجع ذكري قصة الذبيح الاول (اسماعيل بن ابراهيم) حين مضي به أبوه إلي قمة الجبل لكي يذبحه طاعة وتعبدا، ففداه ربه (بذبح عظيم) بعد ذلك البلاء المبين [5] إنها القصة التي تناقلتها العرب العدنانية، بنو اسماعيل، طبقة بعد طبقة وجيلا من بعد جيل، تعود فتتكرر علي ساحة البيت العتيق الذي رفع القواعد منه ابرهيم واسماعيل، وطهراه للطائفين والعاكفين والركع والسجود. [ صفحه 31] والمفتدي هذه المرة الاخري: حفيد أصيل من ذرية اسماعيل، جيرة الحرم المكي. وغير مستبعد أن يكون من السمار من ربطوا في ليلة العرس بين الذبيحين (اسماعيل بن ابرهيم، وعبد الله بن عبدالمطلب) وأن يتوقع ذوو الحس المرهف منهم والرؤية الوجدانية الصافية، أمرا جليلا لعبد الله، كذلك الذي كان لجده الاعلي اسماعيل، بعد الفداء. وغير مستغرب كذلك، في مثل هذا المناخ الديني للبلد العتيق، أن تهفو قلوب نساء من قريش إلي (عبدالله) وأن يلمحن علي وجهه مخايل غده الموعود، فيعرضن له في طريقه من الكعبة إلي بيت سيد بني زهرة، وكل منهن تحاول أن تهبه نفسها أو أن تظفر به زوجا. عرضت له بنت نوفل الاسدية القرشية، أخت نوفل، فقالت له: - لك مثل الابل التي نحرت عنك اليوم إن قبلت أن أهب نفسي لك. ودعته (فاطمة بنت مر) إلي نكاحها، وكانت من أجمل النساء وأعفهن، وفي بعض الروايات أنها كانت كاهنة من خثعم [6] وكذلك عرضت (ليلي العدوية) نفسها عليه، وهي تتحدث عن النور الذي في وجهه. وفي الخبر أنه مر بهن بعد أن تزوج (آمنة بنت وهب) فانصرفن عنه زاهدات فيه، فعجب لامرهن وبدا له أن يسألهن فيه، فكان جواب بنت نوفل: [ صفحه 32] (فارقك النور الذي كان معك بالامس فليس لي بك اليوم حاجة). وقالت فاطمة بنت مر: (قد كان ذلك مرة فاليوم لا. والله ما أنا بصاحبة ريبة، ولكني رأيت في وجهك نورا فأردت أن يكون لي، فأبي الله إلا أن يجعله حيث أراد). وردت ليلي العدوية: (مررت بي وبين عينيك غرة بيضاء فدعوتك فأبيت علي، ودخلت علي آمنة فذهبت بها) [7] وقد وصلت أخبارهن وأقوالهن إلي مسمع عروسه (آمنة بنت وهب) وبلغ من تأثرها بها، بعد الذي كان من قصة الفداء، أن رأت في منامها ليلة عرسها، كأن شعاعا من النور يشع من كيانها اللطيف فيضئ الدنيا حولها، وسمعت هاتفا يبشرها بأنها حملت بسيد البشر. وحين ودعها عبدالله بعد أشهر في رحلته إلي الشام، كان لها من رؤياها ما يؤنس وحشة فراق لم يدر العروسان أنه فراق لا لقاء بعده، ولا خطر لهما علي بال أنها رحلة بغير مآب. في طريق الاياب ألمت بعبد الله وعكة طارئة، فتخلف عن قافلة قريش في دار أخواله بني النجار بيثرب، ريثما يسترد صحته وعافيته. فلم يلبث إلا قليلا حتي غاله الموت، ودفن هناك في ثري يثرب. [ صفحه 33] ولم يقبل فيه هذه المرة أي فداء. ولبست مكة ثوب الحداد علي الفتي الهاشمي، وضحلت من النواح عليه حلوق بحت من الهتاف له حين احتفلت أم القري بفدائه وعرسه، قبل شهرين أو ثلاثة. وترملت زهرة قريش: آمنة بنت وهب، ولما يزل في كفيها خضاب العرس. وانفض المأتم، لكن القوم لم يفرغوا من صاحبه الثاوي في لحده بعيدا في ثري يثرب. من كان يظن، حين نحرت عنه الابل المائة، أن المنايا واقفة بالمرصاد لهذا المفتدي ؟ وخيف علي آمنة من وطأة الحزن، وقد رفضت أن تقبل في فقيدها العزاء. ولبثت مكة شهرا وبعض شهر، ترقب في قلق إلي أين ينتهي الحزن الساحق بالارملة العروس.. حتي كانت ليلة من ليالي شوال، أحاط فيها العواد من آل هاشم وبني زهرة بفراش آمنة، وهي لا تفتأ تسأل كل عائد منهم وعائدة: - فيم كان فداؤه والموت منه وشيك ؟ وفيم كان العرس المشهود ويد القدر تخط له لحده بيثرب، والمنايا تحث خطاها نحوه ؟ وأغفت مجهدة من إعياء، وعيون الساهرين عليها. ولم تطل غفوتها، أيقظتها منها انتفاضة مرهفة، وقد أحست [ صفحه 34] خفقة حياة جديدة في أعماقها، فأشرق وجهها بنور الالهام، وكأنها عرفت سر الذي كان: إن عبدالله لم يفتد من الذبح عبثا. كانت مهلة، ما بين فدائه وموته، أودع فيها عروسه آمنة هذا الجنين الذي تحس نبض حياته في رحمها، والذي من أجله يجب أن تتجلد وتعيش. ومن تلك اللحظة، أنزل الله سكينته عليها فطوت حزنها وشجنها، وبدأت تفكر في هذا الجنين الذي يعطي حادث الفداء تفسيره ومنطقه، ويجعل لوجودها بعد عبدالله، قيمة ومعني. مضت فترة الحمل والجزيرة العربية تموج بإرهاصات عن نبي منتظر حان زمانه، وما أرتاب في أن آمنة ألقت إليها كل سمعها وفكرها، فما نسيت قط أن زوجها هو الذي استأثر من دون بني عبدالمطلب، صفوة العرب العدنانية، بمجد الفداء الذي لم يتكرر منذ افتدي جدهم الاعلي اسماعيل بن ابرهيم الخليل. وفي سمعها كذلك، صدي لم يغب من حكاية النساء اللائي عرضن أنفسهن علي عبدالله يوم فدائه - وفيهن الكاهنة من خثعم، وأخت ورقة الذي قرأ الكتب وبشر بنبي منتظر - وكلامهن عن النور الذي انتقل من عبدالله إثر زواجه، والغرة التي ذهبت بها بنت وهب فلم تدع لغيرها من النساء في عبدالله مأربا. [ صفحه 35] ثم هي قبل هذا كله، سيدة من صميم البيت القرشي الذي يحظي بالسيادة في أم القري، وينفرد بشرف الوظائف الدينية الكبري في مثابة حج العرب ومهوي أفئدتهم. ومن شأن النساء في هذه البيئة أن يرجون للاجنة في بطونهن، مجدا لم يكن لاحد من قبل. وعلي مدي شهور الحمل، لم تغب عن آمنة رؤاها فيما سيكون لابن عبدالله من شأن عظيم، ولم تتخل عنها هواتف البشري بأمومتها لهذا اليتيم الهاشمي الذي لم يزل ينتقل من الاصلاب الطيبة إلي الارحام الطاهرة مصفي مهذبا، وتلقي ميراث آبائه الهاشميين وأخواله الزهريين، واجتمع له عز المنافين (عبد مناف بن قصي) جده الثالث لابيه، و (عبد مناف بن زهرة بن كلاب) جد أمه. [8] وكتاب السيرة النبوية ومؤرخو الاسلام الاولون، ينقلون أخبار تلك الهواتف والرؤي عمن لا يتهمون من الاخباريين والرواة. وقد يشكك فيها بعض المحدثين، وقد يرفضها آخرون منهم رفضا باتا، فلا نجاول هؤلاء ولا هؤلاء، إلا أن يتكلموا باسم العصرية والعلم فيعدوها من (الخرافات التي لا يقبلها عقل) كما قال (بودلي) في كتابه (الرسول) [9] . [ صفحه 36] ومن عجب أن ينكروا علي آمنة، أم محمد، ما يجوز علي سائر الامهات من البشر، وكأن ليس من حقها أن تستشرف رؤاها لجنينها، حفيد المنافين وابن الذبيح المفتدي، إلي أقصي ما تسعف عليه بيئة يعرف تاريخ العرب عزها وشرفها وعراقتها، وظروف فريدة حفت بهذا الجنين لم تعرف دنياه لها مثيلا. وإنما الذي يرفضه العقل حقا، هو أن نجرد (آمنة) من بشريتها وأماني أمومتها، وكل الحوامل قبلها وبعدها عرفن ويعرفن الهواتف والرؤي في فترات الحمل، وإنما يتفاوت مدي الطموح فيها، بقدر ما تسعف عليه ظروف كل حامل، وتحتمله بيئتها وتستشرف إليه آمالها. من نبض حياته في كيانها، كانت تستمد طاقة الحياة. ومن هواتف البشري في تأملاتها ورؤاها، كانت تجد ما يؤنس وحشتها ويهون عليها تجربة الحمل الاولي. حتي إذا أوشك حملها أن يتم أجله، روعت كما روعت الجزيرة كلها، بغزو (أبرهة الحبشي) لام القري، يريد أن يصرف عنها حج العرب، إلي كنيسة بناها في (صنعاء) وجلب إليها (الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب، من بقايا قصر بلقيس، وكان علي فراسخ من موضع الكنيسة، وفيه البقايا من آثار مملكة سبأ. ونصب أبرهة الاشرم في كنيسته صلبانا من الذهب والفضة، [ صفحه 37] ومنابر من العاج والآبنس. وكتب إلي مولاه نجاشي الحبشة: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لمليك كان قبلك. ولست نمنته حتي أصرف إليها حج العرب) [10] وإذ رأي أمير مكة (عبدالمطلب بن هاشم) ألا قبل لاهلها بالجيش الزاحف، رأي أن يتحرز بهم في شعف الجبال والشعاب تخوفا من معرة الجيش الذي جاء به (أبرهة) من اليمن. وشق علي (آمنة) أن تضع وليدها بعيدا عن الحرم المكي، وفي غير دار أبيه عبدالله بن عبدالمطلب. ولاذت بإيمانها بأن الله مانع بيته، فليس لطاغية الاحباش إليه من سبيل. فقر عزمها علي ألا تبرح مكانها في جوار الحرم، إلي أن يقضي الله أمره. وفيما كانت تحسب حسابا لما يتوقع من مجري الاحداث، جاءتها البشري أن الله سلط علي الغزاة أصحاب الفيل نقمته، فانتشر فيهم وباء غريب حاصد، رمتهم بجراثيمه المهلكة طير أبابيل (فتركهم كعصف مأكول). ولم تكن أرض العرب قد شهدت وباء الحصبة والجدري قبل ذلك العام المشهود، فيما روي (ابن هشام) في السيرة النبوية عن (ابن اسحاق). (وقد ولي الاحباش مذعورين يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك. وأبرهة معهم ينتثر جسمه وتسقط أنامله أنملة أنملة) [11] . [ صفحه 38] وأقبلت قريش علي كعبتها المقدسة تطيف بها ملبية عابدة، وتجاوبت آفاق البلد الامين بدعوات المصلين وتلبيات المحتفلين وأناشيد الشعراء. وآمنة في بيت عبدالله، تصغي إلي ما يبلغ سمعها من دعاء وهتاف، فتحس سكينة وغبطة: أن استجاب الله لها فلن تضع وليدها بعيدا عن الحرم الآمن. بعد فترة قصيرة من هلاك أبرهة عام الفيل، ذاعت في أم القري بشري المولد. حدد قوم هذه الفترة بخمسين يوما (وهو الاكثر والاشهر) علي ما نقل (السهيلي) في (الروض الانف) [12] واكتفي آخرون بأن المولد كان في عام الفيل. جاءها المخاض في وقت السحر من تلك الليلة المقمرة، فأرهف شعورها بالترقب والتطلع، مع إحساس برهبة من تجربة الوضع التي طالما سمعت الامهات يتحدثن عن آلامها ومخاطرها. لكنها ما لبثت أن صرفت بالها كله إلي ما يغمر الدنيا حولها من نور بازغ، وصرفت سمعها كله إلي هواتف البشري، فتجلدت للحظة الحاسمة. وما كاد نور الفجر يهل علي الافق، حتي كانت قد وضعت وليدها كما تضع كل والدة من البشر. [ صفحه 39] وتألقت دنياها نورا وأنسا، وهي ترنو إلي وليدها المبارك، وتذكر به أباه الحبيب الذي أودعها إياه ثم ودعها ورحل. وكانت مكة حين ذاعت فيها بشري مولد ابن عبدالله، ما تزال تحتفل بما أتاح الله لها من النجاة من أصحاب الفيل، من حيث لا تحتسب. فرأي القوم في مولد محمد آنذاك، آية تذكر بأخري، يوم اختير أبوه عبدالله قربانا لرب الكعبة، ثم افتدي بالابل المائة. وإن لم يتوقع أحد في مكة، أو في الدنيا كلها يومئذ، أن تلك الليلة المقمرة الغراء من ربيع الاول عام الفيل، التي ولد فيها ألوف وألوف من شتي الاجناس والالوان ومختلف الملل والمذاهب ومتفاوت الطبقات والدرجات، قد خلدت وبوركت بمولد يتيم هاشمي في أم القري، ابن امرأة من قريش تأكل القديد، يصطفي للنبوة فتكون رسالته ختام الاديان، وتغدو أقواله وأفعاله سنة وشريعة لملايين الناس علي امتداد الزمان والمكان. [ صفحه 40]

من مهد مولده إلي غار حراء

(والضحي - والليل إذا سجي - ما ودعك ربك وما قلي - وللآخرة خير لك من الاولي - ولسوف يعطيك ربك فترضي - ألم يجدك يتيما فآوي - ووجدك ضالا فهدي - ووجدك عائلا فأغني - فأما اليتيم فلا تقهر - وأما السائل فلا تنهر - وأما بنعمة ربك فحدث). (صدق الله العظيم) ومضي التاريخ لم يطل الوقوف بمكة مهد مولده. شغلته عنها وعن يتيمها الهاشمي، أحداث جسام كانت تجري [ صفحه 41] علي مسرح الدنيا في الثلث الاخير من القرن السادس لميلاد المسيح عليه السلام. وراح يرصد نذر الانهيار في عالم يريد أن ينقص. ويتابع الجولات الاخيرة للصراع بين قطبي ذلك العالم القديم، حيث كانت دولتا الفرس والرومان تخوضان حربا طاحنة، علي مراكز السلطة والنفوذ. وإحدي الدولتين قد أعشت نار المجوسية بصرها وبصيرتها، فما عاد يعنيها سوي أن تجعل من ساحة الشرق كله معبدا لتلك النار، تصلاها شعوب المنطقة بالعسف والاكراه. والاخري قد أثخنتها جراح الحرب وهدتها أمراض الشيخوخة، واستنزفت بقايا قوتها فتنة الصراع الطائفي بين القائلين بناسوتية السيد المسيح والقائلين بلاهوتيته، فتهاوي النسر الروماني علي الارض يجثم علي أنفاس خلق الله، ويتسلط علي مستعمراته في الشرق الاوسط - والشمال الافريقي بالارهاب والطغيان، في محاولة يائسة تستبقي له من الهيبة ما يستر وهنه، ويعوضه عن قواه المستنزفة. حتي بلغ ذلك اليتيم الهاشمي المكي الاربعين من عمره، وتلقي رسالة الوحي في شهر رمضان بعد ستة قرون ونحو عشر سنين من ميلاد المسيح عليه السلام، فالتفت التاريخ إلي مكة، وتوقف برهة يجمع كل ما وعت ذاكرتها عن ذلك المصطفي وآبائه وعشيرته، وعاد يصحبه من مهد مولده في دار أبيه عبدالله بجوار البيت العتيق. [ صفحه 42] ولم تكن ذاكرة مكة قد أفلتت شيئا ذا بال، من أخبار يتيمها الهاشمي من مولده إلي مبعثه، وقد تعلقت به تتابع خطاه علي درب الحياة. وهي التي أعطت التاريخ ما احتاج إليه بعد المبعث، من أخبار سيرته في المراحل الاولي من حياته، إذ تفد المراضع من بني سعد بن بكر ليحملن رضعاء قريش بعيدا عن جو مكة القاسي، ويعرض عليهن (محمد بن عبدالله) فيزهدهن فيه يتمه، وأن لم يكن ذا ثراء يكافئ نسبه الشريف في البيت الهاشمي القرشي، وقد مات أبوه في مقتبل العمر قبل أن يتأثل لنفسه مالا، لم يترك لولده اليتيم وأمه، سوي جاريته الحبشية (بركة، أم أيمن) وقطعة يسيرة من الابل والغنم. وأحزن (آمنة) أن تري المراضع يوشكن أن يعدن إلي البادية زاهدات في وليدها الشريف اليتيم، مؤثرات عليه أطفال الاحياء ممن يرجي منهم الخير الوافر. غير أن واحدة منهن: (حليمة بنت أبي ذؤيب السعدي، وزوج الحارث بن عبدالعزي، من سعد بن بكر بن هوازن)، رجعت إلي أم محمد تطلبه رضيعا لها، بعد أن انصرفت عنه أول ذاك النهار. وحفظت مكة من قصة الرضاعة، ما نقله التاريخ بعد المبعث، من رواية عبدالله بن جعفر بن أبي طالب: (كانت حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية أم رسول الله صلي الله عليه وسلم التي أرضعته، تحدث أنها خرجت من بلدها، بادية بني [ صفحه 43] سعد، مع زوجها وابن لها صغير ترضعه، في نسوة من بني سعد بن بكر تلتمس الرضعاء. قالت: وذلك في سنة شهباء لم تبق لنا شيئا. فخرجت علي أتان لي - عجفاء - معنا شارف لنا - ناقة مسنة - والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلتنا أجمع من صبينا الذي معنا، من بكائه من الجوع، وما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه. ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج. فخرجت علي أتاني تلك، حتي قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها محمد - رسول الله صلي الله عليه وسلم - فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم. وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول: يتيم ؟ وما عسي أن تصنع أمه وجده ؟ (فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا، غيري. فلما أجمعنا علي الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لاكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا. والله لاذهبن إلي ذلك اليتيم فلآخذنه. (قال: لا عليك أن تفعلي، عسي الله أن يجعل لنا فيه بركة. (فذهبت إليه فأخذته، وما حملني علي أخذه إلا أني لم أجد غيره. فلما أخذته رجعت به إلي رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتي روي، وشرب معه أخوه حتي روي. ثم ناما وما كنا ننام معه قبل ذلك. وقام زوجي إلي شارفنا تلك فإذا هي حائل، فحلب منها ما شرب، وشربت معه حتي انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة. [ صفحه 44] (يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة، لقد أخذت نسمة مباركة. فقلت: والله إني لارجو ذلك. ثم خرجنا وركبت أتاني وحملت محمدا عليها معي، فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شئ من حمرهم، حتي إن صواحبي ليقلن لي: - يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك، اربعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها ؟ فأقول لهن: بلي والله، إنها لهي هي. فيقلن: والله إن لها لشأنا. (ثم قدمنا منازلنا، من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها. فكانت غنمي تروح علي، حين قدمنا بمحمد معنا، شباعا لبنا فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان غيرنا قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع. حتي كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب ! فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعا لبنا. فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير، حتي مضت سنتاه وفصلته). وتحفظ مكة للتاريخ من أخبار صباه، رحلته مع أمه إلي يثرب في السادسة من عمره: كانت مشوقة إلي زيارة قبر والده الثاوي هناك، وقد طال عليها الانتظار ريثما جاوز صغيرها مرحلة الطفولة الغضة، [ صفحه 45] ليحتمل مشقة الرحلة، وفي يثرب تعرف إلي أخواله بني النجار وانطلق مع لداته من صبيتهم في دروب المدينة التي ستكون دار هجرته. وأمضت أمه أيامها علي قبر الحبيب، تبث طيفه أشجانها ومواجدها ونجواها، وتتزود من ثراه لفراق قد يطول. وفي طريق العودة إلي مكة، ألمت بها وعكة طارئة لم تطل: انطفأت فيها الحياة بين يدي صغيرها اليتيم، وعلي مرأي منه أضجعوها في قبر حفروه لها بقرية (الابواء) وهالوا عليها الرمال. واستأنف سيره، مع بركة، إلي مكة محزونا مضاعف اليتم، ليروع بعد قليل بموت جده عبدالمطلب الذي كان له أبا. وينتقل إلي دار عمه (أبي طالب) فيجد فيه العوض عن جده وأبيه، ولا عوض عن الام ! وتمضي الاعوام وقلبه ينزع نحو مرقدها الاخير بالابواء، ولم يستطع ضجيج الحياة في أم القري أن ينسيه مشهد موتها الفاجع، أو يبعد عن مسمعه حشرجة احتضارها في جوف الفلاة. ويبلغ مع عمه مبلغ السعي، فيصحبه معه في رحلة قريش إلي الشام، ثم يقترح عليه بعدها أن يخرج إلي الشام في مال (السيدة خديجة بنت خويلد) فتبدأ مرحلة جديدة من حياة الشاب الهاشمي، تملا أعوامه ما بين الخامسة والعشرين، والاربعين، بنعمة الزوجية السعيدة الهانئة، وتقر عيناه بثمرتها المباركة: زينب ورقية وأم كلثوم، وفاطمة، والقاسم وعبد الله. [ صفحه 46] وأرخي الزمن للزوجين السعيدين خمسة عشر عاما، ارتوي فيها محمد من نبع الحنان معوضا حرمان ماض جاف ظامئ، ومتزودا لغد مقبل، حافل بالجهاد والشواغل الجسام. ووعت مكة من أخبار تلك المرحلة، مشهد محمد بن عبدالله إذ يدخل البيت العتيق ذات يوم، وهو في نحو الخامسة والثلاثين من عمره، فإذا الاحياء من قريش هناك في ساحة الحرم، قد احتدمت بينهم خصومة أنذرت بشر: كانت الكعبة، قبل ذلك اليوم، قد مستها شرارة تطايرت من مجمرة إحدي النساء، فأحرقت ستائرها وأوهت بنيانها. ووقفت قريش تجاه حرمها الاقدس مكتوفة الايدي لا تدري ماذا تصنع، حتي شاع خبر عن سفينة رومية جنحت إلي جدة، فسعي إليها رجال من قريش، وعادوا بأخشاب السفينة، ومعهم رجل قبطي كان فيها، نجار بناء. وتم الاستعداد لتجديد الكعبة، ولكن قريشا عادت فتهيبت أن تهدم بقايا البناء القديم. حتي قام (الوليد بن المغيرة المخزومي) فأخذ المعول وقال: (اللهم لم نزغ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير). ثم أهوي بالمعول والقوم ينظرون إليه مرتاعين، خائفين عليه وعلي أنفسهم جميعا. فلما لم يصبه سوء، أبوا إلا أن يتربصوا ليلتهم تلك ليروا عاقبة ما كان. وأصبح (الوليد) بخير لم يمسسه سوء، فهدم وهدم الناس معه. [ صفحه 47] وتنافست القبائل في العمل، وشارك (محمد) فيه فكان ينقل الحجارة مع الناقلين، حتي إذا تم البناء، اختلفت أحياء قريش، فيمن يكون له شرف رفع الحجر الاسود إلي موضعه، ومكثت علي الخصومة أربع ليال أو خمسا، ونذر الخطر تشتد منذرة بحرب، لولا أن اقترح عليهم (أبو أمية بن المغيرة المخزومي) - وهو يومئذ أسن قريش، أن يحكموا بينهم أول من يدخل من باب المسجد الحرام. فقبلوا، وتعلقت عيونهم بالباب، فكان محمد بن عبدالله أول من دخل. هتفوا جميعا حين رأوه: (هذا الامين، هذا محمد بن عبدالله الهاشمي، رضينا بحكمه). وحدثوه عما اشتجر بينهم من خلاف، فطلب ثوبا ثم تناول الحجر الاسود فوضعه بيده في الثوب وقال: (لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا). ولما بلغوا موضع الحجر، وضعه محمد بيده، نقلا من الثوب. ثم آب إلي بيته، فكان أول ما استقبله هناك، بشري مولد ابنته فاطمة، فاقترن مولدها بنجاة قريش، علي يد الامين، مما كان يخشي عليها من صدام وحرب [13] بعد ذلك المشهد في البيت العتيق، يرهف التاريخ سمعه مستوعبا [ صفحه 48] أخبار مكة عن (محمد) قبيل بلوغه الاربعين من عمره، ويحدق في آثار خطاه ما بين بيته في جوار الحرم، وغار حراء بظاهر أم القري، حيث اعتاد الامين أن يعتزل الناس ليخلو إلي تأملاته، بعيدا عن ضجيج المجتمع وصخب الزحام. وآن للتاريخ أن يمضي مع المصطفي في عصر المبعث، علي معبر التحول الخطير ما بين ليل الجاهلية وفجر الاسلام.. [ صفحه 51]

مع المصطفي...في دار مبعثه

مع المصطفي في ليلة القدر

(سلام هي حتي مطلع الفجر) غشي الكون ليل ثقيل، ولف أم القري صمت مكدود لا يكاد يسمع فيه غير أنفاس الليل مختلطة بهمهمة صلوات وثنية، كانت لا تزال تتردد في البيت العتيق. وقمر رمضان قد تواري واحتجب، فليس علي الافق المعتم سوي ضوء شاحب تكاد تحجبه عن مكة جبالها الصخرية التي تبدو كأنها كتل ماردة من ظلمات متكاتفة متراكمة.. ونامت الدنيا، لا تلقي بالا إلي رجل من بني هاشم، ابن امرأة من قريش تأكل القديد، قد أوي إلي غار هناك مستغرقا في تأمله، يلتمس في العتمة الداجية شعاعا من نور الحق، وينشد في خلوته أنس الهدي وراحة اليقين، وخواطره تحوم حول البيت العتيق الذي [ صفحه 52] رفع ابرهيم القواعد منه واسماعيل وطهراه للطائفين والعاكفين والركع السجود، فلم يلبث أن صار مع الزمن مثوي لاوثان ممسوخة شتي، لكل قبيلة من العرب وثنها تحج إليه وتطيف به، وترفع إليه الدعاء وتقدم القرابين.. وغير بعيد من غار حراء، هجعت مكة تجتر ذكريات مجدها الديني الغابر طوته وثنية عمياء، وتساورها من حين إلي حين رجفة من قلق الوعي، لا تلبث أن تهمد تحت وطأة الكابوس الجاثم، لا تحسب حسابا لهذا المختلي في غار حراء، وقد ألفت أن تراه ينسحب من زحام المجتمع المكي، عازفا عن تلك الاوثان التي يعبدها قومه، لانهم وجدوا آباءهم لها عابدين. وماذا علي القوم أن عزف محمد بن عبدالله عن أوثانهم وأبي أن يعبدها ؟ كذلك فعل نفر غيره من الحنفاء، ليس عددهم بالذي يدخل في الحساب بزيادة أو نقصان، في الحشود من الحجيج الذين ينثالون إلي مكة من كل فج عميق، ليطيفوا بأوثانهم في البيت العتيق ويؤدوا طقوس عبادتهم جيلا بعد جيل.. وأوغل الليل قبل أن يطلع فجر هذه الليلة من رمضان، وينشر نوره البهي علي القمم والسفوح والاودية والقيعان، فيضئ الظلمة الداجية. ومع نور الفجر الوليد من الليلة الغراء، تجلي الوحي علي المختلي في الغار، وألقي إليه الكلمة: (اقرأ). [ صفحه 53] وما كان محمد بقارئ، وما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه. (اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الانسان من علق. اقرأ وربك الاكرم، الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم). وبدأ تاريخ جديد: الرجل الذي سري في الليل إلي غار حراء، علي مألوف عادته منذ أنكر موضع الاصنام في البيت العتيق، وأيقن أن حياة الناس لا يمكن أن تمضي هكذا علي سفه وضلال، خرج مع الفجر من الغار، نبيا مبعوثا بختام الرسالات. والكلمات الاولي التي تلقاها في تلك الليلة من وحي ربه، كانت بداية كتاب معجز، وآية نبي بشر، ولواء عقيدة وجهت التاريخ وحررت الانسان، وصنعت أمة وقادت حضارة. خرج المصطفي من الغار، واتجهت به خطاه نحو بيته، والكون من حوله ساج خاشع، وعلي الافق الاعلي نور الفجر الجديد ينسخ ظلمات ليل طال، ويوشح البيت العتيق بسني وضاء. يكشف عما تكدس في رحابه من أصنام وأوثان، فتبدو علي حقيقتها العارية، ممسوخة بلهاء. وكان لها من ظلام الليل ستر كثيف أصم، يخدع البصر ويزيف الرؤية.. [ صفحه 54] النور ملء قلبه وبصيرته، والكلمات ملء فكره ومسمعه. ولكنه في حيرة من أمره، يعييه أن يستوعب السر الاعظم الذي تجلي له، ويأخذه من جلاله ما يشبه الدوار، فيكاد لفرط دهشته وعجبه وانبهاره، لا يدري ما إذا كان في وعي يقظته أم تلك رؤيا بصيرة أرهفها طول التأمل في آيات القدرة، وطول التطلع إلي اجتلاء سر هذا الكون وخالقه ؟ وأحس وطأة العبء الثقيل تجهده وترهقه، فما بلغ بيته حتي بدا مكدودا مرتعدا شاحبا، كأنه عائد من سفر شاق طويل. ولمحها هناك في انتظاره: (خديجة) التي كانت له علي مدي خمس عشرة سنة زوجا وأما، وكانت له منذ تزوجها ملاذا وسكنا. ودون تفكير أو تردد ألفي نفسه يفضي إليها بما رأي وما سمع، وهو يحدق في ملامحها إذ تصغي إليه بسمعها وقلبها، محاولا أن يستبين وقع هذا الامر علي أقرب أهله إليه، وأعزهم عليه، وأصفاهم له ودا وأرشدهم نصحا ورأيا. وقالتها علي الفور، بكل اليقين والثقة: (الله يرعانا يا أبا القاسم. أبشر يا ابن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لارجو أن تكون نبي هذه الامة. والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين علي نوائب الحق). فنفذ صوتها الحار الواثق إلي قلبه، وأحس راحة الامن والطمأنينة، [ صفحه 55] وزوجه تقوده في رفق وحنو إلي مضجعه فتدثره وتبقي إلي جانبه رانية إليه حانية عليه حتي ينام. (نبي هذه الامة) ؟ ! ما الذي ألقي إلي بال (خديجة بنت خويلد) الاسدية القرشية. بتلك الكلمة الكبري، حين كانت الوثنية غاشية، والعرب قبائل شتي والناس طوائف وأمما متناحرة متناكرة ؟ أهي من تعبير التاريخ الاسلامي عن إدراك أم المؤمنين الاولي لجلال الامر وبعد نظرها لما بعده، بمجرد أن سمعت زوجها المصطفي يحدثها عن أول الوحي ؟ أم كانت الكلمة تعبيرا عن واقع لم يكن قد انجلي بعد تماما في تلك الليلة من رمضان، تمثل بها الاخباريون المسلمون موقف زوج المصطفي الاولي، في ضوء الواقع التاريخي بعد ليلة القدر ؟ لا أري كلمة غريبة علي الموقف، فما كانت السيدة خديجة وهي من صمم قريش وجيرة الحرم، بحيث يفوتها شئ مما ماجت به بيئتها قبيل المبعث من تطلعات إلي تحول خطير رنا إليه حكماء العرب وحنفاؤهم وشعراؤهم ومن إرهاصات عن نبي جديد حان مبعثه، تناقلها الرواة والسمار عن رهبان النصاري في الشام ونجران، وأحبار يهود في يثرب وشمال الحجاز. ومكة علي الخصوص، كانت المركز الذي تتلاقي فيه تلك [ صفحه 56] التطلعات والارهاصات، وتتجمع روافدها من هنا ومن هناك وهنالك، لتصب حول البيت العتيق، وتحوم حول حي بعينه من أحياء قريش هو حي بني هاشم بن عبد مناف بن قصي، وترنو إلي شخص بذاته من الهاشميين، هو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم. وقد كان لمكة من واقعها ورؤاها وذكرياتها، ما تضيفه إلي تلك الارهاصات الوافدة من شمال وجنوب وشرق. فمن عهد ابرهيم واسماعيل، وبيتها العتيق مثابة الحج والعبادة، يرتفع منه الدعاء (لبيك اللهم لبيك) فتتجاوب به أوديتها والبطاح، وتخشع له جبالها الصخرية، وتعنو هامات البدو الصلاب أبناء الصحراء ومع الزمن تأصلت حرمة ذلك البيت العتيق، ورسخت تقاليد إعظامه وطقوس إجلاله، ومنه أخذت قريش مكانة السيادة لجوارها الحرم المكي، واستأثرت بوظائف الشرف الدينية، وراثة عن جدها قصي بن كلاب المضري العدناني. وإذا كانت مكة قد استرجعت بفداء عبدالله بن عبدالمطلب، ذكري الفداء الاولي لاسماعيل جد العرب العدنانية، فليست بحيث يفوتها غداة ليلة القدر، أن تربط ما بين محمد بن عبدالله، واسماعيل ابن ابرهيم، برباط نسجته يد الزمن علي مدي قرون وأدهار. وتربطها كذلك، في وعي السيدة خديجة، بما آنست من شمائل زوجها وما رأت من ميل زوجها إلي التأمل والخلوة في غار حراء، وما عرفت من رفضه الاصنام التي تكدست في الحرم، ومن حيرته في أمر [ صفحه 57] قومه كيف ضلت عنهم أحلامهم فنسوا أنهم الذين صنعوا الاوثان بأيديهم، وجعلوا منها آلهة وأربابا مع الله ! وفي هذا كله كانت (خديجة) تفكر، وهي تخرج من البيت إثر سماعها بشري الوحي، ساعية إلي ابن عمها (ورقة بن نوفل) تلتمس لديه الرأي، وترجو أن تجد من علمه بالكتب والاديان ما تطمئن به إلي حقيقة الفكرة الملهمة التي سيطرت علي وعيها المرهف وبصيرتها الثاقبة: أن يكون زوجها المصطفي نبي هذه الامة. وقال ورقة بن نوفل، وهو يوشك أن يتهم سمعه: (قدوس قدوس) والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الاكبر الذي كان يأتي موسي وعيسي، وإنه لنبي هذه الامة، فقولي له فليثبت). [ صفحه 58]

السابقون الاولون

(والسابقون السابقون - أولئك المقربون - في جنات النعيم - ثلة من الاولين - وقليل من الآخرين) (صدق الله العظيم) أصبحت مكة غداة ليلة القدر، وليس علي وجه الارض كلها من يدين بالاسلام، غير النبي المصطفي، وزوجه السيدة خديجة بنت خويلد، أم المؤمنين الاولي. ثم آمن ثلاثة: اثنان منهم فتيان في مستهل الصبا، كان محمد عليه الصلاة والسلام ينزلهما من بيته وقلبه منزلة الابناء: [ صفحه 59] (علي بن أبي طالب) وكان محمد، بعد زواجه من خديجة واستقرار حياته المادية، قد ضمه إليه ليخفف العبء عن كاهل أبيه العم أبي طالب، برا بعمه ووفاء ببعض حقه عليه، وهو الذي كفله بعد وفاة جده عبدالمطلب، وأسبغ عليه من رعايته وحنانه ما لم يحظ بمثله بنوه. و (زيد بن حارثة) ولده بالتبني. وكانت أم زيد قد خرجت به صبيا تزور أهلها، فضل منها في الطريق فالتقطه من باعه رقيقا في إحدي أسواق العرب، واشتراه (حكيم بن حزام بن خويلد الاسدي) لعمته السيدة خديجة. فطابت لزيد الحياة في البيت الكريم. حتي جاء أبو زيد (حارثة بن شرحبيل الكلبي) ينشد ولده بعد أن طال بحثه عنه. فترك (محمد بن عبدالله) الامر كله لزيد: إذا شاء بقي حيث هو في بيت محمد علي الرحب والسعة، وإن أراد ذهب مع أبيه حارثة. واختار زيد محمدا، فما لبث أن انطلق به إلي الملا من قريش، وأشهدهم علي أن زيدا ولده بالتبني [14] وأسلم كذلك (أبو بكر بن قحافة) وكان له وضع آخر: إذ ليس هو من عشيرة المصطفي وذوي قرباه، ولا كان في فتوة الصبا كعلي وزيد، وإنما هو من رجال بني تيم بن مرة بن كعب، وقد بلغ سن الكهولة وأخذ مكانته في المجتمع المكي القرشي، سيدا مهيبا وقورا، مشهودا له بالفضل والمروءة ودماثة الطبع ورجحان العقل. وكان [ صفحه 60] أنسب قريش لقريش وأعلمها بأخبارها، فلما سبق إلي الاسلام بمجرد أن دعاه المصطفي إليه، توقعت قريش أن يكون لهذا الامر ما بعده. وصح ما توقعت: استطاع أبو بكر بجاذبية شخصيته ووقار سنه وسداد رأيه، أن يكسب للدين الجديد خمسة من رجال قريش الاعلام: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، والزبير ابن العوام الاسدي المخزومي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص الزهربان، وطلحة بن عبيد الله التيمي. فهؤلاء النفر الثمانية، هم طليعة السابقين الاولين الذين اختاروا لواء المصطفي وبدأ بهم الاسلام خطوته الاولي علي الطريق الطويل. ومنهم تأسست الكتيبة الاولي لحزب الله في مستهل الدعوة، ليلقي العصبة الباغية من المشركين وحزب الشيطان، في صراع مرير بين حق وباطل. ولقد تهيب المصطفي عليه الصلاة والسلام في أول الامر أن يلقي قريشا بدعوته جهرا، فأسر بها إلي من آنس فيهم الاستعداد لقبولها والايمان بها. وما أسرع ما استجاب له الموالي الارقاء الذين وجدوا في الاسلام ملاذا لهم من الوضع المهين الذي مسخ آدميتهم وأهدر إنسانيتهم. وكذلك أسلم عدد من أحرار المكيين، الرجال والنساء. وكانوا إذا أرادوا الصلاة تحاشوا الكعبة، وتحاشوا كذلك أن [ صفحه 61] يصلوا في بيوتهم، وذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم عن قومهم، إذ كانوا قلة، وفي بيوتهم من لا يدينون بغير ما وجدوا عليه آباءهم. لكن أمر الاسلام لم يكن بحيث يخفي طويلا بعد أن فشا. وتلقي الرسول المصطفي أمر الله سبحانه [15] فجهر بالدعوة وبادي قومه بها. ولعلهم استخفوا به أول الامر، وكبر عليهم أن يظهروا غيظهم منه. حتي ذكر المصطفي آلهتهم وعابها، فناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته، الا القلة التي ترددت فيه. ماذا تستطيع قريش، لمن آمنوا بمحمد، من صميم بيوتها وسادة عشائرها ؟ لئن أعياها أن تثب عليهم أو تنالهم بأكثر من السخرية والمقاطعة والوعيد، فقد بقي الموالي المستضعفون تنفس فيهم عن قهرها وغيظها، وتتسلط عليهم بأبشع ضروب التعذيب والفتنة. ولم يفتها وهي تري مواليها يسارعون إلي الاستجابة للاسلام، أن تلمح ما وراء هذه البادرة من خطر يهدد الوضع الطبقي الذي قامت عليه حياة قريش جيلا بعد جيل. كما لم يفتها أن تدرك ما يتطلع إليه الارقاء من خلاص بهذا الدين الجديد الذي يقرر أن الناس جميعا إخوة، ويبطل عبودية البشر لغير خالقهم. [ صفحه 62] وقامت قائمة قريش، وائتمروا فيما بينهم فوثب كل حي من أحيائها علي من فيه من الموالي الذين أسلموا، فكانوا إذا حميت الظهيرة يخرجونهم إلي بطحاء مكة فيطرحونهم علي ظهورهم، ثم يأمرون بالصخرة الضخمة فتلقي علي صدر الرجل منهم، ويقول له سيده: - لا تزال هكذا حتي تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزي. فيرد العبد المؤمن وهو في هذا البلاء: (أحد أحد). في الخبر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم مر بآل ياسر وقد أخرجهم سادتهم من بني مخزوم إلي بطحاء مكة وتفننوا في تعذيبهم. فلم يستطع عليه الصلاة والسلام أن يدفع البلاء عن هذه الاسرة المؤمنة، وقال مواسيا: (صبرا آل ياسر) وصبروا حتي استشهدت (سمية) وهي تأبي إلا الاسلام. ورووا أن أبا بكر مر بجارية لبني عدي بن كعب، وعمر بن الخطاب - قبل إسلامه - يعذبها علي جمر الصخور الملتهبة بالقيظ ليفتنها عن دينها. فما زال يضربها حتي مل، فكف عنها وهو يقول لها: - إني أعتذر إليك، فلم أتركك إلا عن ملالة ! وألح أبو بكر علي عمر، حتي باعه إياها. فأعتقها لوجه الله كما أعتق عددا غيرها من المستضعفين بعد أن اشتراهم. قال له أبوه (قحافة) يحاوره: [ صفحه 63] - إني أراك يا بني تعتق رقابا ضعافا، فلو أنك فعلت ما فعلت، أعتقت رجالا أشداء يمنعونك ويقومون دونك ؟ رد الصديق أبو بكر: - يا أبت، إني إنما أريد ما أريد لوجه الله [16] فيروي أن هذه الآيات من سورة الليل نزلت فيه [17] : (إن علينا للهدي. وان لنا للاخرة والاولي. فانذرتكم نارا تلظي. لا يصلها الا الاشقي. الذي كذب وتولي. وسيجنبها الاتقي. الذي يؤتي ماله يتزكي. وما لاحد عنده من نعمة تجزي. الا ابتغاء وجه ربه الاعلي. ولسوف يرضي.) (صدق الله العظيم) أسلم (خباب بن الارت) وأعيا قريشا أن تفتنه عن دينه [18] وكان من أمهر الموالي الصناع، يعمل السيوف بمكة للسادة القرشيين، وقل أن يجدوا من يدانيه حذقا للصنعة وتواضعا في الاجر. واحتاج في محنة الفتنة والاضطهاد، إلي مال يفتدي به نفسه، فذهب إلي السيد (العاص بن وائل السهمي) يتقاضاه أجر سيوف كان [ صفحه 64] قد عملها له. فنظر إليه السيد الشريف مليا ثم قال يسأله ساخرا: - أليس يزعم محمد صاحبكم، هذا الذي أنت علي دينه، أن في الجنة ما ابتغي أهلها من ذهب وفضة ؟ رد (خباب) وهو لا يدري وجه السؤال: بلي. قال العاص بن وائل: - فأمهلني إلي يوم القيامة يا خباب، حتي أرجع إلي تلك الدار الآخرة فأقضيك هنالك حقك، فوالله لا تكون أنت وصاحبك محمد يا خباب، آثر عند الله مني ولا أعظم حظا من ذلك. وانصرف خباب، وعوضه علي الله سبحانه. وراح العاص بن وائل يباهي في مجامع قريش بحيلته الذكية الماكرة التي أصاب فيها عصفورين بحجر واحد: أكل مال خباب عقابا له علي إسلامه، واستهزأ بدينه وصاحبه ! ولم يمض وقت طويل حتي كان المصطفي يتلو في مكة من وحي ربه: (وإذا تتلي عليهم اياتنا بينات قال الذين كفروا للذين امنوا اي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا - وكم اهلكنا قبلهم من قرن هم احسن أثاثا ورئيا - قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا - حتي إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا - ويزيد الله الذين اهتدوا هدي، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا - أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال [ صفحه 65] لاوتين مالا وولدا - اطلع الغيب ام اتخذ عند الرحمن عهدا - كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا - ونرثه ما يقول ويأتينا فردا - واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا - كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا -) (صدق الله العظيم) [ صفحه 66]

