الخاتميه في الكتاب و السنه و العقل الصريح

اشارة

نام كتاب: الخاتمية في الكتاب و السنة و العقل الصريح

نويسنده: آية الله الشيخ جعفر السبحاني

موضوع: اعتقادات و پاسخ به شبهات

زبان: عربي

تعداد جلد: 1

ناشر: نشر مشعر

مكان چاپ: تهران

نوبت چاپ: 1

ص:1

اشارة

ص:2

ص:3

ص:4

المقدمة

قال اللَّه تبارك وتعالى:

«ما كانَ محمدٌ أبا أحدٍ مِنْ رجالِكُمْ ولكنْ رَسولَ اللَّهِ وخاتَمَ النبيّينَ وكانَ اللَّهُ بِكلِّ شَي ءٍ عَليما» الأحزاب/ 40

روى جابر عن النبيّ صلى الله عليه و آله: مَثَلي وَمثلُ الأنبياء كمَثل رجلٍ بنى داراً فأتَمّها وأكملها إلّاموضعاً فجعل الناس يدخلونها ويتعجّبون منها، ويقولون لولا موضعُ هذه اللبنة، قال رسولصلى الله عليه و آله: فأنا موضع اللبنةِ جئتُ فختمتُ الأنبياء

التاج 3: 22 نقلًا عن البخاري ومسلم والترمذي

ص:5

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

وبه وحده نستعين وعليه وحده نتوكل

والحمد للَّه ربّ العالمين، والصَّلاة والسلام على سيد رُسُله، وخاتم أنبيائه وآله ومن سار على خطاهم وتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يهتم المسلمون اهتماماً كبيراً بالعقيدة الصحيحة لأنّها تشكّل حجر الزاوية في سلوكهم ومناراً يضي ءُ دروبهم وزاداً لمعادهم.

ولهذا كرّسَ رسُولُ اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم في الفترة المكيّة من حياته الرسالية نفسه لإرساء أُسس التوحيد الخالص، ومكافحة الشرك والوثنية، ثم بنى عليها في الفترة المدنيةصَرحَ النظامِ الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسيّ.

ولهذا- ونظراً للحاجةِ المتزايدة- رأينا أن نقدّم للأُمةِ الإسلاميّة الكريمة دراسات عقائدية عابرة مستمدَّةٍ من كتاب اللَّهِ العزيز، والسُنّةِ الشريفة الصحيحة، والعقل السليم، وما اتَّفق عليه علماءُ الأُمةِ الكرام، واللَّه الموفِّق.

معاونيّة التعليم والبحوث الإسلاميّة

ص:6

ص:7

تقديم ملامح الشريعة الإسلاميّة

تمتاز الشريعة الإسلامية بنقطتين رئيستين:

الأُولى: عالميّتها وشموليّتها.

الثانية: كونها خاتمة الشرائع.

أمّا الاولى: فمعناها أنّ دعوتَها عالمية لا تنحصر بإقليم معيّن وهي من أبرز الملامح التي يستهدفها القرآن في دعوته ورسالته.

يقول سبحانه: «تباركَ الَّذي نزَّلَ الفُرقانَ على عَبدِه ليكونَ للعالمينَ نَذيرا» (الفرقان/ 1).

ص:8

ويقول أيضاً: «وما أرسلناك إلّاكافّةً للنّاسِ بَشيراً ونَذيراً ولكنَّ أكثر النّاسِ لا يَعلَمون» (سبأ/ 28).

وقال سبحانه: «قٌلْ يا أيُّها النّاسُ إنِّي رَسولُ اللَّهِ إلَيكُمْ جَميعاً ...» (الأعراف/ 158).

لقد بعثَ الرسولُ الأعظمصلى الله عليه و آله سفراءَه إلى أنحاء المعمورة لنشر دعوته فيها وبيد كلّ واحد منهم كتاب يعبِّر عن عالمية دعوته، فقد بعثَ إلى قيصر الروم، وكسرى فارس وعظيم القبط وملك الحبشة، والحارث بن أبي شمر الغسّاني ملك تخوم الشام وحوزة بن علي الحنفي ملك اليمامة، وغيرهم من ملوك العرب وشيوخ القبائل والأساقفة، والمرازبة، والعمّال، وهذه المواثيق أوضح دليل على أنّ رسالته عالمية لا تحدُّ بحد، بل تجعل الأرض كلها ساحة لإشاعة دينه وتطبيق شريعته.

هذا والبراهين على عالمية دعوته كثيرة لا مجال لذكرها.

نعم ربما قد تظهر بعض المغالطات من النصارى القدامى في هذه النقطة؛ حيث حاولوا تحجيم أمر الرسالة وتخصيصها بمكان وعنصر خاصَّين، وليست شبهاتهم قابلة للذكر.

كيف وبيانات القرآن وخطاباته للبشر كافة ومواثيق الرسول ودعواته المتجاوزة حدود الجزيرة العربية، واجتياح جيوش

ص:9

المسلمين ورجالهم أرض غير العرب واستقرار الامة الإسلامية في أكثر مناطق المعمورة بل معظمها يومذاك، أبطلت هذه المغالطات وجعلتها في مدحرة البطلان ولذلك نعود إلى الملمح الثاني من ملامح الشريعة الإسلامية، في بحثنا وهو خاتميتها تعني:

أنّها آخر الشرائع وأنّ المبعوث بها، هو خاتم الأنبياء فشريعته خاتمة الشرائع، وهذا ما نحاول دراسته في هذه الرسالة ونستدل عليه عن طريق الكتاب والسنّة ونحلّل الإشكالات المثارة حوله كل ذلك في ضمن فصولٍ.

ص:10

الفصل الأول الخاتمية في الذكر الحكيم

اشارة

اتفقت الأُمة الإسلامية- عن بكرة أبيها- على أنّ نبيّهم محمداً خاتم النبيّين، وأنّ دينه خاتم الأديان، وكتابه خاتم الكتب والصحف، فهوصلى الله عليه و آله آخر السفراء الإلهيين، أُوصد به باب الرسالة والنبوة، وختمت به رسالة السماء إلى الأرض.

لقد اتّفق المسلمون كافة على أنّ دين نبيّهم، دين اللَّه الأبدي، وكتابه، كتاب اللَّه الخالد ودستوره الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقد أنهى اللَّه إليه كلّ تشريع وأودع فيه أُصول كلّ رقي، وأناط به كل سعادة ورخاء، فاكتملت بدينه وكتابه

ص:11

الشرائع السماوية التي هي رسالة السماء إلى الأرض.

توضيحه: أنّ الشريعة الإلهية الحقّة التي أنزلها اللَّه تعالى إلى أوّل سفرائه لا تفترق جوهراً عمّا أنزله على آخرهم، بل كانت الشريعة السماوية في بدء أمرها كنواة قابلة للنموّ والنشوء، فأخذت تنمو وتستكمل عبر القرون والأجيال، حسب تطور الزمان وتكامل الأُمم، وتسرّب الحصافة إلى عقولهم، وتسلّل الحضارة إلى حياتهم.

ويفصح عمّا ذكرنا قوله سبحانه: «شرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بهِ نُوحاً ...» (الشورى/ 13) فقد وصّى نبينا محمداً بما وصّى به نوحاً، من توحيده سبحانه وتنزيهه عن الشرك، والدعوة إلى مكارم الأخلاق والتنديد بالجرائم الخلقية، والقضاء على أسبابها، إلى غير ذلك ممّا تجده في صحف الأوّلين والآخرين.

وتتجلى تلك الحقيقة الناصعة، أي وحدة الشرائع السماوية، جوهراً من مختلف الآيات في شتى المواضع، قال سبحانه: «إنَّ الدِّين عِندَ اللَّهِ الإسلامُ ومَا اختلَفَ الَّذينَ أُتُوا الكِتابَ إلّامِنْ بَعدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغياً بَينَهُمْ» (آل عمران/ 19) وظاهر الآية يعطي أنّ الدين عند اللَّه- لم يزل ولن يزال- هو الإسلام في طول القرون والأجيال، ويعاضدها قوله تعالى: «ومَنْ يَبتَغِ غَيرَ الإسلامِ دِيناً فَلَنْ يُقبَلَ

ص:12

مِنهُ» (آل عمران/ 85). وقال سبحانه في مورد آخر مخطّئاً مزعمة اليهود والنصارى في رَمي- بطل التوحيد- إبراهيم باليهودية والنصرانية قال: «وما كانَ إبراهيمُ يَهودياً ولا نَصرانياًولكنْ كانَ حَنيفاً مُسلِماً وما كانَ منَ المُشرِكينَ» (آل عمران/ 67).

فحقيقة الشرائع السماوية في جميع الأدوار والأجيال كانت أمراً واحداً وهو التسليم في فرائضه وعزائمه وحده.

ولأجل ذلك كتب الرسول إلى قيصر عندما دعاه إلى الإسلام، قوله سبحانه: «قُلْ يا أهلَ الكِتابِ تَعالَوْا إلى كلمةٍ سَواءٍ بَيننا وبَينَكُمْ ألّا نَعبُدَ إلّااللَّهَ ولا نُشرِكَ بهِ شَيئاً ولا يتَّخِذَ بَعضُنا بَعضاً أرباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فإنْ تَولَّوْا فَقولُوا اشهَدُوا بأنّا مُسلِمُون» «(1)».

وقد أمر سبحانه في آية أُخرى رسوله بدعوة معشر اليهود أو الناس جميعاً إلى اتباع ملّة إبراهيم قال سبحانه: «فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهيمَ حَنيفاً وما كانَ منَ المُشرِكين» (آل عمران/ 95).

وصرّح سبحانه بأنّ كلّ نبيّ جاء عقب نبيّ آخر، كانَ يصرِّح بأنّه مصدِّق بوجود النبيّ المتقدم عليه وكتابه ودينه، فالمسيح مصدّق لما بين يديه من التوراة ومحمدصلى الله عليه و آله مصدّق لما بين يديه من الكتب وكتابه مهيمن عليه، كما قال سبحانه: «وَقفَّينا عَلى آثارِهمْ


1- السيرة الحلبية ج 2: ص 275، مسند أحمد ج 1: ص 262.

ص:13

بِعِيسَى ابنِ مَريمَ مُصدِّقاً لِما بَينَ يَديهِ منَ التَّوراة»، «وأنْزَلْنا إليكَ الكتابَ بِالحقِّ مُصدِّقاً لِما بَينَ يَدَيهِ منَ الكتابِ ومُهَيمناً عَليهِ» (المائدة/ 46، 48).

وهذه النصوص كلّها تعبّر عن وحدة أُصول الشرائع وجذورها ولبابها.

وعلى هذه فرسالة السماء إلى الأرض، رسالة واحدة في الحقيقة مقولة بالتشكيك، متكاملة عبر القرون جاء بها الرسل طوال الأجيال وكلّهم يحملون إلى المجتمع البشري رسالة واحدة لتصعد بهم إلى مدارج الكمال، وتهديهم إلى معالم الهداية ومكارم الأخلاق.

نعم كان البشر في أوليات حياتهم يعيشون في غاية البساطة والسذاجة، فما كانت لهم دولة تسوسهم، ولا مجتمع يخدمهم ولا ذرائع تربطهم، وكانت أواصر الوحدة ووشائج الارتباط بينهم ضعيفة جداً، فلأجل ذاك القصور في العقل، وقلة التقدم، وضعف الرقي، كانت تعاليم أنبيائهم، والأحكام المشروعة لهم، طفيفة في غاية البساطة، فلما أخذت الإنسانية بالتقدم والرقي، وكثرت المسائل يوماً فيوماً، اتسع نطاق الشريعة واكتملت الأحكام تلو هذه الأحوال والتطورات.

ص:14

فهذه الشرائع (مع اختلافها في بعض الفروع والأحكام نظراً إلى الأحوال الأُممية والشؤون الجغرافية) لا تختلف في أُصولها ولبابها، بل كلها تهدف إلى أمر واحد، وتسوق المجتمع إلى هدف مفرد، والاختلاف إنّما هو في الشريعة والمنهاج لا في المقاصد والغايات كما قال سبحانه: «لِكلٍّ جَعلْنا مِنكُمٍ شِرعةً ومِنهاجاً ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجعلَكُمْ أُمةً واحدةً ولكنْ لِيبلُوَكُمْ في ما آتاكُمْ فَاستَبِقُوا الخَيراتِ» (المائدة/ 48) «(1)».

وقال سبحانه: «ثُمِّ جَعلناكَ عَلى شَريعةٍ مِنَ الأمرِ فاتَّبِعْها ولا تَتَّبِعْ أهْواءَ الَّذينَ لا يَعلَمون» (الجاثية/ 18).

وخلاصة القول: أنّ السنن مختلفة، فللتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة ولكن الدين هو الأُصول والعقائد والأحكام التي تساير الفطرة الأنسانية ولا تخالفها، واحدة منها.

وهاتان الآيتان لا تهدفان إلى اختلاف الشرائع في جميع موادها، ومواردها اختلافاً كلّياً بحيث يكون من النسبة بينها نسبة التباين، كيف وهو سبحانه يأمر نبيَّه بالاقتداء بهدى أنبيائه


1- أي جعلنا لكلٍّ من موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام أو لكلٍّ من أُمم التوراة والإنجيل والقرآن شريعة وطريقاً خاصاً إلى ما هو الهدف الأقصى من بعث الرسل ومنهاجاً واضحاً، والاختلاف بين الكتب والشرائع جزئي لا كلّي، والنسخ في بعض الأحكام لا في جميعها

ص:15

السالفين ويقول: «أُولئكَ الَّذينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» (الأنعام/ 90).

نعم جاءت الرسل تترى، وتواصلت حلقات النبوّة في الأدوار الماضية إلى أن بعث اللَّه آخر سفرائه فأتمّ نعمته وأكمل به دينه، فأصبح المجتمع البشري في ظلّ دينه الكامل، وكتابه الجامع، غنياً عن تواصل الرسالة وتعاقب النبوّة، وأصبح البشر غير محتاجين إلى إرسال أيّ رسول بعده، إذ جاء الرسول بأكمل الشرائع وأتقنها وأجمعها للحقوق وبكل ما يحتاج إليه البشر في أدوار حياتهم وأنواع تطوراتهم وفي الوقت نفسه فيها مرونة تتمشى مع جميع الأزمنة والأجيال، من دون أن تمسّ جوهرَ الرسالة الأصلي بتحوير وتحريف. وإليك أدلّة خاتميته من الكتاب أولًا، والسنّة ثانياً، أمّا الكتاب ففيه نصوص:

النص الأول:

اشارة

قوله سبحانه: «ما كانَ محمدٌ أبا أحدٍ مِنْ رجالِكُمْ ولكنْ رَسولَ اللَّهِ وخاتَمَ النبيّينَ وكانَ اللَّهُ بِكلِّ شَي ءٍ عَليما» (الأحزاب/ 40).

