مع الشيعه الاماميه في عقائدهم

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور : مع الشيعه الاماميه في عقائدهم/ جعفر السبحاني

مشخصات نشر : قم: مشعر، 1413ق. = 1372.

مشخصات ظاهري : ص 216

يادداشت : كتابنامه: ص. [209] - 216

موضوع : شيعه اماميه - عقايد

رده بندي كنگره : BP211/5/س 18م 7 1372

رده بندي ديويي : 297/4172

شماره كتابشناسي ملي : م 73-97

ص: 1

التقديم:

ص:2

لا يأتي المرء بجديد إذا ذهب إلى القول بأنّ الحقبة الزمنية التي شهدت البعثة المباركة لخاتم الأنبياء محمد (صلّى اللَّه عليه و آله وسلّم) وسنوات عمره المعطاءة القصيرة كانت تشكل بحد ذاتها انعطافاً رهيباً وتحولًا كبيراً في حياة البشرية، في وقت شهد فيه الخط البياني الدال على مدى الابتعاد المتسارع عن المنهج السماوي وشرائعه المقدسة انحداراً عميقاً وتردياً ملحوظاً أصبح من العسير على أحد تحديد مدى انتهائه وحدود أبعاده.

بلى، انّ مجرد الاستقراء المتعجّل لأبعاد التحول الفكري والعقائدي في حياة البشرية عقيب قيام هذه الدعوة السماوية في أرض الجزيرة- المسترخية على رمال الوهم والخداع وسيل الدم المتدافع- يكشف وبلا تطرّف ومحاباة عظم ذلك التأثير الإيجابي الذي يمكن تحديد مساره من خلال رؤية التحول المعاكس في كيفية التعامل اليومي مع أحداث الحياة وتطوراتها، وبالتالي في فهم الصورة الحقيقية لغاية خلق الإنسان ودوره في بناء الحياة.

كما أنّ هذه الحقائق المجسّدة تكشف بالتالي عن عظم الجهد الذي بذه صاحب الرسالة (صلّى اللَّه عليه و آله وسلّم) في تحقيق هذا الأمر وتثبيت أركانه، في وقت

ص:3

ص: 4

شهدت فيه البشرية جمعاء ضياعاً ملحوظاً في جميع قيمها ومعتقداتها، وخلطاً و تزييفاً مدروساً في مجمل عقائدها ومرتكزات أفكارها، كرس بالتالي مسارها المبتعد عن الخط السماوي ومناهجه السوية، وأنّ أي استعراض لمجمل القيم السائدة آنذاك- والتي كانت تشكل المعيار الأساسي والمفصل المهم الذي تستند إليه مجموع السلوكيات الفردية والجماعية وتشذَّب من خلاله- يكشف عن عمق المأساة التي كانت تعيشها تلك الأُمم في تلك الأزمنة الغابرة.

فمراكز التشريع الحاكمة آنذاك- والتي تعتبر في تصور العوام وفهمهم مصدر القرار العرفي والشرعي المدير لشؤون الناس والمتحكم بمصائرهم ومسار تفكيرهم- تنحصر في ثلاث مراكز معلومة أركانها الأساسية: اليهود بما يمتلكونه من طرح عقائدي وفكري يستند إلى ثروات طائلة كبيرة، والصليبيون بما يشكلونه من قوة مادية ضخمة تمتد مفاصلها ومراكزها إلى أبعد النقاط والحدود، وأصحاب الثورة والجاه من المتنفِّذين والمتحمين في مصائر الناس.

ومن هنا فإنّ كل الضوابط الأخلاقية والمبادى ء العرفية والعلاقات الروحية والاجتماعية كانت تخضع لتشذيب تلك المراكز وتوجيهها بما يتلائم وتوجهاتها التي لاتحدها أي حدود.

إنّ هذه المراكز الفاسدة كانت تعمل جاهدة لأنَّ تسلخ الإنسان من كيانه العظيم الذي أراده اللَّه تعالى له، ودفعه عن دوره الكبير الذي خلق من أجله عندما قال تعالى للملائكة: (إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) بل تعمل جاهدة لأن تحجب تماماً رؤية هذه الحقيقة العظيمة عن ناظر الإنسان

ص: 5

ليبقى دائماً بيدقاً أعمى تجول به أصابعهم الشيطانية لتنفيذ أفكارهم المنبعثة من شهواتهم المنحرفة.

وأمّا ما يمكن الاعتقاد به من بقايا آثار الرسالات السابقة، فلا تعدو كونها ذبلات محتضرة لم تستطع الصمود أمام تيارات التزييف والكذب والخداع التي مسخت صورتها إلى أبعد الحدود.

نعم بُعث محمد (صلّى اللَّه عليه و آله وسلّم) إلى قوم خير تعبير عنهم قول جعفر بن أبي طالب للنجاشي: أيها الملك كنّا أهل الجاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسي ء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.

هذا في الوقت الذي كانت فيه مراكز القوى تلك تتضخّم وتتعاظم على حساب ضياع البشرية وموت مبادئها.

وهكذا فقد كانت الدعوة الإسلامية الفتيّة وصاحبها (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) في مواجهة هذه المراكز بامتدادتها الرهيبة وقدراتها العظيمة، والتي شكلت أعنف مواجهة شرسة وقتال ليس له مثيل صبغ أرض الجريرة ورملها الصفراء، بلون أحمر قاني لسنوات لم يعرف فيها رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) وخيرة أصحابه للراحة طعماً وللسكون مسكناً.

إنّ تلك الحصون المليئة بالشر والخراب لم تتهاوى إلّا بعد جهد جهيد وسيل جارف من الدماء الطاهرة التي لاتوزن بها الجبال، من رجال أوقفوا أنفسهم وأرواحهم من أجل هذا الدين وصاحبه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم).

إستطاع رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) أن يقيم حكومة اللَّه تعالى في الأرض وأن يثبِّت فيها الأركان على أساس الواقع والوجود، فلم تجد آنذاك كل قوى الشرّ بدّاً

ص: 6

من الإختباء في زوايا العتمة والظلام تتحيّن الفرص السانحة والظروف الملائمة للانقضاض على هذا البنيان الذي بدا يزداد شموخاً وعلوّاً مع تقادم السنين.

ولقد كان رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) يدرك عياناً أنّ نقطة ضعف هذه الأُمّة يمكن في تفرّقها وفي تبعثر جهودها ممّا سيمكن من ظهور منافذ مشرعة في هذا البنيان الكبير لاتتردد أركان الكفر وأعداء الدين المتلوّنين والمتسترين من النفوذ خلالها والتسلل بين أهلها، وفي ذلك الخطر الأكبر. ولذا فإنّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله وسلّم) كان يصرّح ويحذِّر من افتراق أُمّته، ويلوح للمفترقين بالنار والجحيم.

بيد أنّ ما حذِّر منه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) وما كان يخشاه، بدت أوّل معالمه الخطرة تتوضح في اللحظات الأُلى لرحيله (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) وانتقاله إلى عالم الخلود، وعندها وجد أعداء هذا الدين الفرصة مؤاتية للولوج إلى داخل هذا البناء والعمل على هدمه بمعاول أهله لا بمعاولهم هم.

فتفرقت هذه الأمّة فرقاً فرقاً وجماعات جماعات، لا تتردد كل واحدة من أن تكفّر الأُخرى وتكيل لها التهم الباطلة والافتراءات الظالمة، وانشغل المسلمون عن أعدائهم بقتال إخوانهم والتمثيل بأجسادهم، وحل بالأُمّة وباء وبيل بدا يستشري في جسدها الغض بهدوء دون أن تنشغل بعلاجه.

نعم بعد هذه السنين المرة من الفرقة والتشتّت بدأ المسلمون في أُخريات المطاف يلعقون جراح خلّفتها سيوف إخوانهم لا سيوف أعدائهم في حين ينظر إليهم أعداؤهم بتشفّ وشماتة.

ص: 7

إنّ ما حلَّ بالمسلمين من مصائب وتخلّف في كافة المستويات أوقعتهتم في براثن المستعمرين أعداء اللَّه ورسله يعود إلى تفرق كلمتهم وتبعثر جهودهم وتمزّق وحدتهم، ولعل نظرة عاجلة لما يجري في بقاع المعمورة المختلفة يوضّح لنا هذه الصورة المؤلمة والمفجعة، فمن فلسطين مروراً بلبنان وأفغانستان، والبوسنة والهرسك، والصومال وغيرها وغيرها مشاهد مؤلمة لنتائج هذا التمزّق والتبعثر.

وإن كان من كلمة تقال فإنّ للجهود المخلصة الداعية إلى الالتفات إلى مصدر الداء لا أعراضه فقط الثقل الأكبر في توقي غيرها من المضاعفات الخطيرة التي تتولد كل يوم في بلد من بلاد المسلمين لا في غيرها.

ولا نغالي إذ قلنا بأنّ للجمهورية الإسلامية في إيران ومؤسّها الإمام الخميني- رضوان اللَّه تعالى عليه- الفضل الأكبر في تشخيص موضع الداء وتحديد موطنه.

ولعل الإستقراء المختصر لجمل توجيهات الإمام- رحمه اللَّه- طوال حياته ولسنين طويلة يدلّنا بوضوح على قدرته التشخيصية في وضع يده على موضع الداء، ودعوته إلى الالتفات إلى ذلك، لا إلى الإنشغال بما عداه.

فمن نداء له- رحمه اللَّه- إلى حجاج بيت اللَّه الحرام في عام (1399) قال: ومن واجبات هذا التجمع العظيم دعوة الناس والمجتمعات الإسلامية إلى وحدة الكلمة وإزالة الخلافات بين فئات المسلمين، و على الخطباء والوعّاظ والكتّاب أن يهتمّوا بهذا الأمر الحياتي ويسعوا إلى إيجاد

ص: 8

جبهة للمستضعفين لتحرر بوحدة الجبهة ووحدة الكلمة وشعار (لا إلاه إلّا اللَّه) من أسر القوى الأجنبية الشيطانية والمستعمرة والمستغلة، وللتغلب بالاخوة الإسلامية على المشاكل.

يا مسلمي العالم، و يا أتباع مدرسة التوحيد رمز كل مصائب البلدان الإسلامية هو اختلاف الكلمة وعدم الإنسجام، ورمز الانتصار وحدة الكلمة والإنسجام، وقد بيّن اللَّه تعالى ذلك في جملة واحدة:

(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَميعاً وَلا تَفَرَّقُواْ) والاعتصام بحبل اللَّه تبيان لتنسيق جميع المسلمين من أجل الإسلام وفي اتجاه الإسلام ولمصالح المسلمين، والأبتعاد عن التفرقة والإنفصال والفئوية التي هي أساس كل مصيبة وتخلّف.

وقال- رحمه اللَّه- في كلمة له مع وفد من كبار علماء الحرمين الشريفين (1399 ه): رمز انتصار المسلمين في صدر الإسلام كان وحدة الكلمة وقوة الإيمان.

لو كان ثمة وحدة كلمة إسلامية، ولوكانت الحكومات والشعوب الإسلامية متلاحمة فلا معنى لأن يبقى ما يقارب مليارد إنسان مسلم تحت سيطرة القوى الأنجنبية، لو أنّ القدرة الألهية الكبرى تقترن بقوة الإيمان ويسيروا جميعاً متآخين على طريق الإسلام فلا تستطيع أية قوة أن تتغلب عليهم.

وأكّد- رحمه اللَّه- على مغزى سر انتصار المسلمين في صدر الإسلام الأوّل رغم قلّة عددهم و تراضع امكانياتهم، وانكسارهم في الوقت الحاضر مع عظم امكانياتهم وكثرة عددهم بقوله: يا مسلمي العالم ماذا دهاكم فقد دحرتم في صدر الإسلام بعدة قليلة جداً القوى العظمى وأوجدتهم الأمّة

ص: 9

الكبرى الإسلامية الإنسانية، واليوم وأنتم تقربون من مليارد إنسان وتملكون مخازن الخيرات الكبرى التي هي أكبر حربة تقفون أمام العدو بمثل هذا الضعف والأنهيار، أتعلمون أنّ كلّ مآسيكم تكمن في التفرقة والاختلاف بين زعماء بلدانكم وبالتالي بينكم أنتم أنفسكم.

وقال أيضاً: إثارة الاختلافات بين المذاهب الإسلامية من الخطط الإجرامية التي تدبرّها القوى المستفيدة من الخلافات بين المسلمين، بالتعاون مع عملائها الضالّين بمن فيهم وعاظ السلاطين المسودة وجوههم أكثر من سلاطين الجور أنفسهم، وهؤلاء يؤججون نيران هذه الاختلافات باستمرار، وكلّ يوم يرفعون عقيرتهم بنعرة جديدة، وفي كلّ مرحلة ينفذون خطة لأثارة الخلافات، آمين بذلك هدم صرح الوحدة بين المسلمين من أساسه.

وهذكا فإنّ الصورة تبدو أكثر وضوحاً عند قراءة سلسلة خطب الإمام الخميني وتوصياته المستمرة إلى عموم المسلمين وخصوصاً في مواسم الحج التي تشكّل أفضل تجمّع إسلامي تشارك فيه أعداد ضخمة من المسلمين ومن شتّى بقاع المعمورة في مؤتمر ضخم لا بد من أن يكرِّسه المسلمون لتدارس أُمورهم وعلاج مشاكلهم ومناقشة معتقداتهم، حيث أنّ الإمام- رحمه اللَّه- كان يواظب على إثارة هذه الأُمور الحساسة والمهمة في حياة الإسلام والمسلمين، ولم يدخر في ذلك جهداً.

كما أنَّ الإطلاع على فتاوى الإمام- رضوان اللَّه تعالى عليه- يكشف بوضوح عمق توجهه إلى هذا الأمر الحيوي والدقيق، وتأكيده عليه.

فمن توجيهاته- رحمه اللَّه- إلى الحجاج نورد هذه الملاحظات المختصرة:

ص: 10

قال: يلزم على الإخوة الإيرانيين والشيعة في سائر البلدان الإسلامية أن يتجنّبوا الأعمال السقيمة المؤدّية إلى تفرقة صفوف المسلمين، ويلزم الحضور في جماعات أهل السنّة، والأبتعاد بشدة عن تشكيل صلاة الجماعة في المنازل ووضع مكبّرات الصوت بِشَكلٍ غير مألوف و عن إلقاء النفس على القبور المطهّرة و عن الأعمال التي قد تكون مخالفة للشرع.

يلزم ويجزي (أي يكفي) في الوقوفين متابعة حكم القاضي من أهل السنّة، وإن حصل لكم القطع بخلافه.

على عامّة الإخوة والأخوات في الدين أن يلتفتوا إلى أنّ واحداً من أهم أركان فلسفة الحج إيجاد التفاهم وترسيخ الإخوّة بين المسلمين.

وغير ذلك من الفتاوى المهمّة التي ندعو جميع المسلمين إلى مطالعتها والتأمّل فيها.

وعلى هذا الخط المبارك واصلت الجمهوريّة الإسلامية مسارها في الدعوة إلى وحدة كلمة المسلمين بعد رحيل الإمام الخمينى- رضوان اللَّه تعالى عليه- وأخذت تؤكد عليه في كل مناسبة ومكان على لسان قائدها سماحة آية اللَّه السيد علي الخامنئي- حفظه اللَّه- وباقي مسؤوليتها، ولم تدّخر جهداً في العمل على اقامة هذا الأمر الشرعي المهم والدفاع عنه، من خلال توجيهاتها المستمرة في هذا المنحى أو دعمها غير المحدود لكل الجهود المخلصة في هذا الميدان.

وأخيرا .. فإنَّ هذا الكتاب الماثل بين يدي القارى ء الكريم- وهو بقلم الباحث القدير الشيخ جعفر السبحاني- دعوة للتأمّل ضمن الحدود

ص: 11

التي أشرنا إليها في حديثنا، وهي بالتالي تعكس صورة صادقة عن حجم الهجمة الكافرة التي أرادت تمزيق الأُمّة ودفعها إلى التشتت، وبيان ما أخذت من مساحة واسعة في فكر هذه الأُمّة ومعتقداتها.

بلى لسنا في معرض الدفاع عن الوجود المقدس لهذه الشريعة السماوية فحسب، بل ابتغينا إزاحة اللثام وإماطة الخبث عن الدسائس الخبيثة التي تريد بالأُمّة الهلاك.

وقد قامت معاونية شؤون التعليم والبحوث بنشره، حتى لعم نفعه ويتعرف المسلمون على الشيعة عن كتب.

واللَّه تعالى من وراء القصد.

معاونية شؤون التعليم

و

البحوث الإسلامية

ص:12

ص: 13

رسائل بعض أعلام الشيعة

اشارة

إنّ المناهج الكلامية التي فرّقت المسلمين إلى مذاهب حدثت في أواخر القرن الأوّل الهجري، واستمرّت في القرون التالية، فنجمت عنها فرق إسلامية مختلفة كالمرجئة، والجهمية، والمعتزلة، والحشوية، والأشعرية، والكرامية بفرقهم المتشعّبة. وهذه الفرق بمجموعها تشكل نتاجاً حقيقياً لمخاض البحث والمذاكرة، وكنتيجة منطقية للتوسع الا فقي في الرقعة الإسلامية التي شملت العديد من الا مّم والقوميات المختلفة، وما يشكله ذلك من احتكاك وجدل فكري وتأثر وتأثير في تلك التيارات الفكرية وتداخل غير محسوس في أحيان كثيرة أُوجد و دون وعي من الكثيرين، ركائز وجود هذه التصورات التي تبلورت فيما بعد في ما يسمّى بالفرق الإسلامية.

ومن هنا فإنّ المرء لا يجد لها تاريخاً متّصلًا بزمن النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم، ويقف على صدق ما ذكرنا من سبر أجزاء كتابنا هذا.

فالخوارج مثلًا كانوا فرقة سياسية نشأت في عام 37 ه أثناء حرب صفّين ثمّ تبدّلت إلى فرقة دينيّة في أواخر القرن الأوّل وأوائل القرن الثاني.

والمرجئة ظهرت في الأوساط الإسلاميّة عند اختلاف الناس في الخليفة عثمان والإمام وعلي، ثمّ تطورت إلى معنى آخر وكان من حصيلة التطوّر هو تقديم الإيمان وتأخير العمل.

والجهمية نتيجة أفكار «جهم بن صفوان» المتوفّى سنة 128 ه.

والمعتزلة تستمد من واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري المتوفّى

ص: 14

عام 130 ه، وهكذا القدريّة والكرّاميّة والظاهريّة والأشعريّة فجميعها فرق نتجت عن البحث الكلامي وصقلها الجدل عبر القرون، فلا تجد لهذه الفرق سنداً متّصلًا بالنبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم.

وأمّا عقائد الشيعة الإمامية فعلى النقيض من ذلك، ولا صلة في نشأتها بينها وبين تلك الفرق، لأنّها أُخذت أساساً من مصادر التشريع الحقيقية للإسلام، وهي: الذكر الحكيم أوّلًا، والسنّة النبويّة ثانياً، وخطب الإمام علي وكلمات العترة الطاهرة الصادرة من النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم ثالثاً. فلأجل ذلك يحدّد تاريخ عقائدهم بتاريخ الإسلام وحياة أئمّتهم الطاهرين.

وهذا لا يعني أنّ الشيعة تتعبّد بالنصوص في أُصولها المذكورة من دون تحليل وتفكير، بل أنّ أُصول العقائد الواردة في المصادر المذكورة أخذها علماؤهم منها وحرّروها بأوضح الوجوه، ودعموها بالبراهين الواضحة، كما أنّهم لا يعتدّون في بناء معتقداتهم ومتبنياتهم على رواية الآحاد بل يشترطوا فيها أن تكون متواترة، أو محفوفة بالقرائن المفيدة للعلم واليقين، إذ ليس المطلوب في باب الاعتقاد مجرّد العمل، بل المطلوب هو الإذعان والإيمان وهذا لا يحصل برواية الآحاد.

إلّا أنّ الأمر الجدير بالذكر هو أنّ المرتكز الأساسي لبناء العقيدة الخاصة بالشيعة الإمامية هو الاعتقاد بأنّ الإمام عليّاً منصوص عليه بالوصاية على لسان النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم، وأنّه وعترته الطاهرة هم المرجع الأعلى بعد الذكر الحكيم. وهذا هو العنصر المقوّم للتشيّع، وأمّا سائر الأُصول فإنّها عقائد إسلامية لا تختص بالشيعة الإمامية وحدها.

وسنحاول أن نستعرض في الصفحات اللاحقة بعضاً من جوانب عقائد الشيعة الإمامية، الواردة في أحاديث أئمّتهم تارة، وكلمات علمائهم

ص: 15

الأقدمين ثانياً، حتى يقف القارئ على جذور تلك العقائد وتتوضح له الصورة الحقيقية عن ركائز هذه المعتقدات، والتي تستمد كيانها من الأخبار والروايات الواردة من أئمّتهم الطاهرين والتي تشكل كلمات الإمام علي- عليهالسّلام وخطبه البعد الأكبر فيها، أو من الآراء الكلامية لعلمائهم، والتي تتفق كثيراً مع جمهور المسلمين في أبعادها المختلفة.

1- ما كتبه الإمام الرضا- عليهالسّلام للمأمون عن محض الإسلام:

روى الصدوق بسنده عن الفضل بن شاذان قال: سأل المأمون علي ابن موسى الرضا أن يكتب له محض الإسلام على سبيل الإيجاز والاختصار، فكتب- عليهالسّلام له: «إنّ محض الإسلام شهادة أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له إلهاً واحداً أحداً، فرداً صمداً، قيّوماً، سميعاً، بصيراً، قديراً، قديماً، قائماً، باقياً، عالماً لا يجهل، قادراً لا يعجز، غنيّاً لا يحتاج، عدلًا لا يجور، وأنّه خالق كلّ شي ء، ليس كمثله شي ء، لا شبه له ولا ضدّ له ولا ندّ له ولا كفو له، وانّه المقصود بالعبادة والدعاء والرغبة والرهبة.

وأنّ محمّداً عبده ورسوله وأمينه وصفيّه وصفوته من خلقه، وسيّد المرسلين وخاتم النبيين وأفضل العالمين، لا نبيّ بعده ولا تبديل لملّته ولا تغيير لشريعته، وانّ جميع ما جاء به محمّد بن عبد اللَّه هو الحقّ المبين، والتصديق به وبجميع من مضى قبله من رسل اللَّه، وأنبيائه، وحججه، والتصديق بكتابه، الصادق العزيز الذي: (لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميد) (1)

وانّه المهيمن على الكتب كلّها، وانّه حقّ من فاتحته إلى خاتمته، نؤمن بمحكمه ومتشابهه، وخاصّه وعامّه، ووعده ووعيده، وناسخه ومنسوخه، وقصصه واخباره، لا يقدر أحد من المخلوقين


1- فصّلت/ 42.

ص: 16

أن يأتي بمثله.

وأنّ الدليل بعده والحجّة على المؤمنين والقائم بأمر المسلمين، والناطق عن القرآن، والعالم بأحكامه: أخوه وخليفته ووصيّه ووليّه، والذي كان منه بمنزلة هارون من موسى: علي بن أبي طالب- عليهالسّلام أمير المؤمنين، وإمام المتّقين، وقائد الغرِّ المحجّلين، وأفضل الوصيّين، ووارث علم النبيّين، والمرسلين، وبعده الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة، ثمّ علي بن الحسين زين العابدين، ثمّ محمّد بن علي باقر علم النبيّين، ثمّ جعفر بن محمّد الصادق وارث علم الوصيّين، ثمّ موسى بن جعفر الكاظم، ثمّ علي ابن موسى الرضا، ثمّ محمّد بن علي، ثمّ علي بن محمّد، ثمّ الحسن بن علي، ثمّ الحجّة القائم المنتظر- صلوات اللَّه عليهم أجمعين-.

أشهد لهم بالوصية والإمامة، وأنّ الأرض لا تخلو من حجّة للَّه تعالى على خلقه في كلّ عصر وأوان، وأنّهم العروة الوثقى، وأئمّة الهدى والحجّة على أهل الدنيا، إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها، وأنّ كل من خالفهم ضال مضل باطل، تارك للحقّ والهدى، وأنّهم المعبّرون عن القرآن، والناطقون عن الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم بالبيان، ومن مات ولم يعرفهم مات ميتة جاهلية، وأنّ من دينهم الورع والفقه والصدق والصلاة والاستقامة والاجتهاد، وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر، وطول السجود، وصيام النهار وقيام الليل، واجتناب المحارم، وانتظار الفرج بالصبر، وحسن العزاء وكرم الصحبة (1).

ثمّ ذكر الإمام فروعاً شتّى من مختلف أبواب الفقه وأشار إلى بعض الفوارق بين مذهب أهل البيت وغيرهم لا يهمّنا في المقام ذكرها ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى المصدر.

ص: 17

2- عرض السيّد عبد العظيم الحسني عقائده على الإمام الهادي:

روى الصدوق عن عبد العظيم الحسني (1)قال: دخلت على سيدي علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب-- عليهما السّلام-- فلمّا بَصُرَ بي، قال لي: «مرحباً بك يا أبا القاسم أنت وليّنا حقّا» قال: فقلت له: يا ابن رسول اللَّه إنّي أُريد أن أعرض عليك ديني، فإنّ كان مرضيّاً أثبت عليه حتى ألقى اللَّه عزّ وجلّ. فقال: «هاتها أبا القاسم».

فقلت: إنّي أقول: إنّ اللَّه تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شي ء، خارج من الحدّين: حدّ الابطال، وحدّ التشبيه، وأنّه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر، بل هو مجسِّم الأجسام ومصوِّر الصور، وخالق الأعراض والجواهر، وربَّ كلّ شي ء ومالكه وجاعله ومحدثه، وإنّ محمّداً عبده ورسوله،


1- عبدالعظيم بن عبداللَّه بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب-- عليهماالسّلام-- من أصحاب الإمام الهادي، قال النجاشي: له كتاب خطب أميرالمؤمين، ورد الري هارباً من السلطان وسكن سرباً في دار رجل من الشيعة في سكة الموالي فكان يعبد اللَّه في ذلك السرب ويصوم نهاره ويقوم ليله، وكان يخرج مستتراً، فيزور القبر المقابل قبره وبينهما الطريق ويقول: هو قبر رجل من ولد موسى بن جعفر- عليه السّلام- فلم يزل يأوي إلى ذلك السرب ويقع خبره إلى الواحد بعد الواحد من شيعة آل محمّد-- عليهما السّلام-- حتى عرفه أكثرهم. رجال النجاشي 2/ 65- 66، ومات عبدالعظيم بالري وقبره مزار يزوره الناس. وذكره الشيخ الطوسي في رجاله في أصحاب الإمام الهادي والعسكري تحت رقم 1 و 20، وذكره أيضاً صاحب عمدة الطالب 94.

ص: 18

خاتم النبيّيين فلا نبيّ بعده إلى يوم القيامة، وأقول: إنّ الإمام والخليفة ووليّ الأمر بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ علي ابن الحسين، ثمّ محمّد بن علي، ثمّ جعفر بن محمّد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ علي بن موسى، ثمّ محمّد بن علي، ثمّ أنت يا مولاي.

فقال- عليهالسّلام: «ومن بعدي الحسن ابني، فكيف للناس بالخلف من بعده» قال: فقلت: وكيف ذاك يا مولاي؟ قال: «لأنّه لا يرى شخصه ولا يحل ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلًا كما ملئت ظلماً وجوراً».

قال: فقلت: أقرّرت وأقول: إنّ وليّهم وليّ اللَّه، وعدوّهم عدوّ اللَّه، وطاعتهم طاعة اللَّه ومعصيتهم معصية اللَّه، وأقول: إنّ المعراج حقّ والمساءلة في القبر حقّ، وإنّ الجنّة حقّ، والنار حقّ، والميزان حقّ، وانّ الساعة آتية لا ريب فيها وانّ اللَّه يبعث من في القبور، وأقول: إنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية: الصلاة والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فقال علي بن محمّد- عليهالسّلام: يا أبا القاسم: «هذا واللَّه دين اللَّه الذي ارتضاه لعباده، فاثبت عليه ثبّتك اللَّه بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة» (1).

وقد اكتفينا بهذين النصّين من الإمامين الطاهرين، أحدهما قولي، والآخر امضائي، وقد أخذوا عقائدهم عن آبائهم الطاهرين.

ص: 19

3- رسالة الصدوق في عقائد الإمامية:

إنّ لمشايخنا الإمامية مؤلفات شهيرة في بيان عقائد الشيعة ومعارفهم، ونختار في المقام رسائل موجزة من المتقدّمين:

صنّف الشيخ الصدوق (306- 381 ه) رسالة موجزة في عقائد الإمامية، قال: اعلم انّ اعتقادنا في التوحيد: أنّ اللَّه تعالى واحد أحد، ليس كمثله شي ء، قديم لم يزل ولا يزال، سميعاً بصيراً، عليماً حكيماً، حيّاً قيّوماً، عزيزاً قدّوساً، عالماً قادراً، غنيّاً، لا يوصف بجوهر ولا جسم ولا صورة ولا عرض- إلى أن قال:- وأنّه تعالى متعال عن جميع صفات خلقه، خارج عن الحدّين: حدّ الإبطال، وحدّ التشبيه، وأنّه تعالى شي ء لا كالأشياء، أحد صمد لم يلد فيورث، ولم يولد فيشارك، ولم يكن له كفواً أحد، ولا ند ولا ضد، ولا شبه ولا صاحبة، ولا مثل ولا نظير، ولا شريك له، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، ولا الأوهام وهو يدركها، لا تأخذه سنة ولا نوم وهو اللطيف الخبير، خالق كلّ شي ء لا إله إلّا هو، له الخلق والأمر تبارك اللَّه ربّ العالمين.

ومن قال بالتشبيه فهو مشرك، ومن نسب إلى الإمامية غير ما وصف في التوحيد فهو كاذب، وكل خبر يخالف ما ذكرت في التوحيد فهو موضوع مخترع، وكل حديث لا يوافق كتاب اللَّه فهو باطل، وإن وجد في كتب علمائنا فهو مدلس ... ثمّ إنّه قدّس اللَّه سرّه ذكر الصفات الخبرية في الكتاب العزيز وفسّرها، وبيّن حدّاً خاصّاً لصفات الذات وصفات الأفعال، وما هو معتقد الإماميّة في أفعال العباد، وأنّه بين الجبر والتفويض، كما ذكر عقائدهم في القضاء والقدر، والفطرة، والاستطاعة، إلى غير ذلك من المباحث المهمّة التي تشكّل العمود الفقري للمعارف الإلهية. إلى أن قال:

اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله اللَّه تعالى على نبيّه محمّد هو ما بين

ص: 20

الدفّتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس 114 سورة، وعندنا أنّ الضحى والانشراح سورة واحدة، كما أنّ الإيلاف والفيل سورة واحدة. ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب ... إلى آخر الرسالة .(1)

ثمّ إنّ الشيخ المفيد (336- 413 ه) قد شرح تلك الرسالة بكتاب أسماه شرح عقائد الصدوق، أو تصحيح الاعتقاد ناقش فيها استاذه الصدوق في بعض المواضع التي استند فيها الصدوق على روايات غير جامعة للشرائط في باب العقائد .(2)

4- ما أملاه الصدوق أيضاً- رحمه اللَّه-:

على جماعة في المجلس الثالث والتسعين، وجاء فيه: واجتمع في هذا اليوم إلى الشيخ الفقيه أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه أهل مجلسه والمشايخ، فسألوه أن يملي عليهم وصف دين الإماميّة على الإيجاز والاختصار، فقال: دين الإماميّة هو الإقرار بتوحيد اللَّه تعالى ذكره، ونفي التشبيه عنه، وتنزيهه عمّا لا يليق، والإقرار بأنبياء اللَّه ورسله وحججه وملائكته وكتبه، والإقرار بأنّ محمّداً هو سيّد الأنبياء والمرسلين، وأنّه أفضل منهم ومن جميع

الملائكة المقرّبين، وأنّه خاتم النبيّين فلا نبيّ بعده ... إلى آخر ما ذكر .(3)


1- لاحظ رسالة الصدوق في الاعتقادات، وقد طبعت غير مرّة، وعليها شروح وتعاليق العلماء منهم العلّامة المجلسي.
2- طبع الكتاب أوائل المقالات للشيخ المفيد في تبريز عام 1371.
3- الأمالي للشيخ الصدوق، وأنظر الحديث المتقدم في آخر كتاب المقنع والهداية وممّا أملاه في يوم الجمعة الثاني عشر من شعبان سنة 368 لاحظ ص 509 طبع بيروت فيا آخر كتاب المقنع والهداية.

ص: 21

5- جمل العلم والعمل للسيّد الشريف المرتضى:

ألّف السيّد الشريف المرتضى رسالة موجزة في العقائد أسماها جمل العلم والعمل. أورد فيها- رحمه اللَّه عقائد الشيعة على وجه الايجاز، نذكر ما يرتبط بالتوحيد، وندعو القارئ الكريم إلى مطالعة الرسالة لما فيها من العرض الدقيق لهذه الجوانب:

بيان ما يجب اعتقاده في أبواب التوحيد:

الأجسام محدثَة لأنّها لم تسبق الحوادث، فلها حكمها في الحدوث، ولابدّ لها من محدِث، لحاجة كلّ محدَث في حدوثه إلى محدِث كالصناعة والكتابة.

ولابدّ من كونه (تعالى) قادراً لتعذّر الفعل على من لم يكن قادراً، وتيسّره على من كان كذلك.

ولابدّ من كون محدِثها عالماً لأنّ الاحكام ظاهر في كثير من العالم، والمحكم لا يقع إلّا من عالم.

ولابدّ من كونه موجوداً، لأنّ له تعلّقاً من حيث كان قادراً عالماً، وهذا الضرب من التعلّق لا يصح إلّا مع الوجود.

ويجب كونه قديماً، لانتهاء الحوادث إليه.

ويجب كونه حيّاً، وإلّا لم يصح كونه قادراً، عالماً، فضلًا عن وجوبه.

ويجب أن يكون مدركاً إذا وجدت المدركات، لاقتضاء كونه حيّاً.

ذلك وواجب كونه سميعاً بصيراً، لأنّه ممّن يجب أن يدرك المدركات إذا وجدت، وهذه فائدة قولنا سميع بصير.

ص: 22

ومن صفاته- وإن كانتا عن علّة- كونه تعالى مريداً وكارهاً، لأنّه تعالى قد أمر وأخبر ونهى، ولايكون الأمر والخبر أمراً ولا خبراً إلّا بالإرادة.

والنهي لا يكون نهياً إلّا بالكراهة.

ولا يجوز أن يستحق هاتين الصفتين لنفسه، لوجوب كونه مريداً كارهاً للشي ء الواحد، على الوجه الواحد.

ولا لعلّة قديمة، لما سنبطل به الصفات القديمة.

ولا لعلّة محدثة في غير حي لافتقار الإرادة إلى تنبيه. ولا لعلّة موجودة في حي، لوجوب رجوع حكمها إلى ذلك الحي. فلم يبق إلّا أن توجد لا في محل.

ولا يجوز أن يكون له في نفسه صفة زائدة على ما ذكرناه لأنّه لا حكم لها معقول.

وإثبات ما لا حكم له معقول من الصفات، يفضي إلى الجهالات.

ويجب أن يكون قادراً فيما لم يزل، لأنّه لو تجدّد له ذلك لم يكن إلّا لقدرة محدثة، ولا يمكن اسناد احداثها إلّا إليه، فيؤدّي إلى تعلّق كونه قادراً بكونه محدثاً، وكونه محدثاً بكونه قادراً. وثبوت كونه قادراً فيما لم يزل يقتضي أن يكون فيما لم يزل حيّاً موجوداً.

ويجب أن يكون عالماً فيما لم يزل، لأنّ تجدّد كونه عالماً يقتضي أن يكون بحدوث علم، والعلم لا يقع إلّا ممّن هو عالم.

ووجوب هذه الصفات لم تدل على أنّها نفسيّة، وادّعاء وجوبها لمعان قديمة تبطل صفات النفس. ولأنّ الاشتراك في القدم يوجب التماثل والمشاركة في سائر الصفات ولا يجوز خروجه تعالى عن هذه الصفات لاسنادها إلى النفس.

ص: 23

ويجب كونه تعالى غنيّاً غير محتاج، لأنّ الحاجة تقتضي أن يكون ممّن ينتفع ويستضر، وتؤدّي إلى كونه جسماً.

لا يجوز كونه تعالى [متّصفاً] بصفة الجواهر والأجسام والاعراض لقدمه وحدوث هذه أجمع، ولأنّه فاعل الأجسام، والجسم يتعذر عليه فعل الجسم.

ولا يجوز عليه تعالى الرؤية، لأنّه كان يجب مع ارتفاع الموانع وصحّة ابصارنا أن نراه.

ولمثل ذلك يعلم أنّه لا يُدرك بسائر الحواس.

ويجب أن يكون تعالى واحداً لا ثاني له في القدم، لأنّ إثبات ثان يؤدّي إلى إثبات ذاتين لا حكم لهما يزيد على حكم الذات الواحدة، ويؤدّي أيضاً إلى تعذّر الفعل على القادر من غير جهة منع معقول. وإذا بطل قديم ثان بطل قول الثنوية والنصارى والمجوس ... إلى آخرها .(1)

6- البيان عن جمل اعتقاد أهل الإيمان للكراجكي:

اشارة

كتب الإمام أبو الفتح الشيخ محمّد بن علي الكراجكي الطرابلسي رسالة موجزة في عقائد الإمامية وأسماها «البيان عن جمل اعتقاد أهل الإيمان».

قال: سألت يا أخي أسعدك اللَّه بألطافه، وأيّدك باحسانه واسعافه، أن أثبت لك جملًا من اعتقادات الشيعة المؤمنين، وفصولًا في المذهب يكون


1- جمل العلم والعمل قسم العقائد، الطبعة الثانية تحقيق رشيد الصفار، طبعة النجف طالع الرسالة بأجمعها، نعم: رأيه في إعجاز القرآن من القول بالصرف رأي شخصي له ولا يمثل رأي جمهور الإمامية.

ص: 24

عليها بناء المسترشدين، لتذاكر نفسك بها، وتجعلها عدّة لطالبها، وأنا أختصر لك القول وأُجمله، وأُقرّب الذكر وأُسهّله وأورده على سنن الفتيا في المقالة، من غير حجّة ولا دلالة، وما توفيقي إلّا باللَّه:

في توحيده سبحانه:

إعلم أنّ الواجب على المكلّف: أن يعتقد حدوث العالم بأسره، وانّه لم يكن شيئاً قبل وجوده، ويعتقد أنّ اللَّه تعالى هو محدِث جميعه، من أجسامه، واعراضه، إلّا أفعال العباد الواقعة منهم، فإنّهم محدثوها دونه سبحانه.

ويعتقد أنّ اللَّه قديم وحده، لا قديم سواه، وأنّه موجود لم يزل، وباق لا يزال، وأنّه شي ء لا كالأشياء. لا شبيه الموجودات، ولا يجوز عليه ما يجوز على المحدثات، وأنّ له صفات يستحقّها لنفسه لا لمعان غيره، وهي كونه حيّاً، عالماً، قديماً باقياً، لا يجوز خروجه عن هذه الصفات إلى ضدّها، يعلم الكائنات قبل كونها، ولا يخفى عليه شي ء منها.

في عدله سبحانه:

وأنّ له صفات أفعال، لا يصح اضافتها إليه في الحقيقة إلّا بعد فعله، وهي ما وصف به نفسه من أنّه خالق، ورازق، ومعط، وراحم، ومالك، ومتكلّم، ونحو ذلك.

وأنّ له صفات مجازات وهي ما وصف به نفسه، من أنّه يريد ويكره، ويرضى ويغضب.

فارادته لفعل هي الفعل المراد بعينه، وإرادته لفعل غيره هي الأمر

ص: 25

بذلك الفعل، وليس تسميتها بالإرادة حقيقة، وإنّما هو على مجاز اللغة، وغضبه هو وجود عقابه، ورضاه هو وجود ثوابه، وأنّه لا يفتقر إلى مكان، ولا يدرك بشي ء من الحواس.

وأنّه منزّه من القبائح، لا يظلم الناس وإن كان قادراً على الظلم، لأنّه عالم بقبحه، غني عن فعله، قوله صدق، ووعده حقّ، لا يكلّف خلقه على ما لا يستطاع، ولا يحرمهم صلاحاً لهم فيه الانتفاع، ولا يأمر بما لا يريد، ولا ينهي عمّا يريد. وأنّه خلق الخلق لمصلحتهم، وكلّفهم لأجل منازل منفعتهم، وأزاح في التكليف عللهم، وفعل أصلح الأشياء بهم.

وأنّه أقدرهم قبل التكليف، وأوجد لهم العقل والتمييز.

وأنّ القدرة تصلح أن يفعل بها وضده بدلًا منه. وأنّ الحق الذي تجب معرفته، يدرك بشيئين، وهما العقل والسمع، وأنّ التكليف العقلي لا ينفك عن التكليف السمعي. وأنّ اللَّه تعالى قد أوجد (للناس) في كل زمان مسمعاً (لهم) من أنبيائه وحججه بينه وبين الخلق، ينبّههم على طريق الاستدلال في العقليات، ويفقّههم على ما لا يعلمونه إلّا به من السمعيات. وأنّ جميع حجج اللَّه تعالى محيطون علماً بجميع ما يفتقر إليهم فيه العباد. وإنّهم معصومون من الخطأ والزلل عصمة اختيار. وأنّ اللَّه فضلهم على خلقه، وجعلهم خلفاءه القائمين بحقّه. وأنّه أظهر على أيديهم المعجزات، تصديقاً لهم فيما ادّعوه من الأنباء والأخبار. وانّهم- مع ذلك- بأجمعهم عباد مخلوقون، بشر مكلّفون يأكلون ويشربون، ويتناسلون، ويحيون بإحيائه، ويموتون بإماتته، تجوز عليهم الآلام المعترضات، فمنهم من قتل، ومنهم من مات، لا يقدرون على خلق، ولا رزق، ولا يعلمون الغيب إلّا ما أعلمهم إله الخلق. وانّ أقوالهم صدق، وجميع ما أتوا به حق.

ص: 26

في النبوّة العامّة والخاصّة:

وأنّ أفضل الأنبياء أُولو العزم، وهم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمّد صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وعليهم، وانّ محمّد بن عبد اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم أفضل الأنبياء أجمعين، وخير الأوّلين والآخرين. وانّه خاتم النبيين، وانّ آباءه من آدم- عليهالسّلام إلى عبد اللَّه بن عبد المطلب- رضوان اللَّه عليهم- كانوا جميعاً مؤمنين، وموحّدين للَّه تعالى عارفين، وكذلك أبو طالب رضوان اللَّه عليه.

ويعتقد أنّ اللَّه سبحانه شرّف نبيّنا صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم بباهر الآيات، وقاهر المعجزات، فسبّح في كفّه الحصاء، ونبع من بين أصابعه الماء، وغير ذلك ممّا قد تضمّنته الأنباء، وأجمع على صحّته العلماء، وأتى بالقرآن المبين، الذي بهر به السامعين، وعجز من الاتيان بمثله سائر الملحدين.

وأنّ القرآن كلام ربّ العالمين، وانّه محدث ليس بقديم. ويجب أن يعتقد أنّ جميع ما فيه من الآيات الذي يتضمّن ظاهرها تشبيه اللَّه تعالى بخلقه، وانّه يجبرهم على طاعته أو معصيته، أو يضل بعضهم عن طريق هدايته، فإنّ ذلك كلّه لا يجوز حمله على ظاهرها، وانّ له تأويلًا يلائم ما تشهد به العقول ممّا قدّمنا ذكره في صفات اللَّه تعالى، وصفات أنبيائه.

فإن عرف المكلّف تأويل هذه الآيات فحسن، وإلّا أجزأ أن يعتقد في الجملة أنّها متشابهات، وأنّ لها تأويلًا ملائماً، يشهد بما تشهد به العقول والآيات المحكمات، وفي القرآن المحكم، والمتشابه، والحقيقة، والمجاز، والناسخ، والمنسوخ، والخاص، والعام.