والليل إذا يغشي

(وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتي نؤتي مثل ما أوتي رسل الله، الله أعلم حيث يجعل رسالته، سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون -) (صدق الله العظيم) عجب أي عجب ! الجزيرة كلها كانت من سنين، تتحدث عن إرهاصات بنبي حان زمانه. ومكة علي وجه الخصوص، كانت تترقب أن يكون هناك مبعثه. والعيون كلها كانت ترمقه في مهده وصباه وشبابه، رانية إلي [ صفحه 67] ما تفرد به من مخايل وشمائل، متفائلة بيمنه وبركته. ولكن الامر حين جاء، كان أعظم من أن يصدق وأخطر من أن يتلقي بالتسليم والاقرار. ولقد قالها (ورقة بن نوفل) للمصطفي، غداة المبعث: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الامة، ولتكذبن ولتؤذين ولتخرجن. سأله عليه الصلاة والسلام: (أو مخرجي هم ؟). فقال ورقة: - نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي [19] وكان (ورقة) ينطق بما قرأ من تاريخ الاديان، وعرف من طبيعة الشعوب والجماعات: لم يأت رجل قط بمثل ما جاء به محمد رسول الله، الا عودي. وليست العرب أقل عنادا وتمسكا بدين الآباء، من أمم قبلها كذبت بالحق لما جاءها. وهذه قريش، لم تصدق سمعها حين جهر فيها المصطفي بدعوته. وكان في حسابها أن تلقاه مجتمعة علي الرفض والتكذيب. أما وقد آمن به من آمن، فقد وجدت الكثرة الضالة ما تقوله تخديرا لضميرها بمنطق عنادها ومقاييس مجتمعها: [ صفحه 68] أيؤثر (محمد بن عبدالله) بالنبوة، وما عرفت له قريش مالا ممدودا ولا بنين شهودا، وإن عرفت له شرف المنبت وكرم الخلق ونقاء السيرة ؟ أينزل عليه هذا القرآن، ولا ينزل علي رجل عظيم من أصحاب الثراء والعدد والجاه والنفوذ، في مكة أو في الطائف ؟ لقد أمضي شبابه كله لم يجمع مالا، ولا تهالك علي ما كان قومه يتهالكون عليه من وظائف السيادة ومراكز الجاه في المجتمع القرشي بأم القري. ثم هو أب لبنات أربع، لم يولد له من البنين غير عبدالله والقاسم، وقد ماتا صغيرين في سن الرضاعة. وزوجه خديجة شارفت سن اليأس بعد أن بلغت الخامسة والخمسين من عمرها، ولا يبدو عليه أنه يفكر في أن يستبدل زوجا أخري مكانها أو يتزوج عليها، وهي أنس دنياه وموضع حبه وإعزازه، وحياتهما الزوجية مضرب الامثال في حسن العشرة وصدق المودة وعمق التفاهم والاخلاص. ولا تذكر قريش أنه شارك فيما يشغلها من صراع علي مراكز القوي والجاه، إلا يوم جددت بناء الكعبة، قبل المبعث بخمس سنوات، وارتضت حكمه فيما شجر بين قبائلها من خلاف علي الحجر الاسود، حسمه الامين بحكمته. ثم لم يعد المجتمع المكي يري محمدا في الزحام، حتي مضت خمس سنين وخرج من غار حراء يتلو كلمات الوحي. قال الوليد بن المغيرة المخزومي، أبو خالد: [ صفحه 69] أينزل القرآن علي محمد، وأترك وأنا كبير قريش، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير سيد ثقيف، ونحن عظيما القريتين ؟ وذاعت كلمته في أهل القريتين: مكة والطائف، فتركتهم في حيرة قد تشابه عليهم الامر في مقاييس العظمة التي يفضل بها المصطفي، عظيمي القريتين. وتلقي عليه الصلاة والسلام من كلمات ربه: (بل متعت هؤلاء وآبائهم حتي جاءهم الحق ورسول مبين - ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون - وقالوا لولا نزل هذا القران علي رجل من القريتين عظيم - أهم يقسمون رحمة ربك، نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، ورحمة ربك خير مما يجمعون -) (صدق الله العظيم) وكذلك أنكر (أمية بن أبي الصلت) أن يصطفي محمد بن عبدالله نبيا، وكان أمية يري نفسه أهلا لهذا الاصطفاء ! في أخريات الجاهلية، كان ابن أبي الصلت من الفئة القليلة التي أنكرت عبادة الاوثان، وهم الحنفاء الذين لمحت فيهم أم القري بقية ميراث من ذكري دين ابرهيم الحنيف. [ صفحه 70] قالوا: ما حجر نطوف به لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع ؟ يا قوم، التمسوا لكم دينا فإن قومكم علي سفه وضلال. ثم تفرقت بهم السبل: بعضهم مال إلي النصرانية وأقام في الحبشة أو في بلاد الروم. وبعضهم قرأ الكتب فلم يدخل في نصرانية ولا يهودية، واكتفي باعتزال الاوثان والذبائح التي تذبح قربانا لها، ونهي عن قتل الموؤودة وقال: أعبد رب ابرهيم. من هؤلاء، كان أمية بن أبي الصلت: شاعر ثقيف وحكيمها. وأمه من صميم البيت القرشي: رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف. وعبد مناف هو الجد الثالث للمصطفي: محمد بن عبدالله ابن عبدالمطلب ابن هاشم بن عبد مناف. لم يذهب أمية إلي روم أو حبشة، بل قرأ كتب الدين ورغب عن عبادة الاوثان، وأقام في قومه يتنبأ لهم بدين جديد آن وقته، ويتحدث فيهم عن نبي مرسل حان مبعثه، ويشدو في ليل الجاهلية بدعاء الفجر المرتقب: إن آيات ربنا ظاهرات - ما يماري فيهن إلا الكفور حبس الفيل بالمغمس حتي - ظل يحبو كأنه معقور كل دين يوم القيامة عند الله إلا دين الحنيفة زور وبزغ النور الذي بشر به أمية. وجاء دين التوحيد الذي أرهص به وشدا له. [ صفحه 71] وإذا به يرفض ويأبي ويستكبر، ويجاهر المصطفي بأشد العداوة والبغضاء. وانكشف موقفه: لقد كان يبشر بنبي جديد وهو يرجو أن يكونه. فلما تخطاه الاصطفاء إلي محمد بن عبدالله الهاشمي، نكص علي عقبيه كافرا بدين الحق. وظاهر الوثنية القرشية في حربها للدين الحنيف، حتي مات علي الكفر تدمغه كلمة المصطفي صلي الله عليه وسلم، فيه: (آمن لسانه وكفر قلبه.) بعث المصطفي صلي الله عليه وسلم، وثلاث من بناته الاربع حديثات عهد بالزواج في أعز بيوت قريش: كبراهن (زينب) تزوجها ابن خالتها هالة بنت خويلد: (أبو العاص بن الربيع بن عبدالعزي) حفيد قصي، الجد الرابع للمصطفي. وكان أبو العاص سريا نبيلا، مع عراقة نسبه وشرف موضعه. و (رقية وأم كلثوم) عروسان لابني عم المصطفي: عتبة وعتيبة ابني عبدالعزي بن عبدالمطلب بن هاشم، من زوجه أم جميل بنت حرب بن أمية بن عبد شمس. أما صغراهن (فاطمة) فلم تكن بلغت سن الزواج بعد، وقد ولدت قبل المبعث بخمس سنوات. [ صفحه 72] وأسلمت بنات المصطفي، وأزواجهن الثلاثة علي الشرك. وكره المصطفي أن يخرج بناته المسلمات من بيوت أزواجهن الكفار. ولم يكن الاسلام قد شرع بعد، تحريم زواج مؤمنة بكافر، ولا نزلت آيات القرآن في التفريق بين المؤمنات والكفار. ووجدتها قريش فرصة سانحة، لتؤذي المصطفي في بناته. قال بعضهم لبعض: - إنكم قد فرغتم محمدا من همه، فردوا عليه بناته فأشغلوه بهن. ومشوا إلي أصهاره صلي الله عليه وسلم، واحدا بعد الآخر، فقالوا لكل منهم: - فارق صاحبتك ونحن نزوجك أي امرأة من قريش شئت. فأما أبو العاص بن الربيع، فأبي أن يفارق زوجه (زينب بنت محمد) ورد علي من كلموه في فراقها بقوله: (والله ما أحب أن لي بها امرأة أخري من قريش). وأما ابنا عبدالعزي بن عبدالمطلب، فطلقا رقية وأم كلثوم، بإلحاح من أمهما بنت حرب، أخت أبي سفيان. وخاب ظن قريش وكيد بنت حرب. لم يشغل المصطفي ببناته عن دعوته. ولم يشق عليه رجوع بنتيه رقية وأم كلثوم إلي بيته، وقد أراد الله بهما خيرا فنجاهما من معاشرة ابني أبي لهب، ومحنة العيش مع امرأته حمالة الحطب. ثم أبدلهما الله، بعد حين، خيرا منهما: [ صفحه 73] تزوج رقية عثمان بن عفان أحد السابقين الاولين إلي الاسلام، وهاجرت معه إلي الحبشة ثم إلي المدينة، فلما توفيت يوم بدر خلفتها أختها أم كلثوم، زوجا لعثمان ذي النورين). بئست الكنية أبو لهب، لعبد العزي بن عبدالمطلب بن هاشم. قبل أربعين عاما من المبعث، تلقي عبدالعزي بشري مولد محمد، ابن أخيه الراحل عبدالله بن عبدالمطلب. حملتها إليه مولاة له تدعي (ثويبة) فأعتقها ببشراها ! ثم لما بلغ الوليد أشده واصطفاه الله تعالي رسولا، لم يعد عبد العزي يعرف باسمه، وإنما غلبت عليه كنيته أبو لهب ! كما لصق بامرأته أم جميل بنت حرب، لقب حمالة الحطب منذ نزلت فيهما آيات المسد: (تبت يدا أبي لهب وتب - ما أغني عنه ماله وما كسب - سيصلي نارا ذات لهب - وامرأته حمالة الحطب - في جيدها حبل من مسد). لم يكتف الملعون بأن يرفض دعوة ابن أخيه ويرد إليه ابنتيه رقية وأم كلثوم طالقين. بل تصدي له بالتكذيب والاستهزاء، من الفترة الاولي التي كان المصطفي يتهيب فيها الجهر بدعوته في الناس، ويكتفي بتبليغها إلي من يأنس لديه قبولا. [ صفحه 74] وتلقي المصطفي من كلمات الوحي: (وأنذر عشيرتك الاقربين، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين - وقل إني أنا النذير المبين.) وغدا صلي الله عليه وسلم فأتي الصفا فصعد عليه ونادي ينذر عشيرته الاقربين من بني هاشم وقريش: (واصباحاه) فلما اجتمع له القوم ابتدرهم قائلا: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي ؟). أجابوا من غير تردد: (ما جربنا عليك كذبا قط). قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب أليم). عندئذ انبري له عمه عبدالعزي قائلا: (تبا لك ! ألهذا جمعتنا ؟). ومضي علي غلوائه، فكان من أشد الكفار عداوة للاسلام وإيذاء للنبي، ابن أخيه، عليه الصلاة والسلام. ومن ورائه امرأته أم جميل بنت حرب، أخت أبي سفيان. وقد غاظها أن تسمع ما نزل فيها وفي زوجها أبي لهب من القرآن، فخرجت تطلب المصطفي وفي يدها فهر، حجارة تملا الكف. وسمعت أنه صلي الله عليه وسلم في الكعبة، فاندفعت نحوه في شراسة وهي تهدر صاخبة بالوعيد، لكن بصرها تخطي المصطفي [ صفحه 75] فلم تره، ورأت صاحبه أبا بكر هناك، فسألته: - أين صاحبك ؟ فقد بلغني أنه يهجوني. والله لو وجدته لضربته بهذا الفهر، إنه إن يكن شاعرا فإني لشاعرة. وانصرفت وهي ترتجز: مذمما - عصينا وأمره - قلينا ودينه - أبينا قال الصديق للمصطفي: - يا رسول الله، أما تراها رأتك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: - (ما رأتني، لقد أخذ الله ببصرها عني). وحدث مرة أن أخذت أبا لهب حمية الدم الهاشمي، فغضب لما رأي من جور قريش علي بني هاشم الذين أبوا أن يخذلوا ابن عبدالله ابن عبدالمطلب، وإن لم يتابعوه علي دينه، كراهة أن يعقوا أوثانا وجدوا آباءهم لها عابدين. في خبر أن أبا سلمة المخزومي، ابن برة بنت عبدالمطلب، استجار بخاله أبي طالب حين أراد قومه أن يفتنوه عن إسلامه. فمشي رجال من بني مخزوم إلي أبي طالب فقالوا له في غلظة: - لقد منعت منا ابن أخيك محمدا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا ؟ [ صفحه 76] قال: إنه استجار بي، وهو ابن أختي. فإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي. وكان أبو لهب حاضرا فقال مغضبا، وقد أخزاه أن يضام أخوه - ولم يسلم - علي مرأي منه ومسمع: - يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم علي هذا الشيخ. ما تزالون تتوثبون عليه في جواره من قومه. والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه في كل ما قام فيه. فآثروا الابقاء علي أبي لهب في حزبهم، وقالوا يسترضونه: - بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة [20] لكن أبا عتبة الذي كره أن يضام أخوه أبو طالب، وليس علي دين محمد لم يكره أن يعق محمدا ابن أخيه عبدالله، ويخذله ويؤذيه. أعشي سحر أم جميل بصره وأمات مروءته ونخوته، فتسلط بالاذي علي المصطفي، ابن أخيه ومن اتبعه. فيقول الشاعر الاحوص في حمالة الحطب، امرأة أبي لهب: ما ذات حبل يراه الناس كلهم - وسط الجحيم ولا يخفي علي أحد كل الحبال، حبال الناس، من شعر - وحبلها وسط أهل النار من مسد [ صفحه 77] ضاقت بهم ساحة البيت العتيق وقد تجمعوا هناك يهدرون بالوعيد، فيكاد من يراهم يحسبهم محتشدين تأهبا لقتال. وجاء العدو، فردا أعزل إلا من إيمانه.. أقبل المصطفي علي الحرم يمشي خاشعا حتي استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالكعبة لا يلقي إليهم بالا. وقصرت عنه أيديهم ورماحهم، وطالت ألسنتهم يلمزونه ببعض القول. ومضي في طوافه، فكلما مر بهم تطاولت ألسنتهم بالغمز واللمز، حتي أتم الطواف فواجههم فردا، ليس معه سلاح غير كلمات ربه. وتلا كلمة، وقعت عليهم كالصاعقة فما منهم رجل إلا كأن علي رأسه طائرا وقع. وانكمشوا متضائلين، حتي ليقول من كان أصخبهم هديرا وأنكرهم صوتا: (انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولا). وانصرف أبو القاسم عليه الصلاة والسلام، فما كاد يغيب عن أبصارهم حتي عادوا أسودا غضابا، يقول بعضهم لبعض متلاومين: - ذكرتم ما أصابكم من أمر محمد، حتي إذا باداكم بكلمة مما تكرهون تركتموه ؟ وأجمعوا أمرهم من جديد للقاء العدو ! فلما كان الغد وجاء المصطفي يصحبه أبو بكر، لم يمهلوه حتي [ صفحه 78] يلقاهم بكلمة تصدعهم، بل وثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون متوعدين: - أنت الذي تقول كذا وكذا ؟ وأعادوا عليه ما قال في إنكار أوثانهم وتسفيه عقولهم وضلال آبائهم، والمصطفي يجيب: (نعم، أنا الذي أقول ذلك). وهموا به يتجاذبون رداءه، فقام أبو بكر دونه يدفعهم عنه ويقول: - أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ فتحول أسود القطيع إلي أبي بكر يجبذون لحيته، وتكاثروا عليه فما تركوه يومئذ إلا وقد صدعوا فرق رأسه.. [21] وبدا لقريش أن توفد رجالا منها إلي أبي طالب، عم المصطفي وشيخ بني هاشم، لعلهم يستطيعون إقناعه بأن يحمل ابن أخيه علي أن يكف عن دعوته التي فرقت كلمتهم ومزقت شملهم. ومشي وفدهم إلي أبي طالب فقالوا في تودد: - يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا. فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك علي مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه [ صفحه 79] وهم يرجون أن ينتهي هذا الامر الذي أرق ليلهم وشغل نهارهم.. لكن المصطفي مضي علي ما هو عليه. يظهر دين الله ويدعو إليه، حتي اشتد الموقف بين المسلمين والمشركين تباعدا وتضاغنا، ولم يعد لقريش حديث إلا عن محمد، يحض بعضهم عليه بعضا. وعاودوا الكلام مع عمه فقالوا: - يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا. وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا. وإنا والله لا نصبر علي هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا، حتي تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتي يهلك أحد الفريقين. وعظم علي أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم تطاوعه نفسه علي خذلان ابن أخيه.. - وجاء المصطفي فسمع حديث عمه عن شكوي قومه، ثم قال: (يا عم، إني أريدهم علي كلمة واحدة). قالوا بصوت واحد: - كلمة واحدة ؟ نعم وأبيك، وعشر كلمات ! فما هي ؟ قال: (لا إله إلا الله). فانتفضوا مذعورين وخرجوا غضابا ينفضون ثيابهم ويهزون رؤوسهم في رفض وإنكار: (أجعل الآلهة إلها واحدا. إن هذا الشئ عجاب). قال له عمه بعد خروجهم: [ صفحه 80] - يا ابن أخي، أبق علي وعلي نفسك، ولا تحملني من الامر ما لا أطيق. رد المصطفي، وقد ظن أن عمه ضعف عن نصرته: (يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري علي أن أترك هذا الامر حتي يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته). واستعبر لم يملك دمعه، وهو يوشك أن يفارق عمه الذي كان له أبا وكافلا وراعيا وصديقا. ناداه عمه وقد رآه يمضي حزينا أسفا: - أقبل يا ابن أخي. فأقبل عليه الصلاة والسلام ليسمع كلمة عمه أبي طالب: - اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشئ أبدا. عرفت قريش أن أبا طالب لن يتخلي عن نصرة أبن أخيه ولن يخذله، فليس لها إليه من سبيل إلا أن تخوض حربا مع بني هاشم. وفي سورة غيظها وقهرها، زين لها سفهها رأيا أحمق: ماذا لو ساومت أبا طالب علي محمد، ابن أخيه، وتعطيه فتي من فتيانها بديلا عنه ؟ وليكن هذا البديل (عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي) زين شباب بني مخزوم فتوة وعقلا. وقبل عمارة، رجاء أن تنحسم به الفتنة التي مزقت قومه قريشا. [ صفحه 81] وبقي أن يرضي أبو طالب ! ومشوا إليه بعمارة بن الوليد فقالوا: - يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد، أنهد فتي في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن اخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم، فنقتله فإنما هو رجل برجل. ولم يصدق أبو طالب سمعه ! كيف بلغ بهم السفه أن يساوموه علي ابن أخيه بمثل هذه الصفقة الحمقاء ؟ لقد أضاعت قريش رشدها ورب الكعبة ! قال في تؤدة: - والله لبئس ما تساومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه ؟ هذا والله ما لا يكون أبدا. قال له (المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف): - والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا علي التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا. ورد أبو طالب علي المطعم، حفيد عبد مناف بن قصي: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك. وانصرف القوم علي يأس. وكذلك نفض أبو طالب يده من بني عمومته، آل عبد شمس. [ صفحه 82] ونوفل، ومن أصهاره وذوي قرباه في تيم ومخزوم وزهرة، وأدرك أن القوم قد تظاهروا علي من يمنعون محمدا، من بني عبدالمطلب وبني هاشم. ووثبت القبائل من قريش علي من فيها من أصحاب المصطفي الذين أسلموا معه، يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم. وبقي بنو هاشم علي نصرة محمد بن عبدالله، إلا قليلا منهم مع أبي لهب تبت يداه. أقبل الفارس عائدا من رحلة صيد. قد توشح قوسه وأطلق عنان فرسه، حتي إذا دنا من البيت الحرام ترجل إجلالا للكعبة، ثم انطلق متمهلا في شموخ وزهو. وفي طريقه إلي بيته، مر بأندية قريش يتلقي حيثما سار تحية الاعجاب بفتوته وفروسيته. وازدهاه أن تري قريش فيه: حمزة بن عبد المطلب الهاشمي، أعز فتي فيها وأشدها شكيمة. قرب الصفا، استوقفته مولاة لعبد الله بن جدعان التيمي، فتمهل ملقيا إليها بعض سمعه، وفي ظنه أن الفتاة مأخوذة ببهاء فتوته. قالت وهي تسدد إليه نظرة ثاقبة: - يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي [ صفحه 83] الحكم بن هشام ؟ وجده هاهنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف لم يكلمه محمد، صلي الله عليه وسلم. ولم يرد عليها الفارس بكلمة. لوي عنان فرسه وقد احتمله الغضب، فلم يتوقف حتي بلغ البيت العتيق، ولمح أبا جهل بن هشام جالسا هناك بين القوم يتشدق بما آذي به محمد بن عبدالله. فشق حمزة طريقه إليه صامتا لا يتكلم، إلي أن قام علي رأسه فرفع قوسه وشجه بها شجة منكرة وهو يقول متحديا: - أتشتم محمدا وأنا علي دينه أقول ما يقول ؟ فرد ذلك علي إن استطعت ! وغشي القوم دوار ما كادوا يفيقون منه حتي أدركوا أن السهم قد نفذ ! أسلم حمزة، وكان حتي تلك اللحظة علي دين آبائه. وعرفت قريش أن محمدا ازداد به عزا ومنعة، فلن يلبث حمزة أن يدخل المعترك بينه وبين المشركين، فارسا لا يلحق به غبار، وأسدا لا يغلب. وأوي حمزة إلي بيته فبات ليلته مؤرقا، يدعو الله أن يشرح صدره للدين الجديد الذي أعلن دخوله فيه، مدفوعا بمروءته وشهامته ونجدته. حتي تنفس الصبح، فغدا حمزة إلي الكعبة فما استقبلها إلا وقد اطمأن قلبه وتفتح لنور الحق. [ صفحه 84] وسعي من فوره إلي بيت ابن أخيه المصطفي فبايعه. ثم خاض معه معركته الباسلة، أسد الله وأسد رسوله. وبسيفه الصارم المنصور جندل رءوسا من طواغيت قريش يوم بدر، ومن بعده قاتل يوم أحد حتي اغتالته حربة غادرة سددها إليه (وحشي) بتحريض من (هند بنت عتبة، زوج أبي سفيان بن حرب). ورقصت هند علي مصرع الفارس البطل، وانتزعت كبده فلاكتها، وذهبت في تاريخ الاسلام بلقب آكلة الاكباد. وذهب الفارس البطل، بلقب سيد الشهداء. [ صفحه 85]

ام يقولون: افتراه ؟

(فلا أقسم بما تبصرون - وما لا تبصرون. إنه لقول رسول كريم - وما هو بقول شاعر، قليلا ما تؤمنون - ولا بقول كاهن، قليلا ما تذكرون - تنزيل من رب العالمين) (صدق الله العظيم) الدنيا ليل. ومكة مؤرقة بسهدها، تشهد ائتمار قريش بالمصطفي ومن معه. لا عن ارتياب في صدقه وأمانته، ولكن خافت أن تفقد الوثنية سلطانها علي العرب. وعليها كانت قريش تعتمد في ترسيخ نفوذها وتضخم ثرائها، منذ جعلت المواسم الدينية في أم القري، مواسم للتجارة. [ صفحه 86] وهذا الموسم علي وشك اقتراب، ومحمد يجهر بدعوته لا يبالي أحدا. وقد سمعت قريش ما تلاه من كلمات ربه، فأدركت من فورها أنها المعجزة التي لا يملك أي عربي يصغي إليها، أن يصرف عنها سمعه وقلبه وضميره. فإن خلت قريش بين محمد والقبائل الوافدة علي الموسم، يتلو فيها هذا القرآن، فإن العرب لن يترددوا في الايمان بالمعجزة. وفي دار الندوة بمكة، حيث اعتادت قريش من عهد جدها (قصي بن كلاب) أن تعقد فيها مجالسها كلما أهمها أمر واحتاجت فيه إلي المدارسة وتبادل الرأي، اجتمع نفر من طواغيت قريش وقام فيهم (الوليد بن المغيرة المخزومي) فقال: - يا معشر قريش، إن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول به. قال: بل أنتم فقولوا اسمع. قالوا: نقول، كاهن. ورد عليهم الوليد بن المغيرة: - لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول، مجنون. [ صفحه 87] ورد عليهم: ما هو بمجنون. لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول، شاعر. ورد عليهم: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وقصيده، وهزجه وقريضه، ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول، ساحر. ورد عليهم: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم. وغلبوا علي أمرهم لا يدرون ما يقولون في المصطفي ومعجزته، فسألوا الوليد: - فما تقول أنت يا أبا عبد شمس ؟ أجاب: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة. وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل. وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر جاء بقول هو السحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. [22] وانفض المجلس بعد أن أجمعوا علي أن يترصدوا للوفود علي مداخل مكة فيأخذوا سبل الناس لا يمر بهم أحد إلا حذروه أن يسمع ما يتلو محمد من كلمات هي السحر. والمصطفي يتلو من آيات ربه: [ صفحه 88] (ن، والقلم وما يسطرون - ما أنت بنعمة ربك بمجنون - وان لك لاجرا غير ممنون - وإنك لعلي خلق عظيم - فستبصر ويبصرون - بايكم المفتون - إن ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين.) وأوجس أبو طالب في نفسه خيفة، أن يظاهر عامة العرب قومه علي ابن أخيه فيجتمعوا ألبا عليه وعلي من ينصره من بني عبدالمطلب وهاشم، فأنشد في الموسم قصيدة مطولة، يتعوذ فيها بحرم مكة ومكان المصطفي منها، ويعتب علي أشراف قومه ناشدا مروءتهم، ومعلنا في الوقت نفسه، أنه لن يخذل ابن أخيه ولن يتركه لشئ أبدا أو يهلك دونه. قال: إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر - فعبد مناف سرها وصميمها وإن حصلت أشراف عبد منافها - ففي هاشم أشرافها وقديمها وإن فخرت يوما فإن محمدا - هو المصطفي من سرها وكريمها تداعت قريش غثها وسمينها - علينا فلم تظفر وطاشت حلومها [ صفحه 89] وكنا قديما لا نقر ظلامة - إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها ونحمي حماها كل يوم كريهة - ونضرب عن أحجارها من يرومها. وصدرت القبائل من ذلك الموسم بأمر المصطفي، فانتشر ذكره في بلاد العرب. الايام تمضي. وحزب الله يزداد علي الاذي والاضطهاد قوة وثباتا. وقريش تكاد تموت بغيظها، وما تلمح علي المصطفي وأصحابه بادرة ضعف أو تردد. وفي نادي قريش، كان الزعماء يتدارسون الموقف الصعب، حين رأوا المصطفي يأخذ طريقه إلي المسجد الحرام، وحيدا ليس معه صاحب. قال لهم (عتبة بن ربيعة بن عبد شمس): - ألا أقوم إلي محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا ؟ قالوا وقد داخلهم الخوف من إسلام حمزة بن عبدالمطلب: - بلي يا أبا الوليد، فقم إليه فكلمه. وقام عتبة حتي جلس إلي المصطفي صلي الله عليه وسلم فقال له متلطفا متوددا: [ صفحه 90] - يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من الشرف في العشيرة والمكان في النسب. وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضي من آبائهم. فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. قال عليه الصلاة والسلام: (قل يا أبا الوليد، أسمع). وقال أبو الوليد: - يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الامر مالا جمعنا لك من أموالنا حتي تكون أكثرنا مالا. وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتي لا نقطع أمرا دونك. وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتي نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع علي الرجل حتي يداوي منه. سأله المصطفي: (أقد فرغت يا أبا الوليد ؟) قال: نعم. قال المصطفي: (فاسمع مني)، وتلا عليه الصلاة والسلام من سورة فصلت: (بسم الله الرحمن الرحيم (حم، تنزيل من الرحمن الرحيم - كتاب فصلت آياته قرآنا [ صفحه 91] عربيا لقوم يعلمون - بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون - وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون - قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي الي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه، وويل للمشركين). وكان عتبة ينصت لها وقد ألقي يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع من المصطفي. فلما انتهي صلي الله عليه وسلم إلي قوله تعالي: (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون). سجد محمد عليه الصلاة والسلام، ثم قال لعتبة: (قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك). ومضي عتبة مأخوذا بما سمع، حتي إذا دنا من مجلس أصحابه عرفوا أنه جاء بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم سألوه: - ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم. فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر علي العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به. [ صفحه 92] قالوا جميعا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. ورد عليهم: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم. وبقي عتبة، مع ذلك، علي دينهم ودين آبائهم.. أسلم النهار أنفاسه مرهقا مكدودا كأنه يتعجل الليل ليسدل ستارا من ظلامه علي المشهد الفاجع للمؤمنين المستضعفين من موالي قريش، وقد شدتهم بوثاق إلي جمر الصخور الملتهبة في لظي الرمضاء، لعلهم يرتدون عن دين محمد، عليه الصلاة والسلام. وبدا لقريش، وقد غربت الشمس، أن تدعو محمدا إلي مجلس زعمائها مجتمعين، لعله يلين. لقد فشلت المفاوضات مع عمه أبي طالب فلم يكفه عنهم ولم يسلمه إليهم. وفشلت كذلك المساومة التي عرضها عليه أبو الوليد عتبة بن ربيعة. وبقي أن يجربوا مواجهته لرؤسائهم مجتمعين، فيخاصموه حتي يعذروا فيه. وحشدوا له فئة منهم، أعلاهم في قومهم كلمة وألدهم في الجدل والخصومة. فيهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث بن كلدة، وابو البختري بن هشام، وأبو الحكم، أبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، وأمية ابن خلف.. [ صفحه 93] وأجاب المصطفي دعوتهم، فجاء إلي حيث أخذوا مجالسهم بظهير الكعبة، وهو يرجو أن يكونوا قد تابوا إلي رشدهم، وكان حريصا علي هداهم يعز عليه عنتهم وضلالهم. قالوا: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا ولله ما نعلم رجلا من العرب أدخل علي قومه ما أدخلت علي قومك: لقد شتمت الآباء وعيبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الاحلام وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا جئته فيما بيننا وبينك. ومضوا في الحديث فعرضوا عليه ما سبق أن عرضه وافدهم إليه (عتبة بن ربيعة) من مال وسيادة وملك وطب. ورد المصطفي: (ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم. ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني ان أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم. فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لامر الله حتي يحكم الله بيني وبينكم.) قالوا مقترحين، يريدون إعناته: - يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أن ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارا [ صفحه 94] كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضي من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول، أحق هو أم باطل ؟ فإن صدقوك وصنعت لنا ما سألناك، صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول. قال عليه الصلاة والسلام، يرد علي مقترحاتهم: (ما بهذا بعثت إليكم. إنما جئتكم من الله بما بعثني به. وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم. فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وان تردوه علي أصبر لامر الله حتي يحكم بيني وبينكم). قالوا: - فإذ لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك: سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك. وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالاسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتي نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. وقال المصطفي كلمته: (ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت بهذا. ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لامر الله حتي يحكم الله بيني وبينكم). ولجوا في العناد فقالوا: [ صفحه 95] - فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل. ورد المصطفي عليه الصلاة والسلام: (ذلك إلي الله، إن شاء أن يفعله بكم فعله). قالوا: يا محمد، أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل ما جئتنا به ؟ إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإذا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا. فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتي نهلكك أو تهلكنا، فلن نؤمن لك حتي تأتينا بالله والملائكة قبيلا. وأيقن المصطفي ألا معني للمضي في ذلك الجدل العقيم. فقام عنهم وقام معه ابن عمته عاتكة: عبدالله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، فقال له مخاصما: - يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم. ثم سألوك لانفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل. ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل. ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، فوالله لا أو من بك أبدا حتي تتخذ إلي السماء سلما ثم ترقي فيه وأنا أنظر إليك حتي تأتيها، ثم تأتي [ صفحه 96] معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول. وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك: [23] وانصرف المصطفي إلي أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه. حتي آنسه الوحي بكلمات ربه: (قل لئن اجتمعت الانس والجن علي أن يأتوا بمثل هذا القران لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (89) ولقد صرفنا للناس في هذا القران من كل مثل فأبي أكثر الناس إلا كفورا (90) وقالوا لن نؤمن لك حتي تفجر لنا من الارض ينبوعا (91) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا (92) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملئكة قبيلا (93) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقي في السماء ولن نؤمن لرقيك حتي تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (94) وما منع الناس ان يؤمنوا إذ جاءهم الهدي الا ان قالوا أبعث الله بشرا رسولا (95) قل لو كان في الارض ملئكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا - قل كفي بالله شهيدا بيني وبينكم، إنه كان بعباده خبيرا بصيرا.) (صدق الله العظيم) [ صفحه 97] هل كان الكفار من قريش في تكذيبهم بالمصطفي وجحدهم المعجزة، بحيث يغيب عنهم أن هذا القرآن ليس من قول البشر ؟ فيم إذن كان عناؤهم بالاسلام وإعناتهم الرسول، وحرصهم علي أن يأخذوا سبل الناس إلي مكة في الموسم، ليصدوا العرب عن سماع هذا القرآن ؟. وفيم كانت حيرتهم فيه لا يدرون بم يصفونه، وإنهم لعلي يقين من أنه ليس بشعر ولا سحر ولا كهانة ؟ وزعموا أن محمد افتراه ؟ لقد عاجزهم القرآن، بآية الاسراء، ومعهم من يظاهرهم من جن قيل إنها تلهم فحول شعرائهم روائع القصيد: (قل لئن اجتمعت الانس والجن علي أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا). ثم تحداهم بعدها، في سورة يونس، أن يأتوا بسورة مثله، واحدة فحسب، وليدعوا معهم من استطاعوا إن كانوا صادقين في زعم الافتراء: (وما كان هذا القرآن ان يفتري من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين - أم يقولون افتراه، قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين) - بل لماذا، وقد زعموا أن محمدا افتراه، لا يأتون بعشر سور مثله [ صفحه 98] مفتريات، وإنه لبشر مثلهم ؟ بهذا تحدتهم آية هود: (أم يقولون افتريه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين - فان لم يستجيبوا لكم فاعلموا انما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون -) بل لماذا وقد زعموا أنه تقوله، لا يتقولون مثل هذا الكتاب العربي المبين، والعربية لغتهم والبيان طوع ألسنتهم ؟ وإنه ليتحداهم، بآية الطور، أن يفعلوا: (فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون - أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون - قل تربصوا فإني معكم من المتربصين - أم تأمرهم أحلامهم بهذا، أم هم قوم طاغون - أم يقولون تقوله، بل لا يؤمنون - فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين -.) ولقد كان فيهم كهان يتسلطون عليهم بسحر السجع، وخطباء بلغاء وشعراء فحول، زعموا أن لهم توابع من الجن. وأعياهم مع ذلك أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، كانت تعفيهم، لو استطاعوا مجتمعين أن يأتوا بها، من مثل ذلك الجدل العقيم، والمفاوضات والمساومات، والمحاولات المضنية لصرف العرب عن سماع القرآن، والتسلط علي المسلمين بالاذي والاضطهاد. وتعفيهم مما كانوا يكرهون من تسفيه آبائهم وسب آلهتهم، ومما [ صفحه 99] كانوا يوجسون في أنفسهم خيفة من صدام مسلح يتوقع بين لحظة وأخري، وحرب تحصد الرؤوس وتأكل الاهل والعشيرة، وتهدر حرمة البيت العتيق والبلد الحرام. وهؤلاء هم، بكل جبروتهم وعنفوان عنادهم، يحتشدون لمقاومة بشر رسول، معجزته كلمات من وحي ربه، يعلمون علم اليقين أنها ليست من قول البشر، ويدركون حق الادراك أنهم لو خلوا بين المصطفي والعرب يتلو فيهم هذا الكتاب العربي المبين، لما ترددوا في الايمان بالمعجزة. وماذا عساهم، لو آمن العرب بدين التوحيد، صانعين بأوثانهم التي جعلت من أم القري المركز الاكبر للعبادة والتجارة ؟ وبالاوضاع السائدة والتقاليد والاعراف الراسخة، التي ضمنت لقريش نفوذها وثراءها ؟ بينهم وبين هذا القرآن حجاب: (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون - ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون) (حم - تنزيل من الرحمن الرحيم - كتاب فصلت آياته قرانا عربيا لقوم يعلمون - بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون - وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي اذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إنا عاملون - قل إنما أنا بشر مثلكم [ صفحه 100] يوحي الي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين -) (صدق الله العظيم) سجا الليل وهجعت أم القري، والمصطفي في بيته قائم لربه يتهجد بالقرآن حتي انبلج الفجر فصلي، والنور البازغ يهل من شرق الافق. وغير بعيد من بيته صلي الله عليه وسلم، التقي ثلاثة من مشركي قريش علي غير موعد: أبو سفيان بن حرب الاموي، وأبو جهل بن هشام المخزومي، والاخنس بن شريق الثقفي. وأقبل بعضهم علي بعض يتساءلون فيم الخروج في هذا الوقت ؟ وإذا كل واحد منهم قد تسلل في الليل مستترا بالظلام، فبات ليلته قريبا من بيت محمد، ليستمع إليه وهو يصلي ويتلو القرآن ! فتلاوموا، وتعاهدوا علي ألا يعودوا إلي مثلها، لئلا يراهم بعض السفهاء فيوقعوا في نفسه شيئا، أو يقتفي خطاهم فتنفذ كلمات القرآن إلي سمعه وقلبه وتملك عليه أمره. في الليلة التالية، عاد كل رجل منهم خفية إلي موضعه قرب بيت المصطفي، وفي حسابه أن صاحبيه علي عهدهما ألا يخرجا إلي هذا الموقف حتي طلع الفجر وتفرقوا فجمعهم الطريق، فتلاوموا وانصرفوا علي مثل عهدهم أول ليلة. [ صفحه 101] لكنهم عادوا خفية في الليلة الثالثة. فأخذ كل منهم مجلسه هناك، فباتوا يستمعون إلي القرآن حتي مطلع الفجر، لا يدري أحد منهم بمكان صاحبيه. فلما جمعهم الطريق تناكروا واشتدوا علي أنفسهم في التلاوم، وصمموا علي ألا يبرحوا مكانهم إلا علي عهد وثيق ألا يعودوا لمثلها أبدا. وأصبح الصبح فخرج (الاخنس بن شريق) من بيته مبكرا، يريد أن يحسم الامر. أتي أبا سفيان في داره فابتدره قائلا: - أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. قال أبو سفيان، في حيرة وتعثر، وقد بوغت بالسؤال: - يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. ثم أمسك لم يزد. فتركه الاخنس لم يدر ما رأيه، ومضي إلي أبي الحكم بن هشام يسأله الرأي فيما سمع من محمد. قال أبو جهل، في أخذة المباغتة: - ما سمعت ؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا. حتي إذا كنا كفرسي رهان قالوا: (منا نبي يأتيه الوحي من السماء) فمتي ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه [24] [ صفحه 102] وانصرف الاخنس وقد انكشف له المستور من أمر أبي جهل. تسامعت قريش بخروج سيد بني دوس: (الطفيل بن عمرو الدوسي) حاجا إلي مكة في الموسم، فأسرع رجال منهم يستقبلونه علي مشارفهما قبل أن يدخلها، وهم يحسبون له ألف حساب. كان شاعرا شريفا لبيبا مطاعا في قومه، فلو أن مشركي قريش تركوه يستمع إلي القرآن، لاسلم وأسلمت من ورائه قبيلة دوس كلها. قالوا: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه وأخيه وزوجه وبنيه، وإنا نخشي عليك وعلي قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه ولا تسمعن له شيئا. ثم ما زالوا به، ينصحون ويحذرون، حتي أقنعوه. فاطمأنوا إلي وعده وقد أجمع ألا يكلم محمدا ولا يسمع منه. واتجه طفيل إلي الكعبة وقد حشا أذنيه قطنا، يتقي به أن يبلغ سمعه صوت الداعي إلي الاسلام. غير أنه ما كاد يلمح المصطفي قائما يصلي عند الكعبة حتي اقترب منه علي غير قصد، فنفذت إلي سمعه كلمات من القرآن لم يصدها ما حشا به أذنيه. قال يحدث نفسه مسترجعا: واثكل أمي ! والله إني لرجل لبيب [ صفحه 103] شاعر ما يخفي القول علي، فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان حسنا قبلته وإن كان قبيحا تركته ؟ وانتظر حتي انصرف المصطفي إلي بيته، فاتبعه ودخل عليه فقال: - يا محمد، إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا. فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتي سددت أذني لئلا أسمع قولك. ثم أبي الله إلا أن يسمعني قولك فسمعته قولا حسنا، فاعرض علي أمرك. وعرض المصطفي عليه الاسلام، وتلا عليه القرآن. فيقول الطفيل: (فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه. فأسلمت وشهدت شهادة الحق. وقلت: يا نبي الله، إني امرؤ مطاع في قومي وأنا راجع إليهم وداعيهم إلي الاسلام، فادع الله أن يجعل لي آية تكون عونا عليهم فيما أدعوهم إليه) ودعا له المصطفي عليه الصلاة والسلام. ورجع (الطفيل) إلي قومه ووجهه يتألق بنور الايمان، فأقام فيهم يدعوهم إلي الاسلام. حتي كانت غزوة خيبر - في مستهل السنة السابعة للهجرة - فوفد (الطفيل بن عمرو الدوسي) علي النبي صلي الله عليه وسلم في دار هجرته، ومعه سبعون أو ثمانون بيتا أسلموا من بني دوس. وبقي الطفيل في صحبة المصطفي حتي لحق صلي الله عليه وسلم بالرفيق الاعلي، فقاتل صاحبه الطفيل مجاهدا في حرب الردة، حتي قتل شهيدا في (اليمامة) رضي الله عنه. [ صفحه 104]