توضيح الآية: تبنّى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله زيداً قبل عصر الرسالة وكانت العرب يُنزِّلون الأدعياء منزلة الأبناء في أحكام الزواج

ص:16

والميراث فأراد اللَّه سبحانه أن ينْسخ تلك السنّة الجاهلية، فأمر رسوله أن يتزوج زينب زوجة زيدٍ بعد مفارقته لها فلما تزوّجها رسول اللَّه أوجد ذلك ضجة بين المنافقين والمتوغّلين في النزعات الجاهلية والمنساقين وراءها، فردّ اللَّه سبحانه مزاعمهم بقوله «ما كانَ محمدٌ أبا أحدٍ مِنْ رجالِكُمْ» من الذين لم يلدهم ومنهم زيد «ولكن رَسولَ اللَّهِ» وهو لايترك ما أمره اللَّه به «وخاتَمَ النبيّينَ» وآخرهم خُتِمت به النبوّةُ فلا نبيّ بعده ولا شريعة بعد شريعته، فنبوّته أبدية وشريعته باقية إلى يوم الدين.

الخاتم وما يراد منه:

لقد قرئ لفظ الخاتم بوجهين:

الأول: بفتح التاء وعليه قراءة عاصم ويكون بمعنى الطابع الذي تختم به الرسائل والمواثيق فكان النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله بالنسبة إلى باب النبوة كالطابَع، ختم به باب النبوة واوصِدَ واغْلِقَ فلا يفتح أبدا.

الثاني: بكسر التاء وعليه يكون اسم فاعل أي الذي يختم باب النبوة وعلى كلتا القراءتين فالآيةصريحة على أنّ باب النبوة أو بعث الأنبياء خُتم بمجي ء النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله.

ص:17

قال أبو محمد الدميري:

والخاتِم الفاعلُ قُل بالكسر وما به يُختم فتحاً يجري

وأنت إذا راجعت التفاسير المؤلّفة منذ العصور الأُولى إلى يومنا هذا ترى أنّ عامة المفسرين يفسرونها بما ذكرنا ويصرحون بأنّ وصفهصلّى اللَّه عليه وآله وتشبيهه بالخاتم (بالفتح) لأنّه كان الرسم الدائر بين العرب هو ختم الرسالات بخاتمهم الذي بين أصابعهم، فكانت خواتيمهم طوابَعهم فكانَّ النبيّ الأكرم بين الأنبياء هو الخاتم ختم به باب النبوات، ولك أن تستلهم هذا المعنى من الآيات الكثيرة التي وردت فيها مادة تلك الكلمة، فترى أنّ جميعها يفيد هذا المعنى.

كالآيات التالية:

1-/ قال سبحانه: «يُسقَونَ مِنْ رَحيقٍ مَختُوم» (المطففين/ 25) أي مختوم بابه بشي ء مثل الشمع وغيره دليلًا على خلوصه.

2-/ وقال سبحانه: «خِتامُهُ مِسكٌ وفي ذلك فَلْيتنافَسِ المُتنافِسُونَ» (المطففين/ 26) اي آخر شربه تفوح منه رائحة المسك.

3-/ وقال سبحانه: «اليومَ نَختِمُ عَلى أفواهِهِمْ وتُكلِّمنا أيدِيهِمْ» (يس/ 65) أي يطبع على أفواههم فتوصدُ، وتَتكلَّم أيديهم.

إلى غير ذلك من الآيات التي وردت فيها مادة تلك الكلمة،

ص:18

والكلّ يهدف إلى الانتهاء والانقطاع وفي مورد الآية .. إنتهاء النبوة وانقطاعها.

النص الثاني:

قوله سبحانه: «تَباركَ الَّذي نَزَّلَ الفُرقانَ على عَبدِهِ ليكونَ لِلعالَمينَ نَذيرا» (الفرقان/ 1).

والآيةصريحة في أنّ الغاية من تنزيل القرآن على عبده (النبيّ الأعظم)صلى الله عليه و آله كون القرآن نذيراً للعالمين من بدء نزوله إلى يوم يبعثون، من غير فرق بين تفسيرها بالإنس والجن أو الناس أجمعهم، وإن كان الثاني هو المتعين، فانّ العالمين في الذكر الحكيم جاء بهذا المعنى.

قال سبحانه حاكياً عن لسان لوط: «قالَ إنَّ هؤلاءِ ضَيفي فلا تَفْضَحونِ* واتَّقوا اللَّهَ ولا تُخزونِ* قالوا أوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالَمين» (الحجر/ 68-/ 70).

فإنّ المراد من العالمين في كلامهم هم الناس إذ لا معنى لأن ينهونه عن استضافة الجن والملائكة، ونظيره قوله سبحانه حاكياً عن لسان لوط: «أتأتونَ الذُّكرانَ مِنَ العالَمين» (الشعراء/ 165) فالمراد من العالمين في كلتا الآيتين هم الناس.

ص:19

وبذلك يعلم قوة ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام من أنّ العالمين عنى به الناس وجعل كل واحد عالما، ولا يعدل عن ذلك الظاهر إلّا بقرينة وبما أنّه لا قرينة على العدول من الظاهر فيكون معنى قوله: «ليكونَ لِلعالَمينَ نَذيرا» أي نذيراً للناس أجمعهم من يوم نزوله إلى يوم يبعثون.

النص الثالث:

قوله سبحانه: «إنَّ الَّذينَ كَفروا بالذِّكرِ لما جاءَهُمْ وإنَّهُ لَكتابٌ عزيزٌ* لا يأتِيهِ الباطِلُ مِنْ بينِ يَديهِ ولا مِنْ خَلفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميد» (فصلت/ 41-/ 42).

وجه الدلالة على الخاتمية، أنّ المراد من الذكر هو القرآن بقرينة قوله سبحانه: «ذلكَ نتلُوه عليكَ منَ الآياتِ والذِّكرِ الحَكيمِ» (آل عمران/ 58).

والضمير في «لا يأتيه» يرجع إلى الذكر ومفاد الآية أنّ الباطل لا يتطرق إليه ولا يجد إليه سبيلًا من أيّ جهة من الجهات، فلا يأتيه الباطل بأيّةصورة متصورة، ودونكصوره.

1- «لا يأتيه الباطل أي لا ينقص منه شي ء ولا يزيد عليه شي ء».

ص:20

2- «لا يأتيه الباطل: أي لا يأتيه كتاب يبطله وينسخه وأن يجعله سُدى فهو حقّ ثابت لا يبدّل ولا يغيّر ولا يترك».

3- «لا يأتيه الباطل: لا يتطرق الباطل في إخباره عمّا مضى ولا في إخباره بما يجي ء، فكلها تطابق الواقع».

وحاصل الآية، أنّ القرآن حق لا يداخله الباطل إلى يوم القيامة، فإذا كان حقاً مطلقاً مصوناً عن تسلل البطلان إليه ومتبعاً للناس إلى يوم القيامة يجب عند ذلك دوام رسالته وثبات نبوته وخاتمية شريعته.

وبتعبير آخر أنّ الشريعة الجديدة إمّا أن تكون عين الشريعة الإسلامية الحقّة أو غيرها، فعلى الأول لا حاجة إلى الثانية، وعلى الثاني: فإمّا أن تكون الثانية حقّة كالأُولى فيلزم كون المتناقضين حقاً أو أن تكون الأُولى حقاً دون الأُخرى وهذا هو المطلوب، وشريعة الرسول الأعظم جزءٌ من الكتاب الحق الذي لا يدانيه الباطل وسنّته المحكمة التي لا تصدر إلّابإيحاء منه كما قال تعالى «وما يَنطِقُ عَنِ الهَوى* إنْ هُوَ إلّاوَحيٌ يُوحى* عَلَّمَهُ شَديدُ القُوى» (النجم/ 3-/ 5) فالآيةصريحة في نفي أيّ تشريع بعد القرآن وأيّة شريعة بعد الإسلام، فتدلّ بالملازمة على عدم النبوة التشريعية بعد نبوته.

ص:21

النص الرابع:

قوله سبحانه: «قُلْ أيُّ شَي ءٍ أكبرُ شهادةً قُلِ اللَّهُ شَهيدٌ بَيني وبينَكُمْ وَاوحيَ إليَّ هذا القُرآنُ لأُنذرَكُمْ بهِ ومَنْ بَلَغ ...» (الأنعام/ 19).

وظاهر الآية: أنّ الغاية من نزول القرآن تحذير من بلغه إلى يوم القيامة وبذلك يُفسّر قوله سبحانه في آية اخرى: «وكذلكَ أوحينا إليكَ قُرآناً عَربياً لِتُنذِرَ امَّ القُرى ومَنْ حَولَها ...» (الشورى/ 7).

فإنّ المراد «ومَن حولها» جميع أقطار المعمورة، وعلى فرض انصرافها عن هذا المعنى العام فلا مفهوم للآية بعد ورود قوله سبحانه: «لأُنذركُمْ بهِ ومَنْ بَلَغ».

النص الخامس:

قوله سبحانه «وما أرسلناكَ إلّاكافةً للنّاسِ بَشيراً ونذيراً ولكنَّ أكثرَ النّاسِ لا يعلَمون» (سبأ/ 28).

والمتبادر من الآية كون «كافّة» حالًا من الناس قُدّمتْ على ذيها وتقدير الآية وما أرسلناك إلّاللناس كافة بشيراً ونذيراً.

وإليك محصّل الآيات الخمس:

أمّا الأُولى فهو: أنّ باب الإخبار عن السماء الذي كان هو النبوة

ص:22

قد اوصد وبإي صاده تكون النبوّة مختومة وبختمها تكون الشريعة المحمدية أبديّة لأنّ تجديد الشريعة فرع فتح باب النبوة، فإذا كان التنبؤ بإخبار السماء مغلقاً فلا يمكن الإخبار عن السماء بوجه من الوجوه ومنها نسخ الشريعة.

وأمّا الآيات الأربع الباقية فهيصريحة ببقاء الشريعة الإسلامية بعموميتها، فمجموع الآيات يركِّز على أمر واحد: غلق باب النبوة وأبدية الشريعة الإسلامية.

هذه هي النصوص، ومع ذلك ففي القرآن إشارات إلى الخاتمية بعناوين أُخرى نشير إلى بعض منها:

الأُولى: «أفغيرَ اللَّهِ أبتغي حَكَماً وهوَ الَّذي أنزلَ إلَيكُمُ الكتابَ مُفَصَّلًا والَّذينَ آتَيناهُمُ الكتابَ يَعَلمونَ أنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالحقِّ فَلا تكونَنَّ مِنَ المُمْتَرينَ* وتَمَّتْ كَلِمةُ ربِّكَصِدْقاً وَعدْلًا لا مُبدِّلَ لِكلماتِهِ وهوَ السَّميعُ العَليمُ» (الأنعام/ 114-/ 115).

إنّ دلالة قوله سبحانه «وتمّت كلمةُ رَبِّك ...» على إيصاد باب الوحي إلى يوم القيامة واضحة بعد الوقوف على معنى الكلمة، فإنّ المراد منها الدعوة الإسلامية، أو القرآن الكريم وما فيه من شرائع وأحكام والشاهد عليها الآية المتقدمة حيث قال سبحانه:

«وهوَالَّذي أنزلَ إلَيكُمُ الكتابَ مُفَصَّلًا والَّذينَ آتَيناهُمُ الكتابَ

ص:23

يَعَلمونَ أنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالحقِّ» فالمراد من قوله «أنزلَ إلَيكُمُ الكتابَ» هو القرآن النازل على العالمين، ثم يقول: بأنّ الذين آتيناهم الكتاب من قبل كاليهود والنصارى إذا تخلّصوا من الهوى يعلمون أنّ القرآن وحي إلهي كالتوراة والإنجيل، وانّه منزلٌ من اللَّه سبحانه بالحق، فلا يصح لأيّ منصف أن يتردّد في كونه نازلًا منه إلى هداية الناس.

ثم يقول في الآية التالية: «وتمّت كلمةُ ربِّكَ» بظهور الدعوة المحمدية، ونزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب وصارت مستقرة في محلّها بعدما كانت تسير دهراً طويلًا في مدارج التدرّج بنبوة بعد نبوّة وشريعة بعد شريعة «(1)».

وهذه الكلمة الإلهية- أعني الدعوة الإلهية المستوحاة في القرآن الكريم-صدق لا يشوبه كذب وما فيه من الأحكام من الأمر والنهي، عدل لا يخالطه ظلم، ولأجل تلك التمامية لاتتبدل كلماته وأحكامه من بعد «(2)».

هذه نظرة إلى القرآن حول الخاتمية ومن أراد التفصيل والتحقيق فليراجع التفاسير، وكما أنّ الكتاب الحكيم اهتمّ


1- الطباطبائي، الميزان 7: 338، الطبرسي، مجمع البيان 2: 354.
2- وقد استعملت الكلمات في القرآن الكريم في الشرائع الإلهية قال سبحانه واصفاً مريم:« وَصدَّقتْ بِكلماتِ ربِّها وكُتُبهِ ...» التحريم: 12.

ص:24

بالخاتمية، فهكذا اهتمت بها السنّة النبوية وروايات العترة الطاهرة ولو حاولنا أن نذكر ما وقفنا عليه في ذلك المجال من المآثر لطال موقفنا مع القراء ولذلك نقتصر على اثنتي عشرة رواية مع أنّ المأثور يتجاوز المائة.

ص:25

الفصل الثاني الخاتمية في الأحاديث النبوية

اشارة

لقد حصحص الحقّ بما أوردناه من النصوص القرآنية وانكشف الريب عن مُحيّا الواقع فلم تبق لمجادلٍ شبهة في أنّ الرسول في الذكر الحكيم خاتم النبيين وشريعته خاتمة الشرائع وكتابَه خاتم الكتب.

وقد وردت الخاتمية على لسان النبيّ الأكرم، نذكر منها ما يأتي:

1- خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من المدينة إلى غزوة تبوك وخرج الناس معه فقال علي عليه السلام: أخرج معك؟ فقال: لا، فبكى عليّ فقال له رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من

ص:26

موسى إلّاأنّه لا نبيّ بعدي أو ليس بعدي نبيّ ولا ينبغي أن أذهب إلّا وأنت خليفتي».

والحديث على لسان المحدّثين حديث المنزلة لأنّ النبيّ نزل فيه نفسه منزلة موسى ونزل عليّاً مكان هارون، أخرجه البخاري فيصحيحه في غزوة تبوك، ومسلم فيصحيحه في باب فضائل علي عليه السلام، وابن ماجة في سننه في باب فضائل أصحاب النبيّ، والحاكم في مستدركه في مناقب علي عليه السلام وإمام الحنابلة في مسنده بطرق كثيرة «(1)».

ووضوح دلالة الحديث على الخاتمية بمكان أغنانا عن البحث حولها.

2- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «مَثَلي ومَثل الأنبياء كمَثل رجلٍ بنى داراً فأتمّها وأكملها إلّاموضع لبنة» فجعل الناس يدخلونها ويتعجّبون منها ويقولون لو لا موضع هذه اللّبنة، قال رسول اللَّه:

«فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء». أخرجه البخاري ومسلم والترمذي «(2)».


1- البخاري، الصحيح 3: 58، مسلم، الصحيح 2: 323، ابن ماجة، السنن 1: 28، الحاكم، المستدرك 3: 109، أحمد بن حنبل، المسند 1: 321، و 2: 369، 437.
2- منصور علي ناصف، التاج الجامع للأُصول 3: 22 والكتاب يجمع أحاديث الخمسة إلّاابن ماجة.