ويجب عليه أن يقرّ بملائكة اللَّه أجمعين، وأنّ منهم جبرئيل وميكائيل،

ص: 27

وأنّهما من الملائكة الكرام، كالأنبياء بين الأنام، وأنّ جبرئيل هو الروح الأمين الذي نزل بالقرآن على قلب محمّد خاتم النبيّين، وهو الذي كان يأتيه بالوحي من ربّ العالمين.

ويجب الإقرار بأنّ شريعة الإسلام التي أتى بها محمّد صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم ناسخة لما خالفها من شرائع الأنبياء المتقدّمين.

وإنّه يجب التمسّك بها والعمل بما تضمّنته من فرائضها، وأنّ ذلك دين اللَّه الثابت الباقي إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها، لا حلال إلّا ما أحلّت ولا حرام إلّا ما حرّمت، ولا فرض إلّا ما فرضت، ولا عبادة إلّا ما أُوجبت.

وإنّ من انصرف عن الإسم، وتمسّك بغيره، كافر ضالّ، مخلّد في النار، ولو بذل من الاجتهاد في العبادة غاية المستطاع.

وإنّ من أظهر الإقرار بالشهادتين كان مسلماً، ومن صدّق بقلبه ولم يشك في فرض أتى به محمّد صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم كان مؤمناً.

ومن الشرائط الواجبة للإيمان، العمل بالفرائض اللازمة، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمن.

وقوله تعالى:

(إنّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلام) .(1)

إنّما أراد به الإسلام الصحيح التام، الذي يكون المسلم فيه عارفاً، مؤمناً، عالماً بالواجبات طائعاً.


1- آل عمران/ 19.

ص: 28

في الإمامة والخلافة:

ويجب أن يعتقد أنّ حجج اللَّه تعالى بعد رسوله الذين هم خلفاؤه، وحفظة شرعه، وأئمّة أُمّته، اثنا عشر أهل بيته، أوّلهم أخوه وابن عمّه، وصهره بعل فاطمة الزهراء ابنته، ووصيّه على أُمّته علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، ثمّ الحسن بن علي الزكي، ثمّ الحسين بن علي الشهيد، ثمّ علي بن الحسين زين العابدين، ثمّ محمّد بن علي باقر العلوم، ثمّ جعفر بن محمّد الصادق، ثمّ موسى بن جعفر الكاظم، ثمّ علي بن موسى الرضا، ثمّ محمّد بن علي التقي، ثمّ علي بن محمّد المنتجب، ثمّ الحسن بن علي الهادي، ثمّ الخلف الصالح بن الحسن المهدي- صلوات اللَّه عليهم أجمعين-.

لا إمامة بعد رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم إلّا لهم- عليهما السّلام- ولا يجوز الاقتداء في الدين إلّا بهم، ولا أخذ معالم الدين إلّا عنهم.

وأنّهم في كمال العلم والعصمة من الآثام نظير الأنبياء-- عليهما السّلام-.

وأنّهم أفضل الخلق بعد رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم.

وأنّ إمامتهم منصوص عليها من قبل اللَّه على اليقين والبيان.

وأنّه سبحانه أظهر على أيديهم الآيات، وأعلمهم كثيراً من الغائبات، والا مور المستقبلات، ولم يعطهم من ذلك إلّا ما قارن وجهاً يعلمه من اللطف والصلاح.

وليسوا عارفين بجميع الضمائر والغائبات على الدوام، ولا يحيطون بالعلم بكل ما علمه اللَّه تعالى.

والآيات التي تظهر على أيديهم هي فعل اللَّه دونهم، أكرمهم بها، ولا

ص: 29

صنع لهم فيها.

وأنّهم بشر محدثون، وعباد مصنوعون، لا يخلقون، ولا يرزقون، ويأكلون ويشربون، وتكون لهم الأزواج، وتنالهم الآلام والاعلال، ويستضامون، ويخافون فيتقون، وأنّ منهم من قتل، ومنهم من قبض.

وأنّ إمام هذا الزمان هو المهدي بن الحسن الهادي، وأنّه الحجّة على العالمين، وخاتم الأئمّة الطاهرين، لا إمامة لأحد بعد إمامته، ولا دولة بعد دولته، وأنّه غائب عن رعيته، غيبة اضطرار وخوف من أهل الضلال، وللمعلوم عند اللَّه تعالى في ذلك الصلاح.

ويجوز أن يعرّف نفسه في زمن الغيبة لبعض الناس، وأنّ اللَّه عزّ وجلّ سيظهره وقت مشيئته، ويجعل له الأعوان والأصحاب، فيمهّد الدين به، (و) يطهّر الأرض على يديه، ويهلك أهل الضلال، ويقيم عمود الإسلام، ويصير الدين كلّه للَّه.

وأنّ اللَّه عزّ وجلّ يظهر على يديه عند ظهوره الاعلام، وتأتيه المعجزات بخرق العادات، ويحيي له بعض الأموات، فإذا قام في الناس المدة المعلومة عند اللَّه سبحانه قبضه إليه، ثمّ لا يمتد بعده الزمان، ولا تتّصل الأيام حتى تكون شرائط الساعة، وإماتة من بقي من الناس، ثمّ يكون المعاد بعد ذلك.

ويعتقد أنّ أفضل الأئمّة- عليهما السّلام- أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأنّه لا يجوز أن يسمّى بأمير المؤمنين أحد سواه.

وأنّ بقيّة الأئمّة- صلوات اللَّه عليهم- يقال لهم الأئمّة، والخلفاء، والأوصياء، والحجج، وإن كانوا في الحقيقة أُمراء المؤمنين، فإنّهم لم يمنعوا

ص: 30

من هذا الاسم لأجل معناه، لأنّه حاصل لهم على الاستحقاق، وإنّما منعوا من لفظه حشمة لأمير المؤمنين- عليهالسّلام.

وأنّ أفضل الأئمّة بعد أمير المؤمنين، ولده الحسن، ثمّ الحسين، وأفضل الباقين بعد الحسين، إمام الزمان المهدي- صلوات اللَّه عليه- ثمّ بقية الأئمّة بعده على ما جاء به الأثر وثبت في النظر.

وأنّ المهدي- عليهالسّلام هو الذي قال فيه رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم:

«لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد، لطوّل اللَّه تعالى ذلك اليوم حتى يظهر فيه رجل من ولدي يواطئ اسمه اسمي، يملأها عدلًا وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً» .(1)

فاسمه يواطئ اسم رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وكنيته تواطئ كنيته، غير أنّ النهي قد ورد عن اللفظ، فلا يجوز أن يتجاوز في القول أنّه المهدي، والمنتظر، والقائم بالحق، والخلف الصالح، وإمام الزمان، وحجّة اللَّه على الخلق.

ويجب أن يعتقد أنّ اللَّه فرض معرفة الأئمّة- عليهما السّلام- بأجمعهم، وطاعتهم، وموالاتهم، والاقتداء بهم، والبراءة من أعدائهم وظالميهم ... وأنّه لا يتم الإيمان إلّا بموالاة أولياء اللَّه، ومعاداة أعدائه.


1- روى هذا الحديث وأمثاله ابن خلدون في المقدّمة في الفصل الثاني والخمسين عن الترمذي وأبي داود باختلاف بعض ألفاظه، وروى حوالي اثنين وثلاثين حديثاً، وقال في ص 311 من المقدّمة. «إنَّ جماعة من الأئمّة خرّجوا أحاديث المهدي، منهم: الترمذي، وأبوداود، والبزاز، وابن ماجة، والحاكم، والطبراني، وأبويعلى الموصلي، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة مثل علي، وابن عباس، وابن عمر، وطلحة، وابن مسعود، وأبي هريرة، وأنس، وأبي سعيد الخدري، وأُمّ حبيبة، وأُمّ سلمة، وثوبان، وقرّة بن اياس، وعلي الهلالي».

ص: 31

في التوبة والحشر والنشر:

ويعتقد أنّ اللَّه يزيد وينقص إذا شاء في الأرزاق والآجال.

وأنّه لم يرزق العبد إلّا ما كان حلالًا طيّباً.

ويعتقد أنّ باب التوبة مفتوح لمن طلبها، وهي الندم على ما مضى من المعصية، والعزم على ترك المعاودة إلى مثلها.

وأنّ التوبة ماحية لما قبلها من المعصية التي تاب العبد منها.

وتجوز التوبة من زلّة إذا كان التائب منها مقيماً على زلّةغيرها لا تشبهها، ويكون له الأجر على التوبة، وعليه وزر ما هو مقيم عليه من الزلّة.

وأنّ اللَّه يقبل التوبة بفضله وكرمه، وليس ذلك لوجوب قبولها في العقل قبل الوعد، وإنّما علم بالسمع دون غيره.

ويجب أن يعتقد أنّ اللَّه سبحانه، يميت العباد ويحييهم بعد الممات ليوم المعاد.

وأنّ المحاسبة حق والقصاص، وكذلك الجنّة والنار والعقاب.

وأنّ مرتكبي المعاصي من العارفين باللَّه ورسوله، والأئمّة الطاهرين، المعتقدين لتحريمها مع ارتكابها، المسوّفين التوبة منها، عصاة فسّاق، وأنّ ذلك لا يسلبهم اسم الإيمان كما لم يسلبهم اسم الإسلام .(1)


1- صرّح بهذا الشيخ المفيد- أُستاذ الشيخ الكراجكي- في كتابه أوائل المقالات ص 48 ونسبه إلى اتّفاق الإمامية، أمّا الخوارج فتسمّي مرتكب الكبيرة مشركاً وكافراً، والحسن البصري- أُستاذ واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد- فسمّاهم منافقين، وأمّا واصل بن عطاء فوضعهم في منزلة بين منزلتين، وقال: إنّهم فسّاق ليسو بمؤمنين، ولا كفّار، ولامنافقين.

ص: 32

وأنّهم يستحقّون العقاب على معاصيهم، والثواب على معرفتهم باللَّه تعالى، ورسوله، والأئمّة من بعده صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم، وما بعد ذلك من طاعتهم، وأمرهم مردود إلى خالقهم، وإن عفا عنهم فبفضله ورحمته، وإن عاقبهم فبعدله وحكمته، قال اللَّه سبحانه:

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ إمّا يُعَذِّبَهُمْ وَإمّا يَتُوب عَلَيْهِمْ) .(1)

وأنّ عقوبة هؤلاء العصاة إذا شاءها اللَّه تعالى لا تكون مؤبّدة، ولها آخر، يكون بعده دخولهم الجنّة، وليس من جملة من توجّه إليهم الوعيد بالتخليد، والعفو من اللَّه تعالى يرجى للعصاة المؤمنين.

وقد غلطت المعتزلة فسمّت من يرجو العفو مرجئاً، وانّما يجب أن يسمّى راجياً، ولا طريق إلى القطع على العفو، وإنّما هو الرجاء فقط.

ويعتقد أنّ لرسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم والأئمّة من بعده- عليهما السّلام- شفاعة مقبولة يوم القيامة، ترجى للمؤمنين من مرتكبي الآثام.

ولا يجوز أن يقطع الانسان على أنّه مشفوع فيه على كل حال، ولا سبيل له إلى العلم بحقيقة هذه الحال، وإنّما يجب أن يكون المؤمن واقفاً بين الخوف والرجاء.

ويعتقد أنّ المؤمنين الذين مضوا من الدنيا وهم غير عاصين، يؤمر بهم يوم القيامة إلى الجنّة بغير حساب.

وأنّ جميع الكفّار والمشركين، ومن لم تصح له الا صول من المؤمنين يؤمر بهم يوم القيامة إلى الجحيم بغير حساب، وإنّما يحاسب من خلط عملًا


1- التوبة/ 106.

ص: 33

صالحاً وآخر سيّئاً، وهم العارفون العصاة.

وأنّ أنبياء اللَّه تعالى وحججه- عليهما السّلام- هم في القيامة المسؤولون للحساب باذن اللَّه تعالى، وأنّ حجّة أهل كل زمان يتولّى أمر رعيّته الذين كانوا في وقته.

وأنّ سيّدنا رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم والأئمّة الاثنا عشر من بعده- عليهما السّلام- هم أصحاب الأعراف الذين هم لا يدخل الجنّة إلّا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلّا من أنكرهم وأنكروه.

وأنّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم يحاسب أهل وقته وعصره، وكذلك كل إمام بعده.

وأنّ المهدي- عليهالسّلام هو المواقف لأهل زمانه، والمسائل للذين في وقته.

وأنّ الموازين (التي) توضع في القيامة، هي اقامة العدل في الحساب، والانصاف في الحكم والمجازاة، وليست في الحقيقة موازين بكفّات وخيوط كما يظن العوام.

وأنّ الصراط المستقيم في الدنيا دين محمّد وآل محمّد- عليه و عليهما السّلام- وهو في الآخرة طريق الجنان.

وأنّ الأطفال والمجانين والبله من الناس، يتفضّل عليهم في القيامة بأن تكمل عقولهم، ويدخلون الجنان.

وأنّ نعيم أهل الجنّة متصل أبداً بغير نفاد، وأنّ عذاب المشركين والكفّار متّصل في النار بغير نفاد.

ص: 34

ويجب أن تؤخذ معالم الدين في الغيبة من أدلّة العقل، وكتاب اللَّه عزّ وجلّ، والأخبار المتواترة عن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وعن الأئمّة-- عليهما السّلام-- (1) وما أجمعت عليه الطائفة الإمامية، واجماعها حجّة.

فأمّا عند ظهور الإمام- عليهالسّلام فإنّه المفزع عند المشكلات، وهو المنبّه على العقليات، والمعرّف بالسمعيات، كما كان النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم.

ولا يجوز استخراج الأحكام في السمعيات بقياس ولا اجتهاد .(2)

فأمّا العقليات فيدخلها القياس والاجتهاد، ويجب على العاقل مع هذا كلّه ألا يقنع بالتقليد في الاعتقاد، وأن يسلك طريق التأمّل والاعتبار، ولا يكون نظره لنفسه في دينه أقل من نظره لنفسه في دنياه، فإنّه في أُمور الدنيا يحتاط ويحترز، ويفكّر ويتأمّل، ويعتبر بذهنه، ويستدل بعقله، فيجب أن يكون في أمر دينه على أضعاف هذه الحال، فالغرر في أمر الدين أعظم


1- ما ذكره هو رأي جماعة من علماء الأمامية، كالشريف المرتضى، وابن زهرة، وابن البراج، والطبرسي، وابن إدريس وغيرهم، فقد ذهب هؤلاء ألى عدم اعتبار الخبير الواحد أذا لم يكن مقطوع الصدور عن المعصوم، وخصّوا اعتباره بما إذا كان قطعي الصدور، سواء أكان محتفّاً بقرينة عقلية أو نقلية أُخرى، فالمهم لدى هؤلاء في اعتبار الخبر أن يفضي إلى العلم، ولو كان ذلك لإجماع أو شاهد عقلي، بل صرّح المفيد في أوائل المقالات بأنّه لايجب العمل بخبر الواحد. أمّا المشهور بين الإمامية بل المجمع عليه بين المتأخّرين منهم فاعتبار الخبر الواحد لقيام الدليل على حجيّته، ولكل من الفريقين أدلّة على دعواه مذكورة في كتب الأُصول.
2- المراد بالاجتهاد هنا ليس هو استنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيلية، وإنّما المراد به الاعتماد على الرأي والاستحسان والقياس، من دون الرجوع إلى القواعد والأُصول التي ثبتت حجّيتها شرعاً.

ص: 35

من الغرر في أمر الدنيا.

فيجب أن لا يعتقد في العقليات إلّا ما صحّ عنده حقّه، ولا يسلم في السمعيات إلّا لمن ثبت له صدقه.

نسأل اللَّه حسن التوفيق برحمته، وألّا يحرمنا ثواب المجتهدين في طاعته.

قد أثبتُّ لك يا أخي- أيّدك اللَّه- ما سألت، اقتصرت وما أطلت.

والذي ذكرت أصل لما تركت، والحمد للَّه وصلواته على سيّدنا محمّد وآله وسلّم .(1)

7- العقائد الجعفرية تأليف الشيخ الطوسي:

اشارة

الشيخ الطوسي- رحمه اللَّه- غني عن التعريف، فهو شيخ الطائفة عل الاطلاق وكان قد أخذ على يد المفيد والمرتضى، وقد ورد بغداد عام 408 ه وحضر في أندية دروس أُستاذه المفيد، فلمّا لبّى الا ستاذ دعوة ربّه حضر لدى المرتضى إلى أن اشتغل بالتدريس والافتاء في عصره وبعده، وله رسائل وكتب كلامية قيمة مفعمة بالتحقيق، ونحن نورد هنا جانباً مختصراً عمّا دوّنه في عقائد الشيعة في المسائل الآتية:

«المسألة 1» معرفة اللَّه واجبة على كلّ مكلّف، بدليل أنّه منعم فيجب معرفته.

«المسألة 2» اللَّه تعالى موجود، بدليل أنّه صنع العالم، وأعطاه الوجود، وكلّ من كان كذلك فهو موجود.


1- أدرج المصنف الرسالة في كتابه القيّم: كنز الفوائد لاحظ

ص: 36

«المسألة 3» اللَّه تعالى واجب الوجود لذاته، بمعنى أنّه لا يفتقر في وجوده إلى غيره، ولا يجوز عليه العدم، بدليل أنّه لو كان ممكناً لافتقر إلى صانع، كافتقار هذا العالم، وذلك محال على المنعم المعبود.

«المسألة 4» اللَّه تعالى قديم أزلي، بمعنى أنّ وجوده لم يسبقه العدم.

باقٍ أبدي، بمعنى أنّ وجوده لن يلحقه العدم.

«المسألة 5» اللَّه تعالى قادر مختار، بمعنى أنّه إن شاء أن يفعل فعل، وإن شاء أن يترك ترك، بدليل أنّه صنع العالم في وقت دون آخر.

«المسألة 6» اللَّه تعالى قادر على كل مقدور، وعالم بكل معلوم، بدليل أنّ نسبة جميع المقدورات والمعلومات إلى ذاته المقدسة المنزّهة على السوية، فاختصاص قدرته تعالى وعلمه ببعض دون بعض ترجيح بلا مرجّح، وهو محال.

«المسألة 7» اللَّه تعالى عالم، بمعنى أنّ الأشياء منكشفة واضحة له، حاضرة عنده غير غائبة عنه، بدليل أنّه تعالى فعل الأفعال المحكمة المتقنة، وكلّ من فعل ذلك فهو عالم بالضرورة.

«المسألة 8» اللَّه تعالى يدرك لا بجارحة، بل بمعنى أنّه يعلم ما يُدرَك بالحواس، لأنّه منزّه عن الجسم ولوازمه، بدليل قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبيرُ) (1) فمعنى قوله تعالى:

(إنَّهُ هُوَ السَّميعُ البَصير) (2)انّه عالم بالمسموعات لا باذن، وبالمبصرات لا بعين.

«المسألة 9» اللَّه تعالى حي، بمعنى أنّه يصح منه أن يقدر ويعلم،


1- الأنعام/ 103.
2- الأسراء/ 1، غافر/ 56.

ص: 37

بدليل أنّه ثبتت له القدرة والعلم وكل من ثبتت له ذلك فهو حي بالضرورة.

«المسألة 10» اللَّه تعالى متكلّم لا بجارحة، بل بمعنى أنّه أوجد الكلام في جرم من الأجرام، أو جسم من الأجسام، لإيصال عظمته إلى الخلق، بدليل قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً)(1) ولأنّه قادر، فالكلام ممكن.

«المسألة 11» اللَّه تعالى صادق، بمعنى أنّه لا يقول إلّا الحق الواقع، بدليل أنّ كل كذب قبيح، واللَّه تعالى منزّه عن القبيح.

«المسألة 12» اللَّه تعالى مريد، بمعنى أنّه رجح الفعل إذا علم المصلحة (يعني أنّه غير مضطر وأنّ ارادته غير واقعة تحت ارادة اخرى، بل هي الإرادة العليا التي إن رأى صلاحاً فعل، وإن رأى فساداً لم يفعل، باختيار منه تعالى) بدليل أنّه ترك ايجاد بعض الموجودات في وقت دون وقت، مع علمه وقدرته- على كلّ حال- بالسوية. ولأنّه نهى وهو يدل على الكراهة.

«المسألة 13» أنّه تعالى واحد، بمعنى أنّه لا شريك له في الإلوهية، بدليل قوله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد) (2)ولأنّه لو كان له شريك لوقع التمانع، ففسد النظام، كما قال: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)(3) .

«المسألة 14» اللَّه تعالى غير مركَّب من شي ء، بدليل أنّه لو كان مركّباً لكان مفتقراً إلى الأجزاء، والمفتقر ممكن.

«المسألة 15» اللَّه تعالى ليس بجسم، ولا عرض، ولا جوهر، بدليل


1- النساء/ 164.
2- الإخلاص/ 1.
3- الأنبياء/ 22.

ص: 38

أنّه لو كان أحد هذه الأشياء لكان ممكناً مفتقراً إلى صانع، وهو محال.

«المسألة 16» اللَّه تعالى ليس بمرئي بحاسة البصر في الدنيا والآخرة، بدليل أنّه تعالى مجرّد، ولأنّ كل مرئي لابدّ أن يكون له الجسم والجهة، واللَّه تعالى منزّه عنهما ولأنّه تعالى قال: (لَنْ تَرَانِى) (1) وقال: (لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ)(2) .

«المسألة 17» اللَّه تعالى ليس محلّا للحوادث، وإلّا لكان حادثاً، وحدوثه محال.

«المسألة 18» اللَّه تعالى لا يتّصف بالحلول، بدليل أنّه يلزم قيام الواجب بالممكن وذلك محال.

«المسألة 19» اللَّه تعالى لا يتّحد بغيره، لأنّ الاتحاد صيرورة الشي ء واحداً من غير زيادة ونقصان، وذلك محال، واللَّه لا يتّصف بالمحال.

«المسألة 20» اللَّه تعالى منفي عنه المعاني والصفات الزائدة، بمعنى أنّه ليس عالماً بالعلم، ولا قادراً بالقدرة (بل علم كلّه، وقدرة كلّها)، بدليل أنّه لو كان كذلك لزم كونه محلّا للحوادث لو كانت حادثة، وتعدّد القدماء لو كانت قديمة، وهما محالان، وأيضاً لزم افتقار الواجب إلى صفاته المغايرة له، فيصير ممكناً وهو ممتنع.

«المسألة 21» اللَّه تعالى غني، بمعنى أنّه غير محتاج إلى ما عداه، والدليل عليه أنّه واجب الوجود لذاته، فلا يكون مفتقراً.

«المسألة 22» اللَّه تعالى ليس في جهة، ولا مكان، بدليل أنّ كلّ ما في الجهة والمكان مفتقر إليهما، وأيضاً قد ثبت أنّه تعالى ليس بجسم ولا جوهر


1- الأعراف/ 143.
2- الأنعام/ 103.

ص: 39

ولا عرض، فلا يكون في المكان والجهة.

«المسألة 23» اللَّه تعالى ليس له ولد ولا صاحبة، بدليل أنّه قد ثبت عدم افتقاره إلى غيره، ولأنّ كل ما سواه تعالى ممكن، فكيف يصير الممكن واجباً بالذات، ولقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ) (1) و: (مَثَلَ عِيسى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ)(2) .

«المسألة 24» اللَّه تعالى عدل حكيم، بمعنى أنّه لا يفعل قبيحاً ولا يخل بالواجب بدليل أنّ فعل القبيح، والإخلال بالواجب نقص عليه، فاللَّه تعالى منزّه عن كل قبيح واخلال بالواجب.

«المسألة 25» الرضا بالقضاء والقدر واجب، وكل ما كان أو يكون فهو بالقضاء والقدر ولا يلزم بهما الجبر والظلم، لأنّ القدر والقضاء هاهنا بمعنى العلم والبيان، والمعنى أنّه تعالى يعلم كل ما هو (كائن أو يكون).(3) «المسألة 26» كل ما فعله اللَّه تعالى فهو أصلح، وإلّا لزم العبث، وليس تعالى بعابث، لقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً) (4).

«المسألة 27» اللّطف على اللَّه واجب، لأنّه خَلَق الخلق، وجَعَل فيهم الشهوة، فلو لم يفعل اللطف لزم الاغراء، وذلك قبيح، (واللَّه لا يفعل القبيح) فاللطف هو نصب الأدلّة، وإكمال العقل، وارسال الرسل في زمانهم، وبعد انقطاعهم إبقاء الإمام، لئلّا ينقطع خيط غرضه.

«المسألة 28» نبيّنا «محمّد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب بن هاشم بن


1- الشورى/ 11.
2- آل عمران/ 59.
3- الاضافة منّا لإكمال العبارة.
4- المؤمنون/ 115.

ص: 40

عبد مناف» رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم حقاً صدقاً. بدليل أنّه ادّعى النبوّة وأظهر المعجزات على يده، فثبت أنّه رسول حقّاً، وأكبر المعجزات «القرآن الحميد» والفرقان المجيد الفارق بين الحق والباطل، باق إلى يوم القيامة، حجّة على كافّة النسمة.

ووجه كونه معجزاً: فرط فصاحته وبلاغته، بحيث ما تمكّن أحد من أهل الفصاحة والبلاغة حيث تُحُدّوا به، أن يأتوا ولو بسورة مصغرة، أو آية تامّة مثله.

«المسألة 29» كان نبياً على نفسه قبل البعثة، وبعده رسولًا إلى كافة النسمة لأنّه قال: «كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين» وإلّا لزم تفضيل المفضول وهو قبيح.

«المسألة 30» جميع الأنبياء كانوا معصومين، مطهّرين عن العيوب والذنوب كلّها، وعن السهو والنسيان في الأفعال والأقوال، من أوّل الأعمار إلى اللحد، بدليل أنّهم لو فعلوا المعصية أو يطرأ عليهم السهو لسقط محلُّهم من القلوب، فارتفع الوثوق والاعتماد على أقوالهم وأفعالهم، فتبطل فائدة النبوّة، فما ورد في الكتاب (القرآن) فيهم فهو واجب التأويل.

«المسألة 31» يجب أن يكون الأنبياء أعلم وأفضل أهل زمانهم، لأنّ تفضيل المفضول قبيح.

«المسألة 32» نبيّنا خاتم النبيين والمرسلين، بمعنى أنّه لا نبي بعده إلى يوم القيامة، يقول تعالى: (ما كَانَ مُحَمَّداً أَبَا أَحَدٍ مِن رِجَالِكُمُ وَلكِن رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)(1) .

«المسألة 33» نبيّنا أشرف الأنبياء والمرسلين، لأنّه ثبتت نبوّته، وأخبر


1- الأحزاب/ 40.

ص: 41

بأفضليته فهو أفضل، لمّا قال لفاطمة- عليهاالسّلام: «أبوك خير الأنبياء وبعلك خير الأوصياء، وأنت سيدة نساء العالمين، وولدك الحسن والحسين-- عليهما السّلام-- سيّدا شباب أهل الجنّة، وأبوهما خير منهما» 0(1)

«المسألة 34» معراج الرسول بالجسم العنصري علانية، غير منام، حق، والأخبار عليه بالتواتر ناطقة، صريحة، فمنكره خارج عن الإسلام، وأنّه مر بالأفلاك من أبوابها من دون حاجة إلى الخرق والالتيام، وهذه الشبهة الواهية مدفوعة مسطورة بمحالها.

«المسألة 35» دين نبيّنا ناسخ للأديان السابقة، لأنّ المصالح تتبدل حسب الزمان والأشخاص كما تتبدّل المعالجات لمريض بحسب تبدل المزاج والمرض.

«المسألة 36» الإمام بعد نبيّنا علي بن أبي طالب- عليهالسّلام بدليل قوله صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: «يا علي أنت أخي ووارث علمي وأنت الخليفة من بعدي، وأنت قاضي ديني، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي»(2)وقوله: «سلّموا على علي بإمرة المؤمنين، واسمعوا له وأطيعوا له، وتَعَلّموا منه ولا تُعَلّموه»(3) ، وقوله: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه»(4)


1- راجع ينابيع المودّة 434- 436.
2- راجع صحيح مسلم 7/ 120- 121، باب فضائل علي- عليه السّلام-، وصحيح البخاري 5/ 19 باب مناقب علي- عليه السّلام- و 6/ 3 باب غزوة تبوك، ومسند أحمد 1/ 174- 177 و 3/ 32 ،
3- راجع البحار 37/ 290- 340.
4- راجع مسند أحمد 1/ 84- 152 و 4/ 281 و 370 و 372 و 5/ 366- 419، سنن الترمذي 5/ 633.

ص: 42

«المسألة 37» الأئمّة بعد علي- عليهالسّلام أحد عشر من ذرّيته الأوّل منهم ولده الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ علي بن الحسين، ثمّ محمّد بن علي، ثمّ جعفر بن محمّد الصادق، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ علي بن موسى، ثمّ محمّد ابن علي، ثمّ علي بن محمّد، ثمّ الحسن بن علي، ثمّ الخلف الحجّة القائم المهدي الهادي بن الحسن صاحب الزمان، فكلّهم أئمّة الناس واحد بعد واحد، حقاً، بدليل أنّ كل إمام منهم نصّ على من بعده نصّاً متواتراً بالخلافة، وقوله: «الحسين إمام، ابن إمام، أخو إمام، أبو الأئمّة التسعة، تاسعهم قائمهم، يملأ الأرض قسطاً وعدلًا كما ملئت ظلماً وجوراً».

«المسألة 38» يجب أن يكون الأئمّة معصومين مطهّرين من الذنوب كلّها، صغيرة وكبيرة عمداً وسهواً، ومن السهو في الأفعال والأقوال، بدليل أنّه لو فعلوا المعصية لسقط محلهم من القلوب، وارتفع الوثوق، وكيف يهدون بالضالّين المضلّين، ولا معصوم غير الأئمّة الاثني عشر اجماعاً، فثبت إمامتهم.

«المسألة 39» يجب أن يكون الأئمّة أفضل وأعلم، ولو لم يكونوا كذلك للزم تفضيل المفضول، أو الترجيح بلا مرجّح، ولا يحصل الانقياد به، وذلك قبيح عقلًا ونقلًا، وفضل أئمّتنا وعلمهم مشهور، بل أفضليتهم أظهر من الشمس وأبين من الأمس.

«المسألة 40» يجب أن نعتقد أنّ آباء نبيّنا وأئمّتنا مسلمون أبداً، بل أكثرهم كانوا أوصياء، فالأخبار عند أهل البيت على إسلام أبي طالب مقطوعة وسيرته تدل عليه، ومثله مثل مؤمن آل فرعون.

«المسألة 41» الإمام المهدي المنتظر محمّد بن الحسن قد تولّد في زمان أبيه، وهو غائب حي باق إلى بقاء الدنيا، لأنّ كلّ زمان لابدّ فيه من إمام معصوم لمّا انعقد عليه اجماع الا مّة على أنّه لا يخلو زمان من حجّة ظاهرة

ص: 43

مشهورة أو خافية مستورة، ولأنّ اللطف في كل زمان واجب، والإمام لطف، فوجوده واجب.

«المسألة 42» لا استبعاد في طول عمره، لأنّ غيره من الا مّم السابقة قد عاش ثلاثة آلاف سنة فصاعداً، كشعيب ونوح ولقمان وخضر وعيسى- عليهما السّلام- وابليس والدجّال، ولأنّ الأمر ممكن، واللَّه قادر على جميع الممكنات.

«المسألة 43» غيبة المهدي لا تكون من قبل نفسه، لأنّه معصوم فلا يخل بواجب، ولا من قبل اللَّه تعالى، لأنّه عدل حكيم، فلا يفعل القبيح، لأنّ الاخفاء عن الأنظار وحرمان العباد عن الافادات قبيحان. فغيبته لكثرة العدو والكافر، ولقلّة الناصر.

«المسألة 44» لابد من ظهور المهدي، بدليل قول النبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: «لو لم يبق من الدنيا إلّا ساعة واحدة لطوّل اللَّه تلك الساعة حتى يخرج رجل من ذرّيتي، اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلًا كما ملأت ظلماً وجوراً» (1).

ويجب على كل مخلوق متابعته.

«المسألة 45» في غيبة الإمام فائدة، كما تنير الشمس تحت السحاب، والمشكاة من وراء الحجاب.

«المسألة 46» إنّ اللَّه يعيد الأجسام الفانية كما هي في الدنيا، ليوصل كلّ حق إلى المستحقين، وذلك أمر ممكن، والأنبياء أخبروا به، لا سيّما القرآن المجيد مشحون به ولا مجال للتأويل، فالاعتقاد بالمعاد الجسماني واجب.

«المسألة 47» كلّ ما أخبر به النبيّ أو الإمام فاعتقاده واجب،


1- راجع سنن أبي داود 4/ 106- 107، كنز العمال 14/ 264- 267.

ص: 44

كاخبارهم عن نبوّة الأنبياء السابقين، والكتب المنزلة، ووجود الملائكة، وأحوال القبر وعذابه وثوابه، وسؤال منكر ونكير، والاحياء فيه، وأحوال القيامة وأهوالها، والنشور، والحساب والميزان، والصراط، وانطاق الجوارح، ووجود الجنّة والنار، والحوض الذي يسقي منه أمير المؤمنين العطاشى يوم القيامة، وشفاعة النبي والأئمّة لأهل الكبائر من محبّيه، إلى غير ذلك، بدليل أنّه أخبر بذلك المعصومون.

«المسألة 48» التوبة- وهي الندم على القبيح في الماضي، والترك في الحال، والعزم على عدم المعاودة إليه في الاستقبال- واجبة، لدلالة السمع على وجوبها، ولأنّ دفع الضرر واجب عقلًا.

«المسألة 49» الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجبان، بشرط تجويز التأثير والأمن من الضرر(1) .

ما هو الهدف من نقل هذه الرسائل:

1- إنّ هذه الرسائل تدل بوضوح لا يقبل الشكّ أنّ جلّ عقائد الشيعةتمتد جذورها الحقيقية في كتاب اللَّه المنزل وسنّة رسول اللَّهصلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وما جاء عن أئمّة أهل البيت- عليهما السّلام-، وانّ صورة هذه العقائد كانت تبدو واضحة المعالم ومستوعبة لجميع الجوانب المرتبطة بالمعارف الإلهية.

2- تنبث في ثنايا هذه الرسائل آراء خاصّة لمؤلّفيها، ربّما يقع فيها النقاش والجدال والخلاف مع غيرهم من علماء الشيعة، فليس كل ما جاء فيها عقيدة لجميع علماء الشيعة ومؤلّفيهم، إلّا أنّ ما يهمّنا من الإشارة إليه


1- طبعت الرسالة من قبل مؤسسة النشر الإسلامي في قم عام 1412 ه مع جواهر الفقه للقاضي ابن البراج وفي ضمن الرسائل العشر للشيخ الطوسي- قدّس سرّه-.

ص: 45

هو أنّ هذه الرسائل تمثّل عقائد الشيعة في مجال صفات اللَّه سبحانه وأفعاله، وما يرجع إلى النبوّة والإمامة، والحياة الا خروية، خصوصاً فيما يرجع إلى الاعتقاد بمقامات الأئمّة وصفاتهم. فمن يريد أن يتعرّف بوضوح على عقائد الشيعة فليرجع إليها.

3- إنّ الإمعان في الا صول التي جاءت في هذه الكتب والرسائل يعرب عن اتفاق الشيعة في أكثر مسائلهم العقائدية مع عموم عقائد المسلمين. وإن كانوا يختلفون عنهم في أُصول تختص بمجال الإمامة والقيادة بعد الرسول.

وسنحاول في الصفحات اللاحقة أن نستعرض أهم الفوارق الجوهرية بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية، والتي لا يمكن أن تشكل حداً فاصلًا دون التقارب بين هذه المذاهب ونبذ الاختلاف بينها، والذي لن يفيد إلّا أعداء هذا الدين والمتربّصين به، وسنشرع في أوّل بحثنا المقتضب هذا في تحديد الاختلافات التي أشرنا إليها بين الشيعة والمعتزلة، وبين الشيعة والأشاعرة، وذلك لما كانت تشكله هاتان الفرقتان من جبهة واسعة من جمهور المسلمين إبان تلك العصور السالفة.

الفرق بين الشيعة الإمامية والمعتزلة:

إنّ المتأمل في مجمل عقائد هاتين الفرقتين يمكنه أن يتبين بوضوح جوانب الاتفاق والاختلاف فيما بينهما، وهو ما سنحاول أن نشير إليه اختصاراً في نقاط محددة واضحة، وإذا كان البعض قد اعتقد جهلًا بأنّ الشيعة قد أخذت عقائدها عن المعتزلة فإنّه يرد بأكثر من دليل، وبحثنا هذا وإن كان في غنى عن إيرادها الآن إلّا أنّه يرد عليه بوضوح ودون لبس، إلّا أنّه لا ينفي على أنّ بين هاتين الطائفتين أُصول مشتركة نذكرها في حينها،

ص: 46

وهو ما قد يتفق مع غير ذلك من فرق المسلمين المختلفة:

1- الشفاعة: أجمع المسلمون كافّة على ثبوت أصل الشفاعة وأنّها تقبل من الرسول الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم، إلّا أنّهم اختلفوا في تعيين المشفَّع، فقالت الإمامية والأشاعرة: إنّ النبي يشفع لأهل الكبائر باسقاط العقاب عنهم أو بإخراجهم من النار، وقالت المعتزلة: لا يشفع إلّا للمطيعين، المستحقّين للثواب، وتكون نتيجة الشفاعة ترفيع الدرجة.

2- مرتكب الكبيرة: هو عند الإمامية والأشاعرة مؤمن فاسق، وقالت المعتزلة: بل منزلته بين المنزلتين، أي بين الكفر والإيمان.

3- الجنّة والنار: قالت الإمامية والأشاعرة: إنّهما مخلوقتان الآن بدلالة الشرع على ذلك، وأكثر المعتزلة يذهب إلى أنّهما غير موجودتين.

4- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: اتّفق المسلمون على وجوبهما، فقالت الإمامية والأشاعرة: يجبان سمعاً، ولولا النص لم يكن دليل على الوجوب، خلافاً للمعتزلة الذين قالوا: بوجوبهما عقلًا.

5- الاحباط: اتّفقت الإمامية والأشاعرة على بطلان الاحباط، وقالوا:

لكلّ عمل حسابه الخاص، ولا ترتبط الطاعات بالمعاصي ولا المعاصي بالطاعات، والاحباط يختص بذنوب خاصة كالشرك وما يتلوه، بخلاف المعتزلة حيث قالوا: إنّ المعصية المتأخّرة تسقط الثواب المتقدم، فمن عَبَدَ اللَّه طول عمره ثمّ كذب فهو كمن لم يعبد اللَّه أبداً.

6- الشرع والعقل: تشددت المعتزلة في تمسّكهم بالعقل، وتشدد أهل الظاهر في تمسكهم بظاهر النص، وخالفهما الإمامية والأشاعرة، فأعطوا للعقل سهماً فيما له مجال القضاء، نعم أعطت الإمامية للعقل مجالًا أوسع ممّا أعطته الأشاعرة. وسيوافيك تفصيله عند ذكر اختلاف الإمامية مع

ص: 47

الأشاعرة.

7- اتفقت الإمامية والأشاعرة على أنّ قبول التوبة بفضل من اللَّه ولا يجب عقلًا اسقاطها للعقاب، وقالت المعتزلة: إنّ التوبة مسقطة للعقاب على وجه الوجوب.

8- اتفقت الإمامية على أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك.

9- اتفقت الإمامية على أنّ الانسان غير مسيّر ولا مفوّض إليه، بل هو في ذلك المجال بين أمرين، بين الجبر والتفويض، وأجمعت المعتزلة على التفويض.

10- اتفقت الإمامية والأشاعرة على أنّه لابد في أوّل التكليف وابتدائه من رسول، وخالفت المعتزلة وزعموا أنّ العقول تعمل بمجردها عن السمع.

هذه هي الا صول التي خالفت الإمامية فيها المعتزلة ووافقت فيها الأشاعرة، وهناك أُصول أُخرى تجد فيها موافقة الإمامية للمعتزلة ومخالفتها للأشاعرة، وإليك بعضها:

الفرق بين الشيعة الإمامية والأشاعرة:

هناك أُصول خالفت الإمامية فيها الأشاعرة، مخالفة بالدليل والبرهان وتبعاً لأئمّتهم، ونذكر المهم منها:

1- اتّحاد الصفات الذاتية مع الذات: إنّ للَّه سبحانه صفاتاً ذاتية كالعلم والقدرة، فهي عند الأشاعرة صفات قديمة مغايرة للذات زائدة عليها، وهي عند الإمامية والمعتزلة متّحدة مع الذات.

ص: 48

2- الصفات الخبرية الواردة في الكتاب والسنّة، كالوجه والأيدي والاستواء وأمثالها، فالشيعة الإمامية يؤوّلونها تأويلًا مقبولًا لا تأويلًا مرفوضاً، أي أنّها تأخذ بالمفهوم التصديقي للجملة لا بالمفهوم التصوّري للمفردات، فيقولون إنّ معنى: (بَل يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء) (1)معناه: أنّه بري ء من البخل، بل هو باذل وسخي، وقادر على البذل. وأمّا الأشاعرة فهم يفسّرونها بالمفهوم التصوّري ويقولون: إنّ للَّه سبحانه يدين، إلّا أنّهم يتهرّبون عن التجسيم والتشبيه بقولهم: بلا كيف.

3- أفعال العباد عند الإمامية صادرة من نفس العباد، صدوراً حقيقياً بلا مجاز أو توسّع، فالإنسان هو الضارب، هو الآكل، هو القاتل، هو المصلّي، هو القارئ وهكذا، وقد قلنا: إنّ استعمال كلمة «الخلق» في أفعال الإنسان استعمال غير صحيح، فلا يقال: خلقت الأكل والضرب والصوم والصلاة، وإنّما يقال: فعلتها، فالصحيح أن يقال: إنّ الإنسان هو الفاعل لأفعاله بقدرة مكتسبة من اللَّه، وانّ قدرته المكتسبة هي المؤثّرة باذن من اللَّه سبحانه.

وأمّا الأشاعرة فذهبوا إلى أنّ أفعال العباد مخلوقة للَّه سبحانه، فليس للإنسان فيها صنع ولا دور، وليس لقدرته أي تأثير في تحقّق الفعل، وأقصى ما عندهم انّ إرادة الإنسان للعقل تقارن ايجاد اللَّه سبحانه فعله في عالم التكوين والوجود.

إلّا أنّهم وتحاشياً من الذهاب إلى الجبر في تلك الأفعال وبالتالي اقصاء الانسان عن أفعاله، ومن ثمّ براءته من مسؤوليتها عمدوا إلى ابتداع نظرية الكسب المعقدة فقالوا: إنّ اللَّه هو الخالق والانسان هو الكاسب، إلّا


1- المائدة/ 64.

ص: 49

أنّها نظرية غريبة غير مفهومة، ومليئة بالألغاز التي عجز عن فهمها وايضاحها حتى مبتدعوها أنفسهم.

4- إنّ الاستطاعة في الانسان على فعل من الأفعال تقارنه تارة، وتتقدّم عليه أُخرى. فلو أُريد من القدرة العلّة التامّة فهي مقارنة، ولو أُريد العلّة الناقصة فهي متقدّمة، خلافاً للأشاعرة فقد قالوا بالتقارن مطلقاً.

5- رؤية اللَّه بالأبصار في الآخرة: فهي مستحيلة عند الإمامية والمعتزلة، ممكنة عند الأشاعرة.

6- كلامه سبحانه عند الإمامية هو فعله، فهو حادث لا قديم، وهذا خلافاً للأشاعرة: فكلامه عبارة عن الكلام النفسي القائم بذاته، فهو قديم كقدم الذات.

7- التحسين والتقبيح العقليان: ذهبت الإمامية إلى أنّ العقل يدرك حسن بعض الأفعال أو قبحها، بمعنى أنّ نفس الفعل من أي فاعل صدر، سواء أكان الفاعل قديماً أو حادثاً، واجباً أو ممكناً، يتّصف باحدهما، فيرى مقابلة الإحسان بالإحسان أمراً حسناً، ومقابلته بالإساءة أمراً قبيحاً، ويتلقّاه حكماً مطلقاً سائداً على مرّ الحقب، والأزمان، لا يغيّره شي ء، وهذا خلافاً للأشاعرة، فقد عزلوا العقل عن إدراك الحسن والقبيح، وبذلك خالفوا الإمامية والمعتزلة في الفروع المترتّبة عليه.