هجرة إلي الحبشة

(والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولاجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون). (صدق الله العظيم) ضري اضطهاد المشركين للمسلمين في مكة، وشق علي المصطفي صلي الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وأنه لا يقدر علي أن يمنعهم منه، ولم يؤمر بقتال. فنصح لهم قائلا: (لو خرجتم إلي أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتي يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه.) فخرج الفوج الاول من مهاجرة الحبشة، وفيهم (رقية بنت محمد) [ صفحه 105] صلي الله عليه وسلم، مع زوجها (عثمان بن عفان) وابن خالها (الزبير ابن العوام بن خويلد الاسد). ومعهم من بني هاشم: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف. ومن بني عبد شمس: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة - أخو هند وصهر أبي سفيان بن حرب - تصحبه زوجه: سهيلة بنت سهيل بن عمرو العامري. ومن بني زهرة، أخوال المصطفي: عبدالرحمن بن عوف الزهري. ومن بني مخزوم، أصهار المصطفي: أبو سلمة بن عبد الاسد بن هلال، ابن عمة المصطفي: برة بنت عبد المطلب. معه زوجه (أم سلمة، هند بنت زاد الركب أبي أمية بن المغيرة المخزومي) التي تزوجها محمد عليه الصلاة والسلام، بعد وفاة أبي سلمة من أثر جرح أصابه في أحد. وفصل الركب من أم القري مودعا مغاني الصبا وديار الاهل والعشيرة. وأخذوا طريق الجنوب وقد هون عليهم مشقة الاغتراب وشجن الفراق، أن هاجروا في سبيل عقيدة آمنوا بها. والتمسوا العوض عمن فارقوا من أهل وأحباب، في هؤلاء الصحب الكرام، رفاق السفر والاخوة في الدين والهجرة. رحبت الحبشة بالمهاجرين الاولين، ثم ما لبثت أن استقبلت أفواجا جديدة من الصحابة المؤمنين، فيهم: جعفر بن أبي طالب - ابن عم المصطفي - وزوجه أسماء بنت عميس، وعمرو بن سعيد بن العاص [ صفحه 106] الاموي، وأخوه خالد. وعبد الله بن جحش - ابن عمة المصطفي أميمة بنت عبدالمطلب - معه امرأته (رملة بنت أبي سفيان) أم، حبيبة ابنته، التي ولدتها له في الحبشة. وعامر بن أبي وقاص الزهري. والسكران بن عمرو العامري، معه امرأته (سودة بنت زمعة بن قيس) التي ترملت وتزوجها المصطفي بعد عام الحزن. وبلغت عدة المهاجرين ثلاثة وثمانين رجلا، خرجوا من ديارهم وأموالهم مهاجرين بدينهم. وجاءت الانباء من الحبشة، أنهم وجدوا فيها دارا ومأمنا، وتناشد المسلمون في مكة قصيدة المهاجر (عبدالله بن الحارث بن قيس) وفيها يقول: يا راكبا بلغن عني مغلغلة - من كان يرجو بلاغ الله والدين كل امرئ من عباد الله مضطهد - ببطن مكة مقهور ومفتون إنا وجدنا بلاد الله واسعة - تنجي من الذل والمخزاة والهون فلا تقيموا علي ذل الحياة وخز - ي في الممات وعيب غير مأمون [ صفحه 107] جن غيظ قريش، فندبت اثنين من دهاتها: عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، ليرحلا إلي الحبشة فيفسدا ما بين النجاشي والمهاجرين المغتربين، ويسعيا لديه حتي يخذلهم ويسلمهم إلي قومهم. وبعثت معهما الهدايا مما يستطرف من أسواق مكة، رشوة إلي النجاشي وبطارقته، فانطلقا بها علي مرأي ومسمع من المصطفي عليه الصلاة والسلام والذين معه في أم القري. وأشفق أبو طالب من مكيدة الرجلين، علي من بأرض الحبشة من المهاجرين، وفيهم ابنه جعفر، وولدا بنتيه برة وأميمة، وحفيدة أخيه عبدالله رقية بنت محمد، وابن عمه مصعب بن عمير. فأنشد شعرا رجا أن يبلغ سمع النجاشي: ألا ليت شعري كيف في النأي جعفر - وعمرو، وأعداء العدو الاقارب وهل نالت أفعال النجاشي جعفرا - وأصحابه، أو عاق ذلك شاغب تعلم أبيت اللعن أنك ماجد - كريم فلا يشقي لديك المجانب وأنك فيض ذو سجال غزيرة - ينال الاعادي نفعها والاقارب فهزت قريش رؤوسها لما سمعت نداءه، وقال قائلها مستهزئا: ما يبلغ صوت الشيخ أبي طالب من مكيدة عمرو وصاحبه ؟ وما يجدي [ صفحه 108] الشعر مع الهدايا التي حملاها من مكة رشوة إلي النجاشي وبطارقته ؟ بدأ وافدا قريش بالبطارقة، فقبل كل بطريق هديته ووعد خيرا. ثم تقدما إلي النجاشي فوضعا الهدايا بين يديه وقالا له: (أيها الملك، إنه قد ضوي إلي بلدك غلمان منا سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت. وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أبصر بهم وأعلم بما عابوا عليه وعاتبوهم فيه). وأيد البطارقة المرتشون التماس الرجلين وقالوا للنجاشي: (صدقا أيها الملك. قومهم أعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فيرداهم إلي بلادهم وقومهم). لكن النجاشي أبي أن يسلمهم قبل أن ينظر في أمرهم ويسمع ما يقولون. وأمر باستدعاء رجال منهم فجاءوا وقد دعا النجاشي أساقفته ومعهم كتبهم الدينية. سأل المهاجرين: - ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل ؟ فأجاب عنهم جعفر بن أبي طالب: (أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الاصنام وناكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الارحام ونسئ الجوار ويأكل القوي منا الضعيف. [ صفحه 109] فكنا علي ذلك حتي بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلي الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والاوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الامانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. فصدقناه وآمنا به واتبعناه علي ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا. فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلي عبادة الاوثان وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث. فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلي بلادك واخترناك علي من سواك ورغبنا في جوارك، ورجونا ان لا نظلم عندك أيها الملك). سأله النجاشي: - هل معك مما جاء به عن الله من شئ فتقرأه علي ؟ فقرأ جعفر بن أبي طالب آيات من سورة مريم، لم تكد تترجم وتنفذ إلي سمع النجاشي حتي اغرورقت عيناه بالدمع خشوعا وتأثرا. وكذلك بكي أساقفته حتي أخضلوا مصاحفهم. وقال النجاشي، موجها خطابه إلي وافدي قريش: (إن هذا، الذي سمعت، والذي جاء به عيسي ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون). [ صفحه 110] وانصرفا، أما عبدالله بن أبي ربيعة - وكان أتقي الرجلين - فساوره ما يشبه القلق، لما رأي من خشوع النجاشي وأساقفته عندما سمعوا القرآن. وأخجله أن يكون هذ الملك لغريب أبر بالمهاجرين من قومهم وذوي أرحامهم. وأما عمرو بن العاص فلم يجد في موقف النجاشي ما يدعو إلي يأس، وله من ذكاء الحيلة وبراعة الدهاء ما يغريه بمعاودة الكرة. قال لصاحبه: (ولله لآتين النجاشي غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم). ورد عبد لله: (لا تفعل، فإن لهم أرحاما وإن كانوا خالفونا). فلم يبال عمرو تراجع صاحبه، بل قال كمن لم يسمع رده: (ولله لاخبرنه أنهم يزعمون أن عيسي بن مريم عبد). وسعي في الغد إلي قصر النجاشي فاستأذن في الدخول وقال بعد أن حياه: - أيها الملك، إنهم يقولون في عيسي بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. وأمر النجاشي فجئ بجعفر بن أبي طالب وصحبه من وفد المهاجرين، وقد سمعوا بمكيدة عمرو، وأجمعوا أمرهم علي أنهم إذا سئلوا عما يقولون في عيسي بن مريم، لم يجيبوا بغير ما جاءهم به المصطفي من وحي ربه. فلما اجتمع المجلس ابتدرهم النجاشي يسأل: - ماذا تقولون في عيسي بن مريم ؟ [ صفحه 111] أجاب جعفر: - نقول والله ما قال الله وما جاءنا به نبينا صلي الله عليه وسلم: هو عبدالله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلي مريم العذراء البتول. فمد النجاشي يده فالتقط عودا من الارض ثم قال لجعفر وصحبه: والله ما عدا عيسي بن مريم ما قلت هذا العود. اذهبوا فأنتم آمنون بأرضي، من سبكم غرم، وما أحب أن لي جبلا من ذهب وأني آذيت رجلا منكم. ثم التفت إلي بطارقته وقال وهو يشير إلي وافدي قريش: (ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها. فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه. وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه) [25] . مع المهاجرين إلي الحبشة، كانت (رملة بنت أبي سفيان بن حرب) في صحبة زوجها (عبيد الله بن جحش الاسدي) ابن عمة المصطفي، أمية بنت عبدالمطلب. خشيت أذي أبيها قائد المشركين في حربهم للاسلام، فرحلت مهاجرة، وتركته بمكة قد جن غيظه وقهره، أن أسلمت ابنته وليس له إليها سبيل. وفي الحبشة، وضعت رملة بنتها (حبيبة بنت عبيد الله) فما [ صفحه 112] كادت تأنس بها عمن فارقت في مكة من أهل ووطن، حتي روعت بما لم تروع به مسلمة غيرها: ارتد عبيد الله عن دينه الذي هاجر به إلي الحبشة، واعتنق النصرانية دين الاحباش. وكادت (أم حبيبة) تهلك غما وحسرة: فيم كانت هجرة عبيد الله، ومحنة البلاء بأذي قومه ؟ لقد كان أكرم له أن يبقي علي دين آبائه وأن يناضل عنه مع أهله وعشيرته، دفاعا عن مقدسات موروثة. أما أن يكفر بدين قومه ويرضي الاسلام دينا، ليصبأ في الحبشة ويستبدل بالاسلام دينا لقوم غرباء، كمن يبدل ثوبا بثوب، فأية مهانة وأي عار ؟ وهذه الوليدة الحبيبة، ما ذنبها لتبتلي بأب صابئ مرتد ؟ وما جريرتها لتبدأ الحياة في أرض غريبة وقد انبت ما بين أبويها وتمزق شمل أهلها وتوزعتهم ملل شتي: فأبوها نصراني، وأمها مسلمة، وجدها مشرك عدو للاسلام ؟ واعتزلت (أم حبيبة) الناس بابنتها، مضاعفة الغربة، قد تقوض بيتها في منازل المهاجرين، ولا سبيل لها إلي أرض الوطن، وأبوها هناك يضطهد الدين الذي آمنت به، ويؤذي النبي الذي صدقته واتبعته. وأين تراها تقيم في أم القري لو عادت ؟ [ صفحه 113] أفي بيت أبويها وقد حيل بينها وبينه منذ أسلمت ؟ أم في دار آل جحش رهط زوجها، وقد أوصدت أبوابها وصارت منهم مقفرة خلاء ؟ لقد بلغها من أنباء مكة أن (عتبة بن أبي ربيعة، والعباس بن عبدالمطلب، وأبا جهل بن هشام بن المغيرة) مروا بدار بني جحش وهم مصعدون إلي أعلي مكة، فنظر إليها (عتبة) تخفق أبوابها يبابا ليس فيها ساكن، ثم تنفس الصعداء وقال معتبرا: وكل دار وإن طالت سلامتها - يوما ستدركها النوباء والحوب أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها). فقال أبو جهل: (وما تبكي عليه ؟) ثم استطرد: (هذا عمل ابن أخي، فرق جماعتنا وشتت أمرنا وقطع بيننا) [26] كلا، لا سبيل لرملة إلي مكة والمعركة محتدمة بين أبيها والنبي الذي تصدقه، ودار بني جحش تخفق أبوابها يبابا ! في عزلتها الحزينة، جاءتها رسالة النجاشي مع مولاة له: (إن الملك يقول لك: وكلي من يزوجك من نبي العرب، فقد أرسل إليه ليخطبك له !). [ صفحه 114] لم تصدق أم حبيبة سمعها، فلما أعادت عليها مولاة النجاشي الرسالة التي جاءتها بها، استيقنت من البشري فنزعت سوارين لها من فضة، قدمتهما إلي أبرهة حلاوة البشري . ثم أرسلت إلي (خالد ابن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس) - كبير المهاجرين من قومها بني أمية، فوكلته في زواجها. وتم عقد الزواج، وأولم النجاشي وليمته لشهود العقد من المسلمين المهاجرين. وباتت أم حبيبة ليلتها وهي أم المؤمنين. وفي الصباح حملت إليها مولاة النجاشي هدايا نسائه من عود وعنبر وطيب. فقالت أم المؤمنين وهي تقدم إليها خمسين دينارا، من صداقها: (كنت أعطيتك السوارين أمس وليس بيدي شئ من المال، وقد جاءني الله عزوجل بهذا). فأبت الفتاة أن تمس الدنانير، وردت السوارين قائلة إن الملك أجزل لها العطاء وأمرها ألا تأخذ من السيدة زوج النبي العربي شيئا، كما أمر نساءه أن يبعثن إليها مما عندهن من طيب. وتقبلت أم المؤمنين الهدية شاكرة، فاحتفظت بها حتي حملتها معها إلي بيت النبي حين تركت الحبشة إلي المدينة في السنة السادسة للهجرة، فكان النبي صلي الله عليه وسلم يري عندها طيب الحبشة وعودها فلا ينكره. [27] . [ صفحه 115] في انتظار عودة عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة من الحبشة، التمست قريش غفوة تنسي فيها قهرها وهمها، وتستمرئ مذاق أحلامها برجوع وافديها إلي النجاشي، ومعهما المهاجرون مطرودين من جواره وأرضه، لتسومهم سوء العذاب فيكونوا عبرة لغيرهم من المسلمين، لا رجاء لاحد منهم بعدها في مهرب، وقريش من ورائهم تطاردهم فتدركهم حيثما ذهبوا، فكأنهم وإياها نابغة بني ذبيان إذ يقول للنعمان ابن المنذر: فإنك كالليل الذي هو مدركي - وإن خلت أن المنتأي عنك واسع لكنها غفوة لم تطل: خبر تردد في أحياء مكة، هز مضاجع الغافين وأطار النوم من عيونهم ومزق أحلامهم بددا. واسترابوا في يقظتهم تحت صدمة المباغتة، فخيل إليهم أن ما يسمعون عن (عمر بن الخطاب) لا يعدو أن يكون من أضغاث الهواجس وهذيان الوهم. أيمكن أن يسلم عمر ؟ لا بد أن من نقل الخبر وهم فيه كما وهمت (أم عبدالله بن عامر) حين مر بها عمر بن الخطاب وهي وأهلها يترحلون إلي أرض الحبشة، وقد خرج زوجها عامر بن ربيعة في بعض حاجاتهم. قال لهم عمر: إنه للانطلاق يا أم عبدالله ؟ [ صفحه 116] فردت عليه وقد ذكرت ما كانوا يلقون من البلاء والاذي: - نعم والله، لنخرجن في أرض الله. آذيتمونا وقهرتمونا، حتي يجعل الله مخرجا. فما زاد عمر علي أن قال: صحبكم الله ! فأحست منه رقة لم تكن تراها من قبل، وتحدثت بذلك إلي زوجها عامر حين عاد، وقالت فيما قالت: - يا أبا عبدالله، لو رأيت عمر آنفا، ورقته وحزنه علينا ؟ سألها زوجها مستخفا بسذاجتها وطيب قلبها: - أطمعت في إسلامه ؟ أجابت: نعم. قال عامر: فلا يسلم الذي رأيت حتي يسلم حمار ابن الخطاب ! وتناقل المشركون كلمته، وما منهم إلا وهو علي رأي عامر بن ربيعة، يأسا من إسلام عمر بن الخطاب، لما كان يري من غلظته وشدة قسوته علي الاسلام. وما كان الذي ظنته (أم عبدالله بن عامر) من رقته إلا وهما. أو هذا هو ما تعلل به المشركون وهم يسمعون ما أنكرت آذانهم من القصة الغريبة عن إسلام عمر بن الخطاب. خرج متوشحا سيفه، وأخذ مسراه إلي (الصفا) وفي عينيه بريق يتوهج. [ صفحه 117] فهناك عند الصفا بيت يعرفه، سمع أن محمدا يجتمع فيه مع رهط من صحابته، نحو أربعين، ليعبدوا رب محمد. وفي طريقه إلي هذا البيت عند الصفا، لقيه (نعيم بن عبدالله) فسأله: أين تريد يا عمر ؟ أجاب: أريد محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها، فأقتله. قال له نعيم: - غرتك نفسك يا عمر ! أتري بني عبد مناف تاركيك تمشي علي الارض وقد قتلت محمدا ؟ أفلا ترجع إلي أهل بيتك فتقيم أمرهم ؟ سأله عمر مستريبا: - وأي أهل بيتي ؟ قال نعيم: - صهرك وابن عمك، سعيد بن زيد بن عمر، وزوجه فاطمة بنت الخطاب. أختك. فقد والله أسلما وتابعا محمدا علي دينه، فعليك بهما. وصك الخبر مسمع عمر، فعدل عن طريق الصفا وانطلق إلي بيت صهره وابن عمه، يهدر بالغضب والوعيد. فلما دنا من البيت، توقف يصغي إلي تلاوة خافتة، ثم اقتحم الباب فلمح أخته فاطمة تخفي صحيفة معها. سأل وهو ينقل بصره بينها وبين زوجها سعيد: [ صفحه 118] - ما هذه الهيمنة التي سمعت ؟ لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا علي دينه. وبطش بابن عمه سعيد بن زيد، فقامت فاطمة لتكفه عن زوجها فضربها فشجها، وعندئذ قالا معا، في تحد وإصرار: - نعم لقد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. وفجأة تراخت قبضة عمر عن سعيد، وكأنما أخذ بإيمانهما أو كأنه ندم حين رأي دم أخته يتدفق من أثر شجته. قال لها مسترجعا: - أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأون منها آنفا، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد. وأقسم لها بآلهته، ليردن الصحيفة إليها بعد أن ينظر ما فيها. لكنها أبت عليه أن يمسها حتي تطهر، فأعطته إياها وفيها (سورة طه) وقرأها عمر فبدا عليه الخشوع وقال: - ما أحسن هذا الكلام وأكرمه ! وعاد الساري فأخذ طريقه إلي الصفا. طرق باب البيت علي المصطفي وصحابته، فقام رجل منهم فنظر من خلل الباب، ثم أقبل علي المصطفي فقال وما يخفي فزعه: - يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف. قال عليه الصلاة والسلام: (ائذن له). ونهض إليه فلقيه في الحجرة وسأله: - ما جاء بك يا ابن الخطاب ؟ [ صفحه 119] أجاب عمر: جئتك لاومن بالله، وبرسوله، وبما جاء من عند الله. عندئذ كبر المصطفي عليه الصلاة والسلام تكبيرة عرف منها أهل البيت من الصحابة (أن عمر قد أسلم). وسري صداها في أرجاء مكة بخبر إسلام عمر، فبات المشركون بين مصدق ومكذب. حتي غدا (عمر) عليهم في أنديتهم حول الكعبة، وقد تقدمه ابن معمر الجمحي، فصاح بأعلي صوته: - يا معشر قريش، ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ. قال (عمر) من خلفه: - كذب، ولكني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. وثاروا إليه، فواجههم فردا لا يباليهم، ثم أخذ مجلسه قرب الكعبة وهو يقول: - افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا !. [ صفحه 120]

الحصار وعام الحزن

(ما عندكم ينفذ وما عند الله باق، وليجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون). (صدق الله العظيم) لم يكن المشركون من قريش قد أفاقوا من صدمة إسلام عمر بن الخطاب، حين عاد وافداهم إلي النجاشي، يحملان إلي مكة صدمة الخيبة وفشل المسعي. فهل لم يبق إلا الحرب ؟ لقد رفض المصطفي كل ما عرضوه عليه من مقترحات ليكف عن دعوته، وأبي أن يساوموه علي دينه. [ صفحه 121] وكذلك فشلت كل المفاوضات مع أبي طالب، ليكف عنهم ابن أخيه أو يخلي بينهم وبينه. والاسلام يفشو في القبائل، وزعامة قريش تهتز وتترنح، وتوشك أن تفقد سيطرتها علي الموقف، وقد اعتز الاسلام بحمزة بن عبدالمطلب وعمر بن الخطاب، ومثلهما في الرجال قليل. وهذا النجاشي يفتح بلاده لمن يهاجر من المسلمين، ويؤمن كل من يلجأ إليه منهم، ويأبي أن يمسهم أذي في جواره. وبدأت قريش تتأهب لجولة حاسمة، ولمح أبو طالب نذر الشر فدعا عشيرته الاقربين إلي منع محمد - صلي الله عليه وسلم - والقيام دونه، فأجابوه، إلا أبا لهب، عبد العزي ابن عبدالمطلب بن هاشم. لكن قريشا، وقد عيل صبرها من صبر المسلمين، كرهت أن تخوض حربا مسلحة مع آل عبدالمطلب وبني هاشم، وهم من صميمها. واستقر الرأي بعد طول مداولات، علي أن تفرض عليهم حصارا اقتصاديا واجتماعيا لا يرحم. واجتمع زعماء قريش فائتمروا فيما بينهم علي مقاطعة بني هاشم: لا يصهرون إليهم ولا يبيعونهم شيئا ولا يبتاعون منهم. وسجلوا حلف التعاقد في صحيفة علقوها في جوف الكعبة، توثيقا لحرمتها وتوكيدا علي أنفسهم في التزامها [28] . [ صفحه 122] وأقاموا علي ذلك الحلف المشئوم زمنا، سنتين أو ثلاثا، لقي فيها المسلمون والهاشميون من جهد الحصار ما لا يحتمل، وحيل بينهم، وقد انحازوا إلي شعب أبي طالب، وبين الطعام والشراب يشترونه من التجار الوافدين علي أسواق مكة، وقد يأتي أحد المنحازين إلي الشعب سوق مكة يلتمس قوتا يشتريه لعياله، فيقوم أبو لهب ويصيح بالتجار: (غالوا علي أصحاب محمد حتي لا يدركوا معكم شيئا، وقد علمتم مالي ووفاء ذمتي). فيزيد التجار ثمن السلعة أضعافا مضاعفة، ويرجع أصحاب محمد إلي صبيتهم بالشعب وليس في أيديهم طعام، ويرجع التجار إلي أبي لهب فيفيهم ثمن ما غالوا فيه علي المحاصرين فلم يدركوه. وبلغ منهم الجوع وجهد الحصار مبلغا يصوره قول (سعد بن أبي وقاص) بعد محنة الحصار بسنين: (لقد جعت حتي إني وطئت ذات ليلة علي شئ رطب فوضعته في فمي وبلعته، وما أدري ما هو حتي الآن). وكانت التمرة الواحدة ربما وقعت لاثنين منهم يقتسمانها فيكون أحسنهما حظا من وقعت نواة التمرة في قسمه، يلوكها بقية يومه ! وإنما كان طعامهم الخبط وورق السمر، وما قد يأتيهم به سرا بعض ذوي رحمهم، بدافع من المروءة والنجدة، مستخفيا به من طواغيت قريش الساهرين علي إحكام الحصار وإنفاذ وثيقة المقاطعة. نقل ابن هشام في (السيرة النبوية) والطبري في (تاريخه) أن أبا [ صفحه 123] جهل بن هشام لقي (حكيم بن حزام بن خويلد الاسدي) معه غلام يحمل قمحا، يريد به عمته (خديجة بنت خويلد) مع زوجها المصطفي في شعب أبي طالب. فتعلق أبو جهل بحكيم وقال له: - أتذهب بالطعام إلي بني هاشم ؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتي أفضحك بمكة. ولمحهما (أبوالبختري بن هاشم الاسدي) فجاء يسأل أبا جهل: مالك وله ؟ قال: يحمل الطعام إلي بني هاشم. فما راعه إلا أن قال أبوالبختري: (وما في هذا ؟ طعام كان لعمته عنده، بعثت إليه فيه. أفتمنعه أن يأتيها بطعامها ؟ خل سبيل الرجل). فرفض أبو جهل أن يستجيب له، وتشادا فأخذ أبوالبختري لحي بعير فضربه به فشجه، ووطئه وطئا شديدا. وحمزة بن عبدالمطلب يري ذلك من قرب، ويتأهب للبطش بأبي جهل. وهم يكرهون مع هذا ان يبلغ خبر ذلك ومثله، رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه بالشعب. ثم كان لليل الحصار آخر: اهتزت ضمائر نفر من قريش فأنكروا الحلف المشئوم الذي تورطوا [ صفحه 124] في التعاقد عليه منفعلين بعاطفة الجماعة وغريزة القطيع. وقد صبروا عليه طويلا مكرهين، حتي بلغ ذروته القاسية في مثل ما كان من أبي جهل بن هشام مع حكيم بن حزام. وكان أول من تكلم في الحلف وسعي في نقضه (هشام بن عمرو ابن ربيعة العامري) وكانت تربطه بالهاشميين صلة رحم، فهو ابن أخي نضلة بن هاشم، لامه. وقد دأب طول مدة الحصار، علي أن يصلهم. فكان يأتي ليلا بالبعير قد أوقره طعاما أو ثيابا، حتي إذا بلغ به مدخل الشعب خلع خطامه من رأسه وضربه علي جنبه، فيدخل البعير الشعب علي من فيه، بما يحمل. فلما طال عليهم جهد الحصار، مشي هشام بن عمرو بن ربيعة العامري، إلي (زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي زاد الركب) وأمه عاتكة بنت عبدالمطلب، عمة المصطفي. قال له هشام: (يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث علمت، لا يباعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم ؟ أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلي مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبدا). ففكر زهير مليا ثم سأل: (ويحك يا هشام، فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد. والله لو كان [ صفحه 125] معي رجل آخر لقمت في نقض الصحيفة حتي أنقضها). قال هشام: قد وجدت رجلا. فسأله: من هو ؟ أجاب: أنا ! قال زهير: ابغنا رجلا ثالثا. فذهب هشام إلي (المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف) فقال له: (يا مطعم، أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد علي ذلك موافق لقريش فيه ؟ أما والله لئن أمكنتموهم من هذه، لتجدنهم إليها منكم سراعا). فكان جواب مطعم كجواب زهير. وخرج هشام يبغي رجلا رابعا، فاختار (أبا البختري بن هشام الاسدي) لما عرف من مروءته ونخوته، وما ذاع من خبره مع أبي جهل حين أراد أن يحول بين حكيم بن حزام الاسدي، والذهاب بالطعام إلي عمته. حدثه هشام العامري بمثل ما حدث به صاحبيه زهيرا ومطعما، وسأله أبوالبختري: هل أجد من يعين علي هذا ؟ أجاب هشام: نعم، زهير بن أبي أمية المخزومي زاد الركب، ومطعم بن عدي بن نوفل، وأنا، معك). فنظر أبوالبختري بعيدا إلي ما يتوقع من حمق قريش في غضبها للحلف المعقود الموثق، وطلب إلي هشام أن يبغي مؤيدا خامسا، فذهب [ صفحه 126] إلي (زمعة بن الاسود بن عبدالمطلب الاسدي) فكلمه في بني هاشم، وذكر له قرابتهم منه وحقهم عليه. فأجاب زمعة. وتواعد الرجال الخمسة علي اللقاء ليلا بخطم الحجون، أعلي مكة. وهنالك أجمعوا أمرهم وتعاهدوا علي القيام في أمر الصحيفة الظالمة حتي ينقضوها. واختاروا من بينهم (زهير بن أبي أمية المخزومي. ليكون أول من يجاهر برفض الصحيفة ونقض الحلف، في مجتمع قريش بأم القري. فلما أصبحوا وغدت قريش إلي أنديتها، غدا (زهير) عليه حلة، فطاف بالبيت العتيق سبعا ثم أقبل علي الناس فقال: (يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكي لا يباع لهم ولا يبتاع منهم ؟ والله لا أقعد حتي تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة). صاح أبو جهل بن هشام، وكان في ناحية من البيت الحرام: (كذبت، والله لا تشق). فرد عليه زمعة بن الاسود: (أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حيث كتبت !) وثني أبوالبختري: (صدق زمعة، لا نرضي ما كتب فيها ولا نقره). وأيدهما مطعم بن عدي: (صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلي الله منها ومما كتب فيها). [ صفحه 127] وتكلم هشام بن عمرو، فقال نحو ما قالوا. وبهت أبو جهل، والاصوات تأتيه من كل ناحية بالتكذيب والرفض، فنقل بصره حائرا بين هؤلاء الرجال الخمسة، ثم لم يجد في أخذة المباغتة بموقفهم سوي أن يقول: (هذا أمر قضي فيه بليل، تشوور فيه بغير هذا المكان). لم يلقوا إليه بالا، وقام المطعم علي مرأي من الجمع، وأبو طالب هناك قد انتحي ناحية من المسجد - فانتزع الصحيفة من مكانها في جوف الكعبة ليشقها، فإذا بالارضة قد أكلتها وأتلفتها، لم تدع منها إلا كلمة: (باسمك اللهم) !. وجمت قريش، ونهض أبو طالب يسعي إلي من في شعبه بالبشري، وقد ذكر وهو في طريقه من البيت العتيق، بنيه الذين هاجروا إلي الحبشة، فهتف منشدا، يرجو أن يبلغهم هنالك صدي صوته: ألا هل أتي بحرينا صنع ربنا - علي نأيهم، والله بالناس أرود فيخبرهم أن الصحيفة مزقت - وأن كل ما لم يرضه الله مفسد تراوحها إفك وسحر مجمع - ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد [ صفحه 128] جزي الله رهطا بالحجون تتابعوا - علي ملا، يهدي لحزم ويرشد قعودا لدي خطم الحجون كأنهم - مقاولة، بل هم أعز وأمجد قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا - علي مهل إذ سائر الناس رقد وكنا قديما لا نقر ظلامة - وندرك ما شئنا ولا نتشدد فيا لقصي هل لكم في نفوسكم - وهل لكم فيما يجئ به غد فإني وإياكم كما قال قائل: - (لديك البيان لو تكلمت أسود) [29] وأيقظ صوته كل من في الشعب، فهللوا للبشري وهتف المسلمون منهم: (الله أكبر). وسعوا إلي الكعبة فطافوا بها، ثم آبوا إلي بيوتهم في أم القري، ينتظرون ماذا يكون من أمر قريش بعد أن تهاوي الحصار. [ صفحه 129] لكن محنة الحصار لم تنجل إلا لتسلم إلي ليل طويل لا يبدو له آخر. ماتت (السيدة خديجة) أم المؤمنين الاولي، وزوج نبيهم المصطفي وسكنه ووزيره، في العاشر من رمضان سنة عشر من المبعث. ومات في العام نفسه (أبو طالب) عم المصطفي وكافله ومانعه، ومن كان له عضدا وحرزا وناصرا علي قومه. فأحيا موتهما ما مات من أمل المشركين في النصر بعد تهاوي الحصار، فعادت وطأة الاضطهاد إلي أشد ما كانت عليه قبل (عام الحزن). وأحس المصطفي وحشة الغربة في بيته وأرض مبعثه، واشتدت عليه وطأة الحزن لفقدهما، حتي خيل لاعدائه أن النصر عليه جد قريب، ما دروا أن الظلمة تشتد قبيل الفجر ! أدرك عليه الصلاة والسلام أن الموقف لا بد أن يتخذ متجها آخر. وراح يمد بصره إلي ما وراء مكة، يستوعب أبعاد الرؤية لما يحتمل من متجه الاحداث. [ صفحه 130]

الاسراء

(سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الاقصي الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا، إنه هو السميع البصير). (صدق الله العظيم) قبل الهجرة كانت رحلة الاسراء، وقد اقترب أوان التحرك إلي موقع جديد، بعد أن بلغت الجولة المكية ذروة تعقدها. واحتاج مثل ذلك التحول الخطير إلي عملية امتحان قبله، تستخلص الصفوة المؤمنة التي تصلح لاجتياز معبر التحول، وتقدر علي حمل تكاليف الجهاد في الجولة الصعبة التي كانت تنتظر الاسلام في دار هجرته. [ صفحه 131] وفي الواقع التاريخي، أن السنوات العشر الاولي من المبعث، مضت تمتحن المسلمين الاولين بالفتنة والاذي والاضطهاد. وقد تأخر الاذن لهم في القتال، ريثما تتم عملية الامتحان والتمحيص، فكان الثبات لوطأة الفتنة وجهد الحصار، يستصفي للاسلام جنده المخلصين. ثم جاءت آية الاسراء، تتمة حاسمة لهذا الاستصفاء. لم تكد الليلة في أولها، تختلف عن ليال سابقات تتابعت علي مدي سنين، من ليلة المبعث: طواغيت المشركين من قريش مجتمعون في دار الندوة، يحورون ويدورون في حلقة مفرغة، التماسا لوسيلة أو ثغرة ينفذون منها عبر الطريق المسدود. والمصطفي عليه الصلاة والسلام، قد أقام صلاة العشاء فيمن كان معه من آله وصحبه، وأوي إلي خلوته يتعبد ويتهجد كعادته في كل ليلة، وما من أحد يتوقع أن يأتي الفجر القريب بجديد غير المعهود المألوف في أم القري. وبزغ نور الفجر، والمصطفي حيث تركه آله وأصحابه بعد صلاة العشاء، وقام عليه الصلاة والسلام فصلي بمن معه، ثم جلس فيهم بعد الصلاة يحدثهم أنه قد أسري به في ليلته تلك، من المسجد الحرام إلي المسجد الاقصي. [ صفحه 132] واشرأبت إليه قلوبهم، وشدت أسماعهم إلي حديث الاسراء، ولو استطاعوا لامسكوا أنفاسهم المبهورة، لكي يخلص إليهم صوت نبيهم في أنقي صفائه وتفرده. وانتهي الحديث، وران عليهم صمت خاشع، أخذهم فيه العجب كل مأخذ وهم يستعيدون فيما بينهم وبين أنفسهم حديث الاسراء، ويحاولون أن يستوعبوا أبعاد رؤياه الباهرة، ويتمثلوا مشاهده المثيرة. ولعلهم ما كانوا ليجرحوا هذا الصمت، لولا أن رأوا النبي عليه الصلاة والسلام يقوم من مصلاه، آخذا طريقه إلي حيث كان أهل مكة قد بدأوا حركتهم اليومية مع مشرق الصبح. عندئذ قامت (أم هانئ بنت أبي طالب) فتشبشت بابن عمها المصطفي، تضرع إليه ألا يحدث الناس بما رأي، لئلا يكذبوه. وتلبث عليه الصلاة والسلام يسمع ما تقول بنت عمه، وقد أدرك ما يساورها من قلق وخوف. ثم استأنف سيره ليلقي القوم، مسلمين ومشركين، بحديث الاسراء. ماذا قال عليه الصلاة والسلام عن مسراه في تلك الليلة ؟ وما الذي نزل في الاسراء من آيات القرآن ؟ في صحيح الحديث تفصيل لرحلة الاسراء من بدئها في المسجد الحرام: [ صفحه 133] جاء (جبريل) أمين الوحي، والمصطفي نائم. فأيقظه من نومه وحمله علي البراق - دابة بين البغل والحمار - وانطلق يسري به حتي وصل إلي بيت المقدس، حيث وجد فيه ابراهيم وموسي وعيسي، في نفر من الانبياء عليهم السلام، فأمهم المصطفي للصلاة. ومن الصحابة من يقتصر - فيما نقل ابن هشام عن ابن اسحاق في: السيرة النبوية - علي هذه الرحلة من المسجد الحرام إلي المسجد الاقصي، ذهابا وأوبة. ومنهم كثير، يروون معها قصة المعراج من بيت المقدس صعودا في السماء إلي سدرة المنتهي، ثم عودة إليه حيث ينطلق البراق ساريا بالمصطفي إلي موضعه الاول، بالمسجد الحرام [30] وهذا الحديث مروي بإسناد عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، وقد يختلفون في بعض التفاصيل، لكن الحديث في جملته ليس موضع خلاف: ففي المكان الذي بدأ منه الاسراء، هناك رواية تقول إن المصطفي كان نائما بالحجر حين أتاه جبريل فأيقظه. وتؤيدها آية الاسراء بصريح قوله تعالي: (من المسجد الحرام). وهناك رواية أخري عن (أم هانئ بنت أبي طالب) قالت: (ما أسري برسول الله صلي الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي: نام عندي تلك الليلة فصلي العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا. فلما كان قبيل [ صفحه 134] الفجر أهبنا صلي الله عليه وسلم، فلما صلي الصبح وصلينا معه قال: يا أم هانئ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه. ثم قد صليت صلاة الغداة معكم كما ترين). ومع نص آية الاسراء: (من المسجد الحرام) حمل المفسرون رواية أم هانئ، علي أن المسجد الحرام يمكن أن يتأول في معني الحرم، والحرم كله مسجد. ولم يذكر القرآن الكريم تفصيلا لمشاهد الاسراء، فليس في سورته إلا آيتها الاولي التي تحدد مجال الاسراء وغايته: (سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الاقصي الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) ومعها، آية الرؤيا من سورة الاسراء: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس). فهل كان الاسراء من تجلي الرؤيا، أو كان حقيقة بالجسد ؟ ذلك ما اختلف فيه الصحابة أنفسهم: في رواية عن (ابن عباس): (إنها رؤيا عين أريها رسول الله صلي الله عليه وسلم، وليست رؤيا منام). ورواية أخري عن السيدة (عائشة أم المؤمنين) تقول: [ صفحه 135] (ما فقد جسد رسول الله صلي الله عليه وسلم، ولكن الله أسري بروحه). وقد نقل ابن إسحاق هذا الخلاف بين أن يكون الاسراء بالجسد حقيقة، أو بالروح رؤيا، ثم قال: (وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم، فيما بلغني، يقول: تنام عيناي وقلبي يقظان. (والله أعلم أي ذلك كان قد جاءه، وعاين فيه ما عاين من أمر الله، علي أي حاليه كان: نائما أو يقظان، كل ذلك حق وصدق) [31] وكان ما أراد الله للاسراء برسوله، من (فتنة للناس) وابتلاء لمن آمنوا منهم، وللذين أسلموا ولم يدخل الايمان في قلوبهم. وقد يكفي لبيان ما كان من فتنة الاسراء، أن نقرأ ما نقل (ابن هشام) رواية عن ابن إسحاق: (فلما أصبح صلي الله عليه وسلم، غدا علي قريش فأخبرهم الخبر. فقال أكثر الناس: (هذا والله العجب البين. والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلي الشام مدبرة، وشهرا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة، ويرجع إلي مكة ؟). (فارتد كثير ممن كان أسلم. وذهب الناس إلي أبي بكر - ولم يكن قد سمع بعد حديث المصطفي عن الاسراء - فقالوا له: [ صفحه 136] - هل لك يا أبا بكر في صاحبك ؟ يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلي فيه ورجع إلي مكة ! فقال لهم أبو بكر: - إنكم تكذبون عليه. قالوا: بلي، ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس. قال أبو بكر: - والله لئن كان قاله، لقد صدق. فما يعجبكم من ذلك ؟ فوالله إنه ليخبرني أن الوحي ليأتيه من السماء إلي الارض في ساعة من ليل أو نهار، فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه) [32] وغير بعيد من رواية (السيرة) ما نقله (الامام الطبري) في تفسيره: (قال المشركون من قريش: تعشي - فينا بمكة - وأصبح فينا، ثم زعم أنه جاء الشام في ليلة ثم رجع ! وايم الله إن الحدأة لتجيئها في شهرين: شهرا مقبلة وشهرا مدبرة. ما كان محمد لينتهي حتي يأتي بكذبة تخرج من أقطارها. (فأتوا أبا بكر فقالوا له: - هذا صاحبك يزعم أنه أتي الشام في ليلته فصلي ببيت المقدس ثم رجع ! فرد أبو بكر: - أو قد قال ذلك ؟ والله لئن كان قاله لقد صدق). [ صفحه 137] فلما جادلوه فيه، قال: أصدقه بخبر السماء - وحيا - والسماء أبعد من بيت المقدس، ولا أصدقه بخبر بيت المقدس ؟ (ثم أقبل أبو بكر حتي انتهي إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فسأله: - يا نبي الله، أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة ؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم. فسأله أبو بكر أن يصفه له، فجعل رسول الله يصفه لابي بكر، فكلما وصف منه شيئا قال أبو بكر: - صدقت، أشهد أنك رسول الله. قال عليه الصلاة والسلام لصاحبه: - وأنت يا أبا بكر الصديق) [33] وحقق الاسراء آيته: فتنة وابتلاء وتمحيصا: نحي عن حزب الله من رابهم أمر الاسراء بالمصطفي، وليس أعجب من الوحي يأتيه من الله سبحانه. واستصفي للاسلام جنده المخلصين، ممن صح إيمانهم وصدقت عقيدتهم. وصدق الله تعالي: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس). [ صفحه 139]

بوادر التحول

اشاره

نجران. ويثرب - ابواب موصدة - بيعة العقبة ومتجه الاحداث [ صفحه 141]