ص:27

3- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأحمد، أنا الماحي يمحو اللَّه بي الكفر، وأنا الحاشر، يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي» «(1)».

4- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وأنا أوّل شافع ومشفع ولا فخر» «(2)».

5- قال النبي صلى الله عليه و آله: يا علي أخصمك بالنبوّة فلا نبوة بعدي وتخصم الناس بسبع ولا يجاحدك فيها أحد من قريش، أنت أوّلهم إيماناً باللَّه» «(3)».

6- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إنّ الرسالة والنبوّة قد انقطعت ولا رسولَ بعدي ولا نبيّ» قال: فشق ذلك على الناس فقال: «ولكن المبشرات» فقالوا: يا رسول اللَّه وما المبشرات؟ فقال: «رؤيا المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة» «(4)».

7- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ارسلتُ إلى الناس كافّة وبي خُتم النبيون» «(5)».


1- مسلم، الصحيح 8: 89، مسند أحمد 4: 81 و 84، ابن سعد، الطبقات الكبرى 1: 65.
2- الدارمي، السنن 1: 27.
3- أبو نعيم الاصفهاني، حلية الأولياء 1: 66.
4- الترمذي، السنن 3: 364.
5- الإمام أحمد، المسند 2: 412، ابن سعد، الطبقات 1: 128.

ص:28

8- قال النبي صلى الله عليه و آله: «كنت أوّل الناس في الخلق وآخرهم في البعث» «(1)».

9- استأذن العباس بن عبد المطلب النبيّ في الهجرة فقال له:

«يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه فإنّ اللَّه تعالى يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوة» ثم هاجر إلى النبي وشهد معه فتح مكة وانقطعت الهجرة «(2)».

10- قالصلى الله عليه و آله: «يكون في امتي ثلاثون كذّاباً، كلّهم يزعم أنّه نبيّ وأنا خاتم النبيين، لا نبيّ بعدي» «(3)».

11- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «فُضِّلتُ بستٍّ: اعطيتُ جوامعَ الكلم، ونُصِرتُ بالرعب، وأُحلّت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وارسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون» «(4)».

12- روى الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام عن النبيصلى الله عليه و آله أنه قال:

قال النبي صلى الله عليه و آله: «يا أيّها الناس إنّه لا نبيّ بعدي ولا سنّة بعد سنتي،


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى 1: 96، القندوزي، ينابيع المودة: 17 وفيه أول الأنبياء في الخلق.
2- الجزري، اسد الغابة 3: 110.
3- الجزري، عن الترمذي، الجامع للأُصول 10: 410.
4- السيوطي، الجامع الصغير 2: 126.

ص:29

فمن ادّعى ذلك فدعواه وبدعته في النار فاقتلوه ومن تبعه فانّه في النار» «(1)».

الخاتمية في أحاديث العترة الطاهرة

قد روي عن النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله أحاديث اخر في مجال كونه خاتماً غير أنّ ذكر الجميع غير ميسور لنا، واردف البحث بما روي عن عترته الطاهرة عليهم السلام في هذا المجال، ونقتصر على القليل من الكثير، فإنّ المروي عنه في ذلك المجال متوفر جداً.

1- قال الإمام عليّ عليه السلام: إلى أن بَعثَ اللَّه محمداًصلى الله عليه و آله لإنجاز عدته وإتمام نبوته، مأخوذاً على النبيين ميثاقه، مشهورة سماتُه، كريماً ميلادُه «(2)».

2- قال الإمام عليّ عليه السلام: إجعل شريفصلواتك ونامي بركاتك على محمدصلى الله عليه و آله عبدك ورسولك الخاتم لما سبق «(3)».

3- وقال عليه السلام: أرسله على حين فترة من الرسل، وتنازع من الألسن، فقفا به الرسلَ وختَم به الوحي «(4)».

4- قال عليه السلام وهو يلي غسل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وتجهيزه: بأبي أنت


1- الصدوق، الفقيه 4: 163.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 1.
3- نهج البلاغة، الخطبة: 69.
4- نهج البلاغة، الخطبة: 129.

ص:30

وأُمي لقد انقطع بموتك مالم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والأنباء وأخبار السماء، خصّصت حتىصِرتَ مسلّياً عمّن سواك وعمّمتَ حتىصار الناس فيك سواء «(1)». هذا وقد روي عن غير الإمام علي عليه السلام من العترة الطاهرة ونذكر منهم ما يأتي:

5- عن فاطمة الزهراء عليها السلام قالت: لمّا حملتُ بالحسن وولدته جاء النبي ثم هبط جبرئيل فقال: يا محمد! العليّ الأعلى يقرؤك السلام ويقول عليٌّ مِنك بمنزلة هارون من موسى ولا نبيّ بعدك سَمّ ابنك هذا باسم ابن هارون «(2)».

6- وروي عن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: جاء نفر إلى رسول اللَّه فقالوا: يا محمد إنّك الذي تزعم أنّك رسول اللَّه وأنّك الذي يوحى إليك كما أوحى اللَّه إلى موسى بن عمران؟ فسكت النبيّ ساعة ثم قال: «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر، وأنا خاتم النبيين، وإمام المتّقين ورسول ربّ العالمين» «(3)».

7- روي عن الحسين بن علي عليهما السلام أنّه قال لرسول اللَّه:

فأخبرني يا رسول اللَّه هل يكون بعدك نبي؟ فقال: «لا، أنا خاتم النبيّين لكن يكون بعدي أئمة قوّامون بالقسط، بعدد نقباء بني


1- نهج البلاغة، الخطبة: 235.
2- الصدوق، عيون أخبار الرضا 2: 25.
3- البحراني، البرهان 2: 41.

ص:31

إسرائيل» «(1)».

8- وقال الإمام السجّاد عليه السلام في بعض أدعيته:صلّ على محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين وأهل بيته الطيبين الطاهرين وأعذْنا وأهالينا وإخواننا وجميع المؤمنين والمؤمنات مما استعذنا منه «(2)».

9- وقال الإمام الباقر في حديث: وقد ختم اللَّه بكتابكم الكُتبَ وختم بنبيّكم الأنبياءَ «(3)».

10- وقال الإمام الصادق عليه السلام: فكلّ نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه حتى جاء محمدصلى الله عليه و آله فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة «(4)».

11- وقال عليه السلام: بعث اللَّه سبحانه أنبياءَه ورسلَه ونبيَّه محمداً، فأفضل الدين معرفة الرسل وولايتِهم، وأخبرك أنّ اللَّه أحلّ حلالًا وحرّم حراماً إلى يوم القيامة «(5)».

12- روى زرارة قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الحرام


1- ابن شهر آشوب، المناقب 2: 300، الحر العاملي، إثبات الهداة 2: 544.
2- الإمام السجاد، الصحيفة السجادية، الدعاء: 17.
3- الكليني، الكافي 1: 177، الفيض، الوافي 2: 19.
4- الكليني، الكافي 2: 17، البرقي، المحاسن: 196.
5- المجلسي، البحار 24: 288.

ص:32

والحلال فقال: حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة لايكون غيره ولا يجي ء غيره «(1)».

13- وقال الإمام موسى الكاظم عليه السلام: إذا وقفت على قبر رسول اللَّه فقل أشهد أن لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له وأشهد أنّك خاتم النبيين «(2)».

14- وقال الإمام الرضا عليه السلام في سؤال من سأله: ما بال القرآن، لا يزداد عند النشر والدراسة إلّاغضاضة؟ قال: لأنّ اللَّه لم ينزّله لزمان دون زمان ولا لناسٍ دون ناس فهو في كل زمانٍ جديد، وعند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة «(3)».

هذه أربعة عشر حديثاً عن العترة الطاهرة، ولو أردنا أن نذكر ما وقفنا عليه لطال بنا المقام، غير أنّ المهم طرح أسئلة حول الخاتمية وتحليلها بإيجاز.


1- الكليني، الكافي 1: 57.
2- الصدوق، عيون أخبار الرضا 2: 87.
3- الصدوق، عيون أخبار الرضا 2: 87.

ص:33

الفصل الثالث أسئلة حول الخاتمية

اشارة

هناك أسئلة حول الخاتمية تثار بين آونة وأُخرى، وهي بين سؤال قرآني فلسفي وفقهي، ونكتفي من الأول بواحد من الأسئلة.

*** السؤال الأول: تنصيص القرآن على أنّ جميع أهل الشرائع ينالون ثواب اللَّه.

إنّ القرآن الكريم ينصّ على أنّ المؤمنين باللَّه وباليوم الآخر من جميع الشرائع سينالون ثواب اللَّه وأنّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ومعنى ذلك أنّ جميع الشرائع السماوية تُحفَظ إلى جانب

ص:34

الإسلام، وأنّ أتباعها ناجون شأنُهم شأن من اعترف بالإسلام وصار تحت لوائه تماماً، وعلى ضوء هذا، فكيف تكون الشريعة الإسلامية واقعة في آخر مسلسل الشرائع السماوية وكيف تكون رسالته خاتمة الشرائع؟ وإليك ما يدل على ذلك حسب نظر السائل:

1- قال سبحانه: «إنَّ الَّذينَ آمَنوا والَّذينَ هادُوا والنّصارى والصّابئينَ مَنْ آمنَ باللَّهِ واليومِ الآخرِ وعَمِلَصالحاً فَلهُمْ أجرُهُمْ عندَ رَبِّهِمْ ولا خَوفٌ عَليهِمْ ولا هُمْ يَحزَنُونَ» (البقرة/ 62).

2- «إنَّ الَّذينَ آمَنوا والَّذينَ هادُوا والصّابئونَ والنّصارى مَنْ آمنَ باللَّهِ واليومِ الآخِرِ وعَمِلَصالحاً فَلا خَوفٌ عَلَيهِمْ ولا هُمْ يَحزَنُونَ» (المائدة/ 69).

3- «إنَّ الَّذينَ آمَنوا والَّذينَ هادُوا والصّابئينَ والنّصارى والمجوسَ والَّذينَ أشرَكوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَينهُمْ يومَ القيامةِ إنّ اللَّه على كلِّ شَي ءٍ شَهيد» (الحج/ 17).

إنّ استنتاج بقاء شرعية الشرائع السماوية من هذه الآيات مبنيّ على غضّ النظر عمّا تهدف إليه الآيات وذلك أنّ الآيات بصدد ردّ مزاعم ثلاثة كانت اليهود تتبناها، لا بصدد بيان بقاء شرائعهم بعد بعثة الرسول الأكرمصلى الله عليه و آله. وهي:

ص:35

1- فكرة «الشعب المختار»:

كانت اليهود والنصارى يستولون على المسلمين بل العالم بادّعائهم فكرة «الشعب المختار» بل إنّ كل واحدة من هاتين الطائفتين: اليهود والنصارى، كانت تدّعي أنّها أرقى أنواع البشر، وكانت اليهود أكثرهم تمسّكاً بهذا الزعم وقد نقل عنهم سبحانه قولهم:

«وقالَتِ اليَهودُ والنّصارى نحنُ أبناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعذِّبُكُمْ بِذُنُوبكُمْ بَلْ أنتُمْ بَشَرٌ مِمَّن خَلَق ...» (المائدة/ 18) واللَّه سبحانه يردّ هذا الزعم بكلّ قوة عندما يقول: «فَلِمَ يُعذِّبُكُمْ بِذُنُوبكُمْ»، وقد بلغت أنانية اليهود واستعلاؤهم الزائف حدّاً بالغاً وكأنّهم قد أخذوا على اللَّه عهداً بأن يستخلصهم ويختارهم، حيث قالوا: «وقالُوا لَنْ تَمسَّنا النّارُ إلّاأياماً مَعدُودَةً» (البقرة/ 80).

2- الانتماء إلى اليهودية والنصرانية مفتاح الجنة:

قد كانت اليهود والنصارى تبثّان وراء فكرة: الشعب المختار، فكرة أُخرى، وهي: أنّ الجنة نصيب كل من ينتسب إلى بني إسرائيل أو يُسمّى مسيحياً ليس إلّا، وكأنَّ الأسماء والانتساب مفاتيح للجنة، قال سبحانه ناقلًا عنهم: «وقالُوا لَنْ يَدخُلَ الجنَّةَ

ص:36

مَنْ كانَ هُوداً أو نَصارى» (البقرة/ 111).

ولكنّ القرآن يرد عليهم ويقول: «تِلكَ أمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرهانَكُمْ إنْ كُنتُمْصادِقين* بَلى مَنْ أسلَمَ وَجهَهُ للَّهِ وهوَ مُحسنٌ فَلهُ أجرُهُ عندَ ربِّهِ ولا خوفٌ عَلَيهم ولا هُمْ يحزَنُون» (البقرة/ 111-/ 112) فانّ قوله سبحانه «بَلى مَنْ أسلَمَ» يعني الإيمان الخالص وقوله: «وهوَ مُحسنٌ» يعني العمل وفق ذلك الإيمان وكلتا الجملتين تدلّان على أنّ السبيل الوحيد إلى النجاة يوم القيامة هو الإيمان والعمل لا الانتساب إلى اليهودية، والنصرانية، فليست هي مسألة الأسماء وإنّما هي مسألة إيمانصادق وعملصالح.

3- الهداية في اعتناق اليهودية والنصرانية:

اشارة

وهذا الزعم غير الزعم الثاني، ففي الثاني كانوا يقتصرون في النجاة بالانتماء إلى الأسماء وفي الأخير يتصوّرون أنّ الهداية الحقيقية تنحصر في الاعتناق باليهودية والنصرانية «وقالُوا كونُوا هُوداً أو نَصارى تَهتَدوا» (البقرة/ 135) والقرآن الكريم يردّ هذه الفكرة كما سبق، ويقول انّ الهداية الحقيقية تنحصر في الاقتداء بملّة إبراهيم واعتناق مذهبه في التّوحيد الخالص الذي أمر الأنبياء بإشاعته بين أُممهم، قال سبحانه «قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبراهيمَ حَنيفاً وما كانَ مِنَ المُشركين» (البقرة/ 135) وفي آية أُخرى «ما كانَ إبراهيمُ يَهودياً

ص:37

ولا نَصرانياً ولكنْ كانَ حَنيفاً مُسلماً وما كانَ مِنَ المُشركين» (آل عمران/ 67).

نستخلص من كل هذه الآيات أنّ اليهودَ والمسيحيّين وبخاصة القدامى منهم كانوا يحاولون- بهذه الأفكار الواهية- التفوق على البشر، والتمرّد على تعاليم اللَّه، والتخلّص بصورة خاصة من الانضواء تحت لواء الإسلام، مرة بافتعال اكذوبة (الشعب المختار) الذي لا ينبغي أن يخضع لأيّ تكليف، ومرة أُخرى بافتعال خرافة (الأسماء والانتساب) وادّعاء النجاة بسبب ذلك والحصول على مغفرة اللَّه وجنّته وثوابه.

ومرّة ثالثة بتخصيص (الهداية) وحصرها في الانتساب إلى إحدى الطائفتين بينما نجد أنّه كلّما مرّ القرآن على ذكر هذه المزاعم الخرافية أعلن بكلّصراحة وتأكيد: أنّه لافرق بين إنسان إلّا بتقوى اللَّه فإنّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم.