هذه هي الا صول التي تخالف فيها الإمامية الأشاعرة، وربّما توافقهم المعتزلة في جميعها أو أكثرها، كلّ ذلك يثبت أنّ للشيعة الإمامية منهجاً كلامياً خاصّاً نابعاً من الكتاب والسنّة، وكلمات العترة الطاهرة والعقل فيما له مجال القضاء، وليست الشيعة متطفّلة في منهجها الكلامي على أيّة من الطائفتين. وأنت إذا وقفت على الكتب الكلامية المؤلّفة في العصور المتقدّمة

ص: 50

من عصر فضل بن شاذان (ت 260) إلى عصر شيخنا الطوسي (385- 460) ومن بعده بقليل، تجد منهجاً كلامياً مبرهناً متّزناً واضحاً لا تعقيد فيه ولا غموض، وعلى تلك الا صول وذلك المنهج درج علماؤهم المتأخّرون في الأجيال التالية، فألّف الشيخ الحلبي (374- 447) «تقريب المعارف» والشيخ سديد الدين الحمصي (ت 600) كتابه «المنقذ من التقليد»، وتوالى بعدهم التأليف على يد الفيلسوف الكبير نصير الدين الطوسي (597- 672) وابن ميثم البحراني (ت 589) في «تقريب المعارف»، وتلميذه العلّامة الحلّي (648- 726) في جملة من المؤلفات القيمة. وهكذا ... فإنّ كلّ ذلك يكشف عن أنّ الأئمّة طرحوا أُصول العقائد، وغذّوا أصحابهم وتلاميذهم بمعارف سامية، أُعتبر الحجر الأساس للمنهج الكلامي الشيعي، وتكامل المنهج من خلال الجدل الكلامي والنقاش العلمي في الظروف المتأخّرة فوصل إلى الذروة والقمّة.

فالناظر في الكتب الكلامية للسيّد الشريف المرتضى ك «الشافي» (1) و «الذخيرة» (2) يجد منبعاً غنيّاً بالبحوث الكلامية، كما أنّ الناظر في كتب العلّامة الحلّي المختلفة ك «كشف المراد» (3)و «نهاية المرام» (4) وغيرهما يقف على أفكار سامية أنضجها البحث والنقاش عبر القرون، فبلغت غايتها القصوى.

وقد توالى التأليف في عقائد الشيعة وأُصولهم من العصور الا ولى إلى يومنا هذا، بشكل واسع لا يحصيه إلّا محصي قطرات المطر وحبّات الرمال.


1- المطبوع في بيروت في أربعة أجزاء.
2- المطبوع في إيران في جزءين.
3- الكتاب الدراسي في الجماعات الشيعية.
4- مخطوط نحتفظ منها بنسخة وهي في قيد التحقيق.

ص: 51

هذا وإنّ الشيعة وإن خالفوا في هذه الا صول طائفة من الطوائف الإسلامية ووافقوا طوائف أُخرى، ولكن هناك أُصول اتّفق الجميع فيها دون استثناء، وهو ظاهر لمن قرأ ما أثبتناه من الرسائل والكتيبات.

أفما آن للمسلمين أن يتّحدوا في ظلال هذه الا صول المؤلّفة لقلوبهم، ويتظلّلوا بظلالها، ويتمسّكوا بالعروة الوثقى، ويكون شعارهم: (إنّما المؤمنون إخوة فأَصلِحوا بينَ أخويكم) ولا يصغوا إلى النعرات المفرقة، المفترية على الشيعة وأئمّتهم، وليكن شعارنا في التأليف: التحقيق والتأكّد من عقائد الآخرين، ثمّ التدوين.

الفرق بين الشيعة الإمامية وسائر الفرق:

إذا تعرّفت على الفوارق بين الموجودة بين الشيعة وبعض طوائف المسلمين، فهلمّ معي إلى الفوارق الجوهرية بينهم وبين سائر الطوائف التي صيّرتهم إلى فرقتين متمايزتين، وأكثرها يرجع إلى مسألة القيادة والخلافة بعد الرسول الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم، فنأخذ بالبحث عنها على وجه الإجمال:

ص: 52

ص: 53

المسألة الا ولى: وجوب تنصيب الإمام على اللَّه سبحانه

تتّفق جميع الفرق الإسلامية على وجوب نصب الإمام، سوى العجاردة من الخوارج، ومنهم حاتم الأصمّ أحد شيوخ المعتزلة (ت 237) (1)قد شذّوا عن ذلك، واعتقاد المسلمين بذلك يفترق إلى مذهبين اثنين في ماهية هذا الوجوب، فالشيعة يذهبون إلى وجوبه على اللَّه تعالى، وباقي الفرق على الا مّة، فوجوب نصب الإمام لا خلاف فيه بين المسلمين، وإنّما الكلام في تعيين من يجب عليه ذلك.

وليس المراد من وجوبه على اللَّه سبحانه، هو إصدار الحكم من العباد على اللَّه سبحانه، حتى يقال: (إنِ الحُكْمُ إلّا للَّهِ) (2) بل المراد كما ذكرنا غير مرّة: أنّ العقل- حسب التعرّف على صفاته سبحانه، من كونه حكيماً غير عابث- يكشف عن كون مقتضى الحكمة هو لزوم النصب أو عدمه، وإلّا فالعباد أقصر من أن يكونوا حاكمين على اللَّه سبحانه.


1- ادّعت العجاردة بأنّ الواجب على الأمّة التعاون والتعاضد لإحياء الحق وإمانة الباطل، ومع قيام الأُمّة بهذا الواجب لايبقى للإمام فائدة تستدعي تسلّطه على العباد، أمّا إذا الختلفت الأُمّة ولم تتعاون على نشر العدل واحقاق الحق فيجب عليها تعيين من يقوم بهذه الهممات، وعلى ذلك فالإمامة لاتجب بالشرع ولا بالعقل، وإنّما تجب للمصلحة أحياناً.
2- يوسف/ 40.

ص: 54

ثمّ إنّ اختلاف المسلمين في كون النصب فرضاً على اللَّه أو على الا مّة ينجم عن اختلافهم في حقيقة الخلافة والإمامة عن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم. فمن ينظر إلى الإمام كرئيس دولة ليس له وظيفة إلّا تأمين الطرق والسبل، وتوفير الأرزاق، وإجراء الحدود، والجهاد في سبيل اللَّه، إلى غير ذلك ممّا يقوم به رؤساء الدول بأشكالها المختلفة، فقد قال بوجوب نصبه على الا مّة، إذ لا يشترط فيه من المواصفات إلّا الكفاءة والمقدرة على تدبير الا مور، وهذا ما يمكن أن تقوم به الا مّة الإسلامية.

وأمّا على القول بأنّ الإمامة استمرار لوظائف الرسالة (لا لنفس الرسالة فإنّ الرسالة والنبوّة مختومتان بالتحاق النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم بالرفيق الأعلى) فمن المتفق عليه أنّ تعهد هذا الأمر يتوقّف على توفّر صلاحيات عالية لا ينالها الفرد إلّا إذا حظي بعناية إلهية خاصة فيخلف النبيّ في علمه بالا صول والفروع، وفي سد جميع الفراغات الحاصلة بموته، ومن المعلوم أنّ هذا الأمر لا تتعرّف عليه الا مّة إلّا عن طريق الرسول، ولا يتوفّر وجوده إلّا بتربية غيبيَّة وعناية سماوية خاصة.

وهكذا فلا يخفى أنّ كون القيادة الإسلامية بعد النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم بيد اللَّه أو بيد الا مّة، أو أنّ التعيين هل هو واجب عليه سبحانه أو عليهم، ينجم عن الاختلاف في تفسير ماهية الخلافة.

فمن جعلها سياسة زمنية وقتية يشغلها فرد من الا مّة بأحد الطرق، قال في حقه: «لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الابشار، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه، وترك طاعته في شي ء ممّا يدعوا إليه من معاصي اللَّه»(1) .


1- التمهيد للقاضي أبي بكر الباقلاني المتوفى 403: 181.

ص: 55

ومن قال: بأنّ الإمام بعد الرسول أشبه برئيس الدولة أو أحد الحكام، وتنتخبه الا مّة الإسلامية، قال في حقه: «ولا نرى الخروج عن أئمتنا وولاة أُمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة اللَّه فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة. والحج والجهاد ماضيان مع أُولي الأمر من المسلمين، برّهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة، ولا يبطلهما شي ء، ولا ينقضهما»(1) .

وقد درج على هذه الفكرة متكلّموا السنّة ومحدّثوهم، حتى قال التفتازاني: «ولا ينعزل الإمام بالفسق، أو بالخروج عن طاعة اللَّه تعالى، والجور (الظلم على عباد اللَّه) لأنّه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمّة والا مراء بعد الخلفاء الراشدين، والسلف كانوا ينقادون لهم، ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم، ولا يرون الخروج عليهم، ونقل عن كتب الشافعية: انّ القاضي ينعزل بالفسق بخلاف الإمام، والفرق انّ في انعزاله ووجوب نصب غيره اثارة الفتنة، لما له من الشوكة، بخلاف القاضي» .(2)

و أمّا من فسّر الإمامة بأنّها عبارة عن إمرة إلهية واستمرار لوظائف النبوّة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهي، فلا مناص له عن القول: بوجوب نصبه على اللَّه سبحانه.

وقد استدلّت الإمامية على وجوب نصب الإمام على اللَّه سبحانه: بأنّ وجود الإمام الذي اختاره اللَّه سبحانه، مقرّب من الطاعات، ومبعد عن


1- العقيدة الطحاوية 379- 387.
2- شرح العقائد النسفية (وهي لأبي حفص عمرو بن محمّد النسفي (ت 573) والشرح لسعد الدين التفتازاني (ت 791): 185- 186، ولاحظ في هذا المجال مقالات الإسلامين للأشعري: 323، وأصول الدين لمحمّد بن عبدالكريم البزدوي إمام الماتريدية: 190.

ص: 56

المعاصي، وقد أوضحوه في كتبهم الكلامية. والمراد من اللطف المقرّب هنا ما عرفت من أنّ رحلة النبي الأكرم تترك فراغات هائلة بين الا مّة في مجالي العقيدة والشريعة، كما تترك جدالًا ونزاعاً عنيفاً بين الا مّة في تعيين الإمام. فالواجب على اللَّه سبحانه من باب اللطف هو سدّ هذه الفراغات بنصب من هو صنو النبي الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم في علمه بالعقيدة والشريعة، وفي العدالة والعصمة، والتدبير والحنكة، وحسم مادة النزاع المشتعل برحلة الرسولصلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم، ولمّ شعث الا مّة، وجمعهم على خط واحد.

والغريب أنّ المعتزلة الذين يذهبون إلى وجوب اللطف والأصلح على اللَّه سبحانه، يشذّون في هذا المقام عن معتقدهم هذا، مع العلم بأنّ هذا المورد من جزئياته، والذي منعهم عن الالتزام بالقاعدة في المقام بأنّهم لو قالوا بها في هذه المسألة لزمهم أن يقولوا بعدم صحّة خلافة الخلفاء المتقدمين على عليّ، لأنّ قاعدة اللطف تقتضي أن يكون الخليفة منصوصاً عليه من اللَّه سبحانه.

ثمّ إنّك قد تعرّفت على أنّ الرسول الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و بوحي من اللَّه سبحانه- قام بتطيبق القاعدة، ونصب إماماً للا مّة، ليقود أمرهم ويسد جميع الفراغات الحاصلة بلحوقه بالرفيق الأعلى، وبذلك حسم مادة النزاع، وقطع الطريق على المشاغبين، ولكنّه- وللأسف- تناست الا مّة وصية الرسولصلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وأمره، فانقسموا إلى طوائف وأحزاب وقامت بينهم المعارك والحروب التي أُريقت فيها الدماء، واستبيحت بسببها الأعراض، وتبدّلت نتيجة لذلك المفاهيم، واختلفت القيم، واستثمر أعداء الدين هذه الاختلافات بين المسلمين فعمدوا إلى زيادة الهوة بينهم وكرسوا لذلك أقصى جهودهم حتى أصبح التقريب فضلًا عن الوحدة أمراً متعسّراً على المفكّرين، نسأل اللَّه سبحانه أن يسد تلك الفجوة العميقة بايقاظ شعور علماء الأُمّة ومصلحيهم في المستقبل القريب إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 57

المسألة الثانية: عصمة الإمام

اشارة

تفرّدت الإمامية من بين الفرق الإسلامية بإيجابها عصمة الإمام من الذنب والخطأ، مع اتّفاق غيرهم على عدمها.

قال الشيخ المفيد: إنّ الأئمّة معصومون كعصمة الأنبياء، ولا تجوز عليهم صغيرة إلّا ما قدم ذكر جوازه على الأنبياء، ولا ينسون شيئاً من الأحكام، ولا يدخل في مفهوم العصمة سلب القدرة عن المعاصي، ولا كون المعصوم مضطرّاً إلى فعل الطاعات، فإنّ ذلك يستدعي بطلان الثواب والعقاب.

هذه هي عقيدة الإمامية في الإمامة، وقد استدلّوا عليه بوجوه من العقل والسمع. أمّا العقل فقالوا: إنّ الإمام منفذ لما جاء به الرسول، وحافظ للشرع، وقائم بمهام الرسول كلّها، فلو جاز عليه الخطأ والكذب، لا يحصل الغرض من إمامته.

حقيقة العصمة:

العصمة قوّة تمنع صاحبها من الوقوع في المعصية والخطأ، حيث لا يترك واجباً، ولا يفعل محرّماً، مع قدرته على الترك والفعل، وإلّا لم يستحق مدحاً ولا ثواباً، وإن شئت قلت: إنّ المعصوم قد بلغ من التقوى حدّاً لا تتغلّب عليه الشهوات والأهواء، وبلغ من العلم في الشريعة وأحكامها

ص: 58

مرتبة لا يخطأ معها أبداً.

وليست العصمة فكرة ابتدعتها الشيعة، وإنّما دلّهم عليها في حق العترة الطاهرة كتاب اللَّه وسنّة رسوله، قال سبحانه: (إنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1) وليس المراد من الرجس إلّا الرجس المعنوي وأظهره هو الفسق.

وقال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: «علي مع الحقّ والحقّ مع عليٍّ يدور معه كيفما دار» (2) ومن دار معه الحق كيفما دار محال أن يعصي أو أن يخطأ، وقوله صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم في حق العترة: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً» (3) فإذا كانت العترة عدل القرآن والقرآن هو كلام اللَّه تعالى، فمن المنطقي أن تكون معصومة كالكتاب، لا يخالف أحدهما الآخر.

وإذا توضحت الصورة الحقيقية لتبلور عقيدة العصمة عند الشيعة، وإنّ منشأها هو الكتاب والسنّة، فإنّ هذا الوضوح لم يتحسسه البعض بل ولم يكلّف نفسه عناء التثبت من حقيقة مدعياته وتصوراته، حيث يقول: إنّ عقيدة العصمة تسرّبت إلى الشيعة من الفرس الذين نشأوا على تقديس الحاكم، لهذا أطلق عليها العرب النزعة الكسروية، ولا أعرف أحداً من العرب قال ذلك في حدود اطلاعي، ولعلّ غالبية الشيعة كانت ترمي من وراء هذه الفكرة إلى تنزيه علي من الخطأ حتى يتضح للملأ عدوان بني أُمية


1- الأحزاب/ 33.
2- حديث مستفيض، رواه الخطب في تاريخه 14/ 321 والهيثمي في مجمعه 7/ 236 وغيرهما.
3- حديث متواتر أخرجه مسلم في صحيحه، والدارمي في فضائل القرآن وأحمد في مسنده 2/ 114 وغيرهم.

ص: 59

في اغتصاب الخلافة. هذا وفي اليهودية كثير من المذاهب التي تسرَّبت إلى الشيعة .(1)

هكذا ودون أي دليل وبيّنة متناسياً أنّ جميع المسلمين يذهبون إلى عصمة النبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم ولا يختلف في ذلك أحد فهل هذه الفكرة تسرّبت إلى أهل السنّة من اليهود؟ أو أنّ المسلمين أرادوا بذلك إيضاح عداوة قريش للنبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم؟ أو غير ذلك من التخرصات الباطلة؟!!

لا واللَّه إنّها عقيدة إسلامية واقتبسها القوم من الكتاب والسنّة من دون أخذ من اليهود والفرس، فما ذكره الكاتب تخرُّص على الغيب، بل فرية واضحة.

إنّ الاختلاف في لزوم توصيف الإمام وعدمه، ينشأ من الاختلاف في تفسير الإمامة بعد الرسول وماهيتها وحقيقتها كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، فمن تلقّى الإمامة- بعد الرسول- بأنّها مقام عرفي لتأمين السبل، وتعمير البلاد، واجراء الحدود، فشأنه شأن سائر الحكام العرفيّين. وأمّا من رأى الإمامة بأنّها استمرار لتحقيق وظيفة الرسالة وأنّ الإمام ليس نبيّاً ولا يوحى إليه، لكنّه مكلّف بمل ء الفراغات الحاصلة برحلة النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم، فلا محيص له عن الالتزام بها، لأنّ الغاية المنشودة لا تحصل بلا تسديد إلهي كما سيوافيك، نعم إنّ أهل السنّة يتحرَّجون من توصيف الإمام بالعصمة ويتصوّرون أنّ ذلك يلازم النبوّة، وما هذا إلّا أنّهم لا يفرّقون بين الإمامتين وأنّ لكلٍ معطياته. والتفصيل موكول إلى محلّه.


1- الدكتور نبيه حجات: مظاهر الشعوبية في الأدب العربي 492، كما في هوية التشيّع 166.

ص: 60

الدليل على لزوم عصمة الإمام بعد النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم:

يمكن الاستدلال على لزوم العصمة في الإمام بوجوه متعددة نورد أهمها:

الأوّل: إنّ الإمامة إذا كانت استمراراً لوظيفة النبوّة والرسالة، وكان الإمام يملأ جميع الفراغات الحاصلة جرّاء رحلة النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم، فلا مناص من لزوم عصمته، وذلك لأنّ تجويز المعصية يتنافى مع الغاية التي لأجلها نصبه اللَّه سبحانه إماماً للا مّة، فإنّ الغاية هي هداية الا مّة إلى الطريق المهيع، ولا يحصل ذلك إلّا بالوثوق بقوله، والاطمئنان بصحّة كلامه، فإذا جاز على الإمام الخطأ والنسيان، والمعصية والخلاف، لم يحصل الوثوق بأفعاله وأقواله، وضعفت ثقة الناس به، فتنتفي الغاية من نصبه، وهذا نفس الدليل الذي استدلّ به المتكلّمون على عصمة الأنبياء، والإمام وإن لم يكن رسولًا ولا نبيّاً ولكنّه قائم بوظائفهما.

نعم لو كانت وظيفة الإمام مقتصرة بتأمين السبل وغزو العدو والانتصاف للمظلوم وما أشبه ذلك، لكفى فيه كونه رجلًا عادلًا قائماً بالوظائف الدينية، وأمّا إذا كانت وظيفته أوسع من ذلك- كما هو الحال في مورد النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- فكون الإمام عادلًا قائماً بالوظائف الدينية، غير كاف في تحقيق الهدف المنشود من نصب الإمام.

فقد كان النبي الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم يفسّر القرآن الكريم ويشرح مقاصده وأهدافه ويبيّن أسراره.

كما كان يجيب على الأسئلة في مجال الموضوعات المستحدثة وكان يردّ على الشبهات والتشكيكات التي كان يلقيها أعداء الإسلام.

وكان يصون الدين من محاولات التحريف والتغيير.

ص: 61

وكان يربّي المسلمين ويهذبهم ويدفعهم نحو التكامل.

فالفراغات الحاصلة برحلة النبي الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم لا تسدّ إلّا بوجود إنسان مثالي يقوم بتلك الواجبات وهو فرع كونه معصوماً عن الخطأ والعصيان (1) .

الثاني: قوله سبحانه: (أطِيعُوا اللَّهَ وأطيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنكُمْ) (2).

والاستدلال مبني على دعامتين:

1- إنّ اللَّه سبحانه أمر بطاعة أُولى الأمر على وجه الاطلاق، أي في جميع الأزمنة والأمكنة، وفي جميع الحالات والخصوصيات، ولم يقيّد وجوب امتثال أوامرهم ونواهيهم بشي ء كما هو مقتضى الآية.

2- إنّ من الأمر البديهي كونه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر والعصيان: (ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْر) (3) من غير فرق بين أن يقوم به العباد ابتداءً من دون تدخّل أمر آمر أو نهي ناهٍ، أو يقومون به بعد صدور أمر ونهي من أُولي الأمر.

فمقتضى الجمع بين هذين الأمرين (وجوب اطاعة أُولي الأمر على وجه الاطلاق، وحرمة طاعتهم إذا أمروا بالعصيان) أن يتّصف أُولو الأمر الذين وجبت اطاعتهم على وجه الاطلاق، بخصوصية ذاتية وعناية إلهية ربّانية، تصدّهم عن الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة. وليس هذا إلّا عبارة أُخرى عن كونهم معصومين، وإلّا فلو كانوا غير واقعين تحت تلك العناية، لما صحّ الأمر بإطاعتهم على وجه الاطلاق، ولما صحّ الأمر بالطاعة بلا قيد


1- هذا اجمال ما أوضحناه في بحوثنا الكلامية فلاحظ الإلهيات 528/ 539.
2- النساء/ 59.
3- الزمر/ 7.

ص: 62

وشرط. فتستكشف من إطلاق الأمر بالطاعة اشتمال المتعلّق على خصوصية تصدّه عن الأمر بغير الطاعة.

وممّن صرّح بدلالة الآية على العصمة الإمام الرازي في تفسيره، ويطيب لي أن أذكر نصّه حتى يمعن فيه أبناء جلدته وأتباع طريقته، قال:

إنّ اللَّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر اللَّه بطاعته على سبيل الجزم والقطع، لابد وأن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير اقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللَّه بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهى عنه، فهذا يقضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وأنّه محال، فثبت أنّ اللَّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أنّ كل من أمر اللَّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أنّ أُولي الأمر المذكور في هذه الآية لابد وأن يكون معصوماً (1).

بيد أنّ الرازي، وبعد أن قادته استدلالته المنطقية إلى هذه الفكرة الثابتة المؤكدة لوجوب العصمة بدا يتهرّب من تبعة هذا الأمر، ولم يستثمر نتائج أفكاره، لا لسبب إلّا لأنّها لا توافق مذهبه في تحديد الإمامة، فأخذ يؤوّل الآية ويحملها على غير ما ابتداه وعمد إلى اثباته، حيث استدرك قائلًا بأنّا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليه، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منه، فإذا كان الأمر كذلك، فالمراد ليس بعضاً من أبعاض الا مّة، بل المراد هو أهل الحل والعقد من الا مّة.

إلّا أنّ ادّعائه هذا لا يصمد أمام الحقيقة القوية التي لا خفاء عليها، وفي دفعه ذلك الأمر مغالطة لا يمكن أن يرتضيها هو نفسه، فإنّه إذا دلّت

ص: 63

الآية على عصمة أُولي الأمر فيجب علينا التعرّف عليهم، وادّعاء العجز هروب من الحقيقة، فهل العجز يختص بزمانه أو كان يشمل زمان نزول الآية، لا أظن أن يقول الرازي بالثاني. فعليه أن يتعرّف على المعصوم في زمان النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وعصر نزول الآية، وبالتعرّف عليه يعرف معصوم زمانه، حلقة بعد أُخرى، ولا يعقل أن يأمر الوحي الإلهي باطاعة المعصوم ثم لا يقوم بتعريفه حين النزول، فلو آمن الرازي بدلالة الآية على عصمة أُولي الأمر فإنّه من المنطقي والمعقول له أن يؤمن بقيام الوحي الإلهي بتعريفهم بواسطة النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم.

إذ لا معنى أن يأمر اللَّه سبحانه باطاعة المعصوم، ولا يقوم بتعريفه.

ثمّ إنّ تفسير «أُولي الأمر» بأهل الحل والعقد، تفسير للغامض- حسب نظر الرازي- بما هو أشد غموضاً، إذ هو ليس بأوضح من الأوّل، فهل المراد منهم: العساكر، والضباط، أو العلماء، والمحدّثون، أو الحكام والسياسيون، أو الكل. وهل اتّفق اجماعهم على شي ء، ولم يخالفهم لفيف من المسلمين.

إذا كانت العصمة ثابتة للا مة عند الرازي كما علمت، فهناك من يرى العصمة لجماعة من الا مّة كالقرّاء والفقهاء والمحدّثين، هذا هو ابن تيمية يقول في ردّه على الشيعة عند قولهم: إنّ وجود الإمام المعصوم لا بدّ منه بعد موت النبيّ يكون حافظاً للشريعة ومبيّناً أحكامها خصوصاً أحكام الموضوعات المتجددة، حيث يقول: إنّ أهل السنّة لا يسلمون أن يكون الإمام حافظاً للشرع بعد انقطاع الوحي، وذلك لأنّه حاصل للمجموع، والشرع إذا نقله أهل التواتر كان ذلك خيراً من نقل الواحد، فالقرّاء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه، والمحدّثون معصومون في حفظ

ص: 64

الأحاديث وتبليغها، والفقهاء معصومون في الكلام والاستدلال(1) .

وهذا الرأي أغرب من سابقه وأضعف حجّة، فكيف يدّعي العصمة لهذه الطوائف مع أنّهم غارقين في الاختلاف في القراءة والتفسير، والحديث والأثر، والحكم والفتوى، والعقيدة والنظر. ولو أغمضنا عن ذلك فما الدليل على عصمة تلكم الطوائف خصوصاً على قول البعض بأنّ القول بالعصمة تسرّب من اليهود إلى الأوساط الإسلامية.

الثالث: قوله سبحانه: (وَإِذِ ابْتَلى إِبراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهدِي الظّالِمِينَ). (2) والاستدلال بالآية على عصمة الإمام يتوقّف على تحديد مفهوم الإمامة الواردة في الآية وإنّ المقصود منها غير النبوّة وغير الرسالة، فأمّا الأوّل فهو عبارة عن منصب تحمّل الوحي، وأمّا الثاني فهو عبارة عن منصب ابلاغة إلى الناس. والإمامة المعطاة للخليل في أُخريات عمره غير هذه وتلك، لأنّه كان نبيّاً ورسولًا وقائماً بوظائفهما طيلة سنين حتى خُطب بهذه الآية، فالمراد من الإمامة في المقام هو منصب القيادة، وتنفيذ الشريعة في المجتمع بقوة وقدرة. وبعرب عن كون المراد من الإمامة في المقام هو المعنى الثالث قوله سبحانه: (أمْ يَحسُدُونَّ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظيماً).

فالإمامة التي أنعم بها اللَّه سبحانه على الخليل وبعض ذرّيته هي الملك العظيم الوارد في هذه الآية. وعلينا الفحص عن المراد بالملك العظيم، إذ عند ذلك يتّضح أنّ مقام الإمامة يلي النبوّة والرسالة، وانّما هو


1- ابن تيمية: منهاج السنّة كما في السنّة كما في نظرية الإمامة 120.
2- البقرة/ 124.

ص: 65

قيادة حكيمة، وحكومة إلهية، يبلغ المجتمع بها إلى السعادة، واللَّه سبحانه يوضح حقيقة هذا الملك في الآيات التالية:

1- يقول سبحانه- حاكياً قول يوسف- عليهالسّلام--: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأويلِ الأحاديثِ»(1) ومن المعلوم أنّ الملك الذي منّ به سبحانه على عبده يوسف ليس هو النبوّة، بل الحاكمية حيث صار أميناً مكيناً في الأرض. لقوله: (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأويلِ الأحاديثِ) إشارة إلى نبوّته، والملك إشارة إلى سلطته وقدرته.

2- ويقول سبحانه في داود- عليهالسّلام-: (وَآتاهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ) ويقول سبحانه: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ)(2) .

3- ويحكي اللَّه تعالى عن سليمان- عليهالسّلام أنّه قال: (وَهَبْ لِي مُلْكَاً لا يَنْبَغِي لأِحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ) (3).

والتأمل في هذه الآيات الكريمة يفسر لنا حقيقة الإمامة باعتبار الملاحظات التالية:

أ- إنّ إبراهيم طلب الإمامة لذرّيته وقد أجاب سبحانه دعوته في بعضهم.

ب- إنّ مجموعة من ذرّيته، كيوسف وداود وسليمان، نالوا- وراء النبوّة والرسالة- منصب الحكومة والقيادة.


1- يوسف/ 101.
2- ص/ 20.
3- ص/ 35.

ص: 66

ج- إنّه سبحانه أعطى آل إبراهيم الكتاب، والحكمة، والملك العظيم.

فمن ضم هذه الا مور بعضها إلى بعض، يخرج بهذه النتيجة: انّ ملاك الإمامة في ذرّية إبراهيم هو قيادتهم وحكمهم في المجتمع، وهذه هي حقيقة الإمامة، غير أنّها ربّما تجتمع مع المقامين الآخرين، كما في الخليل، ويوسف، وداود، وسليمان، وغيرهم، وربّما تنفصل عنهما كما في قوله سبحانه: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أحَقُ بِالمُلكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسَطَةً فِي العِلْمِ وَاللَّهُ يُؤْتي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَليمٌ) .(1)

والإمامة التي يتبنّاها المسلمون بعد رحلة النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم تتّحد واقعيتها مع هذه الإمامة.

ما هو المراد من الظالم:

قد تعرّفت على المقصود من جعل إبراهيم- عليهالسّلام إماماً للناس، وإنّ المراد هو القيادة الإلهية وسوق الناس إلى السعادة بقوّة وقدرة ومنعة. بقي الكلام في تفسير الظالم الذي ليس له من الإمامة سهم، فنقول:

لمّا خلع سبحانه ثوب الإمامة على خليله، ونصبه إماماً للناس، ودعا إبراهيم أن يجعل من ذرّيته إماماً، أُجيب بأنّ الإمامة منصب إلهيّ لا يناله الظالمون، لأنّ الإمام هو المطاع بين الناس، المتصرّف في الأموال والنفوس، فيجب أن يكون على الصراط السويّ. والظالم المتجاوز عن الحد لا يصلح لهذا المنصب.


1- البقرة/ 247.

ص: 67

إنّ الظالم الناكث لعهد اللَّه، والناقض لقوانينه وحدوده، على شفا جرف هار، لا يؤتمن عليه ولا تلقى إليه مقاليد الخلافة، لأنّه على مقربة من الخيانة والتعدي، وعلى استعداد لأن يقع أداة للجائرين، فكيف يصح في منطق العقل أن يكون إماماً مطاعاً، نافذ القول، مشروع التصرّف، وعلى ذلك، فكل من ارتكب ظلماً وتجاوز حداً في يوم من أيام عمره، أو عبد صنماً، أو لاذ إلى وثن- وبالجملة ارتكب ما هو حرام فضلًا عمّا هو شرك وكفر- ينادى من فوق العرش في حقه: (لا يَنالُ عَهدِي الظّالِمِينَ) من غير فرق بين صلاح حالهم بعد تلك الفترة، أو البقاء على ما كانوا عليه.

نعم اعترض «الجصاص» على هذا الاستدلال وقال: «إنّ الآية إنّما تشمل من كان مقيماً على الظلم وأمّا التائب منه فلا يتعلّق به الحكم، لأنّ الحكم إذا كان معلّقاً على صفة، وزالت تلك الصفة، زال الحكم. ألا ترى أنّ قوله: (وَلا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا) (1) إنّما ينهى عن الركون إليهم ما أقاموا على الظلم، فقوله تعالى: (لا يَنالُ عَهدِي الظّالِمِينَ) لم ينف به العهد عمّن تاب عن ظلمه، لأنّه في هذه الحالة لا يسمّى ظالماً، كما لا يسمّى من تاب من الكفر كافراً»(2) .

إلّا أنّه يلاحظ عليه: أنّ قوله: «الحكم يدور مدار وجود الموضوع» ليس ضابطاً كلياً، بل الأحكام على قسمين: قسم كذلك، وآخر يكفي فيه اتّصاف الموضوع بالوصف والعنوان آناً ما، ولحظة خاصة، وإن انتفى بعد الاتّصاف، فقوله: «الخمر حرام»، أو: «في سائمة الغنم زكاة» من قبيل القسم الأوّل، وأمّا قوله: «الزاني يحد»، و «السارق يقطع» فالمراد منه انّ الانسان المتلبّس بالزنا أو السرقة يكون محكوماً بهما وإن زال العنوان وتاب


1- هود/ 113.
2- تفسير آيات الأحكام 1/ 72.

ص: 68

السارق والزاني، ومثله: «المستطيع يجب عليه الحج» فالحكم ثابت، وإن زالت عنه الاستطالة عن تقصير لا عن قصور.

وعلى ذلك فالمدعى أنّ: (الظّالمين) في الآية المباركة كالسارق والسارقة والزاني والزانية وغيرها من الموارد المشابهة لها.

نعم المهم في المقام، اثبات أنّ الموضوع في الآية من قبيل الثاني، وأنّ التلبس بالظلم- ولو آناً ما- يسلب عن الانسان صلاحية الإمامة، وإن تاب من ذنبه، فإنّ الناس بالنسبة إلى الظلم على أقسام أربعة:

1- من كان طيلة عمره ظالماً.

2- من كان طاهراً ونقياً في جميع فترات عمره.

3- من كان ظالماً في بداية عمره، وتائباً في آخره.

4- من كان طاهراً في بداية عمره، وظالماً في آخره.

عند ذلك يجب أن نقف على أنّ إبراهيم- عليهالسّلام، الذي سأل الإمامة لبعض ذرّيته، أيَّ قسم منها أراد؟

إنّ من غير المعقول والبديهي أن يسأل خليل اللَّه تعالى الإمامة لأصحاب القسمي الأوّل والرابع من ذرّيته، لوضوح أنّ الغارق في الظلم من بداية عمره إلى آخره، أو المتّصف به أيام تصدّيه للإمامة، لا يصلح لأن يؤتمن عليها.

ولما كان اللَّه تعالى قد نفى امتلاك الإمامة من قبل الظالم وهو ما سبق أن وقع في تسميته أصحاب القسم الثالث، في حين يقابله في القسم الثاني من هو بري ء عن الظلم مطلقاً طيلة عمره، وتتمثل فيه جميع الصفات المطلوبة والمحددة في الآية الكريمة، فلا مناص من الجزم بتعلقها بالقسم الثاني وحده دون باقي الأقسام.

ص: 69

العصمة في القول والرأي:

إنّ الأئمّة معصومون عن العصيان والمخالفة أوّلًا، وعن الخطأ والزلّة في القول ثانياً، وما ذلك إلّا لأنّ كل إمام من الأوّل إلى الثاني عشر، قد أحاط إحاطة شاملة كاملة بكل ما في هذين الأصلين، بحيث لا يشذ عن علمهم معنى آية من آي الذكر الحكيم تنزيلًا وتأويلًا، ولا شي ء من سنّة رسول اللَّه قولًا وفعلًا وتقريراً، وكفى بمن أحاط بعلوم الكتاب والسنّة فضلًا وعلماً، ومن هنا كانوا قدوة الناس جميعاً بعد جدّهم الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم باتفاق الجميع المطلق دليلًا واضحاً على أنّهم هم الأئمّة المعصومون وقادة المسلمين بعد غياب رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وحتى قيام يوم الدين.

وقد أخذ أهل البيت علوم الكتاب والسنّة وفهموها عن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم تماماً (1) كما أخذها ووعاها رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم عن جبرئيل، وكما وعاها جبرئيل عن اللَّه، ولا فرق أبداً في شي ء إلّا بالواسطة.

نعم أخذ علي عن النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم، وأخذ الحسن عن أبيه، وهكذا كل إمام يأخذ عن أبيه، علم يتناقل ضمن هذهِ السلسلة الطاهرة المعروفة، لم يأخذ أحد منهم- عليهما السّلام- عن صحابي ولا تابعي أبداً، بل أخذ الجميع عنهم ومنهم انتقلت العلوم إلى الآخرين كما تلقّاها رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم من لدن حكيم خبير.


1- أو الهاماً غيبياً لأنّهم محدَّثون، كما أنّ مريم كانت محدَّثة، وفي صحيح البخاري: أبي هريرة قال: قال النبى (صلّى اللَّه عليه و آله وسلّم): لقد كان فيمن قبلكم من بني اسرائيل رجال يُكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن كان من أُمّتي منهم أحد فعمر. صحيح البخاري 2/ 194 باب مناقب عمر بن الخطاب.

ص: 70

قال الإمام الباقر- عليهالسّلام: «لو كنّا نحدّث الناس برأينا وهوانا لهلكنا ولكن نحدّثهم بأحاديث نكنزها عن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم» .(1)


1- محمّد جواد مغنية: الشيعة والتشيّع 44.

ص: 71

المسألة الثالثة: الإمام المنتظر

إنّ الاعتقاد بالإمام المهدي المنتظر عقيدة مشتركة بين جميع المسلمين، إلّا من أصمّه اللَّه، فكل من كان له إلمام بالحديث يقف على تواتر البشارة عن النبي وآله وأصحابه، بظهور المهدي في آخر الزمان لإزالة الجهل والظلم، ونشر اعلام العلم والعدل، وإعلاء كلمة الحقّ، وإظهار الدين كلّه، ولو كره المشركون، وهو باذن اللَّه ينجي العالم من ذُلِّ العبودية لغير اللَّه، ويبطل القوانين الكافرة التي سنّتها الأهواء، ويقطع أواصر التعصبات القومية والعنصرية، ويميت أسباب العداء والبغضاء التي صارت سبباً لاختلاف الأُمّة واضطراب الكلمة، ومصدراً خطيراً لايقاد نيران الفتن والمنازعات، ويحقق اللَّه بظهوره وعده الذي وعد به المؤمنين بقوله:

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضْى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْنَاً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) (1).

وقال سبحانه: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ


1- النور/ 55.

ص: 72

يَرِثُهَا عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (1).

هذا ما اتّفق عليه المسلمون في الصدر الأوّل والأزمنة اللاحقة، وقد تظافر مضمون قول الرسول الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد، لطوّل اللَّه ذلك اليوم حتى يخرج رجل من ولدي، فيملأها عدلًا وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً».

بلى إنّ جميع المسلمين يتفقون أساساً على فكره قيام المهدي وما سيعم الأرض في عهده من العدل والأمن والخير العميم، وإن كان هناك من اختلاف يذكر في مضمون هذا الأمر العظيم، والحلم المنشود، فإنّه قد لا يتجاوز في أهم نقاطه الحدود الأساسية المرتكز عليها، والتي تتمحور أهمها في تحديد ولادته- عليهالسّلام، فانّ الأكثرية من أهل السنّة يقولون بأنّه سيولد في آخر الزمان، وأمّا الشيعة ولاستنادهم على جملة واسعة من الروايات والأدلّة الصحيحة يذهبون إلى أنّه- عليهالسّلام ولد في «سرّ من رأى» عام 255 ه، وغاب بأمر اللَّه سبحانه سنة وفاة والده الإمام الحسن بن علي العسكري- عليهالسّلام، عام 260 ه، وهو يحيى حياة طبيعية كسائر الناس، غير أنّ الناس يرونه ولا يعرفونه، وسوف يظهره اللَّه سبحانه ليحقق عدله.

وهذا المقدار من الاختلاف لا يجعل العقيدة بالمهدي عقيدة خلافية، ومن أراد أن يقف على عقيدة السنّة والشيعة في مسألة المهدي فعليه أن يرجع إلى الكتب التالية لمحقّقي السنّة ومحدّثيهم:

1- «صفة المهدي» للحافظ أبي نعيم الاصفهاني.

2- «البيان في أخبار صاحب الزمان» للكنجي الشافعي.

3- «البرهان في علامات مهدي آخر الزمان» لملّا علي المتقي.


1- الأنبياء/ 105.

ص: 73

4- «العرف الوردي في أخبار المهدي» للحافظ السيوطي.

5- «القول المختصر في علامات المهدي المنتظر» لابن حجر.

6- «عقد الدرر في أخبار الإمام المنتظر» للشيخ جمال الدين الدمشقي.

ومن أراد التفصيل فليرجع إلى «منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر» للعلّامة الصافي- دام ظلّه، وإلى كتاب المهدي عند أهل السنّة صدر في مجلّدين وطبع في بيروت.

ولعلّ الروايات والأخبار المستفيضة المؤكدة على قضية الإمام المهدي من الوفرة وقوّة الحجية بحيث لا يرقى إليها الشك والنقاش سواء في متونها أو في أسانيدها، وعلى ذلك دأب الماضون وتبعهم اللاحقون، إلّا ما أورده ابن خلدون في مقدمته من تضعيفه لهذه الأخبار والتشكيك في أصحيتها، وفي مدى حجيتها، وقد فنّد مقالته محمّد صديق برسالة أسماها «إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون».

وقد كتب أخيراً الدكتور عبد الباقي كتاباً قيّماً في الموضوع أسماه «بين يدي الساعة» يشير فيه إلى تظافر الأخبار الواردة في حق المهدي بقوله: «إنّ المشكلة ليست في حديث أو حديثين أو راو أو راويين، إنّها مجموعة من الأحاديث والأخبار تبلغ الثمانين تقريباً، اجتمع على تناقلها مئات الرواة، وأكثر من صاحب كتاب صحيح.

فلماذا نردّ كل هذه الكمّية؟ أكلّها فاسدة؟ لو صحّ هذا الحكم لانهار الدين- والعياذ باللَّه- نتيجة تطرق الشك والظن الفاسد إلى ما عداها من سنّة رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم.

ثمّ إنّي لا أجد خلافاً حول ظهور المهدي، أو حول حاجة العالم إليه، وإنّما الخلاف حول من هو، حسني أو حسيني؟ سيكون في آخر الزمان، أو

ص: 74

موجود الآن، خفي وسيظهر؟ ظهر أو سيظهر؟ ولا عبرة بالمدّعين الكاذبين، فليس لهم اعتبار.

ثمّ إنّي لا أجد مناقشة موضوعية في متن الأحاديث، والذي أجده إنّما هو مناقشة وخلاف حول السند، واتّصاله وعدم اتّصاله، ودرجة رواته، ومن خرّجوه، ومن قالوا فيه.

وإذا نظرنا إلى ظهور المهدي نظرة مجرّدة فإنّنا لا نجد حرجاً من قبولها وتصديقها، أو على الأقل عدم رفضها. فإذا ما تؤيّد ذلك بالأدلّة الكثيرة، والأحاديث المتعددة، ورواتها مسلمون مؤتمنون، والكتب التي نقلتها إلينا كتب قيمة، والترمذي من رجال التخريج والحكم، بالاضافة إلى أنّ أحاديث المهدي لها ما يصح أن يكون سنداً لها في البخاري ومسلم، كحديث جابر في مسلم الذي فيه: «فيقول أميرهم (أي لعيسى): تعال صلّ بنا» (1)، وحديث أبي هريرة في البخاري، وفيه: «كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم وإمامكم منكم» (2)، فلا مانع من أن يكون هذا الأمير، وهذا الإمام هو المهدي.

يضاف إلى هذا انّ كثيراً من السلف- رضي اللَّه عنهم- لم يعارضوا هذا القول، بل جاءت شروحهم وتقريراتهم موافقة لإثبات هذه العقيدة عند المسلمين»(3) .


1- صحيح مسلم باب نزول عيسى 59.
2- صحيح البخاري 14/ 334.
3- بين يدي الساعة للدكتور عبدالباقي 123- 125.

ص: 75

المسألة الرابعة: التقية

مفهومها

غايتها، دليلها، حدّها

في ضوء الكتاب والسنّة

التقية من المفاهيم القرآنية التي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم، وفي تلك الآيات إشارات واضحة إلى الموارد التي يلجأ فيها المؤمن إلى استخدام هذا المسلك الشرعي خلال حياته أثناء الظروف العصيبة، ليصون بها نفسه وعرضه وماله، أو نفس من يمتُ إليه بصلة وعرضَه ومالَه، كما استعملها مؤمن آل فرعون لصيانة الكليم عن القتل والتنكيل (1) ولاذ بها عمّار عندما أُخذ وأُسِر و هُدِّد بالقتل (2)إلى غير ذلك من الموارد الواردة في الكتاب والسنّة، فمن المحتّم علينا أن نتعرف عليها، مفهوماً وغايةً ودليلًا وحدّاً، حتى نتجنَّب الافراط والتفريط في مقام القضاء والتطبيق.