نجران ويثرب

(قتل أصحاب الاخدود - النار ذات الوقود - إذ هم عليها قعود - وهم علي ما يفعلون بالمؤمنين شهود - وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد). (صدق الله العظيم) حتي عام الحزن، كانت نجران ويثرب تبدوان بعيدتين عن مسرح الاحداث. وفي نجران مركز النصرانية في بلاد العرب. وفي يثرب وما حولها من شمال الحجاز، مستعمرات يهود. وقد يظن ألا يختلف موقف نصاري نجران من الاسلام عن موقف [ صفحه 142] يهود الشمال، وهؤلاء وأولئك أهل كتاب يتلون التوراة والانجيل ويصدقون برسالات الله. لكن موقفهما في الواقع التاريخي كان جد مختلف: نصاري نجران عرب مؤمنون، فيهم رهبان بررة كانوا هناك ملء القلوب والاسماع، إخلاصا في العبادة وعزوفا عن الشهوات وعزوفا عن أعراض الدنيا. ويهود يثرب أجانب طارئون دخلاء، يدعون الموسوية ذريعة استغلال، وفيهم أحبار ذوو عدد، شغلوا عن الدين بالدنيا. راب نصاري نجران قبيل الاسلام، أن كان اليهود ممن روجوا لبشري المبعث. فهل قصدوا بهذا إلي أن يلقوا غشاوة علي أبصار العرب، كيلا تلمح علي سحنتهم بصمة الجريمة النكراء للائتمار بالسيد المسيح عليه السلام ؟ لقد بعد العهد بها، كما بعد مسرحها في القرية الظالمة عن بلاد الحجاز وأرض المبعث، لكن النصاري بوجه عام لم يكونوا لينسوا هذه الجريمة، فضلا عن أن ينسي نصاري نجران جريمة أخري لم يتقادم عليها الزمن، بلغ ضحاياها عشرين ألفا من نصاري العرب في نجران، أول عهدها بالنصرانية. المأساة بدأت حين وفد علي ديارهم راهب نصراني صالح، ابتني له خيمة بضواحي نجران وعكف علي عبادة الله. فمال إليه فتي عربي من أهلها، وكانوا علي دين العرب أهل شرك، قد اتخذوا نخلة باسقة [ صفحه 143] وثنا لهم، وجعلوا لها يوم عيد يعكفون فيه علي نخلتهم ويعلقون عليهم أحسن ثيابهم وحلي نسائهم. واسم الفتي العربي (عبدالله بن الثامر) وكان أبوه يرسله إلي ساحر مشهور هناك ليلقنه أسرار الصنعة، فكلما مر في طريقه إلي الساحر بخيمة الراهب، أطال الوقوف قريبا من بابه، يصغي إلي تراتيله وصلواته. وعلي يد (ابن الثامر) تنصر أكثر عرب نجران، فسار إليهم (ذو نواس) بتحريض من يهود اليمن، فدعاهم إلي اليهودية وخيرهم بينها وبين القتل، فاختاروا أن يموتوا علي دينهم، شهداء. وأمر ذو نواس جنوده، وكلهم يهود، فحفروا أخدودا عميقا أوقدوا فيه النار، وسيق ألوف من النصاري المؤمنين فألقوا في نار الاخدود، والمجرمون محيطون بهم يقتلون كل من يحاول الخلاص من الحريق، ضربا بالسيف. وظلت مأساة الضحايا الشهداء - وفي الخبر أنهم قاربوا عشرين ألفا من الرجال والنساء - تؤرق نجران حتي أوان المبعث. وفي أولئك الضحايا المؤمنين، وفي السفاحين من أصحاب الاخدود، نزلت آيات البروج: (والسماء ذات البروج - واليوم الموعود - وشاهد ومشهود - قتل أصحاب الاخدود - النار ذات الوقود - إذ هم عليها قعود - وهم علي ما يفعلون بالمؤمنين شهود - وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله [ صفحه 144] العزيز الحميد - الذي له ملك السموات والارض، والله علي كل شئ شهيد - إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق -) وعرب الحجاز كانوا قبل الاسلام بعيدا عن مأساة الاخدود، فألقوا أسماعهم إلي ما روج يهود من بشري مبعث نبي حان زمانه، غير مستريبين فيما وراء هذه البشري من قصد. لكن نصاري نجران، رابهم الامر من يهود عقوا نبيهم موسي، وكفروا بالمسيح وائتمروا به وبمن اتبعه من المؤمنين. وبعث المصطفي عليه الصلاة والسلام، ونجران علي نصرانيتها. وكان نصاراها بشهادة مؤرخي الاسلام: (أهل فضل وتقوي واستقامة) وقد سمعوا بأخبار المبعث من جيرانهم وأهل ملتهم نصاري الحبشة، وتوقعوا أن يكون ليهود دور خبيث مع الدين الجديد، وإن لم يكن هذا الدور قد بدأ بعد. وكان لا بد لنصاري نجران من أن يطمئنوا إلي رأي في الاسلام ونبيه العربي الامي وذلك ما لا سبيل إليه في دوامة الاخبار والشائعات التي تتعثر وتضطرب في طريقها إليهم، فتأتيهم مشوشة مختلطة. وكان أن قرروا إرسال وفد منهم إلي مكة، يأتيهم بالخبر اليقين عن هذا الدين الجديد، ليكونوا منه علي بينة. [ صفحه 145] أخذ الوفد طريقه شمالا إلي مكة، عشرين رجلا من أهل الرأي والعلم فيهم، يلتمسون أن يلقوا نبي الاسلام ويكلموه وينظروا فيما جاء به، بعد ستة قرون وبعض قرن، من ميلاد المسيح عليه السلام. وفي الحرم المكي، كان اللقاء. دنوا من المصطفي وقد أخذ مجلسه عند الكعبة، فسألوه في دينه. وحدثهم عليه الصلاة والسلام عن الاسلام فعرفوا أنه الحق من ربهم. وتلا عليهم القرآن ففاضت أعينهم من الدمع خشوعا، وتفتحت قلوبهم المؤمنة لتلك الكلمات تخشع لها صم الجبال. واستجابوا لله. وفي طريقهم من مجلس المصطفي إلي باب البيت العتيق، عرض لهم أبو جهل بن هشام في نفر من طواغيت قريش، شق عليهم أن يصدق هؤلاء النصاري، وهم أهل كتاب، بنبوة محمد، فيوقعوا الريبة في نفوس العرب، من تكذيب المشركين من قريش. قالوا لهم: (خيبكم الله من ركب ! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم يطمئن مجلسكم عنده حتي فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال. ما نعلم ركبا أحمق منكم). رد المؤمنون: (سلام عليكم، لا نجاهلكم. لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه. [ صفحه 146] لم نأل أنفسنا وقومنا خيرا) [34] فيروي أن هذه الآيات، من سورة المائدة المكية، نزلت فيهم: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين امنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري، ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون - وإذا سمعوا ما أنزل إلي الرسول تري أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين - وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين -) (صدق الله العظيم) فماذا عن (يثرب) عاصمة شمال الحجاز ؟ ماذا عن موقف عصابات يهود من نبي الاسلام الذي طالما بشروا بمبعثه مصدقا لما معهم من التوراة والانجيل، وما عرفهم التاريخ إلا قتلة الانبياء وأعداء كل دين ؟ كمنوا هناك في مستعمراتهم بالشمال الحجازي، يرصدون المواجهة الاولي بين الاسلام والوثنية، وأسماعهم مشدودة إلي مكة تلتقط أنباء الصراع الدائر هناك، وفي حسابهم أن قريشا سوف تتكفل بالقضاء علي الدعوة الجديدة في مهدها، فتريح اليهود الذين ما هدأ لهم بال منذ [ صفحه 147] نزلت الكلمات الاولي من كتاب الاسلام، خوفا من أن يكشف عما زيفت يهود من الديانة الموسوية، وما حرفت من التوراة التي اتجروا بها وراحوا يمنون علي العرب الاميين بأنهم أهل كتاب. وإن مثلهم فيما حملوا من التوراة ثم لم يحملوها: (كمثل الحمار يحمل أسفارا، بئس مثل الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين). وإذ ألقت قريش بكل ثقلها في مقاومة الاسلام، توارت يثرب عن مسرح الاحداث، حتي كانت أم القري هي التي اتصلت بها، والجولة المكية في عنفوان احتدامها: لقد راب قريشا في أمر الدين الجديد الذي تصدت لمقاومته في بغي وعناد، ثبات المصطفي والذين معه في وجه الوثنية الطاغية، وتفانيهم في سبيل عقيدتهم لم يردهم عنها أذي مهلك ولا حصار منهك، ولم تفلح معهم مساومة ولا مفاوضة. ولقد جاوزت قريش المدي في اضطهاد الدعوة، والمسلمون يزدادون علي الاذي صمودا واستبسالا، وإن أحدهم ليلقي الموت في سبيل دينه، ووجهه يتألق بنور الايمان والغبطة والرضي. أفيمكن أن يكون هذا كله، في سبيل دعوة كاذبة ورسالة مفتراة ! ؟ وما الذي يعد به محمد أصحابه ؟ إنه لا يملك أن يرد عن نفسه أذي قريش إلا أن يشاء ربه، فضلا عن أن يرده عمن اتبعوه وآمنوا برسالته. وهو قد باع الدنيا ليدعو [ صفحه 148] إلي ربه، فليس لديه مال يعوض به الذين أوذوا في سبيل دعوته وخرجوا من ديارهم وأموالهم مهاجرين بدينهم من الفتنة والبلاء. إنما يعدهم محمد ثواب الآخرة ويبشرهم برضوان من ربه. وفي الذين صدقوه من عرفوا بالحكمة وسداد الرأي، فهل كانوا بحيث يقبلون هذه الصفقة يبيعون فيها دنياهم بالآخرة، لو لم يكونوا موقنين من صدق الوعد ؟ وقريش تفهم أن يجود العربي بحياته دفاعا عن شرفه وذودا عن حماه، وتفهم كذلك أن يبذل العربي حياته غضبا لموروث العقائد والتقاليد والاعراف، لكنها ما عهدت قط مثل ذلك الجود السخي الباذل، جهادا في سبيل عقيدة طارئة غير موروثة، يدعو إليها بشر مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الاسواق ! ورابها أكثر، أنه ما من عربي لقي محمدا وأصغي إليه غير معاند، إلا آمن بنبوته وصدق برسالته، وبايعه علي الجهاد معه بالنفس والمال ! فماذا لو استفتت أحبار يهود بيثرب، في أمر هذا النبي البشر، لعلهم يحسمون هذا الهاجس من قلق وارتياب ؟ إنهم أهل كتاب، لديهم ما ليس لدي العرب الاميين من علم بالنبوة والانبياء، وعندهم تستطيع قريش أن تلتمس ما تطمئن به إلي [ صفحه 149] موقفها العدائي من بشر يدعو إلي دين جديد، وما جربت علي هذا الداعي كذبا قط، وإنه فيها للصادق الامين. والكلمات التي يتلوها من وحي ربه، ليست مما يستطيعون أن يأتوا بمثلها. وكان الامد قد طال علي يهود في انتظار ما توقعت من حرب بمكة، تقضي علي الاسلام وتنهك قريشا ان لم تحصدها حصدا، فتفتح ليهود أبواب أم القري، وتمكن لهم من النفاذ إلي المركز التجاري الاكبر في بلاد العرب. وغاظ اليهود أن تشتد وطأة قريش علي المسلمين فلا ينفد لهم احتمال ولا يغلب لهم صبر ! كما غاظهم أن يطول صبر قريش علي الموقف، فتلجأ إلي المساومة والمفاوضة، والي الايذاء والاضطهاد، ثم إلي المقاطعة والحصار، دون أن تتجاوز بالموقف حافة الحرب ! فمتي يفلت الزمام من أيدي المكيين فتخرج السيوف من أغمادها لتنهي الصراع الذي طال سنين ؟ في مثل هذا كانت يهود تفكر، حين جاءها خبر من مكة عن تشاور قريش في إرسال وفد منها إلي يثرب، يستفتي لها أحبار يهود في أمر النبي، بما لديهم من علم الكتاب. واستعدت يهود للفرصة المواتية: شهدتهم مستعمراتهم في يثرب وتيماء وخيبر وفدك ووادي القري. يجتمعون إلي أحبارهم ويتدارسون. [ صفحه 150] وتذاكروا فيما بينهم أنهم الذين روجوا في العرب لبشري نبي حان مبعثه، وأنهم كذلك، طالما منوا علي العرب الاميين بأنهم أهل كتاب ودين، وهذا النبي العربي يدعو إلي دين مصدق لما بين يديه من التوراة والانجيل، فكيف السبيل إلي تكذيب اليهود بمن بشروا بمبعثه ؟ ومن أي طريق يظاهرون عبدة الاوثان علي داع إلي عبادة الله، رب موسي وعيسي، وابراهيم وإسحق وكل الانبياء المرسلين ! ؟ الموقف بالغ التعقيد والحرج، ولكن هل يخونهم دهاؤهم فلا يسعفهم بما يحتالون به عليه ؟ إنها فرصة سانحة للكيد للاسلام وقريش معا، لو تركوها تفلت منهم لعقوا دماءهم. من هنا التشاور والمدارسة والتواطؤ، احتيالا علي الموقف الصعب والتماسا لمخرج منه، وإعدادا للفتوي يقدمونها إلي وفد قريش المنتظر. تسامع بنو هاشم بما عزمت عليه قريش من استفتاء يهود يثرب في نبوة محمد بن عبدالله، فتوجسوا شرا من هذه العصابة الخبيثة، واسترجعوا ذكري بعيدة للعم أبي طالب بن عبدالمطلب، حين مر بالراهب (بحيري) في طريقه إلي الشام في رحلة صيف. وكان قد صحب معه ابن أخيه محمدا، غلاما لم يبلغ العاشرة بعد. فلما رآه الراهب بحيري توسم فيه مخايل غد موعود، ونصح لعمه (أن يعود [ صفحه 151] به إلي بلده، وأن يحذر عليه شر يهود !) [35] وقد مر علي ذلك التحذير نحو أربعين سنة، نسي فيها بنو هاشم ما كان، وغاب صوت الراهب التقي العابد في ضجيج الاحداث وكر السنين. حتي بدا لقريش ان تستفتي في أمر محمد، هؤلاء اليهود الذين ذكرهم الراهب بحيري لعمه أبي طالب، وحذره علي ابن أخيه من شرهم. وإذ لم يكن في استطاعة بني هاشم أن يردوا قومهم قريشا عما أرادوا، وقد فسد ما بينهم منذ انحازوا إلي أبي طالب في منع محمد ابن عبدالله من قريش، لم يبق إلا أن ينتظروا وتنتظر مكة كلها، ما يكون من فتوي يهود. أخذ (النضر بن الحارث، وعقبة بن معيط) طريقهما إلي يثرب، موفدين من قريش إلي أحبار يهود، التماسا لرأيهم في أمر محمد ودعوته. وكانت يهود قد استعدت للقائهما وأعدت فتواها. أسعفها مكرها فلم تفجأ قريشا بجحد صريح لنبوة طالما بشرت بها، وإنكار مباشر لدين يرفض عبادة الاوثان ويدعو إلي عبادة رب موسي وسائر الانبياء. وآثرت أن تشغل القوم بمسائل تبلبل أفكارهم وتعنت نبي الاسلام. [ صفحه 152] فكانت فتوي الاحبار للنضر وعقبة، أن يعودا إلي قومهم فليسألوا هذا الداعي عن ثلاث. قالوا: (سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الاول، ما كان أمرهم ؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب. (وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الارض ومغاربها، ما كان نبؤه ؟ (وسلوه عن الروح ما هي ؟ فإن أخبركم بذلك فاتبعوه، وإن لم يفعل فهو رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم) [36] وعاد الرجلان إلي مكة، فاتجها فور وصولهما إلي منتدي قريش، فأبلغاهم فتوي الاحبار. وعجلوا إلي النبي الامي - عليه الصلاة والسلام - يعنتونه بالمسائل الثلاث، فما دري عليه الصلاة والسلام بم يجيب عنها، وما كان يتلو من قبل القرآن من كتاب ولا يخطه بيمينه. واستمهلهم في الجواب عما سألوا عنه، عساه يتلقي الوحي بما يقول فيها. لكنهم ألحوا عليه بإعناتهم، وقد عرفوا ألا جواب لديه عما يسألون من فتوي أحبار يهود. حتي نزلت آية الاسراء (85) في الروح: [ صفحه 153] (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا). وبعدها نزلت سورة الكهف، وفيها الخبر عن أمر الفتية أصحاب الكهف: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا - إذ أوي الفتية إلي الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا - فضربنا علي آذانهم في الكهف سنين عددا - ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصي لما لبثوا أمدا - نحن نقص عليك نبأهم بالحق، إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدي.) الآيات 9 - 12. ومعها الآيات عن ذي القرنين الطواف: (ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا - إنا مكنا له في الارض وآتيناه من كل شئ سببا، فأتبع سببا. حتي إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما، قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) إلي آخر الآيات من سورة الكهف 83 - 98. وخاب مكر يهود وحبط سعيهم، وصدق الله تعالي: (قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا - الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا - أولئك [ صفحه 154] الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا - ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا -) الكهف 103 - 106. وعادت يثرب فتوارت عن مسرح الاحداث إلي حين، دون أن تصرف سمعها عن الصراع الدائر بين الاسلام والوثنية بمكة، وهو يدنو من ذروة تعقده مؤذنا بوشك تحول في متجه الاحداث. بل لقد بدا في ظاهر الامر أن (يثرب) حددت موقفها بالرفض البات للدعوة الاسلامية، حين أوشكت أن تصل إليها من بعيد. وكان الخزرج، لا اليهود، هم الذين ردوها بحد السيف. حدث أن قدم (سويد بن الصامت الاوسي) مكة حاجا في الموسم، فلقيه المصطفي حين سمع بمقدمه، ودعاه إلي الاسلام. قال سويد: (فلعل الذي معك مثل الذي معي ؟). ولما سأله النبي صلي الله عليه وسلم عما معه ؟ قال: (مجلة لقمان) - يعني صحيفة حكمته. فتلا عليه المصطفي آيات من القرآن، فلم يبعد منه حتي عاد إليه وقال: (إن هذا لقول حسن). وانصرف وهو يتدبر ما سمع من القرآن، وكان شاعرا حكيما [ صفحه 155] لا يخفي عليه وجه القول، فقدم يثرب علي قومه وراح يتحدث إليهم عن معجزة الكتاب العربي المبين، فلم تلبث الخزرج أن قتلته، وفي حسابها أن يثرب ليست بحيث تحتمل وطأة دين جديد، وحسبها ما لقيت من شر يهود، يزعمون أنهم أهل كتاب ! [37] وتكرر المشهد مع وفد آخر من الاوس جاءوا من يثرب، وإن اختلفت الاشخاص واختلف المكان. وكان الاوس، هذه المرة، هم الذين ردوا الاسلام عن يثرب ! قدم (أنس بن رافع) مكة ومعه فتية من بني عبد الاشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش علي قومهم الاعداء من لخزرج. وسمع بهم المصطفي عليه الصلاة والسلام، فأتاهم حيث نزلوا بأم القري، فعرض عليهم الاسلام وتلا فيهم آيات من القرآن. قال إياس بن معاذ، وكان فتي حدثا سليم الفطرة: (أي قوم، هذا والله خير مما جئتم فيه، فما كان من زعيم الوفد، أنس بن رافع، إلا أن أخذ حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجه الفتي وهو يقول زاجرا: (دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا) [38] فصمت إياس، [ صفحه 156] وقام عنهم المصطفي صلي الله عليه وسلم، وقد هموا بارتحال عائدين إلي يثرب. لكن منطق التاريخ لم يكن ليبقي يثرب طويلا بمعزل عن الاحداث، مهما يبد من ظاهر هذا الموقف أو ذاك. [ صفحه 157]

ابواب موصدة

(قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون، فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون - ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا علي ما كذبوا وأوذوا حتي أتاهم نصرنا، ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نباءي المرسلين) (صدق الله العظيم) حتي عام الحزن، في السنة العاشرة من المبعث، لم يكن المصطفي عليه الصلاة والسلام قد خرج بدعوته من أم القري، مهد مولده ومنزل مبعثه، إلا أن يلقي بعض الوافدين علي الموسم فيدعوهم إلي الاسلام. [ صفحه 158] ففي مكة قبل سواها، كان ينبغي أن تستقر الدعوة، بحكم التاريخ الديني العريق للبلد الحرام والبيت العتيق. لكن عشر سنين من الصراع المرير بين الاسلام والوثنية القرشية، بلغت بالجولة المكية ذروة تعقدها وفرضت أن تأخذ الاحداث متجها آخر. وبدأ المصطفي بالطائف، فخرج من مكة يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه، ويرجو أن يقبلوا منه دعوته التي تصدت لها قريش بالمقاومة والاضطهاد، بغيا وعنادا.. خرج وحده، فلما انتهي إلي الطائف اتجه إلي ثلاثة إخوة، أبناء عمرو بن عمير الثقفي، هم يومئذ سادة ثقيف. وكان أحدهم زوجا لقرشية من بني جمح. فجلس إليهم صلي الله عليه وسلم حيث وجدهم في بستان لهم ودعاهم إلي الاسلام والتمس نصرتهم. فكان رد أولهم، أنه يمرط ثياب الكعبة - أي ينزعها ويرمي بها - إن كان الله قد أرسله ! ورد الثاني: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك ؟ وقال ثالثهم: والله لا أكلمك أبدا ! لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لانت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام. ولئن كنت تكذب علي الله فما ينبغي لي أن أكلمك. فقام صلي الله عليه وسلم من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف. وأقصي ما طمع فيه منهم، أن يستجيبوا لرجائه في أن يكتموا أمره معهم، كيلا تزداد قريش جرأة عليه. [ صفحه 159] لكنهم أغروا به سفهاءهم يسبونه ويصيحون به، حتي اجتمع عليه الناس وألجأوه إلي بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهما فيه. فجلس عليه الصلاة والسلام هناك ريثما ينصرف عنه الناس، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف. رفع المصطفي وجهه إلي السماء وقال في ضراعة وابتهال: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني علي الناس يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلي من تكلني ؟ إلي بعيد يتجهمني أم إلي عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك. لك العتبي حتي ترضي، ولا حول ولا قوة إلا بك !). فكأنما تحركت لضراعته رحم ابني ربيعة، فبعثا إليه بعض العنب مع غلام لهما نصراني يدعي (عداس). ودهش عداس، حين سمع المصطفي يقول: باسم الله. قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. ولما حدثه المصطفي عن الاسلام، أكب عليه يقبل رأسه ويديه وقدميه. لمحه سيداه، فانتظرا حتي عاد إليهما وسألاه: - مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ؟ [ صفحه 160] أجاب: يا سيدي، ما في الارض خير من هذا، لقد أخبرني بما لا يقوله غير نبي. قالا: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه. رجع المصطفي إلي مكة محزونا يائسا من خير ثقيف، والموسم قد أهل. فمضي علي عادته يعرض دعوته علي وفود القبائل العربية التي سعت إلي أم القري. وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه، إلا قليلا ممن آمن به. وبدت الجولة في أولها مدعاة إلي يأس وقنوط: سعي إلي (مني) حيث مجتمع الحاج، فوقف علي الحشود هناك يقول: (يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتي أبين عن الله ما بعثني به). فخرج له من جمع قريش رجل أحول وضئ، له غديرتان وعليه حلة عدنية، فقام في الناس وقال: (يا بني فلان، إن هذا إنما يدعوكم إلي أن تسلخوا اللات والعزي من أعناقكم إلي ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه). سأل سائل لا يعرفه: [ صفحه 161] - من هذا الذي يتبع محمدا ويرد عليه ما يقول ؟ وأجاب مجيب: - ذاك عمه، عبدالعزي، أبو لهب، بن عبدالمطلب. وانتظر المصطفي حتي انصرفت القبائل من (مني) إلي منازلها في مكة، فأتي كندة فدعاهم إلي الاسلام فأبوا عليه. وكذلك رده بنو كلب، لم يقبلوا منه دعوته. ثم أتي بني حنيفة في منازلهم، فلم يكن أحد من العرب أقبح ردا منهم. وانتقل بدعوته إلي بني عامر بن صعصعة، فتداولوا أمره فيما بينهم، وإن أحدهم، فراس بن عبدالله بن سلمة العامري، ليقول: (والله لو أني أخذت هذا الفتي من قريش لاكلت به العرب). ثم قام إلي المصطفي فقال يساومه: (أرأيت إن نحن بايعناك علي أمرك، ثم أظهرك الله علي من خالفك، أيكون لنا الامر من بعدك ؟). قال عليه الصلاة والسلام: (الامر إلي الله يضعه حيث يشاء). ورد المساوم عن بني عامر: (أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الامر لغيرنا ؟ لا حاجة لنا بأمرك !). [ صفحه 162]

بيعة العقبة ومتجه الاحداث

(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم علي شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون). (صدق الله العظيم) ومن حيث بدت الابواب كلها موصدة في وجه الاسلام، ظهرت يثرب علي الافق الشمالي البعيد، تجذب إليها مجري الاحداث من دائرته المقفلة في أم القري. [ صفحه 163] خرج المصطفي في الموسم كدأبه في كل موسم، يعرض الاسلام علي وفود القبائل. وبلغ العقبة فلقي رهطا من العرب، سألهم لما عرف أنهم من الخزرج: - أمن موالي يهود ؟ قالوا: نعم. قال: أفلا تجلسون أكلمكم ؟ جلسوا، فدعاهم إلي الله عزوجل، وعرض عليهم الاسلام وتلا عليهم القرآن. وذكروا ما طالما سمعوا من اليهود الذين غزوهم ببلادهم، عن نبي حان زمانه، يظاهرونه علي عرب يثرب من أوس وخزرج فيقتلونهم. قال بعضهم لبعض: (يا قوم، تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه). وأجابوه صلي الله عليه وسلم إلي ما دعاهم إليه، وقالوا: (إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم. فعسي أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلي أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك). ثم أخذوا طريقهم إلي الشمال عائدين إلي بلادهم وقد آمنوا بالله ورسوله عليه الصلاة والسلام. [ صفحه 164] وشغلت يثرب بأمر الاسلام، منذ عاد إليها الخزرجيون الذين بايعوا المصطفي: العرب من أوس وخزرج، يلقون أسماعهم إلي حديث هؤلاء الانصار، ولا يكاد يفرغ لهم عجب لما يشهدون من حماستهم للدعوة، وصدق حبهم للرسول وإيمانهم برسالته. ويهود، في شغل شاغل بهذه البادرة الخطرة. كان الخزرجيون أصحاب البيعة الاولي، ستة نفر أو سبعة، لم يكن عددهم هو الذي شغل يهود، بقدر ما شغلهم أن الدين الاسلامي وصل إلي يثرب وكان الظن أن يبقي محصورا في مكة بين أحياء قريش يمزقها بددا. وقد راحوا يترصدون خطوات الدعاة الاولين من الانصار، متعلقين بالرجاء في أن عرب يثرب لن يلبثوا أن يختلفوا علي الاسلام، وأن الاوس لن ترضي عن دعوة حملها رهط من الخزرج، ومثل هذا الخلاف المتوقع مرجو لان يلهب نار العداوة والبغضاء بينهم، ويمدها بوقود يزيدها حدة وضراما: لكن عاما مضي والانصار الخزرجيون ماضون في دعوتهم لا يصدهم عنها من قومهم صاد. حتي إذا حل موسم الحج، ذاع خبر من مكة ان اثني عشر يثربيا ممن وافوا الموسم، لقوا نبي الاسلام عند العقبة وبايعوه. وجن غيظ يهود وهي تري في هذه البوادر إيذانا بتحول خطير في حركة الدعوة الاسلامية التي عاشت في مكة أكثر من عشر سنين، [ صفحه 165] صامدة لكل ما قاومتها به الوثنية القرشية من أذي واضطهاد وحصار وفتنة، رافضة كل ما عرضت عليها من مساومات. وانتظرت يثرب حتي عاد هؤلاء الرهط من الانصار، وفي الظن أنهم خزرجيون كسابقيهم أصحاب البيعة الاولي. فكانت المفاجأة، أن فيهم ثلاثة من زعماء الاوس، مع تسعة من أحياء الخزرج. جمعهم الاسلام ووحد بينهم وألف بين قلوبهم، وقد كانوا من قبل متباغضين، بعضهم لبعض عدو. استقبلت يثرب مع الانصار العائدين من بيعة العقبة، صحابيا جليلا من صميم قريش، هو (مصعب بن عمير بن هاشم) موفدا من قبل المصطفي عليه الصلاة والسلام، مع الذين بايعوه من اليثربيين، ليقرئهم القرآن ويفقههم في الدين. ونزل مصعب علي أنصاري من سادة الخزرج: (أسعد بن زرارة) كبير بني النجار، أخوال عبدالله بن عبد المطلب، والد المصطفي.. وكانت يثرب قد تسامعت قبل ذلك بما شاع وذاع من أمر مصعب بن عمير. قبل إسلامه، كان فتي مكة شبابا وجمالا وزهوا، تلتمس له أمه، لفرط شغفها به، أفخر الثياب وأندر العطور، حتي ليذكره النبي صلي الله عليه وسلم فيقول: [ صفحه 166] (ما رأيت بمكة أحسن لمة ولا أرق ولا أنعم نعمة، من مصعب ابن عمير). بلغ مصعبا يوما أن محمد بن عبدالله الهاشمي، في دار الارقم يدعو إلي الاسلام. فاتجه إليه من تلقاء نفسه فبايعه. وكتم إسلامه إشفاقا علي أبويه اللذين شغفهما حبا. حتي بصر به (عثمان بن طلحة) يصلي صلاة المسلمين، فأخبر قومه فأخذوه وحبسوه ليفتنوه عن دينه. فلم يزل محبوسا إلي أن لاحت له فرصة الافلات فهاجر بدينه إلي أرض الحبشة. وعاد إلي مكة مع من عادوا من مهاجرة الحبشة حين بلغتهم بشري انهيار الحصار المنهك الذي ضربه المشركون علي المسلمين ومن والاهم من بني هاشم. فما رأت مكة فتي مثل مصعب، استبدل بأناقة المظهر بهاء الايمان، وبخيلاء النعمة جلال التقي وتواضع الخشوع. واختاره المصطفي من بين أصحابه ليكون إمام الانصار في يثرب، فأقام عاما هناك يتنقل بين دورها: يؤم المسلمين في الصلاة ويعلمهم الدين ويتلو القرآن، فتخشع له القلوب والضمائر متفتحة لنور الهدي. خرج مصعب يوما مع (أسعد بن زرارة) سيد الخزرج، وكان منزله عليه، إلي حي بني عبد الاشهل، واجتمع إليهما رجال من الانصار. فسمع بمقدمهما (سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير) وهما يومئذ سيدا قومهما، وكلاهما علي الشرك، دين العشيرة والآباء. [ صفحه 167] وتحرج سعد بن معاذ من مواجهة أسعد بن زرارة، وهو ابن خالته. فحرض أسيد بن حضير علي أن يقوم فيرده وصاحبه عن الحي. قال: (لا أبا لك ! انطلق إلي هذين الرجلين - أسعد ومصعب - اللذين أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث علمت، كفيتك ذلك. هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما). فالتقط أسيد بن حضير حربته، ثم أقبل إليهما فقال متوعدا: (ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة). قال له مصعب بن عمير: (أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره ؟). فركز أسيد حربته وجلس متكئا عليها يسمع حديث مصعب عن الاسلام وتلاوته القرآن، وقد زايله تقبضه وتجهمه. ثم قال متهلل الاسارير: (ما أحسن هذا الكلام وأجمله !). وأسلم. وانطلق عائدا إلي حيث ترك (سعد بن معاذ) ينتظره في الجمع من قومه. فما لمحه سعد حتي قال لمن حوله: (أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم). [ صفحه 168] ثم سأله عما فعل بأسعد بن زرارة وضيفه مصعب، فرد أسيد محاذرا: (كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا ! وقد نهيتهما، وإني لاخشي علي ابن خالتك من بعض القوم). فقام سعد مغضبا، فما أبعد حتي رأي أسعد ومصعبا يتجهان إليه مطمئنين، فعرف أن أسيد بن حضير إنما أراد له أن يسمع منهما. وتجاهل مصعبا وقال لاسعد، ابن خالته: (يا أبا أمامة، أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني. أتغشانا في ديارنا بما نكره). همس أسعد لصاحبه: (أي مصعب، جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك اثنان). وأقبل مصعب علي سعد بن معاذ فقال له مثل الذي قال لاسيد بن حضير: (أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ؟). قال ابن معاذ: (أنصفت). وتكلم مصعب وقرأ القرآن. وقبل أن يلفظ سعد بكلمة، عرف القوم الاسلام في وجهه، لاشراقه وتهلله. [ صفحه 169] وأسلم سعد، ومضي من فوره إلي قومه فسألهم: (كيف تعلمون أمري فيكم) ؟ قالوا: (سيدنا، وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة). فدعاهم إلي الاسلام فأجابوا جميعا، فما أمسي في حي بني عبد الاشهل رجل ولا امرأة، إلا مسلما ومسلمة [39] وكانت دور المسلمين تتجاوب منذ أول بيعة في العقبة، بشعر في السعدين: سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، قبل إسلامهما: فإن يسلم السعدان يصبح محمد - بمكة لا يخشي خلاف المخالف فيا سعد، سعد الاوس، كن أنت ناصرا - ويا سعد، سعد الخزرجين الغطارف أجيبا إلي داعي الهدي وتمنيا - علي الله في الفردوس منية عارف دون أن يعرف لمن الشعر، وكأنما هو هاتف يشدو بما كان المسلمون يرجونه من إسلام هذين الرجلين. [40] وهذا سعد الاوس قد أسلم. وبعده، في بيعة العقبة الكبري، أسلم سعد الخزرج، ابن عبادة، وكان أحد اثني عشر نقيبا لاصحاب البيعة الكبري. [ صفحه 170] وتوقعت يهود، بل توقعت يثرب كلها والحجاز، أن يكون لهذا الامر ما بعده. بعد إسلام (سعد بن معاذ) وكل قومه من بني عبد الاشهل، فشا الاسلام في يثرب فما من دار للعرب هناك، إلا وفيها للدين الجديد ذكر. وأهل موسم الحج، لاثنتي عشرة سنة بعد المبعث. وخرج إمام يثرب (مصعب بن عمير) ساعيا إلي أم القري، يصحب رهطا من الانصار، فيهم من لم يكن لقي المصطفي بعد. وفي الركب اليثربي، حجاج آخرون غير مسلمين.. ودنا الركب من مشارف مكة، فتهللت وجوه الانصار ورنت قلوبهم إلي لقاء نبيهم عليه الصلاة والسلام، وهم علي موعد معه بالعقبة، في ليلة حدودها من ليالي التشريق، دون أن يعلم بقية اليثربيين بهذا الموعد. فيما عدا (عبدالله بن عمرو) الذي آنس فيه الانصار خيرا، فأسروا إليه بموعدهم مع نبيهم المصطفي وقالوا له: (يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه) [41] . [ صفحه 171] في الليلة الموعودة، أوي الانصار إلي مضاجعهم حيث نزلوا مع سائر قومهم في رحالهم. فلما مضي ثلث الليل خرجوا لميعاد النبي صلي الله عليه وسلم، يتسللون تسلل القطا مستخفين، حتي وافوه عند العقبة. كانوا ثلاثة وسبعين رجلا، فيهم أبو جابر عبدالله بن عمرو وامرأتان: أم عمارة، نسيبة بنت كعب المازنية. وأم منيع، أسماء بنت عمرو بن عدي، من بني سلمة. قال العباس بن عبادة بن فضلة يخاطب قومه: (يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟) قالوا: نعم. قال: (إنكم تبايعونه علي حرب الاحمر والاسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن: فهو والله خزي الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون إنكم وافون له بما دعوتموه إليه فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة). قالوا للمصطفي: ابسط يدك. فبسط عليه الصلاة والسلام يده فبايعوه، الخزرج منهم والاوس. وأمرهم صلي الله عليه وسلم فاختاروا من بينهم اثني عشر نقيبا: تسعة من الخزرج وثلاثة من الاوس. قال أحد النقباء، العباس بن عبادة: [ صفحه 172] (يا رسول الله، والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن علي أهل مني، من المشركين، غدا بأسيافنا). فرد عليه الصلاة والسلام: (لم نؤمر بذلك، لكن ارجعوا إلي رحالكم. ورجعوا إلي رحالهم فتسللوا إلي مضاجعهم فناموا مطمئنين، والدنيا من حولهم ساهرة لا تنام. لم يكن النبأ الخطير لبيعة العقبة الكبري، بحيث يخفي علي المشركين من قريش، وأصحاب العقبة هذه المرة، خمسة وسبعون من الخزرج والاوس، بايعوا نبي الاسلام علي أن ينصروه ويمنعوه. ومتي ؟ وأين ؟ في ليلة من ليالي التشريق بموسم الحج، وفي مكة، معقل قريش والعاصمة الدينية للوثنية العربية. وقبل أن يسفر الصبح، تسرب النبأ إلي مكة فهاج غضب المشركين. وإذ ظنوا أن المبايعين من الخزرج دون الاوس، بادر إليهم نفر من طواغيت قريش فقالوا بين وعد ووعيد: (يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلي صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه علي حربنا. وإنه والله ما من حي من العرب أبغض الينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم، منكم). [ صفحه 173] فهب مشركو الخزرج يحلفون لهم أنه ما كان من ذلك شئ، وما علموه. ولم يطمئن القرشيون، بل ذهبوا إلي (عبدالله بن أبي بن سلول الخزرجي). وكان يمني نفسه بملك يثرب تؤازره يهود. فسأله فأنكر الامر كله إنكارا باتا، وقال لقريش: (إن هذا الامر لجسيم، ما كان قومي ليتفوتوا علي بمثله، وما علمته كان). وانصرفوا وما يزال في نفوسهم ريب مما بلغهم من الامر الجسيم، فما زالوا يتثبتون حتي علموا يقينا أنه قد كان لقاء في العقبة علي موعد بين محمد وأنصاره، وأن بضعة وسبعين يثربيا من الاوس والخزرج قد بايعوه، وأن أحد نقبائهم قال له فيما قال: (نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك. فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر). وكرت قريش راجعة إلي منزل الحجاج من يثرب، فإذا بهم قد شدوا رحالهم وأبعدوا في طريقهم إلي شمال الحجاز. والاسلام معهم، قد بدأ ببيعة العقبة الكبري مرحلة جديدة مؤذنة بتحول حاسم في اتجاه الاحداث: في قلب الحجاز معقل الوثنية القرشية والعربية، وفي الشمال، بيثرب وما حولها، وكانت حتي ذلك الحين معقلا ليهود. [ صفحه 174] ببيعة العقبة الكبري، أوشكت الجولة الاولي من جولات الصراع بين الاسلام والوثنية، أن تنتهي في مكة لتبدأ جولة أخري. بعد أن استنفذت تلك المواجهة الاولي، كل ما لدي قريش من وسائل وذرائع لمقاومة الدعوة، دون أن تنتقل من موقفها علي حافة الحرب إلي صدام مسلح. وبدأ التاريخ يلتفت إلي يثرب التي يتجه إليها مؤشر التحول، ويستعيد ما طوي من قديم أخبارها [42] من قديم بعيد موغل في أعماق الماضي إلي عصر ما بعد الطوفان، بدأ الوجود العربي في يثرب والحجاز. الرواية العربية تقول إن (سفينة نوح) رست قريبا من بابل في موضع سمي (سوق الثمانين) بعدد من كانوا في السفينة الناجية من الطوفان. وقد مكثوا هناك حتي كثروا وضاقت بهم المنطقة، فتفرقوا. اتجه بنو عبيل، أخي عاد، إلي موضع يثرب، وهو اسم أحد أبناء عبيل، فنزلوا به وعمروه. ثم مالوا إلي موضع آخر في المنطقة دهمهم فيه سيل جاحف، فسمي الجحفة. وظلت يثرب مهجورة إلي أن عمرتها قبيلة من العرب القحطانية العاربة، بعد تصدع سد مأرب. هذه القبيلة العربية الصميمة، هي الاوس والخزرج. [ صفحه 175] أخوان شقيقان، أبوهما (عمرو بن عامر) آخر ملوك سبأ قبل خرابها. وأمهما (قيلة) التي ينسب إليها عرب يثرب، بنو قيلة. ونزح إخوتهم (بنو جفنة بن غسان) إلي أرض الشام فأسسوا بها إمارة الغساسنة العربية. وآخرون من جرهم، نزلوا حول مكة. وهم الذين أصهر إليهم (إسماعيل بن ابرهيم) جد العرب العدنانية. أقام بنو قيلة في يثرب دهرا طويلا في أمن وسلام ورخاء ونعمة، والمنطقة خالصة لهم. حتي طرأت عليهم من الشمال شراذم من فلول يهود، فارين من وطأة الرومان الساحقة، بعد المؤامرة علي السيد المسيح عليه السلام. وحطوا علي أخصب منطقة هناك، فما لبثوا أن أنشبوا مخالبهم فيها واستنزفوا خيرها. وأقاموا لهم مستعمرات حصينة في يثرب وقريظة وخيبر وفدك وتيماء ووادي القري، وأثروا ثراء فاحشا علي حساب الوجود العربي الذي بدأ يتصدع من وطأة الغزاة [43] حاول العرب أول الامر أن يأمنوا شر يهود، بعقد حلف جوار معهم. وفي ظل ذلك الحلف استطلع بنو قيلة أن يواصلوا حياتهم ويمارسوا نشاطهم. فخافت يهود علي وجودها المغتصب، وقطعت الحلف الذي بينهم، وصرح الشر منهم حتي خاف بنو قيلة أن تجليهم يهود عن أرضهم. [ صفحه 176] إلي أن شب (مالك بن العجلان) أخو بني سالم بن عوف بن الخزرج، وسوده الحيان من بني قيلة، فكان الذي تصدي لافاعي يهود وقتل بضعة وثمانين من رؤوسها، فانكمشوا خائفين يلعنونه في بيعهم ومعابدهم كلما دخلوها. ولجأوا إلي أحياء العرب يستجدون الحماية والجوار (وقد ذلوا وانكسرت شوكتهم وقل امتناعهم). وإنما مكن لهم من يثرب بعد ذلك، ما شب بين الاوس والخزرج من خصام خب فيه يهود ووضعوا، وسهروا علي إلهاب ضرامه لتخلو لهم الارض الطيبة. وبدأت مرحلة مظلمة في تاريخ يثرب، استغرقت بضعة قرون قبل الاسلام - من القرن الاول إلي السادس للميلاد - لم تنطفئ فيها نار الحروب بين الاوس والخزرج، في كل حرب منها نلمح أثر اليهود في تدمير الوجود العربي هناك [44] وآذن العصر الجاهلي بمغيب، وهذا العدو الخبيث يتربص بالاوس والخزرج الداوئر، ليميل مع المنتصر منهما ويسلب المهزوم. والمستعمرات اليهودية في شمال الحجاز تزداد ثراء بما تستنزف من خير الارض. ومرافق البلاد الحيوية في قبضة مخالب الذئاب الفارة من مخالب النسر الروماني. وقد كانت آخر حرب بين الاوس والخزرج، يوم بعاث قبل بيعة العقبة الكبري بأربع سنوات. ودور يهود فيها معروف مشهور: [ صفحه 177] فحين ظهرت بوادر الحرب بين بني قيلة، تدخل يهود بني قريظة يلهبونها بالتواطؤ سرا مع الاوس. فلما علم الخزرج بهذا التواطؤ، بعثوا إلي يهود منذرين: (إنكم إن فعلتم لم ننم عن الطلب أبدا. وأسلم لكم أن تدعونا وتخلوا بيننا وبين إخواننا). رد يهود علي نذير الخزرج: (إنه قد كان الذي بلغكم، والتمست الاوس نصرنا، وما كنا لننصرهم عليكم أبدا). لكن الخزرج أصروا علي أن يأخذوا رهائن من غلمان بني قريظة، ضمانا لعدم غدرهم. فدفعوا إليهم أربعين غلاما يهوديا، وإن قائلهم ليقول: (خلوهم يقتلوا الرهن، إن هي إلا ليلة يصيب فيها أحدكم امرأته، حتي يولد له غلام مثل الرهن) [45] وغدرت يهود بوعدها للخزرج، حين لمحت غلبة الاوس عليهم. وانهزمت الخزرج يوم بعاث، ووضعت فيها الاوس السلاح، وسلبتهم قريظة والنضير. اجتاحت العصابة اليهودية دور الخزرج تنهب وتسلب، حتي أتوا دار (عبد الله بن أبي بن سلول) ليهدموها، فاشتري منهم الامان بدفع رهائنهم إليهم ! [ صفحه 178] ومن ذلك اليوم بدأ بينه وبينهم حلف الشيطان. وكان لا بد من حرب جديدة يصلاها عرب يثرب، تصفية ليوم بعاث. والامر في مثلها لا يعدو انطلاق شرارة من هنا أو من هناك، تؤجج ضرام الجذوة التي لبثت متقدة قرونا، تلتمس بين حين وآخر من ينفخ فيها، لتستعر بوقود من رجال الاوس والخزرج. وقد كان الخزرجيون أصحاب الثأر لبعاث، ومن هنا كان سعي الاوس إلي مكة التماسا لحلف قريش علي الخزرج. ومن حيث توقعت يثرب أن تلتهب الجذوة بشرارة هذا الحلف، وألقت عاصمة الشمال سمعها إلي مكة في انتظار عواقب المفاوضة بين وفد الاوس وزعماء قريش. جاءت المعجزة من هناك فأطفأت الجذوة وبددت رمادها هباء منثورا. وكان عجبا من العجب، أن تأتي (يثرب) بشري السلام من مكة، في الوقت الذي بلغت فيه معركتها بين الاسلام والوثنية ذروة احتدامها. وحين هم التاريخ بأن يضيف حربا جديدة إلي الحروب التي مزقت الاوس والخزرج، وقف بعد بيعة العقبة الكبري فطوي الصفحات الداميات التي خضبت حياة يثرب قرونا ستة، ليبدأ صفحة جديدة بآية الاسلام التي من الله بها علي المؤمنين الانصار، فأصبحوا بنعمته إخوانا. [ صفحه 179] وكانت عبرة، أن تجمع العقيدة ما تفرق وانتثر من شتات القوم، وأن تزيل ما تراكم في قلوبهم من ثارات وأحقاد، وتنسخ جاهليتهم المخضبة بالدماء.. وفي ظل هذه العقيدة الجامعة المؤلفة للقلوب، وتحت لوائها المبارك الميمون، التقي الاوس والخزرج إخوانا في الدين وعادوا بعد بيعة العقبة الكبري أنصارا للاسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام، فكانوا هم الدعاة الاولين الذين حملوا نوره إلي عاصمة الشمال في الحجاز، وهيأوها لاستقبال المهاجر العظيم عليه الصلاة والسلام. وما يزال اليهود، حتي عصرنا هذا، يقفون عند بيعة العقبة مأخوذين بما كان من جسيم خطرها وبعد أثرها. وإن فيهم من يعدها بدء التاريخ الاسلامي، ويراها أولي بذاك من عام الهجرة التي هي في رأيهم أثر للبيعة الكبري. قال المؤرخ اليهودي (اسرائيل ولفنسون، أبو ذؤيب): (ومهما يكن من شأن هذه البيعة العظيمة فإنها من الحوادث ذات النتائج الخطيرة في التاريخ الاسلامي. وإني أعتقد أنه كان من الحق علي المسلمين أن يبتدئوا تاريخهم من تلك السنة، لان قيمتها لم تكن أقل شأنا من قيمة هجرة الرسول إلي يثرب) [46] وما كان لليهود يومها أمل، إلا (أن يفلح زعماء قريش في استمالة(1، 2) [ صفحه 180] زعماء الخزرج (؟) وإلا فإنهم لا بد ذاهبون للتقرب من بعض زعماء اليهود ليعملوا علي إحباط أعمال المسلمين في المدينة) ! [47] تلاحقت الاحداث بعد بيعة العقبة الكبري. فقدت قريش ما بقي من رشدها، فصبت علي المسلمين حمما من الاذي والاضطهاد. والتقطت يهود أنفاسها، أملا في أن تشتعل نار الحرب فتأكل الجمعين من أهل مكة. لكنهم فوجئوا بتدفق المهاجرين من مسلمي مكة نحو يثرب، بتوجيه من المصطفي عليه الصلاة والسلام، حيث نزلوا علي الانصار إخوانهم في الدين، بمأمن من قريش. وأمست دور المهاجرين في مكة، موحشة خلاء. لم يبق منهم في أم القري، غير من حبس أو فتن، إلا الرسول عليه الصلاة والسلام، وصاحباه الصديق أبو بكر، وعلي بن أبي طالب. [48] وتوقعت قريش أن يلحقوا بالمسلمين في دار الهجرة، فهل تدع الامر يفلت من يدها بعد ثلاث عشرة سنة من الصراع المرير المنهك ؟ لا بد من ضربة باترة، تحسم الامر كله. وقد حاولتها قريش، في جنون غيظها وقهرها. [ صفحه 181] نقل كتاب السيرة ومؤرخو الاسلام، أن قريشا (لما رأت أن محمدا، صلي الله عليه وسلم، قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا بيثرب دارا وأصابوا منهم منعة. فحذروا خروج الرسول إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم. فاجتمعوا في دار الندوة - وهي دار جدهم قصي بن كلاب. حيث كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها - يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر محمد، عليه الصلاة والسلام، حين خافوه. (قال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه علي الوثوب علينا فيمن اتبعه من غيرنا. فأجمعوا فيه رأيا). وتعددت مقترحاتهم، طائشة هوجاء. حتي قال أبو جهل بن هشام: (والله إن لي رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد). سألوه: (وما هو يا أبا الحكم ؟). قال: (أري أن نأخذ من كل قبيلة فتي شابا جليدا نسيبا فينا، ثم نعطي كل فتي منهم سيفا صارما فيعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه. فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف علي حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم) - يعني الدية [49] . [ صفحه 182] وانصرفوا وهم مجمعون علي هذا الرأي المخبول، وحددوا ليلتهم لذلك موعدا. وفي تلك الليلة، خرج المصطفي عليه الصلاة والسلام ناجيا إلي دار هجرته.. [ صفحه 183]

مع المصطفي في دار هجرته

اشاره

- هجرة. وتاريخ - أبعاد الموقف في ميدان الصراع - يوم بدر، وموازين القوي - درس من أحد. ورسالة من شهيد - الاسلام في الجبهات الثلاث: مع عصابات يهود مع الوثنية القرشية مع المنافقين (ودخل الناس في دين الله أفواجا [ صفحه 185]