وأمّا النجاة والجنة فمن نصيب من يؤمن باللَّه، ويعمل بأوامره دونما نقصان لاغير، وهو بهذا يقصد تفنيد مزاعم اليهود والنصارى الجوفاء.

بهذا البحث حول الآيات الثلاث (المذكورة في مطلع البحث) نكشف بطلان الرأي القائل بأن الإسلام أقرّ- في هذه الآيات- مبدأ (الوفاق الإسلامي المسيحي واليهودي) تمهيداً لإنكار عالمية

ص:38

الرسالة الإسلامية وخاتميتها، بينما نجد أنّ غاية ما يتوخّاه القرآن- في هذه الآيات- إنما هو فقط نسف وإبطال عقيدة اليهود والنصارى وليعلن مكانه بأنّ النجاة إنما هي بالإيمان الصادق والعمل الصالح.

فلا استعلاء ولا تفوّق لطائفة على غيرها من البشر مطلقاً، كما أنّ هذا التشبّث الفارغ بالأسماء والدعاوى ليس إلّامن نتائج العناد والاستكبار عن الحق.

فليست الأسماء ولا الانتساب هي التي تنجي أحداً في العالم الآخر، وإنّما هو الإيمان والعمل الصالح، وهذا الباب مفتوح في وجه كل إنسان يهودياً كان أو نصرانياً، مجوسياً أو غيرهم.

ويوضّح المراد من هذه الآية قوله سبحانه: «وَلو أنّ أهلَ الكِتابِ آمَنوا واتَّقَوا لَكفَّرنا عَنهمْ سَيِّئاتِهِمْ ولأدخلناهُمْ جَنّاتِ النَّعيم» (المائدة/ 65).

فتصرح الآية بانفتاح هذا الباب بمصراعيه في وجه البشر كافة من غير فرق بين جماعة دون جماعة حتى أنّ أهل الكتاب لو آمنوا بما آمن به المسلمون لقبلنا إيمانهم وكفّرنا عنهم سيئاتهم.

هذا هو كل ما كان يريد القرآن بيانه من خلال هذه الآيات، وليس أيّ شي ء آخر.

ص:39

إذن فلا دلالة لهذه الآيات الثلاث على إقرار الإسلام لشرعية الشرائع بعد ظهوره ... وإنّما تدلّ على أنّ القرآن يحاول بها إبطال بعض المزاعم.

هذا كله حول السؤال القرآني، وهناك أسئلة أُخرى جديرة بالذكر والتحليل، وإليك بيانها:

*** السؤال الثاني: لماذا ختمت النبوّة التبليغية؟

إنّ الشريعة الإسلامية شريعة متكاملة الأركان فلا شريعة بعدها، ومع الاعتراف بذلك يطرح هذا السؤال:

إنّ الأنبياء كانوا على قسمين: منهم من كانصاحب شريعة، ومنهم من كان مبلّغاً لشريعة مَن قبله من الأنبياء، كأكثر أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يبلِّغون شريعة موسى بين أقوامهم.

هب أنّه ختم باب النبوّة التشريعية لكون الشريعة الإسلامية متكاملة، فلماذا ختم باب النبوة التبليغية؟

والجواب عنه، غنى الأُمة الإسلامية عن هذا النوع من النبوّة، وذلك بوجهين:

الوجه الأول: انّ النبي الأكرم ترك بين الأُمة الكتابَ والعترة وعرّفهما إليها، وقال: لن تضل الامة مادامت متمسّكة بهما.

ص:40

فإذا كانت الهداية تكمن في التمسك بهما فالامة الإسلامية في غنى عن المهمة التبليغية إذ مهمتها موجَدة بالتمسك بهما فالعترة الطاهرة مشاعل الحق، ومنارات التوحيد، أغنت الأمة، علومُهم وتوجيهاتُهم عن بعث نبي يبلّغ رسالات اللَّه، وهذا إجمال الكلام في أئمة أهل البيت عليهم السلام والتفصيل موكول إلى محلّه.

الوجه الثاني: انّ علماء الأُمة المأمورين بالتبليغ بعد التفقه أغنوا الأُمة عن أيّ نبوّة تبليغية، قال سبحانه «فَلو لا نفَر مِنْ كُلِّ فِرقةٍ مِنهُمْ طائفةٌ لِيتفقَّهوا في الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَومَهُمْ إذا رَجَعوا إلَيهم لَعلَّهم يَحذَرون» (التوبة/ 122) وقال سبحانه «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمةٌ يَدعونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بالمَعرُوفِ وَينهَونَ عَنِ المُنكَرِ» (آل عمران/ 104).

*** السؤال الثالث: لماذا حرم الخلف من المكاشفة الغيبية والاتصال بعالم الغيب واستطلاع ما هناك من المعارف والحقائق؟

الجواب: انّ الفتوحات الغيبية من المكاشفات والمشاهدات الروحية لم توصد بابها وإنّما أوصد باب خاص وهو باب النبوة الذي يحمل الوحي التشريعي أو التبليغي.

قال سبحانه: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنفسهِم حتّى يتبيَّنَ لَهُمْ أنّهُ الحقُّ أوَلَمْ يَكفِ بِربِّكَ أنَّهُ على كُلِّ شي ءٍ شَهيد» (فصلت/ 53).

ص:41

فالفتوحات الباطنية من المكاشفات والإلقاءات في الروع غير مسدودة بنصّ الكتاب العزيز قال سبحانه «يا أيُّها الذينَ آمَنوا إن تَتَّقوا يجعلْ لَكُمْ فُرقانا» (الأنفال/ 29) أي يجعل في قلوبكم نوراً تفرِّقون به بين الحقِّ والباطل وتميِّزون به بين الصحيح والزائف لا بالبرهنة والاستلال بل بالشهود والمكاشفة، قال سبحانه «يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا اتَّقوا اللَّهَ وآمِنوا برسولهِ يُؤْتِكُمْ كِفلَينِ مِنْ رَحمتهِ ويَجعلْ لَكُمْ نُوراً تَمشونَ بهِ ويَغفرْ لَكُمْ واللَّهُ غَفورٌ رَحيم» (الحديد/ 28).

وهناك آيات وروايات تدل بوضوح على انفتاح هذا الباب في وجه الإنسان، نكتفي بما ذكرناه.

*** السؤال الرابع: ادّعاء النقص في التشريع الإسلامي.

كلّما تكاملت جوانب الحضارة وتشابكت، وتعددت ألوانها، واجه المجتمع أوضاعاً وأحداثاً جديدة وطرحت عليه مشاكل طارئة لا عهد للأزمنة السابقة بها، إذن فحاجة المجتمع إلى قوانين وتشريعات جديدة لا تزال تتزايد كل يوم تبعاً لذلك، وما جاء به الرسول لا يجاوز قوانين محدودة، فكيف تفي النصوص المحدودة بالحوادث الطارئة غير المتناهية؟

الجواب: انّ خلود التشريع وبقاءه في جميع الأجيال ومسايرته

ص:42

للحضارات الإنسانية، واستغناءه عن كل تشريع سواه، يتوقف على وجود أمرين فيه:

الأول: أن يكون التشريع ذا مادة حيوية خلّاقة للتفاصيل بحيث يقدر معها علماء الامة والأخصّائيون منهم، على استنباط كلّ حكم يحتاج إليه المجتمع البشري في كلّ عصر من الأعصار.

الثاني: أن ينظر إلى الكون والمجتمع بسعة وانطلاق، مع مرونة خاصة تماشي جميع الأزمنة والأجيال، وتساير الحضارات الإنسانية المتعاقبة، وقد أحرز التشريع الإسلامي كِلا الأمرين، أمّا الأول فقد أحرزه بتنفيذ أُمور:

الف- الاعتراف بحجية العقل في مجالات خاصة:

إنّ من سمات التشريع الإسلامي التي يمتاز بها عن سائر التشريعات هي إدخال العقل في دائرة التشريع والاعتراف بحجيته في الموارد التي يصلح له التدخّل والقضاء فيها، فالعقل أحد الحجج الشرعيّة وفي مصاف المصادر الأُخرى للتشريع، وقد فتح هذا الاعتراف للتشريع الإسلامي سعةً وانطلاقاً وشمولًا لما يتجدّد من الأحداث ولما يطرأ من الأوضاع الاجتماعية الجديدة.

إنّ الملازمة بين حُكمي العقل والشرع (إنّه كلّما حكمَ بِه العقلُ

ص:43

حكمَ بِه الشرع) ترفع كثيراً من المشاكل التي لم يرد فيها نص، فللعقل دور كبير في استنباط كثير من الأحداث التي يصلح للعقل القضاء فيها ويقدر على إدراك حكم الشرع من حكم نفس العقل، وذلك في الموارد التالية:

1- القول بالملازمة بين وجوب المقدمة وذيها.

2- القول بالملازمة بين حرمة الشي ء ومقدمته.

3- الحكم بالبراءة عند عدم النص.

4- الحكم بالامتثال القطعي عند العلم الإجمالي.

5- الحكم بالملازمة بين الحرمة وفساد العبادة.

6- الحكم بالملازمة بين تعلّق النهي بنفس المعاملة وفسادها.

7- الحكم بالاجزاء عند الامتثال وفق الأمر الاضطراري.

8- الحكم بالاجزاء عند الامتثال وفق الأمر الظاهري.

9- استكشاف الأمر الشرعي بالأهم عند التزاحم.

10- استكشاف بطلان الصلاة عند اجتماع الأمر والنهي بتقديمه على الآمر.

إلى غير ذلك من الأحكام التي تعدّ من ثمرات القول بالتحسين والتقبيح العقليين، فمن عزل العقل عن الحكم في ذلك المجال، فقد قصرت فكرته عن تقديم أيّ حلّ لهذه الأحكام وما ذكرناه نماذج لما للعقل من دور، وإلّا فالأحكام المستنبطة من العقل في مجالات

ص:44

مختلفة أكثر من ذلك.

ب- إنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد عند العدلية:

إنّ من أمعن في الكتاب والسنّة يقف على أنّ التشريع الإسلامي تابع لملاكات، فلا واجب إلّالمصلحة في فعله ولا حرام إلّا لمفسدة في اقترافه ويشهد بذلك كتاب اللَّه في موارد:

يقول سبحانه: «إنّما يُريدُ الشَّيطانُ أن يُوقِعَ بَينكُمُ العَداوةَ والبَغضاءَ في الخمرِ والمَيسِرِ ويَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكرِ اللَّهِ وعنِ الصَّلاةِ فَهلْ أنتم مُنتَهون» (المائدة/ 91) فالآية تعلّل حرمة الخبيثين باستتباعهما العداوة والبغضاء وصدهما عن ذكر اللَّه، يقول سبحانه: «... وأقِمِ الصَّلاةَ إنّ الصَّلاة تَنهى عَنِ الفَحشاءِ والمُنكَرِ ...» (العنكبوت/ 45).

إلى غير ذلك من الآيات التي تصرّح بملاكات الأحكام.

وقد تضافرت النصوص عن أئمة أهل البيت عليهم السلام على أنّ الأحكام الشرعية تخضع لملاكات، قال الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا عليه السلام: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يبح أكلًا ولا شرباً إلّالما فيه المنفعة والصلاح، ولم يحرّم إلّاما فيه الضرر والتلف والفساد» «(1)».


1- النوري، مستدرك الوسائل 3: 71.

ص:45

وقال عليه السلام في الدم: «إنّه يسي ء الخلق ويورث القسوة للقلب وقلة الرأفة والرحمة ولايؤمن أن يقتل ولده ووالده» «(1)».

وهذا باقر العلوم وإمامها عليه السلام يقول: «إنّ مدمن الخمر كعابد وثن، ويورثه الارتعاش، ويهدم مروّته ويحمله إلى التجسّر على المحارم من سفك الدماء وركوب الزنا» «(2)».

وغيرها من النصوص المتضافرة عن أئمة الدين «(3)».

فإذا كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في الموضوع، فالغاية المتوخّاة من تشريعها إنّما هي الوصول إليها، أو التحرّز عنها، وبما أنّ المصالح والمفاسد ليست على وزان واحد، بل رُبّ واجب يسوغ في طريق إحرازه اقتراف بعض المحارم، لاشتماله على مصلحة كبيرة لا يجوز تركها أصلًا، ورُبّ حرام ذي مفسدة كبيرة، لا يجوز اقترافه، وإن استلزم ترك الواجب أو الواجبات.

ولأجل ذلك فقد عقد الفقهاء باباً خاصاً لتزاحم الأحكام وتصادمها في بعض الموارد، فيقدّمون الأهم على المهم والأكثر


1- المجلسي، بحار الأنوار 62: 165، الحديث 3.
2- المجلسي، بحار الأنوار 62: 164، الحديث 2.
3- راجع علل الشرائع للشيخ الصدوق فقد أورد فيه ما أثر عن النبي صلى الله عليه و آله والأئمة عليهم السلام في بيان علل التشريع.

ص:46

مصلحة على الأقل منها، والأعظم مفسدة على الأحقر منها، وهكذا ... ويتوصلون في تمييز الأهم عن المهم، بالطرق والامارات التي تورث الاطمئنان، وباب التزاحم في علم الأُصول غير التعارض فيه، ولكلٍّ أحكام.

وقد أعان فتح هذا الباب على حلّ كثير من المشاكل الاجتماعية التي ربما يتوهم الجاهل أنّها تعرقل خطى المسلمين في معترك الحياة، وأنّها من المعضلات التي لاتنحل أبداً، ولنأت على ذلك بمثال وهو:

إنّه قد أصبح تشريح بدن الإنسان في المختبرات من الضروريات الحيوية التي يتوقف عليه نظام الطب الحديث، فلا يتسنّى تعلّم الطب إلّابالتشريح والاطّلاع على خفايا الأمراض والأدوية.

غير أنّ هذه المصلحة، تصادمها مسألة احترام الإنسان حيَّه وميِّته، إلى حدّ أوجب الشارع الإسراع في تغسيله وتكفينه وتجهيزه للدفن، ولا يجوز نبش قبره إذا دفن، ولا يجوز التمثيل به وتقطيع أعضائه، بل هو من المحرّمات الكبيرة التي لم يجوزها الشارع حتى بالنسبة إلى الكلب العقور، غير أنّ عناية الشارع بالصحة العامة وتقدم العلوم جعلته يسوّغ اقتراف هذا العمل لتلك الغاية، مقدماً بدن الكافر على المسلم والمسلم غير المعروف على المعروف منه، وهكذا ...

ص:47

ج- التشريع الإسلامي ذو مادة حيوية:

إنّ التشريع الإسلامي في مختلف الأبواب مشتمل على أُصول وقواعد عامة تفي باستنباط آلاف من الفروع التي يحتاج إليها المجتمع البشري على امتداد القرون والأجيال.

أخرج الكليني عن عمر بن قيس عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

سمعته يقول إنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله، وجعل لكلّ شي ء حدّاً وجعل عليه دليلًا يدلّ عليه وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّا.

روى الكليني عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّه قال: ما من شي ء إلّاوفيه كتاب أو سنّة «(1)».