إنّ التقية، إسم ل «إتّقى يتّقي» (3)


1- القصص/ 20.
2- النحل/ 106.
3- قال ابن الأثير في النهاية 5/ 217: وأصل اتقى: اوتقى فقلبت الواو ياء لكسرة قبلها ثمّ أُبدلت تاءوأُدغمت. ومنه حديث علي- عليه السّلام- كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول اللَّه، أي جعلناه وقاية من العدوّ. ولاحظ لسان العرب مادة «وقى».

ص: 76

الوقاية، ومن ذلك اطلاق التقوى على اطاعة اللَّه، لأنّ المطيع يتخذها وقاية من النار والعذاب. والمراد هو التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ.

مفهومها:

إذا كانت التقية هي اتخاذ الوقاية من الشرِّ، فمفهومها في الكتاب والسنّة هو: إظهار الكفر وإبطان الإيمان، أو التظاهر بالباطل وإخفاء الحق. وإذا كان هذا مفهومها، فهي تُقابل النفاق، تَقابُل الإيمان والكفر، فإنّ النفاق ضدها وخلافها، فهو عبارة عن إظهار الإيمان وابطان الكفر، والتظاهر بالحقّ واخفاء الباطل، ومع وجود هذا التباين بينهما فلا يصح عدها من فروع النفاق.

نعم: من فسر النفاق بمطلق مخالفة الظاهر للباطن، وبه صوَّر التقية- الواردة في الكتاب والسنّة من فروعه، فقد فسره بمفهوم أوسع ممّا هو عليه في القرآن، فإنّه يُعرِّف المنافقين بالمتظاهرين بالإيمان والمبطنين للكفر بقوله تعالى: (إذَا جَاءَكَ المنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (1) فإذا كان هذا حدُّ المنافق فكيف يعمُ من يستعمل التقية تجاه الكفار والعصاة فيخفي إيمانه ويظهر الموافقة لغاية صيانة النفس والنفيس، والعرض والمال من التعرض؟!

ويظهر صدق ذلك إذا وقفنا على ورودها في التشريع الإسلامي، ولو كانت من قسم النفاق، لكان ذلك أمراً بالقبح ويستحيل على الحكيم أن يأمر به: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (2).


1- المنافقون/ 1.
2- الأعراف/ 28.

ص: 77

غايتها:

الغاية من التقية: هي صيانة النفس والعرض والمال، وذلك في ظروف قاهرة لا يستطيع فيها المؤمن أن يعلن عن موقفه الحق صريحاً خوفاً من أن يترتّب على ذلك مضار وتهلكة من قوى ظالمة غاشمة كلجوء الحكومات الظالمة إلى الارهاب، والتشريد والنفي، والقتل والتنكيل، ومصادرة الأموال، وسلب الحقوق الحقة، فلا يكون لصاحب العقيدة الذي يرى نفسه محقاً محيص عن إبطانها، والتظاهر بما يوافق هوى الحاكم وتوجهاته حتى يسلم من الاضطهاد والتنكيل والقتل، إلى أن يُحدِث اللَّه أمراً.

إنّ التقية سلاح الضعيف في مقابل القوي الغاشم، سلاح من يبتلى بمن لا يحترم دمه وعرضه وماله، لا لشي ء إلّا لأنّه لا يتفق معه في بعض المبادئ والأفكار.

إنّما يمارس التقية من يعيش في بيئة صودرت فيها الحرية في القول والعمل، والرأي والعقيدة فلا ينجو المخالف إلّا بالصمت والسكوت مرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة وأفكارها، أو قد يلجأ إليها البعض كوسيلة لابد منها من أجل اغاثة الملهوف المضطهد والمستضعف الذي لا حول له ولا قوة، فيتظاهر بالعمل إلى جانب الحكومة الظالمة وصولًا إلى ذلك كما كان عليه مؤمن آل فرعون الذي حكاه سبحانه في الذكر الحكيم.

إنّ أكثر من يَعيبُ التقية على مستعملها، يتصور أو يصوِّر أنّ الغاية منها هو تشكيل جماعات سرية هدفها الهدم والتخريب، كما هو المعروف من الباطنيين والأحزاب الإلحادية السرية، وهو تصور خاطئ ذهب إليه أُولئك جهلًا أو عمداً دون أن يركزّوا في رأيهم هذا على دليل ما أو حجة مقنعة،

مع الشيعة الإمامية في عقائدهم ؛ ؛

ص: 78

فأين ما ذكرناه من هذا الذي يذكره، ولو لم تُلجئ الظروف القاهرة والأحكام المتعسفة هذه الجموع المستضعفة من المؤمنين لما كانوا عمدوا إلى التقية، ولما تحمّلوا عب ء اخفاء معتقداتهم ولدعوا الناس إليها علناً ودون تردّد، إلّا أنّ السيف والنطع سلاح لا تتردد كل الحكومات الفاسدة من التلويح بها أمام من يخالفها في معتقداتها وعقائدها.

أين العمل الدفاعي من الأعمال البدائية التي يرتكبها أصحاب الجماعات السرية للإطاحة بالسلطة وامتطاء ناصية الحكم، فأعمالهم كلها تخطيطات مدبرة لغايات ساقطة.

وهؤلاء هم الذين يحملون شعار «الغايات تبرر الوسائل» فكل قبيح عقلي أو ممنوع شرعي يستباح عندهم لغاية الوصول إلى المقاصد المشؤومة.

إنّ القول بالتشابه بين هؤلاء وبين من يتخذ التقية غطاءً، وسلاحاً دفاعياً ليسلم من شر الغير، حتى لا يُقْتَل ولا يُستأصل، ولا تُنهب داره وماله، إلى أن يُحدث اللَّه أمراً، من قبيل عطف المبائن على مثله.

إنّ المسلمين القاطنين في الاتحاد السوفيتي السابق قد لاقوا من المصائب والمحن ما لا يمكن للعقول أن تحتملها ولاأن تتصورها، فإنّ الشيوعيّين وطيلة تسلطهم على المناطق الإسلامية قلبوا لهم ظهر المِجَنّ، فصادروا أموالهم وأراضيهم، ومساكنهم، ومساجدهم، ومدارسهم، وأحرقوا مكتباتهم، وقتلوا كثيراً منهم قتلًا ذريعاً ووحشياً، فلم ينج منهم إلّا من اتقاهم بشي ء من التظاهر بالمرونة، واخفاء المراسم الدينية، والعمل على اقامة الصلاة في البيوت إلى أن نجّاهم اللَّه سبحانه بانحلال تلك القوة الكافرة، فبرز المسلمون إلى الساحة من جديد، فملكوا أرضهم وديارهم، وأخذوا يستعيدون مجدهم وكرامتهم شيئاً فشيئاً، وما هذا إلّا ثمرة من ثمار

ص: 79

التقية المشروعة التي أباحها اللَّه تعالى لعباده بفضله وكرمه سبحانه على المستضعفين.

فإذا كان هذا معنى التقية ومفهومها، وكانت هذه غايتها وهدفها، فهو أمر فطري يسوق الانسان إليه قبل كل شي ء عقلُه ولبُّه، وتدعوه إليه فطرته، ولأجل ذلك يستعملها كل من ابتُلي بالملوك والساسة الذين لا يحترمون شيئاً سوى رأيهم وفكرتهم ومطامعهم وسلطتهم ولا يترددون عن التنكيل بكل من يعارضهم في ذلك، من غير فرق بين المسلم- شيعياً كان أم سنيّاً- وغيره، ومن هنا تظهر جدوى التقية وعمق فائدتها.

ولأجل دعم هذا الأصل الحيويّ ندرس دليله من القرآن والسنّة.

دليلها في القرآن والسنّة:

شرّعت التقية بنص القرآن الكريم حيث وردت جملة من الآيات الكريمة(1) سنحاول استعراضها في الصفحات التالية:

الآية الأُولى:

قال سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلكِن مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرَاً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .(2)

ترى أنّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرهاً ومجاراةً للكافرين خوفاً منهم، بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان، وصرّح بذلك لفيف من المفسرين القدامى والجدد، سنحاول أن نستعرض كلمات البعض منهم


1- غافر/ 28 و 45، والقصص/ 20 وستوافيك نصوص الآيات في ثنايا البحث.
2- النحل/ 106.

ص: 80

تجنّباً عن الإطالة والاسهاب، ولمن يبتغي المزيد فعليه بمراجعة كتب التفسير المختلفة:

1- قال الطبرسي: قد نزلت الآية في جماعة أُكرهوا على الكفر، وهم عمّار وأبوه ياسر وأُمّه سمية، وقُتلَ الأبوان لأنّهما لم يظهرا الكفر ولم ينالا من النبيّ، وأعطاهم عمّار ما أرادوا منه، فأطلقوه، ثمّ أخبر عمّار بذلك رسول اللَّه، وانتشر خبره بين المسلمين، فقال قوم: كفر عمّار، فقال الرسول: كلّا إنّ عمّاراً مُلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه.

وفي ذلك نزلت الآية السابقة، وكان عمّار يبكي، فجعل رسول اللَّه يمسح عينيه ويقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت (1).

2- وقال الزمخشري: روي إنّ أُناساً من أهل مكة فُتِنُوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، وكان فيهم من أُكره وأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان، منهم عمّار بن ياسر وأبواه: ياسر وسمية، وصهيب وبلال وخباب.

أمّا عمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً ... (2).

3- وقال الحافظ ابن ماجة: «والايتاء: معناه الاعطاء أن وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية، والتقية في مثل هذه الحال جائزة لقوله تعالى: (إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) .(3)

4- وقال القرطبي: قال الحسن: التقية جائزة للانسان إلى يوم القيامة- ثمّ قال:- أجمع أهل العلم على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشى على


1- الطبرسي: مجمع البيان 3/ 388.
2- الزمخشري: الكشاف عن حقائق التنزيل 2/ 430.
3- ابن ماجة: السنن 1/ 53، شرح حديث رقم 150.

ص: 81

نفسه القتل إنّه لا اثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بالكفر، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي. 5(1)- قال الخازن: «التقية لا تكون إلّا مع خوف القتل مع سلامة النيّة، قال اللَّه تعالى: (إلّا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان) ثمّ هذه التقية رخصة» (2).

6- قال الخطيب الشربيني: « (إلّا من أُكره) أي على التلفّظ به (وقلبه مطمئن بالإيمان) فلا شي ء عليه لأنّ محل الإيمان هو القلب». (3)7- وقال إسماعيل حقي: « (إلّا من أُكره) أُجبر على ذلك اللفظ بأمر يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه ... لأنّ الكفر اعتقاد، والاكراه على القول دون الاعتقاد، والمعنى: «ولكن المكره على الكفر باللسان»، (وقلبه مطمئن بالإيمان) لا تتغير عقيدته، وفيه دليل على أنّ الإيمان المنجي المعتبر عند اللَّه، هو التصديق بالقلب» .(4)

الآية الثانية

قال سبحانه: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَل ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ إلَّا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلى اللَّهِ الْمصيرُ) .(5)


1- القرطبي: الجامع الاحكام القرآن 4/ 57.
2- تفسير الخازن: 1/ 277.
3- الخطيب الشربيني: السراج المنير.
4- إسماعيل حقي: تفسير روح البيان 5/ 84.
5- آل عمران: 28.

ص: 82

وكلمات المفسرين حول الآية تغنينا عن أي توضيح:

1- قال الطبري: (إلّا أن تتقوا منهم تقاة): قال أبو العالية: التقية باللسان، وليس بالعمل، حُدّثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ قال:

أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى: (إلّا أن تتقوا منهم تقاة) قال: التقية باللسان من حُمِلَ على أمر يتكلّم به وهو للَّه معصية فتكلم مخافة نفسه (وقلبه مطمئن بالإيمان) فلا اثم عليه، إنّما التقية باللسان (1).

2- وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: (إلّا أن تتقوا منهم تقاة):

رخّص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة: مخالفة ومعاشرة ظاهرة، والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع .(2)

3- قال الرازي في تفسير قوله تعالى: (إلّا أن تتقوا منهم تقاة): المسألة الرابعة: اعلم: إنّ للتقية أحكاماً كثيرة ونحن نذكر بعضها:

أ: إنّ التقية إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفّار، ويخاف منهم على نفسه، وحاله، فيداريهم باللسان، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة، ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرض في كل ما يقول، فإنّ للتقيّة تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.

ب: التقية جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة: لصون المال؟

يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» ولقوله صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: «من قتل دون ماله فهو شهيد» .(3)


1- الطبري: جامع البيان 3/ 153.
2- الزمخشري: الكشاف 1/ 422.
3- مفاتيح الغيب 8/ 13.

ص: 83

4- وقال النسفي: (إلّا أن تتقوا منهم تقاة) إلّا أن تخافوا جهتهم أمراً يجب اتقاؤه، أي الّا يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ يجوز لك اظهار الموالاة وإبطان المعاداة .(1)

5- وقال الآلوسي: وفي الآية دليل على مشروعية التقية وعرَّفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء. والعدو قسمان:

الأوّل: من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين، كالكافر والمسلم.

الثاني: من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية، كالمال والمتاع والملك والامارة .(2)

6- وقال جمال الدين القاسمي: ومن هذه الآية: (إلّا أن تتقوا منهم تقاة) استنبط الأئمّة مشروعية التقية عند الخوف، وقد نقل الاجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه (ايثار الحق على الخلق) .(3)

7- وفسر المراغي قوله تعالى: (إلّا أن تتقوا منهم تقاة) بقوله: أي ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلّا في حال الخوف من شي ء تتّقونه منهم، فلكم حينئذ أن تتّقوهم بقدر ما يبقى ذلك الشي ء، إذ القاعدة الشرعية «إنّ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح».

وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين،


1- النسفي: التفسير بهامش تفسير الخازن 1/ 277.
2- الآلوسي: روح المعاني 3/ 121.
3- جمال الدين القاسمي: محاسن التأويل 4/ 82.

ص: 84

إذاً فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأولى إمّا بدفع ضرر أو جلب منفعة، وليس لها أن تواليها في شي ء يضر المسلمين، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف، بل هي جائزة في كل وقت.

وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية بأن يقول الانسان أو يفعل ما يخالف الحق، لأجل التوقي من ضرر يعود من الأعداء إلى النفس، أو العرض، أو المال.

فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك، وقلبه مطمئن بالإيمان، لا يكون كافراً بل يُعذر كما فعل عمّار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان وفيه نزلت الآية:

(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان) (1).

هذه الجمل الوافية والعبارات المستفيضة لا تدع لقائل مقالًا إلّا أن يحكم بشرعية التقية بالمعنى الذي عرفته بل قد لا يجد أحد مفسراً أو فقيهاً وقف على مفهومها وغايتها يتردد في الحكم بجوازها، كما أنّك أخي القارئ لا تجد انساناً واعياً لا يستعملها في ظروف عصيبة، ما لم تترتّب عليها مفسدة عظيمة، كما سيوافيك بيانها عند البحث عن حدودها.

وإنّما المعارض لجوازها أو المغالط في مشروعيتها، فإنّما يفسرها بالتقية الرائجة بين أصحاب التنظيمات السرية والمذاهب الهدامة كالنصيرية والدروز، والباطنية كلّهم، إلّا أنّ المسلمين جميعاً بريئون من هذه التقية الهدامة لكل فضيلة رابية.


1- تفسير المراغي 3/ 136.

ص: 85

الآية الثالثة: قوله سبحانه:

(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَ آءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَبّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقَاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (1).

وكانت عاقبة أمره أن: (وَقَاهُ اللَّهُ سِيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِ آلَ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ)(2) .

وما كان ذلك إلّا لأنّه بتقيّته استطاع أن ينجي نبيّ اللَّه من الموت: (قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)(3) .

وهذه الآيات تدل على جواز التقية لانقاذ المؤمن من شرّ عدوه الكافر.

اتّقاء المسلم من المسلم في ظروف خاصة:

إنّ مورد الآيات وإن كان هو اتقاء المسلم من الكافر، ولكن المورد ليس بمخصص لحكم الآية فقط، إذ ليس الغرض من تشريع التقية عند الابتلاء بالكفار إلّا صيانة النفس والنفيس من الشر، فإذ ابتُلي المسلم بأخيه


1- غافر: 28.
2- غافر: 45.
3- القصص: 20.

ص: 86

المسلم الذي يخالفه في بعض الفروع ولا يتردد الطرف القوي عن إيذاء الطرف الآخر، كأن ينكل به أو ينهب أمواله أو يقتله، ففي تلك الظروف الحرجة يحكم العقل السليم بصيانة النفس والنفيس عن طريق كتمان العقيدة واستعمال التقية، ولو كان هناك وزر إنّما يتوجه على من يُتقى منه لا على المتقي، فلو سادت الحرية جميع الفرق الإسلامية، وتحملت كل فرقة آراء الفرقة الا خرى بصدر رحب، وفهمت بأنّ ذلك هو قدر اجتهادها، لم يضطر أحد من المسلمين إلى استخدام التقية، ولساد الوئام مكان النزاع.

وقد فهم ذلك لفيف من العلماء وصرّحوا به، وإليك نصوص بعضهم:

1- يقول الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه: (إلّا أن تتقوا منهم تقاة) ظاهر الآية على أنّ التقية إنّما تحل مع الكفار الغالبين، إلّا أنّ مذهب الشافعي- رضي اللَّه عنه: إنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقية محاماة عن النفس، وقال: التقية جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه»، وقوله صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: «من قتل دون ماله فهو شهيد». (1)2- ينقل جمال الدين القاسمي عن الإمام مرتضى اليماني في كتابه «إيثار الحق على الخلق» ما هذا نصه: «وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران:

أحدهما: خوف العارفين- مع قلتهم- من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن، واجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق، ولا برح المحق عدوّاً لأكثر


1- الرازى: مفتايح الغيب 8: 13 في تفسير الآية.

ص: 87

الخلق، وقد صحّ عن أبي هريرة- رضي اللَّه عنه أنّه قال في ذلك العصر الأوّل: حفظت من رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وعاءين، أمّا أحدهما فبثثته في الناس وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم .(1).

3- وقال المراغي في تفسير قوله سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَان): ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة، وإلانة الكلام لهم، والتبسم، في وجوههم وبذل المال لهم، لكف أذاهم وصيانة العرض منهم، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها، بل هو مشروع، فقد أخرج الطبراني قوله صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: «ما وَقَى المؤمن به عرضَه فهو صدقة» (2)

إنّ الشيعة تتقي الكفار في ظروف خاصة لنفس الغاية التي لأجلها يتقيهم السنّي، غير أنّ الشيعي ولأسباب لا تخفى، يلجأ إلى اتقاء أخيه المسلم لا قصور في الشيعي، بل في أخيه الذي دفعه إلى ذلك لأنّه يدرك أنّ الفتك والقتل مصيره إذا صرّح بمعتقده الذي هو موافق لا صول الشرع الإسلامي وعقائده، نعم كان الشيعي وإلى وقت قريب يتحاشى أن يقول: إنّ اللَّه ليس له جهة، أو أنّه تعالى لا يُرى يوم القيامة، وإنّ المرجعية العلمية والسياسية لأهل البيت بعد رحلة النبي الأكرم، أو أنّ حكم المتعة غير منسوخ. إنّ الشيعي إذا صرّح بهذه الحقائق- التي استنبطت من الكتاب والسنّة سوف يُعرّض نفسه ونفيسه للمهالك والمخاطر. وقد مر عليك كلام الرازي وجمال الدين القاسمي والمراغي الصريح في جواز هذا النوع من التقية، فتخصيص التقية بالتقية من الكافر فحسب جمود على ظاهر الآية وسد لباب الفهم، ورفض للملاك الذي شُرعت لأجله التقية، واعدام


1- جمال الدين القاسمي: محاسن التأويل: 4/ 82.
2- مصطفى المراغي: 3/ 136.

ص: 88

لحكم العقل القاضي بحفظ الأهم إذا عارض المهم.

والتاريخ بين أيدينا يحدثنا بوضوح عن لجوء جملة معروفة من كبار المسلمين إلى التقية في ظروف عصيبة أوشكت أن تؤدي بحياتهم وبما يملكون، وخير مثال على ذلك ما أورده الطبري في تاريخه (7/ 195- 206) عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة والمحدّثين في زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن قسراً حتى وإن استلزم ذلك قتل الجميع دون رحمة، ولما أبصر أُولئك المحدثين حد السيف مشهراً عمدوا إلى مصانعة المأمون في دعواه وأسروا معتقدهم في صدورهم، ولما عُتبوا على ما ذهبوا إليه من موافقة المأمون برروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حين أُكره على الشرك وقلبه مطمئن بالإيمان، والقصّة شهيرة وصريحة في جواز اللجوء إلى التقية التي دأب البعض على التشنيع فيها على الشيعة وكأنّهم هم الذين ابتدعوها من بنات أفكارهم دون أن تكون لها قواعد وأُصول إسلامية ثابتة ومعلومة.

الظروف العصيبة التي مرت بها الشيعة:

الذي دفع بالشيعة إلى التقية بين اخوانهم وأبناء دينهم إنّما هو الخوف من السلطات الغاشمة فلو لم يكن هناك في غابر القرون- من عصر الأمويين ثمّ العباسيين والعثمانيين- أي ضغط على الشيعة، ولم تكن بلادهم وعقر دارهم مخضّبة بدمائهم والتاريخ خير شاهد على ذلك، كان من المعقول أن تنسى الشيعة كلمة التقية وأن تحذفها من ديوان حياتها، ولكن ياللأسف إنّ كثيراً من اخوانهم كانوا أداة طيّعة بيد الأمويين والعباسيين الذين كانوا يرون في مذهب الشيعة خطراً على مناصبهم، فكانوا يؤلِّبون العامة من أهل السنّة على الشيعة يقتلونهم ويضطهدونهم وينكلون بهم، ولذا ونتيجة لتلك الظروف الصعبة لم يكن للشيعة، بل لكل من يملك شيئاً

ص: 89

من العقل وسيلة إلّا اللجوء إلى التقية أو رفع اليد عن المبادئ المقدسة التي هي أغلى عنده من نفسه وماله.

والشواهد على ذلك أكثر من أن تُحصى أو أن تعد، إلّا أنّا سنستعرض جانباً مختصراً منها: فمن ذلك ما كتبه معاوية بن أبي سفيان باستباحة دماء الشيعة أينما كانوا وكيفما كانوا، وإليك نص ما ذكرته المصادر عن هذه الواقعة لتدرك محنة الشيعة:

بيان معاوية إلى عماله:

روى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدائني في كتاب «الأحداث» قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة:

أن برئت الذمة ممن روي شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة، وعلى كل منبر، يلعنون علياً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي- عليهالسّلام فاستعمل عليها زياد بن سمية، وضم إليه البصرة، فكان يتبع الشيعة وهو بهم عارف، لأنّه كان منهم أيام علي- عليهالسّلام، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرَّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم، وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: ألّا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.

ثمّ كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ علياً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه، وشفع ذلك بنسخة أُخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكّلوا به، واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيّما

ص: 90

بالكوفة حتّى أنّ الرجل من شيعة علي- عليهالسّلام ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته، فيُلقي إليه سره، ويخاف من خادمه ومملوكه، ويحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة، ليكتمن عليه.

وأضاف ابن أبي الحديد: فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي- عليهماالسّلام، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلّا وهو خائف على دمه، أو طريد في الأرض.

ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين- عليهالسّلام، وولي عبد الملك بن مروان، فاشتد على الشيعة، وولى عليهم الحجاج بن يوسف، فتقرَّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه، وموالاة من يدعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من البغض من علي- عليهالسّلام وعيبه، والطعن فيه، والشنان له، حتى أنّ إنساناً وقف للحجاج- ويقال إنّه جد الأصمعي- عبد الملك ابن قريب بن قريب فصاح به: أيّها الأمير إنّ أهلي عقوني فسموني علياً، وإنّي فقير وبائس وأنا إلى صلة الأمير محتاج، فتضاحك له الحجاج، وقال: للطف ما توسلتَ به، قد وليتك موضع كذا.(1) ونتيجة لذلك شهدت أوساط الشيعة مجازر بشعة على يد السلطات الغاشمة، فقتل الآلاف منهم، وأمّا من بقي منهم على قيد الحياة فقد تعرض إلى شتى صنوف التنكيل والارهاب والتخويف، والحق يقال إنّ من الا مور العجيبة أن يبقى لهذه الطائفة باقية رغم كل ذلك الظلم الكبير والقتل الذريع، بل العجب العجاب أن تجد هذه الطائفة قد ازدادت قوة وعدة، وأقامت دولًا وشيدت حضارات وبرز منها الكثير من العلماء والمفكرين.


1- شرح نهج البلاغة 11/ 44- 46.

ص: 91

فلو كان الأخ السنّي يرى التقية أمراً محرّماً فليعمل على رفع الضغط عن أخيه الشيعي، وأن لا يضيق عليه في الحرية التي سمح بها الإسلام لأبنائه، وليعذره في عقيدته وعمله كما هو عذر أُناساً كثيراً خالفوا الكتاب والسنّة وأراقوا الدماء ونهبوا الدور فكيف بطائفة تدين بدينه وتتفق معه في كثير من معتقداته، وإذا كان معاوية وأبناء بيته والعباسيون كلّهم عنده مجتهدين في بطشهم وإراقة دماء مخالفيهم فماذا يمنعه عن إعذار الشيعة باعتبارهم مجتهدين.

وإذا كانوا يقولون- وذاك هو العجيب- أنّ الخروج على الإمام علي- عليهالسّلام غير مضر بعدالة الخارجين والثائرين عليه، وفي مقدمتهم طلحة والزبير وأُمّ المؤمنين عائشة، وإنّ إثارة الفتن في صفّين- التي انتهت إلى قتل كثير من الصحابة والتابعين وإراقة دماء الآلاف من العراقيين والشاميين- لا تنقص شيئاً من ورع المحاربين وهم بعد ذلك مجتهدون معذورون لهم ثواب من اجتهد وأخطأ فلم لا يتعامل مع الشيعة ضمن هذا الفهم ويذهب إلى أنّهم معذورين ومثابين!!

نعم كانت التقية بين الشيعة تزداد تارة وتتضائل أُخرى، حسب قوّة الضغط وض آلته، فشتان بين عصر المأمون الذي يجيز مادحي أهل البيت، ويكرم العلويين، وبين عصر المتوكل الذي يقطع لسان ذاكرهم بفضيلة.

فهذا ابن السكيت أحد أعلام الأدب في زمن المتوكل، وقد اختاره معلماً لولديه فسأله يوماً: أيّهما أحبُّ إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ قال ابن السكيت: واللَّه إنّ قنبر خادم علي- عليهالسّلام خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل: سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا ذلك به فمات. وذلك في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة أربع وأربعين ومائتين، وقيل ثلاث وأربعين، وكان عمره ثمانية وخمسين سنة. ولما مات سيَّر المتوكل لولده

ص: 92

يوسف عشرة آلاف درهم وقال: هذه دية والدك!! (1).

وهذا ابن الرومي الشاعر العبقري يقول في قصيدته التي يرثي بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي:

فإذا كان هذا هو حال أبناء الرسول، فما هو حال شيعتهم ومقتفي آثارهم؟!

قال العلّامة الشهرستاني: إنّ التقية شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية.

إنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها لأنّها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أية أُمّة أُخرى، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الأموية كلّه، وفي عهد العباسيين على طوله، وفي أكثر أيام الدولة العثمانية، ولأجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أي قوم، ولما كانت الشيعة، تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في أُصول الدين وفي كثير من الأحكام الفقهيّة، والمخالفة تستجلب بالطبع


1- ابن خلكان: وفيات الأعيان 3/ 33. الذهبي: سير أعلام النبلاء 12/ 16.

ص: 93

رقابة وتصدقه التجارب، لذلك أضحت شيعة الأئمة من آل البيت مضطرة في أكثر الأحيان إلى كتمان ما تختص به من عادة أو عقيدة أو فتوى أو كتاب أو غير ذلك، تبتغي بهذا الكتمان صيانة النفس والنفيس، والمحافظة على الوداد والاخوة مع سائر اخوانهم المسلمين، لئلا تنشق عصا الطاعة، ولكي لا يحس الكفار بوجود اختلاف ما في المجتمع الإسلامي فيوسع الخلاف بين الأُمّة المحمدية.

لهذه الغايات النزيهة كانت الشيعة تستعمل التقية وتحافظ على وفاقها في الظواهر مع الطوائف الا خرى، متبعة في ذلك سيرة الأئمة من آل محمد وأحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل: «التقية ديني ودين آبائي»، إذ أنّ دين اللَّه يمشي على سنّة التقية لمسلوبي الحرية، دلّت على ذلك آيات من القرآن العظيم(1) .

روي عن صادق آل البيت- عليهما السّلام- في الأثر الصحيح:

«التقية ديني ودين آبائي» و: «من لا تقية له لا دين له» وكذلك هي.

لقد كانت التقية شعاراً لآل البيت- عليهما السّلام- دفعاً للضرر عنهم، وعن أتباعهم، وحقناً لدمائهم، واستصلاحاً لحال المسلمين، وجمعاً لكلمتهم، ولماً لشعثهم، وما زالت سمة تُعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف والا مم. وكل انسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه، أو ماله بسبب نشر معتقده، أو التظاهر به لا بد أن يتكتم ويتقي مواضع الخطر. وهذا أمر تقتضيه فطرة العقول.

من المعلوم أنّ الإمامية وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن، وصنوف


1- غافر/ 28، النحل/ 106.

ص: 94

الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفة، أو أُمّة أُخرى، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية في تعاملهم مع المخالفين لهم، وترك مظاهرتهم، وستر عقائدهم، وأعمالهم المختصة بهم عنهم، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدنيا.

ولهذا السبب امتازوا بالتقية وعرفوا بها دون سواهم.

وللتقية أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها، بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر، مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهيّة (1).

حدّها:

قد تعرّفت على مفهوم التقية وغايتها، ودليلها، بقي الكلام في تبيين حدودها، فنقول:

عرفت الشيعة بالتقية وأنّهم يتقون في أقوالهم وأفعالهم، فصار ذلك مبدأ لوهم عالق بأذهان بعض السطحيين والمغالطين، فقالوا: بما أنّ التقية من مبادئ التشيّع فلا يصح الاعتماد على كلّ ما يقولون ويكتبون وينشرون، إذ من المحتمل جداً أن تكون هذه الكتب دعاياتٍ والواقع عندهم غيرها. هذا ما نسمعه منهم مرّة بعد مرّة، ويكرره الكاتب الباكستاني «إحسان إلهي ظهير» في كتبه السقيمة التي يتحامل بها على الشيعة.

ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ مجال التقية إنّما هو في حدود


1- مجلة المرشد 3/ 252، 253، ولاحظ: تعليقة أوائل المقالات، ص 96.

ص: 95

القضايا الشخصية الجزئية عند وجود الخوف على النفس والنفيس، فإذا دلّت القرائن على أنّ في إظهار العقيدة أو تطبيق العمل على مذهب أهل البيت- يحتمل أن يدفع بالمؤمن إلى الضرر يصبح هذا المورد من مواردها، ويحكم العقل والشرع بلزوم الاتقاء حتى يصون بذلك نفسه ونفيسه عن الخطر. وأمّا الا مور الكلّية الخارجة عن إطار الخوف فلا تتصور فيها التقية، والكتب المنتشرة من جانب الشيعة داخلة في هذا النوع الأخير، إذ لا خوف هناك حتى يكتب خلاف ما يعتقد، حيث ليس هناك لزوم للكتابة أصلًا في هذه الحال فله أن يسكت ولا يكتب شيئاً.

فما يدعيه هؤلاء أنّ هذه الكتب دعايات لا واقعيات ناشئ عن معرفتهم بحقيقة التقية عند الشيعة. والحاصل: أنّ الشيعة إنّما كانت تتقي في عصر لم تكن لهم دولة تحميهم، ولا قدرة ولا منعة تدفع عنهم الأخطار. وأمّا هذه الأعصار فلا مسوّغ ولا مبرر للتقية إلّا في موارد خاصة.

إنّ الشيعة وكما ذكرنا لم تلجأ إلى التقية إلّا بعد أن اضطرّت إلى ذلك، وهو حق لا أعتقد أن يخالفها فيه أحد ينظر إلى الا مور بلبّه لا بعواطفه، إلّا أنّ من الثوابت الصحيحة بقاء هذه التقية- إلّا في حدود ضيقة- تنحصر في مستوى الفتاوى، ولم تترجم إلّا قليلًا على المستوى العملي، بل كانوا عملياً من أكثر الناس تضحية، وبوسع كل باحث أن يرجع إلى مواقف رجال الشيعة مع معاوية وغيره من الحكام الأمويين، والحكام العباسيين، أمثال حجر بن عدي، وميثم التمار، ورشيد الهجري، وكميل بن زياد، ومئات من غيرهم، وكمواقف العلويين على امتداد التاريخ وثوراتهم المتتالية.

ص: 96

التقية المحرّمة:

إنّ التقية تنقسم حسب الأحكام الخمسة، فكما أنّها تجب لحفظ النفوس والأعراض والأموال، فإنّها تحرم إذا ترتّب عليها مفسدة أعظم، كهدم الدين وخفاء الحقيقة على الأجيال الآتية، وتسلّط الأعداء على شؤون المسلمين وحرماتهم ومعابدهم، ولأجل ذلك ترى أنّ كثيراً من أكابر الشيعة رفضوا التقية في بعض الأحيان وقدّموا أنفسهم وأرواحهم أضاحي من أجل الدين، فللتقية مواضع معينة، كما أنّ للقسم المحرم منها مواضع خاصة أيضاً.

إنّ التقية في جوهرها كتم ما يحذر من إظهاره حتى يزول الخطر، فهي أفضل السبل للخلاص من البطش، ولكن ذلك لا يعني أنّ الشيعي جبان خائر العزيمة، خائف متردد الخطوات يملأ حناياه الذل، كلّا إنّ للتقية حدوداً لا تتعداها، فكما هي واجبة في حين، هي حرام في حين آخر، فالتقية أمام الحاكم الجائر كيزيد بن معاوية مثلًا محرّمة، إذ فيها الذل والهوان ونسيان المثل والرجوع إلى الوراء، فليست التقية في جوازها ومنعها تابعة للقوّة والضعف، وإنّما تحددها جوازاً ومنعاً مصالح الإسلام والمسلمين.

إنّ للإمام الخميني- قدّس اللَّه سرّه- كلاماً في المقام ننقله بنصه حتى يقف القارئ على أنّ للتقية أحكاماً خاصة وربّما تحرم لمصالح عالية.

قال- قدّس اللَّه سرّه-:

تحرم التقية في بعض المحرمات والواجبات التي تمثل في نظر الشارع

ص: 97

والمتشرعة مكانة بالغة، مثل هدم الكعبة، والمشاهد المشرفة، والرد على الإسلام والقرآن والتفسير بما يفسر المذهب ويطابق الالحاد وغيرها من عظائم المحرمات، ولا تعمها أدلة التقية ولا الاضطرار ولا الاكراه.

وتدل على ذلك معتبرة مسعدة بن صدقة وفيها: «فكل شي ء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز». (1)ومن هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق، بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرمات تقية أو تركه لبعض الواجبات كذلك مما يعد موهناً للمذهب وهاتكاً لحرمه، كما لو أُكره على شرب المسكر والزنا مثلًا، فإنّ جواز التقية في مثله متمسكاً بحكومة دليل الرفع (2) وأدلّة التقية مشكل بل ممنوع، وأولى من ذلك كلّه في عدم جواز التقية وفيه ما لو كان أصل من أُصول الإسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير، كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الأرث والطلاق والصلاة والحج وغيرها من أُصول الأحكام فضلًا عن أُصول الدين أو المذهب، فإنّ التقية في مثلها غير جائزة، ضرورة أنّ تشريعها لبقاء المذهب وحفظ الا صول وجمع شتات المسلمين لإقامة الدين وأُصوله، فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية، وهو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة(3) .


1- الوسائل كتاب الأمر بالمعروف الباب 25 الحديث رقم 6.
2- قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: «رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه و ما استكرهوا عليه».
3- الإمام الخميني: الرسائل: 171- 178.

ص: 98

وهكذا فقد بيّنا للجميع الأبعاد الحقيقية والواقعية للتقية، وخرجنا بالنتائج التالية:

1- إنّ التقية أصل قرآني مدعم بالسنّة النبوية، وقد استعملها في عصر الرسالة من ابتلي بها من الصحابة لصيانة نفسه فلم يعارضه الرسول بل أيده بالنص القرآني كما في قضية عمّار بن ياسر، حيث أمره صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم بالعودة إذا عادوا.

2- إنّ التقية بمعنى تشكيل جماعات سرية لغاية التخريب والهدم، مرفوضة عند المسلمين عامة والشيعة خاصة، وهو لا يمت للتقية المتبناة من قبل الشيعة بصلة.

3- إنّ المفسرين في كتبهم التفسيرية عندما تعرضوا لتفسير الآيات الواردة في التقية اتفقوا على ما ذهبت إليه الشيعة من إباحتها للتقية.

4- إنّ التقية لا تختص بالاتقاء من الكافر، بل تعم الاتقاء من المسلم المخالف، الذي يريد السوء والبطش بأخيه.

5- إنّ التقية تنقسم حسب انقسام الأحكام إلى أقسام خمسة، فبينما هي واجبة في موضع فهي محرمة في موضع آخر.

6- إنّ مجال التقية لا يتجاوز القضايا الشخصية، وهي فيما إذا كان الخوف قائماً، وأمّا إذا ارتفع الخوف والضغط، فلا موضوع للتقية لغاية الصيانة.

ص: 99

وفي الختام نقول:

نفترض أنّ التقية جريمة يرتكبها المتقي لصيانة دمه وعرضه وماله ولكنّها في الحقيقة ترجع إلى السبب الذي يفرض التقيّة على الشيعي المسلم ويدفعه إلى أن يتظاهر بشي ء من القول والفعل الذي لا يعتقد به، فعلى من يعيب التقية للمسلم المضطهد، أن يسمح له الحرية في مجال الحياة ويتركه بحاله، وأقصى ما يصح في منطق العقل، أن يسأله عن دليل عقيدته ومصدر عمله، فإن كان على حجّة بيّنة يتبعه، وإن كان على خلافها يعذره في اجتهاده وجهاده العلمي والفكري.

نحن ندعو المسلمين للتأمل في الدواعي التي دفعت بالشيعة إلى التقية، وأن يعملوا قدر الإمكان على فسح المجال لاخوانهم في الدين فإنّ لكل فقيه مسلم، رأيه ونظره، وجهده وطاقته.

إنّ الشيعة يقتفون أثر أئمة أهل البيت في العقيدة والشريعة، ويرون رأيهم، لأنّهم هم الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وأحد الثقلين اللذين أمر الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم بالتمسك بهما في مجال العقيدة والشريعة، وهذه عقائدهم لا تخفى على أحد، وهي حجّة على الجميع.

نسأل اللَّه سبحانه: أن يصون دماء المسلمين وأعراضهم عن تعرض أي متعرض، ويوحّد صفوفهم، ويؤلّف بين قلوبهم، ويجمع شملهم، ويجعلهم صفّاً واحداً في وجه الأعداء، إنّه بذلك قدير وبالإجابة جدير.

ص: 100

ص: 101

المسألة الخامسة: فى البداء

اشارة

إنّ من العقائد الثابتة عند الشيعة الإمامية، هو القول بالبداء، ومن الكلمات الدارجة بين علمائهم انّ النسخ والبداء صنوان، غير أنّ الأوّل في التشريع والثاني في التكوين، وقد اشتهرت بالقول به كاشتهارها بالقول بالتقية وجواز متعة النساء. وصار القول بهذه الأُمور الثلاثة من خائصهم وقد أنكرت عليهم السنّة أشد الانكار خصوصاً في مسألة البداء، ولكنّهم لو كانوا واقفين على مراد الشيعة من تجويز البداء على اللَّه لتوقفوا عن الاستنكار، ولأعلنوا الوفاق، وأقول عن جد: لو أُتيحت الفرصة لعلماء الفريقين للبحث عن النقاط الخلافية بعيداً عن التعصب والتشنج لتجلّى الحق بأجلى مظاهره، ولأقرّوا بصحة مقالة الشيعة، غير أنّ تلك أُمنية لا تتحق إلّا في فترات خاصة، وقد سألني أحد علماء أهل السنّة عن حقيقة البداء فأجبته باجمال ما أُفصّله في هذا المقام، فتعجّب عن اتقان معناه، غير أنّه زعم أنّ ما ذكرته نظرية شخصية لا صلة بها بنظرية الإمامية في البداء فطلب منّي كتاباً لقدماء علماء الشيعة، فدفعت إليه أوائل المقالات، وشرح عقائد الصدوق لشيخ الأُمّة محمّد بن النعمان المفيد (336- 413 ه) فقرأهما بدقة، وجاء بالكتاب بعد أيام وقال: لو كان معنى البداء هو الذي يذكره صاحب الكتاب فهو من صميم عقيدة أهل السنّة ولا يخالفون

ص: 102

الشيعة في هذا المبدأ أبداً.

ولتوضيح حقيقة البداء نأتي بمقدمات:

الأُولى: اتّفقت الشيعة على أنّه سبحانه عالم بالحوادث كلّها غابرها وحاضرها، ومستقبلها، لا يخفى عليه شي ء في الأرض ولا في السماء، فلا يتصوّر فيه الظهور بعد الخفاء، ولا العلم بعد الجهل، بل الأشياء دقيقها وجليلها، حاضرة لديه، ويدل عليه الكتاب والسنّة المروية عن طريق أئمّة أهل البيت- مضافاً إلى البراهين الفلسفية المقرّرة في محلها-.

أمّا من الكتاب:

فقوله سبحانه: (إنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (1).

وقوله تعالى: (وَمَا يَخْفَى عَلى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (2).

وقوله سبحانه: (إنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَي ءٍ عَليماً) (3) كيف وهو محيط بالعالم صغيره وكبيره، ماديّه ومجرّده، والأشياء كلّها قائمة به قياماً قيّومياً كقيام المعنى الحرفي بالاسمي والرابطي بالطرفين، ويكفي في توضيح ذلك قوله سبحانه: (مَا أَصابَ مِنْ مُصيبَةٍ في الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إلّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسيرٌ) (4).


1- آل عمران/ 5.
2- آل عمران/ 5.
3- الأحزاب/ 54.
4- الحديد/ 22.

ص: 103

وقوله سبحانه: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبين) (1).

وأمّا الأخبار فنكتفي بالقليل مها:

قال الإمام موسى الكاظم- عليهالسّلام: «لم يزل اللَّه عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء» (2).

وقال الإمام علي- عليهالسّلام: «كل سر عندك علانية، وكل غيب عندك شهادة» (3).

وقال- عليهالسّلام: «لا يعزب عنه عدد قطر الماء ولا نجوم السماء ولا سوافي الريح في الهواء، ولا دبيب النمل على الصفا، ولا مقيل الذرّ في الليلة الظلماء، يعلم مساقط الأوراق، وخفيّ طرف الأحداق» (4).

وقال الصادق- عليهالسّلام في تفسير قوله: (يمحوا اللَّهُ ما يشاءُ ويثبتُ وعندَهُ أُمُّ الكتاب) (5): «فكل أمر يريده اللَّه، فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شي ء يبدو له إلّا وقد كان في علمه، إنّ اللَّه لا يبدو من له من جهل».

وقال- عليهالسّلام-: «من زعم أنّ اللَّه عزّ وجلّ يبدو له من شي ء لم يعلمه أمس، فابرأوا منه»(6) .

إلى غير ذلك من الروايات التي تدل على إحاطة علمه بكل شي ء قبل


1- هود/ 6.
2- الكافي، ج 1، باب صفات الذات، الحديث 4.
3- نهج البلاغة، الخطبة 105.
4- نهج البلاغة، الخطبة 173، طبعة عبده.
5- الرعد/ 39.
6- الرعد/ 39.

ص: 104

خلقه وحينه وبعده وانّه لا يخفى عليه شي ء أبداً(1) .