هجرة وتاريخ

(إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي، وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم). (صدق الله العظيم) في السنة الثالثة عشرة للمبعث، كانت الهجرة التاريخية التي اختارها، بعد، ثاني الخلفاء الراشدين (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، بداية للتاريخ الاسلامي. [ صفحه 186] تقديرا لجلال الحدث الذي كان منطلق تحول حاسم وخطير، في تاريخ الاسلام. وعلي امتداد الزمان، يحتفل المسلمون حيثما كانوا، بمستهل عام الهجرة، دون أن يفوتهم لمح ما كان لها من أثر بعيد في حركة سير الدعوة الاسلامية. ودون أن يخطئهم إدراك ما أعقب تلك الهجرة التاريخية من تغير في موازين القوي بين حزب الله، وبين الوثنية الباغية من قريش. وإن فاتهم، أو فات كثيرا منهم، وعي حركة التحول ذاتها، وأعوزهم فهم التفسير التاريخي لتلك الهجرة الفاصلة بين أخطر المرحلتين من عصر المبعث. ولقد مضي عليها ما يقرب من ألف وأربعمائة عام، وكلما بدأت السنة القمرية بهلال المحرم، تحركت أقلام تحيي الذكري الخالدة، وشدت أبصار وقلوب إلي خطوات المهاجر العظيم ما بين مكة ويثرب، منذ خرج صلي الله عليه وسلم من بيته في مكة ذات نهار - وقد بلغت محنة الاضطهاد أقصي مداها، بعد ثلاث عشرة سنة من المبعث - فاتجه إلي بيت صاحبه الصديق أبي بكر، وأسر إليه أن الله تعالي قد أذن له في الخروج والهجرة. هتف الصديق: (الصحبة يا رسول الله. الصحبة). وبدأ التأهب لرحيل عاجل: بعث أبو بكر يدعو (عبدالله بن أريقيط) وكان دليلا ثقة، [ صفحه 187] خبيرا بمجاهل الطريق، فدفع إليه براحلتين يرعاهما لميعاد موقوت. ودعا المصطفي ابن عمه (علي بن أبي طالب) فاستخلفه بمكة ليؤدي عنه ودائع كانت للناس. ثم لما حانت ساعة الرحيل، وقف صلي الله عليه وسلم علي مرتفع هناك ببيت صاحبه، فرنا إلي البيت العتيق طويلا، ثم أشرف علي أم القري فاستوعبها بنظرة حزينة وقال مودعا: (والله إنك لاحب أرض الله إلي الله، وإنك لاحب أرض الله الي. ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت). وتسللل الصاحبان من خوخة في ظهر الدار، فأخذا طريقهما إلي غار يعرفانه في جبل ثور بأسفل مكة، فأقاما فيه ينتظران ما يكون من أصداء الرحيل. وجاء اليوم التالي يحمل إليهما في الغار، الانباء عن خروج نفر من طواغيت قريش لمطاردة المصطفي عليه الصلاة والسلام. وفي الخبر أنهم بلغوا غار ثور فتلبثوا عنده وهموا بأن يدخلوه، لولا أن صدهم عنه نسيج عنكبوت علي مدخله، وحمامتان وحشيتان وقعتا عليه [50] قال الصديق للمصطفي: (لو أن أحدهم نظر إلي قدمه لرآنا). فكان جوابه، صلي الله عليه وسلم: [ صفحه 188] (لا تحزن إن الله معنا). وفي هدأة المساء من الليلة الثالثة لمقامهما في الغار، جاء الدليل يسوق الراحلتين حذرا، فأناخ قريبا من فتحته. وخرج المصطفي وصاحبه. وجاءت أسماء بنت أبي بكر بطعام لهما، فلما أعوزها عصام تشد به الزاد إلي الرحل، حلت نطاقها فشقته نصفين، علقت الزاد بأحدهما وانتطقت بالشق الآخر. وسري الركب في تلك الليلة التاريخية، آخذا طريق الجنوب من أسفل مكة، وكان غير مطروق. وودعتهما (أسماء) ذات النطاقين، ثم تلبثت تتبعهما بصرها وقلبها حتي أبعدا، فعادت إلي بيت أبيها مستخفية حذرة، وهي توجس خيفة من المطاردين. ولم تمض لحظات حتي فوجئت بطرقات عنيفة تلح علي باب الدار، وإذا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، يسألونها في غلظة: (أين أبوك يا بنت أبي بكر ؟) أجابت: (لا أدري والله أين أبي). وما كذبت، فقد كان آخر عهدها بأبيها مع المصطفي عليه الصلاة والسلام، منطلقين من الغار إلي حيث لا تدري أين بلغ بهما المسري في مجاهل الفلاة. [ صفحه 189] وفجأة، بغتتها لطمة فاحشة علي خدها، من يد أبي جهل، طرحت قرطها. وانصرف بمن معه، يتهددون ويتوعدون. ومضت أيام وليال لم يكن لمكة فيها شاغل، غير تلك المطاردة العنيفة، تعدو فيها قريش وراء مهاجر أعزل إلا من إيمانه. وتضاربت الانباء في الطريق التي أخذها -، حتي جاء الخبر من يثرب أن النبي عليه الصلاة والسلام بلغ دار هجرته آمنا. ووعت أذن الزمان ما لا نزال نردده في كل عيد للهجرة، من هتاف المدينة ترحيبا بالمهاجر العظيم، وما وجد في دار هجرته من مأمن ونصر.. وفي واقع التاريخ أن الهجرة لم تنه الجولة الفاصلة بين الاسلام والذين تصدوا له بالعداوة والكيد والحرب. وإنما كانت بداية لهذه الجولة الفاصلة، بقدر ما كانت أثرا لما سبقها من أحداث، وتحركا إلي موقع جديد، بعد جولة مريرة وطويلة، في البلد العتيق. فإذا كان في الناس من يتصورون أن منافذ الخطر قد سدت بمجرد انتقال المصطفي من دار مبعثه، وأن الاسلام صار بمأمن من كيد أعدائه بمجرد أن تلقاه الانصار في دار هجرته، فالذي يعرفه الواقع التاريخي أن الصدام المسلح بين الاسلام والوثنية [ صفحه 190] القرشية لم يبدأ إلا بعد الهجرة، وبدأ معه في الوقت نفسه، نضال شاق بالغ الصعوبة والحرج، مع عصابات يهود التي تصدت للاسلام بعد الهجرة، بكل ما تملك من أسلحة خبيثة مسمومة. والذي تعرفه السيرة النبوية، أن النبي والذين آمنوا معه من المهاجرين والانصار، واجهوا مع الهجرة مرحلة خطرة معقدة، كان عليهم فيها أن يخوضوا حربا في أكثر من جبهة، وأن يستبسلوا في الجهاد تحت لواء عقيدتهم من حيث يأتيها الخطر: من مواقع مكشوفة سافرة، وأخري خفية ماكرة. والتحول التاريخي لموقع المعركة، لا يمكن فهمه علي الوجه الشائع الذي يحسب أن الهجرة عزلت مكة عن مسرح الاحداث، بل تظل مكة في صميم الصراع الدائر مهما ينتقل موقعه إلي شمال الحجاز. ويظل البيت العتيق مهوي أفئدة المهاجرين والانصار في دار الهجرة، كما كان مثابة حج العرب من قديم العصور والآباد. وفي مكة كان مهد المصطفي ومبعثه. وفيها مستقر الوثنية العربية من قديم موغل في القدم. ولم تكن الارستقراطية القرشية التي ورثت وظائف الشرف الدينية في أم القري وحققت بها نفوذها وسلطانها، مستعدة لان تتخلي عن نضالها للابقاء علي الاوضاع الموروثة والاعراف الراسخة، والدفاع عن دين الاسلاف. [ صفحه 191] وما تجنبت الصدام المسلح مع الاسلام في مكة، إلا رعاية لما للبلد العتيق من حرمة جعلته معبد القبائل العربية ومركز مواسمها التجارية. كان في حسابها أن تواجه الخطر بالمفاوضة والمساومة، ثم بإلالحاح في إيذاء المسلمين وتعذيب المستضعفين منهم، وتحذير كل وافد إلي مكة في الموسم، من الاصغاء إلي ما يتلو محمد - صلي الله عليه وسلم - من كتاب الاسلام. ثم كان الحصار المنهك وسيلة أخري من وسائلهم في مقاومة الدعوة، والترصد لمن يحاول الهجرة من المسلمين، ومطاردتهم حيثما ذهبوا. حتي كان عام الحزن، إيذانا بحتمية التماس منفذ من الاسوار التي سدت الطريق. أحس المصطفي بموت زوجه السيدة خديجة وعمه أبي طالب، فراغ مكانهما في دنياه، إحساسا شديد الوطأة، حتي لتقول إحدي الصحابيات (خولة بنت حكيم السلمية): (يا رسول الله، كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة). وثقل عليه شعور بالغربة، في بلده وبين أهله وعشيرته. لكن بيعة العقبة الكبري هي التي وجهت مؤشر الاحداث نحو يثرب. دون أن تنأي بمكة عن مكانها في مركز الثقل لمصير التحول. احتشدت يثرب في انتظار المهاجر العظيم الذي لم يكن هناك أدني [ صفحه 192] شك في وجهته، برغم ما ذاع من توغل المطاردين في طريق مكة إلي يثرب، دون أن يظفروا بأثر منه. اليهود أرسلوا راصدهم يرقب مقدم النبي المهاجر، فأخذ مكانه علي مشارف يثرب. وغير بعيد منه كان المهاجرون والانصار من أوس وخزرج، يخرجون كل صباح بعد الصلاة إلي ظاهر المدينة، فما يزالون ينتظرون حتي تغلبهم الشمس علي الظلال فيعودوا إلي دورهم. واليهودي قائم هناك في مرصده لا يريم. وإذ هم يدخلون بيوتهم ذات يوم بعد أن لم يبق ظل، سمعوا اليهودي يصرخ بأعلي صوته: (يا بني قيلة، هذا جدكم قد جاء). وسرت البشري في أنحاء دار الهجرة، فتعالي الهتاف من الاحياء العربية يشق أجواز الفضاء ترحيبا بالمهاجر العظيم. صرخة اليهودي المعلنة بأعلي الصوت، عن وصول المصطفي إلي دار هجرته، زلزلت الارض تحت يهود في مستعمراتهم الناشبة في شمال الحجاز: من حي بني قينقاع في قلب يثرب، إلي قريظة وخيبر وفدك وتيماء ووادي القري. ورج صداها حصون الابلق والوطيح والسلالم وناعم والقموص، وعشرات غيرها من الحصون المنيعة والآطام العازلة التي (أقاموها علي [ صفحه 193] رءوس الجبال والقلاع ليتحصنوا بها وقت الخطر [51] وبدأ من اليوم الاول للهجرة، تأهبهم لدورهم الخبيث في مقاومة الاسلام. وقبل أن نمضي مع المصطفي عليه الصلاة والسلام في دار هجرته، نقف عند نقطة التحول لنتدبر منطقه ونلمح أبعاده، دون إيغال فيها. لم تكن الهجرة الاولي إلي الحبشة، ضنا بحياة ذلك الرهط من المسلمين الاولين، وإنما كانت هجرة في سبيل العقيدة بذلا واحتمالا، وسلاحا شهروه في وجه الوثنية الغاشمة، لتدرك مدي ما يطيق المؤمنون احتماله من التضحية والبذل في سبيل ما آمنوا به. أما الهجرة التاريخية إلي يثرب، فلم تكن بذلا واحتمالا فحسب، بل كانت كذلك تحركا إلي موقع خطير علي حافة الحرب، فقد أذن الله في القتال للمسلمين الذين أوذوا وظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله. وكان الاذن بالقتال، من حيث لم تتوقع قريش أو تحتسب. وقد مضي علي المبعث أكثر من عشر سنين ونبي الاسلام يدعو إلي سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويواجه جبروت الوثنية بكلمات من وحي ربه، كانت علي المدي الطويل سلاحه الذي يشهره في وجه الوثنية. [ صفحه 194] وقد أمنت قريش جانب المسلمين فيما تحرص عليه من تجنب الحرب في البلد الحرام. فلم يخطر لها علي بال، أن نبي الاسلام يمكن أن يخوض بالقلة العزلاء من صحابته، معركة حربية مع الوثنية المعتزة بما لها من سلطان، ودونها قوة باطشة من العدد والسلاح. من هنا أنكر سمعهم آيات الاذن للمسلمين في القتال، وأقبل بعضهم علي بعض يتساءلون: أو يريد محمد أن يفرض عقيدته بالسيف ؟ كأنه لم يتل من قبل، من كلمات ربه: (لكم دينكم ولي دين). (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا، إن عليك إلا البلاغ). (ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين) ؟ وفي أخذة المباغتة، فاتهم أن يدركوا مغزي الاذن للمسلمين في القتال: دفاعا عن دينهم، وتقريرا لمبدإ الاسلام في حرية العقيدة. وانتصارا للذين أوذوا وأخرجوا من ديارهم بغير حق (إلا أن يقولوا ربنا الله). وإلزاما بتكليف الجهاد في سبيل الحق والخير، في مواجهة الحشد الكاثر والقوي الباغية: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله علي نصرهم لقدير - الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا إن يقولوا ربنا الله ولولا [ صفحه 195] دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز - الذين إن مكناهم في الارض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور - وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود - وقوم ابرهيم وقوم لوط - وأصحاب مدين وكذب موسي فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير - فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية علي عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد - أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمي الابصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور. (صدق الله العظيم) وهذه هي الجبهة الاولي التي كان علي الاسلام أن يخوض معركته معها إثر الهجرة. ضد الوثنية القرشية الباغية التي وعت منطق الهجرة أتم الوعي، فانكفأت بعد خيبة المطاردة الشرسة، تعبئ قواها استعدادا للصدام. دون أن يتصور أحد من الفريقين أن الهجرة كانت نهاية مريحة للجولة المكية التي استغرقت ثلاث عشرة سنة، أجهدت المسلمين أذي وفتنة واضطهادا ومقاطعة وحصارا، بقدر ما أجهدت قريشا وأرقت لياليها واستنفدت كل ما لديها من وسائل. وهل كانت قريش بحيث تغمض عينها وتنام، وقد أعجزها، [ صفحه 196] بكل عتوها وجبروتها أن تنال من دعوة أذلت كبرياءها وسفهت أحلامها وحقرت آلهتها ؟. أو كانت بحيث تأمن علي وجودها الجاهلي ودينها الموروث، وهذا النبي المهاجر قد أخذ موقعه الجديد في عاصمة الشمال، يهدد طريقها التجارية إلي الشام، مصمما علي أن ينسخ برسالته دين قومه ويدك صروح وثنيتهم، ومعه رجال مؤمنون قد باعوا الدنيا بالآخرة، فهم يرون الموت في سبيل عقيدتهم شهادة وحياة وانتصارا ؟ هيهات هيهات. ولو ترك القطا ليلا لنام ! علي أن هذه الجبهة لم تكن أخطر ولا أضري من جبهة ثانية كانت تنتظر الاسلام في دار هجرته. يهود كانوا هناك، يرصدون مجري الاحداث في ذعر وقلق: لقد لبثوا طوال العهد المكي يتعلقون بالامل في أن ينهك الصراع أهل مكة، مسلمين ومشركين، فيخلو ليهود الطريق إلي أم القري، وفيها أسواق العرب التجارية الكبري: عكاظ ومجنة وذو المجاز. لكن بيعة العقبة الكبري خيبت هذا الرجاء، كما خيبت الهجرة أملهم في أن يبقي الاسلام محصورا في البلد العتيق، بعيدا عن شمال الحجاز. ولم يبق لهم إلا أن يتربصوا بالاسلام ويكيدوا له، بكل ما وسعهم من خبث وشر ودهاء. [ صفحه 197] ثم كانت هناك جبهة ثالثة من المنافقين الذين ابتلي بهم الاسلام في دار هجرته، ولقي المصطفي صلي الله عليه وسلم من عنتهم ونفاقهم وتخاذلهم، أشد مما لقي من طواغيت المشركين. وكان رأس المنافقين في المدينة: عبدالله بن أبي بن سلول، مولي يهود وحليف الشيطان. ذلك هو منطق الهجرة: بذلا واحتمالا واستبسالا، وتحركا إلي موقع جديد خاض فيه المسلمون معركتهم في الجبهات الثلاث، جهادا بالنفس والمال، حتي جاء نصر الله والفتح. استحدثت (يثرب) بهجرة المصطفي إليها، اسما إسلاميا جديدا هو (المدينة المنورة): مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام. وكان وصوله إليها قبيل الظهر من يوم الاثنين، وقد مضت اثنتا عشرة ليلة من ربيع الاول، في السنة الثالثة عشرة للمبعث. وأقام في (قباء) بظاهر المدينة، في بني عمرو بن عوف، أيام الاثنين والثلاثاء والاربعاء والخميس، أسس فيها بقباء أول مسجد في الاسلام. ثم ركب ناقته (القصواء) يوم الجمعة، وسط حشد من المهاجرين والانصار، فأدركته صلاة الجمعة في حي بني عوف بن سالم، فصلي بالصحابة أول جمعة بالمدينة المنورة. وأرخي العنان لناقته وهي تشق أمواج الزحام، ولم يدر أحد يومها أين يكون منزل المصطفي، وكل بيوت المدينة مفتوحة له ترحب به، [ صفحه 198] وإن لم يكن له صلي الله عليه وسلم دار هناك. وبدا الموقف صعبا: كلما مر عليه الصلاة والسلام بحي من أحياء الانصار بادر إليه الرجال يسألونه شرف النزول فيهم، وهو عليه الصلاة والسلام يتحرج من إيثار حي علي آخر أو دار علي دار، فيقول معتذرا شاكرا: (خلوا سبيل ناقتي). حتي إذا مر بحي بني عدي بن النجار، توقعوا أن يكون لهم من خئولتهم لابيه عبدالله بن عبدالمطلب، حق الحظوة بالشرف الذي رنت إليه كل بيوت الانصار. هتفوا: (يا رسول الله، هلم إلي أخوالك، إلي العدد والعدة والمنعة). وتلبث عليه الصلاة والسلام برهة يملا عينيه من هذا الحي، ويسترجع ذكريات رحلته الاولي إلي يثرب، حين جاءت به أمه (آمنة بنت وهب) من مكة وهو في السادسة من عمره، لتزيره قبر أبيه الثاوي هناك. وتخطي بصره الجموع الزاخرة التي حفت بركابه، وتعلق بطيف أمه، ماثلا شاخصا لا يغيب. ومع الذكريات، طوي سبعة وأربعين عاما من عمره، ليجد نفسه غلاما غض الصبا، يعود مع أمه في رحلة الاياب إلي أم القري، ومعهما (بركة أم أيمن) فما قطعوا بعض مراحل الطريق حتي وعكت أمه، ثم أسلمت الروح بين يديه في بقعة موحشة من الفلاة، بين يثرب ومكة. [ صفحه 199] وحملت (بركة) جثمان (آمنة) إلي قرية الابواء فدفنوها هناك. واستأنف الرحلة إلي مكة واجما صامتا محزونا مضاعف اليتم. ومن وراء نحو نصف قرن، أتاه صدي من حشرجة الاحتضار التي روعته في الفلاة، مختلطة بهتاف الترحيب وأناشيد الاستقبال. وبنو النجار يكررون دعوته: (هلم إلي أخوالك.). قال وما يزال يملا عينيه من ساحة الحي التي كانت ملعب حداثته أياما، مع لداته من صبية بني النجار: (خلوا سبيل ناقتي). إلي أين إذن ؟ إلي حيث تمضي به ناقته القصواء. وقد خطت وئيدا تشق الزحام حتي توقفت غير بعيد، وبركت في مربد هناك لسهل وسهيل، ابني عمرو. فحط المهاجر رحله، وقام يصلي. علي ساحة المربد الذي بركت فيه (القصواء) حين دخل المصطفي دار هجرته، أمر عليه الصلاة والسلام أن يبني هناك مسجده، ثاني الحرمين ومزار المسلمين علي مر السنين والدهور. وتنافس المهاجرون والانصار في بنائه بما تيسر من مواد البناء: [ صفحه 200] اللبن والجريد والليف، وبعض الحجارة والخشب. والمصطفي معهم، يشارك ويوجه ويعين. وقد يمد يده فينفض الغبار عن لحي بعض صحابته، داعيا للمهاجرين منهم والانصار فيرددون دعاءه مرتجزين: لا عيش إلا عيش الآخره اللهم ارحم الانصار والمهاجره ولم يستغرق البناء أكثر من أيام معدودات. ومن حول المسجد بنيت تسع حجرات تفتح علي ساحته، لتكون دار المصطفي المهاجر. وكان مبني المسجد والحجرات بسيطا متواضعا: بعضه من حجارة مرصوصة، وبعضه من جريد يمسكه الطين. والسقف كله من جريد. ذكره سبط المصطفي عليه الصلاة والسلام: (الحسن بن علي بن أبي طالب) فقال: (كنت أدخل بيوت النبي صلي الله عليه وسلم وأنا غلام مراهق، فأنال السقف بيدي). وشدت خشبات بالليف، فكانت سريرا لمن اصطفاه الله تعالي خاتما لرسل الانبياء. وغير بعيد من المدينة والحجاز، كانت قصور الحكام والامراء والاغنياء، في الحيرة وغسان واليمن، وفي فارس ومصر والحبشة، تعلو سامقة شامخة، ساطعة ببريق البذخ والترف، فتخطف أبصار [ صفحه 201] الدنيا عن ذلك المبني البسيط المتواضع الذي لم يلبث سنا جلاله أن كسف كل ما عرفت الدنيا من قصور لكسري وقيصر وفرعون، أو نجاشي وملك وامبراطور. وفي الاحياء اليهودية الناشبة في المدينة وما حولها من مستعمراتهم شمالي الحجاز، دور مشيدة وحصون منيعة، تطل علي المبني البسيط المتواضع لنبي الاسلام، فيبدو لها فقيرا أشد الفقر. ويلتقط أهلها ما يتلو المصطفي من كلمات ربه في الحث علي الانفاق في سبيل الخير، قرضا لله تعالي، فتذيع قالتهم الفاحشة: (إن الله فقير ونحن أغنياء) ! في تلك الايام الاولي بدار الهجرة، نزل المصطفي صلي الله عليه وسلم بدار صاحبه (أبي أيوب الانصاري) ريثما تم بناء المسجد والحجرات حوله. أما صحابته المهاجرون، فنزلوا علي الانصار من الاوس والخزرج، وقد آخي الرسول بينهم. واختار صلي الله عليه وسلم ابن عمه (علي بن أبي طالب) فجعله أخاه. وهكذا ذهب كل أنصاري بأخ له من المهاجرين، وذهب علي بن أبي طالب بالمصطفي أخا. وأغلقت دور المهاجرين بمكة. وتركت مهجورة موحشة خلاء. [ صفحه 202] بعد أن تم بناء بيت المصطفي في دار هجرته، بدت الحاجة إلي زوج تملا هذا البيت، وتهيئ للمصطفي سكنا وراحة، فيما يواجه من أعباء الرسالة في مرحلتها الحرجة الصعبة. وكانت (عائشة بنت أبي بكر) قد لحقت بأبيها في المدينة مهاجرة. وقبل الهجرة بثلاث سنين، كان المصطفي قد عقد عليها بمكة، ثم تمهل لم ينقلها إلي بيته هناك، إذ كانت ظروفهما كليهما، لا تعين علي التعجيل بإتمام الزواج. وقد سبقتها إلي بيت المصطفي في المدينة، أم المؤمنين (سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس) التي مات عنها زوجها (السكران ابن عمرو) إثر عودتهما من هجرة الحبشة، فأشفق عليها المصطفي، وتزوجها ليحمل عبئها الذي لقيت من غربة وترمل. [52] وقنعت (سودة) بحظها من زوجها المصطفي: بر ورحمة، لا حب وتآلف وسكن. وأرضاها كل الرضي أن يشرفها النبي عليه الصلاة والسلام فيدخلها بيته أما للمؤمنين. وبقيت حياة محمد - عليه الصلاة والسلام - في بيته، تقتات من ذكريات الزوج الحبيبة الراحلة (خديجة بنت خويلد) التي أوحشت دنياه منذ رحيلها، في عام الحزن، بعد أنس عشرة هنيئة امتدت خمسا [ صفحه 203] وعشرين سنة، لم تشاركها فيها زوج أخري في بيت زوجها، أو في قلبه ودنياه. وتهيأ مجتمع المدينة ليزف إلي محمد صلي الله عليه وسلم، عروسه الصبية المليحة الذكية (عائشة بنت أبي بكر) وتعلق بها الامل أن تملا في بيته وقلبه، ذلك الفراغ الموحش الذي تركته أم المؤمنين الاولي. وتم حفل العرس بسيطا غاية البساطة. مضي محمد صلي الله عليه وسلم، إلي منزل صهره الصديق، فجاءت (أم رومان: زوج أبي بكر) بابنتها العروس بعد أن سوت شعرها وغسلت وجهها وطيبتها، وقدمتها إلي زوجها المصطفي وهي تدعو الله أن يبارك له فيها ويبارك لها فيه. ولم تنحر جزور ولا ذبحت شاة، بل كان طعام العرس جفنة من طعام، هدية من (سعد بن عبادة الخزرجي الانصاري) وقدحا من لبن، شرب المصطفي بعضه ثم قدمه إلي عروسه فشربت منه. ونقلها إلي بيتها الجديد، وما كان هذا البيت سوي حجرة من الحجرات البسيطة التي شيدت حول المسجد النبوي من اللبن والجريد. وأثاثه فراش من أدم حشوه ليف، ليس بينه وبين الارض إلا الحصير. وفي مدخل الحجرة، أسدل علي فتحة الباب ستار من وبر وشعر. وفي هذا البيت البسيط المتواضع، بدأت (عائشة) حياتها الزوجية الحافلة، وشغلت مكانها المرموق في حياة الرسول والاسلام. ولم يكن وجود (سودة) علي مقربة منها، في بيت الزوج الذي أحبته عائشة بقلبها البكر ووجد انها المرهف وعاطفتها المتوهجة، يشغل [ صفحه 204] بالها في كثير أو قليل. فما غاب عنها أن ليس لسودة في قلب زوجها مكان ! وإنما الذي كان يشغل عائشة، هو ذلك الحب العميق الذي حظيت به (خديجة) قبلها من الزوج المصطفي، وتلك الذكري الحية لمن استأثرت بكل عواطفه ربع قرن من الزمان. والزوج الحبيب يروض عائشة علي أن ترضي منه بحظوتها لديه، ومنزلتها في قلبه وفي حياته. هل كانت (عائشة) طفلة، كما يحلو لبعض المستشرقين أن ينعتوها، وهم يقيسون نضج المرأة في المجتمع العربي مند أربعة عشر قرنا، بمقاييس المجتمع الغربي في عصرنا ؟ الذي يعرفه تاريخنا، هو أن عائشة في صباها الغض وأنوثتها الذكية، بدأت من اليوم الاول لحياتها الزوجية، تحقق وجودها في بيتها الجديد وتعي دورها الفذ في حياة زوجها الرسول عليه الصلاة والسلام، وتفرض شخصيتها علي المجتمع المدني، ثم علي التاريخ الاسلامي الذي عرف لها أعمق الاثر في الحياة الفقهية والسياسية والاجتماعية للامة الاسلامية. هل نسي المهاجرون وطنهم الاول في البلد العتيق، مهد مولدهم ومغني صباهم ومثوي آبائهم من قديم الزمان ؟ [ صفحه 205] هل انقطع ما بينهم وبين أم القري، وطووا ما كان لهم فيها من ذكريات ؟ كلا ! بل بقيت مكة مهوي أفئدتهم كما هي مهوي أفئدة الانصار وسائر العرب. وما كان الفراق سهلا، ولا كان في المهاجرين من ودعها إلا وقلبه مثقل بالشجن. وكأنما كان المصطفي صلي الله عليه وسلم يعبر عما يجدون، حين وقف ساعة خروجه للهجرة يستوعب مكة بنظرة حزينة ويقول مودعا: (والله إنك لاحب أرض الله إلي الله، وإنك أحب أرض الله الي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت). ورغم ما حفلت به الايام الاولي في دار الهجرة، من مراسم الترحيب والاخاء وشواغل التنظيم للمجتمع الاسلامي الجديد، كانت وطأة الحنين ترهق أكثرهم فترهف حساسيتهم لتغير الجو ! وألم بكثير منهم سقم وأجهدتهم الحمي. وفي هذيان الحمي كان المطوي من أشواقهم ومكبوت حنينهم، يتنفس مفلتا من أعماق أفئدتهم، إلي ألسنتهم. تتحدث أم المؤمنين (عائشة بنت أبي بكر) عن أول عهدهم بالمدينة فتقول: (كان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال، في بيت واحد. فأصابتهم الحمي فدخلت عليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب [ صفحه 206] علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك. فدنوت من أبي فقلت له: - كيف تجدك يا أبت ؟ فرد مرتجزا: كل امرئ مصبح في أهله والموت أدني من شراك نعله فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول. ثم دنوت إلي عامر بن فهيرة فقلت له: - كيف تجدك يا عامر ؟ فرد منشدا: لقد وجدت الموت قبل ذوقه إن الجبان حتفه من فوقه قلت: والله ما يدري عامر ما يقول. وكان بلال إذا تركته الحمي، اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته، يذكر مكة وربوعها: ألا ليت شعري هل أبيتهن ليلة - بفخ وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة - وهل تبدون لي شامة وطفيل فذكرت لرسول الله صلي الله عليه وسلم ما سمعت منهم فقلت: - إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمي. [ صفحه 207] فقال صلي الله عليه وسلم: - اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد) [53] ويح المشركين من أهل مكة، ضلوا وظلموا، واشتطوا في عتوهم وعنادهم وبغيهم، وأسرفوا علي من أسلموا منهم. وبقيت مكة مهوي الافئدة: لم يسل عنها من هاجروا منها بدينهم، ولم يغض من شأنها عتو الوثنية الطاغية. وإن مكة لمهد النبوة ودار المبعث، ومثابة حج العرب من عهد ابرهيم واسماعيل. [ صفحه 208]

ابعاد الموقف في ميدان الصراع

(لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذي كثيرا، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الامور). (صدق الله العظيم) في حساب التاريخ أن المواجهة الاولي بين الاسلام والوثنية في مكة، تختلف تماما عما يواجهه في المدينة من معركة معقدة بينه وبين أعدائه، في ميدان ذي جبهات ثلاث، يلقي فيه حشود قريش في صدام مسلح، وعصابات يهود في أوكارهم الخطرة، وجيوب المنافقين الذين حالفوا الشيطان. [ صفحه 209] وتتداخل هذه الجبهات زمانا ومكانا، فيزداد الموقف تعقيدا وصعوبة وحرجا، من حيث لا يستطيع المؤمنون أن يتفرغوا للجهاد في إحدي الجبهات ثم ينتقلوا إلي أخري منها فيكون الامر عليهم أخف عبئا وأيسر مشقة. وكذلك يشق علينا، فيما نحاول من متابعة المسير مع المصطفي في دار هجرته، أن نمضي مع الاحداث من موقع إلي اخر في ميدان المعركة الكبري المعقدة، بمعزل عن غيره من المواقع. ويمكن القول مع ذلك، إن الجبهة اليهودية بدأت تشحذ أسلحتها المسمومة لحرب الاسلام، من أول يوم للهجرة. بينما تأخر الصدام المسلح مع الوثنية القرشية، ريثما يتحدد مجاله ما بين مكة والمدينة، ويتم التأهب له والاحتشاد، فلم يبدأ إلا في السنة الثانية للهجرة. وكذلك تأخر ظهور الجيوب الخطرة للمنافقين، ريثما سري فيها سم الشيطان بطيئا خفيا لم يكد يلحظ إلا بعد أن ضري واستشري، يهدد الوجود الاسلامي في أحرج المواقف. ذلك كله مما كان يدخل في حساب التاريخ، حين بدا ظاهر الامر أن مكة وحدها هي مركز الخطر علي الاسلام، وأن له في يثرب مأمنا من كل خطر. فلنمض مع الاحداث إلي حيث نرقب منطق الحرب في الجبهة اليهودية التي لم تطق الصبر علي الاسلام منذ تحول إلي دار الهجرة، [ صفحه 210] بل أخذت زمام المبادرة إلي الكيد له، من اليوم الاول. وقد اقتضت طبيعة الجبهة، أن يأخذ الصراع فيها جولتين. أولاهما إثر الهجرة، بكل سلاح يهودي إلا الحرب والقتال. والاخري بعد بدر وأحد والخندق، حيث فرض الوضع المواجهة بالسيف في حرب معلنة. ومن الجولة الاولي، ينكشف موضع جديد للخطر، لافتا إلي موقع في الميدان لم يكن له حساب في العهد المكي قبل الهجرة. لم يكن قد مضي علي المصطفي في دار هجرته يوم وبعض يوم، حين انكمش يهود في دورهم ومجامعهم يرصدون أبعاد الموقف الطارئ، ويحسبون ألف حساب لما وراءه من تهديد لوجودهم المغتصب هناك. أقرب الخطر أن ألف بين قلوب عرب المدينة من أوس وخزرج، وأطفأ ما أوقد يهود بينها من نار العداوة والبغضاء. ووراءه أن ينير الاسلام بصائر العرب الاميين ويعلمهم الكتاب والحكمة، فينكشف لهم ما عق يهود من الدين الموسوي وحرفوا من التوراة، وقتلوا من أنبياء، واقترفوا من جرائم وحشية أرقت البشرية علي اختلاف الاجناس والازمان. من أول يوم للهجرة، بدأ قلقهم وكيدهم. وفي بيت زعيمهم (حيي بن أخطب) كانت العصابة في شغل شاغل [ صفحه 211] بهذا المهاجر الذي صرخ راصدهم معلنا عن قدومه، فاحتشد عرب يثرب لاستقباله. وبدا لابن أخطب أن يتسلل هو وأخوه (أبو ياسر) في غلس الفجر، ليتحققا من شخصية هذا النبي العربي ويستوثقا من أمره في ضوء ما أعطت التوراة من ملامح النبوة. وكانت (صفية بنت حيي) هناك، صبية مدللة ما تزال في بيت أبيها، لم تر النبي العربي بعد. قالت بعد أن أسلمت ودخلت بيت المصطفي، تسترجع ذكرياتها عن يوم الهجرة. (كنت أحب ولد أبي إليه والي عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولدهما إلا أخذاني دونه. فلما قدم رسول الله، صلي الله عليه وسلم، المدينة، غدا عليه أبي وعمي مغلسين بين الفجر والصبح، فلم يرجعا حتي كانا مع غروب الشمس. فأتيا متعبين ساقطين يمشيان الهويني، فهششت إليهما كما كنت إصنع، فوالله ما التفت واحد منهما الي، مع ما بهما من الغم. وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لابي: - أهو هو ؟ قال: نعم، إنه هو. سأله عمي: أتعرفه وتثبته ؟ قال: نعم أعرفه. [ صفحه 212] وسأل عمي: فما في نفسك منه ؟ ورد أبي: عداوته ما بقيت) [54] وكأنما كانت كلمته، أول يوم للهجرة، إيذانا بفتح جبهة جديدة، أخطر وأضري من الجبهة المكشوفة مع المشركين من قريش. كان هم يهود، أن يوادعهم الاسلام ريثما يفيقون من صدمة الهجرة، ويتدبرون وسيلة الخلاص من هذا الدين الذي لا يمكن أن يسالموه. وتعلق أملهم في الموادعة، بأنهم في ظاهر أمرهم أهل كتاب وأتباع نبي مرسل. والقرآن فيما سمعوا من آياته، يقرر أنه مصدق لما بين يديه من التوراة والانجيل، مقر بنبوة عيسي وموسي ويعقوب واسحاق وابرهيم وسائر الانبياء لا يفرق بين أحد منهم. وفي خبث ومسكنة، تقدموا يرحبون بالنبي المهاجر ويسألونه الموادعة والامان، وله عليهم أن يكونوا مع أهل المدينة ضد أي عدوان عليها من وثنيي مكة. وكان الضمان، ما ليهود في المنطقة من مستعمرات غنية وتجارة رابحة وحصون مكدسة بالاموال، فهم أحرص الناس علي سلام المدينة وأمن المنطقة. [ صفحه 213] وأعطاهم المصطفي عهده بالموادعة والامان علي أموالهم وأنفسهم وحرية عقيدتهم، مسجلا في كتابه إلي أهل المدينة إثر هجرته عليه الصلاة والسلام. ومما جاء فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبي صلي الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب - المهاجرين والانصار - ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة. (وأن لا يحالف مؤمن مولي مؤمن دونه. وإن المؤمنين علي من بغي منهم أو ابتغي دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين. وان المؤمنين أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم. ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينصر كافرا علي مؤمن. (وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وان المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. (وإن من تبعنا من يهود فإن له النصر والاسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم. وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا علي سواء وعدل بينهم.. (وإن المؤمنين المتقين علي إحسن هدي وأقومه، وإنه لا يجير مشرك - من أهل المدينة وما حولها - مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه علي مؤمن. وإنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضي ولي المقتول. وان المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه. [ صفحه 214] (وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثا ولا يؤويه [55] وإنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وإنكم مهما اختلفتم فيه من شئ فإن مرده إلي الله عزوجل، والي محمد صلي الله عليه وسلم. (وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ - يهلك - إلا نفسه وأهل بيته. وإن جفنة - بطن من بني ثعلبة - كأنفسهم. وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الاثم. وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم. (وإن علي اليهود نفقتهم وعلي المسلمين نفقتهم. وإن بينهم النصر علي من حارب أهل هذه الصحيفة. وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الاثم. وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لاهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها. (وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف [ صفحه 215] فساده فإن مرده إلي الله عزوجل، والي محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم. (وإن الله علي أتقي ما في هذه الصحيفة وأبره (وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها. (وإن بينهم النصر علي من دهم يثرب. وإذا دعوا إلي صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه. وإنهم إذا دعوا إلي مثل ذلك فإن لهم علي المؤمنين، إلا من حارب في الدين. علي كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم. (وإن يهود الاوس، مواليهم وأنفسهم، علي مثل ما لاهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة. (وإن البر دون الاثم. لا يكسب كاسب إلا علي نفسه وإن الله علي أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره. وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم. وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم. وإن الله جار لمن بر واتقي، ومحمد رسول الله صلي الله عليه وسلم) [56] والصحيفة وثيقة تاريخية شاهدة علي استجابة نبي الاسلام صلي الله عليه وسلم لما طلب يهود من موادعة وأمان وحلف وجوار، وعلي احترام الاسلام حريتهم في العقيدة، لهم دينهم وللمسلمين دينهم، وتأمينهم علي أموالهم وأنفسهم ومواليهم وبطانتهم، إلا أن يأثموا ويظلموا، ويخونوا العهد فيظاهروا عدوا علي أهل المدينة من المهاجرين والانصار. [ صفحه 216] بقدر ما هي شاهدة علي أبعاد الجبهة اليهودية، ومدي تغلغلهم في يثرب. ولم تذكر مع ذلك غير البطون الناشبة في أحياء العرب هناك، والمعدودة من مواليها. دون تعرض للمستعمرات اليهودية في خيبر وبني النضير وبني قريظة، وتيماء وفدك ووادي القري. بل لم تذكر كذلك الاحياء الخاصة بهم في صميم المدينة، مثل حي بني قينقاع. فلنتابع الاحداث. المدينة التي فتحت قلبها للمهاجر العظيم وبايعته علي الاسلام والنصرة والبذل، كانت تتوجس الشر من عصابات يهود التي مزقت الوجود العربي هناك قبل الاسلام. وبنو قيلة، الاوس والخزرج، الذين فتحوا دورهم لاخوانهم المهاجرين من مكة، كانوا في ضيق بنفر من أشراف المدينة، ترددوا في الترحيب بهذه الهجرة التي غيرت الاوضاع وحولت مجري الاحداث. ثم تابعوا قومهم علي الاسلام، بعد تردد وارتياب دون أن يدخل الايمان في قلوبهم عقيدة ودينا. وعلي رأس المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول الخزرجي، حليف اليهود من يوم بعاث. لقد افتدي نفسه وماله بدفع رهائن اليهود إليهم، حين هجموا بعد انتصار الاوس، علي دور الخزرج يذبحون وينهبون. [ صفحه 217] ومن يومها صار حليفهم الذي يدين لهم بحياته، ويجدون فيه عميلا يسخرونه في قضاء مأربهم، حتي فكروا في أن يتوجوه ملكا علي يثرب، وعكف بعض صناعهم في حي الصاغة اليهودي، علي إعداد تاج لهذا الموالي الحليف. وجاءت الهجرة فبددت أمله وأملهم، وشحنت نفسه حسرة علي تاجه المسلوب. ذات صباح، من الايام الاولي للهجرة، ركب المصطفي عليه الصلاة والسلام إلي بيت صاحبه (سعد بن عبادة الخزرجي الانصاري) يعوده من مرض ألم به. وفي طريقه إلي بيت سعد، مر بعبد الله بن أبي، في مجلس له وحوله رجال من أهله. فكره عليه الصلاة والسلام أن يجاوز المجلس دون أن ينزل. فنزل وسلم علي القوم، ثم جلس قليلا فتلا آيات من القرآن الكريم، وذكر بالله وحذر، وبشر وأنذر. وابن أبي بن سلول، صامت واجم. حتي إذا فرغ المصطفي مما أراد أن يقول، بادره (ابن أبي) قائلا في جفوة وغلظة: - يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا. فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدثه إياه، ومن لم يأتك فلا تغشه في مجلسه بما يكره منه ! [ صفحه 218] ولم يدعه الانصار يتم قولته المنكرة الفاحشة. وانتفض الشاعر الخزرجي الانصاري (عبدالله بن رواحة) يعقب علي كلام ابن أبي، متحديا: - بلي يا رسول الله، فاغشنا بحديثك وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا، فهو والله مما نحب، ومما أكرمنا الله به وهدانا له. وغض ابن أبي بن سلول من بصره وهو يتمثل بقول (خفاف بن ندية السلمي): متي ما يكن مولاك خصمك لا تزل - تذل ويصرعك الذين تصارع وهل ينهض البازي بغير جناحه - وإن جذ يوما ريشه فهو واقع وقام المصطفي فتابع سيره حتي دخل علي صاحبه (سعد بن عبادة) وفي وجهه - صلي الله عليه وسلم - ملامح ضيق لما سمع من ابن أبي بن سلول، عدو الله. سأل سعد: (والله يا رسول إني لاري في وجهك شيئا، لكأنك سمعت شيئا تكرهه). فأخبره صلي الله عليه وسلم بما كان. وقال سعد: (يا رسول الله، ارفق به فوالله لقد جاءنا الله بك وإنا لننظم الخرز [ صفحه 219] لنتوجه، فوالله إنه ليري أن قد سلبته ملكا) [57] لم يكد اليهود يطمئنون إلي موادعة نبي الاسلام إياهم، حتي عادوا إلي أوكارهم يدبرون لحرب الاسلام في معركة غير مكشوفة، يتقون بها المواجهة المعلنة. وكان أقسي ما غاظهم من هذا الاسلام، أن أطفأ نار العداوة والبغضاء بين عرب المدينة، الاوس والخزرج، بعد أن سهرت أجيال من السلالة اليهودية علي إلهابها بوقود من الدس والفتنة والتواطؤ. فهل يمكن إيقاظ الفتنة بين الاوس والخزرج، وإهاجة الشر بينهم بعد أن حسمه الاسلام ونسخ ثارات لهم وأحقادا تراكمت علي مدي خمسة قرون قبل المبعث ؟ لا بأس من المحاولة، علي أن تبدو حادثا فرديا عارضا، لا يحمل اليهود إثمه. نقل ابن إسحاق والطبري، فيما نقلا من أحداث السنة الاولي للهجرة: (مر شاس بن قيس - وكان شيخا عظيم الكفر شديد الضغن علي المسلمين والحسد لهم - علي نفر من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم، من الاوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاضه ما رأي من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم علي الاسلام، [ صفحه 220] بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية. فقال، يحدث نفسه أو قومه: - قد اجتمع ملا بني قيلة بهذه البلاد، وما لنا إذا اجتمع أمرهم من قرار ! ثم أمر فتي شابا من يهود كان معه، فقال: - اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان قبله من حروب بينهم، وأنشدهم بعض ما تقاولوا فيه من أشعار). ففعل الشاب اليهودي ما أمره به شيخه، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا، حتي تواثب رجلان من الحيين وقال أحدهما لصاحبه: - إن شئتم رددناها الآن جذعة. فغضب الفريقان جميعا وصاحوا: - قد فعلنا. وتواعدوا علي أن يلتقوا في يومهم ذاك. بموضع (الحرة) واندفعوا في دروب المدينة يتداعون إلي الحرب وهم يتصايحون: السلاح السلاح. وجمت دار الهجرة وهي تسمع صيحة الحرب. وجاء المصطفي في جمع من صحابته، فأدرك القوم في (الحرة) وقد هموا بقتال. فقال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر المسلمين، الله الله ! أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم، [ صفحه 221] بعد أن هداكم الله للاسلام وقطع عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم) ؟ ونفذ صوت المصطفي من مسامعهم إلي أفئدتهم وضمائرهم وعقولهم، (وعرفوا أنها مكيدة عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الاوس والخزرج بعضهم بعضا). وبطل سم هذه الفتنة، وخاب كيد يهود. والمصطفي يتلو من آيات (آل عمران) ثانية السور التي نزلت بالمدينة بعد الهجرة: (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد علي ما تعملون - قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون - يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين - وكيف تكفرون وأنتم تتلي عليكم ايات الله وفيكم رسوله، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلي صراط مستقيم - يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون - واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم علي شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون - ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون - [ صفحه 222] ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم -) صدق الله العظيم وخشع المؤمنون لآيات ربهم، وانكمشت العصابة الملعونة تفتش في جعبتها عن سهام أخري يمكن أن تصيب من حيث ارتد سهم الفتنة هذه المرة إلي صدورهم، يؤجج ما انطوت عليه من ضغينة وغدر وحقد. علي أن تبدو المكيدة حادثا فرديا عارضا، لا يحمل اليهود كلهم إثمه.. في أوكار يهود الناشبة في دار الهجرة وما حولها، تمت تعبئة الاحبار ليكيدوا للاسلام كيدا، دون أن يواجهوه بحرب معلنة: يتظاهر نفر منهم بالاسلام، ثم يندسون بين الصحابة في صميم المجتمع الاسلامي بالمدينة، ليبذروا بذور الشر التي تؤتي ثمرها الخبيث علي المدي الطويل، ويشربوا ضعاف النفوس من بني قيلة سم النفاق، واثقين من نتيجته وإن يكن بطئ الاثر. وآخرون منهم يتصدون لمجادلة نبي الاسلام، التماسا للعلم في ظاهر الامر، وقصدا إلي إحراجه، صلي الله عليه وسلم، وإعناته ! [ صفحه 223] جاءه نفر منهم، وهو صلي الله عليه وسلم في مجلسه مع صحابته، فقالوا: [58] - يا محمد، أخبرنا عن أربع نسألك عنهن، فإن فعلت ذلك اتبعناك وصدقناك. سألهم عليه الصلاة والسلام: ما هي ؟ قال كبير منهم: - أخبرنا كيف يشبه الولد أمه وإنما النطفة من الرجل ؟ - وأخبرنا كيف نومك ؟ - وماذا حرم اسرائيل علي نفسه ؟ وأخبرنا عن الروح. - وجاءه (أبوصلوبا الفيطوني) فقال: - يا محمد، ما جئتنا بشئ نعرفه - من دلائل النبوة - ما أنزل الله عليك من آية فنتبعك لها. وعقب (ابن حريملة) فاقترح علي المصطفي مثل ما اقترحه عليه الوثنيون من قريش. قال: - يا محمد، إن كنت رسولا من الله كما تقول، فقل له فليكلمنا حتي نسمع كلامه. وأضاف آخر مقترحا: - يا محمد، ائتنا بكتاب تنزله علينا السماء نقرؤه، وإلا جئناك بمثل ما أتيتنا به ! [ صفحه 224] تلا المصطفي من وحي ربه: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية، كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم، تشابهت قلوبهم، قد بينا الآيات لقوم يوقنون). وجاءه (جبل بن أبي قشيرة، وشمويل بن زيد) فقالا: - يا محمد، أخبرنا متي تقوم الساعة إن كنت نبيا كما تقول. ولم يجب الرسول عليه الصلاة والسلام بغير ما نزل عليه من كلمات ربه: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو، ثقلت في السموات والارض لا تأتيكم إلا بغتة، يسألونك كأنك حفي عنها، قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون). وجاءه صلي الله عليه وسلم، جمع منهم، فيهم (ابن أبي عزير، وسلام بن مشكم، وابن أضاء فسألوا: - أحق يا محمد أن هذا الذي جئت به لحق من عند الله، فإنا لا لا نراه متسقا كما تتسق التوراة ؟ وأضاف (فنحاص، وابن صوريا، وابن صلوبا، وشمويل بن زيد): - يا محمد، أما يعلمك هذا إنس ولا جن ؟ ورد عليه الصلاة والسلام: [ صفحه 225] (أما والله إنكم لتعرفون أنه الحق من عند الله.. ولو اجتمعت الانس والجن علي أن يأتوا بمثله، ما جاءوا به). وكرروا سؤالهم عن ذي القرنين وأهل الكهف، وكانوا قد اقترحوا علي مشركي قريش أن يسألوه عن (خبر فتية كان لهم حديث عجب، وعن رجل طواف في الارض ما شأنه ؟). وأجاب صلي الله عليه وسلم، بمثل ما أجاب به قريشا، مما تلقي من آيات سورة الكهف في العهد المكي. وأتي رهط منهم رسول الله صلي الله عليه وسلم فسألوه معنتين: - يا محمد، هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله ؟ فغضب النبي عليه الصلاة والسلام حتي تغير لونه، وهم بهم يريد أن يبطش بهم غضبا لله سبحانه، لكنه تمالك غضبه وراح يتلو: (قل هو الله أحد - الله الصمد - لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد). وغرهم حلمه صلي الله عليه وسلم، فمضوا في جدلهم الوقح: - فصف لنا يا محمد كيف خلقه - تعالي - ؟ كيف ذراعه وكيف عضده ؟ عندئذ اشتد غضب المصطفي وساورهم، ثم انصرف عنهم يائسا من جدوي مثل ذلك الجدل العقيم.. [ صفحه 226] لكنهم لم يكفوا عن جدلهم الخبيث، يبثون سمومه في المجتمع المدني آمنين من جانب نبي الاسلام، محتمين بعهده الموثق. حتي ضج الصحابة من شرهم ومكرهم، فمضوا يساورونهم ويزجرونهم، عساهم يرتدعون. دخل (أبو بكر الصديق) بيت المدارس الذي يجتمعون فيه إلي أحبارهم ويتدارسون في أسفارهم، فوجد عصابة منهم قد اجتمعت إلي حبرين من رؤوسهم: (أشيع وفنحاص) فقال الصديق منذرا: (ويحك يا فنحاص اتق الله، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والانجيل) رد عدو الله، وقد ذكر ما يتلو المسلمون من آيات القرآن في البر والرحمة، والبذل للخير قرضا حسنا يضاعفه الله لهم: (والله يا أبا بكر، ما بنا إلي الله من فقر وإنه إلينا لفقير ! وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لاغنياء وما هو عنا بغني ! ولو كان غنيا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم ! ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا) ! فلم يملك أبو بكر غضبه، ولطم وجه فنحاص وقال: (والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك، أي عدو الله). وأسرع الخبيث إلي النبي صلي الله عليه وسلم يشكو إليه صاحبه الصديق أبا بكر، وينكر أن يكون قال شيئا مما أغضبه. [ صفحه 227] ونزلت كلمات الله، من سورة آل عمران: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا، وقتلهم الانبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق). ولجوا في عنادهم ومكرهم، حتي اجترأوا فأنكروا أن يكونوا قد بشروا بقرب مبعث نبي ! ولم يسكت الانصار علي هذا الانكار الجرئ، وطالما من عليهم يهود بأنهم أهل كتاب، وشغلوهم بالكلام عن نبي حان زمانه. وقد تصدي لهم من الانصار (معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن وهب) قالوا: - يا معشر يهود، اتقوا الله فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته). فرد منهم رافع بن حريملة، ووهب بن يهوذا: - ما قلنا لكم هذا قط، وما أنزل الله من كتاب بعد موسي، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده ! وبدا أن المجتمع المدني في حاجة إلي تطهير مما نفثوا فيه من سموم الشر والنفاق، لكن عهد الموادعة بكتاب النبي صلي الله عليه وسلم، كان يرخي لهم في أملهم أن يكيدوا للاسلام دون أن يواجهوه في معركة مكشوفة لم يكن أوانها قد حان بعد. [ صفحه 228] حتي شهر رجب من السنة الثانية للهجرة، كان المصطفي والذين آمنوا معه، يتجهون في صلاتهم مستقبلين الشمال، شطر بيت المقدس. ولم يكن صلي الله عليه وسلم راضيا عن تلك القبلة الاولي، وطالما رنا في تأملاته إلي البيت العتيق يرجوه قبلة لامته، لكنه لم يكن يملك أن يغير قبلة المسلمين من تلقاء نفسه، فليس له إلا أن ينتظر أمر الله سبحانه وتعالي. واستجاب الله لرسوله فولاه القبلة التي يرضاها. وصلي المصطفي والصحابة في دار الهجرة، مستقبلين المسجد الحرام منذ نزلت آية البقرة، أولي السور المدنية: (قد نري تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها، فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره، وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم، وما الله بغافل عما يعملون). ولم يمض هذا التحول الهام دون جدل من يهود: ذهب نفر من أحبارهم إلي المصطفي عليه الصلاة والسلام يسألونه مساومين: - يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك علي ملة ابرهيم ودينه ؟ ارجع إلي قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك ! وتلا المصطفي من وحي ربه: [ صفحه 229] (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم) وانصرف اليهود بغيظهم لم ينالوا شيئا بحيلتهم الماكرة ومساومتهم المكشوفة الكاذبة. وتسامع طواغيت المشركين من قريش في مكة، بنبإ تحول المسلمين عن قبلتهم الاولي إلي المسجد الحرام، فلم يرضهم ما في هذا التحول من تأييد الزعامة الدينية لام القري وترسيخ حرمة البيت العتيق، بل أوجسوا في أنفسهم خيفة أن تكون مكة متجه الدعوة الاسلامية التي حسبوا أنها خرجت منها إلي يثرب، مع محمد - صلي الله عليه وسلم - والمهاجرين المكيين من صحابته. وساورهم القلق وهم يحسون نذر المواجهة المحتومة المتحدية، كلما حان موعد الصلاة خمس مرات كل يوم، فتمثلوا المسلمين هناك في دار هجرتهم يقيمون صلاتهم وقبلتهم المسجد الحرام في أم القري. [ صفحه 230]