وقال الإمام الطاهر موسى الكاظم عليه السلام عندما سأله عن وجود كلّ شي ء في كتاب اللَّه وسنّة نبيه قال مجيباً: بل كلّ شي ء في كتاب اللَّه وسنّة نبيه «(2)».

نعم تتجلّى حيوية مادة التشريع إذا أخذنا بسنّة رسول اللَّه المرويّة عن طريق أئمة أهل البيت، فقد حفظوا سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عندما كانت كتابة الحديث أمراً معرضاً عنه ولذلكصارت أدلّة الفقه الإسلامي متوسّعة كافلة لاستنباط الأحكام وبذلك أغنوا


1- الكليني 1/ 59-/ 62 باب الردّ الى الكتاب والسنة.
2- الكليني 1/ 59-/ 62 باب الردّ الى الكتاب والسنة.

ص:48

الأُمة الإسلامية عن مقاييس ظنّية كالقياس والاستقراء وما لا دليل عليه من الكتاب والسنّة على وجه القطع واليقين.

إنّ الاكتفاء بما ورد عن النبي عن طريق الصحابة وعدم الرجوع إلى ما رواه أئمة أهل البيت عن جدّهم متسلسلًا كابر عن كابر لخسارة عظمى، فعلى المشغوف بتجديد حياة الإسلام وإغنائه عن أيّ تشريع غربيّ وشرقيّ وتجسيد الخاتمية في مجال التشريع أن يجتاز الحدود التي ضربها الأمويون ومَن لفّ لفّهم بين الناس وأئمة أهل البيت عليهم السلام فعند ذلك ستنفتح آفاق من حديث الرسول مما يحتار اللبّ به، ويثير الحسرة لما فات الأُمة من التنوّر بنورهم في القرون الماضية.

د- تشريع الاجتهاد وعدم غلق بابه:

ومما أضفى على التشريع الإسلامي خلوداً وغضاضة وشمولية وإغناءً عن موائد الأجانب، فتح باب الاجتهاد فيما تحتاج إليه الأُمة في حياتها الفردية والاجتاعية، ومن أقفله في الأدوار السابقة قطع الأُمة الإسلامية عن مواكبة التطور والحضارة ومِن ثَمَّ جعل التشريع الإسلامي ناقصاً غير كامل لما تحتاج إليه الأُمة، وأمّا لزوم فتحه فهو أنّ الأُمة الإسلامية في زمن تتوالى فيه الاختراعات والصناعات، وتتجدّد الأحداث التي لم يكن لها مثيل

ص:49

في عصر النبي ولا بعده، فهم أمام أحد أُمور:

1- إمّا بذل الوسع في استنباط أحكام الموضوعات الحديثة من الأُصول والقواعد الإسلامية.

2- أو اتباع المبادئ الغربية من غير نظر إلى مقاصد الشريعة.

3- والوقوف من غير إعطاء حكم.

ومن المعلوم بطلان الثاني والثالث فيتعيّن الأول.

نعم لم يزل هذا الباب مفتوحاً عند الشيعة بعد رحيلصاحب الرسالة إلى يومنا هذا، وبذلك أنقذوا الشريعة من الانطماس وأغنوا الأُمة الإسلامية عن التطلّع إلى موائد الغربيين.

وبما أنّ الاجتهاد الحر والخروج عن قيد المذاهبصار واضح اللزوم نقتصر على هذا المقدار.

ه- حقوق الحاكم الإسلامي أو ولاية الفقيه:

من الأسباب الباعثة على بقاء الدين وكونه مادة حيويةصالحة لحلّ المشاكل والمعضلات الطارئة، كون الحاكم الإسلامي بعد النبيّ والأئمة ممثّلًا لقيادتهم الحكيمة في أُمور الدين والدنيا، التي من شأنها أن توجّه المجتمع البشري إلى أرقى المستويات الحضارية، فقد فتحت لمثل هذا الحاكم الصلاحيات المؤدّية إلى

ص:50

حقّ التصرّف في كلّ ما يراه ذا مصلحة للأُمة في إطار القوانين العامة، لأنّه يتمتع بمثل ما يتمتع به النبيّ والإمام من النفوذ المطلق، إلّا ما كان من خصائص النبيّ والأئمة.

فبما أنّ المحققين أسهبوا الكلام في معنى ولاية الفقيه اقتصرنا على هذا المقدار.

مرونة التشريع الإسلامي:

اشارة

لقد سبق الحديث عن أنّ استغناء التشريع الإسلامي عن كل تشريع سواه رهن أمرين:

الأول: إنّه ذو مادة حيوية خلّاقة للتفاصيل بحيث يقدر على الإجابة ببيان حكم جميع الأحداث التالية والطارئة.

الثاني: النظر إلى الكون والمجتمع بسعة وانطلاق مع مرونة خاصة تماشي جميع الأزمنة والأجيال وقد مرّ الكلام في الأمر الأول وإليك الكلام حول الأمر الثاني.

إنّ الذي فتح للتشريع الإسلامي خلوداً وغناءً عن سائر التشريعات هو مرونة أحكامه التي تماشي جميع الأزمنة والحضارات، وقد تمثلّت هذه المرونة بامور:

ص:51

الأول: كونه جامعاً بين الدعوة إلى المادة والروح:

إذا غالت المسيحية في التوجّه إلى الناحية الروحية، فدعت إلى الرهبانية والتعزّب، أو غالت اليهودية في الدعوة إلى ملاذّ الحياة والانكباب على المادة حتى نسيت كلّ قيمة روحية، فالإسلام دعا إلى المادية والمعنوية على وجه يطابق الفطرة الإنسانية وجعل الفطرة مقياساً للحلال والحرام وشرع للإنسان ما يسعده في الدنيا والآخرة على ما هو مذكور بالتفصيل في محله.

الثاني: النظر إلى المعاني لا إلى الظواهر:

الإسلام ينظر إلى المعاني والحقائق لا الظاهر والقشور فيأمر بالأخذ باللبّ لا بالقشر وهذا هو السرّ في خاتمية الدين الإسلامي وتمشّيه مع تطوّر الحياة، ولا يتوهّم من ذلك جواز التدخّل في التشريع بحجة الأخذ باللبّ دون القشر، فإنّ الكبريات الواردة في الكتاب والسنّة كلّها لبّ وأمّا القشر فإنّما يرجع إلى التخطيط والتجسيد.

وسيوافيك عند الإجابة على السؤال الخامس من أنّ الإسلام دعا الإنسان إلى الملبس والمسكن وإشاعة العلم والتربية، وهذا هو اللبّ وأمّا الأشكال والأنماط لهذا التشريع فمتروك إلى

ص:52

مقتضيات العصور.

إنّ الذي يهتمّ به التشريع كون البيت مُقاماً على أرض غير مغصوبة ومن مال حلال بحيث يتمكّن المسلم من إقامة فرائضه عليها وحفظ كيانه، وقد أناط شكل البيت وهندسته إلى مقتضيات الظروف والمصالح وكذا الملابس ووسائل التعليم ابتداءً من الحفر على الصخر والجدران والكتابة على الجلود والقراطيس، إلى ابتكار وسائل إلكترونية متطوّرة لإنجاز الغرض، فمن أراد الحفاظ على الصور، فقد عرقل الأُمة الإسلامية عن التقدم وأثار مشاكل في تطبيق الشريعة في الأزمنة الحاضرة.

الثالث: الأحكام التي لها دور التحديد:

من الأسباب الموجبة لمرونة هذا الدين وانطباقه على جميع الحضارات الإنسانية تشريعه القوانين الخاصة التي لها دور التحديد والرقابة بالنسبة إلى عامة تشريعاته وقد اصطلح عليها الفقهاء بالأدلة الحاكمة، لأجل حكومتها وتقدّمها على كل حكم ثبت لموضوع بما هو هو فهذه القوانين الحاكمة، تعطي لهذا الدين مرونة يماشي لبّها كل حضارة إنسانية، مثلًا: قوله سبحانه: «وما جعلَ عَليكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...» (الحج/ 78) حاكم على كلّ تشريع استلزم العمل به حرجاً، لا يتحمل عادة للمكلف فهو مرفوع، في

ص:53

الظروف الحرجة، ومثله قولهصلى الله عليه و آله «لا ضرر ولا ضرار» فكل حكم استتبع العمل به ضرراً شديداً، فهو مرفوع في تلك الشرائط، وقس عليهما غيرهما من القوانين الحاكمة.

نعم تشخيص الحاكم عن المحكوم، ومايرجع إلى العمل بالحاكم من الشرائط، يحتاج إلى الدقّة والإمعان والتفقّه والاجتهاد، ومن رأينا أنّ الموضوع يحتاج إلى التبسّط أكثر من هذا، فإلى مجال آخر أيّها القارئ الكريم.

السؤال الخامس: القوانين الثابتة والحياة المتطورة.

إنّ مقتضى كون الإسلام ديناً خاتماً، ثبات قوانينه وتشريعاته، ومن المعلوم أنّ المجتمع الإنساني لم يزل في تطوّرٍ وتغيّرٍ، فعند ذلك يُطْرح السؤال التالي:

كيف يمكن للقانون الثابت معالجة متطلّبات المجتمع المتغيّر، لأنّ من لوازم التغيّر والتطوّر، تغييرُ ما تسُود عليه من قوانين وتشريعات؟

هذا هو السؤال الذي يُطرح بين آونة واخرى، والإجابة عنه تتوقف على بيان ما هو الثابت من حياة الإنسان عن متغيّرها، وأنّ للثابت من جانب حياته تشريعاً ثابتاً، وللجانب المتغيّر منها

ص:54

تشريعاً متغيّراً فالتشريع الثابت لما هو الثابت والمتغير لما هو المتغيّر، وإليك البيان:

الجانب الثابت من حياة الإنسان:

1- إنّ للحياة الإنسانية جانبين: متغيّر وثابت، فالثابت منها عبارة عن الغرائز الثابتة والروحيات الخالدة التي لا تتغيّر ولا تتبدّل مادام الإنسان إنساناً ولا يتسرّب التغيّر إليها.

فالإنسان الاجتماعي بماهو موجود ذو غرائز يحتاج لحفظ حياته وبقاء نفسه إلى العيش الاجتماعي والحياة العائلية، وهذان الأمران من أُسُس حياة الإنسان لا تفتأ تقوم عليهما حياته منذ وجوده إلى يومنا هذا.

فإذا كان التشريع الموضوع منسجماً ومتطلبات الغرائز ومعدِّلًا إياها عن الإفراط والتفريط ومرتكزاً على العدل والاعتدال فذلك التشريع يكون خالداً في ظلّ خلود الغرائز.

2- إنّ التفاوت بين الرجل والمرأة أمر لا ينكر فهما موجودان مختلفان اختلافاً عضوياً وروحياً رغم كل الدعايات السخيفة المنكرة لذلك الاختلاف فلكلٍ من الرجل والمرأة متطلّب وفق تركيبه، فلو كان التشريع متجاوباً مع التركيب والفطرة، يكون

ص:55

خالداً حسب خلود الفكرة والتركيب.

3- الروابط العائلية كعلاقة الأب بولده وبالعكس، علاقات طبيعية مبنية على الفطرة، فالأحكام الموضوعية وفق هذه الروابط من التوارث ولزوم التكريم ثابته لا تتغير بتغير الزمان.

إنّ السؤال مبنيّ على أنّ الإنسان بفطرته وتركيبه يقع في مهبِّ التغيّر، والتطوّر، فلا يبقى منه شي ء عبْر القرون، فكأنّ الإنسان الحالي غير الإنسان الغابر، مع أنّها فكرة باطلة، فلو كان هناك تغيّر فإنّما يعود هذا إلى غير الجانب الثابت من حياته.

4- إنّ في حياة الإنسان قضايا أخلاقية ثابتة عبر الزمان لا يتسرَّب إليها التغيير ككون الظلم قبيحاً والعدل حسناً، وجزاء الإحسان بالإحسان حسناً وبالسيّئ قبيحاً، والعمل بالميثاق حسناً ونقضه قبيحاً، إلى غيرها من القضايا الأخلاقية الثابتة في حياة الإنسان. سواء أقلنا بأنّها أحكام فطرية نابعة من الخلقة أو قلنا انّ هناك عوامل عبر التاريخ رسخت هذه المفاهيم في ذهن الإنسان، فإنّ الاختلاف في جذور تلك المُثُل لا يضر بما نحن بصدده لأنّها على كل تقدير ثابتة في حياة الإنسان، والتشريع الموضوع وفقها يتمتع بالثبات.

إنّ هناك موضوعات في الحياة الإنسانية لم تزل ذات مصالح

ص:56

ومفاسد أبدية، فما دام الإنسان إنساناً فالخمر يزيل عقله والميسر ينبت العداوة في المجتمع، والإباحة الجنسية تفسد النسل والحرث مدى الدهور والأجيال، فبما أنّ هذه القضايا قضايا ثابتة في حياته، فالتشريع على وفقها يكون ثابتاً وفق ثباتها.

فهذه نماذج من الجانب الثابت من حياة الإنسان تناولناها لإيقاف القارئ على أنّ التغيّر في حياة الإنسان ليس أمراً كلّياً ولا يتسرَّبُ إلى أعماق حياته، وإنّما التغيّر يرجع إلىصور من حياته فالتغير- كما سيوافيك بيانه- إنّما يكون مثلًا: في المواصلات، وفي التكتيك الحربي، وفي طراز البناء وأشكاله وفي معالجة الأمراض وغيرها، فأين مثل هذا التغير من حرمة الظلم، ووجوب العدل، ولزوم أداء الأمانات، ودفع الغرامات، ولزوم الوفاء بالعهد والأيمان، وتكريم ذوي الحقوق إلى غير ذلك من القوانين الثابتة الموضوعة على غرار الفطرة مبنياً على الجانب الثابت من حياته فهو يحتل مكان التشريع الدائم.

الجانب المتغيّر في الحياة الإنسانية:

اشارة

إنّ للإنسان جانباً آخر في حياته لا يزال يتغير من حال إلى حال فمثل هذا يتطلّب تشريعات متغيّرة حسب تغيّره وتبدّله، ومن حسن الحظ أنّه ليس في الإسلام الخاتم تشريعاً ثابتاً لهذا

ص:57

الجانب من الحياة مظاهر حياته وقشورها لا جوهرها ولذلك لم يتدخّل فيه الإسلام تدخُّلًا مباشراً، بل ترك أمرها للمجتمع الإسلامي في ظلّ إطارٍ خاص. وسُوَّغ للمجتمع البشري إدارة شؤون حياته في مجال العمران والبناء وتطور وسائل الحياة المختلفة في مجال الثقافة والدفاع والاقتصاد في ظلّ إطارٍ عام الذي يتجاوب مع التغيّر والتطوّر.