وأمّا العقل فقد دلّ على تنزّهه من وصمة الحدوث والتغيير، وانّه تقدّست أسماؤه أعلى من أن يقع معرضاً للحوادث والتغييرات، ولأجل ذلك ذهبوا إلى امتناع البداء عليه- بمعنى الظهور بعد الخفاء والعلم بعد الجهل- لاستلزامه كون ذاته محلًّا للتغيّر والتبدّل، المستلزم للتركيب والحدوث، إلى غير ذلك ممّا يستحيل عليه سبحانه.

فالآيات وكذلك الأحاديث المروية عن أئمّة الشيعة- عليهما السّلام- تشهد على علمه الذي لا يشوبه جهل، وعلى سعته لكل شي ء قبل الخلق وبعده، وأنّه يستحيل عليه الظهور بعد الخفاء، والعلم بعد الجهل.

وعليه فمن نسب إلى الشيعة الإمامية ما يستشم منه خلاف ما دلّت عليه الآيات والأحاديث فقد افترى كذباً ينشأ من الجهل بعقائد الشيعة، أو التزلّف إلى حكّام الوقت الحاقدين لهم أو التعصّب المقيت.

وبذلك يعلم بطلان ما قاله الرازي في تفسيره عند البحث عن آية المحو والاثبات، حيث يقول: قالت الرافضة: البداء جائز على اللَّه تعالى، وهو أن يعتقد شيئاً ثمّ يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده، وتمسّكوا فيه بقوله: (يمحوا اللَّه ما يشاء ويثبت)، ثمّ قال: إنّ هذا باطل لأنّ علم اللَّه من لوازم ذاته المخصوصة وما كان كذلك كان دخول التغيّر والتبدّل فيه باطلًا (2).

وما حكاه الرازي عن «الرافضة» كاشف عن جهله بعقيدة الشيعة، وإنّما سمعه عن بعض الكذّابين الأفّاكين الذين يفتعلون الكذب لغايات فاسدة، وقد قبله من دون امعان ودقّة، مع أنّ موطنه ومسقط رأسه (بلدةري) التي كانت آنذاك مزدحم الشيعة ومركزهم، وكان الشيخ محمود


1- للاطلاع على المزيد من الروايات حول علمه تعالى أُنظر البحار 4/ 121.
2- تفسير الرازي 4/ 216 تفسير سورة الرعد.

ص: 105

ابن علي بن الحسن سديد الدين الحمصي الرازي- علّامة زمانه في الأُصولين معاصراً ومواطناً للرازي وهو مؤلّف كتاب «المنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد»(1) ، ولو كان الفخر الرازي رجلًا منصفاً لرجع إليه في تبيين عقائد الشيعة، ولما تهاجم عليهم بسباب مقذع، وربّما ينقل عنه بعض الكلمات في تفسيره.

وليس الرازي فريداً في التقوِّل في هذا المجال بل سبقه البلخي (319 ه) في هذه النسبة (2)، ونقله الشيخ الأشعري (260- 324 ه)(3) ونقله أبو الحسن النوبختي في فرق الشيعة عن بعض فرق الزيدية(4) .

الثانية: كما دلّت الآيات والأحاديث(5) على أنّه سبحانه لم يفرغ من أمر الخلق والايجاد، والتدبير والتربية، دلّت على أنّ مصير العباد يتغيّر، بحسن أفعالهم وصلاح أعمالهم، من الصدقة والاحسان وصلة الأرحام وبرّ الوالدين، والاستغفار والتوبة وشكر النعمة واداء حقّها، إلى غير ذلك من الأُمور التي تغيّر المصير وتبدّل القضاء، وتفرّج الهموم والغموم، وتزيد في الأرزاق، والأمطار، والأعمار،


1- الطهراني آغا بزرگ: الثقات العيون في سادس القرون 295 وطبع الكتاب أخيراً.
2- الطوسي: التبيان 1/ 13.
3- مقالات الإسلاميين 107.
4- فرق الشيعة 76 نقله عن سليمان بن جرير الذي كفّره أهل السنّة أيضاً لتكفير عثمان فهل يصحّ الاعتماد على قول مثله.
5- البحار، ج 4 الحديث 17 وغيره.

ص: 106

والآجال، كما أنّ لمحرَّم الأعمال وسيّئها من قبيل البخل والتقصير، وسوء الخلق، وقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، والطيش، وعدم الانابة، وكفران النعمة، وما شباهها تأثيراً في تغيير مصيرهم بعكس ذلك من اكثار الهموم، والقلق، ونقصان، الأرزاق، والأمطار، والأعمار، والآجال، وما شاكلها.

فليس للانسان مصير واحد، ومقدر فارد، يصيبه على وجه القطع والبت، ويناله، شاء أو لم يشأ، بل المصير أو المقدر يتغيّر ويتبدّل بالأعمال الصالحة والطالحة وشكر النعمة وكفرانها، وبالإيمان والتقوى، والكفر والفسوق. وهذا ممّا لا يمكن- لمن له أدنى علاقة بالكتاب والسنّة- انكاره أو ادّعاء جهله.

ونحن نأتي في المقام بقليل من كثير ممّا يدل على ذلك من الآيات والروايات.

منها: قوله سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنْينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً)(1) .

ترى أنّه- عليهالسّلام يجعل الاستغفار علّة مؤثّرة، في نزول المطر، وكثرة الأموال والبنين، وجريان الأنهار إلى غير ذلك، وأمّا بيان كيفية تأثير عمل العبد في الكائنات الطبيعية، فيطلب في محلّه.

وقوله سبحانه: (إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (2).

وقوله تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَم يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلَى قَوْمٍ حَتَى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (3).

وقوله سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهمْ


1- نوح/ 10- 12.
2- نوح/ 10- 12.
3- نوح/ 10- 12.

ص: 107

بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).(1) وقوله سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ يَحْتَسِبْ) .(2)

وقوله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) .(3)

وقوله سبحانه: (وَنُوحَاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ) .(4)

وقال تعالى: (وَأَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ) .(5)

وقال سبحانه: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) .(6)

وقال تعالى: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَنَبذْنَاهُ بِالعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ* وَأَنبَتْنَا عَلَيهِ شَجَرَةً مِن يَقْطِينٍ).

وقال تعالى(7) : (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنينَ) .(8)


1- نوح/ 10- 12.
2- الطلاق/ 3.
3- الطلاق/ 3.
4- الأنبياء/ 76.
5- الأنبياء/ 76.
6- الأنفال/ 33.
7- الأنفال/ 33.
8- الأنبياء/ 88.

ص: 108

وقال سبحانه: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنْتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيوةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إلى حِينٍ) (1)

وهذه الآيات بالاضافة إلى كثير من الأحاديث- التي سيوافيك بيان نزر منها- تعرب عن أنّ الأعمال الصالحة مؤثّرة في مصير الانسان، وأنّ الانسان بعمله يؤثّر في تحديد قدره وتبديل القضاء، وليس هناك مقدر محتوم فيما يرجع إلى أفعاله الاختيارية حتى يكون العبد في مقابله مكتوف الأيدي والأرجل.

وأمّا الأحاديث التي تدلّ على هذا المطلب فكثيرة جدّاً مبعثرة في كتب الحديث تحت عناوين مختلفة مثل الصدقة والاستغفار والدعاء، وصلة الرحم، وما أشبه ذلك، وسنذكر فيما يلي نماذج مختلفة من الأحاديث الدالّة على هذه المطالب:

ألف- الصدقة وأثرها في دفع البلاء:

روى الصدوق في الخصال عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: «أكثر من صدقة السرِّ فإنّها تُطفئ غضب الربِّ جلّ جلاله».

وروى في عيون الأخبار عن الرضا عن آبائه- عليهما السّلام-، قال:

قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: «باكروا بالصدقة فمن باكر بها لم يتخطاها البلاء».

وروى الشيخ الطوسي في أماليه عن الباقر- عليهالسّلام قال: قال أمير المؤمنين- عليهالسّلام-: «أفضل ما توسّل به المتوسّلون الإيمان باللَّه، وصدقة

6037691034250324.


1- . يونس/ 98، وقد استشهد الإمام أميرالمؤمنين ببعض هذه الآبيات عند الاستسقاء، فقال: «انَّ اللَّهَ يبتلي عبادَهُ عند الأعمال السيّئة بنقص الثمرات ...» نهج البلاغة، الخطبة 143..

ص: 109

السرِّ، فإنّها تذهب الخطيئة وتطفئ غضب الرب، وصنائعُ المعروف فإنّها تدفع ميتة السوء وتقي مصارع الهوان».

وروى الصدوق في ثواب الأعمال عن الصادق- عليهالسّلام: قال:

«الصدقة باليد تدفع ميتة السوء، وتدفع سبعين نوعاً من أنواع البلاء».

إلى غير ذلك من الروايات المتعددة والتي يضيق المجال بذكرها، وللمستزيد الرجوع إلى كتاب بحار الأنوار للعلّامة المجلسي ضمن أبواب الزكاة والصدقة وغيرها (1)

ب- أثر الاستغفار في الرزق:

روى الصدق في الخصال عن أمير المؤمنين- عليهالسّلام قال:

«الاستغفار يزيد في الرزق».

وروى أيضاً فيها عن أمير المؤمنين- عليهالسّلام: «أكثروا الاستغفار، تجلبوا الرزق» .(2)

ج- الدعاء وآثاره:

روى الحميري في قرب الاسناد عن الصادق- عليهالسّلام: «إنّ الدعاء يردّ القضاء، وإنّ المؤمن ليذنب فيحرم بذنبه الرزق».

وروى أيضاً عنه- عليهالسّلام: قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: «داووا


1- بحارالأنوار: الجزء 93، الباب 21، الأحاديث 4- 7- 9- 26 وروى هناك
2- المصدر نفسه كتاب الذكر والدعاء باب الاستغفار وفضله وأنواعه، الحديث 4- 17 وروى أحاديث من الفريقين.

ص: 110

مرضاكم بالصدقة، وادفعوا أبواب البلاء بالدعاء».

وروى الصدوق عن أمير المؤمنين- عليهالسّلام: «ادفعوا أمواج البلاء عنكم بالدعاء قبل ورود البلاء» (1).

وقد عقد الكليني في الكافي باباً أسماه «إنّ الدعاء يرد البلاء والقضاء» ومن جملة أحاديث هذا الباب: روى عن حمّاد بن عثمان قال: سمعته يقول: «إنّ الدعاء يردّ القضاء، ينقضه كما ينقض السلك وقد ابرم إبراماً». (2) وروى عن أبي الحسن موسى- عليهالسّلام: «عليكم بالدعاء، فإنّ الدعاء للَّه والطلب إلى اللَّه يرد البلاء وقد قدّر وقضى ولم يبق إلّا امضاؤه، فإذا دعي اللَّه عزّ وجلّ وسئل، صرف البلاء صرفة» (3).

وأمّا من طرق العامّة فقد أخرج الحاكم عن ابن عباس- رضي اللَّه عنه-، قال: لا ينفع الحذر عن القدر، ولكن اللَّه يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر.

قال: وأخرج ابن أبي شيبة في المصنّف، وابن أبي الدنيا في الدعاء عن ابن مسعود- رضي اللَّه عنه قال: ما دعا عبد بهذه الدعوات إلّا وسع اللَّه له في معيشته: «ياذا المنّ ولا يمنّ عليه، ياذا الجلال والإكرام، ياذا الطول، لا إله إلّا أنت ظهر اللاجين وجار المستجيرين، ومأمن الخائفين، إن كنت كتبتني عندك في أُمّ الكتاب شقياً فامح عنّي اسم الشقاء واثبتني عندك سعيداً، وإن كنت كتبتني عندك في أُمّ الكتاب محروماً، مقتراً على رزقي، فامح


1- البحار الجزء 93 كتاب الذكر والدعاء، أبواب الدعاء، الباب 16- الحديث 2- 3- 5 وروى أحاديث من الفريقين.
2- الكافي ج 2، باب إنّ الدعاء يرد القضاء، ص 469 الحديث 1.
3- المصدر نفسه، ص 470 الحديث 8.

ص: 111

حرماني، ويسّر رزقي، واثبتني عندك سعيداً موفقاً للخير، فإنّك تقول في كتابك الذي أنزلت: (يمحوا اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده أُمّ الكتاب) .(1)

وروي أيضاً في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى: (يسأله من في السموات) ما يقرب من هذا، فلاحظ .(2)

د- أثر صلة الرحم:

روى الكليني عن أبي الحسن الرضا قال: «يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيّرها اللَّه ثلاثين سنة ويفعل اللَّه ما يشاء» (3).

وروى أيضاً عن أبي جعفر قال: «صلة الأرحام تزكي الأعمال، وتنمي الأموال وتدفع البلوى، وتيسّر الحساب، وتنسئ في الآجال» .(4)

ومن طرق العامّة وردت روايات متعددة في هذا المنحى، نكتفي منها بما رواه السيوطي في الدر المنثور عن علي- رضي اللَّه عنه-: أنّه سأل رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم عن هذه الآية: (يَمْحُوا اللَّه)؟

فقال له: «لأقرّن عينيك بتفسيرها ولأقرّن عين أُمّتي بعدي بتفسيرها:

الصدقة على وجهها، وبرّ الوالدين، واصطناع المعروف يحوّل الشقاء سعادة، ويزيد في العمر، ويقي مصارع السوء».

وكما أنّ للأعمال الصالحة أثراً في المصير وحسن العاقبة، وشمول الرحمة وزيادة العمر وسعة الرزق، كذلك الأعمال الطالحة والسيئات لها من التأثير المعاكس الذي لا يخفى على أحد في مسيرة حياة الانسان.


1- السيوطي: الدر المنثور 4/ 66.
2- الدر المنثور 4/ 66.
3- الكافي ج 2، باب صلة الرحم، الحديث 3.
4- المصدر نفسه، الحديث 4 ولاحظ البحار ج 4 باب البداء 121، الحديث 66.

ص: 112

ويدل على ذلك من الآيات قوله سبحانه:

(وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَها اللَّهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوفِ بِمَا كانُوا يَصْنَعُونَ) .(1)

وقال سبحانه: (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (2).

وقال سبحانه: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (3).

وأمّا الروايات في ذلك فحدّث عنها ولاحرج منها ما روي عن أمير المؤمنين علي- عليهالسّلام عندما قال في خطبة له: «أعوذ باللَّه من الذنوب التي تعجّل الفناء» فقام إليه عبد اللَّه بن الكواء اليشكري، فقال: يا أمير المؤمنين أوَ تكون ذنوب تعجّل الفناء؟ فقال: «نعم، ويلك قطيعة الرحم». وقال أيضاً: «إذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار» .(4)

وقد وردت في الآثار الوضعية للأعمال روايات يطول الكلام بنقلها.

فلاحظ ما ورد في الزنا من أنّ فيه ست خصال ثلاث منها في الدنيا وثلاث منها في الآخرة، أمّا التي في الدنيا فيذهب بالبهاء ويعجّل الفناء ويقطع الرزق .(5)

وأيضاً ما ورد في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مثل ما روي


1- النحل/ 112.
2- الأنفال/ 53.
3- الأعراف/ 130.
4- الكافي ج 2 كتاب الإيمان والكفر، باب قطيعة الرحم، الحديث 7- 8.
5- سفينة البحار 1/ 560 مادة زنا.

ص: 113

عن أبي الحسن الرضا- عليهالسّلام من أنّه قال: «لتأمرُنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، أو لتستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم» (1).

وعن أمير المؤمنين- عليهالسّلام- قال: «إنّهم لمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربّانيون والأحبار نزلت بهم العقوبات» (2).

وورد عن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: «لا تزال أُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم بكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء» (3)إلى غير ذلك من درر الكلمات التي نقلت عن معادنها.

فقد تحصل ممّا ذكرنا:

أوّلًا: إنّ علمه سبحانه يعم كل الأشياء ماضيها وحاضرها ومستقبلها.

وثانياً: إنّه سبحانه كل يوم هو في شأن.

وثالثاً: إنّ لأفعال العباد تأثيراً في حسن العاقبة وسوئها، ونزول الرحمة والبركة، أو العقاب والنقمة.

إذا وقفت على هذه المقدّمات الثلاثة فاعلم: أنّه يقع الكلام في البداء في مقامين:

1- البداء في مقام الثبوت: أي تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو الطالحة.

2- البداء في مقام الاثبات: أي الاخبار عن تحقق الشي ء علماً بالمقتضى مع خفاء المانع.


1- الوسائل ج 11 كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الباب 1 الحديث 4.
2- المصدر نفسه، الحديث 7.
3- المصدر نفسه، الحديث 18.

ص: 114

البداء في مقام الثبوت

إنّ حقيقة البداء إنّه سبحانه- على خلاف ما اعتقده اليهود والنصارى في حقّه من فراغه عن أمر الخلق والتدبير، والإحياء والإماتة، والتوسيع والتقدير في الرزق، والتعمير والتنقيص، إلى غير ذلك ممّا يرجع إلى الكون والانسان- هو القائم دائماً بالأمر والتدبير، وهو القيّوم على كلِّ شي ء، وكل يوم في شأن، وليست يداه مغلولتان، بل يداه مبسوطتان (في كل شي ء) يمحو ويثبت حسب مشيئته الحكيمة وارادته النافذة، فهو المتجلّي في كلّ زمان بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، كالخالقية والرازقية، والإحياء والإماتة، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى.

ومن شعب هذا الأمر، هو أنّه سبحانه: يزيد في الرزق والعمر وينقص منهما، وينزل الرحمة والبركة، كما ينزل البلاء والنقمة، حسب مشيئته الحكيمة، النافذة، ولا تصدر عنه الأُمور جزافاً واعتباطاً، بل حسب ما تقتضيها حال العباد من حسن الأفعال وقبحها، وصالح الأعمال وطالحها. فربّما يكون الإنسان مكتوباً في الأشقياء، ثمّ يمحى فيكتب من السعداء، أو على العكس بسبب ما يقوم به من أعمال.

وبالجملة: فالبداء في عالم الثبوت مخالف لزعم اليهود والنصارى المشار إليه في قوله سبحانه: (وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيِهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) (1)، وقد ردَّ سبحانه تلك العقيدة اليهودية الباطلة في هذه الآية كما هو واضح.


1- المائدة/ 64.

ص: 115

ولأجل أنّ يديه سبحانه مبسوطتان، يزيد في الخلق ما يشاء- وفي العمر وينقص منه، حسب مشيئته الحكيمة قال سبحانه: (الحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمواتِ والأَرْضِ ... يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَي ءٍ قَديرٌ) .(1)

وقال سبحانه: (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلاتَضَعُ إلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) .(2)

وبناء على ذلك فالبداء بهذا المعنى ممّا يشترك فيه كل المسلمين، على مذاهبهم المختلفة، من دون اختصاص بالشيعة، فليس أحد من المسلمين ينكر أنّه سبحانه كل يوم هو في شأن، وأنّه جلّ وعلا يبدئ ويعيد، ويحيي ويميت، كما أنّه سبحانه يزيد في الرزق والعمر وينقص، إلى غير ذلك حسب المشيئة الحكيمة والمصالح الكامنة في أفعاله.

البداء في الذكر الحكيم:

هذا الأصل- الذي يعدّ من المعارف العليا تجاه ما عرف من اليهود، من سيادة القدر على كل شي ء حتى إرادته سبحانه- يستفاد بوضوح من قوله سبحانه: (يمحوا اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب) (3) وهذه الآية هي الأصل في البداء في مقام الثبوت ويكفي في إيضاح دلالتها، نقل كلمات المحققين من المفسرين، حتى يقف القارئ على أنّ القول بالبداء بالمعنى الصحيح، مما اصفقت عليه الأُمّة.


1- فاطر/ 1.
2- فاطر/ 11.
3- الرعد/ 39.

ص: 116

1- روى الطبري (310 ه) في تفسير الآية عن لفيف من الصحابة والتابعين أنّهم كانوا يدعون اللَّه سبحانه بتغيير المصير واخراجهم من الشقاء- إن كتب عليهم- إلى السعادة مثلًا، كان عمر بن الخطاب- رضي اللَّه عنه- يقول وهو يطوف بالكعبة: اللّهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني على الذنب [الشقاوة] فامحني وأثبتني في أهل السعادة فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك امّ الكتاب.

وروى نظير هذا الكلام عن ابن مسعود، وابن عباس، وشقيق وأبي وائل .(1)

وروى عن ابن زيد أنّه قال «في قوله سبحانه: (يمحوا اللَّه ما يشاء) بما يُنزِّلُ على الأنبياء، ويُثبت ما يشاء مما ينزله إلى الأنبياء وقال: وعنده امّ الكتاب لايُغيّر ولايُبدَّل» .(2)

2- قال الزمخشري (528 ه): (يمحوا اللَّه ما يشاء) ينسخ ما يستصوب نسخه ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته أو ينزله غير منسوخ .(3)

3- ذكر الطبرسي (548- 471 ه): لتفسير الآية وجوهاً متقاربة وقال:

«الرابع أنّه عامٌّ في كل شي ء فيمحو من الرزق ويزيد فيه، ومن الأجل، ويمحو السعادة والشقاوة ويثبتهما. (روى ذلك) عن عمربن الخطاب، وابن مسعود وأبي وائل وقتادة: وامّ الكتاب أصل الكتاب الذي أُثبتت فيه الحادثات والكائنات.

وروى أبو قلابَة عن ابن مسعود أنّه كان يقول: اللّهمّ إن كنت كتبتني في الأشقياء فامحنى من الأشقياء ...» .(4)


1- الطبري: التفسير جامع البيان الجزء 13/ 112- 114.
2- همان.
3- الزمخشري: الكشاف: 2/ 169.
4- الطبري: مجمع البيان 6/ 398.

ص: 117

4- قال الرازي (608 ه): إنّ في هذه الآية قولين:

القول الأوّل: إنّها عامة في كل شي ء كما يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا: إنّ اللَّه يمحو من الرزق ويزيد فيه، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر وهو مذهب عمر و ابن مسعود، والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى اللَّه تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء. وهذا التأويل رواه جابر عن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم.

والقول الثاني: إنّ هذه الآية خاصة في بعض الأشقياء دون البعض.

ثم قال: فإن قال قائل: ألستم تزعمون أنّ المقادير سابقة قد جفَّ بها القلم وليس الأمر بأنف فكيف يستقيم مع هذا المعنى، المحو والإثبات؟

قلنا: ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جف به القلم فلأنّه لايمحو إلّا ما سبق في علمه وقضائه محوه (1)

5- قال القرطبي (671 ه)- بعد نقل القولين وإن المحو والإثبات هل يعمّان جميع الأشياء أو يختصّان ببعضها-: مثل هذا لايدرك بالرأي والإجتهاد، وإنّما يؤخذ توقيفاً فإن صحَ فالقول به يجب أن يوقف عنده، وإلّا فتكون الآية عامة في جميع الأشياء وهو الأظهر- ثم نقل دعاء عمر بن الخطاب في حال الطواف ودعاء عبداللَّه بن مسعود ثم قال: روي في الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم:

«مَن سرَّه أن يبسط له في رزقهِ ويُنسَأ له في أثره (أجله) فليصل رحمه».

6- قال (2)ابن كثير (774 ه) بعد نقل قسم من الروايات: ومعنى هذه الروايات أنّ الأقدار ينسخ اللَّه ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء، وقد


1- الرازي: 10/ 64- 65.
2- القرطبي: الجامع الأحكام القرآن 5/ 329.

ص: 118

يُستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد عن ثوبان قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: «إن الرجل ليُحْرَمُ الرزقُ بالذنب يصيبه ولايرد القَدَرُ إلّا بالدعاء، ولايزيد في العمر إلّا البر» ثم نقل عن ابن عباس: الكتاب كتابان، فكتاب يمحو اللَّه منه ما يشاء ويثبت عنده ما يشاء، وعنده امّ الكتاب .(1)

7- روى السيوطي (911 ه) عن ابن عباس في تفسير الآية: هو الرجل يعمل الزمان بطاعة اللَّه، ثم يعود لمعصية اللَّه فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو، والذي يثبت، الرجل يعمل بمعصية اللَّه تعالى وقد سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة اللَّه سبحانه وتعالى. ثم نقل ما نقلناه من الدعاء عن لفيف من الصحابة والتابعين .(2)

8- ذكر الآلوسي (1270 ه) عند تفسير الآية قسماً من الآثار الواردة حولها وقال: أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن عليّ- كرم اللَّه وجهه- أنّه سأل رسول اللَّهصلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم عن قوله تعالى: (يمحوا اللَّه ما يشاء ...) الآية فقال: له عليه الصلاة والسلام. لاقرّنّ عينك بتفسيرها ولاقرّنّ عين أُمّتي بعدي بتفسيرها: الصدقة على وجهها، وبر الوالدين واصطناع المعروف، محوِّل الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء، ثم قال: دفع الإشكال عن استلزام ذلك، بتغيّر علم اللَّه سبحانه ومن شاء فليرجع .(3)

9- قال صديق حسن خان (1307 ه) في تفسير الآية: وظاهر النظم القرآني العموم في كل شي ء مما في الكتاب فيمحو ما يشاء محوه من شقاوةٍ أو سعادةٍ أو رزقٍ أو عمرٍ أو خيرٍ أو شرٍّ ويبدل هذا بهذا، ويجعل هذا مكان هذا. لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. وإلى هذا


1- ابن كثير: 2/ 520.
2- السيوطي: الدر المنثور 4/ 660 لاحظ ما نقله في المقام من المأثورات كلها تحكي.
3- الآلوسي: روح المعاني 13/ 111.

ص: 119

ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وأبو وائل وقتادة والضحاك وابن جريح وغيرهم ... .(1)

10- قال القاسمي (1332 ه): تمسّك جماعة بظاهر قوله تعالى: (يمحوا اللَّه ما يشاء ويثبت) فقالوا: إنّها عامَّة في كل شي ء كما- يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا- يمحو اللَّه من الرزق ويزيد فيه وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر .(2)

11- قال المراغي في تفسير الآية: وقد أثر عن أئمة السلف أقوال لاتناقض بل هي داخلة فيما سلف ثم نقل الأقوال بإجمال .(3)

وهذه الجمل والكلم الدرية المضيئة عن الصحابة والتابعين لهم باحسان، والمفسرين تعرب عن الرأي العام بين المسلمين في مجال إمكان تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة ومنها الدعاء والسؤال وأنّه ليس كل تقدير حتمياً لايغيّر ولايبدّل وأنّ للَّه سبحانه لوحين: لوح المحو والإثبات ولوح «امّ الكتاب» والذي لايتطرق التغيير إليه هو الثاني دون الأول، وإنّ القول بسيادة القدر، على اختيار الإنسان في مجال الطاعة والمعصية، قول بالجبر الباطل بالعقل والضرورة، ومحكمات الكتاب. ومن جنح إليه لزمه القول بلغوية إرسال الرسل وإنزال الكتب (ذلكَ ظَنُّ الَّذينَ كَفروا فَويلٌ لِلَّذينَ كَفروا مِنَ النّار) .(4)

وكما أنّه سبحانه: يداه مبسوطتان، كذلك العبد مختار في أفعاله لا


1- صديق حسن خان: فتح البيان 5/ 171.
2- القاسمي: محاسن 9/ 372.
3- المراغي: التفسير 5/ 155- 156.
4- سورة «ص» الآية 27.

ص: 120

مسيّر، وحرٌّ في تصرفاته (1) لا مجبور، له أن يغيّر مصيره ومقدَّره بحسن فعله، وجودة عمله، ويخرج اسمه من الأشقياء، ويدخله في السعداء، كما أنّ له أن يخرج اسمه من السعداء ويدخله في الأشقياء بسوء عمله.

فاللَّه سبحانه كما يمحو ويثبت في التكوين، فيحيي ويميت، كذلك يمحو مصير العبد ويغيّره حسب ما يغيّر العبد بنفسه (فعله وعمله) لقوله سبحانه: (إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (2)، كل ذلك لأجل أنّ يديه مبسوطتان وأنّ العبد حرُّ مختار، قادر على تغيير القضاء، وتبديل القدر، بحسن فعله أو سوئه، كما دلّت عليه الآيات والروايات.

وليس في ذلك أي محذور ولا مخالفة للعقل ولا الكتاب والسنّة، بل تغيير القضاء بحسن الفعل وتغيير القدر بسوئه، هو أيضاً من قدره وقضائه وسننه التي لا تبديل لها ولا تغيير، فاللَّه سبحانه إذا قدّر لعبده شيئاً وقضى له بأمر، فلم يقدّره ولم يقضه به على وجه القطع والبتِّ، بحيث لا يتغيّر ولا يتبدّل، بل قضى به على وجه خاص، وهو أنّ القضاء والقدر يجري عليه، ما لم يغيّر العبد حاله، فإذا غيّر حاله بحسن فعله أو سوئه، يتغيّر القضاء ويتبدّل القدر، ويخلف قضاء وقدر آخر مكانهما الأوّل، وكل هذه أيضاً قضاء وقدر منه، كما لا يخفى.

وهذا (البداء في الثبوت) أولى من التسمية بالمحو والاثبات، والتغيير والتبديل في الكون وفي مصير الانسان، غير أنّ المحو والاثبات في الكون بيد اللَّه سبحانه، يتصرّف فيه حسب مشيئته، ولا دخل لارادة الانسان ولصلاح فعله ولا فساده فيه، وأمّا التغيير في مصير الانسان فيتوقّف تعلّق المشيئة عليه، على كيفية حال العبد وكيفية عمله من حسن أو قبح.

______________________________


1- لايخفى أنَّ المقصود من أفعال الانسان التي نثبت اختياره فيها هي الأفعال التي تتعلق بهاالتكاليف لا الأفعال القهرية التي تصدر من جهازه الهضمي مثلًا
2- الرعد/ 11.

ص: 121

الأثر التربوي للاعتقاد في البداء:

الاعتقاد بالمحو والاثبات، وانّ العبد قادر على تغيير مصيره بأفعاله وأعماله، لابد من أن يبعث الرجاء في قلب من يريد أن يتطهّر، وينمي نواة الخير الكامنة في نفسه. فتشريع البداء، مثل تشريع قبول التوبة، والشفاعة، وتكفير الصغائر بالاجتناب عن الكبائر، كلّها لأجل بعث الرجاء وايقاد نوره في قلوب العصاة والعتاة، حتى لا ييأسوا من روح اللَّه، ولا يتولّوا بتصور أنّهم من الأشقياء وأهل النار قدراً، وانّه لافائدة من السعي والعمل، فلعلم الانسان أنّه سبحانه لم يجفّ قلمه في لوح المحو والاثبات، وله أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، يسعد من يشاء، ويشقى من يشاء «وليست مشيئته جزافية غير تابعة لضابطة عقلية» لأنّ العبد لو تاب، وعمل بالفرائض، وتمسّك بالعروة الوثقى، فإنّه يخرج من سلك الأشقياء، ويدخل في صنف السعداء، وبالعكس. وهكذا فإنّ كلّ ما قدر في حقّه من الموت والمرض والفقر والشقاء يمكن تغييره بالدعاء، والصدقة، وصلة الرحم، وإكرام الوالدين، وغير ذلك، فجميع هذا من باب الرحمة الإلهية لأجل بث الأمل في قلب الانسان، وعلى هذا فالاعتقاد بذلك من ضروريات الكتاب وصريح آياته وأخبار الهداة.

وبهذا يظهر أنّ البداء من المعارف العليا التي اتّفقت عليه كلمة المسلمين، وإن غفل عن معناه الجمهور (ولو عرفوه لأذعنوا له).

وأمّا اليهود- خذلهم اللَّه- فقالوا باستحالة تعلّق المشيئة بغير ما جرى عليه القلم، ولأجل ذلك قالوا: يد اللَّه مغلولة عن القبض والبسط، والأخذ والإعطاء، وبعبارة أُخرى: فإنّهم يذهبون إلى أنّ للانسان مصيراً واحداً لايمكن تغييره ولا تبديله، وانّه ينال ما قدّر له من الخير والشر.

ص: 122

ولو صح ذلك لبطل الدعاء والتضرّع، ولبطل القول بأنّ للأعمال الصالحة وغير الصالحة ممّا عددناها تأثيراً في تغيير مصير الانسان.

وعلى ضوء هذا البيان نتمكن من فهم ما جاء في فضيلة البداء وأهميته في الروايات مثل ما روى زرارة عن أحدهما (الباقر أو الصادق- عليهماالسّلام-): «ما عُبد اللَّه عزّ وجلّ بشي ء مثل البداء» .(1)

وما روى عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللَّه: «ما عُظِّم اللَّه عزّ وجلّ بمثل البداء» .(2)

إذ لولا الإقرار بالبداء بهذا المعنى ما عُرف اللَّه حق المعرفة، بل ويبدو سبحانه في نظر العبد (بناء على عقيدة بطلان البداء) أنّه مكتوف الأيدي، لا يقدر على تغيير ما قدّره، ولا محو ما أثبته.

ومن الروايات في هذه المعنى ما روي عن الصادق- عليهالسّلام أنّه قال:

«لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا من الكلام فيه».

وذلك (3) لأنّ الاعتقاد بالبداء نظير الاعتقاد بتأثير التوبة والشفاعة يوجب رجوع العبد عن التمادي في الغيِّ والضلالة، والإنابة إلى الصلاح والهداية.


1- البحار 4/ 107 باب البداء، الحديث 19- 20.
2- التوحيد للصدوق باب البداء، الحديث 2.
3- الكافي 1/ 115، والتوحيد للصدوق، باب البداء، الحديث 7.

ص: 123

البداء في مقام الإثبات:

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم: أنّ المراد من البداء في مقام الاثبات هو وقوع التغير في بعض مظاهر علمه سبحانه، فإنّ لعلمه سبحانه مظاهر، منها: ما لا يقبل التغيير، ومنها ما يقبل ذلك.

أمّا الأوّل: فهو المعبّر عنه ب «اللوح المحفوظ» تارة وب «أُمّ الكتاب» أُخرى، قال سبحانه: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (1). وقوله تعالى: (وَإنّهُ في أُمّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَليٌّ حَكِيمٌ) .(2)

وقال سبحانه: (مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتابٍ مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (3)

فاللوح المحفوظ وأُمّ الكتاب يمكن التعبير عنه بأنّه ذلك الكتاب الذي كتب فيه ما يصيب الانسان طيلة حياته من بلايا وفتن ونعيم وسرور بشكل لا يمكن أن يتطرق إليها المحو والاثبات قدر شعرة، ولأجل ذلك لو تمكّن الانسان أن يتّصل به، لوقف على الحوادث على ما هي عليه بلا خطأ ولا تخلّف.

وأمّا الثاني: فهو لوح المحو والاثبات الذي أشار إليه سبحانه بقوله:

(يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ) (4)فالأحكام الثابتة فيه


1- البروج 21- 22.
2- الخرف/ 4.
3- الحديد/ 22.
4- الرعد/ 39.

ص: 124

أحكام معلّقة على وجود شرطهاأو عدم مانعها، فالتغيّر فيها لأجل اعواز شرطها أو تحقّق مانعها، فمثلًا يمكن أن يكتب فيه الموت نظراً إلى مقتضياته، في الوقت المعين المتّصل بالمقتضيات، إلّا أنّه ربّما يمحى ويؤجل ويكتب بدله توفر الصحّة لفقدان شرط التقدير الأوّل أو طروّ مانع من تأثير المقتضي.

فالتقدير الأوّل يفرض لأجل قياس الحادث إلى مقتضيه، كما أنّ التقدير الثاني يتصوّر بالنسبة إلى جميع أجزاء علّته، فإنّ الشي ء إذا قيس إلى مقتضيه- الذي يحتاج الصدور منه إلى وجود شرائط وعدم موانع- يمكن تقدير وجوده، بالنظر إلى مجموع أجزاء علّته التي منها الشرائط وعدم الموانع، ويقدر عدمه لفرض عدم وجود شرائطه، وتحقّق موانعه.

إذا علمت ذلك فاعلم: أنّه ربّما يتصل النبيّ أو الولي بلوح المحو والاثبات، فيقف على المقتضي من دون أن يقف على شرطه أو مانعه، فيخبر عن وقوع شي ء ما، ولكنّه ربّما لا يتحقّق لأجل عدم تحقّق شرطه أو عدم تحقّق وجود مانعه، وذلك هو البداء في عالم الاثبات.

وإن شئت قلت: إنّ موارد وقوع البداء حسب الاثبات من ثمرات البداء في عالم الثبوت، ولم يرد في الأخبار من هذا القسم من البداء إلّا موارد لا تتجاوز عن عدد الأصابع (1) ، نشير إليه بعد الفراغ عمّا ورد في الذكر الحكيم.


1- السيوطي: الدر المنثور 5/ 280.

ص: 125

تلميحات للبداء في الذكر الحكيم:

1- قال سبحانه: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلام حَلِيمٍ* فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنيَّ إنِّي أَرى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذبَحُكَ فَانظر مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) .(1)

أخبر إبراهيم- عليهالسّلام ولده إسماعيل- عليهالسّلام بأنّه رأى في المنام أنّه يذبحه، ورؤيا الأنبياء (كما ورد في الحديث) من أقسام الوحي، فكانت رؤياه صادقة حاكية عن حقيقة ثابتة، وهي أمر اللَّه إبراهيم بذبح ولده، وقد تحقّق ذلك الأمر، أي أمر اللَّه سبحانه به.

ولكن قوله: (إِنِّي أَرى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذبَحُكَ) يكشف عن أمرين:

أوّلًا: الأمر بذبح الولد أمر تشريعي كما عرفت وقد تحقّق.

ثانياً: الحكاية عن تحقّق ذلك في الواقع الخارجي وإنّ إبراهيم سيمتثل ذلك، والحال أنّه لم يتحقّق لفقدان شرطه وهو عدم النسخ، ويحكي عن كلا الأمرين قوله: (وفَدَيناهُ بِذَبْحٍ عظيم).

وعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه: بأنّه كيف أخبر خليل الرحمن بشي ء من الملاحم والمغيبات، ثمّ لم يتحقّق؟ والجواب عن هذا السؤال يكمن في الأمر الذي أشرنا إليه سابقاً وهو أنّ إبراهيم- عليهالسّلام وقف على المقتضى فأخبر بالمقتضي، ولكنّه لم يقف على ما هو العلّة التامة، وليس لعلمه هذا مصدر سوى اتصاله بلوح المحو والاثبات.

2- وأمّا يونس- عليهالسّلام- فإنّه أنذر قومه بأنّهم إن لم يؤمنوا فسوف


1- الصافات/ 101- 102.

ص: 126

يصيبهم العذاب إلى ثلاثة أيام (1) وما كان قوله تخرص أو تخويف، بل كان يخبر عن حقيقة يعلم بها، إلّا أنّ هذا الأمر لم يقع كما هو معروف، وفي هذا إشارة واضحة إلى أنّه- عليهالسّلام وقف على المقتضى ولم يقف على المانع وهو أنّ القوم سيتوبون عند رؤية العذاب توبة صادقة يعلمها اللَّه تعالى ترفع عنهم العذاب الذي وعدوا به، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: (فَلَوْلا كَانَت قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَمَتَّعْناهُمْ إلى حِين). (2) 3- أخبر موسى قومه بأنّه سيغيب عنهم ثلاثين ليلة، كما روي عن ابن عباس حيث قال: إنّ موسى قال لقومه: إنّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلف هارون فيكم، فلمّا فصل موسى إلى ربّه زاده اللَّه عشراً، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده اللَّه (3).

وإلى هذا الأمر يشير قوله سبحانه: (وَوَاعدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسى لأخيهِ هَارونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبيلَ المفسِدِينَ) (4).

فلا شك أنّ موسى أُطلع على الخبر الأوّل ولم يطلع على نسخه، وإنّ التوقيت سيزيد، ولا مصدر لعلمه إلّا الاتصال بلوح المحو والاثبات.

هذه جملة الأخبار التي تحدَّث بها الذكر الحكيم عن أحداث ووقائع كان النبيون- عليهما السّلام- قد أخبروا بحتمية وقوعها على حد علمهم، إلّا أنّها لم تتحقّق، وعندها لا مناص من تفسيرها بوقوف أنبياء اللَّه تعالى على المقتضى


1- الطبرسي: مجمع البيان 3/ 135.
2- يونس/ 98.

ص: 127

دون العلّة التامة.

فعندما يظهر عدم التحقّق يطلق عليه البداء، والمراد به أنّه بدا من اللَّه لنبيّه وللناس ما خفي عليهم، على غرار قوله سبحانه: (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (1) فالبداء إذا نسب إلى اللَّه سبحانه فهو بداء منه، وإذا نسب إلى الناس فهو بداء لهم.

وبعبارة أُخرى: البداء من اللَّه هو اظهار ما خفي على الناس، والبداء من الناس بمعنى ظهور ما خفي لهم، وهذا هو الحق القراح الذي لا يرتاب فيه أحد.

وأمّا ما ورد في الروايات، فهو بين خمسة أو أزيد بقليل:

1- إنّ المسيح- عليهالسّلام مرّ بقوم مجلبين (2)، فقال: «ما لهؤلاء»؟

قيل يا روح اللَّه فلانة بنت فلانة تهدى إلى فلان في ليلته هذه، فقال:

«يجلبون اليوم ويبكون غداً»، فقال قائل منهم: ولم يا رسول اللَّه؟ قال:

«لأنّ صاحبتهم ميّتة في ليلتها هذه» ... فلمّا أصبحوا وجدوها على حالها، ليس بها شي ء، فقالوا: يا روح اللَّه إنّ التي أخبرتنا أمس أنّها ميّتة لم تمُت. فدخل المسيح دارها فقال: «ما صنعت ليلتك هذه»؟ قالت: لم أصنع شيئاً إلّا وكنت أصنعه في ما مضى، انّه كان يعترينا سائل في كل ليلة جمعة فَنُنيله ما يقوته إلى مثلها. فقال المسيح: «تنحّ عن مجلسك» فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة، عاضّ على ذنبه، فقال- عليهالسّلام: «بما صنعتِ، صُرِفَ عنكِ هذا» .(2)


1- الزمر/ 47.
2- المجلسي: بحارالأنوار 4/ 94.

ص: 128

2- روى الكليني عن الإمام الصادق- عليهالسّلام انّه قال: «مرّ يهودي بالنبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم فقال: السام عليك، فقال النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: عليك. فقال أصحابه: إنّما سلّم عليك بالموت فقال: الموت عليك. فقال النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: وكذلك رددت. ثمّ قال النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله.

قال: فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله، ثمّ لم يلبث أن انصرف، فقال له رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: ضعه، فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاضّ على عود، فقال: يا يهودي ما عملت اليوم؟ قال: ما عملت عملًا إلّا حطبي هذا حملته فجئت به وكان معي كعكتان، فأكلت واحدة وتصدّقت بواحدة على مسكين، فقال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: بها دفع اللَّه عنه، قال: إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الانسان» .(1)

ولا يمكن لأحدٍ تفسير مضامين الآيات الماضية وهذين الحديثين إلّا عن طريق البداء بالمعنى الذي تعرّفت عليه، وهو اتّصال النبي بلوح المحو والاثبات والوقوف على المقتضى والإخبار بمقتضاه دون الوقوف على العلّة التامة.

3- روى الصدوق عن الإمام الباقر- عليهالسّلام- «إنّ اللَّه تعالى عرض على آدم أسماء الأنبياء وأعمارهم، فمرّ ب آدم اسم داود النبي- عليهالسّلام فإذا عمره في العالم أربعون سنة، فقال آدم: يا ربِّ ما أقل عمر داود وما أكثر عمري، يا ربّ إنّي أنا زدت داود من عمري ثلاثين سنة أتثبت ذلك له؟ قال اللَّه: نعم يا آدم، فقال آدم: فإنّي قد زدته من عمري ثلاثين سنة» قال أبو جعفر الباقر- عليهالسّلام: «فأثبت اللَّه عزّ وجلّ لداود في عمره ثلاثين سنة» .(2)

ترى أنّه سبحانه أثبت شيئاً، ثمّ محاه بدعاء نبيه، وهذا هو المراد من


1- المجلسي: بحارالأنوار 4/ 121.
2- المجلسي: بحارالأنوار 4/ 95- 102.

ص: 129

قوله سبحانه: (يمحوا اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده أُمّ الكتاب) فلو أخبر نبي اللَّه عن عمر داود بأربعين سنة لم يكن كاذباً في إخباره، لأنّه وقف على الاثبات الأوّل ولم يقف على محوه.