يوم بدر وموازين القوي

(يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين - يا أيها النبي حرض المؤمنين علي القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون). (صدق الله العظيم) في أي الجبهات الثلاث، يبدأ الصدام المسلح الذي لم يكن منه بد، لتأمين الوجود الاسلامي وحماية حرية عقيدته ؟ ليس مع يهود قطعا، فما هو من طبيعتهم ولا في إمكانهم. وليس مع المنافقين، كذلك، وداؤهم لا يزال في مرحلة الحضانة [ صفحه 231] والتفريخ، والذي يبدو من بوادره يمكن تداركه أو الغض عنه تجنبا لفتح جبهة خطرة في صميم المجتمع الاسلامي بالمدينة، ولما يفرغ من أعدائه الوثنيين ويهود. إنما الصدام المسلح من الخصوم من قريش التي لم يعد أمامها سواه، بعد أن تجنبته جهدها طويلا، علي الرغم منها، حفاظا علي السلام في أم القري وأمن الحمي الحرام في البيت العتيق. لقد كان في حساب الوثنية القرشية أن تفرغ من القلة المؤمنة في الجولة الاولي بأرض المبعث، دون حاجة إلي قتال وحرب. وقد غرها أن نبي الاسلام عليه الصلاة والسلام، لبث بضعة عشر عاما في مكة، لا يحمل سلاحا غير عقيدته، ولا يلقي طواغيت المشركين بغير كلمات ربه. لكن طبيعة الاشياء فرضت حتمية الصدام، وقررت كذلك مصيره من تلك الجولة المكية الاولي، وإن بدا أن المعركة لم تحسم إلا يوم الفتح في السنة الثامنة للهجرة. ماذا عسي التاريخ أن يعطي من تفسير منطقي لحركة الدعوة الاسلامية إذ تأخذ منطلقها من فجر المبعث، فيحتمل المصطفي عليه الصلاة والسلام والذين آمنوا معه، وطأة الوثنية العاتية الشرسة، دون أن يؤذن لهم بقتال ؟ لا يمكن أن يكون المؤمنون مظنة أن يكرهوا القتال حذرا من معركة [ صفحه 232] تبدو غير متكافئة، وهم الذين باعوا الدنيا بالآخرة، وبايعوا المصطفي عليه الصلاة والسلام علي الجهاد معه في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وليس فيهم من دخل في دينه إلا وهو علي بينة من أمره. المهاجرون خرجوا من ديارهم وأموالهم. والانصار أصحاب العقبة الكبري، بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام (علي نهكة الاموال وقتل الاشراف) وودوا لو قاتلوا الوثنية عن دينهم من يوم العقبة، لولا أن قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلي رحالكم). ليس التفسير إذن، أنهم كانوا مظنة التردد في القتال أو الخوف من قوة عدوهم وكثرته. وإنما اقتضت سنة الله سبحانه، أن تطول تلك الجولة المكية الاولي بغير قتال، ليؤمن من يؤمن عن عقيدة خالصة واقتناع حر، ويكون الابتلاء بوطأة المشركين تمحيصا للصفوة من المؤمنين، وتمزيقا لغشاوة الغفلة عن بصيرة قريش، بما تشهد من هذا الاستبسال الصامد الذي لا يمكن إلا أن يكون عن إيمان بحق. وتتابعت آيات القرآن تقصر مهمة الرسول علي البلاغ: يدعو إلي سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة. وأسلم من أسلم، بمحض إرادته واختياره، دون تورط أو إكراه أو مسايرة. وما كان بعيدا في منطق الحياة أن تغلب القلة المؤمنة كثرة كافرة، [ صفحه 233] لكن الاسلام بتقريره حرية العقيدة وعدم الاكراه في الدين، أصلا من أصول دعوته، استصفي من قريش والموالي بمكة وسابقي الانصار، الجنود الاولين لحزب الله: لم ينتظروا حتي يحسبوا حسابا لمكسب أو خسارة، بل استجابوا لداعي الاسلام بمحض إرادتهم، عن اعتقاد راسخ وضمير حر، فما عادوا بحيث يخشون فيه لومة لائم، أو يبالون الموت في سبيل ما آمنوا أنه الحق من ربهم. وزودهم إيمانهم الصادق بطاقة فذة، نفذ أثرها إلي صميم الجبهة القرشية، فكان منها المدد المتصل المتتابع، لكتيبة المؤمنين. وتصدع بنيان الوثنية من قبل أن تلقي الاسلام في الصدام المسلح الذي فرضته طبيعة الموقف، وقد أذن للمسلمين في القتال إقرارا لمبدأ حرية العقيدة، وغضبا لحرمات الله، ودفعا لما سيموا من أذي واضطهاد. وقررت كذلك مصيره: ينتصر الحق علي الباطل فيزهقه، وينسخ النور الظلام فتنجلي غواشي الوثنية عن أم القري والبيت العتيق. علي ساحة (بدر) كانت أولي جولات هذا الصدام، وموقعة بدر لم تأت فجأة، بل سبقتها نذر تراكمت علي الافق ما بين دار المبعث ودار الهجرة، معلنة عن حتمية الحرب بين الاسلام والوثنية، إذ ليس من طبيعة الاشياء أن يتهادن حق وباطل. وقد أذن للمسلمين في القتال، بعد طول صبر واحتمال. [ صفحه 234] لكن القتال لم يبدأ مع ذلك في عام الهجرة الاول، الذي مضي كله احتشادا للجهاد وتنظيما للمجتمع الاسلامي في مركزه بالمدينة، واكتشافا لابعاد الميدان في منطقة كانت، حتي المبعث ولمدي خمسة قرون قبله، ترعي فيها الذئاب من يهود. ولم يكن هينا علي المهاجرين والانصار، أن يأتي موسم الحج في عام الهجرة الاول، وقد حيل بينهم وبين أداء فريضة الحج والسعي إلي بيت الله الحرام الذي يسيطر عليه المشركون وكدسوا أوثانهم في ساحته، وأباحوه لكل الوثنيين العرب، وصدوا عنه المؤمنين الذين يعبدون رب هذا البيت لا يشركون به شيئا. ومع مطلع السنة الثانية للهجرة، بدأ المصطفي عليه الصلاة والسلام يخرج في غزوات قصار، تدريبا لجنده من حزب الله، وإقرارا لهيبة الاسلام في موقعه الجديد. كما بدأ عليه الصلاة والسلام يبعث سراياه لتجوب المنطقة ما بين مكة والمدينة، وأولاهما مركز الوثنية العربية، والاخري مركز الدعوة الاسلامية. ولم تكن هذه السرايا قاصدة إلي قتال، وإنما كانت دوريات استطلاع تترصد أبناء قريش في منطقة الحجاز [59] . [ صفحه 235] أولي السرايا، سرية (عبيدة بن الحارث) إلي مشارف الحجاز، وقد لقي جمعا من قريش فلم ينشب بينهم قتال، إلا أن (سعد بن أبي وقاص) من جنود السرية، رمي بسهم فكان أول سهم رمي به في الاسلام. وقد اعتز به سعد فأنشد معتدا: ألا هل أتي رسول الله أني - حميت صحابتي بصدور نبلي فما يعتد رام في عدو - بسهم يا رسول الله مثلي بعد سرية (عبيدة بن الحارث) بعث المصطفي سرية عمه (حمزة ابن عبدالمطلب) إلي سيف البحر، في ثلاثين راكبا من المهاجرين، ثم تلتها سرية (سعد بن أبي وقاص) فبلغت غايتها في أرض الحجاز، ثم عادت لم تلق كيدا. بعدها كانت سرية (عبدالله بن جحش) - ابن عمة المصطفي: أميمة بنت عبد المطلب. ومن هذه السرية اندلع الشرر الذي أوقد الضرام الكامن فتوهج مشتعلا علي ساحة بدر. خرج (عبدالله بن جحش) في ثمانية من المهاجرين، في أوائل رجب من السنة الثانية للهجرة، ورجب من الاشهر الحرم التي لا يحل فيها قتال. وكانت أوامر المصطفي إلي ابن عمته أن يمضي بالسرية حتي ينزل بموضع (نخلة) ما بين مكة والطائف، فيترصد بها قريشا ويستطلع أخبارها. [ صفحه 236] وحدث في مرحلة من الطريق أن خرج (سعد بن أبي وقاص وعتبة ابن غزوان) ينشدان بعيرا لهما ضل. ثم تخلفا لم يرجعا إلي منزل السرية، وبدا أن قريشا أخذتهما علي غرة فأسرتهما. ومضي أمير السرية بمن بقي معه من المهاجرين حتي نزل بنخلة كما أمره المصطفي عليه الصلاة والسلام. فمرت عير تجارية لقريش، فيها (عمرو بن الحضرمي) وتحاشي المسلمون القتال حفاظا علي حرمة الشهر الحرام. لكن تجنب الصدام مع المواجهة، لم يكن مستطاعا، وأطلق الصحابي (واقد بن عبدالله) سهما أصاب عمرو بن الحضرمي فقتله. وعندئذ فرت قريش من عيرها وقتيلها، وعن أسيرين منها. وعادت السرية الظافرة إلي المدينة بالمغانم والاسيرين، وهي ترجو أن يفتدي بهما سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان. غير أنها ما كادت تدخل المدينة حتي استقبلت بوجوم ذهب بفرحة النصر. وقال المصطفي لابن عمته، أمير السرية: (ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام). ثم أعرض صلي الله عليه وسلم عما جاءت به السرية من مغانم، ونحي الاسيرين القرشيين. فظن عبدالله بن جحش وأصحابه أنهم أثموا وهلكوا. واشتد الصحابة من المهاجرين والانصار في لومهم، ونقلوا إليهم ما تقول قريش في مكة: (لقد استحل محمد وأصحابه حرمة الشهر الحرام). وتسللت الافاعي من الاوكار اليهودية، فراحت تطوف بأحياء المدينة وهي تهمهم في حقد واشتفاء: [ صفحه 237] (عمرو بن الحضرمي، قتله واقد بن عبدالله. (عمرو: عمرت الحرب. (الحضرمي: حضرت الحرب. (واقد: وقدت الحرب). حتي حسم القرآن ذلك الموقف المعقد وأنهي كل جدل فيه بكلمات الله البينات: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتي يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون - إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله، والله غفور رحيم -). وبهذه الآيات استرد جنود السرية طمأنينة بالهم، وطاب لهم النصر علي عدوهم، وأنشد عبدالله بن جحش: تعدون قتلا في الحرام عظيمة - وأعظم منه، لو يري الرشد راشد صدودكم عما يقول محمد - وكفر به، والله راء وشاهد [ صفحه 238] وإخراجكم من مسجد الله أهله - لئلا يري لله في البيت ساجد فإنا وإن عيرتمونا بقتله - وأرجف بالاسلام باغ وحاسد سقينا من ابن الحضرمي رماحنا - بنخلة لما أوقد الحرب واقد بعد شهرين اثنين، في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، كانت غزوة بدر الكبري التي وجهت مجري الاحداث وحددت موازين القوي، لا بين الاسلام والوثنية فحسب، بل في كل صراع كذلك، بين حق وباطل ! (أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس) في طريقه من الشام إلي مكة عائدا بعير قريش.. وصيحة تعلو في مكة: (يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة ! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أري أنكم مدركوها). وترد أصوات من هنا ومن هناك: (أيظن محمد وأصحابه أن تكون عير أبي سفيان كعير ابن الحضرمي ؟ كلا والله ليعلمن غير ذلك). وخرجت جموع قريش من مكة مزهوة بعددها وعدتها، تريد [ صفحه 239] القضاء علي المسلمين في دار الهجرة، وهي تري الامر هينا بسيطا، وكأنها خارجة في رحلة صيد. ماذا كان من أمر المسلمين حين قال لهم الناس: (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) ؟. جمع المصطفي صحابته من المهاجرين والانصار، وعرض عليهم الموقف من مختلف نواحيه، ثم قال يطلب مشورتهم: (أشيروا علي أيها الناس). فقام أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، فتحدثا ما شاء لهما إيمانهما، عن فريضة الجهاد والثقة في النصر، ثم قام (المقداد ابن عمرو) - وكان خرج من قريش ولحق بالمسلمين في سرية عبيدة ابن الحارث - ودنا من المصطفي، وقال: - يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسي: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون)، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلي برك الغماد - بأقصي الجنوب - لجالدنا معك دونه حتي تبلغه. دعا له المصطفي بخير، ثم التفت صلي الله عليه وسلم إلي الانصار [ صفحه 240] ولم يكن أحد منهم قد تكلم بعد، وعاد يقول: (أشيروا علي أيها الناس). سأل نقيبهم (سعد بن معاذ) - أحد السعدين: (والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟). أجاب المصطفي: (أجل). فقال سعد: (فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك علي ذلك عهودنا ومواثيقنا علي السمع والطاعة. فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك. فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقي عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا علي بركة الله). وسار بهم المصطفي علي بركة الله حتي نزل بماء بدر، ليسمع أن في جيش المشركين بالعدوة القصوي صناديد قريش: عتبة بن ربيعة، شيبة بن ربيعة، الوليد بن عتبة، الحكم بن هشام، نوفل وحكيم ابني خويلد، النضر بن الحارث، أمية بن خلف. فالتفت صلي الله عليه وسلم إلي أصحابه وقال: (هذه مكة قد أخرجت لكم أفلاذ أكبادها). ثم لمح قريشا تندفع من وراء كثيب هناك. هادرة بزئير الوعيد، [ صفحه 241] ثملة بنشوة الغرور ومتعة الصيد، فرفع صلي الله عليه وسلم وجهه إلي السماء وقال يدعو ربه: (اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك. اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة). كم كان عدد المشركين الزاحفين من مكة ؟ ألف مقاتل كاملو العدة والسلاح أو يزيدون، ومعهم مائة فرس مدربة علي القتال. وتجاههم، بالعدوة الدنيا، كان جنود المصطفي من حزب الله: ثلاثمائة وأربعة عشر لا يزيدون: من المهاجرين ثلاثة وثمانون ومن الاوس واحد وتسعون، ومن الخزرج مائة وأربعون. ومعهم من الخيل ثلاثة أفراس فحسب ! استضعف المشركون جند الاسلام، فتقدم أحد صناديدهم في صلف وخيلاء، يريد أن يقتحم عسكر المسلمين إلي ماء بدر، فلم يمهله (حمزة بن عبدالمطلب) فسقط مضرجا بدمائه دون بدر. واستكبر طواغيت قريش أن يخوضوا معركة مع هذه القلة المستبسلة: إن انتصروا عليها ضاع النصر في ميزان فقدان التكافؤ، وإذا هزموا قضت عليهم الهزيمة بعار الدهر وكانوا سبة في العرب. وبدا لكبيرهم (عتبة بن ربيعة) فخرج من صف المشركين يختال [ صفحه 242] بين أخيه شيبة عن يمينه وابنه الوليد عن يساره، وسأل في استخفاف: - هل من مبارز ؟ فخرج إليه ثلاثة من الانصار، زهد في مبارزتهم عندما سألهم من يكونون فعرفوه بنسبهم في بني قيلة. قال: (مالنا بكم حاجة) ! ثم نادي: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فأخرج إليه المصطفي ثلاثة من صميم البيت الهاشمي القرشي: عمه، حمزة بن عبدالمطلب. وابني عمه: علي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث. ولم تطل المبارزة، وسقط عتبة بن ربيعة، وشيبة أخوه، وابنه الوليد ابن عتبة، صرعي مجندلين علي ساحة بدر ! عندئذ تزاحف الناس وحميت المعركة، فأخذ المصطفي براحته حفنة من حصباء بدر قذف بها عسكر المشركين وهو يقول: (شاهت الوجوه). ثم التفت صلي الله عليه وسلم إلي جنده فقال: (شدوا) ! وشدوا علي المشركين فما تركوهم إلا بين قتيل وأسير، وهارب يشتري النجاة بعار الفرار. وصدق الله وعده ونصر من نصروه، وألقي الرعب في قلوب عدوهم فذهبوا عبرة ومثلا. وعاد الجيش الظافر إلي المدينة بالاسري والمغانم. [ صفحه 243] وعادت فلول المشركين إلي مكة بالهزيمة والذل. أحصي (ابن هشام) في السيرة النبوية قتلي قريش في بدر سبعين رجلا، وبلغ أسراهم نحو ذلك العدد، فكانوا ستة وستين أسيرا والباقون من الجيش المغلوب لاذوا بالفرار. أما المسلمون فاستشهد منهم يوم بدر أربعة عشر شهيدا: ستة من المهاجرين وثمانية من الانصار، بذلوا أنفسهم فداء عقيدتهم فذهبوا بمجد الشهادة وشرف الجهاد وثواب الآخرة: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون - فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون - يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وان الله لا يضيع اجر المؤمنين - الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم - الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل - فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم). (صدق الله العظيم) وتجاوبت آفاق الحجاز بقصائد حماسية بعيدة الصدي، للشعراء الذين أخذوا أماكنهم في الموقع الوجداني للميدان، يناضلون بسلاح الكلمة لتعبئة الوجدان العام. [ صفحه 244] في مدينة الرسول كان شعراء الاسلام الذين جندهم المصطفي عليه الصلاة والسلام لنصر الدعوة بألسنتهم، يشدون بآية النصر في بدر، ويرمون المشركين بشعر وصفه المصطفي فقال إن وقعه عليهم أشد من نضح النبل. فمن شعر حسان بن ثابت الانصاري: - ألا ليت شعري هل أتي أهل مكة - إبادتنا الكفار في ساعة العسر قتلنا سراة القوم عند مجالنا - فلم يرجعوا إلا بقاصمة الظهر تركناهم للعاديات ينبنهم - ويصلون نارا بعد حامية القعر لعمرك ما حامت فوارس مالك - وأشياعهم يوم التقينا علي بدر ومن قصيدة لكعب بن مالك الانصاري: ألا هل أتي غسان من نأي دارها - وأخبر شئ بالامور عليمها بأن قد رمتنا عن قسي عداوة - معد معا، إذ أتانا زعيمها نبي له في قومه إرث عزة - وأعراق صدق هذبتها أرومها [ صفحه 245] فساروا وسرنا فالتقينا كأننا - أسود لقاء لا يرجي كليمها ضربناهم حتي هوي في مكرنا - لمنخر سوء من لؤي عظيمها فولوا ودسناهم ببيض صوارم - سواء علينا حلفها وصميمها وفي مكة، كان شعراء المشركين يهدرون بطلب الثأر، ويبكون مصارع الصناديد الذين جندلوا علي ساحة بدر. قال ضرار بن الخطاب يرثي أبا الحكم بن هشام، أبا جهل، ويستنفر للثأر: ألا من لعين باتت الليل لم تنم - تراقب نجما في سواد من الظلم كأن قذي فيها، وليس بها قذي - سوي عبرة من جائل الدمع تنسجم فآليت لا تنفك عيني بعبرة - علي هالك بعد الرئيس أبي الحكم علي هالك أشجي لؤي بن غالب - أتته المنايا يوم بدر فلم يرم [ صفحه 246] فلا تجزعوا آل المغيرة واصبروا - عليه، ومن يجزع عليه فلم يلم وجدوا فإن الموت مكرمة لكم - وما بعده في آخر العيش من ندم وقال (أمية بن أبي الصلت) - ذاك الذي آمن لسانه قبل المبعث وكفر قلبه - قصيدة طويلة ينوح فيها علي قتلي بدر من صناديد قريش.. وكذلك أخذت الشاعرات من الفريقين مكانهن في المعركة. روي (ابن اسحاق) في (السيرة النبوية) أربع قصائد لهند بنت عتبة وقصيدتين لصفية بنت مسافر حفيدة أمية بن عبد شمس. كما روي قصيدة لهند بنت أثاثة، حفيدة عبدالمطلب، ترثي شهيدا لها من شهداء بدر، وأخري لقتيلة بنت الحارث في النضر ابن الحارث الذي قتل صبرا بعد المعركة، في (الاثيل) بين بدر والمدينة. وفيها تقول: يا راكبا إن الاثيل مظنة - من صبح خامسة وأنت موفق أبلغ بها ميتا بأن تحية - ما إن تزال بها النجائب تخفق [ صفحه 247] مني إليك، وعبرة مسفوحة - جادت بواكفها وأخري تخنق هل يسمعني النضر إن ناديته - أم كيف يسمع ميت لا ينطق أمحمد يا خير ضنء كريمة - في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما - من الفتي وهو المغيظ المحنق أو كنت قابل فدية فليفدين - بأعز ما يغلو به ما ينفق فالنضر أقرب من أسرت قرابة - وأحقهم إن كان عتق يعتق فيروي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما بلغه شعر قتيلة في النضر ابن الحارث قال: (لو بلغني هذا قبل قتله، لمننت عليه). وبدا النصر عجيبا وغريبا، فما تصورت قريش وهي تحتشد في ألف مقاتل كاملي العدة والسلاح، أن يغلبهم القائد الرسول في ثلاثمائة من صحابته. ولكن سنن الحياة لا تري في هذا النصر أي شذوذ أو غرابة. القتال في بدر لم يكن بين فئتين متكافئتين: [ صفحه 248] من حيث العدد والسلاح، كان القرشيون يزيدون أضعافا مضاعفة. ولكن المعركة لم تكن متكافئة كذلك من حيث القوي المعنوية: المشركون خرجوا للقتال بطرا ورئاء الناس، وإمعانا في البغي والعدوان، وتأمينا لطريق تجارتهم إلي الشام، وانتقاما من المصطفي والذين هاجروا معه والذين آووه ونصروه لا يبالون غضب قريش ! والمسلمون خرجوا جهادا في سبيل دينهم، وتأمينا لحقهم في حرية العقيدة، وغضبا لما سامتهم الوثنية القرشية من أذي واضطهاد. ومتي كان القتال بين حق وباطل، بين مستبسل في سبيل ما يؤمن أنه الحق، وبين ممعن في البغي والضلال، فإن العشرين من المؤمنين يغلبون المائة، والمائة يغلبون الالف. وتحددت ببدر موازين القوي: فلم يكن الامر فيها بين كثرة وقلة فحسب، ولكنه كان بين كثرة يعوزها سلاح الايمان، ليس فيها من يقاتل إلا وهو يفكر في حماية الجاه الموروث ويري في خصومة المسلمين صيدا سهلا، وبين قلة مؤمنة صابرة ليس فيها من يقاتل إلا وهو يرجو انتصار الحق ورضوان الله، ويري الموت في سبيل عقيدته التي آمن بها، حياة ومجدا ونصرا. وحزب الله لم يتردد في دخول المعركة حتي يقيس قوته إلي قوة [ صفحه 249] عدوه، ولم يتهيب القتال خوفا من كثرة مسلحة مزهوة بعددها وعدتها، بل بادر جنود الاسلام إلي لقاء عدوهم بعد أن جمعوا له كل ما استطاعوا من قوة، ورحبوا بالجهاد لا يبالي أحدهم حين يقتل مسلما، كيف ولا أني يقتل: ولست أبالي حين أقتل مسلما - علي أي جنب كان في الله مصرعي سيق أسري بدر إلي المدينة في أعقاب الفئة الظافرة، فتأملهم المصطفي مليا، ثم نحي منهم صهره (أبا العاص بن الربيع) وفرق الباقين بين أصحابه وقال: (استوصوا بالاساري خيرا). وبقي أبو العاص عند المصطفي، وقلبه مشدود إلي مكة، حيث ترك هناك زوجه الحبيبة (زينب بنت محمد) مع صغيريهما (علي وأمامة)، ولم يكن الاسلام قد فرق بعد بين زوجة مؤمنة وزوج مشرك. حتي جاءت رسل قريش في فداء أسراها. وغالوا في الفداء، حتي إن امرأة لتسأل عن أغلي ما فدي به قرشي فيقال لها: أربعة آلاف درهم، فتبعث بمثلها في فداء ابنها. وتقدم عمرو بن الربيع فقال للمصطفي: - بعثتني (زينب بنت محمد) بهذا في فداء زوجها، أخي: أبي العاص بن الربيع. [ صفحه 250] وأخرج من ثيابه صرة وضعها بين يدي الرسول، ففتحها صلي الله عليه وسلم فإذا فيها قلادة لم يكد يراها حتي رق لها رقة شديدة، وخفق قلبه للذكري: لقد كانت قلادة (خديجة) أهدتها ابنتها (زينب) يوم عرسها، حين زفت إلي (أبي العاص بن الربيع) ابن خالتها هالة بنت خويلد. وأطرق أصحاب المصطفي خشعا وقد أخذوا بجلال الموقف ! قلادة الحبيبة، تبعثها بنت النبي إلي أبيها في فداء زوج حبيب ! وتكلم النبي الاب بعد فترة صمت فقال: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها، فافعلوا). أجابوا جميعا: - نعم يا رسول الله. وأدني المصطفي إليه صهره الذي غلبه التأثر لهيبة الموقف، فأسر إليه حديثا، فحني أبو العاص رأسه موافقا، ثم حيا ومضي. فلما أبعد التفت المصطفي إلي أصحابه من حوله، فأثني علي أبي العاص وقال: (والله ما ذممناه صهرا) [60] وعاد (أبو العاص) إلي مكة ليجهز زوجه الحبيبة كي تلحق بأبيها المصطفي، وفاء بوعد قطعه علي نفسه، يوم ودع أباها عليه الصلاة والسلام بالمدينة، بعد بدر. [ صفحه 251] وكان الفراق قاسيا صعبا، وقد خانه تجلده يوم رحليها، فترك أخاه (كنانة بن الربيع) يصحبها إلي خارج مكة، حيث كان (زيد ابن حارثة) في انتظارها. وانطلق (كنانة) يقود بعيرها نهارا وقد أخذ قوسه وكنانته متأهبا، فهال قريشا أن يخرج بها هكذا في وضح النهار علي مرأي منهم ومسمع، وخرج بعضهم في أثر المهاجرة حتي أدركوها بذي طوي، فكان أسبقهم إليها (هبار بن الاسود الاسدي) الذي روعها بالرمح، وقد جن حزنه علي إخوة له ثلاثة صرعوا جميعا في بدر بأيدي أصحاب محمد. ونخس البعير، فألقي بزينب علي صخرة هناك، وعندئذ برك (كنانة بن الربيع) دونها ونثر كنانته وهو يزأر متوعدا: - والله لا يدنو منها رجل إلا وضعت فيه سهما. فتراجعوا، ووقف أبو سفيان بن حرب بعيدا يقول لكنانة: - كف عنا نبلك حتي نكلمك. فكف كنانة، ودنا أبو سفيان منه فقال: (إنك لم تصب يا ابن الربيع: خرجت بالمرأة علي رءوس الناس علانية وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس أن ذلك عن ذل أصابنا وأن ذلك منا ضعف ووهن. ولعمري مالنا بحبسها عن أبيها من حاجة، ولكن ارجع بها حتي إذا هدأت الاصوات وتحدث الناس أن قد رددناها، فتسلل بها سرا فألحقها بأبيها). [ صفحه 252] فكبر علي كنانة أن يردها ليعود فيتسلل بها سرا بعد أن يذاع في الناس أن قد ردتها قريش. وهم ليمضي بها، فراعه أن رآها تنزف دما، وقد طرحت جنينها علي أديم الصحراء ! وعاد بها إلي مكة، حيث سهر أبو العاص علي رعايتها وتمريضها لا يفارقها لحظة من ليل أو نهار، حتي إذا استردت بعض قواها، ودعها للمرة الثانية وداع محب مقهور. وخرج بها كنانة حتي بلغت مأمنها. ولم يتبعها في هذه المرة طالب، بل أغمض الذين طاردوها بالامس أعينهم، وقد ركبهم الخزي والعار من قول هند بنت عتبة تعيرهم، وتذكرهم بهزيمتهم في بدر: أفي السلم أعيار، جفاء وغلظة، - وفي الحرب أشباه النساء العوارك ؟ استقبلت دار الهجرة بنت المصطفي بترحاب بالغ، شابت فرحة اللقاء فيه سورة الغضب لما أصابها عند خروجها من مكة، وعاشت زينب في رعاية أبيها المصطفي علي أمل لم يغلبها عليه اليأس قط: أن يشرح الله صدر أبي العاص للاسلام، فيلتئم الشمل الممزق. وكان عليها أن تنتظر ست سنوات طوال ليتحقق هذا الامل الغالي، ثم لا يكاد الشمل يلتئم حتي ترحل عن الدنيا بعد عام وبعض عام من اسلام أبي العاص، فيكون فراق لا لقاء بعده علي هذه الارض. [ صفحه 253]

درس من أحد ورسالة من شهيد

(يا أيتها النفس المطمئنة - ارجعي إلي ربك راضية مرضية - فادخلي في عبادي وادخلي جنتي). (صدق الله العظيم) ما أبهظ أعباء النصر ! وما أسرع ما يتعرض للضياع بأدني بادرة من تهاون أو تفريط، يستمرئ فيها المنتصر فرحته فيغفل عن موقعه تجاه عدوه، ويتهاون في تقدير طاقة التحدي في المهزوم ! والنصر في (بدر) قد ألقي علي المسلمين تبعاته وأعباءه، بقدر ما أثقل علي قريش بخزي العار، وعبأها لاسترجاع شرفها الضائع، [ صفحه 254] والثأر لقتلاها الذين جندلهم المسلمون علي ساحة بدر. وقد احتاج المشركون إلي سنة كاملة ريثما عبأوا قواهم واحتشدوا لمعركة الثأر. خرجوا من مكة بحدهم وحديدهم وأحابيشهم ومن والاهم من بني كنانة وأهل تهامة. وخرجت معهم نساؤهم يقطعن علي الرجال سبيل النكوص. و (هند بنت عتبة) في نسوة بني أمية وقريش، يضربن الدفوف علي صوت هند: ويها بني عبد الدار - ويها حماة الادبار ضربا بكل بتار أن تقبلوا نعانق - ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق - فراق غير وامق ولم تكن هند قد نامت قط علي ثأرها، وفي قتلي بدر: حنظلة بن أبي سفيان، وأبو هند (عتبة بن ربيعة) وأخوها الوليد، وعمها شيبة. ثلاثة منهم صرعوا علي ساحة بدر، بسيف الفارس حمزة بن عبدالمطلب. حتي إذا دنوا من المدينة، خرج إليهم المصطفي عليه الصلاة والسلام في ألف من المسلمين، لم يلبثوا أن نقصوا بضع مئات قبل أن يلتقي الجمعان في أحد، في منتصف شوال من السنة الثالثة للهجرة. [ صفحه 255] انخذل عن الجيش كبير المنافقين (عبدالله بن أبي بن سلول) بمن معه من منافقي المدينة، وكانوا نحو ثلث الجيش. قال لهم: ما ندري علام نقتل أنفسنا وقد أهلكنا أموالنا ؟ ولم يجد المصطفي ضيرا من هذا التخاذل، فلقد نحي المنافقين ومرضي القلوب والايمان، عن جنده المخلصين. فواجه بهم وما يزيد عددهم علي سبعمائة، ثلاثة آلاف من المشركين يقودهم أبو سفيان بن حرب، معهم كتيبة من الفرسان علي مائتي فرس، بقيادة خالد بن الوليد بن المغيرة. ألا تغلب مائة من المؤمنين الصابرين، ألفا من الذين كفروا ؟ في الحساب إذن، أن يغلب سبعمائة سبعة آلاف، لا ثلاثة آلاف فحسب ! والتحم الجيشان، ولم تختل موازين القوي التي تحددت من قبل يوم بدر: كان النصر في (أحد) للمؤمنين لا شك فيه، وقد كشفوا المشركين عن عسكرهم فولوا الادبار تاركين لواءهم علي الساحة صريعا. لكن المسلمين تعجلوا الموقف فتركوا مواقعهم في الميدان، وأسرعوا يهجمون عسكر قريش بعد انكشافهم عنه. وتركوا القائد الرسول حيث هو في صميم الجبهة، ليس معه إلا نفر قليل استجابوا له فثبتوا في موقعهم حوله. ولاحت الفرصة لخالد بن الوليد، وكان يترقبها بنظرة ثاقبة، [ صفحه 256] فهجم بالخيل بغتة، من الثغرة التي كشفها المسلمون أنفسهم. وكرت فلول قريش راجعة إلي الميدان الذي سيطر عليه خالد، وتقدمت إحدي نسائهم: (عمرة بنت علقمة الحارثية) فالتقطت لواءهم الصريع فرفعته لهم. وكان ما لا بد أن يكون: تغير وجه المعركة، وضاع النصر من المسلمين وقد كان لهم دون ريب. ولولا ثبات القائد المصطفي صلي الله عليه وسلم، والنفر البواسل من أصحابه المؤمنين، لكانت الكارثة. واطردت المقاييس لا تتخلف. استرد المسلمون وعيهم للموقف بعد أن ساورهم اليأس منه، إذ أرجف المشركون أن (محمدا قد قتل). لكنه، صلي الله عليه وسلم، كان هناك، جريحا مخضب الوجه بالدماء، يوجه جنده من مكانه في قلب الميدان لم يبرحه. ومن حوله النفر المؤمنون، قد جعلوا من أجسادهم دروعا وتروسا لوقاية قائدهم النبي. وما إن صاح أحدهم ببشري حياته صلي الله عليه وسلم، حتي عاد المسلمون جميعا فأخذوا مواقعهم في الجبهة. وتقهقر جيش المشركين قانعا بالنصر المخطوف. [ صفحه 257] في خشوع، رجع المصطفي وجنده إلي المدينة، فدخل المسجد وصلي بهم قاعدا، من أثر الجراح التي أصابته في أحد. وذهبت أحد عبرة ومثلا: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفئن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم، ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا، وسيجزي الله الشاكرين - وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله كتابا مؤجلا، ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها، وسنجزي الشاكرين). (صدق الله العظيم) اكتفي المشركون بنصرهم المخطوف يوم أحد. وابتدروا الطريق عائدين إلي مكة، لا يكادون يصدقون ما كان. وفرغ المسلمون لقتلاهم الشهداء، فمضي المصطفي يلتمس عمه الفارس الشهيد (حمزة بن عبدالمطلب) فوجده هناك ببطن الوادي، قد اغتالته حربة غادرة، سددها إليه (وحشي، مولي جبير بن مطعم)، وجاءت (هند بنت عتبة، زوج أبي سفيان) آكلة الاكباد، فرقصت علي مصرع الفارس الشهيد ومثلت بجثته أبشع تمثيل: بقر بطنه عن كبده فلاكتها، وجدع أنفه وأذناه فاتخذت منها حليا، بدلا من حليها التي دفعتها إلي (وحشي) من ثمن الصفقة الغادرة. قال عليه الصلاة والسلام حين رأي ما رأي: (لن أصاب بمثلك [ صفحه 258] أبدا. ما وقفت موقفا قط أغيظ الي من هذا). وأمر صلي الله عليه وسلم فسجوا حمزة ببردته، وصلي عليه مكبرا سبع تكبيرات. ثم جئ بالشهداء فكانوا يوضعون واحدا بعد الآخر إلي جانب حمزة، فيصلي النبي عليهم وعليه، حتي بلغت مرات الصلاة علي سيد الشهداء اثنتين وسبعين، بعدد الشهداء يوم أحد. وتجاوبت أرجاء الحجاز، ما بين أم القري ودار الهجرة، بأصداء المعركة، في نقائض الشعراء من الحزبين: المشركون بمكة يهزجون بقصائد شعرائهم، ويترنمون برسالة (عبد الله بن الزبعري السهمي) - ولم يكن أسلم بعد - إلي حسان بن ثابت الانصاري: يا غراب البين أسمعت فقل - إنما تنطق شيئا قد فعل إن للخير وللشر مدي - وكلا ذلك وجه وقبل أبلغا حسان عني آية - فقريض الشعر يشفي ذا الغلل كم تري بالجر من جمجمة - وأكف قد أترت ورجل [ صفحه 259] وسرابيل حسان سريت - عن كماة أهلكوا في المنتزل كم قتلنا من كريم سيد - ماجد الجدين مقدام بطل ليت أشياخي ببدر شهدوا - جزع الخزرج من وقع الاسل حين حكت بقباء بركها - واستحر القتل في عبد الاشل فقتلنا الضعف من أشرافهم - وعدلنا ميل بدر فاعتدل فيرد عليه، من حزب الله، صوت حسان، شاعر المصطفي: ذهبت يا ابن الزبعري وقعة - كان منا الفضل فيها لو عدل ولقد نلتم ونلنا منكم - وكذاك الحرب أحيانا دول نضع الاسياف في أكنافكم - حيث نهوي عللا بعد نهل إذ تولون علي أعقابكم - هربا في الشعب أمثال الرسل إذ شددنا شدة صادقة - فأجأناكم إلي سفح الجبل وتركنا في قريش عورة - يوم بدر، وأحاديث المثل والاصداء تتلاقي وتتصادم، كاشفة في وهج الصراع المحتدم، [ صفحه 260] عن أبعاد الميدان وأسلحته لمعركة طويلة المدي. في ذلك اليوم العصيب، افتقد المصطفي عليه الصلاة والسلام صاحبه (سعد بن الربيع الانصاري) - أحد النقباء في بيعة العقبة الكبري - فقال لمن حوله: (من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع، أفي الاحياء هو أم في الاموات) ؟ فذهب رجل من الانصار ينظر لرسول الله صلي الله عليه وسلم ما فعل سعد، فألفاه علي ساحة القتال جريحا وبه رمق. فأخبره عما كان من افتقاد المصطفي إياه وسؤاله عنه، فجمع (سعد) ما بقي له من طاقة المحتضر وقال: (أبلغ رسول الله صلي الله وسلم عني السلام، وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزي نبيا عن أمته. وأبلغ قومك عني السلام، وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص العدو إلي نبيكم صلي الله عليه وسلم، ومنكم عين تطرف). وأسلم الروح مطمئنا، بعد أن بعث رسالته إلي النبي عليه الصلاة والسلام، والي قومه الانصار. ولم ينس المصطفي صلي الله عليه وسلم وأصحابه (سعد ابن الربيع). [ صفحه 261] ولا نسيه تاريخ الاسلام الذي استوعب رسالة هذا الجندي الشهيد، وعرف مغزاها ودلالتها، ورصد موقعها من نفوس المؤمنين: تزيدهم ثباتا وقوة واستبسالا وإصرارا. ومن نفوس أعدائهم: تهز ثقتهم في جدوي معركة خاسرة بلا ريب، يخوضونها مع أمثال هؤلاء الجنود المؤمنين الذين يرون الموت في سبيل عقيدتهم: شرفا وحياة. روي (ابن هشام) في السيرة النبوية، أن رجلا دخل علي (أبي بكر الصديق) رضي الله عنه، وقد ضم طفلة صغيرة إلي صدره وأقبل عليها يلاعبها ويقبلها. فسأل الرجل: (من هذه ؟). أجاب الصديق: (هذه بنت رجل خير مني: سعد بن الربيع. كان من النقباء يوم العقبة، وشهد بدرا، واستشهد يوم أحد). وكل نفس ذائقة الموت، ولكن الصفوة من عباد الله المؤمنين هم الذين يستقبلون الموت في سبيل الله راضين مطمئنين: (يا أيتها النفس المطمئنة - ارجعي إلي ربك راضية مرضية - فادخلي في عبادي وادخلي جنتي). (صدق الله العظيم) [ صفحه 262]