فترك للإنسان مجالًا متحرّكاً يختار به أيّ نوع من الألبسة والبناء والمعدات والوسائل المختلفة ضمن شروط معلومة في الفقه الإسلامي، ولأجل هذه المرونة في الإنسان نرى أنّه يتجاوب مع جميع الحضارات الإنسانية وما هذا إلّالأنّه لم يتدخل في الجزئيات المتغيّرة إلّابوضع إطار خاص لا يمنع حرّيته ولا يزاحم التغيّر، وهناك كلمة قيّمة للشيخ الرئيس ابن سينا نذكرها، قال:

يجب أن يفوّض كثير من الأحوال خصوصاً في المعاملات إلى الاجتهاد فإنّ للأوقات أحكاماً لا يمكن أن تنضبط، وأمّا ضبط المدينة بعد ذلك بمعرفة ترتيب الحفظة ومعرفة الدخل والخرج وإعداد أهب الأسلحة والحقوق والثغور وغير ذلك فينبغي أن يكون ذلك إلى السائس من حيث هو خليفة ولا تفرض فيها أحكام جزئية، فإنّ في فرضها فساداً لأنّها تتغيّر مع تغيّر الأوقات، وفرض الكليات فيها مع تمام الاحتراز غير ممكن فيجب أن يجعل

ص:58

ذلك إلى أهل المشورة «(1)».

نعم إنّ عنوان مقتضى الزمان صار رمزاً لكلّ من أراد أن يتحرّر من القيم الأخلاقية، ويعيش متحلّلًا من كلّ قيد وحد، خالعاً كل عذار.

وهؤلاء حيثما رأوا الإباحة الجنسيّة، واختلاط الرجال والنساء، واتّخاذ الملاهي على أنواعها وشرب المسكر، واللعب بالميسر، واقتراف المعاصي وأخذ الربا وغير ذلك ممّا حرّمته الشريعة الإسلامية، لم يجدوا مبرِّراً لاقترافها إلّابالتمسّك بمقتضيات الزمان وجبر التاريخ.

وهذا أبرز دليل على انّ التمسّك به، غطاء للتحرر من القيود الشرعية والأخلاقية وإلّا فلو كان المقصود من تطبيق الحياة على مقتضيات الزمان، هو ترفيع الثقافة الإنسانية والاستفادة من أحدث الأجهزة في عامة المجالات فهذا ممّا لا يرفضه الإسلام وليس له فيه قانون يعرقل خطى الترقّي، وحدوده بإطار عام، وهو عبارة ان لا يزاحم سعادة الإنسان وأن لا يكون فيه ضرر على روحه وجسمه، والقيم التي بها يمتاز عن الحيوان.

وها نحن نأتي في المقام بنماذج من الأحكام المتغيرة بتغيّر


1- الشفاء، قسم الإلهيات: 566.

ص:59

الظروف وراء ماذكرناه في مجال الصناعة والمسكن والملبس بشرط أن لا يزاحم المثل والقيم.

1- في مجال العلاقات الدولية الدبلوماسية:

يجب على الدولة الإسلامية أن تراعي مصالح الإسلام والمسلمين، فهذا أصل ثابت وقاعدة عامة، وأمّا كيفية تلك الرعاية، فتختلف باختلاف الظروف الزمانية والمكانية، فتارة تقتضي المصلحة السلام، والمهادنة والصلح مع العدو، وأُخرى تقتضي ضدّ ذلك.

وهكذا تختلف المقررات والأحكام الخاصة في هذا المجال، باختلاف الظروف ولكنّها لا تخرج عن نطاق القانون العام الذي هو رعاية مصالح المسلمين، كقوله سبحانه:

«ولَنْ يَجعلَ اللَّهُ للكافرينَ عَلى المُؤمِنينَ سَبيلًا» (النساء/ 141).

وقوله سبحانه: «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ في الدِّينِ وَلَمْ يُخرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أنْ تَبَرُّوهُمْ وتُقسِطُوا إلَيهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحبُّ المُقسِطينَ* إنَّما يَنهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ قاتَلُوكُمْ في الدِّينِ وَ أخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وظاهَروا على إخراجِكُمْ أنْ تَوَلَّوهُمْ وَمنْ يَتولَّهُمْ فَأُولئك هُمُ الظّالِمونَ» (الممتحنة/ 8-/ 9).

ص:60

2- في العلاقات الدولية التجارية:

قد تقتضي المصلحة عقدَ اتفاقيات اقتصاديّة وإنشاء شركات تجارية، أو مؤسساتصناعية، مشتركة بين المسلمين وغيرهم، وقد تقتضي المصلحة غير ذلك. ومن هذا الباب حكم الإمام المغفور له، المجدِّد، السيد الشيرازي بتحريم التدخين ليمنع من تنفيذ الاتفاقية الاقتصادية التي عقدت في زمانه بين إيران وإنكلترا، إذ كانت مُجحِفة بحقوق الأُمة المسلمة الإيرانية لأنّها خوّلت لإنكلترا حقّ احتكار التنباك الإيراني.

3- في مجال الدفاع عن حريم الإسلام:

اشارة

الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده من الأعداء، قانون ثابت لا يتغير، فالمقصد الأسنى لمشرِّع الإسلام، إنّما هوصيانة سيادته عن خطر أعدائه وأضرارهم، ولأجل ذلك أوجب عليهم تحصيل قوة ضاربة ضدّ الأعداء، وإعداد جيش عارم جرّار تجاه الأعداء كما يقول سبحانه: «وأعِدُّوا لَهُمْ مَا استَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» (الأنفال/ 60) فهذا هو الأصل الثابت في الإسلام الذي يؤيده العقل والفطرة أمّا كيفية الدفاع وتكتيكه ونوع السلاح، أو لزوم الخدمة العسكرية وعدمه، فكلها موكولة إلى مقتضيات الزمان، تتغير بتغيره، ولكن في إطار القوانين العامة

ص:61

فليس هناك في الإسلام أصل ثابت، حتى مسألة لزوم التجنيد العمومي، الذي أصبح من الأُمور الأصلية في غالب البلاد.

وما نرى في الكتب الفقهية من تبويب باب، أو وضع كتاب خاص، لأحكام السبق والرماية، وغيرها من أنواع الفروسية التي كانت متعارفة في الأزمنة الغابرة ونقل أحاديث في ذلك الباب عن الرسول الأكرمصلى الله عليه و آله وأئمة الإسلام، فليست أحكامها أصلية ثابتة في الإسلام، دعا إليها الشارع بصورة أساسية ثابتة، بل كانت هي نوع تطبيق لذلك الحكم، والغرض منه تحصيل القوة الكافية، تجاهَ العدو في تلكم العصور وأمّا الأحكام التي ينبغي أنْ تطبق في العصر الحاضر فإنّه تفرضها مقتضيات العصر نفسه.

فعلى الحاكم الإسلامي تقوية جيشه وقواته المسلّحة بالطرق التي يقدر معها علىصيانة الإسلام ومعتنقيه عن الخطر ويصدّ كل مؤامرة عليه من جانب الأعداء حسب إمكانيات الوقت.

والمقنِّن الذي يتوخّى ثباتَ قانونه ودوامه وسيادة نظامه الذي جاء به، لا يجب عليه التعرض إلى تفاصيل الأُمور وجزئيّاتها، بل الذي يجب عليه هو وضع الكليات والأُصول ليساير قانونه جميعَ الأزمنة بأشكالها وصورها المختلفة، ولو سلك غير هذا السبيل لصار حظّه من البقاء قليلًا جداً.

ص:62

4

- في نشر العلم والمعارف والثقافة:

نشر العلم والثقافة، واستكمال المعارف التي تَضمنُ سيادةَ المجتمع ماديّاً ومعنويّاً، يعتبر من الفرائض الإسلامية، أمّا تحقيق ذلك وتعيين نوعه ونوع وسائله فلا يتحدّد بحد خاص، بل يوكّل إلى نظر الحاكم الإسلامي، واللجان المقررة لذلك من جانبه حسب الإمكانيات الراهنة في ضوء القوانين الثابتة.

وبالجملة: فقد ألزم الإسلام، رُعاة المسلمين، وولاة الأمر نشرَ العلم بين أبناء الإنسان واجتثاث مادة الجهل من بينهم ومكافحة أيّ لون من الأُمية، وأمّا نوع العلم وخصوصياته، فكل ذلك موكول إلى نظر الحاكم الإسلامي وهو أعلم بحوائج عصره.

فربّ، علم لم يكن لازماً، لعدم الحاجة إليه، في العصور السابقة، ولكنّه أصبح اليوم في الرعيل الأوّل من العلوم اللازمة التي فيهاصلاح المجتمع كالاقتصاد والسياسة.

5

- في مجال إقامة النظام:

حفظ النظام وتأمين السبل والطرق، وتنظيم الأُمور الداخلية ورفع مستوى الاقتصاد و ... من الضرورات، فيتبع فيه وأمثاله مقتضيات الظروف وليس فيه للإسلام حكم خاص يتبع، بل

ص:63

الذي يتوخّاه الإسلام هو الوصول إلى هذه الغايات، وتحقيقها بالوسائل الممكنة، دون تحديد وتعيين لنوع هذه الوسائل وإنّما ذلك متروك إلى إمكانيات الزمان الذي يعيش فيه البشر، وكلها في ضوء القوانين العامة.

6

- في مجال المبادلات المالية:

قد جاء الإسلام بأصل ثابت في مجال الأموال وهو قوله سبحانه: «ولا تَأْكُلُوا أموالَكُمْ بَينكُمْ بِالباطل» (البقرة/ 188) وقد فرع الفقهاء على هذا الأصل شرطاً فيصحة عقد البيع أو المعاملة فقالوا: يشترط فيصحة المعاملة وجود فائدة مشروعة وإلّا فلا تصح المعاملة ومن هنا حرّموا بيع (الدم) وشراءه.

إلّا أنّ تحريم بيع الدم أو شراءه ليس حكماً ثابتاً في الإسلام بل الحكم الثابت هو حرمة أكل المال بالباطل، وكانت حرمة الدم في الزمان السابقصورة إجرائية لما أفادته الآية من حرمة أكل المال بالباطل ومصداقاً لها في ذلك الزمان فالحكم يدور مدار وجود الفائدة (التي تخرج المعاملة عن أن تكون أكل المال بالباطل) وعدم تحقّق الفائدة، فلو ترتبت فائدة معقولة على بيع الدم أو شرائه فسوف يتبدّل حكم الحرمة إلى الحلّية، والحكم الثابت هنا هو قوله تعالى: «ولا تَأْكُلُوا أموالَكُمْ بَينكُمْ بِالباطل».

ص:64

وفي هذا المضمار ورد أنّ علياً عليه السلام سئل عن قول الرسولصلى الله عليه و آله:

غيّروا الشيب ولا تشبهوا باليهود؟ فقال: عليه السلام: «إنّما قال صلى الله عليه و آله ذلك والدين قَلّ، فأمّا الآن فقد اتّسع نطاقه وضرب بجرانه فالمرء وما اختار» «(1)».


1- نهج البلاغة، الحكمة رقم: 16.

ص:65

خاتمة المطاف الشيعة والخاتمية

اشارة

اتفقت الشيعة- قاطبة- تبعاً للكتاب والسنّة على أنّ نبيّ الإسلام، هو النبيّ الخاتم، وكتابه خاتم الكتب، ورسالته خاتمة الرسالات، وقد اوصِد برحيله باب الوحي، وأُقفل بموته باب التشريع، فلا وحي ولا تشريع بعد ذهابه وقد وقفت على كلام الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام عند تغسيل النبيّصلى الله عليه و آله وتجهيزه فلا نعيد «(1)».

غير أنّ هناك شبهات ضئيلة في المقام تطرح من جانب أُناس،


1- لاحظ الحديث 4 في فصل الخاتمية في أحاديث العترة الطاهرة.

ص:66

لا عرفان لهم بمذهب الشيعة ولا تعرّفَ لهم عليه من كثب وقد تلقّوها من المستشرقين أو من البعداء عن البيئات الشيعية.

وهذه الأسئلة تجمعها الأُمور التالية.

1- كيف تقولون بالخاتمية وإيصاد باب الوحي والتشريع وأنتم تعملون بكتاب عليّ عليه السلام؟

2- كيف تقولون بذلك، وعندكم مصحف، باسم مصحف فاطمة وهل كان عند بنت المصطفىصلى الله عليه و آله قرآن غير القرآن الحاضر عند المسلمين؟

3- كيف تقولون ذلك وأنتم تعتمدون على روايات مروية عن الأئمة الاثني عشر، بصورة موقوفة غير متصلة إلى النبيّ الأكرم وهل الأئمة الاثنا عشر ممّن يوحى إليهم؟

إنّ هذه الأسئلة ربما تنطلي على الجاهل غير العارف بمعتقدات الشيعة فيرميهم بما هم براء منه، ولأجل رفع الغطاء نأخذ كلَّ واحد بالدراسة بوجه موجز.

1- كتاب عليّ وإملاء رسول اللَّه:

إنّ السؤال الأوّل يرجع إلى كتاب عليّ وأنّه ما هو. وهل هو أحاديث رسول اللَّهصلى الله عليه و آله التي دوّنها الإمام دون غيره وإليك

ص:67

التفصيل:

كانت لمدرسة أئمة اهل اللبيت عناية خاصة لضبط وتدوين كل ما اثِر عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله من قول وفعل، لأنّه صلى الله عليه و آله لا يصدر في مجال التشريع والتعليم إلّاعن الوحي قال سبحانه: «ومايَنطِقُ عنِ الهَوى* إنّ هوَ إلّاوَحيٌ يُوحى» (النجم/ 3- 4) وكان صلى الله عليه و آله على علم قاطع بأنّه سوف ينتقل إلى رحمة اللَّه، وأنّ الأُمة الإسلامية سوف تحتاج إلى كلماته وأقواله، وأفعاله وأعماله ولا تبقى خالدة إلّا بالضبط والتدوين.

إنّ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام كان وليدَ البيت النبويّ وكان مع الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله منذ نعومة أظفاره إلى رحيل رسول اللَّه عن الدنيا وهو عليه السلام يصف حياته فيصباه وما بعده ويقول: «ولقد كنتُ أتّبعُه (يعني رسول اللَّه) اتِّباع الفصيل أثر أُمه، يرفعُ لي في كلّ يومٍ من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بِحِراءَ فأراه ولا يراه غيري. ولم يجتمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي، والرسالة وأشمّ ريح النبوّة «(1)».

كان ربيبه علي عليه السلام يلازمه ليلًا ونهاراً، سفراً وحضراً، في


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة: 192.

ص:68

موطِنه ومهجَره، لم يفارقه في غزوة إلّاغزوة تبوك وقد أقامه رسول اللَّه مقامه في المدينة ليكون عيناً للمسلمين، على المنافقين، وصاعقة على المتمردين إذا حاولوا المؤامرة، أو إيذاء من بقي من المسلمين من الشيوخ والأطفال، إلى أن دخل العام الحادي عشر للهجرة وقد قرب أجله وارتحاله ومرض وكان علي هو الممرّض له وقُبض ورأسه لعلىصدره.

إنّ علياً عليه السلام يشرح ذلك الموقف ويقول: «ولقد قُبِضَ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وإنّ رأسه لَعلَىصدري- إلى أن يقول- ولقد ولّيتُ غسلَهصلى الله عليه و آله والملائكة أعواني، فضجت الدار والأفنية، ملأ يهبط، وملأ يعرُج وما فارقَتْ سمعي (هينمة) «(1)» منهم، يصلّون عليه. حتى واريناه في ضريحه. فَمَن ذَا أحقُّ به منّي حيّاً وميِّتا؟ «(2)».