4- أوحى اللَّه تعالى إلى نبي من أنبيائه أن يخبر أحد ملوك عصره بأنّه تعالى متوفّيه يوم كذا، فما كان من ذلك الملك إلّا أن رفع يديه بالدعاء إلى اللَّه تعالى قائلًا: ربّ أخّرني حتّى يشبَّ طفلي وأقضي أمري، فأوحى اللَّه عزّ وجلّ إلى ذلك النبي: أنِ ائت فلاناً الملك وأخبره انّي قد زدت في عمره خمس عشرة سنة .(1)

5- روى عمرو بن الحمق، قال: دخلت على أمير المؤمنين- عليهالسّلام حين ضرب على قرنه، فقال لي: «يا عمرو إنّي مفارقكم، ثمّ قال: سنة سبعين فيها بلاء»- قالها ثلاثاً- فقلت: فهل بعد البلاء رخاء؟ فلم يجبني وأُغمي عليه، فبكت أُمّ كلثوم فأفاق ... فقلت: بأبي أنت وأُمّي قلت: إلى السبعين بلاء، فهل بعد السبعين رخاء؟ قال: «نعم يا عمرو إنّ بعد البلاء رخاء و (يمحوا اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده أُمّ الكتاب)» .(2)

هذه جملة ما ورد في البداء في مقام الاثبات، وإن شئت قلت في ثمرات البداء في الثبوت، ولا تجد في الأحاديث الشيعية بداء غير ما ذكرنا، ولو عثر المتتبع على مورد، فهو نظير ما سبق من الموارد، والتحليل في الجميع واحد.

إذا وقفت على ذلك تدرك بوضوح ضعف مقالة الرازي التي يقول فيها: إنّ أئمّة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم، لا يظهر معهما أحد عليهم:


1- المجلسي: بحارالأنوار 4/ 121 وفي رواية أُخرى أنّ ذلك النبي هو حزقيل، البحار 4/ 112 وذكر مثله في قضية شعيا ص 113.
2- المجلسي: بحارالأنوار 4/ 119، برقم 60.

ص: 130

الأوّل: القول بالبداء، فإذا قال: إنّهم سيكون لهم قوّة وشوكة، ثمّ لا يكون الأمر على ما أخبروا، قالوا: بدا للَّه فيه .(1)

إنّ الذي نقله أئمّة الشيعة هو ما تعرّفت عليه من الروايات، وليس فيها شي ء مما نسبه الرازي إليهم، فقد نقلوا قصّة رسول اللَّه مع اليهودي، وقصة المسيح مع العروس، كما نقلوا قصة عمر داود وعمر الملك، فهل يجد القارئ المنصف شيئاً مما ذكره الرازي؟!

وأمّا ما رواه عمرو بن الحمق فإنّما هو خبر واحد ذيّل كلامه بالآية قائلًا: بأنّ هذا ليس خبراً قطعياً وأنّه في مظان المحو والاثبات.

أفيصح لأجل مثله رمي أئمّة الشيعة «بأنّهم وضعوا قاعدتين وأنّهم كلّما يقولون سيكون لهم قوّة ثمّ لا يكون، قالوا بدا للَّه تعالى فيه»؟!

وقد سبق الرازي في هذا الزعم أبو القاسم البلخي المعتزلي على ما حكاه شيخنا الطوسي في تبيانه .(2)

ثمّ إنّ

اكمال البحث يتوقّف على ذكر أُمور: الأمر الأوّل:

إنّ البداء بالمعنى المذكور يجب أن يكون على وجه لا يستلزم تكذيب الأنبياء ووحيهم، وذلك بأن تدل قرائن على صحّة الإخبار الأوّل كما صحّ الخبر الثاني، وهو ما نراه واضحاً في قصّة يونس وإبراهيم الخليل، فإنّ القوم قد شاهدوا طلائع العذاب فأذعنوا بصحّة خبر يونس، كما أنّ التفدية بذبح


1- الرازيا: نقد المحصل 421، نقله عن سليمان بن جرير الزيدي، والأمر الثاني هو التقية كما عرفت.
2- الطوسي: التبيان 1/ 13- 14، طبع النجف، وقد عرفت بعض المتشدقين بهذه الكملة المكذوبة.

ص: 131

عظيم دلّت على صحّة اخبار الخليل، وهكذا وجود الأفعى تحت الثياب أو في جوف حطب اليهودي يدلّان على صحّة اخبار النبي الأعظم.

كل ذلك يشهد على أنّ الخبر الأوّل كان صحيحاً ومقدّراً، غير أنّ الإنسان يمكن له أن يغيّر مصيره بعمله الصالح أو الطالح كما في غير تلك المقامات.

وبالجملة: يجب أن يكون وقوع البداء مقروناً بما يدلّ على صحة إخبار النبي- عليهالسّلام ولا يكون البداء على وجه يعد دليلًا على كذبه، ففيه هذه الموارد دلّت القرائن على أنّ المخبر كان صادقاً في خبره.

الأمر الثاني:

إنّ البداء لا يتحقّق فيما يتعلّق بنظام النبوة والولاية والخاتمية والملاحم الغيبية التي تعدّ شعاراً للشريعة، فإذا أخبر المسيح بمجي ء نبي اسمه أحمد، أو أخبر النبي بكونه خاتماً للرسل، أو أنّ الخلافة بعده لوصيّه، أو أنّه يخرج من ولده من يملأ الأرض قسطاً وعدلًا، ونظير ذلك، فلا يتحقّق فيه البداء قطعاً، لأنّ احتمال البداء فيه ناقض للحكمة، وموجب لضلال العباد، ولو كان احتمال هذا الباب مفتوحاً في تلك المسائل الأُصولية لما وجب لأحد أن يقتفي النبي المبشَّر به، ولا يوالي الوصي المنصوص عليه، ولا يتلقى دين الإسلام خاتماً، ولا ظهور المهدي أمراً مقضيّاً، بحجّة أنّه يمكن أن يقع فيه البداء. ففتح هذا الباب في المعارف والعقائد والأُصول والسنن الإسلامية مخالف للحكمة وموجب لضلالة الناس وهذا ما يستحيل على اللَّه سبحانه، وإنّما مصبّ البداء هو القضايا الجزئية أو الشخصيّة، كما هو الحال في الأخبار الماضية.

ص: 132

الأمر الثالث:

إنّ اطلاق البداء في هذه الموارد، إنّما هو بالمعنى الذي عرفت، وأنّ حقيقته بداء من اللَّه للناس واظهار منه، ولو قيل بدا للَّه، فإنّما هو من باب المشاكلة والمجاز، والقرآن ملي ء به، فقد نسب الذكر الحكيم إليه سبحانه المكر وقال: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ) (1) وليست المناقشة في التعبير من دأب المحقّقين، فلو كان أهل السنّة لا يروقهم التعبير عن هذا الأصل بلفظ البداء للَّه، فليغيّروا التعبير ويعبّروا عن هذه الحقيقة الناصعة بتعبير يرضيهم.

ولكن الشيعة تبعت النبي الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم في هذا المصطلح، وهو أوّل من استعمل تلك اللفظة في حقّه سبحانه، وما يؤكد ذلك هو ما رواه البخاري في كتاب النبوّة «قصّة بدء الخليقة» وفيها هذه اللفظة التي يستهجنها البعض ويتهم الشيعة بابتداعها واختلاقها، فقد روى أبو هريرة:

أنّه سمع من رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: أنّ ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا للَّه أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص فقال: أي شي ء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه فأُعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو قال: البقر- هو شك في ذلك أنّ الأبرص والأقرع قال أحدهما: الإبل وقال الآخر: البقر- فأُعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك اللَّه لك فيها.

وأتى الأقرع فقال: أي شي ء أحبّ إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب


1- آل عمران/ 54، وهنا آيات أُخرى يستدل بها على المشاكلة في التعبير عن الحقائق العلوية.

ص: 133

عنّي هذا، قد قذرني الناس. قال: فمسحه، فذهب، وأُعطي شعراً حسناً، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر. قال: فأعطاه بقرة حاملًا، وقال:

يبارك لك فيها.

وأتى الأعمى فقال: أي شي ء أحب إليك؟ قال: يرد اللَّه إليّ بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه فردّ اللَّه إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والداً، فأنتج هذان وولّد هذا، فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من الغنم.

ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين تقطّعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلّا باللَّه ثمّ بك. أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيراً أتبلّغ عليه في سفري، فقال له: إنّ الحقوق كثيرة. فقال له: كأنّي أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيراً فأعطاك اللَّه؟ فأجابه: لقد ورثت لكابر عن كابر؟ فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك اللَّه إلى ما كنت.

وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثلما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك اللَّه إلى ما كنت.

وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين وابن سبيل وتقطّعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلّا باللَّه، ثمّ بك. أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلّغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد اللَّه بصري وفقيراً فقد أغناني، فخذ ما شئت، فو اللَّه لا أجحدك اليوم بشي ء أخذته للَّه، فقال: امسك مالك فإنّما ابتليتم فقد رضى اللَّه عنك وسخط على صاحبيك (1) .


1- البخاري: الصحيح 4/ 208، كتاب الأنبياء، باب 51 حديث أبرص و أعمى وأقرع في بني إسرائيل.

ص: 135

المسألة السادسة: الرجعة في الكتاب والسنّة

اشارة

إنّ فكرة الرجعة التي تحدّثت عنها بعض الآيات القرآنية والأحاديث المرويّة عن أهل بيت الرسالة ممّا يشنّع بها على الشيعة، فكأنَّ من قال بها رأى رأياً يوجب الخروج عن الدين، غير أنّ هؤلاء نسوا أو تناسوا أنّ أوّل من أبدى نظرية الرجعة هو الخليفة عمر بن الخطاب، فقد أعلن عندما شاعت رحلة النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم بأنّه ما مات وليعودنّ فيقطعنّ أيدي وأرجل أقوام ...

عن أبي هريرة قال: لمّا توفّي رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم قام عمر بن الخطاب، فقال: إنّ رجالًا من المنافقين يزعمون أنّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم توفّي، وانّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم واللَّه ما مات، ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثمّ رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، واللَّه ليرجعنّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم كما رجع موسى، فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم مات (1).

ولا يخفى أنّ كلام الخليفة لو كان كلاماً حقيقياً لابد أن يُحمل على أنّ النبي ما مات موتاً لا رجوع فيه وإنّما يرجع فيقوم بما أخبر عنه الخليفة، ولو


1- السيرة النبوية لابن هشام 4/ 305.

ص: 136

أراد من نفي موته أنّه ما زال حيّاً فهو خلاف رأي جميع الصحابة الذين اتّفقوا على موته صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم، ولم يكن موت النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم أمراً يدركه جميع الناس ولا يدركه الخليفة.

إنّ الرجعة بمعنى عود جماعة قليلة إلى الحياة الدنيوية قبل يوم القيامة ثمّ موتهم وحشرهم مجدّداً يوم القيامة ليس شيئاً يضاد أُصول الإسلام، وليس فيه انكار لأيّ حكم ضروري، وليس القول برجعتهم إلى الدنيا يلغي بعثهم يوم القيامة، وكيف لا يكون كذلك وقد أخبر سبحانه عن رجوع جماعة إلى الحياة الدنيوية، نظير:

1- إحياء جماعة من بني إسرائيل(1) .

2- إحياء قتيل بني إسرائيل (2) .

3- موت أُلوف من الناس وبعثهم من جديد(3) .

4- بعث عزير بعد مائة عام من موته(4) .

5- إحياء الموتى على يد عيسى- عليهالسّلام-(5) .

فلو كان الاعتقاد برجوع بعض الناس إلى الدنيا قبل القيامة أمراً محالا، فما معنى هذه الآيات الصريحة في رجوع جماعة إليها؟

ولو كان الرجوع إلى الدنيا على وجه الاطلاق تناسخاً فكيف تفسّر هذه الآيات؟

إنّ الاعتقاد بالذكر الحكيم يجرّنا إلى القول بأنّه ليس كل رجوع إلى


1- البقرة/ 55- 56.
2- البقرة/ 72- 73.
3- البقرة/ 243.
4- البقرة/ 259.
5- آل عمران/ 49.

ص: 137

الدنيا تناسخاً، وإنّما التناسخ الباطل عبارة عن رجوع الانسان إلى الدنيا عن طريق النطفة والمرور بمراحل التكوّن البشري من جديد ليصير انساناً مرّة أُخرى، وأين هذا من الرجعة وعود الروح إلى البدن الكامل من جميع الجهات من دون أن يكون فيها رجوع من القوّة إلى الفعلية، أو دخول روح في بدن آخر، إنساناً كان أو حيواناً؟!

اتّفقت الشيعة على بطلان التناسخ وامتناعه، وقد كتبوا فيه مقالات ورسائل يقف عليها من كان له إلمام بكتبهم وعقائدهم، وقد ذكروا أنّ للتناسخ أنواعاً وأقساماً، غير أنّ الرجوع إلى الدنيا من خلال دخول الروح إلى البدن الذي فارقه عند الموت لا يعد تناسخاً، وإنّما هو إحياء للموتى، الذي كان معجزة من معاجز المسيح.

كل ذلك يدل على أنّه ليس أمام القول بالرجعة عراقيل وموانع، وإنّما هو أمر ممكن لو دلّ عليه الدليل القطعي نأخذ به وإلّا فنتركه في سنبله، والحال أنّ بعض الآيات والروايات تدلّ على أنّه سيتحقق الرجوع إلى هذه الدنيا قبل يوم القيامة لبعض الناس على وجه الاجمال، وأمّا من هم؟

وفي أي وقت يرجعون؟ ولأيّ غرض يعودون إلى الدنيا؟ فليس هنا مقام بيانها، إنّما نكتفي ببيان بعض الآيات الدالّة على وقوعه قبل البعث، وإليك الآيات.

قال سبحانه: (وَإذا وَقَعَ القَولُ عَلَيهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرضِ تُكَلِّمُهُمْ أنَّ النّاسَ كَانُوا بِ آياتِنا لا يُوقِنونَ* وَيَومَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجَاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِ آياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) .(1)

لا يشك من أمعن النظر في سياق الآيات وما ذكره المفسّرون حولها، في أنّ الآية الأُولى تتعلّق بالحوادث التي تقع قبل يوم القيامة، وعليه تكون


1- النمل/ 82- 83.

ص: 138

الآية الثانية مكمّلة لها، وتدل على حشر فوج من كل جماعة قبل يوم القيامة، والحال أنّ الحشر في يوم القيامة يتعلّق بالجميع لا بالبعض، يقول سبحانه: (وَيَومَ نُسَيِّرُ الجِبالَ وَتَرى الأرضَ بارِزةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أحداً) .(1)

أفبعد هذا التصريح يمكن تفسير الآية السابقة بيوم البعث والقيامة؟

وهذه الآية تعرب عن الرجعة التي تعتقد بها الشيعة في حقّ جماعة خاصّة، وأمّا خصوصياتها فلم يحدّث عنها القرآن الكريم، وجاء التفصيل في السنّة.

وقد سأل المأمون العباسي الإمام الرضا- عليهالسّلام عن الرجعة، فأجابه بقوله: «إنّها حقّ قد كانت في الأُمم السالفة ونطق بها القرآن وقد قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: يكون في هذه الأُمّة كل ما كان في الأُمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة» .(2)

وأمّا من هم الراجعون؟ وما هو الهدف من إحيائهم؟ فيرجع فيه إلى الكتب المؤلّفة في هذا الموضوع، واجمال الجواب عن الأوّل: أنّ الراجعين لفيف من المؤمنين ولفيف من الظالمين.

وقال المفيد ناقلًا عن أئمّة أهل البيت: إنّما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم مَن محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً، وأمّا ما سوى هذين فلا رجوع لهم إلى يوم المآب. (3)وقال أيضاً في المسائل السروية: والرجعة عندنا تختص بمن محض الإيمان، ومحض الكفر دون ما سوى هذين الفريقين (4).


1- الكهف/ 47.
2- بحارالأنوار 53/ 59 الحديث 45.
3- الشيخ المفيد: تصحيح الاعتقاد 40.
4- المصدر نفسه.

ص: 139

وإجمال الجواب عن الثاني ما ذكره السيّد المرتضى، قال: إنّ اللَّه تعالى يعيد عند ظهور المهدي- عجَّل اللَّه تعالى فرجه الشريف قوماً ممّن كان تقدّم موته من شيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته، ويعيد أيضاً قوماً من أعدائه لينتقم منهم.

ملاحظات جديرة بالانتباه:

1- إنّ الرجعة وإن كانت من مسلّمات عقائد الشيعة، ولكن التشيّع ليس منوطاً بالاعتقاد بها، فمن أنكرها فقد أنكر عقيدة مسلّمة بين أكثر الشيعة، ولكن لم يكن ركناً من أركان التشيّع، ولأجل ذلك نرى أنّ جماعة من الشيعة أوّلوا الأخبار الواردة في الرجعة إلى رجوع الدولة إلى شيعتهم وأخذهم بمجاري الأُمور دون رجوع أعيان الأشخاص، والباعث لهم على هذا التأويل هو عجزهم عن تصحيح القول بها نظراً واستدلالًا، ولكن المحقّقين من الإمامية، أخذوا بظواهرها وبيّنوا عدم لزوم استحالة عقلية على القول بها لعموم قدرة اللَّه على كل مقدور، وأجابوا عن الشبه الواردة عليها، وإلى هذا الاختلاف يشير الشيخ المفيد بقوله: واتّفقت الإمامية على رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة وإن كان بينهم في معنى الرجعة اختلاف.

ويشير إلى الاختلاف تلميذه الجليل الشريف المرتضى في المسائل التي وردت عليه من الريّ ومنها حول حقيقة الرجعة، فأجاب: بأنّ الذي تذهب إليه الشيعة الإمامية إنّ اللَّه تعالى يعيد عند ظهور المهدي قوماً ممّن كان تقدّم موته من شيعته، وقوماً من أعدائه، وانّ قوماً من الشيعة تأوّلوا الرجعة على أنّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى شيعتهم، من دون رجوع الأشخاص، وإحياء الأموات (1).


1- بحارالأنوار 53/ 138.

ص: 140

2- كيف يجتمع اعادة الظالمين مع قوله سبحانه: (وحَرامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (1) فإنّ هذه الآية تنفي رجوعهم بتاتاً، وحشر لفيف من الظالمين يخالفها.

والاجابة عن السؤال واضحة، فإنّ الآية مختصّة بالظالمين الذين أُهلكوا في هذه الدنيا ورأوا جزاء عملهم فيها، فالآية تحكم بأنّهم لا يرجعون، وأمّا الظالمون الذين رحلوا عن الدنيا بلا مؤاخذة فيرجع لفيف منهم ليروا جزاء عملهم فيها ثمّ يردّون إلى أشدّ العذاب في الآخرة، فالآية تنفي رجوع لفيف من الظالمين الذين ماتوا حتف الأنف.

3- إنّ الظاهر من قوله تعالى: (حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعلِّي أعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلّا إنّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلها ومِنْ ورائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَومِ يُبْعَثُونَ)(2) هو نفي الرجوع إلى الدنيا بعد مجي ء الموت لأي أحد.

والاجابة عنها واضحة: انّ الآية كسائر السنن الإلهية الواردة في حقّ الإنسان، فهي تفيد أنّ الموت بطبعه ليس بعده رجوع، وهذا لا ينافي رجوع البعض استثناءً ولمصالح عليا، كما مرّت الآيات الواردة في هذا المضمار.

أضف إلى ذلك أنّ عود بعض الظالمين إلى الدنيا- على القول بالرجعة- إنّما هو لأجل عقابهم والانتقام منهم، وأين هذا من طلب هؤلاء الكفار الرجوع لأجل تصحيح عملهم والقيام بما تركوه من الصالحات، وردّ هذا الفرع من الرجوع لا يكون دليلًا على نفي النوع الأوّل منه.


1- الأنبياء/ 95.
2- المؤمنون/ 100- 101.

ص: 141

المسألة السابعة: زواج المتعة

اشارة

وممّا يشنع به على الشيعة: قولهم بجواز نكاح المتعة، ويعدّون القول بتشريعه أو بعدم نسخه مخالفاً للكتاب والسنّة. ورغم أنّ المسألة فرعية فقهية لا يناسب البحث عنها في كتب تاريخ العقائد، إلّا أنّه لما كانت من شعائر فقه الشيعة، آثرنا أن نبحث عنها في إطار الكتاب والسنّة، على وجه الاجمال، حتى يقف القارئ على أنّ القول بأصل تشريعها وعدم نسخها ممّا يثبته الكتاب والسنّة، وانّ القول بعدم تشريعها بتاتاً أو ادّعاء نسخها يضادّهما. وسيوافيك أنّ لفيفاً من الصحابة والتابعين كانوا يفتون بجوازها وعدم نسخها، وإنّما منع عنها عمر بن الخطاب لحافز نفسي أو اجتهاد شخصي لا دليل عليه وليس حجّة على الآخرين. وقد أبدى بنظيره في متعة الحج في زمن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم.

فأمّا زواج المتعة: فهو عبارة عن تزويج المرأة الحرّة الكاملة نفسها إذا لم يكن بينها وبين الزوج مانع- من نسب أو سبب أو رضاع أو احصان أو عدّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية- بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضا والاتّفاق، فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق. ويجب عليها مع الدخول بها- إذا لم تكن يائسة- أن تعتد عدّة الطلاق إذا كانت ممّن تحيض

ص: 142

وإلّا فبخمسة وأربعين يوماً .(1)

وولد المتعة- ذكراً كان أو أُنثى يلحق بالأب ولا يدعى إلّا به، وله من الارث ما أوصانا اللَّه سبحانه به في كتابه العزيز. كما يرث من الأُم، وتشمله جميع العمومات الواردة في الآباء والأبناء والأُمّهات، وكذا العمومات الواردة في الاخوة والأخوات والأعمام والعمّات.

وبالجملة: المتمتّع بها زوجة حقيقة، وولدها ولد حقيقة. ولا فرق بين الزواجين: الدائم والمنقطع إلّا أنّه لا توارث هنا ما بين الزوجين، ولا قسمة ولا نفقة لها. كما أنّ له العزل عنها. وهذه الفوارق الجزئية فوارق في الأحكام لا في الماهية، لأنّ الماهية واحدة غير أنّ أحدهما مؤقت والآخر دائم، وانّ الأوّل ينتهي بانتهاء الوقت والآخر ينتهي بالطلاق أو الفسخ.

وقد أجمع أهل القبلة على أنّه سبحانه شرّع هذا النكاح في صدر الإسلام، ولا يشك أحد في أصل مشروعيّته، وانّما وقع الكلام في نسخه أو بقاء مشروعيته.

والأصل في مشروعيته قوله سبحانه: (وحلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ وأنْ تَجْمَعُوا بينَ الأُختَينِ إلَّا ما قَدْ سَلَفَ إنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحيماً* والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذَلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيرَ مُسافِحينَ فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَريضةً ولا جُناحَ عَلَيكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعدِ الفَريضَةِ إنَّ اللَّهَ كانَ عَليماً حَكيماً) .(2)

والآية ناظرة إلى نكاح المتعة وذلك لوجوه:

اشاره


1- لاحظ الكتب الفقهية للشيعة الأمامية في ذلك المجال.
2- النساء/ 23- 24.

ص143

ص: 143

1- الحمل على النكاح الدائم يستلزم التكرار بلا وجه:

إنّ هذه السورة، أي سورة النساء، تكفّلت ببيان أكثر ما يرجع إلى النساء من الأحكام والحقوق، فذكرت جميع أقسام النكاح في أوائل السورة على نظام خاص، أمّا الدائم فقد أشار إليه سبحانه بقوله: (وإِنْ خِفْتُمْ ألَّا تُقْسِطُوا في اليَتامى فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثَلاثَ ورُباعَ وإنْ خِفْتُمْ ألَّا تَعدِلُوا فَواحِدَةً ...) (1).

وأمّا أحكام المهر فقد جاءت في الآية التالية: (وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَي ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِياً مَريئا) (2).

وأمّا نكاح الإماء فقد جاء في قوله سبحانه: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ واللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ ولا مُتّخِذاتِ أخْدانٍ ...)(3) .

فقوله سبحانه: (مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيمانُكُمْ) إشارة إلى نكاح السيّد لأمته، الذي جاء في قوله سبحانه أيضاً: (إلّا علَى أَزْواجِهِمْ أوْ مَا مَلكَتْ أيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ...) (4).

وقوله سبحانه: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ) إشارة إلى الزواج من أمة


1- النساء/ 3.
2- النساء/ 4.
3- النساء/ 25.
4- المؤمنون/ 6.

ص: 144

الغير. فإلى هنا تم بيان جميع أقسام النكاح فلم يبق إلّا نكاح المتعة، وهو الذي جاء في الآية السابقة، وحمل قوله سبحانه: (فما استمتعتم) على الزواج الدائم، وحمل قوله: (ف آتوهنّ أُجورهُنّ) على المهور والصدقات يوجب التكرار بلا وجه، فالناظر في السورة يرى أنّ آياتها تكفّلت ببيان أقسام الزواج على نظام خاص ولا يتحقّق ذلك إلّا بحمل الآية على نكاح المتعة كما هو ظاهرها أيضاً.

2- تعليق دفع الأُجرة على الاستمتاع:

إنّ تعليق دفع الأُجرة على الاستمتاع في قوله سبحانه: (فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) يناسب نكاح المتعة الذي هو زواج مؤقّت لا النكاح الدائم، فإنّ المهر هنا يجب بمجرّد العقد ولا يتنجّز وجوب دفع الكل إلّا بالمس، وأمّا المتعارف فيختلف حسب اختلاف العادات العرفية، فربّما يؤخذ قبل العقد وأُخرى يترك إلى أن يرث أحدهما الآخر.

3- تصريح جماعة من الصحابة على شأن نزولها:

ذكرت أُمّة كبيرة من أهل الحديث نزولها فيها، وينتهي نقل هؤلاء إلى أمثال ابن عباس، وأُبي بن كعب، وعبد اللَّه بن مسعود، وجابر بن عبد اللَّه الأنصاري، وحبيب بن أبي ثابت، وسعيد بن جبير، إلى غير ذلك من رجال الحديث الذين لا يمكن اتهامهم بالوضع والجعل.

وقد ذكر نزولها من المفسّرين والمحدّثين:

إمام الحنابلة أحمد بن حنبل في مسنده .(1)


1- مسند أحمد 4/ 436.

ص: 145

وأبو جعفر الطبري في تفسيره (1).

وأبو بكر الجصّاص الحنفي في أحكام القرآن (2).

وأبو بكر البيهقي في السنن الكبرى (3).

ومحمود بن عمر الزمخشري في الكشاف (4).

وأبو بكر بن سعدون القرطبي في تفسير جامع أحكام القرآن(5) .

وفخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب (6).

إلى غير ذلك من المحدّثين والمفسّرين الذين جاءوا بعد ذلك إلى عصرنا هذا، ولا نطيل الكلام بذكرهم.

وليس لأحد أن يتّهم هؤلاء الأعلام بذكر ما لا يتقون به. وبملاحظة هذه القرائن لا يكاد يشكّ في ورودها في نكاح المتعة.

ونزيد الوضوح بياناً بقوله سبحانه: (وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيرَ مُسافِحين).

إنّ قوله سبحانه: (أن تبتغوا) مفعول له لفعل مقدّر، أي بيّن لكم ما يحلّ ممّا يحرم لأجل أن تبتغوا بأموالكم، وأمّا مفعول قوله: (تبتغوا) فيعلم من القرينة وهو النساء أي طلبكم النساء، أي بيّن الحلال والحرام لغاية ابتغائكم النساء من طريق الحلال لا الحرام.


1- تفسير الطبري 5/ 9.
2- أحكام القرأن 2/ 178.
3- السنن الكبرى 2/ 178.
4- الكشاف 1/ 360.
5- جامع أحكام القرآن 5/ 13.
6- مفاتيح الغيب 3/ 267.

ص: 146

وقوله سبحانه: (محصنين) وهو من الاحصان بمعنى العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، وقوله سبحانه: (غير مسافحين) هو جمع مسافح بمعنى الزاني مأخوذ من السفح بمعنى صبّ الماء، والمراد هنا هو الزاني بشهادة قوله سبحانه في الآية المتأخّرة في نكاح الإماء: (وآتوهُنَّ أُجُورهنَّ بالمعروف محصنات غير مسافحات) أي عفائف غير زانيات.

ومعنى الآية: انّ اللَّه تبارك وتعالى شرّع لكم نكاح ما وراء المحرّمات لأجل أن تبتغوا بأموالكم ما يحصنكم ويصون عفّتكم ويصدّكم عن الزنا، وهذا المناط موجود في جميع الأقسام، النكاح الدائم، والمؤقت والزواج بأمة الغير المذكورة في هذه السورة من أوّلها إلى الآية 25.

هذا هو الذي يفهمه كلّ انسان من ظواهر الآيات غير أنّ من لا يروقه الأخذ بظاهر الآية: (فما استمتعتم به منهنّ ف آتوهنّ أُجورهنّ) لرواسب نفسية أو بيئية حاول أن يطبق معنى الآية على العقد الدائم، وذكر في المورد

شبهات ضعيفة لا تصمد أمام النقاش نجملها بما يلي:

الشبهة الأُولى: إنّ الهدف من تشريع النكاح هو تكوين الأُسرة وإيجاد النسل، وهو يختصّ بالنكاح الدائم دون المنقطع الذي لا يترتّب عليه إلّا إرضاء القوّة الشهوية وصبّ الماء وسفحه.

ويجاب عنها: بأنّه خلط بين الموضوع والفائدة المترتّبة عليه، وما ذكر إنّما هو من قبيل الحكمة، وليس الحكم دائراً مدارها، لضرورة أنّ النكاح صحيح وإن لم يكن هناك ذلك الغرض، كزواج العقيم واليائسة والصغيرة. بل أغلب المتزوجين في سن الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلّا قضاء الوطر واستيفاء الشهوة من طريقها المشروع، ولا يخطر ببالهم طلب النسل أصلًا وإن حصل لهم قهراً، ولا يقدح ذلك في صحّة زواجهم.

ص: 147

ومن العجب حصر فائدة المتعة في قضاء الوطر، مع أنّها كالدائم قد يقصد منها النسل والخدمة وتدبير المنزل وتربية الأولاد والارضاع والحضانة.

ونسأل المانعين الذين يتلقّون نكاح المتعة، مخالفاً للحكمة، التي من أجلها شرّع النكاح، نسألهم عن الزوجين اللذين يتزوّجان نكاح دوام، ولكن ينويان الفراق بالطلاق بعد شهرين، فهل هذا نكاح صحيح أو لا؟

لا أظن أنّ فقيهاً من فقهاء الإسلام يمنع ذلك إلّا إذا أفتى بغير دليل ولا برهان، وبهذا الشكل يتعين الجزم بأصحّية هذا النكاح، فأي فرق يكون حينئذ بين المتعة وهذا النكاح الدائم سوى أنّ المدّة مذكورة في الأوّل دون الثاني؟

يقول صاحب المنار: إنّ تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة بنيّة الطلاق، وإن كان الفقهاء يقولون إنّ عقد النكاح يكون صحيحاً إذا نوى الزوج التوقيت، ولم يشترطه في صيغة العقد، ولكن كتمانه إيّاه يعدّ خداعاً وغشّاً وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت (1).

أقول: نحن نفترض أنّ الزوجين رضيا بالتوقيت لبّاً، حتى لا يكون هناك خداع وغشّ، فهو صحيح بلا اشكال.

الشبهة الثانية: إنّ تسويغ النكاح المؤقت ينافي ما تقرّر في القرآن كقوله عزّ وجلّ في صفة المؤمنين: (والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إلّا عَلَى أزواجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ مَلُومينَ* فَمَنِ ابْتَغْى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُون) (2).

والمراد من الآية: أنّ من ابتغى وراء ذلك، هم المتجاوزون ما أحلّه اللَّه


1- المنار 3/ 17.
2- المؤمنون/ 5- 7.

ص: 148

لهم إلى ما حرّمه عليهم. والمرأة المتمتّع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي عليها بالمعروف.

إلّا أنّه يرد عليها: انّها دعوة بلا دليل. فإنّها زوجة ولها أحكام، وعدم وجود النفقة والقسمة لا يخرجانها عن الزوجيّة، فإنّ الناشزة زوجة ليست لها النفقة وحقّ القسمة، ومثلها الصغيرة. والعجب أن يستدل بعدم وجود الأحكام على نفي الماهية، فإنّ الزوجيّة رابطة بين الزوجين تترتّب عليها جملة من الأحكام وربّما تختص بعض الأحكام ببعض الأقسام.

الشبهة الثالثة: إنّ المتمتّع في النكاح المؤقت لا يقصد الاحصان دون المسافحة، بل يكون قصده مسافحة، فإن كان هناك نوع ما من احصان نفسه ومنعها من التنقّل في دِمنِ الزنا، فإنّه لا يكون فيه شي ء ما من احصان المرأة التي تؤجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل فتكون كما قيل:

كرة حُذِفْت بصوالجة فتلقّفها رجل رجل (1) ويرد على هذه الشبهة: انّه من أين وقف على أنّ الاحصان في النكاح المؤقّت يختص بالرجل دون المرأة، فإنّا إذا افترضنا كون العقد شرعياً، فكل واحد من الطرفين يُحصن نفسه من هذا الطريق، وإلّا فلا محيص عن التنقل في دمن الزنا. والذي يصون الفتاة عن البغي أحد الأُمور الثلاثة:

1- النكاح الدائم.

2- النكاح المؤقّت بالشروط الماضية.

3- كبت الشهوة الجنسية.

فالأوّل ربّما يكون غير ميسور خصوصاً للطالب والطالبة اللذين


1- المنار 5/ 13.

ص: 149

يعيشان بمنح ورواتب مختصرة يجريها عليهما الوالدان أو الحكومة، وكبت الشهوة الجنسية أمر شاق لا يتحمّله إلّا الأمثل فالأمثل من الشباب والمثلى من النساء، وهم قليلون، فلم يبق إلّا الطريق الثاني، فيحصنان نفسهما عن التنقّل في بيوت الدعارة.

إنّ الدين الإسلامي هو الدين الخاتم، ونبيّه خاتم الأنبياء، وكتابه خاتم الكتب، وشريعته خاتمة الشرائع، فلا بد أن يضع لكل مشكلة اجتماعية حلولًا شرعية، يصون بها كرامة المؤمن والمؤمنة، وما المشكلة الجنسية عند الرجل والمرأة إلّا إحدى هذه النواحي التي لا يمكن للدين الإسلامي أن يهملها، وعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه:

ماذا يفعل هؤلاء الطلبة والطالبات الذين لا يستطيعون القيام بالنكاح الدائم، وتمنعهم كرامتهم ودينهم عن التنقّل في بيوت الدعارة والفساد، والحياة المادية بجمالها تؤجّج نار الشهوة في نفوسهم؟ فمن المستحيل عادة أن يصون نفسه أحد إلّا من عصمه اللَّه، فلم يبق طريق إلّا زواج المتعة، الذي يشكّل الحل الأنجح لتلافي الوقوع في الزنا، وتبقى كلمة الإمام علي بن أبي طالب ترن في الآذان محذّرة من تفاقم هذا الأمر عند إهمال العلاج الذي وصفه المشرّع الحكيم له، حيث قال- عليهالسّلام:

«لولا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلّا شقي أو شقيّة».

وأمّا تشبيه المتعة بما جاء في الشعر فهو يعرب عن جهل الرجل بحقيقة نكاح المتعة وحدودها، فإنّ ما جاء فيه هي المتعة الدورية التي ينسبها الرجل (1) وغيره إلى الشيعة، وهم براء من هذا الإفك، إذ يجب على المتمتّع بها بعد انتهاء المدّة الاعتداد على ما ذكرنا، فكيف يمكن أن تؤجّر


1- لاحظ كتابه: السنّة والشيعة 65- 66.

ص: 150

نفسها كل طائفة من الزمن لرجل؟! سبحان اللَّه ما أجرأهم على الكذب على الشيعة والفرية عليهم، وما مضمون الشعر إلّا جسارة على الوحي والتشريع الإلهي، وقد اتّفقت كلمة المحدّثين والمفسّرين على التشريع، وأنّه لو كان هناك نهي أو نسخ فإنّما هو بعد التشريع والعمل.

الشبهة الرابعة: إنّ الآية منسوخة بالسنّة، واختلفوا في زمن نسخه إلى أقوال شتّى:

1- أُبيحت ثمّ نهي عنها عام خيبر.

2- ما أُحلّت إلّا في عمرة القضاء.

3- كانت مباحة ونهي عنها في عام الفتح.

4- أُبيحت عام أوطاس ثمّ نهي عنها (1).

وهذه الأقوال تنفي الثقة بوقوع النسخ، كما أنّ نسخ القرآن بأخبار الآحاد ممنوع جدّاً، وقد صحّ عن عمران بن الحصين انّه قال: «إنّ اللَّه أنزل المتعة وما نسخها ب آية أُخرى، وأمرنا رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم بالمتعة وما نهانا عنها، ثمّ قال رجل برأيه»، يريد به عمر بن الخطاب.

إنّ الخليفة الثاني لم يدّع النسخ وإنّما أسند التحريف إلى نفسه، ولو كان هناك ناسخ من اللَّه عزّ وجلّ أو من رسوله، لأسند التحريم إليهما، وقد استفاض قول عمر وهو على المنبر: متعتان كانتا على عهد رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وأنا أنهى عنهما

وأُعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء.

بل نقل متكلّم الأشاعرة في شرحه على شرح التجريد انّه قال: أيّها الناس ثلاث كنّ على عهد رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم، وأنا أنهى عنهنّ، وأُحرمهنّ،


1- لاحظ للوقوف على مصادر هذه الأقوال شرف الدين: مسائل فقهية 63- 64، الغدير 6/ 225، أصل الشيعة وأُصولها 171، والأقوال في النسخ أكثر مما جاء في المتن.

ص: 151

وأُعاقب عليهنّ، متعة النساء، ومتعة الحج، وحيّ على خير العمل. (1) وقد روي عن ابن عباس- وهو من المصرحين بحلّية المتعة وإباحتها في رده على من حاجّه بنهي أبي بكر وعمر لها، حيث قال:

يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر.

حتى أنّ ابن عمر لمّا سئل عنها، أفتى بالإباحة، فعارضوه بقول أبيه، فقال لهم: أمر رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم أحقّ أن يتّبع أم أمر عمر؟

كلّ ذلك يعرب عن أنّه لم يكن هناك نسخ ولا نهي نبوي وإنّما كان تحريماً من جانب الخليفة، وهو في حدّ ذاته يعتبر اجتهاداً قبالة النص الواضح، وهو ما انفك يعلن جملة من الصحابة رفضهم له وعدم اذعانهم لأمره، وإذا كان الخليفة قد اجتهد لأسباب رآها وأفتى على أساسها فكان الأولى بمن لحقوه أن يتنبّهوا لهذا الأمر لا أن يسرفوا في تسويغه دون حجة ولا دليل.

المنكرون للتحريم:

ذكرنا أنّ لفيفاً من وجوه الصحابة والتابعين أنكروا هذا التحريم ولم يقروا به، ومنهم:

1- علي أمير المؤمنين، في ما أخرجه الطبري بالاسناد إليه أنّه قال:

«لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا شقيّ»(2) .

2- عبد اللَّه بن عمر، أخرج الإمام أحمد من حديث عبد اللَّه بن عمر، قال- وقد سئل عن متعة النساء-: واللَّه ما كنّا على عهد رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم زانين ولا مسافحين، ثمّ قال: واللَّه لقد سمعت رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم يقول: «ليكوننّ قبل


1- مفتايح الغيب 10/ 52- 53، شرح التجريد للقوشجي 484 طبع إيران.
2- الطبري التفسير 5/ 9.

ص: 152

يوم القيامة المسيح الدجّال وكذّابون ثلاثون وأكثر» (1).

3- عبد اللَّه بن مسعود، روى البخاري عن عبد اللَّه بن مسعود، قال:

كنّا نغزو مع رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وليس لنا شي ء، فقلنا:

ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثمّ رخّص لنا أن تنكح المرأة بالثوب إلى أجل معيّن، ثمّ قرأ علينا: (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدينَ)(2) . (3) 4- عمران بن حصين، أخرج البخاري في صحيحه عنه، قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللَّه ففعلناها مع رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم، ولم ينزل قرآن يحرّمها ولم ينه عنها حتى مات. قال رجل برأيه ما شاء(4) .

أخرج أحمد في مسنده عن أبي رجاء عن عمران بن حصين، قال:

نزلت آية المتعة في كتاب اللَّه وعملنا بها مع رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم، فلم تنزل آية تمنعها، ولم ينه عنها النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم حتى مات (5) .

5- كما أنّ الخليفة العباسي المأمون أوشك أن ينادي في أيام حكمه، بتحليل المتعة إلّا أنّه توقّف خوفاً من الفتنة وتفرّق المسلمين. قال ابن خلّكان، نقلًا عن محمّد بن منصور: قال: كنّا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء: بكّرا غداً إليه فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا، وإلّا فاسكتا إلى أن أدخل، قال:

فدخلنا


1- مسند أحمد 2/ 95.
2- المائدة/ 87.
3- صحيح البخاري، كتاب النكاح 7/ 4، الباب 8، الحديث 3.
4- صحيح البخاري 6/ 27، كتاب التفسير، تفسير قوله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج من سورة البقرة.
5- مسند أحمد: لاحظ مسائل فقهية للسيد شرف الدين 70.

ص: 153

عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وعلى عهد أبي بكر- رضي اللَّه عنه- وأنا أنهى عنهما، ومن أنت يا جعل حتى تنهى عمّا فعله رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وأبو بكر- رضي اللَّه عنه-؟! فأومأ أبو العيناء إلى محمّد ابن منصور وقال: رجل يقول من عمر بن الخطاب نكلّمه نحن؟

فأمسكنا، فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا، فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيّراً؟ فقال: هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام، قال: وما حدث فيه؟ قال: النداء بتحليل الزنا، قال: الزنا؟ قال: نعم، المتعة زنا، قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب اللَّه عزّ وجلّ، وحديث رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم، قال اللَّه تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ) إلى قوله: (والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُون* إلَّا عَلَى أَزْواجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ ملومين* فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذَلِكَ فَأُوْلئِكَ هُمُ العادُونَ) (1) يا أمير المؤمنين زوج المتعة ملك يمين؟

قال: لا، قال: فهي الزوجة التي عند اللَّه ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين (2).

أقول: هل عزب عن ابن أكثم- وقد كان ممّن يكنّ العداء لآل البيت- أنّ المتعة داخلة في قوله سبحانه: (إلّا على أزواجهم) وانّ عدم الوراثة تخصيص في الحكم، وهو لا ينافي ثبوتها، وكم لها من نظير، فالكافرة لا ترث الزوج المسلم، وبالعكس، كما أنّ القاتلة لا ترث وهكذا العكس، وأمّا الولد فيلحق قطعاً، ونفي اللحوق ناشئ امّا من الجهل بحكمها أو التجاهل به.

وما أقبح كلامه حيث فسّر المتعة بالزنا وقد أصفقت الأُمّة على تحليلها في عصر الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم والخليفة الأوّل، أفتحسب ابن أكثم أنّ الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم حلّل الزنا ولو مدَّة قصيرة.


1- المؤمنون/ 1- 7.
2- ابن خلكان: وفيات الأعيان 6/ 149- 150.

ص: 154

كبرت كلمة تخرج من أفواههم:

وهناك روايات مأثورة عن الخليفة نفسه، تعرب عن أنّ التحريم كان صميم رأيه، من دون استناد إلى آية أو رواية.

فقد روى مسلم في صحيحه: عن ابن أبي نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها، فذكر ذلك لجابر، فقال: على يدي دار الحديث: تمتّعنا مع رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم فلمّا قام عمر قال: إنّ اللَّه كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، فأتمّوا الحجّ والعمرة وأبتّوا نكاح هذه النساء، فلئِن أُوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلّا رجمته بالحجارة (1).

وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي نضرة قال: قلت لجابر: إنّ ابن الزبير ينهى عن المتعة، وانّ ابن عباس يأمر بها، فقال لي: على يدي جرى الحديث: تمتّعنا مع رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم ومع أبي بكر، فلمّا ولّي عمر خطب الناس فقال: إنّ القرآن هو القرآن، وإنّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم هو الرسول، وإنّهما كانتا متعتان على عهد رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم إحداهما متعة الحج والأُخرى متعة النساء (2).

وهذه المأثورات تعرب جملة من الملاحظات نجملها بملاحظتين اثنتين:

أوّلًا: إنّ المتعة كانت باقية على الحلّ إلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وبقيت لوقت في أيامه حتى نهى عنها ومنع.

وثانياً: انّه باجتهاده قام بتحريم ما أحلّه الكتاب والسنّة، ومن المعلوم انّ اجتهاده- لو صحّت تسميته بالإجتهاد- حجّة على نفسه لا على غيره.


1- مسلم: الصحيح 4/ 130، باب نكاح المتعة الحديث 8، طبع محمدعلي صبيح.
2- أحمد، المسند 1/ 52.

ص: 155

وفي الختام نقول:

إنّ الجهل بفقه الشيعة أدّى بكثير من الكتّاب إلى التقوّل على الشيعة، وخصوصاً في مسألة المتعة التي نحن في صدد الحديث عنها، بجملة منكرة من الآراء والأحكام تدل على جهل مطبق أو خبث سريرة لا يدمغ، ومن هذه الأقوال: انّ من أحكام المتعة عند الشيعة أنّه لا نصيب للولد من ميراث أبيه، وأنّ المتمتَّع بها لا عدّة لها، وانّها تستطيع أن تنتقل من رجل إلى رجل إن شاءت. ومن أجل هذا استقبحوا المتعة واستنكروها وشنَّعوا على من أباحها.

وقد خفي الواقع على هؤلاء، وانّ المتعة عند الشيعة كالزواج الدائم لا تتم إلّا بالعقد الدال على قصد الزواج صراحة، وانّ المتمتَّع بها يجب أن تكون خالية من جميع الموانع، وانّ ولدها كالولد من الدائمة من وجوب التوارث، والانفاق وسائر الحقوق المادية، وانّ عليها أن تعتدّ بعد إنتهاء الأجل مع الدخول بها، وإذا مات زوجها وهي في عصمته اعتدّت كالدائمة من غير تفاوت، إلى غير ذلك من الآثار(1) .

على أنّ الأمر الذي ينبغي الالتفات إليه وإدراكه بوضوح، انّ الشيعة ورغم إدراكهم وإيمانهم بحلّية زواج المتعة وعدم تحريمه- وهو ما يعلنون عنه صراحة ودون تردد- إلّا أنّهم لا يلجأون إلى هذا الزواج إلّا في حدود ضيقة وخاصة، وليس كما يصوّره ويتصوره البعض من كونه ظاهرة متفشية في مجتمعهم وبشكل مستهجن ممجوج.


1- الاثنا عشرية وأهل البيت تأليف مغنية 46.

ص: 156

ص: 157

المسألة الثامنة: مسح الأرجل في الوضوء

اختلف المسلمون في غسل الرجلين ومسحهما، فذهب الأئمّة الأربعة إلى أنّ الواجب هو الغسل وحده، وقالت الشيعة الإمامية: انّه المسح، وقال داود بن علي والناصر للحق من الزيدية: يجب الجمع بينهما وهو صريح الطبري في تفسيره: ونقل عن الحسن البصري: إنّه مخيّر بينهما(1) وممّا يثير العجب اختلاف المسلمين في هذه المسألة، مع أنّهم رأوا وضوء رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله وسلّم)، ومن هنا فلابد من الجزم بأنّ المسلمين كانوا قد اتّفقوا على فعل واحد، وإلّا فما كان هذا الأمر بخفي، وكان رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) يقوم بتوضيحه، إذن فلا محيص من القول بأنّ الحاضرين في عصر النزول فهموا من الآية معنىً واحداً: إمّا المسح أو الغسل، ولم يتردّدوا في


1- الطبري: التفسير 6/ 86

ص: 158

حكم الرجلين أبداً. ولو خفي حكم هذه المسألة بعد رحلة الرسول (صلّى اللَّه عليه و آله وسلّم) على الأجيال الآتية فلاغرو في أنّ يخفى على المسلمين حكم أكثر المسائل.

وليس فيها شى ء أوثق من كتاب اللَّه فعلينا دراسة ما جاء فيه، قال سبحانه: (يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (1)وقد اختلف القرّاء في قراءة: (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فمنهم من قرأ بالفتح، ومنهم من قرأ بالكسر. إلّا أنّه من البعيد أن تكون كلّ من القراءتين موصولة إلى النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله وسلّم) فإنّ تجويزهما يضفي على الآية ابهاماً واعضالًا، ويجعل الآية لغزاً، والقران كتاب الهداية والارشاد، وتلك الغاية تطلب لنفسها الوضوح وجلاء البيان، خصوصاً فيما يتعلق بالأعمال والأحكام التي يبتلى بها عامّة المسلمين، ولاتقاس بالمعارف والعقائد التي يختصّ الامعان فيها بالأمثل فالأمثل.

وعلى كلّ تقدير فممّن حقّق مفاد الآية وبيّنها الإمام الرازي في تفسيره، ننقل كلامه بتلخيص:

قال: حجّة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله: (وأرجلكم) وهما:

الأوّل: قرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو و عاصم- في رواية أبوبكر عنه- بالجرّ.

الثاني: قرأ نافع وابن عامر وعاصم- في رواية حفص عنه- بالنصب.

أمّا القراءة بالجرّ تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس فكلما وجب المسح في الرأس، فكذلك في الأرجل.


1- المائدة/ 6.

ص: 159

فإن قيل لم لا يجوز أن يكون الجرّ على الجوار؟ كما في قوله: «جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ» وقوله: «كَبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مَزَمّلٍ».

قيل: هذا باطل من وجوه:

1- إنّ الكسر على الجوار معدود من اللحن الذي قد يتحمّل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام اللَّه يجب تنزيهه عنه.

2- أنّ الكسر على الجوار انّما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله: «جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ» فإنّ «الخَرِب» لا يكون نعتاً للضبّ بل للجحر، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل.

3- إنّ الكسر بالجوار إنّما يكون بدون حرف العطف وأمّا مع حرف العطف فلم تتكلّم به العرب.

وأمّا القراءة بالنصب فهي أيضاً توجب المسح، وذلك لأنّ (برؤوسكم) في قله (فامسحوا برؤوسكم) في محل النصب (1)بامسحوا لأنّه المفعول به ولكنّها مجرورة لفظاً بالباء، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس، وجاز الجر عطفاً على الظاهر.

ونزيد بياناً انّه على قراءة النصب يتعيّن العطف على محل برؤوسكم، ولايجوز العطف على ظاهر (ايديكم) لاستلزامه الفصل بين العاطف والمعطوف عليه بجملة أجنبية وهو غير جائز في المفرد، فضلًا عن الجملة.

هذا هو الذي يعرفه المتدبّر في الذكر الحكيم، ولايسوغ لمسلم أن يعدل عن القرآن إلى غيره، فأذا كان هو المهيمن على جميع الكتب السماوية،


1- يقال: ليس هذا بعالم ولا عاملا. قال الشاعر: معاوي انّنا بشر فاسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا لاحظ: المغني لابن هشام: الباب الرابع.

ص: 160

فأولى أن يكون مهيمناً على ما في أيدي الناس من الحقّ والباطل، والمأثورات التي الحديث فيها ذو شجون. مع كونها متضاربة في المقام، فلو ورد فيها الأمر بالغسل، فقد جاء فيها الأمر بالمسح، رواه الطبري عن الصحابة والتابعين نشير إليه على وجه الاجمال.

1- ابن عباس، قال: الوضوء غسلتان ومسحتان.

2- كان أنس إذا مسح قدميه بلّهما، ولمّا خطب الحجّاج وقال: ليس شي ء من ابن آدم أقرب إلى خبثه في قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما، قال أنس: صدق اللَّه وكذب الحجّاج، قال اللَّه: (وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما.

3- عكرمة، قال: ليس على الرجلين غسل وإنّما نزل فيهما المسح.

4- الشعبي قال: نزل جبرئيل بالمسح وقال: ألاترى انّ التيمّم أن يمسح ما كان غسلًا ويلغى ما كان مسحاً.

5- عامر: أُمر أن يمسح في التيمّم ما أُمر أن يغسل بالوضوء، وأُبطل ما أُمر أن يمسح في الوضوء: الرأس والرجلان. وقيل له: إنّ أُناساً يقولون: إنّ جبرئيل نزل بغسل الرجلين فقال: نزل جبرئيل بالمسح.

6- قتادة: في تفسير الآية: افترض اللَّه غسلتين و مسحتين.

7- الأعمش: قرأ (وارجلكم) مخفوضة اللام.

8- علقمة: قرأ (أرجلكم) مخفوضة اللام.

9- الضحاك: قرأ (وأرجلكم) بالكسر.

10- مجاهد: مثل ما تقدّم (1)


1- الطبري: التفسير 6/ 82- 83.

ص: 161

وهؤلاء من أعلام التابعين وفيهم الصحابيان: ابن عباس وأنس وقد أصفقوا على المسح وقراءة الجر الصريح في تقديم المسح على الغسل، وجمهور أهل السنّة يحتجّون بأقوالهم في مجالات مختلفة فلما ذا أُعرض عنهم في هذا المجال المهم والحساس في عبادة المسلم.

إنّ القول بالمسح هو المنصوص عن أئمّة أهل البيت- عليهم السّلام، وهم يسندون المسح إلى النبيّ الأكرم- صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم-، ويحكون وضوءه به، قال أبو جعفر الباقر- عليه السّلام-: «ألا أحكي لكم وضوء رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم-؟ ثمّ أخذ كفّاً من الماء فصبّها على وجهه ... إلى أن قال: ثمّ مسح رأسه وقديمه.

وفي رواية أُخرى: ثمَّ مسح ببقيّة ما بقى في يديه رأسه ورجليه ولم يعدهما في الاناء (1) وفي ضوء هذه الروايات والمأثورات اتّفقت الشيعة الإمامية على أنّ الوضوء غسلتان ومسحتان، وإلى ذلك يشير السيّد بحرالعلوم في منظومته الموسومة بالدرة النجفيّة:

إنّ الوضوء غسلتان عندنا

ومسحتان والكتاب معنا

فالغسل للوجه ولليدين

والمسح للرأس وللرجلين

وبعد وضوح دلالة الآية، واجماع أئمّة أهل البيت على المسح، واستناداً إلى جملة الأدلّة الواضحة التي ذكرنا بعضاً منها، فانّ القول بما يخالفها يبدو ضعيفاً ولا يصمد أمام النقاش، إلّا أنّا سنحاول أن نورد الوجوه التي استدال بها القائلون بالغسل ليتبين للقارى ء الكريم مدى ضعف حجيتها:


1- الحرّ العاملي: الوسائل 1، الباب 15 من أبواب الوضوء، الحديث 9 و 10.

ص: 162

1- إنّ الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح ولاينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب المصير إليه، ويكون غسل الأرجل يقوم مقام مسحها(1) .

إلّا أنّه يلاحظ عليه: أنّ أخبار الغسل معارضة بأخبار المسح، وليس شي ء أوثق من كتاب اللَّه، فلو دلّ على لزوم المسح لا يبقى مجال لترجيحه على روايات المسح. والقرآن هو المهيمن على الكتب والمأثورات، والمعارض منها للكتاب لايقام لها وزن.

وأعجب من ذلك قوله: إنّ الغسل مشتمل على المسح، مع أنّهما حقيقتان مختلفتان، فالغسل إمرار الماء على المغسول، والمسح إمرار اليد على الممسوح (2)وهما حقيقتان مختلفتان لغة وعرفاً وشرعاً، ولو حاول الاحتياط لوجب الجمع بين المسح والغسل، لا الاكتفاء بالغسل.

2- ما روي عن علي- عليه السّلام- من أنّه كان يقضي بين الناس فقال:

«وأرجلكم) هذا من المقدّم والمؤخّر في الكلام فكأنّه سبحانه قال:

(فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق واغسلوا أرجلكم وامسحوا برؤوسكم)».

لكنّه يرد بأنّ: أئمّة أهل البيت كالباقر والصادق- عليهم السّلام- أدرى بما في البيت، وهما اتّفقا على المسح، وهل يمكن الاتّفاق على المسح مع اعتقاد كبيرهم بالغسل؟! إنّ المؤكد هو أنّ هذه الرواية موضوعة عن لسان الإمام ليثيروا الشك بين أتباعه وشيعته. ولا نعلّق على احتمال التقديم


1- مفاتيح الغيب 11/ 162.
2- قال سبحانه حاكياً عن سليمان: رُدُّوهَا عَلَىَّ فَطَفِقَ مَسْحَا بِالسُّوقِ وَ الْأَعْنَاقِ- ص/ 33- أي مسح بيده على سوق الصافنات الجياد وأعناقها.

ص: 163

والتأخير شيئاً، سوى أنّه يجعل معنى الآية شيئاً مبهماً في المورد الذي يطلب فيه الوضوح، إذ هي المرجع للقروي والبدوي، وللحاضر عصر النزول، والغائب عنه، فيجب أن يكون على نسق ينتقل منه إلى المراد، ثمّ إنّه أيّ ضرورة اقتضت هذا التقدّيم والتأخير، مع إنّه كان من الممكن ذكر الأرجل بعد الأيدي من دون تأخير؟ ولو كان الدافع إلى التأخير هو بيان الترتيب، وإنّ غسل الأرجل بعد مسح الرأس، فكان من الممكن أن يُذكر فعله ويقال: (فامسحوا برؤوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين). كلّ ذلك يعرب عن أنَّ هذه محاولات فاشلة لتصحيح الاجتهاد تجاه النص وما عليه أئمّة أهل البيت من الاتّفاق على المسح.

3- ما روي عن ابن عمر في الصحيحين قال: تخلّف عنّا رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله وسلّم) في سفره، فأدركنا وقد أرهقنا العصر، وجعلنا نتوضّأ ونمسح على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار»- مرتين أو ثلاث-(1) .

ويرد هذا الاستدلال: أنّ هذه الرواية على تعيّن المسح أدلّ من دلالته على غسل الرجلين، فإنّها صريحة في أنّ الصحابة يمسحون، وهذا دلل على أنَّ المعروف عندهم هو المسح، وماذكره البخاري من أنّ الانكار عليهم كان بسبب المسح لا بسبب الاقتصار على بعض الرجل، اجتهاد منه، وهو حجّة عليه لا على غيره، فكيف يمكن أن يخفى على ابن عمر حكم الرجلين حتى يمسح رجليه عدّة سنين إلى أن ينكر عليه النبيّ المسح؟!

على أنّ للرواية معنى آخر تؤيّده بعض المأثورات، فقد روي: أنّ قوماً


1- صحيح البخاري ج 1 كتاب العلم ص 18 باب من رفع صوته، الحديث 1.

ص: 164

من أجلاف العرب، كانوا يبولون وهم قيام، فيتشرشر البول على أعقابهم وأرجلهم فلايغسلونها ويدخلون المسجد للصلاة، وكان ذلك سبباً لذلك الوعيد (1)ويؤيّد ذلك ما يوصف به بعض الأعراب بقولهم:

بوّال على عقبيه، وعلى فرض كون المراد ما ذكره البخاري، فلا تقاوم الرواية نص الكتاب.

4- روى ابن ماجة القزويني عن أبي إسحاق عن أبي حيّة، قال: رأيت عليّاً توضّأ فغسل قدميه إلى الكعبين ثمّ قال: «أردت أن أُريكم طهور نبيّكم»(2) .

إلّا أنّه يلاحظ عليه: أنّ أبا حيّة مجهول لايعرف، ونقله عنه أبو إسحاق الذي شاخ ونسى واختلط وترك النّاس روايته (3)أضف إليه أنّه يعارض ما رواه عنه أهل بيته، وأئمّة أهل بيته، خصوصاً من لازمه في حياته وهو ابن عباس كما مرّ.

5- قال صاحب المنار: وأقوى الحجج اللفظية على الإمامية جعل الكعبين غاية طهارة الرجلين، وهذا لا يحصل إلّا باستيعابهما بالماء، لأنّ الكعبين هما العظمنا الناتئان في جانبي الرجل.

وهذا القول يلاحظ عليه: أنّا نفترض أنّ المراد من الكعبين هو ما ذكره، لكنّا نسأله: لماذا لا تحصل تلك الغاية إلّا باستيعابها بالماء؟ مع أنّه يمكن تحصيل تلك الغاية بمسحهما بالنداوة المتبقية في اليد، والاختبار سهل، فها نحن من الذين يمسحون الأرجل إلى العظمين الناتئين بنداوة اليد ولا نرى في العمل اعضالًا وعسراً.


1- مجمع البيان 2/ 167.
2- سنن ابن ماجة 1/ 170 باب ما جاء في غسل القدمين الحديث الأوّل.
3- لاحظ التعليقة لسنن ابن ماجة 170 وميزان الاعتدال للذهبي 4/ 519، برقم 10138 وص 489 باب «أبوإسحاق».

ص: 165

6- وقال: إنّ الإمامية يمسحون ظاهر القدم إلى معتقد الشراك عند المفصل بين الساق والقدم، ويقولون هو الكعب، ففي الرجل كعب واحد على رأيهم، فلو صحّ هذا لقال: إلى الكعاب كما قال في اليدين:

«إلى المرافق) (1) أقول: إنّ المشهور بين الإمامية هو تفسير الكعب بقبّة القدم التي هي معتقد الشراك، وهناك من يذهب إلى أنّ المراد هو المفصل بين الساق والقدم، وذهب قليل منهم إلى أنّ المراد هما العظمان الناتئان في جانبي الرجل. وعلى كلّ تقدير، يصح اطلاق الكعبين، وإن كان حدّ المسح هو معقد الشراك أو المفصل، فيكون المعنى: (فامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين منكم) إذ لا شك أنّ كلّ مكلّف يملك كعبين في رجليه.

أضف إلى ذلك: أنّه لو صحّ التفسير بما ذكره فإنّه يجب أن يوسع الممسوح ويحدّد بالعظمين الناتئين لا أن يبدّل المسح بالغسل، وكأنّه تخيّل أنّ المسح بالنداوة المتبقّية في اليد لا يتحقّق بها، وإن تجف إليد قبل الوصول إليهما.

ولعمري أنّ هذه اجتهادات واهية، وتخرّصات لا قيمة لها في مقابل الذكر الحكيم.

7- آخر ما عند صاحب المنار في توجيه غسل الأرجل هو التمسّك بالمصالح، حيث قال: لا يعقل لإيجاب مسح ظاهر القدم باليد المبلّلة بالماء حكمة، بل هو خلاف حكمة الوضوء، لأنّ طروء الرطوبة القليلة على العضو الذي عليه غبار أو وسخ يزيده وساخة، وينال اليد الماسحة حظ من هذه الوساخة.


1- المنار 6/ 234.

ص: 166

وهذا القول يرده: أنّ ما ذكره استحسان لا يُعرَّج عليه مع وجود النص، فلا شك أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح الواقعية ولا يجب علينا أن نقف عليها، فأي مصلحة في المسح على الرأس ولو بمقدار اصبع أو اصبعين حتى قال الشافعى: إذا مسح الرجل باصبع واحدة أو بعض اصبع أو باطن كفه، أو أمر مَن يمسح له أجزأه ذلك؟!

وهناك كلمة قيّمة للإمام شرف الدين الموسوي نأتي بنصها، قال- رحمه اللَّه-: نحن نؤمن بأنّ الشارع المقدّس لاحظ عباده في كل ما كلّفهم به من أحكامه الشرعية، فلم يأمرهم إلّا بما فيه مصلحتهم، ولم ينهم إلّا عمّا فيه مفسدة لهم، لكنّه مع ذلك لم يجعل شيئاً من مدارك تلك الأحكام منوطاً من حيث المصالح والمفاسد بآراء العباد، بل تعبّدهم بأدلّة قويّة عيّنها لهم، فلم يجعل لهم مندوحة عنها إلى ما سواها. وأوّل تلك الأدلة الحكيمة كتاب اللَّه عزّوجلّ، وقد حكم بمسح الرؤوس والأرجل في الوضوء، فلا مندوحة عن البخوع لحكمه، أمّا نقاء الأرجل من الدنس فلابدّ من احرازه قبل المسح عليها عملًا بأدلّة خاصّة دلّت على اشتراط الطهارة في أعضاء الوضوء قبل الشروع فيه (1) ولعلّ غسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم رجليه- المدعى في أخبار الغسل- إنّما كان من هذا الباب ولعلّه كان من باب التبرّد، أو كان من باب المبالغة في النظافة بعد الفراغ من الوضوء. واللَّه أعلم. (2)


1- ولذاترى حفاة الشيعة والعمال منهم- كأهل الحرث وأمثالهم وسائر من لايبالون بطهارة أرجلهم في غير أوقات العبادة المشروطة بالطهارة- إذا أرادوا الوضوء غسلوا أرجلهم ثم توضّأو فمسحوا عليها نقيّة جافّة.
2- مسائل فقهية 82.

ص: 167

المسألة التاسعة: الشيعة الإمامية و الصحابة

اشارة

صحابة النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم هم المسلمون الأوائل الذين رأوا النبي الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وتشرّفوا بكرامة الصحبة، وتحملوا جانباً مهماً في عملية نشر الدعوة الإسلامية، وبذل لفيف منهم النفس والنفيس في نشر الإسلام، حتى امتدّ إلى أقاصي المعمورة فأقاموا أُسسه، وشادوا بنيانه، ورفعوا قواعده بجهادهم المتواصل، وبلغوا ذروة المجد باستسهال المصاعب، فلولا بريق سيوفهم، وقوّة سواعدهم، وخوضهم عباب المنايا، لما قام للدين عمود، ولا اخضرّ له عود.

ولما كان الكتاب والسنّة هما المصدران الرئيسيان عند المسلمين جميعاً، والشيعة منهم، وبهدى نورهما يسترشد في استشراف الحقائق الثابتة التي لا غبار عليها، فإنّ التأمل في هذين المصدرين الغدقين يبين مدى فضل أُولئك ومنزلتهم في الإسلام.

ولعلّ المتأمل في الكتاب والسنّة يجد مدى ما يحفى به الصحابة الصادقون من ثناء وتكريم، ومن تلى آيات الذكر الحكيم حول المهاجرين والذين اتّبعوهم بإحسان، لا يملك نفسه إلّا أن يغبط منزلتهم وعلو شأنهم،

ص: 168

بل ويتمنّى من صميم قلبه أن يكون أحدهم ويدرك شأنهم، ومن استمع للآيات النازلة في الذين بايعوا رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم تحت الشجرة أو أصحاب سورة الفتح (1) فلا بد أن تفيض عيناه دمعاً ويرتعش قلبه شوقاً نحو تلك الثلة المؤمنة التي صدقت ما عاهدت اللَّه عليه ورسوله صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم.

فإذا كان هذا حال الصحابة في الذكر الحكيم فكيف يتجرّأ مسلم على تكفير الصحابة ورميهم بالردّة والزندقة أو تفسيقهم جميعاً. (سبحانك هذا بهتان عظيم).

وكيف يستطيع أن يصوّر دعوة النبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم ضئيلة الفائدة أو يتهمه بعدم النجاح في هداية قومه وارشاد أُمّته، وانّه لم يؤمن به إلّا شرذمة قليلة لا يتجاوزن عدد الأصابع، وانّ ما سواهم كانوا بين منافق ستر كفره بالتظاهر بالإيمان، أو مرتدّ على عقبيه القهقرى بعد رحلة النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم.

كيف يجوز لمسلم أن يصف دعوته ويقول: انّه لم يهتد ولم يثبت على الإسلام بعد مرور (23) عاماً من الدعوة إلّا ثلاثة أو سبعة أو عشرة.

إنّ هذا ليس إلّا هراء وكذب رخيص لا تقبله العقول.

والأنكى من ذلك كله أن يُرمى الشيعة بهذا التقوّل الممجوج، وأن تجد من يصدّق ذلك ويرتب على أساسه مواقف وآراء إنّا نسأل أُولئك عن هذا فنقول لهم: أي شيعي واع ادّعى ذلك؟ ومتى قال؟ وأين ذكره؟

إنّ الشيعة بريئة من هذه التخرصات، وما هذه الحكايات السقيمة إلّا جزءاً من الدعايات الفارغة ضدّ الشيعة والتي أثارها الأمويّون في أعصارهم، ليسقطوا الشيعة من عيون المسلمين، وتلقّفتها أقلام المستأجرين لتمزيق


1- أُنظر قوله تعالى في سورة الفتح الآية 18 و 29، ففيهما اشارة واضحة إلى ما تحدثنا عنه.

ص: 169

الوحدة الإسلامية، وفصم عرى الاخوّة. وترى تلك الفرية في هذه الأيام في كتيّب نشره الكاتب أبو الحسن الندوي أسماه ب «صورتان متعارضتان». وهو يجترّ ذلك مرّة بعد أُخرى، وما يريد من ذلك إلّا زيادة الأُمّة فرقة وتمزيقاً.

نعم وردت روايات في ذلك، ولكنّها لا تكون مصدراً للعقيدة، ولا تتّخذ مقياساً لها لأنّها روايات آحاد لا تفيد علماً في مجال العقائد، وستوافيك دراسة متونها وأسانيدها.

إنّا لو أحصينا المهتدين في عصر الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم من بني هاشم لتجاوز عددهم العشرات، بدءاً من عمّه أبي طالب ومروراً بصفيّة عمّته، وفاطمة بنت أسد، وبحمزة والعباس وجعفر وعقيل وطالب وعبيدة بن الحارث «شهيد بدر» وأبي سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وجعدة بن أبي هبيرة وأولادهم وزوجاتهم، وانتهاءً بعلي- عليهالسّلام وأولاده وبناته وزوجته فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين.

أمّا الذين استشهدوا في عهد النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم فهم يتجاوزون المئات، ولا يشك أيّ مسلم في أنّهم كانوا مثال المؤمنين الصادقين الذين حوّلهم الإسلام وأثّر فيهم، فضربوا في حياتهم أروع الأمثلة في الإيمان والتوحيد والتضحية بالغالي والرخيص، خدمة للمبدأ و العقيدة. ولعلّ الاستعراض المتعجل لمجموع تلك الأسماء لا يملك إلّا أن يجزم بصحة ما ذهبنا إليه من القول بمكانة أُولئك الصحابة فابتداءً ب آل ياسر الذين كان رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم يقول لهم وهو يسمع أنينهم تحت سياط التعذيب: «صبراً آل ياسر إنّ موعدكم الجنّة» (1)، و مروراً بمن توفّي في مهجر الحبشة وشهداء


1- السيرة النبوية لابن هشام 1/ 320 طبعة الحلبي.

ص: 170

بدر وأُحد، وقد استشهد في معركة أُحد سبعون صحابياً كان رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم يزورهم ويسلّم عليهم، ثمّ شهداء سائر المعارك والغزوات، حتى قال النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم في حقّ سعد بن معاذ شهيد غزوة الخندق: «اهتزّ العرش لموته»، وشهداء بئر معونة والتي يتراوح عدد الشهداء بين 40 حسب رواية أنس بن مالك أو 70 حسب رواية غيره، إلى غير ذلك من الأصحاب الصادقين الأجلّاء الذين: (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِر وَما بَدَّلُوا تَبديلًا) (1)، (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكيلُ) (2)، (للفُقَراءِ المُهاجِرينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسولَهُ ... والَّذِينَ تَبَوّءو الدّارَ والإيمان مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيهِمْ ولا يَجِدُونَّ في صُدُورهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) (3).

أو ليست هذه الآيات تثبت نجاح النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم في دعوته، وانّه اجتمع حوله رجال صالحون ومخلصون، فكيف يمكن رمي مسلم يتلو الذكر الحكيم ليل نهار باعتقاده بخيبة النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم في دعوته وتهالكه في هداية أُمّته. إنّ الموقف الصحيح من الصحابة هو ما جاء في كلام الإمام أمير المؤمنين- عليهالسّلام:

«أين اخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحقّ؟ أين عمّار؟


1- الأحزاب/ 23.
2- آل عمران/ 173.
3- الحشر/ 8- 9.

ص: 171

أين ابن التيِّهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من اخوانهم الذين تعاقدوا على المنيّة وأُبرد برؤوسهم إلى الفجرة؟ اوّه على اخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه وتدبّروا الفرض فأقاموه. أحيوا السنّة وأماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه» (1).

وليس ما جاء في هذه الخطبة فريداً في كلامه، فقد وصف أصحاب رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم يوم صفّين، يوم فرض عليه الصلح بقوله:

«ولقد كنّا مع رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم نقتل آباءنا وأبناءنا واخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلّا إيماناً وتسليماً، ومضياً على اللقم وصبراً على مضض الألم، وجدّاً في جهاد العدوّ، ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرّة لنا من عدوّنا، ومرّة لعدوّنا منّا.

فلمّا رأى اللَّه صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت، وأنزل علينا النصر، حتى استقرّ الإسلام ملقياً جرانه ومتبوّئاً أوطانه، ولعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود، ولا اخضرّ للإيمان عود»(2) .

هذه كلمة الإمام علي بن أبي طالب- عليهالسّلام قائد الشيعة وإمامهم، أفهل يجوز لمن يؤمن بإمامته أن يكفّر جميع صحابة النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم أو يفسّقهم أو ينسبهم إلى الزندقة والالحاد أو الارتداد، من دون أن يقسّمهم إلى أقسام ويصنّفهم أصنافاً ويذكر تقاسيم القرآن والسنّة في حقّهم؟ كلّا ولا، وهذا هو الإمام علي بن الحسين يذكر في بعض أدعيته صحابة النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم ويقول: «اللّهمّ وأصحاب محمّد صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم خاصّة الذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته،


1- نهج البلاغة، الخطبة 182.
2- المصدر نفسه، الخطبة 56.

ص: 172

واستجابوا له حيث أسمعهم حجّة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في اظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوّته، وانتصروا به، ومن كانوا منطوين على محبّته، يرجون تجارة لن تبور في مودّته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلّقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظلّ قرابته، فلا تنس لهم اللّهمّ ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك، وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه، ومن كثرت في اعزاز دينك من مظلومهم.

اللّهمّ وأوصل إلى التابعين لهم باحسان الذين يقولون ربّنا اغفر لنا ولاخواننا ...»(1) .

فإذا كان الحال كذلك، واتّفق الشيعي والسنّي على اطراء الذكر الحكيم للصحابة والثناء عليهم، فما هو موضع الخلاف بين الطائفتين كي يعد ذلك من أعظم الخلاف بينهما؟

إنّ موضع الخلاف ليس إلّا في نقطة واحدة، وهي أنّ أهل السنّة يقولون بأنّ كل من رأى النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وعاشره ولو يوماً أو يومين فهو محكوم بالعدالة منذ اللقاء إلى يوم أُدرج في كفنه، ولو صدر منه قتل أو نهب أو زنا أو غير ذلك، محتجّين بما نسب إلى رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» وفي ذلك خلل كبير أعاذ اللَّه المسلمين منه، فالتاريخ بين أيدينا، وصفحاته خير شاهد على ما نقول، ونحن لا نقول كما قال الحسن البصري: طهّر اللَّهسيوفنا عن دمائهم فلنطهّر ألسنتنا، لأنّا لا نظن أنّ الحسن


1- الصحيفة السجادية، الدعاء 4.

ص: 173

البصري يعتقد بما قال بل إنّه تدرّع بهذه الكلمة وصان بها نفسه عن هجمات الأمويين الذين كانوا يروّجون عدالة الصحابة في جميع الأزمنة، بل يلبسونهم ثوب العصمة، إلى حدّ كان القدح بالصحابي أشدّ من القدح برسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم فنفي العصمة عن النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم واتهامه بالذنب قبل بعثه وبعده كان أمراً سهلًا يطرح بصورة عقيدة معقولة ولا يؤاخذ القائل به، وأمّا من نسب صغيرة أو كبيرة إلى صحابي فأهون ما يواجهونه به هو الاستتابة وإلّا فالقتل ...

فإذا كان هذا هو محلّ النزاع- أي عدالة الكل بلا استثناء أو تصنيفهم إلى مؤمن أو فاسق، ومثالي أو عادي، إلى زاهد أو متوغّل في حبّ الدنيا، إلى عالم بالشريعة وعامل بها أو جاهل لا يعرف منها إلّا شيئاً طفيفاً- فيجب تحليل المسألة على ضوء الكتاب والسنّة، مجرّدين عن كلّ رأي مسبق، لا يقودنا في ذلك إلّا الدليل الصحيح والحجّة الثابتة ولأجل اماطة الستر عن وجه الحقيقة نذكر أُموراً:

الصحابة في القرآن الكريم:

1- إنّ القرآن الكريم يصنّف الصحابة إلى أصناف مختلفة، فهو يتكلّم عن السابقين الأوّلين، والمبايعين تحت الشجرة، والمهاجرين المهجّرين عن ديارهم وأموالهم، وأصحاب الفتح، إلى غير ذلك من الأصناف المثالية، الذين يثني عليهم ويذكرهم بالفضل والفضيلة، وفي مقابل ذلك يذكر أصنافاً أُخرى يجب أن لا تغيب عن أذهاننا وتلك الأصناف هي التالية:

ص: 174

1- المنافقون المعروفون (1).

2- المنافقون المتستّرون الذين لا يعرفهم النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم (2).

3- ضعفاء الإيمان ومرضى القلوب (3) .

4- السمّاعون لأهل الفتنة (4).

5- المسلمون الذين خلطوا عملًا صالحاً وآخر سيئاً(5) .

6- المشرفون على الارتداد عندما دارت عليهم الدوائر(6) .

7- الفاسق أو الفسّاق الذين لا يصدق قولهم ولا فعلهم(7) .

8- المسلمون الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم (8).

9- المؤلّفة قلوبهم الذين يظهرون الإسلام ويتآلفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم (9) .

10- المولّون أمام الكفّار (10).


1- المنافقون/ 1.
2- التوبة/ 101.
3- الأحزاب/ 11.
4- التوبة/ 45- 47.
5- التوبة/ 102.
6- آل عمران/ 154.
7- الحجرات/ 6، السجدة/ 18.
8- الحجرات/ 14.
9- التوبة/ 60.
10- الأنفال/ 15- 16.

ص: 175

هذه الأصناف إذا انضمّت إلى الأصناف المتقدّمة، فإنّها تعرب عن أنّ صحابة النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم لم يكونوا على نمط واحد، بل كانوا مختلفين من حيث قوّة الإيمان وضعفه، والقيام بالوظائف والتخلّي عنها، فيجب اخضاعهم لميزان العدالة الذي توزن به أفعال جميع الناس، وعندئذ يتحقّق أنّ الصحبة لا تعطي لصاحبها منقبة إلّا إذا كان أهلًا لها، وتوضح بجلاء إنّ محاولة المساواة في الفضل بين جميع الصحابة أمر فيه مجافاة صريحة للحق وكلمة الصدق، وهذا ما ذهبت إليه الشيعة، وهو نفس النتيجة التي يخرج بها الانسان المتدبّر للقرآن الكريم.

2- إنّ الآيات التي تناولت المهاجرين والأنصار وغيرهم بالمدح والثناء، لا تدلّ على أكثر من أنّهم كانوا حين نزول القرآن مُثلًا للفضل والفضيلة ولكن الأُمور إنّما تعتبر بخواتيمها، فيحكم عليهم- بعد نزول الآيات- بالصلاح والفلاح إذا بقوا على ما كانوا عليه من الصفات، وأمّا لو ثبت عن طريق السنّة أو التاريخ الصحيح انّه صدر عن بعضهم ما لا تحمد عاقبته، فحينئذ لا مندوحة لنا إلّا الحكم بذلك، ولا يعد مثل ذلك معارضاً للقرآن الكريم، لأنّه ناظر إلى أحوالهم في ظروف خاصّة، لا في جميع فصول حياتهم، فليس علينا رفع اليد عن السنّة والتاريخ الصحيح بحجّة أنّ القرآن الكريم مدحهم، وأنّ اللَّه تعالى كان في وقت ما راضياً عنهم، لما عرفت من أنّ المقياس القاطع للقضاء هو دراسة جميع أحوالهم واخضاعها للقرآن والسنّة، فكم من مؤمن زلّ قدمه في الحياة، فعاد منافقاً، أو مرتداً، وكم من ضالّ شملته العناية الإلهية فبصر الطريق وصار رجلًا إلهياً.

وبالجملة: فمن ثبت عن طريق الدليل الصحيح انحرافه وزيغه عن الصراط المستقيم وشوب إيمانه بالظلم والعيث والفساد، فيؤخذ بما هو

ص: 176

الثابت في ذينك المصدرين، وأمّا من لم يثبت زيغه فلا نتكلّم في حقّه بشي ء سوى ما أمر اللَّه به سبحانه من طلب الرحمة لهم حيث قال:

(رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإخوانِنا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالإيمانِ) (1).

3- ومن سوء الحظ إنّ شرذمة قليلة من الصحابة زلّت أقدامهم وانحرفوا عن الطريق، فلا تمس دراسة أحوال هؤلاء القليلين، وتبيين مواقفهم، وانحرافهم عن الطريق المستقيم بكرامة الباقين، ولعلّ عدد المنحرفين (غير المنافقين) لا يتجاوز العشرة إلّا بقليل.

أفيسوغ في ميزان العدل رمي الشيعة بأنّهم يكفّرون الصحابة ويفسّقونهم بحجّة أنّهم يدرسون حياة عدّة قليلة منهم ويذكرون مساوئ أعمالهم، وما يؤاخذ عليهم على ضوء الكتاب والسنّة والتاريخ الصحيح.

وما نسب إلى الحسن البصري فهو أولى بالاعراض عنه، إذ لو كانت النجاة في ترك ذكرهم فلماذا اهتمّ ببيان أفعالهم وصفاتهم التاريخ المؤلّف بيد السلف الصالح الذين كانوا يحترمون الصحابة مثلما يحترمهم الخلف، فلو كان الحق ترك التكلّم فيهم واعذارهم بالاجتهاد، فلماذا وصف النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم بعضهم بالارتداد، كما رواه البخاري وغيره (2).

وإذا دار الأمر بين كون القرآن أو النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم أُسوة، أو الكلمة المأثورة عن الحسن البصري، فالأوّل هو المتعيّن، ويضرب بالثاني عرض الجدار.


1- الحشر/ 10.
2- صحيح البخاري 5/ 118- 119 في تفسير سورة النور.

ص: 177

الردّة بعد وفاة الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم:

بقيت هنا كلمة وهي: إذا كان موقف الشيعة وأئمّتهم من الصحابة ما ذكر آنفاً، فما معنى ما رواه أبو عمرو الكشي من أنّه ارتدّ الناس بعد رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم إلّا ثلاثة. إذ لو صحّ ما ذكر، وجب الالتزام بأنّ النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم لم ينجح في دعوته، ولم يتخرّج من مدرسته إلّا قلائل لا يعتد بهم في مقابل ما ضحّى به من النفس والنفيس.

والاجابة على هذا السؤال واضحة لمن تفحّص عنها سنداً ومتناً. فإنّ ما رواه لا يتجاوز السبع روايات. وهي بين ضعيف لا يعوّل عليه، وموثق- حسب اصطلاح علماء الإمامية في تصنيف الأحاديث- وصحيح قابلين للتأويل، ولا يدلان على الارتداد عن الدين، والخروج عن الإسلام بل يرميان إلى أمر آخر.

أمّا الضعيف فهو ما رواه الكشي عن حمدويه وإبراهيم أبناء نصير قال: حدثنا محمّد بن عثمان عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر- عليهالسّلام قال: «كان الناس أهل الردّة بعد النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم إلّا ثلاثة ...» (1).

وكفى في ضعفها وجود محمّد بن عثمان في سنده وهو من المجاهيل.

وما رواه أيضاً عن علي بن الحكم عن سيف بن عميرة عن أبي بكر الحضرمي قال: قال أبو جعفر- عليهالسّلام: «ارتدّ الناس إلّا ثلاثة نفر:

سلمان وأبو ذر والمقداد»(2) .


1- مع الشيعه الإماميه في عقائدهم
2- المصدر نفسه، 16 الحديث 13.

ص: 178

وكفى في ضعفها أنّ الكشي من أعلام القرن الرابع الهجري القمري، فلا يصح أن يروي عن علي بن الحكم، سواءً أكان المراد منه الأنباري الراوي عن ابن عمير المتوفّى عام 217 أو كان المراد الزبيري الذي عدّه الشيخ من أصحاب الرضا- عليهالسّلام المتوفّى عام 203.

وما نقله أيضاً عن حمدويه بن نصير قال: حدثني محمّد بن عيسى ومحمّد بن مسعود قال: حدثنا جبرئيل بن أحمد. قال: حدثنا محمّد بن عيسى عن النضر بن سويد عن محمّد بن البشير عمّن حدثه قال: ما بقى أحد إلّا وقد جال جولة إلّا المقداد بن الأسود فإنّ قلبه كان مثل زبر الحديد(1) .

والرواية ضعيفة بجبرئيل بن أحمد فإنّه مجهول كما أنّها مرسلة في آخرها.

وأمّا الروايات الباقية فالموثق عبارة عمّا ورد في سنده علي بن الحسن الفضال، والثلاثة الباقية صحيحة، ومن أراد الوقوف على اسنادها ومتونها فليرجع إلى رجال الكشي (2) .

ومع ذلك كلّه فإنّ هذه الروايات لا يحتج بها أبداً لجهات عديدة نشير إلى بعض منها:

1- كيف يمكن أن يقال إنّه ارتدّ الناس بعد رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم ولم يبق إلّا ثلاثة تمسّكوا بولاية علي ولم يعدلوا عنها، مع أنّ ابن قتيبة والطبري رويا انّ جماعة من بني هاشم وغيرهم تحصَّنوا في بيت علي معترضين على ما آل إليه أمر السقيفة. ولم يتركوا بيت الإمام إلّا بعد التهديد والوعيد وإضرام النار أمام البيت. وهذا يدل على أنّه كان هناك جماعة مخلصين بقوا أوفياء


1- رجال الكشي، 16 الحديث 11.
2- المصدر نفسه، 13 الحديث 3 و 4 و 6 و 7.

ص: 179

لما تعهّدوا به في حياة النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وإليك نصّ التاريخ. قال ابن قتيبة:

إنّ بني هاشم اجتمعت عند بيعة الأنصار إلى علي بن أبي طالب، ومعهم الزبير بن العوام- رضى اللَّه عنه- (1).

وقال في موضع آخر: إنّ أبا بكر- رضى اللَّه عنه- تفقّد قوماً تخلَّفوا عن بيعته عند علي- كرّم اللَّه وجهه- فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم وهم في دار علي، فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها، فقيل له: يا أبا حفص انّ فيها فاطمة، فقال: وإن ... .(2)

و روى الطبري: قال: أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال: واللَّه لُاحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة. فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه (3) .

وقال ابن الواضح الأخباري: وتخلّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب، منهم: العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام بن العاص، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمّار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأُبي بن كعب. فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة فقال: ما الرأي؟ قالوا:

الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب فتجعل له في هذا الأمر نصيباً .... (4)


1- الإمامة والسياسة 1/ 10- 12.
2- المصدر نفسه.
3- تاريخ الطبري 2/ 442.
4- تاريخ اليعقوبي 2/ 124.

ص: 180

كل ذلك يشهد على أنّه كان هناك امّة بقوا على ما كانوا عليه، في عصر الرسول الأعظم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم، ولم يغترّوا بانثيال الأكثرية إلى غير من كان الحق يدور مداره. وكيف يمكن ادّعاء الردّة لعامة الصحابة إلّا القليل.

2- كيف يمكن أن يقال: ارتدّ الناس إلّا ثلاثة مع أنّ الصدوق- رضي اللَّه عنه- ذكر عدّة من المنكرين للخلافة في أوائل الأمر وقد بلغ عددهم اثنا عشر رجلًا من المهاجرين والأنصار وهم: خالد بن سعيد بن العاص، والمقداد بن الأسود، وابي بن كعب، وعمّار بن ياسر، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وعبد اللَّه بن مسعود، وبريدة الأسلمي، وخزيمة ابن ثابت ذو الشهادتين، وسهل بن حنيف، وأبو أيّوب الأنصاري، وأبو هيثم ابن التيهان وغيرهم.