الاسلام في الجبهات الثلاث

في الجبهة اليهودية: من قلب المدينة، إلي خيبر

(هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر، ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الابصار -). (صدق الله العظيم) مصير المعركة العنيفة بين الاسلام والوثنية، قد تقرر يوم بدر، وإن طال مداها سنين عددا وتعددت جولاتها حتي حسمت يوم الفتح في السنة الثامنة للهجرة. [ صفحه 263] وكذلك تقرر، من يوم بدر، مصير الصراع في جبهة أخري أخطر وأضري من الجبهة القرشية، والمعركة فيها سافرة مكشوفة والاسلحة مألوفة معروفة. لقد كان العرب القرشيون يقاتلون ببسالة، دفاعا عن أوضاع موروثة وتقاليد راسخة واعراف مقررة، وغضبا لحرمة أسلافهم، من حيث لم يهن عليهم أن يتصوروا أن أولئك الآباء الكرام، من أمثال عبدالمطلب وهاشم وعبد مناف وقصي والمغيرة وزهرة، إلي فهر ومضر وعدنان، كانوا علي سفه وضلال. وعلي مدي السنين العشرين التي استغرقتها المعركة بين العرب المشركين والمسلمين، في جولتيها المكية والمدنية، كان الاسلام يستقبل من يصغي من قريش إلي ما يتلو المصطفي عليه الصلاة والسلام من آيات معجزته، فيؤمن برسالته ويبايعه علي الاسلام والبذل والجهاد. وحزب الله الذي بدأ فجر ليلة القدر من شهر رمضان، بالمسلمة الاولي السيدة خديجة زوج المصطفي وأم المؤمنين، ثم انضم إليه السابقون الاولون، كان يستقبل كل يوم جنديا جديدا من الجبهة القرشية والعربية، يعزه الله بالاسلام ويعز الاسلام به، والمئات الثلاث من المجاهدين والانصار الذين شهدوا بدرا تحت لواء المصطفي، لم يلبثوا أن كثروا بمن انضم إليهم من العرب، فدخل صلي الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، في عشرة آلاف من الصحابة، [ صفحه 264] فيهم من كان قبل أن يشرح الله صدره للحق، أشد الناس عداوة للاسلام وحربا للمصطفي والذين آمنوا معه. والذين تأخر إسلامهم إلي عام الفتح وغزوة حنين والطائف بعده، وعام الوفود في السنة التاسعة للهجرة، لم يلبثوا أن خرجوا مع الكتائب المجاهدة في الفتوح الكبري التي حملت لواء الاسلام إلي أقصي المشرق وأقصي المغرب. كلا، لم تكن الجبهة القرشية العربية أخطر ما واجه الاسلام في عصر المبعث، والجبهة فيها مكشوفة والسلاح معروف، ومنها كان يأتي المدد تباعا إلي حزب الله، إنما كان الخطر الاكبر في الجبهة الخبيثة لاعداء البشر ومن شرب سمهم من المنافقين في المدينة: لقد حرص اليهود علي ألا يواجهوا الاسلام في معركة مكشوفة، وسهرت عصاباتهم في أوكارها الناشبة في شمال الحجاز، تنفث سم النفاق في المدينة، ثم تمادي بها الشر فسعت إلي قريش، تؤلب الاحزاب منها وتستنفرها لقتال المسلمين بالمدينة، علي وعد النصرة من يهود الذين وادعهم المصطفي وأمنهم علي دينهم وأموالهم. وكانت موقعة بدر، هي التي كشفت المستور من غدرهم بعهدهم للمصطفي وفيه النص الصريح: (وإن علي اليهود نفقتهم وعلي المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر [ صفحه 265] علي من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصر علي من دهم يثرب). إنه الغدر ! فجيش قريش لم يخرج من مكة إلا ليدهم يثرب. والغدر من طبيعة يهود، وهو متوقع ومحسوب. وأملي لهم المصطفي، واكتفي صلي الله عليه وسلم بأن جمع يهود المدينة بسوق بني قينقاع، وحذرهم من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة. وحين يقتصر الامر علي الانذار أو ما هو أشد منه، فإن يهود تتطاول وتجترئ، ما بقيت السيوف في أغمادها. وغدا بنو قينقاع إلي سوقهم بالمدينة يأكلون المال، ويكيدون للاسلام لا يبالون نذيرا من الله ورسوله. وبدا لنفر منهم أن يعرضوا لاحدي المسلمات يريدونها علي أمر تكرهه، ثم احتالوا حتي كشفوا ثوبها في السوق عن عورتها، فصاحت تستصرخ العرب، ووقع الشر بين من في السوق من المسلمين، ويهود بني قينقاع. وأقبل المصطفي في جمع من الانصار فحاصر اليهود خمس عشرة ليلة، حتي استسلموا ونزلوا علي حكمه. وعندئذ تقدم المنافق (عبد الله بن أبي سلول) فقال للمصطفي علي الملا من الناس: (يا محمد، أحسن الي في موالي !). وأعرض عنه المصطفي، لكن المنافق مضي في لجاجته، مصرا علي استنقاذهم ! [ صفحه 266] قال عليه الصلاة والسلام: (هم لك !). واكتفي بأن جردهم من سلاحهم، وأمهلهم ثلاثة أيام يجلون بعدها عن المدينة. فخرجوا أذلة مقهورين إلي وادي القري، حيث نزلوا علي عصابتهم هناك وتطهرت دار الهجرة بجلاء بني قينقاع عنها بعد (يوم بدر) في السنة الثانية للهجرة ! وتتابعت أحداث فردية، تعكس صدي الرعب في قلوب يهود، وتنم عن كيدهم وحقدهم. وقد تعلق أملهم، بأن تثأر قريش لقتلاها في بدر، فما كانت لتسكت عليه كما سكتت يهود علي إجلاء بني قينقاع. بعد عام واحد، في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة، كانت موقعة أحد، وكان من أمرها ما كان. نقضت يهود ميثاقها مع الرسول هذه المرة أيضا، فلم تكن (علي النصر ضد من حارب أهل هذه الصحيفة). وبنو النضير، كانوا في منطقة المدينة. وقد لبثوا في أوكارهم يرقبون سير المعركة في أحد. وطاب لهم ما لقي المسلمون من عدوهم، وتأهبوا لكي يرجفوا في المدينة بقالتهم الخبيثة: - انهزم محمد وأصحابه، ويقول إنه نبي مرسل ؟ لو كان نبيا ما انتصر عليه الوثنيون ! [ صفحه 267] ثم هموا بأن يغتالوا الرسول ! خرج عليه الصلاة والسلام إلي بني النضير، يستعينهم في دية قتيلين من بني عامر، وكان بينهم وبين بني النضير حلف وجوار. (قالت يهود: نعم يا أبا القاسم، نعينك علي ما أحببت. ثم خلا بعضهم إلي بعض فقالوا: (إنكم لن تجدوا الرجل علي مثل حاله هذه - ورسول الله صلي الله عليه وسلم إلي جنب جدار من بيوتهم قاعد - فمن رجل يعلو علي هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه) ؟. وصعد يهودي فألقي الصخرة، لكن بعد أن كان المصطفي قد تحرك من مكانه. ولم تزده فعلتهم علما بغدرهم. لكنها زادته تصميما علي حسم شرهم. وعاد إليهم صلي الله عليه وسلم، فحاصرهم ست ليال من شهر ربيع الاول، من السنة الرابعة للهجرة. واستسلموا، بغير قتال، لحكم المصطفي عليهم بالجلاء. وتضرعوا إليه أن يدعهم يذهبون بما حملت الابل. فسمح لهم بها الرسول المنتصر. وبلغ بهم الحرص، أن راحوا ينزعون الاخشاب من دورهم ليحملوها معهم. ومضوا بالنساء والاولاد وما حملت الابل من مال ومتاع إلي عشيرتهم في خيبر، ولم يكن دورها قد حان بعد. [ صفحه 268] فكأنما كانوا في خروج الجلاء، في ضغطة الحشر ! وصدق الله تعالي: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الابصار. ولو لا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار - ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب -). خانهم المعهود من حذرهم، فسعوا إلي حتفهم بأظلافهم ومخالبهم ! لقد ضاقوا بطول الانتظار، وعدوهم نبي الاسلام يبدو كمن لا يقهر، وإنه ليوشك أن يقذف بهم إلي تيه تشردهم القديم، بعد أن طاب لهم المقام في مستعمراتهم بالارض الطيبة، شمال الحجاز، أكثر من خمسة قرون. أزمة (أحد) لم تكسر من معنوية جنوده، بل أعطتهم الدرس والعبرة، وزادتهم إيمانا وثباتا وإصرارا. وقريش تبدو حذرة مترددة، وتود لو أعفتها الظروف من الصدام مع جند الاسلام، خوفا من أن يضيع النصر الذي اختطفته في (أحد) من حيث توقعت أن تبوء بالهزيمة والعار. [ صفحه 269] ولم يجد عليها هذا النصر المخطوف، وإنها لتعلم علم اليقين أن بين رجالها من اهتز إيمانهم بالاوثان، فلن يلبثوا أن يلحقوا بإخوانهم الذين سبقوهم إلي الاسلام ! ولاحت الفرصة ليهود بني قريظة: بعثت وفدا من أحبارها إلي مكة، يرد علي المرتابين إيمانهم بآلهتهم ويغري الوثنية العربية بحرب دين التوحيد. قالوا لقريش: - دينكم خير من دينه، وأنتم أولي بالحق منه. حاربوه ونحن معكم ! فلما اطمأنوا إلي أن المشركين نشطوا لما دعوهم إليه من حرب نبي الاسلام، خرج أولئك النفر من يهود حتي جاءوا غطفان فدعوهم إلي مثل ما دعوا إليه قريشا، ووعدوهم المؤازرة والنصرة. ثم تسللوا عائدين إلي أوكارهم في شمال الحجاز، ومن ورائهم جيش المشركين: قريش وعليها أبو سفيان بن حرب، والاحزاب من غطفان: بني فزارة، وبني مرة، وبني أشجع بن ريث. لكن مثل هذا التواطؤ لم يكن بحيث يخفي أمره، وقد علم المصطفي بمسعي يهود وما بيتت من غدر، فانتظر عليه الصلاة والسلام حتي فرغ من الاحزاب يوم الخندق، ورجع بجنده إلي المدينة في ساعة الظهيرة فما كادوا ينفضون عن ثيابهم غبار المعركة الظافرة، حتي سمعوا [ صفحه 270] دعاء المصطفي يعلو به صوت مؤذنه من المسجد النبوي: (أيها الناس، من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة). وتدفقت جموع المؤمنين إلي موعد الرسول: صلاة العصر في بني قريظة. وصلوا هناك، وقد لاذ اليهود الجبناء بحصونهم التي ظنوا أنها مانعتهم من الله. وامتد الحصار خمسا وعشرين ليلة، ثم أخرجهم الرعب منها مستسلمين لحكم نبي الاسلام. لكنه صلي الله عليه وسلم، ترك الحكم لسعد بن معاذ، نقيب الاوس. وقد حاول نفر من قومه أن يحملوه علي الرفق بأعداء الاسلام وطالما ظاهروهم علي الخزرج في الجاهلية. قالوا لسعد: - يا أبا عمرو، أحسن إلي مواليك، فإن رسول الله صلي الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن إليهم. فلما أكثروا عليه، ردهم بقوله: (آن لسعد ألا تأخذه في الله لامة لائم). ونطق (سعد بن معاذ) بحكمه الصارم العادل علي رجال بني قريظة، دون النساء والصبية. حسما لشرهم الوبيل، وجزاء وفاقا علي ما كان من غدرهم وكيدهم. [ صفحه 271] وذهبت بنو قريظة، قصة وعبرة ومثلا. وتجاوبت الجزيرة بأصداء القصائد التي قالها الشعراء فيهم وفيمن حزبوا من المشركين يوم الخندق، وفي المنافقين. وتلا المصطفي من وحي ربه، من سورة الاحزاب: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيرا - إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا - هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا - وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا - وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا - ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لاتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا - ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسئولا - قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا - قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا - قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لاخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا - أشحة عليكم، فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشي عليه من الموت فإذا ذهب [ صفحه 272] الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة علي الخير، أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم، وكان ذلك علي الله يسيرا - يحسبون الاحزاب لم يذهبوا وإن يأت الاحزاب يودوا لو أنهم بادون في الاعراب يسئلون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا - لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا - ولما رءا المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما - من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا - ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم، إن الله كان غفورا رحيما - ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفي الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا - وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا - وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله علي كل شئ قديرا -. (صدق الله العظيم) إذن فقد بدأ سم النفاق يحدث أثره ويهدد الجبهة الاسلامية من داخلها، في الوقت الذي كانت تخوض فيه معركتها مع العرب المشركين والعصابات من يهود. لكن المنافقين الذين انكشفوا يوم الخندق في غزوة الاحزاب، [ صفحه 273] لم يلبثوا بوسوسة من يهود، أن شغلوا المجتمع الاسلامي عنهم بفرية الافك، التي هزت المدينة هزا هزا لمدي شهر كامل من أيام شعبان ورمضان من السنة السادسة للهجرة. قبلها كان النبي عليه الصلاة والسلام قد خرج غازيا إلي بني المصطلق، وصحبته أم المؤمنين السيدة عائشة بنت الصديق. وفي طريق العودة أناخ الركب قرب المدينة فباتوا بعض الليل ثم ارتحلوا، وما يدرون أن أم المؤمنين تخلفت عنهم، حتي افتقدوها في هودجها حين بلغوا المدينة في الصبح. وقبل أن يشتد القلق عليها، وصلت علي بعير يقوده (صفوان ابن المعطل السلمي) وحدثت زوجها المصطفي عن سبب تخلفها فما أنكر منه شيئا: كانت قد خرجت من هودجها من العسكر لبعض حاجتها، قبل أن يؤذن فيه بالرحيل. وكان في عنقها عقد من جزع انسل منها فالتمسته حتي وجدته، واتجهت إلي هودجها فإذا الركب قد رحلوا واحتملوه، لم يحسوا أنها ليست فيه، لخفة وزنها. تلفعت بجلبابها وانتظرت في مكانها واثقة أنهم لن يلبثوا أن يفتقدوها فيرجعوا إليها. وحدث أن مر بها (صفوان) فأنكر أن يتركها وحدها في الخلاء، وقدم بعيره إليها ثم استأخر عنها حتي ركبت، فانطلق يقود بها حتي أبلغها مأمنها في المدينة. ونسج المنافقون واليهود فرية الافك، من هذا الحادث العارض. [ صفحه 274] ورددها ناس من المسلمين فبلغت سمع زوجها المصطفي وأبيها الصديق وأمها، أم رومان. فصكت آذانهم، وإن لم يجرؤ أحد منهم علي مواجهة السيدة عائشة بالشائعة الخبيثة، إذ كانت تشكو من علة. ولما أحست جفوة من زوجها المصطفي استأذنته في الانتقال إلي أمها لتمرضها، فأذن لها. بعد بضع وعشرين ليلة، نقهت من علتها فخرجت من بيت أبيها لبعض حاجتها، ومعها (أم مسطح بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف) وإذ هما في الطريق عثرت السيدة عائشة في مرطها، فقالت رفيقتها: (تعس مسطح). فأنكرت السيدة ما سمعت، وقالت: (بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدرا). سألتها أم مسطح: (أوما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر ؟) ولاول مرة، سمعت السيدة عائشة بفرية الافك، فارتاعت وهرعت إلي أمها، تسألها باكية: (يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا ؟). فلم تملك أمها إلا أن تقول: (أي بنية، خفضي عليك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة [ صفحه 275] حسناء عند رجل يحبها، لها ضرائر، إلا كثرن وكثر الناس عليها). لكن ذلك لم يهون عليها من محنة الفرية الخبيثة التي امتحنت بها، وإن لم تدر ماذا عساها أن تصنع، إلا أن تكل أمرها إلي الله سبحانه. وفي المسجد النبوي، كان زوجها عليه الصلاة والسلام، يحاول أن يرد عنها ألسنة السوء، فيقول: (يا أيها الناس، ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق ؟ والله ما علمت منهم إلا خيرا. ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا، وما يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي). فتنفذ كلماته إلي قلوب المؤمنين، ويثورون غضبا للسيدة الكريمة، ويتماسك الاوس والخزرج متصايحين مطالبين بأعناق أصحاب الافك من هؤلاء وهؤلاء. حتي كاد يكون بين الحيين شر) [61] وخيف علي المجتمع الاسلامي من التصدع، وخيف علي السيدة عائشة من وطأة الحزن والقهر. حتي حسم القرآن الكريم تلك الفرية الفاحشة بآيات النور: (إن الذين جاءوا بالافك عصبة منكم، لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير، لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم والذي تولي كبره [ صفحه 276] منهم له عذاب عظيم - لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا أفك مبين -). إلي قوله تعالي: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم - إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم - ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم - يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين - ويبين الله لكم الايات، والله عليم حكيم - إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون -). (صدق الله العظيم) وكان (عبدالله بن أبي بن سلول) هو الذي تولي كبر ذلك الافك. في أم المؤمنين عائشة، أحب أزواج المصطفي إليه وأحظاهم عنده. بنت أبي بكر الصديق، أقرب الصحابة إلي المصطفي وأعزهم عليه، وأول السابقين إلي الاسلام ! فهل حانت المواجهة الحاسمة، مع مرضي القلوب المنافقين ؟ كلا، بل يمكن أن تنتظر ريثما يأمن الاسلام شر يهود ويحسم المعركة مع الوثنية العربية. [ صفحه 277] وهذه المعركة أيضا تحتمل الهدنة بعض الوقت، وقد عقدت الهدنة في (الحديبية) في أواخر السنة السادسة للهجرة. وبعدها، في مستهل السنة السابعة، كان مسير المصطفي إلي يهود خيبر الذين سارعوا إلي حصونهم يحتمون بها، فتساقطت حصنا بعد حصن، حتي إذا لم يبق لهم سوي حصني الوطيح والسلالم، بعثوا وافدهم إلي نبي الاسلام، يسألونه أن يحقن دماءهم ويكتفي منهم بالجلاء. وأجاب المصطفي سؤلهم، وتركهم يجلون عن (خيبر) هائمين علي وجوههم في الفلاة. بعد سقوط خيبر، انتهت قصة الاستعمار اليهودي لشمال الحجاز، لم يبق من عصاباتهم سوي فلول مبعثرة في فدك ووادي القري وتيماء، حتي كان أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) هو الذي طهر جزيرة العرب من بقاياهم. وعاد اليهودي التائه إلي ضلاله القديم، يضرب في التيه من بادية الشام، تلفظه الارض حيث أقام، وتطارده اللعنة أينما حط أو سار. (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، وبصدهم عن سبيل الله كثيرا، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل، وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما). (صدق الله العظيم) [ صفحه 278]

في الجبهة القرشية: من هدنة الحديبية إلي الفتح

(وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) (سورة الاسراء) كانت غزوة خيبر، في السنة السابعة للهجرة. قبلها، في آخر السنة السادسة، كانت هدنة الحديبية مع قريش، وبيعة الرضوان. أقام المصطفي بالمدينة شهري رمضان وشوال، ثم خرج في ذي القعدة قاصدا إلي العمرة، لا يريد حربا. ومعه مئات من الصحابة، المهاجرين والانصار: في رواية أنهم كانوا سبعمائة، وفي أخري أنهم زادوا علي ذلك بضع مئات [62] وسار الركب النبوي من المدينة، يحدوه الشوق إلي زيارة (البيت [ صفحه 279] الحرام) مهوي أفئدتهم وقبلة صلاتهم، والحنين إلي (أم القري) بعد ست سنين من الهجرة والاغتراب. في الطريق إلي مكة، لقي الرسول عليه الصلاة والسلام من أنبأه بخبر احتشاد قريش لصده ومن معه عن المسجد الحرام، فتطوع رجل من الصحابة، وسلك بالركب طريقا وعرا غير الطريق التي لقريش. حتي وصلوا إلي (الحديبية) من أسفل مكة، وعندئذ لمحتهم خيل قريش، فطارت إلي مكة بالنبأ. من مكة، جاء وافد خزاعي (بديل بن ورقاء) مع نفر من قومه، يسألون المصطفي: - ما الذي جاء بك ؟ فأخبرهم عليه الصلاة والسلام أنه لم يأت يريد حربا، وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته. وعاد الخزاعيون إلي مكة، يؤكدون لقريش أنه ما جاء لقتال، وينصحون لهم ألا يعجلوا عليه، وأن يدعوه وما جاء له من زيارة البيت العتيق. فاتهمهم طواغيت المشركين، وردوا في عناد وسفه: (وإن كان جاء ولا يريد قتالا، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا، ولا تتحدث بذلك عنا العرب). [ صفحه 280] وتتابعت رسل قريش، تحاول أن ترد المصطفي عما جاء له، وهو عليه الصلاة والسلام يؤكد لكل وافد منهم، أنه ما جاء لقتال. ويعودون إلي طواغيت قريش بما قاله عليه الصلاة والسلام فيلقونهم بالمكروه من القول والاتهام. حتي ضاق ذوو الحلم بهذا التمادي في السفة والاعنات. قال أحدهم - الحليس بن علقمة، وكان سيد أحابيش مكة - غاضبا متوعدا: (يا معشر قريش ما علي هذا حالفناكم، ولا علي هذا عاقدناكم. أيصد عن بيت الله من جاء معظما له ؟ والذي نفس الحليس بيده، لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لانفرن بالاحابيش نفرة رجل واحد). وقال (عروة بن مسعود الثقفي) قبل أن يستجيب لهم فيخرج إلي المصطفي، في محاولة أخيرة لحسم الموقف دون قتال: (يا معشر قريش، إني قد رأيت ما يلقي منكم من بعثتموه إلي محمد إذ جاءكم، من التعنيف وسوء اللفظ. وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد - أمه: سبيعة بنت عبد شمس - وقد سمعت بالذي نابكم، فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئتكم حتي آسيتكم بنفسي). قالوا يحثونه علي مفاوضة المصطفي، عنهم، ليحول دون مكة والحرب: (صدقت، ما أنت عندنا بمتهم) [63] . [ صفحه 281] خرج (عروة) حتي أتي المصطفي عليه الصلاة والسلام في مناخه عند الحديبية، فجلس بين يديه وقال في تؤدة، يذكر محمد بن عبدالله بما يهدد بلدته، أم القري: (يا محمد، أجمعت أوشاب الناس ثم جئت بهم إلي بيضتك لتفضها بهم ؟ إنها قريش، قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا. وايم الله لكأني بهؤلاء - الذين معك - قد انكشفوا عنك غدا). وأنكر أبو بكر الصديق ما سمع، فاعترض يقول من مكانه خلف الرسول: أنحن ننكشف عنه ؟ ورد (عروة) وقد عرفه: (أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها). وحف الصحابة بالمصطفي وهو يرد علي وافد قريش، بمثل ما قاله لمن سبقوه: إنه لم يأت يريد حربا. وعاد (عروة) إلي قريش، يحدثها عما رأي وما سمع، من حب أصحاب محمد لمحمد، وتفانيهم في القيام دونه: (يا معشر قريش، إني قد جئت كسري في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط، مثل محمد في أصحابه. ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشئ أبدا، فروا رأيكم). [ صفحه 282] ولاحت النذر: بعثت قريش أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلي الله عليه وسلم، ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا. وأخذتهم فئة من الصحابة أخذا، فجئ بهم إلي المصطفي فعفا عنهم وخلي سبيلهم، بعد أن رموا في عسكر المسلمين بالحجارة والنبل. وجاء دور المصطفي ليحاول رد قريش عن غيها، كي تخلي طريقه إلي البيت الحرام. بعث إليهم صاحبه وصهره: عثمان بن عفان - وهو من صميم عبد شمس - ليكرر عليهم أن المصطفي لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا البيت، ومعظما لحرمته. قالت قريش لعثمان تسترضيه، بعد أن أدي رسالة المصطفي: (إن شئت أن تطوف بالبيت فطف). ورد رضي الله عنه: (ما كنت لافعل حتي يطوف به رسول الله صلي الله عليه وسلم). وبدا لقريش، فاحتبست عثمان عندها، لعل ذلك يجدي عليها من حيث فشل مسعاها. وخرجت من مكة شائعة تقول: إن عثمان بن عفان قد قتل. فما بلغت سمع النبي حتي قال عليه الصلاة والسلام: (لا نبرح حتي نناجز القوم). [ صفحه 283] ودعا أصحابه إلي البيعة علي ذلك، فكانت (بيعة الرضوان) تحت الشجرة هناك. وفيها نزلت آيات الفتح: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث علي نفسه ومن أوفي بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما). ولكن الخبر اليقين ما لبث أن جاء بأن (عثمان لم يقتل) وكانت بيعة الرضوان قد رابت قريشا، وأكدت لها تصميم هذه القلة المؤمنة، علي الصمود والاستبسال. ومهما يكن من حمية قريش الجاهلية، فليست بحيث تستبعد أن ينتصروا عليها، لو نشب قتال. قبلها، انتصروا في (بدر) وكانوا أقل عددا، وكانت قريش، علي عددها وعدتها أقوي أملا في الغلبة. كلا. ما ينبغي أن ينشب قتال، بعد عبرة بدر التي تحددت فيها موازين القوي. من مكة، جاء (سهيل بن عمرو) مبعوثا من قريش، للمفاوضة علي الصلح. وتركت لسهيل حرية التصرف، لم تشترط عليه في الصلح، (إلا أن يرجع محمد عن مكة عامه هذا، فوالله لا تحدث العرب أنه دخلها عليهم عنوة أبدا). [ صفحه 284] ودارت المفاوضة بين المصطفي وبين مبعوث قريش، وتراضيا علي أن يرجع محمد بأصحابه عن مكة هذا العام، علي أن يعودوا في الموسم القابل فيدخلوها ويقيموا بها ثلاث ليال، بغير سلاح إلا سلاح الراكب: السيوف في القرب. واتفقا علي هدنة مداها عشر سنين، من جاء المسلمين من قريش فيها ردوه إليهم، ومن جاء قريشا من المسلمين لم يردوه. وكان أصحاب المصطفي يتابعون هذه المفاوضة بينه صلي الله عليه وسلم، وبين سهيل بن عمرو. وقد غاب عن بعضهم مغزي شروطها وحكمتها: هدنة، تسمح للمصطفي أن يفرغ للعصابات اليهودية ويحسم شرها. ولا بأس علي من يرد إلي قريش، فذاك ابتلاء لعقيدته. ولا خير فيمن يجئ قريشا من المسلمين، فلا جدوي من رده إليهم، ولا حاجة لهم إليه. وإذ تم التراضي علي شروط الصلح ولم يبق إلا أن يكتب، وثب عمر بن الخطاب فقال لابي بكر: - يا أبا بكر، أليس برسول الله ؟ قال الصديق: بلي. وتابع عمر أسئلته: (ألسنا بالمسلمين ؟ (أليسوا بالمشركين ؟ [ صفحه 285] (فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟) وأبو بكر، يحاول رده إلي التسليم بحكمة ما يرضي به رسول الله. ويمضي (عمر) إلي المصطفي فيسأله مثل ما سأل أبا بكر: - يا رسول الله، ألست برسول الله ؟ - أو لسنا بالمسلمين ؟ - أو ليسوا بالمشركين ؟ - فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ وانتظر عليه الصلاة والسلام حتي فرغ صاحبه من كل ما أراد ان يقول، ثم لم يزد علي أن قال: (أنا عبدالله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني). ثم دعا رسول الله صلي الله عليه وسلم، ابن عمه (علي بن أبي طالب) وأملي عليه نص وثيقة الهدنة فكتبها [64] وأشهد علي الصلح رجالا من المسلمين، وآخرين من المشركين. ثم قام عليه الصلاة والسلام إلي هديه فنحره، وحلق شعره. وكان قد دعا أصحابه إلي أن يفعلوا، فتردد منهم من لم يكونوا راضين عن شروط الصلح، ثم ما هو إلا أن رأوا المصطفي ينحر هديه ويحلق شعره، حتي تواثبوا جميعا ينحرون ويحلقون [65] . [ صفحه 286] وما لبثوا أن أدركوا حكمة هذا الصلح الخطير الذي عده القرآن فتحا مبينا. وفيه نزلت سورة الفتح، يقول فيها تعالي لرسوله المصطفي: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا - ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما - وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما - وأخري لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها، وكان الله علي كل شئ قديرا -). (صدق الله العظيم) بعدها كان السير إلي خيبر. هل هلال المحرم من السنة السابعة للهجرة، وقد رجع المصطفي صلي الله عليه وسلم من الحديبية، والمدينة في موقف ترقب وانتظار. من طريق مكة، جاء رجل يسعي، عرفت فيه المدينة (أبا العاص ابن الربيع) فكأنها كانت في انتظاره. ولم يكن قد مضي غير سبعة أشهر علي وداعها إياه ! مر قريبا منها، في جمادي الاولي من السنة السادسة، في طريق عودته من الشام إلي أم القري، في مال له ولقريش. فعرضت له سرية إسلامية أصابت كل ما معه، وأفلت منها مع الفجر إلي أم ولديه، بنت خالته (زينب [ صفحه 287] بنت محمد) عليه الصلاة والسلام، مستجيرا بها. ولم تكن رضي الله عنها قد رأته منذ ودعها إلي دار الهجرة وقد فرق الاسلام بينهما، بعد أن افتدته من الاسر يوم بدر، بقلادة أمها وأم المؤمنين، خالته السيدة خديجة. وفي هدأة الفجر سري صوت زينب: (أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع) فبلغ سمع أبيها عليه الصلاة والسلام وهو يصلي بالناس في مسجد المدينة، فلما سلم سأل من حوله إن كانوا قد سمعوا ما سمع ؟ أجابوا: نعم يا رسول الله. قال: أما والذي نفس محمد بيده، ما علمت بشئ من ذلك حتي سمعت ما سمعتم. وأضاف بعد صمت قصير: (إنه يجير علي المسلمين أدناهم، وقد أجرنا من أجارت). ثم انصرف عليه الصلاة والسلام فدخل علي ابنته وعندها ابن خالتها أبو ولديها (علي، وأمامة) فما كادت تري أباها حتي قالت توضح موقفها: (يا رسول الله، إن أبا العاص إن قرب فابن عم، وإن بعد فأبو ولد، وإني قد أجرته). قال الاب عليه الصلاة والسلام: (أي بنية، أكرمي مثواه، ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له) وتركهما وما يدريان علام استقر رأيه فيهما. [ صفحه 288] ولاحت لهما من بعيد رؤيا ماضيهما السعيد والشمل مجتمع والبال خلي، وتذكرت زينب أن قد طال عليهما الامد - سنين عددا - في انتظار تحقق أملها الذي لم تتخل عنه قط: أن يشرح الله سبحانه صدر أبي العاص للاسلام. وسمعته يقول: (لقد عرضوا علي بالامس أن أسلم وآخذ ما معي من أموال فإنها أموال المشركين، فأبيت قائلا: بئس ما أبدأ به إسلامي، أن أخون أمانتي). فرنت إليه زينب، تفكر في مغزي ما سمعت. وفي الصبح، بعث المصطفي عليه الصلاة والسلام من صحب أبا العاص إلي المسجد، وفيه رجال السرية الذين أصابوا مال أبي العاص. قال لهم عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فئ الله الذي أفاء عليكم وأنتم أحق به.) أجابوا جميعا: يا رسول الله، بل نرده عليه. وتأهب أبو العاص للرحيل إلي مكة، فقال عليه الصلاة والسلام وهو يودعه: (حدثني فصدقني، ووعدني فوفي لي) [ صفحه 289] وتوقعت دار الهجرة أن يعود إليها. وهذا هو قد عاد مع هلال السنة الهجرية السابعة. بعد أن صفي حسابه بمكة، ودفع إلي أهلها ما خرج فيه من مالهم إلي الشام. ثم وقف في الحرم المكي هناك، يسأل بأعلي صوته: (يا معشر قريش، هل بقي لاحد منكم عندي مال لم يأخذه ؟) قالوا: (لا، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيا كريما). فأدار بصره في الجمع الحاشد، ثم قال علي مهل: (فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعني من الاسلام إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم، وفرغت منها، أسلمت) [66] وخلف القوم واجمين كأنما انقضت عليهم صاعقة، وانطلق مستقبلا دار الهجرة وكأنه معها علي موعد. اتجه فور وصوله إلي المسجد النبوي، فهلل المسلمون وكبروا حين رأوه يبايع النبي صلي الله عليه وسلم، وحفوا به مهنئين مرحبين، لكنه كان مشغول البال عنهم بأمر أهمه: أتري يرد إليه المصطفي ابنته الحبيبة (زينب) زوجا، بعد الذي كان ؟ [ صفحه 290] وساوره قلق، ثم ذكر أن الاسلام يجب عما قبله، فتقدم إلي المصطفي يلتمس أن يجيبه إلي حاجته في استرجاع (زينب). أثني المصطفي عليه خيرا، ثم قام صلي الله عليه وسلم وسار إلي بيته، ومعه ابن الربيع. ودعا إليه ابنته، فردها علي أبي العاص. واجتمع الشمل الممزق، بعد فراق طال. ومضي عام واحد، ثم كان الفراق الذي لا لقاء بعده في هذه الدنيا. ماتت (زينب) في مستهل السنة الثامنة للهجرة، وتركت لزوجها أبي العاص ذكراها الحية، وولديها عليا وأمامة، حتي لحق بها بعد أربع سنين. في فترة الهدنة مع قريش، وبعد أن تطهرت المنطقة الاسلامية من الوباء اليهودي. اتجه تفكير المصطفي إلي نشر دعوته خارج بلاد العرب، فبعث رسلا من أصحابه بكتب منه إلي الملوك والحكام لعهده، يدعوهم إلي الاسلام بالحسني، امتثالا لامر الله الذي بعثه إلي الناس كافة: أرسل المصطفي: (دحية بن خليفة الكلبي) إلي قيصر، امبراطور الروم. و (عبدالله بن حذافة السهمي) إلي كسري فارس. [ صفحه 291] و (عمرو بن أمية الضمري) إلي نجاشي الحبشة. و (حاطب بن أبي بلتعة) إلي المقوقس عظيم القبط. و (عمرو بن العاص) إلي ملكي عمان. و (سليط بن عمرو) إلي ملكي اليمامة. و (العلاء بن الحضرمي) إلي المنذر العبدي ملك البحرين. و (شجاع بن وهب الاسدي) إلي الحارث الغساني بالشام. و (المهاجر بن أبي أمية المخزومي) إلي الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن. ثم وجه المصطفي عليه الصلاة والسلام، عناية خاصة إلي بلاد الشام، حيث تمد إمبراطورية الروم سلطانها إلي شمال الجزيرة العربية، وتفرض نفوذها المادي والمعنوي علي أهل المنطقة، بالبطش والارهاب. وفي جمادي الاولي من سنة ثمان للهجرة، جهز عليه الصلاة والسلام جيشا لغزوة مؤتة، أول غزوة سيرها المصطفي إلي خارج بلاد العرب، تأمينا لحدودها من ناحية الروم، وتدريبا لجند الاسلام علي لقاء عدو ذي صولة وصلف، واتجاها بالدعوة الاسلامية إلي ما وراء الحدود. واختار صلي الله عليه وسلم (زيد بن حارثة) أميرا علي الجيش وقال: (إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب علي الناس، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة علي الناس). [ صفحه 292] كان عددهم ثلاثة آلاف، أسلحتهم الحربية السيوف والقسي والرماح والنبل والسهام، وزادهم التمر والخبز الجاف وما قد يتيسر لهم من صيد. وساروا حتي نزلوا (معان) من أرض الشام، فبلغهم أن (هرقل) قد نزل مآب من أرض البلقاء، في مائة ألف من الروم، انضمت إليهم ألوف وألوف من لخم وجذام والقين وبهراء وبلي. وتشاور المسلمون في خطر الموقف، وكان رأي عدد منهم ألا يجازفوا بلقاء الروم في معركة تفني جند الصحابة. وأن يكتبوا إلي الرسول صلي الله عليه وسلم، عسي أن يمدهم بالرجال أو يأمرهم بالعودة إلي المدينة. لكن (عبدالله بن رواحة) أبي إلا أن يتقدموا للقتال لا ينكصون، قال: (يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة. وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدي الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة). هتف جند الاسلام: قد والله صدق ابن رواحة. ومضوا حتي إذا بلغوا تخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل، فانحاز المسلمون إلي قرية (مؤتة) وقاتل (زيد بن حارثة) بلواء المصطفي حتي استشهد، فتلقي جعفر بن أبي طالب اللواء بيمينه، فقاتل به حتي [ صفحه 293] قطعت، فأخذه بشماله حتي قطعت، فاحتضنه بعضديه حتي استشهد. وتلقي اللواء من بعده (عبدالله بن رواحة) فما تخلي عنه حتي استشهد، فكانت له إحدي الحسنيين التي أراد. واختار المسلمون (خالد بن الوليد قائدا)، فلم ير أن يعرض جنده للهلاك، وظل يدافع الروم في بسالة ومهارة وهو ينحاز بجنده حتي نجا بهم، لم يتركوا من ورائهم غير ثمانية شهداء، كانت دماؤهم الزكية هي التي مهدت أرض الشام للفتح الاسلامي بعد نحو عشر سنين ! استقبلت المدينة الجيش العائد من مؤتة بالغضب والانكار، وجعل الناس يحثون التراب علي جنود خالد بن الوليد ويقولون: - يا فرار، فررتم في سبيل الله ؟ والمصطفي يرد عنهم الناس ويقول: (ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله) ويمضي وقت، نحو شهرين: جمادي الاخرة ورجب، في بطء مرهق بالتوتر، وعلي الافق نذر. لم يكن هناك يهود يلوكون حديث مؤتة، ولكن المنافقين كانوا هناك في صميم المجتمع المدني، لا يكتمون شماتتهم ولا يكفون عن سخرية بما حسبوه تطاولا من المؤمنين إلي تخوم الروم. وقريش تزداد حمقا وتطاولا، فتظاهر بكرا علي خزاعة وترفدها [ صفحه 294] بالسلاح، لا تبالي عهد الحديبية، وفيه النص علي (أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلي الله عليه وسلم فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه). وخزاعة كانت قد اختارت الدخول في عقد الرسول وحلفه، فبيتتها (بكر) بالوتير، وأمعنت فيها قتلا بسلاح قريش ! وتمهل المصطفي، لعل قريشا ترجع عن غيها فيما نقضت من عهد الحديبية، بما ظاهرت بكرا علي خزاعة، وهي في عقد الرسول وعهده ! (المدينة) تهدر بالغضب والقلق والترقب. والمصطفي هناك قد أخذ مجلسه بين أصحابه في مسجده، وما يدري أحد خطوته التالية. وفجأة، تعلقت الابصار برجل، يشق طريقه في زحام الناس حتي يصل إلي مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام، فيقف عليه، ويلتقط أنفاسه من سفر بعيد. وعرف المهاجرون فيه (عمرو بن سالم الخزاعي). وانتظروا ماذا يكون من أمره، فانصرف عمرو عنهم وابتدر المصطفي ينشده مرتجزا: يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الا تلدا قد كنتم ولدا وكنا والدا [ صفحه 295] ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرا أعتدا وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا إن سيم خسفا وجهه تربدا في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت يا عمرو بن سالم) ثم قام يتجهز لفتح مكة. [67] الوقت مساء. المدينة ساهرة تحتشد للتعبئة، وقد أوشك جند الاسلام علي المسير إلي مكة. [ صفحه 296] ووافد من مكة جاء يسعي حثيثا حتي بلغ بيت أم المؤمنين (أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان) في دور النبي المحيطة بمسجده. واستأذن فدخل، وأم المؤمنين لا تكاد تصدق أنه والدها (أبو سفيان بن حرب) ! هل جاء مبايعا، بعد أن طال ضلاله وأهلك قومه ؟ لو كان قد جاء مسلما، لما تردد في أن يعجل إليها بالبشري، فيضع حدا لما كابدته من هم، في موقفها بين زوجها وأبيها ! وقد كان الموقف صعبا: من قبل أن تشرف (رملة) بالزواج من المصطفي، آمنت به نبيا مع زوجها الاول (عبيد الله بن جحش) وهاجرت معه إلي الحبشة. فلم يلبث أن ارتد عن الاسلام، وتركها تموت بقهرها، لولا أن واساها عليه الصلاة والسلام، وشرفها بأن أرسل إلي ابن عمه (جعفر ابن أبي طالب) فخطبها إليه في بلد النجاشي. وعادت من مهاجرها مع جعفر، يوم فتح خيبر، وأخذت مكانها الرفيع في بيت النبي، فما كانت امرأة أعز منها بزوج وأشقي بأب ! فإن لم يكن أبوها قد جاء من مكة مبايعا، فلعله موفد من مشركي قريش، يتوسل بابنته إلي زوجها نبي الاسلام، ليجدد الهدنة التي نقضها القرشيون ! وانتظرت أم المؤمنين، لم تدع أباها إلي الجلوس حتي تعلم فيم جاء ! [ صفحه 297] وتقدم هو من تلقاء نفسه، فهم بالجلوس علي فراش هناك، فسبقته إليه أم المؤمنين وطوته عنه. سألها وهو يتجاهل مغزي ما فعلت: - يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني ؟ فما راعه إلا أن أجابت: (بل هو فراش رسول الله صلي الله عليه وسلم، وأنت مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس علي فراشه صلي الله عليه وسلم). قال أبو سفيان مقهورا: - والله يا بنية، لقد أصابك بعدي شر ! [68] وخرج بحسرته، فإذا رسول الله صلي الله عليه وسلم في المسجد مع جمع من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر. ووقف بين يدي المصطفي، يعتذر عن قريش ويسأله أن يستبقي الهدنة، فما رد عليه المصطفي بكلمة. واتجه أبو سفيان إلي الصديق أبي بكر، يرجوه في أن يكلم النبي عليه الصلاة والسلام، فما زاد الصديق علي أن قال: (ما أنا بفاعل !). والتمس أبو سفيان الشفاعة عند الرسول، من عمر بن الخطاب، فكان رد عمر: (أأنا أشفع لكم إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم ؟ فوالله لو لم [ صفحه 298] أجد إلا الدر لجاهدتكم به !). ونقل أبو سفيان بصره في القوم، فما وجد ألا الصد والجفاء. وقاوم يأسه، فخرج متعثرا في حيرته حتي بلغ بيت (علي بن أبي طالب) صهر المصطفي وابن عمه، فقص عليه ما كان من أمره مع ابنته رملة، ثم مع الرسول وصاحبيه أبي بكر وعمر. وقال يستنجد بابن أبي طالب، ويذكر جدهما (قصي بن كلاب) والد عبد مناف وعبد شمس: (يا علي، إنك أمس القوم بي رحما، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا، فاشفع لي إلي صهرك وابن عمك). رد علي، كرم الله وجهه: (ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم الرسول صلي الله عليه وسلم علي أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه). فالتفت أبو سفيان إلي (الزهراء) وكانت حتي هذه اللحظة صامتة لا تشارك في حديث، فقال لها وهو يشير إلي ابنها (الحسن بن علي) سبط النبي: (يا ابنة محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلي آخر الدهر ؟) ردت الزهراء: (والله ما بلغ بني أن يجير بين الناس، وما يجير أحد علي رسول [ صفحه 299] الله صلي الله عليه وسلم). ولم يبق إلا أن ينصرف. غير أنه لم يكن يدري إلي أين، وقد أوصدت الابواب في وجهه. وتمهل برهة فقال لعلي: - يا أبا الحسن، إني أري الامور قد اشتدت علي، فانصحني. قال علي: (والله ما أعلم لك شيئا يغني عنك شيئا، ولكنك سيد في بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك). سأله: (أو تري ذلك مغنيا عني شيئا ؟) فرد علي: (لا والله ما أظنه، ولكني لا أجد لك غير ذلك) [69] علي ناقته (القصواء) التي خرجت به من غار ثور، قبل ثماني سنين، طريدا مستخفيا مهاجرا، أعزل إلا من إيمانه، ليس معه غير صاحبه أبي بكر، والله ثالثهما. دخل صلي الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، في عشرة آلاف من جند الله. وفتحت أم القري قلبها للنبي العائد، ومن معه من أبنائها المهاجرين [ صفحه 300] وأصحابه الانصار. ولم يدر يومها قتال، وكأنما عاشت أم القري في انتظار هذه اللحظة التاريخية، لتتحرر من أغلال الوثنية. وكأنما كان أهلها، جيرة الحرم الاقدس، يتطلعون إلي اليوم الذي يكفون فيه عن حرب عقيم، بعد أن فقدوا إيمانهم بالاوثان التي حاربوا من أجلها، فما أغنت عنهم شيئا ! وعلي راحلته، طاف عليه الصلاة والسلام بالبيت العتيق سبعا، وسط الجموع الحاشدة من الناس، ثم ترجل فدخل البيت خاشعا، وقام يصلي بالمسلمين في الحرم المكي الذي تطهر يومئذ من رجس الاوثان. وتجاوبت الآفاق بدعائه: (الله أكبر، لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الاحزاب وحده). والجموع من حوله تردد الدعاء فتخشع له صم الجبال. والتفت إلي أهل مكة، بعد أن خطب خطبة الفتح، فقال: (يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم ؟) قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال عليه الصلاة والسلام: (اذهبوا فأنتم الطلقاء !) [ صفحه 301] وباتت مكة يوم الفتح، وليس في حرمها رجل ولا امرأة، إلا مسلما أو مسلمة. وأصبح الناس ذات يوم بعد الفتح، وقد خرجت قالة من منازل الانصار، تعبر عن قلقهم، أن يبقي المصطفي في مكة، بعد أن رأوه يسخو في عطاء المكيين، تأليفا لقلوبهم وهم حديثو عهد بالاسلام. قالوا: (لقد لقي والله رسول الله صلي الله عليه وسلم قومه). وبلغت قالتهم سمع المصطفي، نقلها إليه (سعد بن عبادة) شاكيا له عليه الصلاة والسلام ما تجد الانصار من قلق وضيق. سأله المصطفي: (فأين أنت من ذلك يا سعد ؟) ورد نقيب الانصار: - يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي ! فلم يضق عليه الصلاة والسلام بصاحبه، بل طلب إليه أن يجمع له قومه من الانصار، ثم خرج إليهم المصطفي فقال بعد أن حمد الله وأثني عليه: (يا معشر الانصار، ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها علي في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم ؟). أجابوا: بلي، الله ورسوله أمن وأفضل. [ صفحه 302] سألهم: (ألا تجيبونني يا معشر الانصار ؟). فسألوا بدورهم: بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المن والفضل. قال عليه الصلاة والسلام: (أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم يا معشر الانصار في أنفسكم، في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلي إسلامكم ؟ ألا ترضون يا معشر الانصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلي رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت إمرأ من الانصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الانصار شعبا، لسلكت شعب الانصار ! اللهم ارحم الانصار، وأبناء الانصار، وأبناء أبناء الانصار). فبكي القوم حتي أخضلوا لحاهم، وهتفوا جميعا: - رضينا برسول الله قسما وحظا [70] وكذلك بكي أهل مكة، وقد علموا أن المصطفي يوشك أن ينصرف إلي دار الهجرة التي اختارها منزلا ومقاما. ولكنه صلي الله عليه وسلم، تمهل في العودة مع الانصار إلي المدينة، ريثما يقضي علي فلول الوثنية الناشبة في بعض القبائل العربية، ومن أهمها: هوازن وثقيف. [ صفحه 303] وخرج المصطفي في غزوة حنين إلي هوازن، في الآلاف العشرة الذين شهدوا معه فتح مكة، ومعهم ألفان من أهل مكة. وكادت مأساة (أحد) تتكرر. بلغ القائد الرسول بجنده منحدرا في واد من تهامة، سبقهم إليه المشركون من هوازن وأحلافها، فكمنوا لهم في شعابه وأحنائه ومضايقه، ثم انحطوا بغتة في عماية الصبح، فشدوا عليهم، فولوا راجعين لا يلوي أحد علي أحد، لم يبق منهم مع المصطفي سوي نفر من المهاجرين والانصار وأهل بيته. يومها تكلم رجال من المنافقين ومن المكيين حديثي العهد بالاسلام بما في أنفسهم من الضغن، وقال أبو سفيان في شماتة: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. وعقب آخر، جبلة بن الحنبل: ألا بطل السحر اليوم ! وبطل السحر حقا، لكنه سحر الغفلة والضلال. تدارك المصطفي الموقف، فأمر عمه (العباس بن عبدالمطلب) - وكان جهير الصوت - فصاح بالمسلمين يستنفرهم للجهاد مع نبيهم المصطفي، ويسترجعهم إلي أماكنهم حوله، وإن واحدة من الصحابيات (أم سليم بنت ملحان) لتثبت مع القلة المؤمنة وإنها لحامل بعبد الله ابن أبي طلحة، وقد حزمت وسطها ببرد تتقي الاجهاض، ومعها خنجر مشهر، فيقول صلي الله عليه وسلم: (أم سليم ؟) وتجيب: نعم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله. اقتل هؤلاء الذين [ صفحه 304] ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل. قال عليه الصلاة والسلام: (أو يكفي الله يا أم سليم ؟) [71] ويسألها زوجها أبو طلحة: ما هذا الخنجر معك يا أم سليم ؟ أجابت: خنجر أخذته، إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به. وعاد المسلمون علي صوت النفير، والتحم الفريقان وحمي الوطيس، فكان النصر للمؤمنين. وكانت تجربة أخري، يذكرهم الله بها بعد غزوة تبوك، في السنة التالية، التاسعة للهجرة، فيقول تعالي في سورة التوبة: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين - ثم أنزل الله سكينته علي رسوله وعلي المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين - ثم يتوب الله من بعد ذلك علي من يشاء، والله غفور رحيم). (صدق الله العظيم) [ صفحه 305]