كل ذلك يعرف عن لواذ الإمام واحتصانه بالنبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله والتجائه إليه.

وقد اختص الإمام بهذا المقام من بين الصحابة ولم يشاركه غيره وبذلكصار باب علم النبي «(3)» والحاكم الروحي على الأطلاق حتى عصر الخلفاء ولا يشك في ذلك من فتح عينيه على


1- الصوت الخفي.
2- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة: 197.
3- المتقي الهندي، كنز العمال 6: 156 وص 401.

ص:69

سيرة الخلفاء وتاريخ المسلمين.

ولمثل هذا النوع من التلاحم

يصف علي عليه السلام حاله مع النبيّ ويقول: «إنّي إذا كنت سألته أنبأني، وإذا سكتُّ ابتدأني» «(1)».

كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يأمر علياً عليه السلام أن يكتب كل ما يملي عليه فقال عليه السلام مرّة لرسول اللَّه:

«يا نبيّ اللَّه أتخاف عليَّ النسيان؟ قال: لستُ أخاف عليك النسيان، وقد دعوت اللَّه أن يحفظك ولا ينسيك ولكن اكتب لشركائك قال قلت: ومن شركائي يا نبيّ اللَّه؟ قال: الأئمة من ولدك «(2)».

وكان من جملة ما أملاه عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكتب علي عليه السلام بخطه، كتاب طولها سبعون ذراعاً في عرض الأديم وهذا هو المعروف بكتاب عليٍّ أوصحيفته اشتهر أمره بين الشيعة وأئمتهم وفيها ما يحتاج إليه الناس في مجال الأحكام إلى يوم القيامة، وكانت الأئمة بعد الإمام يصدرون عنه ويروُونَ عنه، ويستشهدون في مواقع خاصة به، وليس كتابه سوى أحاديث أملاه النبيّ، وكَتبه


1- السيوطي، تاريخ الخلفاء: 115.
2- الصدوق، كمال الدين 1: 206، وأماليه: 227، وغيرهما.

ص:70

الوصيّ وورثه أبناؤه كابر عن كابر، ونقلوا عنه شيئاً كثيراً وبذلكصار الإمام هو المدوِّن الرسمي للحديث النبويّ، وإن كان بعض الصحابة «(1)» شاركه في ضبط الحديث النبوي، لكنصحائفهم وكتبهم أُحرقت- ويا للأسف- في عصر الخلفاء لمصالح هم أعرف بها، وبذلك خسر المسلمون والسنّة النبوية خسارة كبرى لاتستقال وبالتاليصار الحديث النبوي مرتعاً لوضع الوضاعين والكذابين يلصقون بها ما شاءوا من الاسرائليات والمسيحيات والمجوسيات، لكن بقي كتاب الإمام غضّاً طريّاً مصوناً من الشرّ، يرثه إمام بعد إمام.

ولأجل إيقاف القارئ بواقع الأمر، نذكر مواصفات الكتاب وميزاته، وشيئاً من نصوصه، حتى يتبيّن إنّ كتاب عليّ عليه السلام لم يكن إلّا جامعاً حديثياً وكان تدويناً مبكراً للسنّة النبوية المطهرة وكتابه هذا هو سمة إكمال الدين الذي هو العماد لمسألة الخاتمية.

أ- روى: بكر بن كرب الصيرفي قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: إنّ عندنا ما لا نحتاج معه إلى الناس، وإنّ الناس ليحتاجون إلينا وإنّ عندنا كتاباً إملاء رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وخطّ عليّ عليه السلام،صحيفة


1- الترمذي، السنن 5: 39، كتاب العلم، الدارمي، السنن 1: 125، باب من رخص في كتابة العلم، الامام أحمد، المسند 2: 215، وغيره.

ص:71

فيها كلّ حلال وحرام «(1)».

ب- روى فضيل بن يسار قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: يا فضيل! عندنا كتاب علي سبعون ذراعاً، ما على الأرض شي ء يحتاج إليه إلّاوهو فيه حتى أرش الخدش «(2)».

ج- روى أبو بصير- في حديث- عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: يا أبا محمد! وإنّ عندنا الجامعة وما يُدريهم ما الجامعة قال قلتُ:

جعلتُ فداك، وما الجامعة؟ قال:صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وإملائه من فِلق فيه، وخط عليّ عليه السلام بيمينه فيها كل حلال وحرام وكل شي ء يحتاج إليه الناس حتى الأرش في الخدش «(3)».

د- روى أيضاً عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سمعته يقول- وذكر ابن شبرمة في فتياه- فقال: أين هو من الجامعة: إملاء رسول اللَّه وخطّه عليّ بيده، فيها جميع الحلال والحرام حتى أرش الخدش فيه «(4)».

إلى غير ذلك من الروايات الحاكية لخصوصيات الكتاب


1- الكليني، الكافي 1: 241، والصفار، بصائر الدرجات: 142.
2- الصفار، بصائر الدرجات: 147.
3- الكليني، الكافي 1: 239، والصفار، بصائر الدرجات: 143.
4- المتقي الهندي، كنز العمال 10: 293، رقم 294.

ص:72

وميزاته التي رواه أصحاب المعاجم من محدّثي الشيعة، فتسمية أئمة أهل البيت تارة بكتاب عليّ وأُخرى بالجامعة وثالثة بصحيفة عليّ والكتاب يعرب عن عنايةالإمام بضبطأحاديث الرسولصلى الله عليه و آله، كما يعرب عن عناية سيد الثقلين، بكتابة حديثه، ليبقى مرّ العصور والقرون، لا يعتريه الوضع والدسُّ.

وفي العصر الذي كان الناس يروون عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال:

لا تكتبوا عنّي ومن كتب عنّي غير القرآن فليمحه «(1)» وانّ فريقاً من الصحابة استأذنوا النبيّصلى الله عليه و آله أن يكتبوا عنه فلم يأذنهم «(2)».

وفي العصر الذي كانت مدرسة الخلفاء تروّج تقليل الرواية عن الرسول، وكلّما يبعث الخليفة عمر بن الخطاب والياً إلى قطرٍ أو بلدٍ يوصيه في جملة ما يوصيه بقوله: «جرّدوا القرآن واقلّوا الرواية عن محمد وأنا شريككم» «(3)» وربما يعيب افشاء الحديث عنهصلى الله عليه و آله ويقول مخاطباً لأبي ذر، وعبد اللَّه بن مسعود، وأبي الدرداء «وما هذا الحديث الذي تفشون عن محمد» «(4)».

ففي تلك العصور الحرجة، نرى أئمة أهل البيت يحتفظون


1- الدارمي، السنن 1: 119، والامام احمد 3: 12.
2- الدارمي، السنن 1: 119، والامام احمد 3: 12.
3- الطبري، التاريخ 3: 273 طبعه الاعلمي بالافست.
4- المتقي الهندي، كنز العمال 10: 293، رقم 294.

ص:73

بكتاب علي، ويعتمدون عليه في نقل الحلال والحرام، وبه يردون ما كان يصدر من الفتيا الشاذة عن الكتاب والسنة ولا يقميون للمنع عن الكتابة والرواية وزناً ولا قيمة، ولنذكر نماذج من روايات كتاب علي ليعلم موقفه منصيانة السنة من الضياع.

1- روى أبو بصير عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: كنت عنده فدعا بالجامعة فنظر فيها أبو جعفر عليه السلام فإذا فيها المرأة تموت وتترك زوجَها ليس لها وارث غيره قال: فله المال كلّه «(1)».

2- روى أبو بصير المرادي قال: سألت أبا عبد اللَّه عن شي ء من الفرائض، فقال: ألا اخرِج لك كتاب عليّ عليه السلام- إلى أن قال:- فأخرجه فإذا كتاب جليل وإذا فيه: رجل مات وترك عمّه وخاله فقال: للعم الثلثان وللخال الثلث «(2)».

3- روى عبد الملك بن أعين قال: دعا أبو جعفر بكتاب عليّ فجاء به جعفر مثل فخذ الرجل مطوياً فإذا فيه: إنّ النساء ليس لهنّ من عقار الرجل- إذا هو توفّي عنها- شي ءٌ فقال أبو جعفر عليه السلام:

هذا واللَّه خطّ عليّ بيده وإملاء رسول اللَّه «(3)».


1- الصفار، بصائر الدرجات: 145.
2- الكليني، الكافي 7: 119
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة 17: 522، الباب 6 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 17.

ص:74

4- روى محمد بن مسلم الثقفي: قال: أقرأني أبو جعفر كتاب الفرائض التي هي إملاء رسول اللَّه وخطّ علي فإذا فيها انّ السهام لا تعول «(1)».

5- روى عذافر الصيرفي قال: كنت مع الحكم بن عتيبه عند أبي جعفر عليه السلام فجعل يسأله وكان أبو جعفر عليه السلام له مكرماً فاختلفا في شي ء فقال أبو جعفر: يا بُنيّ قُم فأخرِج كتابَ عليّ، فأخرج كتاباً مدرّجاً عظيماً وفتحه وجعل ينظر حتى أخرج المسألة فقال أبو جعفر عليه السلام: هذا خط عليّ عليه السلام وإملاء رسول اللَّهصلى الله عليه و آله «(2)».

وهذه الروايات تكشف عن أنّ كتاب الفرائض الذي ذكر لعليّ عليه السلام كان جزءاً من كتابه الكبير.

6- روى ابن بكير قال: سأل زرارة أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الصلاة في الثعالب والسنجاب وغيره من الوبر فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: إنّ الصلاة في وبر كلّ شي ء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده، وبوله وروثه وألبانه وكلّ شي ء منه فاسد لا تقبل تلك الصلاة حتى تصلّي في غيره ممّا أحل اللَّه أكله


1- الطوسي، تهذيب الاحكام 9: 247، والحر العاملي، وسائل الشيعة 17: 423، الباب 6 من ابواب موجبات الارث، الحديث 11.
2- رواه النجاشي في رجاله في ترجمة محمد بن عذافر بن عيسى الصيرفي المدائني 2: 260، رقم 967.

ص:75

ثم قال: يا زرارة هذا عن رسول اللَّه «(1)».

وقد اقتصرنا على هذا المقدار ليعلم أنّ الكتاب، أقدم جامع حديثي، أملاه النبيّ وكتبه الإمام عليّ وكان الكتاب موجوداً بين أئمة أهل البيت يرثه كابر عن كابر، يصدرون عنه في الإفتاء وشاهده غير واحد من أصحابهم، والكتاب وإن لم يكن موجوداً بشخصه بيننا، لكن روى أصحاب الجوامع الحديثية كالكليني، والصدوق والطوسي، قسماً كبيراً منه وفرقوا أحاديثه على أبواب كتبهم على الترتيب المألوف، وقد جمعها العلامة الحجة الشيخ علي الأحمدي في موسوعته (مكاتيب الرسول) «(2)».

نعم بقي هنا سؤال:

هل هذا الكتاب، نفس الصحيفة التي كانت في قراب سيفه أو غيره؟

الجواب: قد ذكر غير واحد من المحدثين انّه كانت لعليّ في قراب سيفه صحيفة لكن الخصوصيات التي ذكرت للكتاب في الروايات تدل مائة بالمائة على أنّه غير الصحيفة التي كان يجعلها في قراب سيفه، وكيف وقراب السيف لا يسع إلّاصحائف صغار، مهما لفَّت وادرِجت فأين هي من المواصفات التي وقفت عليها من أنّه كتاب


1- الكليني، الكافي 3: 397 ح 1.
2- الأحمدي، مكاتيب الرسول 1: 72-/ 79.

ص:76

طولها سبعون ذراعاً، أو طولها سبعون ذراعاً في عرض الأديم، أو مثل فخذ الفالج «(1)» أو أخرج أبو جعفر كتاباً مدرّجاً عظيماً، أو كتاباً جليلًا أو هو مثل فخذ الرجل مطوياً، إلى غير ذلك ممّا مرّ ذكرها.

نعم روى أبو جحيفة، قال: سألت علياً رضى الله عنه: هل كان عندكم من النبيّ صلى الله عليه و آله شي ء سوى القرآن؟ قال: والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، إلّاأن يوتي اللَّه عبداً فهماً في القرآن، وما في الصحيفة، قلت: وما الصحيفة؟ قال: العقل وفِكاك الأسير، ولايقتل مؤمن بكافر «(2)».

إنّ هذه الرواية مهماصحّت ونقلها أئمة الحديث، لا تقابل ما نقلناه عن أئمة أهل البيت حول كتاب عليّ، ومواصفاته، ومشاهدة جمّ غفير لهذا الكتاب، وقد نقلنا النزر اليسير من الكثير، وهذا الحديث وما شابهه في التعبير وضعت لنفي ما عند عليّ من ودائع النبوة وعلوم النبيّصلى الله عليه و آله، والذي يعرب عن ذلك، الاصرار على أنّه ليس عند علي سوى كتاب اللَّه أو الصيحفة الموجودة في قراب سيفه، فقد رووها بالعبارات التالية:

أ- ما كتبنا عن النبيّ إلّاالقرآن وما في هذه الصحيفة.


1- الكليني، الكافي 1: 241.، الفالج: الجمل الضخم ذو السنامين.
2- الإمام أحمد، المسند 1: 79.

ص:77

ب- من زعم أنّ عندنا شيئاً نقرأه إلّاكتاب اللَّه أو هذه الصحيفة فقد كذب.

ج- ما خصّنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بشي ء لم يخص به الناس إلّاما في قراب سيفي هذا.

د- ما عهد إليَّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله شيئاً خاصاً دون الناس إلّاشي ء سمعته، وهو فيصيحفة قراب سيفي ... «(1)».

إلى غير ذلك من التعابير الهادفة إلى نفي علمه بشي ء إلّا بالكتاب والصحيفة الصغيرة.

نحن نغض الطرف عمّا ذكرنا، فلوصح ما في هذه الرواية، فما معنى قولهصلى الله عليه و آله لعليّ، أنا مدينة العلم وعليّ بابها، وقد نقل كثير من الحفاظ والمحدّثين، وهذا شمس الدين المالكي يذكره في شعره بقوله:

وقال رسول اللَّه إنّي مدينة من العلم وهو الباب والبابَ فاقصدِ

وقد رواه من الحفاظ والأئمة لفيف ربّما يناهز مائة وثلاثة وأربعين شخصاً «(2)» وقد ذكروا حول الحديث كلمات تعرب عن


1- لاحظ المصادر التالية: أحمد بن حنبل، المسند 1: 81، 100، 102، 110، ابن كثير، البداية والنهاية 5: 251، مسلم، الصحيح 4: 217.
2- لاحظ الغدير 6: 61-/ 77.

ص:78

مفاد الحديث.

قال الحافظ أبو عبد اللَّه محمد بن يوسف الكنجي الشافعي (المتوفى 658 ه): قال العلماء من الصحابة والتابعين وأهل بيته بتفضيل عليّ عليه السلام وزيادة علمه وغزارته، وحدّة فهمه ووفور حكمته، وحسن قضاياه، وصحّة فتواه، وقد كان أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من علماء الصحابة يشاورونه في الأحكام ويأخذون بقوله في النقض والإبرام، اعترافاً منهم بعلمه، ووفور فضله، وبرصانة عقله، وصحة حكمه، وليس هذا الحديث في حقّه بكثير، لأنّ رتبته عند اللَّه وعند رسوله وعند المؤمنين أجلّ وأعلا من ذلك «(1)».

وقال فضل بن روزبهان في ضمن ردّه على حجاج العلامة بأعلمية أمير المؤمنين بحديثي: أقضاكم عليّ، و: أنا مدينة العلم، من طريق الترمذي، قال ما هذا نصّه: وأمّا ما ذكره المصنف من علم عليّ فلا شك في أنّه من علماء الأُمة، والناس محتاجون إليه فيه وكيف لا، وهو وصيّ النبيّ في إبلاغ العلم وودائع حقائق المعارف، فلا نزاع لأحد فيه، وما ذكره منصحيح الترمذيصحيح «(2)».


1- كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب: 195.
2- دلائل الصدق 3: 515 ط مصر.

ص:79

وقال المناوي في فيض القدير تفسيراً لقولهصلى الله عليه و آله: عليّ عيبة علمي: أي مظنّة استفصاحي وخاصتي وموضع سرّي، ومعدن نفائسي. والعيبة: ما يحرز الرجل فيه نفائسه قال ابن دريد: وهذا من كلامه الموجز الذي لم يسبق ضرب المثل بشي ء أراده اختصاصه بأُموره الباطنة التي لا يطّلع عليها أحد غيره، وذلك غاية في مدح عليّ «(1)».

وأخرج الطبراني عن ابن عباس أنّه قال: كنّا نتحدّث معاشر أصحاب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله إنّ النبيّصلى الله عليه و آله عهد إلى عليّ سبعين، لم يعهدها إلى غيره «(2)».

ورواه القندوزي في ينابيعه ثمانين عهداً مكان سبعين «(3)».

فقد خرجنا بالنتائج التالية:

1- إنّ كتاب عليّ من إملاء رسول اللَّه وخطّ علي.

2- إن الكتاب أول جامع حديثيّ قام بكتابته عليّ لتدوين السنّة وصيانتها من الضياع.

3- كانت في قرابة سيف عليّصحيفة، ولكن لم تكن هي الشي ء الوحيد عند عليّ، وإنّ كتاب عليّ- حسب ما مرّ من المواصفات-


1- المناوي، فيض القدير 4: 356.
2- الطبراني، المعجم الصغير: 69.
3- القندوزي، ينابيع المودة: 89.

ص:80

غير تلك الصحيفة.

4- إذا كان عليّ هو باب علم النبيّ، والحاكم الروحيّ في عصر الخلفاء وما بعده فيلزم أن يكون عنده ودائع النبوّة، وجميع ماتحتاج إليه الأُمة في مجال الأحكام.

2- مصحف فاطمة:

لا شك أنّه كان عند فاطمة مصحفاً، حسب ما تضافرت عليه الروايات، ولكن المصحف ليس اسماً مختصّاً بالقرآن، حتى تختص بنت المصطفى بقرآن خاص، وإنّما كان كتاباً فيه الملاحم والأخبار.

المصحف: من أصحف، بمعنى ما جعل فيه الصحف وإنّما سمي المصحف مصحفاً لأنّه جعل جامعاً للصحف المكتوبة بين الدفتين.

ولم يكن ذلك اللفظ علماً للقران في عصر نزوله، وإنّماصار علماً له بعد رحيل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال السيوطي: روى ابن أشتة في كتاب المصاحف انّه لمّا جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر:

التمسوا له إسماً، فقال بعضهم: السفر: وقال بعضهم المصحف فانّ الحبشة يسمّونه المصحف قال: وكان أبو بكر أول من جمع كتاب

ص:81

اللَّه وسمّاه المصحف «(1)».

وأمّا ما هو واقع هذا الكتاب، فقد كشف عنه الروايات المتضافرة عن أئمة أهل البيت، وقد جمع قسماً كبيراً منها العلّامة الشيخ مصطفى قصير العاملي في دراسته كتاب عليّ ومصحف فاطمة.

وإليك بعضها:

روى أبو عبيدة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: ... إنّ فاطمة مكثت بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خمسة وسبعين يوماً، و كان دخلها حزن شديد على أبيها، وكان جبرئيل عليه السلام يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها، ويطيب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها، وكان عليّ عليه السلام يكتب ذلك فهذا مصحف فاطمة «(2)».

روى أبو حمزة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: مصحف فاطمة مافيه شي ء من كتاب اللَّه وإنّما هو شي ء أُلقي إليها بعد موت أبيهاصلوات اللَّه عليهما «(3)».


1- السيوطي، الاتقان في علوم القرآن 1: 185.
2- الكليني، الكافي 1: 241.
3- الصفار، بصائر الدرجات: 195، ط مكتبة المرعشي

ص:82

والعجب أنّ الدس الإعلامي قد اتّخذ لفظ مصحف فاطمة ذريعة لاتّهام الشيعة بأنّ عندهم قرآناً يسمى مصحف فاطمة، وقد سعى غير واحد من دعاة التفرقة إلى نشر تلك الفكرة الخاطئة بين المسلمين، ولكن خاب سعيهم، فإنّ للحق دولة، وللباطل جولة.

ولعلّ القارئ يسأل نفسه عن كون فاطمة محدَّثة تحدّثها الملائكة كما ورد في الرواية السابقة، غير أنّ فاطمة عليها السلام لا تقل شأناً عن مريم البتول، ولا عن امرأة الخليل. قال سبحانه: «وإذْ قالَتِ الملائكةُ يا مريمُ إنَّ اللَّهَ اصطَفاكِ وطَهَّركِ واصطَفاكِ على نساءِ العالَمين» (آل عمران/ 42) إلى غير ذلك من الآيات الواردة في سورتي آل عمران، ومريم.

وهذه امرأة إبراهيم تسمع كلام الملك، يقول سبحانه: «ولَقدْ جاءتْ رُسلُنا إبراهيمَ بالبُشرى .. وامرأتُهُ قائمةٌ فضَحِكَتْ فَبشَّرناها بإسحقَ ومن وراءِ إسحقَ يَعقوب* قالَتْ يا ويلتَى أألِدُ وأنا عَجوزٌ وهذا بَعْلي شَيخاً إنّ هذا لَشي ءٌ عَجيب* قالُوا أتَعجَبينَ مِنْ أمرِ اللَّهِ رحمتُ اللَّهِ وبركاتُهُ عَليكُمْ أهلَ البَيتِ إنَّهُ حَميدٌ مَجيدٌ» (هود/ 69-/ 73).

فإذا كانت مريم وامرأة الخليل محدّثتين، ففاطمة سيدة نساء العالمين أولى بأن تكون محدّثة.

ص:83

3- ما هو مصدر روايات أئمة أهل البيت؟

اشارة

هذا هو السؤال الثالث من الاسئلة الثلاثة المطروحة حول الخاتمية لدى الشيعة فنقول:

انّ لعلوم أئمة أهل البيت مصادر مختلفة ونشير الى اصولها تاركين البحث في فروعها.

أ- النقل عن آبائهم عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

إنّهم عليهم السلام كثيراً ما يروون الحديث عن آبائهم عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله معنعناً، من دون أن يتوسّط بين الأسانيد شخص بين آبائهم وأجدادهم.

إنّ عليّ بن موسى الرضا لمّا ترك نيسابور عازماً إلى مرو، اجتمع حوله لفيف من المحدّثين، فطلبوا منه أن يحدّثهم بحديث جدّهصلى الله عليه و آله، فقال:

حدّثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدثني أبي جعفر الصادق، قال: حدثني أبي أبو جعفر الباقر، قال: حدّثني أبي علي بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي، قال: حدثني أبي عليّ بن أبي طالب، قال: حدثني رسول اللَّه عن جبرئيل عليه السلام عن اللَّه قال: لا إله إلّا اللَّه حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي «(1)».


1- الصدوق: عيون أخبار الرضا 2/ 143.

ص:84

إنّ هذا النوع من الأحاديث متوفّر في الجوامع الحديثية للشيعة، فلو قام باحث بجمع هذا النوع الذي يروي فيه كابر عن كابر والإمام بعد الإمام لبلغ موسوعة كبيرة.

هذا هو هشام بن سلمان، وحماد بن عثمان، وغيرهما من أصحاب الإمام الصادق، قالوا: سمعنا أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السلام، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وحديث رسول اللَّه قول اللَّه عزوجل «(1)».

ب- النقل عن كتاب عليّ

إنّ أئمة أهل البيت كانوا يستندون إلى كتاب عليّ ويحتجّون به، فكان الكتاب أحد مصادر علومهم التي يصدرون عنها، وقد وقفت على قسم قليل منها.

ج- الإلهام أو تحديث الملائكة

1- الكليني، الكافي 1/ 53 برقم 14.

ص:85

إنّ أئمة أهل البيت حسب النصوص محدّثون، تحدّثهم الملائكة، كما كانت تحدّث مريم البتول وامرأة الخليل، فما كان يخبرون به من الملاحم أو يجيبون عن الأسئلة فالكلّ ممّا كان يلقى في روعهم.

وهذا النوع من المصدر وإن كان ثقيلًا على من لم يعرف مقاماتهم، إلّاأنّهصحيح لمن درس حياتهم، ووقف على أحوالهم.

ولأجل إيقاف القارئ على أنّ المحدَّث أمر مما اتفق عليه الأعلام نبحث عنه على وجه الإيجاز:

المُحَدّث في الإسلام:

المحدَّث بصيغة المفعول: من تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ولا رؤيةصورة أو يلهم له ويلقى في روعه شي ء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره.

المحدّث بهذا المعنى ممن اتفق عليه الفريقان: الشيعة والسنّة، ولو كان هناك خلاف فإنّما هو في مصداقه.

وقبل ذلك نجد المحدّث في الأُمم السالفة، فهذاصاحب موسى كان محدّثاً، فقد أخبره عن مصير السفينة والغلام والجدار على وجه جاء في سورة الكهف «(1)» فهو لم يكن نبيّاً ولكنّه كان عارفاً بما


1- من الآية: 60-/ 82.

ص:86

سيحدث وقد عرفه بإحدى الطرق المذكورة.

وهذه مريم البتول، كانت الملائكة تكلّمها وتحدّثها ولم تكن نبيّة، قال سبحانه:

«وإذْ قالَتِ الملائكةُ يا مريمُ إنَّ اللَّهَ اصطَفاكِ وطَهَّركِ واصطَفاكِ على نساءِ العالَمين» (آل عمران/ 42).

وقال سبحانه:

«إذ قالَتِ الملائكةُ يا مريمُ إنّ اللَّهَ يبشِّرُكِ بِكَلِمةٍ منهُ اسمُهُ المسيحُ عِيسى ابنُ مريمَ وَجيهاً في الدُّنيا والآخرةِ ومِنَ المُقرَّبِينَ» (آل عمران/ 45).

وهذه أُمّ موسى يلقى في روعها ويوحى إليها ولم تكن نبيّة، قال سبحانه:

«وأوحينا إلى أُمّ موسى أنْ أرضِعيهِ فإذا خِفتِ عَليهِ فَألقيهِ في اليَمِّ ولا تخافي ولاتَحزني إنّا رادُّوهُ إلَيكِ وجاعِلوهُ مِنَ المُرسَلين» (القصص/ 7).

وأمّا السنّة النبوية ففيها تصريح بأنّ في الأُمة الإسلامية- نظير الأُمم السالفة- رجالًا يكلّمون من دون أن يكونوا أنبياء؛ وإليك بعض هذه النصوص:

ص:87

1- أخرج البخاري فيصحيحه عن أبي هريرة قال: قال النبي:

لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فعمر بن الخطاب «(1)».

2- أخرج البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً أنّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأُمم محدّثون، إن كان في أُمتي هذه منهم فإنّه عمر بن الخطاب «(2)».

قال القسطلاني في شرح الحديث: يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوّة وقال الخطّابي: يلقى الشي ء في روعه فكأنّه قد حُدّث به، يظنّ فيصيب ويخطر الشي ء بباله فيكون. وهي منزلة رفيعة من منازل الأولياء «(3)».

3- أخرج مسلم فيصحيحه عن عائشة عن النبي: قد كان في الأُمم قبلكم مُحدّثون فإن يكن في امتي منهم أحد فإنّ عمر بن الخطّاب منهم، قال ابن وهب: تفسير «محدّثون» ملهمون.

قال النووي في شرحصحيح مسلم: اختلف العلماء في تفسير المراد ب (محدثون) فقال ابن وهب: ملهمون، وقيل: مصيبون إذا ظنّوا فكأنّهم حدّثوا بشي ء فظنّوه، وقيل تكلّمهم الملائكة وجاء


1- البخاري 2: 194 باب مناقب عمر بن الخطاب.
2- البخاري 2: 171، بعد حديث الغار.
3- القسطلاني، إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري 5: 431، انظر أيضاً 6: 99.

ص:88

في رواية مكلّمون وقال البخاري: يجري الصواب على ألسنتهم وفيه، كرامات الأولياء «(1)».

ومن راجع شروح الصحيحين يجد نظير هذه الكلمات بوفرة؛ والرأي السائد في تفسير المحدّث هو تكليم الملائكة أو الإلقاء في الروع هذا ما لدى السنّة، وأمّا الشيعة، فعندهم أخبار عن أئمتهم تصرّح بأنّهم محدّثون وفي الوقت نفسه ليسوا بأنبياء.

روى الكليني في باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث أحاديث أربعة:

قال: المحدّث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة. وفي رواية أُخرى سألته عن الإمام ما منزلته؟ قال: يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك.

إلى غير ذلك من الروايات المصرّحة بأنّ الأئمة الاثني عشر محدَّثون «(2)».

روى الصفار في بصائر الدرجات عن بريد: قلت لأبي جعفر وأبي عبد اللَّه عليهما السلام: ما منزلتكم بمن تُشَبَّهون ممن مضى؟

فقال: كصاحب موسى وذي القرنين كانا عالمين ولم يكونا


1- النووي، شرح صحيح مسلم 15: 166.
2- الكليني، الكافي 1: باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث: 176.

ص:89

نبيّين «(1)».

هذا ما لدى الفريقين وبذلك يُعْلَم أنّ الإخبار عن الغيب بإذن من اللَّه سبحانه لايلازم كون المخبر نبياً، وإنّ تَكَلُّم الملائكة مع إنسان لا يصلح دليلًا على كونه مبعوثاً من اللَّه سبحانه للنبوة.

ولو اعتمدت الشيعة على علم الأئمة لأجل كونهم وارثين لعلم النبي ووارثين لما عند عليّ من الكتب التي كتبها بإملاء من رسول اللَّه، أو محدَّثين تلقى في روعهم الإجابات على الأسئلة، فلا يدل على أنّهم أنبياء ومن نسبهم إلى تلك القرية الشائنة بحجة إخبارهم عن الملاحم، فقد ضلّ عن سواء السبيل، ولم يفرق بين النبوّة والرسالة والتحدّث.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين.


1- الصفار: بصائر الدرجات 8: 368.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.