مع المنافقين

(ولا تصل علي أحد منهم مات أبدا ولا تقم علي قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون). (سورة التوبة) استغرقت تلك الاحداث الكبار، ما بين غزوة مؤتة وفتح مكة وغزوة حنين، شهور السنة الثامنة للهجرة، من جمادي الاولي إلي ذي القعدة. واعتمر المصطفي وعاد إلي المدينة كوعده للانصار، فأقام بها إلي آخر صفر من سنة تسع، وقد نجم النفاق هناك وكثر الحديث عن (مؤتة) يلوك المنافقون فيه ما كان من غلبة الروم، ويتندرون [ صفحه 306] بسذاجة الآلاف الثلاثة من المسلمين، يطمعون في منازلة الامبراطور هرقل، في مائة ألف من جنده ! وآن الاوان لتطهير دار الاسلام من جيوب النفاق التي كانت تهدده في الصميم، بعد أن انتصر علي المشركين من العرب والاعداء من يهود. لقد كمن السم في أول الامر، وإن ظهرت بوادر منه في مثل إصرار (عبدالله بن أبي بن سلول) علي أن يجير مواليه من يهود بني قينقاع، وانخذاله بمن معه من منافقي المدينة، عن جند المصطفي يوم أحد، ثم نشاطه الخبيث في فرية الافك الذي تولي كبره. وتتابعت البوادر مع ثقل أعباء الجهاد وتكاليفه، في غزوة الاحزاب وغزوة مؤتة، ويوم حنين، دون أن يملك أحد أن ينفي المنافقين عن الاسلام وهم يتظاهرون به ويشهدون بألسنتهم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يحقنون بهذه الشهادة دماءهم ويعتصمون بها من أن يرجمهم مؤمن بلعنة الردة. والنوايا لله، هو وحده الذي يعلم سرهم ونجواهم فليس للرسول إلا أن يكلهم إليه سبحانه، يحمي دينه منهم ويكشف المستور من كفرهم. وقد جاءت (غزوة تبوك) فمزقت أقنعتهم، بعد أن توالت النذر منبهة إلي أن النفاق قد تمكن من مرضي القلوب حتي صار داء عياء لا [ صفحه 307] يجدي فيه غير البتر والتطهير. في مستهل رجب من السنة التاسعة للهجرة، أمر المصطفي أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، تثبيتا لجند الله في لقاء عدو مرهوب، وليزيل التهيب الذي تركته التجربة الاولي في مؤتة. وأراد الله سبحانه أن تكون هذه الغزوة امتحانا لايمان المؤمنين، وفاضحة لزيف المنافقين المحسوبين علي الاسلام زورا وادعاء. ولم يكن من عادة الرسول القائد، أن يصرح بوجهته في كل مرة يخرج فيها بأصحابه للجهاد، بل يكتفي بالتكنية عنها، تدريبا لجند الاسلام علي الامتثال لامر الله والرسول. لكنه في هذه المرة، صرح بوجهته لم يكن عنها، لبعد المسير وشدة الوقت وكثرة العدو الذي يصمد له، حتي يتأهب المسلمون لذلك أهبتهم [72] وذلك في زمان من عسرة الناس وشدة من الحر، وحين طابت الثمار بعد جدب، فطاب للناس المقام في ثمارهم وظلالهم. وبدأ المنافقون منهم ينتحلون الاعذار للتخلف والقعود، حتي إن أحدهم ليقول للمصطفي: - يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني ؟ فوالله لقد عرف قومي [ صفحه 308] أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشي أن رأيت نساء بني الاصفر - الروم - أن لا أصبر ! فأعرض عنه صلي الله عليه وسلم وقال: (قد أذنت لك). ومشي بعضهم إلي بعض، يتواصون بالقعود قائلين: (لا تنفروا في الحر). زهدا في الجهاد وشكا في المصير، وإرجافا برسول الله صلي الله عليه وسلم. وانبث نفر منهم في أحياء المدينة يخذلون قومهم ويقولون: (أتحسبون جلاد بني الاصفر كقتال العرب بعضهم بعضا ؟). ولكن هؤلاء وهؤلاء، لم يبلغوا من التخذيل والارجاف، ما بلغته مكيدة كبيرهم (عبدالله بن أبي): لقد وجد اللعين فرصة العمر التي طال انتظاره لها، فتظاهر بالتأهب للخروج، وجمع إليه حشدا من شيعته أهل النفاق ومن اغتر بهم، ثم ضرب عسكره علي حدة وانتظر حتي تمت التعبئة للجهاد وخرج المصطفي بجنده من مكة، وما يشك أحد في أن (ابن أبي بن سلول) ماض وراءه بعسكره، ولم يكن أقل العسكرين ! لكن الخبيث تحرك، لا إلي الشمال في طريق الجيش المجاهد، وإنما انحاز بعسكره من أسفل مكة إلي الطريق المضاد !. ومضي المصطفي بالمؤمنين من جند الاسلام، وتخلف كل المنافقين، [ صفحه 309] وتخلف معهم نفر قليل من ذوي العذر، ومن استثقلوا العبء، عن غير شك ولا نفاق ! وفي الطريق لحق بالمصطفي من لم يطيقوا القعود ولهم عذر فيه. منهم اثنان من البكائين، وهم سبعة من الصحابة التمسوا من رسول الله أن يحملهم وكانوا أهل حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا أجد ما أحملكم عليه). فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون. وحدث أن مر اثنان منهم بابن عمير بن كعب النضري وهما يبكيان، فسألهما عن أمرهما فقالا: - جئنا رسول الله صلي الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوي به علي الخروج معه. فأعطاهما بعيرا له، وزودهما شيئا من تمر، فارتحلا البعير ولحقا بجند المصطفي ! وكذلك لحق بهم من صحا ضميره من غفوته، فكره أن يقعد مع القاعدين وليس من أهل النفاق. في الخبر أن (أبا خيثمة الانصاري، مالك بن قيس) رجع ذات يوم حار بعد مسير الرسول بأيام. فوجد امرأتين له في عريشين ببستانه، قد رشت كل منهما عريشها وبردت له فيه ماء، وهيأت له طعاما، فلما رأي ذلك كله أنكره، وقال يحدث نفسه: [ صفحه 310] - رسول الله صلي الله عليه وسلم في الضح والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيإ وامرأة حسناء، في ماله مقيم ؟ ما هذا بالنصف !. ثم التفت إلي امرأتيه وقال: (والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتي ألحق برسول الله صلي الله عليه وسلم، فهيئا لي زادا). وركب راحلته، وخرج يغذ السير حتي لحق بجند الاسلام في تبوك [73] وفي الطريق أيضا، تخلف الرجل بعد الرجل، ممن خرجوا في أول الامر مكرهين، ثم استثقلوا مشقة السفر وعبء الجهاد. ويقول الصحابة للمصطفي وهو ماض في طريقه إلي وجهته: - يا رسول الله، تخلف فلان. فيقول عليه الصلاة والسلام: (دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالي بكم. وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه). حتي قيل له مرة: - يا رسول الله، قد تخلف (أبو ذر) وأبطأ به بعيره. فقال المصطفي، مثل ما كان يقوله في الرجل يتخلف. [ صفحه 311] لكن أبا ذر لم يتخلف مختارا، وإنما خذله بعيره بعد أن أبطأ به، فما كان منه رضي الله عنه إلا أن أخذ متاعه فحمله علي ظهره، ومشي يتبع أثر الركب المجاهد. فبينا رسول الله صلي الله عليه وسلم في منزل ببعض مراحل الطريق، نظر ناظر من المسلمين فلمح من بعيد شخصا يمشي، فقال: - يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي علي الطريق وحده. قال عليه الصلاة والسلام وهو ينظر إلي الجهة التي يشير إليها صاحبه: (كن أبا ذر). فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر ! ورد المصطفي: (رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده.) [74] بلغ المصطفي بجنده المؤمنين مدينة (تبوك). وهناك أتاه (يوحنه) صاحب أيلة، فصالح نبي الاسلام وأعطاه الجزية. وكذلك أتاه أهل جرباء وأذرح، فصالحوه علي الجزية. وتخلف (أكيدر بن عبدالملك النصراني) صاحب (دومة) فندب له المصطفي (خالد بن الوليد) في كتيبة من جنده. فأخرج (أكيدر) أخاه في فرسان دومة للقاء كتيبة خالد، ودار قتال سقط فيه أخو أكيدر [ صفحه 312] قتيلا، وانهزم فرسانه.. وعاد خالد بن الوليد إلي معسكر المسلمين، ومعه (أكيدر) قد نزع عنه قباؤه. وكان من ديباج مخوص بالذهب. قال المصطفي وقد رأي أصحابه يلمسون القباء بأيديهم ويتعجبون منه: (أتعجبون من هذا ؟ فوالذي نفسي بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة، أحسن من هذا) [75] ثم أطلق المصطفي صاحب دومة، بمصالحة علي الجزية. ورجع المصطفي إلي المدينة، بعد أن بني مسجدا في (تبوك) وأقام بها بضع عشرة ليلة، لم يجاوزها إلي ما وراءها من أرض الروم. فماذا عمن تخلفوا بالمدينة لم يخرجوا للجهاد ؟ أتاه المنافقون منهم، يحلفون له ويعتذرون، فلم يملك صلي الله عليه وسلم إلا أن يقبل ظاهر عذرهم، مفوضا أمرهم إلي العليم بما يسرون وما يعلنون. وأما الذين تخلفوا تكاسلا، عن غير شك ولا نفاق، فلم يجدوا ما يعتذرون به، وكرهوا أن يضيفوا إلي ذنب القعود عن الجهاد، وزر اختلاق عذر يقدمونه إلي الرسول صلي الله عليه وسلم، كما فعل المنافقون. [ صفحه 313] وأنكر صلي الله عليه وسلم موقفهم، ونهي أصحابه أن يكلموا أحدا منهم حتي يقضي الله فيهم، وكانوا ثلاثة: (كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية) صدقوه القول أن لم يكن لهم عذر. ونبذهم المجتمع الاسلامي نبذا أليما، وكابدوا من تأنيب النفس اللوامة، ما الموت أهون منه وأرحم، وأترك لاحدهم (كعب بن مالك الانصاري) أن يصف محنته وصاحبيه، فيما روي ابن اسحق بالسيرة النبوية، عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب عن أبيه قال: (ما تخلفت عن رسول الله صلي الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط، غير أني تخلفت عنه في بدر، وكانت غزوة لم يعاتب الله ولا رسوله أحدا تخلف عنها. (ولقد شهدت مع رسول الله صلي الله عليه وسلم العقبة وحين تواثقنا علي الاسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت غزوة بدر هي أذكر في الناس منها - يعني: من العقبة. (وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلي الله عليه وسلم في غزوة تبوك، أني لم أكن قط أقوي ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة. (وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا وري بغيرها. حتي كانت تلك الغزوة، فغزاها صلي الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا، واستقبل غزو عدو كثير، فجلي للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبته، والمسلمون كثير، لا يجمعهم [ صفحه 314] كتاب حافظ - أي ديوان مكتوب - فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفي له ذلك، ما لم ينزل فيه وحي من الله. (فتجهز رسول الله صلي الله عليه وسلم وتجهز المسلمون معه، وجعلت أغدو لاتجهز معهم فأرجع ولم أقض حاجة فأقول في نفسي: (أنا قادر علي ذلك إذا أردت) فلم يزل ذلك يتمادي بي حتي شمر بالناس الجد فأصبح صلي الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت: (أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحق بهم). فغدوت بعد أن فصلوا لاتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا. فلم يزل ذلك يتمادي بي حتي أسرعوا وتفرط الغزو - يعني فات وسبق - فهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت، فلم أفعل. (وجعلت إذا خرجت في الناس بالمدينة بعد خروج رسول الله صلي الله عليه وسلم فطفت فيهم، يحزنني أني لا أري إلا رجلا مطعونا عليه في النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء. (ولم يذكرني صلي الله عليه وسلم حتي بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم: (ما فعل كعب بن مالك ؟) فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت ! والله يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيرا. فسكت رسول الله صلي الله عليه وسلم. (فلما بلغني أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد توجه قافلا من [ صفحه 315] تبوك، حضرني بثي، فجعلت أتذكر الكذب وأقول: (بماذا أخرج من سخطة رسول الله صلي الله عليه وسلم غدا ؟) وأستعين علي ذلك كل ذي رأي من أهلي. فلما قيل إن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد أظل قادما، زاح عني الباطل وعرفت أني لا أنجو إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه. وصبح رسول الله بالمدينة، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس. فلما فعل جاءه المخلفون فجعلوا يحلفون له ويعتذرون، وكانوا بضعة وثمانين رجلا. فيقبل منهم رسول الله صلي الله عليه وسلم علانيتهم وأيمانهم ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلي الله تعالي. حتي جئت فسلمت، فتبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: (تعاله) فجئت أمشي حتي جلست بين يديه فقال لي: (ما خلفك ؟ ألم تكن ابتعت ظهرك ؟) قلت: إني يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا. ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كذبا لترضين عني، وليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديثا صدقا تجد علي فيه، إني لارجو عقباي من الله فيه. لا والله ما كان لي عذر ! والله ما كنت قط أقوي ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ! (فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدقت فيه، فقم حتي يقضي الله فيك. فقمت، وثار معي رجال من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي: [ صفحه 316] - والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت عن أن لا تكون اعتذرت إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلي الله عليه وسلم لك. (فوالله ما زالوا بي حتي أردت أن أرجع إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فأكذب نفسي. ثم قلت لهم: - هل لقي هذا أحد غيري ؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثلك: مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية الواقفي. (فذكروا لي رجلين صالحين فيهما أسوة، فصمت حين ذكروهما لي. ونهي رسول الله صلي الله عليه وسلم عن كلامنا أيما الثلاثة، من بين من تخلف عنه. فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتي تنكرت لي نفسي والارض، فما هي بالارض التي كنت أعرف. فلبثنا علي ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين وأطوف بالاسواق ولا يكلمني أحد. وآتي رسول الله صلي الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: (هل حرك شفتيه يرد السلام علي أو لا ؟) ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت علي صلاتي نظر الي، وإذا التفت نحوه أعرض عني. (حتي إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين، مشيت حتي تسورت [ صفحه 317] جدار حائط (أبي قتادة) وهو ابن عمي وأحب الناس الي، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام. فقلت: - يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ فسكت. فعدت فناشدته مرة بعد مرة، فسكت عني، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم. (ففاضت عيناي، ووثبت فتسورت الحائط ثم غدوت إلي السوق. فبينا أنا أمشي إذا نبطي يسأل عني من نبط الشام، فجعل الناس يشيرون الي، حتي جاءني فدفع الي كتابا من ملك غسان، فيه: (أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك. فالحق بنا نواسك). - قلت حين قرأتها: وهذا من البلاء أيضا، قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل الشرك ! (فعمدت بالرسالة إلي تنور فسجرته بها. فأقمنا علي ذلك حتي إذا مضت أربعون ليلة، من الخمسين، إذا رسول رسول الله يأتيني بأمره أن أعتزل امرأتي. قلت: أأطلقها أم ماذا ؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها. وأرسل إلي صاحبي بمثل ذلك. فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتي يقضي الله في هذا الامر ما هو قاض. وجاءت امرأة (هلال بن أمية) رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالت: [ صفحه 318] - يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع لا خادم له، أفتكره أن أخدمه ؟ قال: لا، ولكن لا يقربنك. قالت: والله يا رسول الله ما به من حركة الي، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلي يومنا هذا، ولقد تخوفت علي بصره. (فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. قلت: والله لا أستأذنه بها، ما أدري ما يقول صلي الله عليه وسلم لي إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب. (فلبثنا بعد ذلك عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي رسول الله المسلمين عن كلامنا. ثم صليت الصبح، صبح خمسين ليلة، علي ظهر بيت من بيوتنا. إذ سمعت صوت صارخ أوفي علي ظهر سلع يقول بأعلي صوته: يا كعب بن مالك، أبشر. فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء الفرج. (ونزعت ثوبي فكسوتهما من جاء يبشرني، والله ما أملك يومئذ غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلي الله عليه وسلم، وتلقاني الناس يبشرونني بالتوبة. حتي دخلت المسجد، فلما سلمت علي رسول الله صلي الله عليه وسلم، قال لي ووجهه يبرق من السرور: - أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك. [ صفحه 319] قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال: بل من عند الله. قلت: يا رسول الله، إن من توبتي إلي الله عزوجل أن أنخلع من مالي، صدقة إلي الله والي رسوله. قال صلي الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. وقلت: يا رسول الله، إن الله نجاني بالصدق، وإن من توبتي إلي الله أن لا أحدث إلا صدقا ما حييت) [76] الآيات التي بشر بها هؤلاء الثلاثة الذين خلفهم الرسول حتي يقضي الله فيهم، هي آيات التوبة: (لقد تاب الله علي النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم، إنه بهم رؤوف رحيم - وعلي الثلثة الذين خلفوا حتي إذا ضاقت عليهم الارض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم -). (صدق الله العظيم) ونزلت معها، من سورة التوبة في أواخر العهد المدني بعد غزوة تبوك، الآيات البينات (الفاضحة) لزيف المنافقين الممزقة لكل [ صفحه 320] أقنعتهم. وفيها يعتب الله سبحانه علي رسوله أن أذن لهم في التخلف. وكان، لو لم يفعل، بحيث يكشف عن خبث سريرتهم ويتبين له كفرهم وارتيابهم: (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك، ولكن بعدت عليهم الشقة، وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون - عفا الله عنك لم أذنت لهم حتي يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين - لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين - إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون - ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين - لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولاوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم، والله عليم بالظالمين - لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الامور حتي جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون - ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني، ألا في الفتنة سقطوا، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين - إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد اخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون - قل لن يصيبنا ألا ما كتب الله لنا هو مولنا، وعلي الله فليتوكل المؤمنون - قل هل تربصون بنا إلا إحدي الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون -). [ صفحه 321] وتمضي الآيات بحكم الله فيهم: تنفيهم عن الاسلام أحياء وأمواتا، وتعزلهم عن مخالطة المؤمنين، وتحرم خروجهم معهم إذا خرجوا للجهاد، حسما لشر الفتنة، وتنهي نبي الاسلام نهيا باتا عن أن يستغفر لهم أو يصلي علي أحد منهم مات أبدا أو يقوم علي قبره: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله، والله لا يهدي القوم الفاسقين - فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر، قل نار جهنم أشد حرا، لو كانوا يفقهون - فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون - فإن رجعك الله إلي طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين - ولا تصل علي أحد منهم مات أبدا ولا تقم علي قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون -. (صدق الله العظيم) ثم يقول الله جل شأنه في نفس السورة: (ليس علي الضعفاء ولا علي المرضي ولا علي الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله، وما علي المحسنين من سبيل والله عفور رحيم - ولا علي الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما [ صفحه 322] أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا إلا يجدوا ما ينفقون - إنما السبيل علي الذين يستأذنونك وهم أغنياء، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله علي قلوبهم فهم لا يعلمون - يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم، قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيري الله عملكم ورسوله ثم تردون إلي عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون - سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأوهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون - يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضي عن القوم الفاسقين -). (صدق الله العظيم) [ صفحه 323]

سنة الوفود ودخل الناس في دين الله أفواجا

كانت غزوة تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة. بعدها فيما بقي من شهور السنة، تتابعت وفود القبائل العربية علي دار الهجرة، ساعية إليها من كل وجه، تبايع الرسول صلي الله عليه وسلم علي الاسلام. أسلمت (ثقيف) وكانت قد امتنعت بالطائف يوم حنين. وقدم وفد (همدان) علي رسول الله عليه الصلاة والسلام، مرجعه من تبوك. وجاء وفد (تميم) وفيه: (قيس بن عاصم، وعطارد بن حاجب، والاقرع بن حابس، وعمرو بن الاهتم، والزبرقان بن بدر). وجاء ضمام بن ثعلبة، في وفد (بني سعد بن بكر). والجارود بن عمرو، في وفد (عبدالقيس) والاشعث بن قيس في وفد (كندة) وصرد بن عبدالله، في وفد (الازد). [ صفحه 324] كما قدم وفد (طئ) وفيهم سيدهم الفارس (زيد الخيل) الذي قال فيه المصطفي صلي الله عليه وسلم: (ما ذكر لي رجل من العرب ثم جاءني، إلا رأيته دون ما يقال فيه. إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ كل ما كان فيه). ودعاه المصطفي: زيد الخير. وجاء رجال من (بني زبيد) فيهم عمرو بن معديكرب. ووفد بني حنيفة، فيهم مسيلمة بن حبيب [77] قال (ابن اسحاق) في سنة الوفود [78] (وإنما كانت العرب تربص بالاسلام أمر هذا الحي من قريش وأمر رسول الله صلي الله عليه وسلم. وذلك أن قريشا كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت الحرام، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقادة العرب لا ينكر ذلك. وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله صلي الله عليه وسلم وخلافه، فلما افتتحت مكة ودانت له قريش. دخلوا في دين الله، كما قال عزوجل، أفواجا، يضربون إليه من كل وجه. يقول الله تعالي لنبيه صلي الله عليه وسلم: (إذا جاء نصر الله والفتح - ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا - فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا). (صدق الله العظيم) [ صفحه 325] الوداع والرحيل ! (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفئن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم، ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا، وسيجزي الله الشاكرين). (صدق الله العظيم) [ صفحه 327] تطهرت ديار الاسلام من وباء اليهود، أعداء البشر. وتطهرت أرض المبعث وبلاد العرب من رجس الوثنية، وسقطت أقنعة المنافقين، وعزلوا عن المجتمع الاسلامي، ودخل الناس في دين الله أفواجا. فهل بقي من رسالة المصطفي ما يؤديه في عصر مبعثه ؟ بعد سنة الوفود، حج صلي الله عليه وسلم حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة، وعلم المسلمين مناسك الحج، وخطب فيهم خطبته المشهورة التي كانت الوصية الاخيرة إلي المسلمين من نبيهم المصطفي عليه الصلاة والسلام، قال بعد أن حمد الله وأثني عليه: (أيها الناس، اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا. أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلي أن تلقوا ربكم، [ صفحه 328] كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا. وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلي من ائتمنه عليها. وإن كان ربا موضوع، ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. قضي الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس بن عبدالمطلب موضوع كله. وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع. وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب - وكان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل - فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية. (أما بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا. ولكنه إن يطع فيما سوي ذلك فقد رضي بما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه علي دينكم). وبعد أن بين المصطفي إبطال الاسلام للنسئ، وحدد الاشهر الاربعة الحرم، أوصي بالنساء خيرا، ثم ختم خطبة الوداع بقوله: (فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت. وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا: أمرا بينا، كتاب الله وسنة نبيه. أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت ؟). هتف المسلمون جميعا، ممن شهدوا حجة الوداع: - اللهم نعم. [ صفحه 329] فقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم اشهد) [79] ثم أقام المصطفي بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر. وفيها جهز (أسامة بن زيد بن حارثة) ليخرج إلي الشام في جند الاسلام، ومعه المهاجرون الاولون. وأمره صلي الله عليه وسلم، أن يصل بالاسلام إلي تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين. وبدا كأن المصطفي أتم رسالته، وترك للمؤمنين من بعده أن ينشروا الدين الحق في الآفاق، وأن يحملوا لواءه الميمون إلي المشرق والمغرب !. ثم يموت محمد بن عبدالله، ويحيا المصطفي في رسالته، نبي الاسلام المبعوث خاتما للانبياء ومصدقا لما بين يديه من الدين كله. وتكون آيته، بعد أن أتم رسالته، أن يجوز عليه المرض والموت، كما جازت عليه أعراض البشرية وهمومها وعواطفها، من حزن وثكل وكره وضيق وكرب، مثلما تجوز علي سائر البشر. لكيلا يفتن به المسلمون فينسوا أنه بشر رسول، كما فتن من قبلهم، فاتخذوا نبيهم مع الله إلها. [ صفحه 330] في ليال بقين من صفر، في السنة الحادية عشرة للهجرة، شكا المصطفي من مرض ألم به، فحسب آل البيت النبوي والمسلمون معهم، أنها وعكة طارئة لا تلبث أن تزول، دون أن يتصور أحد منهم أنه مرض الموت. وثقل المرض علي (محمد بن عبدالله) فاستأذن نساءه أمهات المؤمنين أن يمرض في بيت عائشة، وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس). ولم يطل عليه المرض. أهل شهر ربيع الاول، وخرج أهل المدينة لصلاة الصبح من يوم الاثنين، فبينا هم في المسجد وأبو بكر يصلي بهم، رفع الستر من باب بيت أم المؤمنين عائشة، وخرج المصطفي عاصبا رأسه، فما كاد الناس يلمحونه حتي كادوا يفتنون في صلاتهم برؤيته فرحا به، لولا أن أشار إليهم أن (اثبتوا علي صلاتكم). وشعر أبو بكر بما كان من المصلين خلفه، فعرف أنهم لم يصنعوا ذلك إلا لرسول الله صلي الله عليه وسلم، فنكص عن مصلاه يفسح مكانه للمصطفي، لكنه دفعه وقال: (صل بالناس). وجلس صلي الله عليه وسلم عن يمين أبي بكر، فصلي قاعدا، حتي إذا قضيت الصلاة أقبل المسلمون علي نبيهم المصطفي فرحين مستبشرين، يهللون ويدعون ويباركون. [ صفحه 331] لم يدروا أنها صحوة الموت ! دخل المصطفي بيته والوقت ضحي، فاضطجع علي فراشه في حجر زوجه عائشة، فما راعها إلا أن ثقل في حجرها، ونظرت في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: (بل الرفيق الاعلي من الجنة) [80] من بيت المصطفي علا نحيب النساء فصك مسمع المدينة التي كانت قد استبشرت برؤية الرسول عليه الصلاة والسلام في صلاة الصبح من ذلك اليوم ! وفي ذهول المباغتة، وجم الناس بين مصدق ومكذب، وكان (عمر بن الخطاب) أشد من أنكروا أن يكون محمد صلي الله عليه وسلم قد مات ! وجاء أبو بكر، وعمر في المسجد يتوعد من يزعم أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد مات، قال: عفا الله عنه: (إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد توفي ! وإن رسول الله صلي الله عليه وسلم والله ما مات، ولكنه ذهب إلي ربه كما ذهب موسي بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله ليرجعن رسول الله صلي الله عليه وسلم كما رجع موسي، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلي الله عليه وسلم مات !). [ صفحه 332] تركه أبو بكر لم يكلمه، ومضي لا يلتفت إلي شئ حتي دخل علي المصطفي في بيت ابنته عائشة، فإذا هو مسجي هناك، فأقبل عليه محزونا حتي كشف عن وجهه فقبله، وقال: (بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتب الله عليك، فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا). ثم رد البرد علي الوجه الحبيب. وخرج إلي الناس المحتشدين في المسجد، و (عمر بن الخطاب) ما يزال يكلمهم فدنا منه وقال مترفقا، قد أحس ما أخذ ابن الخطاب من وقع الصدمة: - علي رسلك يا عمر، أنصت ! فلما لم يلتفت إليه، أقبل علي الناس فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: (أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت). ثم تلا الآية، من سورة آل عمران: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين). فكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتي تلاها أبو بكر يومئذ. [ صفحه 333] أما عمر بن الخطاب، فما هو إلا أن سمع أبا بكر تلاها، حتي وقع إلي الارض ما تحمله رجلاه، وقد عرف أن محمدا قد مات. جهزوه للرحيل يوم الثلاثاء. ثم فتحوا باب بيته لالوف المسلمين فدخلوا عليه يودعونه ويصلون عليه أرسالا: الرجال منهم أولا، ثم الناس، ثم الصبيان. ودفنوه حيث قبض، في بيت زوجه عائشة بنت أبي بكر. رفعوا فراشه فحفر له تحته، ثم أضجعوه هناك في ليل الاربعاء من ذلك الشهر، ربيع الاول، السنة الحادية عشرة من هجرته. دفنوا محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي. وعاش الرسول صلي الله عليه وسلم، خاتم الانبياء. ذاك الذي اصطفاه الله فأرسله بالهدي ودين الحق ليظهره علي الدين كله ولو كره الكافرون. في فجر تلك الليلة الغراء من شهر رمضان المبارك، التي خرج فيها أما عمر بن الخطاب، فما هو إلا أن سمع أبا بكر تلاها، حتي وقع إلي الارض ما تحمله رجلاه، وقد عرف أن محمدا قد مات. جهزوه للرحيل يوم الثلاثاء. ثم فتحوا باب بيته لالوف المسلمين فدخلوا عليه يودعونه ويصلون عليه أرسالا: الرجال منهم أولا، ثم الناس، ثم الصبيان. ودفنوه حيث قبض، في بيت زوجه عائشة بنت أبي بكر. رفعوا فراشه فحفر له تحته، ثم أضجعوه هناك في ليل الاربعاء من ذلك الشهر، ربيع الاول، السنة الحادية عشرة من هجرته. دفنوا محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي. وعاش الرسول صلي الله عليه وسلم، خاتم الانبياء. ذاك الذي اصطفاه الله فأرسله بالهدي ودين الحق ليظهره علي الدين كله ولو كره الكافرون. في فجر تلك الليلة الغراء من شهر رمضان المبارك، التي خرج فيها مع النور البازغ يتلو الكلمات الاولي من هذا القرآن: معجرة نبوة، وكتاب شريعة، ولواء عقيدة وجهت التاريخ وحررت الانسان. والنور الذي حدا مسري البشرية الامية من ليل الجاهلية. وقاد مسعاها إلي آفاق المثل العليا للحق والخير والجمال. [ صفحه 334] (هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين). صدق الله العظيم

پاورقي

[1] تجد في (رسالة الغفران) نصوصا مع هذه، من تلبيات العرب في الجاهلية: ص 534 وما بعدها. ط خامسة، ذخائر العرب.
[2] السيرة لابن هشام: الجزء الاول. وانظر معه (الروض الانف) للسهيلي: 1 / 27 ط الجمالية بالقاهرة.
[3] القصة بتفصيل في: السيرة لابن هشام 1 / 162 وتاريخ الطبري 2 / 173.
[4] السيرة النبوية لابن هشام: 1 / 165 - ونسب قريش للزبيري 14 وجمهرة أنساب العرب لابن حزم: 12، 119 ط الذخائر.
[5] سورة الصافات، الآيات 101: 111.
[6] تاريخ الطبري: 2 / 174.
[7] السيرة لابن هشام: 1 / 165 وتاريخ الطبري: 2 / 174.
[8] نسب قريش: 14، وجمهرة أنساب العرب: 12 ذخائر.
[9] ص 25 من الترجمة العربية للسحار. وقد ناقشت هذه القضية بمزيد تفصيل في الفصل الخامس من كتابي (أم النبي) ط دار الهلال بالقاهرة. [
[10] السهيلي: الروض الانف، 1 / 30.
[11] ابن هشام: السيرة النبوية 1 / 51.
[12] وانظر الزرقاني في المولد: 1 / 130، والنويري في نهاية الارب 6 / 68 دار الكتب المصرية.
[13] ابن هشام: السيرة النبوية 1 / 209.
[14] ابن هشام: السيرة النبوية 1 / 262.
[15] في سورة المدثر، رابعة السور في ترتيب النزول، علي المشهور. وانظر السيرة: 1 / 280 مع تاريخ الطبري: 2 / 230.
[16] السيرة لابن هشام: 1 / 341.
[17] تفسير الطبري: سورة الليل.
[18] المشهور أن خباب بن الارت لحقه سباء في الجاهلية، فاشترته امرأة من خزاعة وأعتقته. وانظر السيرة لابن هشام: 1 / 383.
[19] ابن هشام: السيرة 1 / 254.
[20] السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 10.
[21] السيرة لابن هشام: 1 / 310.
[22] ابن هشام: السيرة النبوية 1 / 288.
[23] السيرة النبوية، عن ابن اسحاق: 1 / 315.
[24] السيرة النبوية لابن هشام: 1 / 337.
[25] من حديث الهجرة. رواه ابن اسحاق - (السيرة النبوية: 1 / 357) - بإسناد عن (أم سلمة) وكانت رضي الله عنها إحدي المهاجرات.
[26] السيرة لابن هشام: 2 / 115.
[27] الاصابة: الجزء الثامن. وتاريخ الطبري 3 / 89. والسمط الثمين للمحب الطبري: 97، 98.
[28] السيرة النبوية لابن هشام: 1 / 379 وتاريخ الطبري: 2 / 225.
[29] حديث الحصار هنا، منقول من (السيرة النبوية) 1 / 379 و (تاريخ الطبري) 2 / 225.
[30] أنظر تفصيل الاسراء والمعراج، في (السيرة النبوية لابن هشام): 2 / 36 ط الحلبي.
[31] ابن هشام: السيرة، 2 / 37 واقرأ معه: تفسير الطبري لآية الاسراء.
[32] ابن هشام: السيرة النبوية: 2 / 39.
[33] تفسير الطبري: ج 15 (سورة الاسراء).
[34] ابن هشام: السيرة النبوية 2 / 32.
[35] السيرة لابن هشام: 1 / 191.
[36] السيرة: 1 / 321.
[37] السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 67، 70.
[38] السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 67، 70.
[39] السيرة لابن هشام: 1 / 80.
[40] الابيات رواها الطبري في تاريخه: 2 / 248. والسمهودي في (وفاء الوفا): 1 / 228.
[41] السيرة لابن هشام، وتاريخ الطبري. وقد أسلم أبو جابر وشهد العقبة الكبري، وكان من نقبائها.
[42] مادة هذا الفصل، مستخلصة من كتاب (وفاء الوفا، بأخبار مدينة المصطفي) للسمهودي. مع مراجعة السيرة لابن هشام، وتاريخ الطبري.
[43] ولفنسون: تاريخ اليهود في جزيرة العرب: 9، 18 ط لجنة التأليف والترجمة والنشر.
[44] بمزيد تفصيل، في الباب الثاني من كتابي (أعداء البشر).
[45] السمهودي: وفاء الوفا: 1 / 218.
[46] تاريخ اليهود في جزيرة العرب: 109.
[47] المرجع السابق.
[48] السيرة لابن هشام: 2 / 111 وتاريخ الطبري: 2 / 242.
[49] السيرة لابن هشام: 2 / 125 وتاريخ الطبري: 2 / 243 وفيهما أسماء من حضروا الندوة من طواغيت قريش.
[50] تفصيل الهجرة، في الحزء الثاني من: السيرة لابن هشام، وطبقات ابن سعد، وتاريخ الطبري.
[51] السيرة لابن هشام: 2 / 137. وتاريخ الطبري: 2 / 248. ووفاء الوفا للسمهودي: 1 / 244 - وقابل عليها ما في (تاريخ اليهود في جزيرة العرب) لاسرائيل ولفنسون: 157، 111.
[52] تراجم أمهات المؤمنين، مفصلة في (طبقات الصحابة) ومعها (نساء النبي) (طبعة دار الكتاب العربي) بيروت.
[53] بنصه، عن ابن إسحاق. من السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 233.
[54] السمهودي: وفاء الوفا: 1 / 270. والسيرة لابن هشام: 2 / 165.
[55] المحدث: من أحدث في الاسلام بدعة أو ضلالة أو فتنة.
[56] السيرة لابن هشام: 2 / 149 وتاريخ الطبري: السنة الاولي للهجرة.
[57] السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 237.
[58] تجد نصوص أسئلتهم والرد عليها في (السيرة لابن هشام) 2 / 91 وما بعدها.
[59] حديث هذه السرايا بتفصيل، في الجزء الثاني من السيرة النبوية لابن هشام، وطبقات ابن سعد، وتاريخ الطبري.
[60] السيرة لابن هشام 2 / 308.
[61] تفصيل حديث الافك، في (صحيح البخاري) 4 / 27 ط الشرفية، وفي السيرة لابن هشام وتاريخ الطبري (حوادث السنة السادسة للهجرة) ومعها (السمط الثمين، للمحب الطبري) ص 63.
[62] السيرة لابن هشام: 3 / 322.
[63] السيرة: 3 / 327، تاريخ الطبري: السنة السادسة.
[64] تجد النص، في السيرة لابن هشام: 3 / 332، وتاريخ الطبري: 30 / 80، وطبقات ابن سعد: ح 2.
[65] السيرة لابن هشام: 3 / 333.
[66] السيرة لابن هشام: 2 / 312، تاريخ الطبري 1 / 293، الاستيعاب لابن عبد البر: 4 / 73. 1 - ط الحلبي.
[67] السيرة لابن هشام: 4 / 36 وتاريخ الطبري، السنة الثامنة ه.
[68] السيرة: 4 / 38، تاريخ الطبري 3 / 112. السمط الثمين 100.
[69] السيرة لابن هشام: 4 / 39 - تاريخ الطبري: 3 / 113.
[70] السيرة لابن هشام 4 / 143، طبقات ابن سعد 2 / 98.
[71] السيرة لابن هشام: 4 / 88.
[72] تفصيل الحديث عن غزوة تبوك، في: السيرة لابن هشام: 4 / 159، والجزء الثاني من طبقات ابن سعد، والثالث من تاريخ الطبري.
[73] السيرة النبوية: 4 / 164.
[74] السيرة: 4 / 167، وانظر أبا ذر الغفاري في طبقات الصحابة.
[75] السيرة لابن هشام: 4 / 170.
[76] من السيرة: 1 / 175. بإسناد إلي الزهري عن عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك.
[77] هو مسيلمة الكذاب، الذي ارتد وادعي النبوة بعد النبي صلي الله عليه وسلم. وقتل الكذاب في حروب الردة.
[78] والطبري في تاريخه، السنة التاسعة.
[79] السيرة لابن هشام: 4 / 252.
[80] السيرة لابن هشام: 4 / 304.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.