ثمّ ذكر اعتراضاتهم على مسألة الخلافة واحداً بعد واحد(1) .

3- إنّ وجود الاضطراب والاختلاف في عدد من استثناهم الإمام يورث الشك في صحّتها، ففي بعضها «إلّا ثلاثة» وفي البعض الآخر «إلّا سبعة» وفي ثالث «إلّا ستة» فإنّ التعارض وإن كان يمكن رفعه بالحمل على اختلافهم في درجات الإيمان غير أنّه على كلّ تقدير يوهن الرواية.

4- كيف يمكن إنكار إيمان أعلام من الصحابة مع اتّفاق كلمة الشيعة والسنّة على علو شأنهم، كأمثال: بلال الحبشي، وحجر بن عدي، واويس القرني، ومالك بن نويرة المقتول ظلماً على يد خالد بن الوليد، وعباس بن عبد المطلب وابنه حبر الأُمّة وعشرات من أمثالهم، وقد عرفت أسماء المتخلّفين عن بيعة أبي بكر في كلام اليعقوبي، أضف إلى ذلك انّ رجال البيت الهاشمي كانوا على خطّ الإمام ولم يتخلّفوا عنه، وإنّما غمدوا


1- الخصال، الشيخ الصدوق أبواب الاثنى عشر 461- 465.

ص: 181

سيوفهم اقتداءً بالإمام لمصلحة عالية ذكرها في بعض كلماته(1) .

وأقصى ما يمكن أن يقال في حقّ هذه الروايات هو أنّه ليس المراد من الارتداد الكفر والضلال والرجوع إلى الجاهلية، وإنّما المراد عدم الوفاء بالعهد الذي اخذ منهم في غير واحد من المواقف وأهمّها غديرخم. ويؤيّد ذلك:

ما رواه وهب بن حفص، عن أبي بصير، عن أبي جعفر- عليه السلام-: «جاء المهاجرون والأنصار وغيرهم بعد ذلك (2) إلى علي- عليه السلام- فقالوا له: أنت واللَّه أمير المؤمنين وأنت واللَّه أحقّ الناس وأولاهم بالنبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم هلمّ يدك نبايعك فواللَّه لنموتنّ قدامك.

فقال علي- عليه السلام-: إن كنتم صادقين فاغدوا غداً عليّ محلقين.

فحلق أميرالمؤمنين وحلق سلمان وحلق مقداد وحلق أبو ذر ولم يحلق غيرهم (3) .

وهذه الرواية قرينة واضحة على أنّ المراد هو نصرة الإمام- عليه السلام- لأخذ الحق المغتصب، فيكون المراد من الردّة هو عدم القتال معه.

و ممّا يؤيّد ذلك أيضاً الرواية التي جاء فيها انّ قلب المقداد بن الأسود كزبر الحديد، فهي وإن كانت ضعيفة السند لكن فيها إشعار على ذلك، لأنّ وصف قلب المقداد إشارة إلى ارادته القويّة وثباته في سبيل استرداد الخلافة.

و ظنّي أنّ هذه الروايات صدرت من الغلاة والحشوية دعماً لأمر الولاية وتغابناً في الإخلاص، غافلين عن أنّها تضاد القرآن الكريم، وما روي عن أميرالمؤمنين وحفيده سيد الساجدين، من الثناء والمدح لعدّة من


1- نهج البلاغة، قسم الرسائل، برقم 62.
2- أي بعد بيعة أبي بكر.
3- لاحظ الرجال الكشي 14 الحديث 7 من هذا الباب.

ص: 182

الصحابة. وهناك كلمة قيّمة للعلّامة السيد محسن الأمين العاملي نذكر نصّه وهو يمثّل عقيدة الشيعة فقال:

وقالت الشيعة حكم الصحابة في العدالة حكم غيرهم، ولا يتحتّم الحكم بها بمجرّد الصحبة وهي لقاء النبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم مؤمناً به ومات على الإسلام. وإنّ ذلك ليس كافياً في ثبوت العدالة بعد الاتّفاق على عدم العصمة المانعة من صدور الذنب، فمن علمنا عدالته حكمنا بها وقبلنا روايته، ولزمنا له من التعظيم والتوقير، بسبب شرف الصحبة ونصرة الإسلام والجهاد في سبيل اللَّه ما هو أهله، ومن علمنا منه خلاف ذلك لم تقبل روايته، أمثال مروان بن الحكم، والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة، وبسر بن أرطاة وبعض بني اميّة وأعوانهم، ومن جهلنا حاله في العدالة توقّفنا في قبول روايته.

وممّا يمكن أن يذكر في المقام أنّ النبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم توفّي ومن رآه وسمع عنه يتجاوز مائة ألف انسان من رجل وامرأة على ما حكاه ابن حجر في الإصابة عن أبي زرعة الرازي: «وقيل مات صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم عن مائة وأربعة عشر ألف صحابي» ومن الممتنع عادة أن يكون هذا العدد في كثرته وتفرّق أهوائه وكون النفوس البشرية مطبوعة على حبّ الشهوات كلّهم قد حصلت لهم ملكة التقوى المانعة عن صدور الكبائر، والإصرار على الصغائر بمجرّد رؤية النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم والإيمان به، ونحن نعلم أنّ منهم من أسلم طوعاً ورغبة في الإسلام، ومنهم من أسلم خوفاً وكرهاً، ومنهم المؤلّفة قلوبهم، وما كانت هذه الأُمّة إلّا كغيرها من الأُمم التي جبلت على حبّ الشهوات وخلقت فيها الطبائع القائدة إلى ذلك إن لم يردع رادع والكل من بني آدم، وقد صحّ عنه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم انّه قال: «لتسلكنّ سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة حتى لو دخل أحدهم جحر ضب لدخلتموه». ولو منعت رؤية النبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم من وقوع الذنب لمنعت من الارتداد الذي حصل من جماعة منهم كعبد اللَّه بن

ص: 183

جحش، وعبيد اللَّه بن خطل، وربيعة بن أُمية بن خلف والأشعث بن قيس (1) وغيرهم. هذا مع ما شوهد من صدور امور من بعضهم لاتتّفق مع العدالة، كالخروج على أئمّة العدل، وشق عصا المسلمين، وقتل النفوس المحترمة، وسلب الأموال المعصومة، والسب والشتم وحرب المسلمين وغشهم، والقاح الفتن والرغبة في الدنيا، والتزاحم على الإمارة والرئاسة وغير ذلك ممّا تكفّلت به كتب الآثار والتواريخ وملى ء الخافقين. وأعمال مروان بن الحكم في خلافة عثمان معلومة مشهورة، وكذلك بسر بن أرطاة والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة، وكلّهم من الصحابة(2) .

وحصيلة البحث: انّ موضع الاختلاف، ومصبّ النزاع ليس إلّا كون عدالة الصحابة قضية كلّية أو جزئيّة، فالسنّة على الأُولى والشيعة على الثانية، وأمّا ما سواها من سبّ الصحابة ولعنهم، أو ارتدادهم عن الدين بعد رحلة الرسول، أو عدم حجية رواياتهم على وجه الإطلاق فإنّها تُهمٌ اموية ناصبية، اتّهم بها شيعة آل محمّد صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وهم براء منها. ونعم الحكم اللَّه. فالشيعة يعطون لكل ذي حقّ حقّه، فيأخذون معالم دينهم عن ثقاة الصحابة، ولا يتكلّمون في حقّ من لم يتعرّفوا على حاله، ويحكمون على القسم الثالث على ضوء الكتاب والسنّة.

إنّ هناك رجالًا من السلف لا يسوغ لمنصف يمتلك مقياساً شرعياً سليماً أن يذهب إلى جواز حبّهم أو الترحّم عليهم، لأنّ في ذلك خروجاً


1- الثلاثة الأوّلون ارتدّوا وماتوا على الردّة، والأشعث ارتدّ فأُتي به إلى الخليفة أبي بكر أسيراً فعادإلى الإسلام وزوّجه اخته، وكانت عوراء، فأولدها محمّداً أحد قتلة الحسين- عليه السّلام-.
2- الأمين: أعيان الشيعة 1/ 113- 114.

ص: 184

صارخاً عن أبسط المقاييس والموازين الشرعية، ومن هؤلاء:

1- معاوية بن أبي سفيان- ويكفي في حقّه إيراد ما ذكره الجاحظ في رسالته في بني أُمية والآثام التي اقترفوها-: استوى معاوية على الملك، واستبدَّ على بقيّة أهل الشورى، وعلى جماعة المسلمين من المهاجرين والأنصار في العام الذي سمّوه عام الجماعة، وما كان عام جماعة، بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة، والعام الذي تحوّلت فيه الإمامة ملكاً كسروياً، والخلافة غصباً قيصرياً، ثمّ مازالت معاصيه من جنس ما حكيناه، وعلى منازل ما رتّبناه، حتى ردّ قضية رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم ردّاً مكشوفاً وجحد حكمه جحداً ظاهراً (1)، فخرج بذلك من حكم الفجّار إلى حكم الكفّار.

أو ليس قتل حجر بن عدي، وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر، وبيعة يزيد الخليع، والاستئثار بالفي ء، واختيار الولاة على الهوى، وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة، من جنس الأحكام المنصوصة والشرائع المشهورة، والسنن المنصوبة، وسواء جحد الكتاب، وردّ السنّة إذا كانت في شهرة الكتاب وظهوره، إلّا أنّ أحدهما أعظم وعقاب الآخرة عليه أشد (2).

وقد أربت نابتة عصرنا ومبدعة دهرنا فقالت: لا تسبّوه فإنّ له صحبة وسبّ معاوية بدعة، ومن بغضه فقد خالف السنّة، فزعمت أنّ من السنّة ترك البراءة ممّن جحد السنّة (3).

2- عمرو بن العاص، الذي ألَّب على عثمان وسرّ بقتله، ثم اجتمع مع معاوية يطالب بدمه علي بن أبي طالب- عليه السلام- الذي كان من أشدّ


1- إشارة إلى استلحاق زياد بن أبيه وليد فراش غير أبي سفيان.
2- أي ردّ السنّة مثل ردّ الكتاب إذا بلغت السنّة في الشهرة، شهرة الكتاب.
3- الجاظ: رسائل الجاحظ 294 طبع مصر.

ص: 185

المدافعين عنه، وأعطفهم عليه يوم أمر طلحة بمنع الماء عنه وتعجيل قتله. كل ذلك كان من ابن العاص حبّاً بخراج مصر، لا بعثمان ولا بمعاوية أيضاً، والعجب أنّ الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم تنبّأ بذلك وصرّح بأنّهما لا يجتمعان إلّا على غدر (1).

3- يزيد الخليع المستهتر خليفة معاوية الذي ولّي ثلاث سنين بعده، فقتل في الأُولى الحسين، وفي الثانية أغار على المدينة وقتل من الصحابة والتابعين ما لا يحصى وأباح أعراضهم، وفي الثالثة رمى الكعبة (2)، وكفى في كفره وإلحاده جهره بقول ابن الزبعرى:

لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل

4- مروان بن الحكم، الذي كان من أشدّ الناس بغضاً لأهل البيت. قال ابن حجر: ومن أشدّ الناس بغضاً لأهل البيت مروان بن الحكم (3).

روى الحاكم: أنّ عبد الرحمن بن عوف- رضى اللَّه عنه- قال: كان لا يولد لأحد بالمدينة ولد إلّا اتي به النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم، فادخل عليه مروان بن الحكم، فقال: «هو وزغ بن الوزغ، الملعون بن الملعون»(4) .

5- الوليد بن عقبة شارب الخمر، والزائد في الفريضة (5).

6- وعبد اللَّه سعد بن أبي سرح الذي أهدر النبي دمه (6).


1- ابن حجر، تطهير الجنان 102: المطبوع على هامش الصواعق المحرقة.
2- ابن الجوزي: تذكرة الخواص، فصل يزيد بن معاوية 257.
3- ابن حجر: الصواعق المحرقة.
4- الحاكم: المستدرك 4/ 479.
5- البلاذري: الانساب 5/ 33 وأحمد بن حنبل: المسند 1/ 144.
6- الطبري: التاريخ، الجزء 3/ 295، فصل: ذكر الخبر عن فتح.

ص: 186

7- الوليد بن يزيد بن عبد الملك، الذي يخاطب كتاب اللَّه العزيز بعد أن ألقاه ورماه بالسهام بقوله:

تهدّدني بجبار عنيد

فها أنا ذاك جبّار عنيد

إذا ما جئت ربّك يوم حشر

فقل يا ربّ مزّقني الوليد (1) و يقول السيوطي: إنّ الوليد هذا كان فاسقاً خميراً لوّاطا راود أخاه سليمان عن نفسه ونكح زوجات أبيه (2).

هؤلاء وأضرابهم هم الذين تتبرّأ الشيعة منهم وتحكم عليهم بما حكم اللَّه به عليهم. أفيصح تكفير الشيعة وتفسيقهم لأجل سبّ هؤلاء والتبرّي منهم؟! إنّ أعمال هؤلاء يندى لها جبين الانسانية ولا يمكن أن تغضي عنها، فياللَّه، أمن الانصاف أن تتّهم الشيعة بالانحراف والخروج عن الدين لأنّها تدين هؤلاء وتلعنهم واللَّه تعالى لعن أقواماً كثيرين في كتابه الحكيم وكذلك رسوله صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم؟ ولعلّ أعمال أُولئك لو وزنت بأعمال هؤلاء لما رجحت عليها.


1- ابن الأثير: الكامل في التاريخ 5/ 107.
2- جلال الدين السيوطي: تاريخ الخلفاء 97.

ص: 187

المسألة العاشرة: السجود على الأرض

اشارة

لعلّ من أوضح مظاهر العبودية والانقياد والتذلّل من قبل المخلوق لخالقه، هو السجود، وبه يؤكد المؤمن عبوديته المؤكّدة للَّه تعالى، ومن هنا فانّ البارى ء عزّ اسمه يقدّر لعبده هذا التصاغر وهذه الطاعة فيضفي على الساجد فيض لطفه وعظيم إحسانه، لذا روي في بعض المأثورات «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده».

ولمّا كانت الصلاة من بين العبادات معراجاً يتميّز بها المؤمن عن الكافر، وكان السجود ركناً من أركانها، فليس هناك أوضح في إعلام التذلّل للَّه تعالى من السجود على التراب والرمل والحجر والحصى، لما فيه من تذلّل أوضح وأبين من السجود على الحصر والبواري، فضلًا عن السجود على الألبسة الفاخرة والفرش الوثيرة والذهب والفضّة، وإن كان الكلّ سجوداً، إلّا أنّ العبودية تتجلّى في الأوّل بما لاتتجلّى في غيره.

والإمامية ملتزمة بالسجدة على الأرض في حضرهم وسفرهم، ولايعدلون عنها إلّا ما أُنبت منها من الحصر والبواري بشرط أن لايؤكل ولا يلبس، ولايرون السجود على غيرهما صحيحاً في حال الصلاة أخذاً بالسنّة المتواترة عن النبيّ الأكرم (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) وأهل بيته وصحبه. وسيظهر- فى ثنايا

ص: 188

البحث- أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت، كانت هي السنّة بين الصحابة، وأنّ العدول عنها حدث في الأزمنة المتأخرة ولأجل توضيح المقام نقدّم أُموراً:

1- اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه:

اتّفق المسلمون على وجوب السجود في الصلاة في كلّ ركعة مرّتين، ولم يختلفوا في المسجود له، فإنّه هو اللَّه سبحانه الذي له يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً(1) وشعار كلّ مسلم قوله سبحانه:

(لَا تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَ لَالِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ) (2) وإنّما اختلفوا في شروط المسجود عليه- أعني ما يضع الساجد بجهته عليه- فالشيعة الإمامية تشترط على أن يكون المسجود عليه أرضاً أو ما ينبت منها غير مأكول ولا ملبوس كالحصر والبواري، وما أشبه ذلك. وخالفهم في ذلك غيرهم من المذاهب، وإليك نقل الآراء:

قال الشيخ الطوسي (3) وهو يبيّن آراء الفقهاء: لايجوز السجود إلّا على الأرض أو ما أنبتته الأرض ممّا لا يؤكل و لايلبس من قطن أو كتان مع الاختيار. وخالف جميع الفقهاء في ذلك وأجازوا السجود على القطن والكتان والشعر والصوف وغير ذلك- إلى أن قال-: لايجوز السجود على شي ء هو


1- إشارة إلى قوله سبحانه: (وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّموَ تِ وَ الْأَرْضِ طَوْعًا وَ كَرْهًاوَ ظِللُهُم بِالْغُدُوّ وَ الْأَصَالِ) (الرعد/ 15.
2- فصلت/ 37.
3- من أعلام الشيعة في القرن الخامس صاحب التصانيف والمؤلّفات ولد 385 ه وتوفّي عام 460 همن تلاميذ الشيخ المفيد 336- 413 ه، والسيّد الشريف المرتضى 355- 436 ه- رضى اللَّه عنهما-.

ص: 189

حامل له ككور العمامة، وطرف الرداء، وكم القميص، وبه قال الشافعي، وروي ذلك عن علي- عليه الصلاة والسلام- وابن عمر، وعبادة بن الصامت، ومالك، وأحمد بن حنبل.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا سجد على ما هو حامل له كالثياب التي عليه أجزأه.

وإن سجد على ما لاينفصل منه مثل أن يفترش يده ويسجد عليها أجزأه لكنّه مكروه، وروي ذلك عن الحسن البصري (1).

وقال العلامة الحلّي(2) - وهو يبيّن آراء الفقهاء فيما يسجد عليه-: لا يجوز السجود على ما ليس بأرض ولا من نباتها كالجلود والصوف عند علماءنا أجمع، وأطبق الجمهور على الجواز.

وقد اقتفت الشيعة في ذلك أئمتهم الذين هم أعدال الكتاب وقرناؤه في حديث الثقلين ونحن نكتفي هنا بإيراد جانباً ممّا روي في هذا الجانب:

روى الصدوق باسناده عن هشام بن الحكم أنّه قال لأبي عبداللَّه- عليه السّلام-: أخبرني عمّا يجوز السجود عليه، وعمّا لايجوز؟ قال:

«السجود لايجوز إلّا على الأرض، أو على ما أنبتت الأرض إلّا ما اكل أو لبس». فقال له: جعلت فداك ما العلّة في ذلك؟

قال: لأنّ السجود خضوع للَّه عزّ وجلّ فلاينبغي أن يكون على ما يؤكل ويلبس، لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده في عبادة اللَّه عزّ وجلّ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على


1- الخلاف 1 كتاب الصلاة، المسألة 112- 113/ 357- 358.
2- الحسن بن يوسف بن المهطر الحلّي 648- 726 ه وهو زعيم الشيعة في القرن السابع، لايمسح الدهر بمثله إلّا في فترات خاصة.

ص: 190

معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا لغرورها» (1) فلا عتب على الشيعة إذا التزموا بالسجود على الأرض أو ما أنبتته إذ لم يكن مأكولًا ولا ملبوساً اقتداءً بأئمّتهم، على أنّ ما رواه أهل السنّة في المقام، يدعم نظريّة الشيعة، وسيظهر لك فيما سيأتي من سرد الأحاديث من طرقهم، ويتّضح أنّ السنّة كانت هي السجود على الأرض، ثمّ جاءت الرخصة في الحصر والبواري فقط، ولم يثبت الترخيص الآخر بل ثبت المنع عنه كما سيوافيك.

2- الفرق بين المسجود له والمسجود عليه:

كثيراً ما يتصوّر أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت منها بدعة ويتخيّل الحجر المسجود عليه وثناً، وهؤلاء هم الذين لايفرّقون بين المسجود له، والمسجود عليه، ويزعمون أنّ الحجر أو التربة الموضوعة أمام المصلّي وثناً يعبده المصلّي بوضع الجبهة عليه. ولكن لا عتب على الشيعة إذا قصر فهم المخالف، ولم يفرّق بين الأمرين، وزعم المسجود عليه مسجوداً له، وقاس أمر الموحّد بأمر المشرك بحجّة المشاركة في الظاهر، فأخذ بالصور والظواهر، مع أنّ الملاك هو الأخذ بالبواطن والضمائر، فالوثن عن الوثني معبود ومسجود له يضعه أمامه ويركع ويسجد له، ولكن الموحّد الذي يريد أن يصليّ في إظهار العبودية إلى نهاية مراتبها، يخضع للَّه سبحانه ويسجده له، ويضع جبهته ووجهه على التراب والحجر والرمال والحصى، مظهراً بذلك


1- الوسائل 3 الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1، وهناك روايات بمضمونه. والكلّ يتضمّن أنّ الغاية من السجود التي هي التذلّل لا تحصل بالسجود على غيرها فلاحظ.

ص: 191

مساواته معها عند التقييم قائلًا: أين التراب وربّ الأرباب.

نعم: الساجد على التربة غير عابد لها، بل يتذلّل إلى ربّه بالسجود عليها، ومن توهّم عكس ذلك فهو من البلاهة بمكان، وسيؤدي إلى إرباك كلّ المصلين والحكم باشراكهم، فمن يسجد على الفرش والقماش وغيره لابدّ أن يكون عابداً لها على هذا المنوال فيا للعجب العجاب.

3- السنّة في السجود في عصر الرسول (صلّى اللَّه عليه و آله وسلّم) وبعده:

إنّ النبى الأكرم (صلّى اللَّه عليه و آله وسلّم) وصحبه كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض مدّة لا يستهان بها، متحمّلين شدّة الرمضاء، وغبار التراب، ورطوبة الطين، طيلة أعوام. ولم يسجد أحد يوم ذاك على الثوب وكور العمامة بل و لا على الحصر والبواري والخمر، وأقصى ما كان عندهم لرفع الأذى عن الجبهة، هو تبريد الحصى بأكفّهم ثمّ السجود عليها، وقد شكى بعضهم رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) من شدّة الحرّ، فلم يجبه، إذ لم يكن له أن يبدل الأمر الإلهي من تلقاء نفسه، إلى أن وردت الرخصة بالسجود على الخمر و الحصر، فوسع الأمر للمسلمين لكن في إطار محدود، وعلى ضوء هذا فقد مرّت في ذلك الوقت على المسلمين مرحلتان لا غير:

1- ما كان الواجب فيها على المسلمين السجود على الأرض بأنواعها المختلفة من التراب والرمل والحصى والطين، ولم تكن هناك أيّة رخصة.

2- المرحلة التي ورد فيها الرخصة بالسجود على نبال الأرض من الحصى والبواري والخمر، تسهيلًا للأمر، ورفعاً للحرج والمشقّة، ولم تكن هناك أيّة مرحلة أُخرى توسع الأمر للمسلمين أكثر من ذلك كما يدّعيه البعض، وإليك البيان:

ص: 192

المرحلة الأُولى: السجود على الأرض:

اشاره

1- روى الفريقان عن النبيّ الأكرم (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم): أنّه قال: «وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»(1) .

والمتبادر من الحديث أنّ كلّ جزء من الأرض مسجد وطهور يُسجد عليه ويُقصد لتيمّم، وعلى ذلك فالأرض تقصد للجهتين: لسجود تارةً، ولتيمّم اخرى.

وأمّا تفسير الرواية بأنّ العبادة والسجود للَّه سبحانه لا يختص بمكان دون مكان، بل الأرض كلّها مسجد للمسلمين بخلاف غيرهم حيث خصّوا العبادة بالبيع والكنائس، فهذا المعنى ليس مغايراً لما ذكرناه، فإنّه إذا كانت الأرض على وجه الإطلاق مسجداً للمصلّي فيكون لازمه كون الأرض كلّها صالحة لعبادة، فما ذكر معنى التزامي لما ذكرناه، ويعرب عن كونه المراد ذكر «طهوراً» بعد «مسجداً» وجعلهما مفعولين ل «جُعلت» والنتيجة هو توصيف الأرض بوصفين: كونه مسجداً وكونه طهوراً، وهذا هو الذي فهمه الجصاص وقال: إنّ ما جعله من الأرض مسجداً هو الذي جعله طهوراً (2)ومثله غيره من شرّاح الحديث.

تبريد الحصى للسجود عليها:

2- عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري: قال: كنت اصلّي مع النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم)


1- صحيح البخاري 9101 كتاب التيمّم الحديث 2 وسنن البيهقي 2/ 433 باب: أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد، ورواه غيرهما من أصحاب الصحاح والسنن.
2- أحكام القرآن للجصاص 2/ 389 نشر بيروت.

ص: 193

الظهر، فآخذ قبضة من الحصي، فأجعلها في كفّي ثمّ احوّلها إلى الكف الأُخرى حتى تبرد ثمّ أضعها لجبيني، حتّى أسجد عليها من شدّة الحرّ (1).

وعلّق عليه البيهقي بقوله: قال الشيخ: ولو جاز السجود على ثوب متّصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى بالكف ووضعها للسجود(2) .

ونقول: ولو كان الجسود على مطلق الثياب سواء كان متصلًا أم منفصلًا جائزاً لكان أسهل من تبريد الحصى، ولأمكن حمل منديل أو ما شابه للسجود عليه.

3- روى أنس قال: كنّا مع رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله وسلّم) في شدّة الحرّ فيأخذ أحدنا الحصباء في يده فإذا برد وضعه وسجده عليه (3).

4- عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله وسلّم) شدّد الرمضاء في جباهنا وأكفّنا فلم يشكنا(4) .

قال ابن الأثير في معنى الحديث: إنّهم لمّا شكوا إليه ما يجدون من ذلك لم يفسح له م أن يسجدوا على طرف ثيابهم (5).

هذه المأثورات تعرب عن أنّ السنّة في الصلاة كانت جارية على السجود على الأرض فقط، حتّى أنّ الرسول (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) لم يفسح للمسلمين العدول عنها إلى الثياب المتّصلة أو المنفصلة، وهو (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) مع كونه بالمؤمنين رؤوفاً


1- مسند أحمد 3/ 327 من حديث جابر وسنن البيهقي 1/ 439، باب ما روي في التعجيل بها في شدّة الحرّ.
2- سنن البيهقي 2/ 105.
3- السنن الكبرى 2/ 106.
4- سنن البيهقي 2/ 105 باب الكشف عن الجبهة
5- ابن الأثير: النهاية 2/ 497، مادة «شكى».

ص: 194

رحيماً أوجب عليهم مسّ جباههم الأرض، وإن؟ ذتهم شدّة الحرّ.

والذي يعرب عن التزام المسلمين بالسجود على الأرض، وعن إصرار النبي الأكرم (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) بوضع الجبهة عليها لا على الثياب المتّصلة ككور العمامة أو المنفصلة كالمناديل والسجاجيد، ما روي من حديث الأمر بالتترتيب في غير واحد من الروايات.

الأمر بالتتريب:

6- عن خالد الجهني: قال: رأى النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) صهيباً يسجد كأنّه يتّقي التراب فاقل له: «ترّب وجهك يا صهيب» (1).

7- وظاهر أنّ صهيباً كان يتّقي عن التتريب بالسجود على الثوب المتّصل والمنفصل، ولا أقل بالسجود على الحصر والبواري والأحجار الصافية، وعلى كلّ تقدير، فالحديث شاهد على أفضليّة السجود على التراب في مقابل السجود على الحصى لما دلّ من جواز السجدة على الحصى في مقابل السجود على غير الأرض.

8- روت أمّ سلمة- رضى اللَّه عنها-: رأى النبى (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) غلاماً لنا يقال له أفلح ينفخ إذا سجد، فقال: «يا أفلح ترّب» (2)9- وفي رواية: «يا رباح ترّب وجهك»(3) .

10- روى أبو صالح قال: دخلت على أمّ سلمة، فدخل علهيا ابن أخ لها فصلّي في بيتها ركعتين، فلمّا سجد نفخ التراب، فقال أُمّ سلمة: ابن


1- المتقي الهندي: كنز العمال 7/ 465 برقم 19810.
2- المصدر نفسه 7/ 459 برقم 19776.
3- المصدر نفسه برقم 19777.

ص: 195

أخي لا تفتخ، فإنّي سمعت رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) يقول لغلام له يقال له يسار- ونفخ-: «ترّب وجهك للَّه»(1) .

الأمر بحسر العمامة عن الجبهة:

11- روي: أنّ النبي (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته (2) 12- روي عن علي أمير المؤمنين أنّه قال: «إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن وجهه»، يعني حتّى لا يسجد على كور العمامة(3) .

13- روى صالح بن حيوان السبائي: أنّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) رأى رجلًا يسجد بجنبه وقد اعتمّ على جبهته فحر رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) عن جبته (4) .

هذه الروايات تكشف عن أنّه لم يكن للمسلمين يوم ذاك تكليف إلّا السجود على الأرض، ولم يكن هناك أي رخصة سوى تبريد الحصى، ولو كان هناك ترخيص لما فعلوا ذلك، ولما أمر النبي (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) بالتترتيب، وحسر العمامة عن الجهة.


1- المتقي الهندي: كنز العمال 7/ 465، برقم 19810 ومسند أحمد 6/ 301.
2- ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/ 151 كما في السجود على الأرض 41.
3- منتخب كنز العمال المطبوع في هامش المسند 3/ 194.
4- البيهقي: السنن الكبرى 2/ 105.

ص: 196

المرحلة الثانى: الترخيص في السجود على الخمر والحصر:

اشارة

هذه الأحاديث والمأثورات المبثوثة في الصحاح والمسانيد وسائر كتب الحديث تعرب عن التزام النبى (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) وأصحابه بالسجود على الأرض بأنواعها، وأنّهم كانوا لا يعدلون عنه، وإن صعب الأمر واشتدّ الحرّ، لكن هناك نصوص تعرب عن ترخيص النبى (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم)- بايحاء من اللَّه سبحانه إليه- السجود على ما أنبتت الأرض، فسهل لهم بذلك أمر السجود، ورفع عنهم الاصر والمسقّة في الحرّ والبرد، وفيما إذا كانت الأرض مبتلّة، وإليك تلك النصوص:

1- عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) يصلّي على الخمرة (1).

2- عن ابن عباس: كان رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) يصلّي على الخمرة، وفي لفظ: وكان النبىّ (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) يصلّي على الخمرة(2) .

3- عن عائشة: كان النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) يصلّي على الخمرة(3) .

4- عن أُمّ سلمة: كان رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) يصلّي على الخمرة (4).

5- عن ميمونة: ورسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) يصلّي على الخمرة فيسجد (5).

6- عن أمّ سليم قالت: كان (رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم)) يصلّي على الخمرة(6) .

7- عن عبداللَّه بن عمر: كان رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) يصلّي على الخمر (7).


1- أبونعيم الاصفهاني: أخبار اصبهان 5/ 141.
2- مسند أحمد 1/ 269- 303- 309 و 358.
3- المصدر نفسه 6/ 179 وفيه أيضاً قال للجارية وهو في المسجد: ناوليني الخمرة.
4- المصدر نفسه 302.
5- المصدر نفسه 331- 335.
6- المصدر نفسه 377.
7- المصدر نفسه 2/ 92- 98.

ص: 197

السجود على الثياب لعذر:

قد عرفت المرحلتين الماضيتين، ولو كان هناك مرحلة ثالثة فإنّما مرحلة جواز السجود على غير الأرض وما ينبت منها لعذر وضرورة.

ويبدو أنّ هذا الترخيص جاء متأخّراً عن المرحلتين لما عرفت أنّ النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) لم يُجب شكورى الأصحاب من شدّة الحرّ والرمضاء، وراح هو وأصحابه يسجدون على الأرض متحمّلين الحرّ والأذى، ولكنّ الباري عزّ اسمه رخّص لرفع الحرج السجود على الثيات لعذر وضرورة، وإليك ما ورد في هذا المقام.

1- عن أنس بن مالك: كنّا إذا صّلينا مع النبي (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) فلم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض، طرح ثوبه ثم سجد عليه.

2- وفي صحيح البخاري: كنّا نصلّي مع النّبي (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) فلم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض، طرح ثوبه ثم سجد عليه.

3- وفي لفظ ثالث: كنّا إذا صلّينا مع النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ مكان السجود(1) .

وهذه الرواية التي نقلها أصحاب الصحاح والمسانيد تكشف حقيقة بعض ما روي في ذلك المجال الظاهر في جواز السجود على الثياب في حالة الاختيار أيضاً. وذلك لأنّ رواية أنس نصّ في اختصاص الجواز على حالة الضرورة، فتكون قرينة على المراد من هذه المطلقات، وإليك بعض ما روي في هذا المجال:

1- عبداللَّه بن محرز عن أبي هريرد: كان رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) يصلّي على كور


1- صحيح البخاري 1/ 101، صحيح مسلم 2/ 109، مسند أحمد 1/ 100، السنن الكبرى 2/ 106.

ص: 198

عمامته (1) .

إنّ هذه الرواية مع أنّها معارضة لما مرّ من نهى النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) عن السجود عليه، محمولة على العذر والضرورة، وقد صرّح بذلك الشيخ البيهقي في سننه، حيث قال: قال الشيخ: «وأمّا ما روي في ذلك عن النبي (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) من السجود على كور العمامة فلا يقبت شي ء من ذلك، وأصحّ ما روي في ذلك قول الحسن البصري حكاية عن أصحاب النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) (2).

وقد روي عن ابن راشد قال: رأيت مكحولًا يسجد على عمامته فقلت: لما تسجد عليها؟ قال أتّقي البرد على أسناني (3) 2- ما روي عن أنس: كنّا نصلّي مع النّبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) فيسجد أحدنا على ثوبه(4) .

والرواية محمولة على صورة العذر بقرينة ما رويناه عنه، وبما رواه عنه البخاري: كنّا نصلّي مع النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) في شدّة الحرّ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه (5).

ويؤيّده ما رواه النسائي أيضاً: كنّا إذا صلّينا خلف النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) بالطهائر سجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ (6).

وهناك روايات قاصرة الدلالة حيث لا تدلّ إلّا على أنّ النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) صلّى على الفرو. وأمّا أنّه سجد عليه فلا دلالة لها عليه.

3- عن المغيرة بن شعبة: كان رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) يصلّي على الحصير


1- كنز العمال 8/ 130 برقم 22238.
2- البيهقي: السنن 2/ 106.
3- البيهقي: السنن 2/ 106.
4- البيهقي: السنن الكبرى 2/ 106، باب من بسط ثوباً فسجد عليه.
5- البخارى: 2/ 64 كتاب الصلاة باب بسط الثوب في الصلاة للسجود.
6- ابن الأثير: الجامع للأُصول 5/ 468 برقم 3660.

ص: 199

والفرو المدبوغة(1) .

والرواية مع كونها ضعيفة بيونس بن الحرث، ليست ظاهرة في السجود عليه. ولا ملازمة بين الصلاة على الفرو والسجدة عليه، ولعلّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) وضع جبهته على الأرض أو ما ينبت منها.

وعلى فرض الملازمة لا تقاوم هي وما في معناها ما سردناه من الروايات في المرحلتين الماضيتين.

حصيلة البحث:

إنّ المتأمّل في الروايات يجد وبدون لبس أنّ قضيّة السجود في الصلاة مرت بمرحلتين أو ثلاثة مراحل ففي المرحلة الأُولى كان الفرض السجود على الأرض ولم يرخّص للمسلمين السجود على غيرها، وفي الثانية جاء الترخيص فيما تنبته الأرض، وليست وراء هاتين المرحلتين مرحلة أُخرى إلّا جواز السجود على الثياب لعذر وضرورة، فما ظهر من بعض الروايات من جواز السجود على الفرو وأمثاله مطلقاً فمحمولة على الضرورة، أو لا دلالة لها على السجود عليها، بل غايتها الصلاة عليها.

ومن هنا فإنّ ما يظهر بوضوح أنّ ما التزمت به الشيعة هو عين ما جاءت به السنّة النبويّة، ولم تنحرف عنه قيد أنملة، ولعلّ الفقهاء هم أدرى بذلك من غيرهم، لأنّهم الأُمناء على الرسالة والأدلاء في طريق الشريعة، ونحن ندعو إلى برهة من التأمّل لإحقاق الحقّ وتجاوز البدع.

ما هو السرّ في اتّخاذ تربة طاهرة؟

بقي هنا سؤال يطرحه كثيراً اخواننا أهل السنّة حول سبب اتّخاذ الشيعة تربة طاهرة في السفر والحضر والسجود عليها دون غيرها.

وربّما يتخيّل البسطاء- كما ذكرنا سابقاً- أنّ الشيعة يسجدون لها لا عليها،


1- أبو داود: السنن/ باب ما جاء في الصلاة على الخمرة برقم 331.

ص: 200

ويعبدون الحجر والتربة، وذلك لأنّ هؤلاء المساكين لايفرّقون بين السجود على التربة، والسجود لها.

وعلى أيّ تقدير فالإجابة عنها واضحة، فإنّ المستحسن عند الشيعة هو اتّخاذ تربة طاهرة طيّبة ليتيقن من طهارتها، من أيّ أرض أُخذت، ومن أي صقع من أرجاء العالم كانت، وهي كلّها في ذلك سواء.

وليس هذا الالتزام إلّا مثل التزام المصلّي بطهارة جسده وملبسه ومصلّاه، وأمّا سرّ الالتزام في اتّخاذ التربة هو أنّ الثقة بطهارة كلّ أرض يحلّ بها، ويتّخذها مسجداً، لا تتأتّى له في كلّ موضع من المواضع التي يرتادها المسلم في حلّه وترحاله، بل وأنّى له ذلك وهذه الأماكن ترتادها أصناف مختلفة من البشر، مسلمين كانوا أم غيرهم، ملتزمين بأُصول الطهارة أم غير ذلك، وفي ذلك محنة كبيرة تواجه المسلم في صلاته لا يجد مناص من أن يتخذ لنفسه تربة طاهرة يطمئنّ بها وبطهارتها يسجد عليها لدى صلاته حذراً من السجدة على الرجاسة والنجاسة، والأوساخ التي لا يتقرّب بها إلى اللَّه قط ولا تجوّز السنّة السجود عليها ولا يقبله العقل السليم، خصوصاً بعد ورود التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلّي ولباسه والنهي عن الصلاة في مواطن منها:

المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، والحمام، ومواطن الإبل، بل والأمر بتطهير المساجد وتطييبها(1) .

وهذه القاعدة كانت ثابتة عند السلف الصالح وإن غفل التاريخ عن نقلها، فقد روي: أنّ التابعي الفقيه مسروق بن الأجدع المتوفّى عام 62 كان يصحب في أسفاره لبنة من المدينة يسجد عليها. كما أخرجه بن أبي شيبة في كتابه المصنف، باب من كان حمل في السفينة شيئاً يسجد عليه.

فأخرج بإسنادين أنّ مسروقاً كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد


1- العلّامة الأميني: سيرتنا وسنّتنا 158- 159.

ص: 201

عليها(1) إلى هنا تبيّن أنّ التزام الشيعة باتّخاذ التربة مسجداً ليس إلّا تسهيل الأمر للمصلّي في سفره وحضره خوفاً من أن لا يجد أرضاً طاهراً أو حصيراً طاهراً فيصعب الأمر عليه، وهذا كادّخار المسلم تربةه طاهرة لغاية التيمّم عليها.

وأمّا السرّ في التزام الشيعة استحباباً بالسجود على التربة الحسينية فإنّ من الأغراض العالية والمقاصد السامية منها، أن يتذكّر المصلّي حين يضع جبهته على تلك التربة، تضحية ذلك الإمام بنفسه وأهل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ ومقارعة الجور والفساد.

ولمّا كان السجود أعظم أركان الصلاة، وفي الحديث «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده» فيناسب أن يتذكّر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية، اولئك الذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحقّ، وارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى، ليخشع ويخضع ويتلازم الموضع والرفع، وتحتقر هذه الدنيا الزائفة، وزخارفها الزائلة، ولعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود عليها يخرق الحجب السبع كما في الخبر، فيكون حينئذ في السجود سر الصعود والعروج من التراب إلى ربّ الإرباب (2).

قال العلّامة الأمينى: نحن نتّخذ من تربة كربلاء قطعاً لمعاً، وأقراصاً نسجد عليها كما كان فقيه السلف مسروق بن الأجدع يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنوّرة يسجد عليها، والرجل تلميذ الخلافة الراشدة، فقيه المدينة، ومعلّم السنّة بها، وحاشاه من البدعة. فليس في ذلك أيّ حزازة وتعسّف أو شي ء يضاد نداء القرآن الكريم أو يخالف سنّة اللَّه وسنّة رسوله (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) أو خروج من حكم العقل والاعتبار.


1- أبو بكر بن أبي شيبة: المصنف 1/ 400 كما في السجدة على التربة 93.
2- الأرض والتربة الحسينية 24.

ص: 202

وليس اتّخاذ تربة كربلاء مسجداً لدى الشيعة من الفرض المحتمّ، ولا من واجب الشرع والدين، ولا ممّا ألزمه المذهب، ولايفرق أيّ أحد منهم منذ أوّل يومها بينها وبين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السجود عليها خلاف ما يزعمه اهلجاهل بهم وبآرائهم، وإن هو عندهم إلّا استحسان عقلي ليس إلّا، واختيار لما هو الأولى بالسجود لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسب كما سمعست، وكثير من رجال المذهب يتّخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء ممّا يصحّ السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو خمرة مثله ويسجدون عليه في صلواتهم(1) .

هذا إمام إجمالي بهذه المسألة الفقهية والتفصيل موكول إلى محلّها، وقد أنانا عن ذلك ما سطّره أعلام العصر وأكابره، وأخص بالذكر منهم.

1- المصلح الكبير الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (1295- 1373 ه) في كتابه الأرض والتربة الحسينية.

2- العلّامة الكبير الشيخ عبدالحسين الأميني مؤلّف الغدير (1320- 1390 ه) فقد دوّن رسالة في هذا الموضوع طبع في آخر كتابه «سيرتنا و سنّتنا».

3- السجود على الأرض للعلّامة الشيخ علي الأحمدي- دام عزّه- فقد أجاد في التتبّع والتحقيق.

فما ذكرنا في هذه المسألة اقتباس من أنوار علومهم. رحم اللَّه الماضين من علمائنا وحفظ اللَّه الباقين منهم.

هذا ما وقفنا عليه من الأبحاث والتي أوردناها في هذا المختصر.

والحمد للَّه ربّ العالمين

والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين


1- العلّامة الأميني: سيرتنا وسنّتنا 166- 167 طبعة النجف الأشرف.

ص: 203

فهرس

موضوعات الكتاب

التقديم: 3

رسائل بعض أعلام الشيعة 13

1- ما كتبه الإمام الرضا- عليهالسّلام للمأمون عن محض الإسلام:

15

2- عرض السيّد عبد العظيم الحسني عقائده على الإمام الهادي: 17

3- رسالة الصدوق في عقائد الإمامية: 19

4- ما أملاه الصدوق أيضاً- رحمه اللَّه-: 20

5- جمل العلم والعمل للسيّد الشريف المرتضى: 21

بيان ما يجب اعتقاده في أبواب التوحيد: 21

مع الشيعة الإمامية في عقائدهم ؛ ؛ ص203

البيان عن جمل اعتقاد أهل الإيمان للكراجكي: 23

في توحيده سبحانه: 24

في عدله سبحانه: 24

في النبوّة العامّة والخاصّة: 26

في الإمامة والخلافة: 28

في التوبة والحشر والنشر: 31

ص: 204

7- العقائد الجعفرية تأليف الشيخ الطوسي: 35

ما هو الهدف من نقل هذه الرسائل: 44

الفرق بين الشيعة الإمامية والمعتزلة: 45

الفرق بين الشيعة الإمامية والأشاعرة: 47

الفرق بين الشيعة الإمامية وسائر الفرق: 51

المسألة الا ولى: 53

وجوب تنصيب الإمام على اللَّه سبحانه 53

المسألة الثانية: 57

عصمة الإمام 57

حقيقة العصمة: 57

الدليل على لزوم عصمة الإمام بعد النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله وسلَّم: 60

ما هو المراد من الظالم: 66

العصمة في القول والرأي: 69

المسألة الثالثة: 71

الإمام المنتظر 71

ص: 205

المسألة الرابعة: 75

التقية 75

مفهومها، غايتها، دليلها، حدّها 75

في ضوء الكتاب والسنّة 75

غايتها: 77

دليلها في القرآن والسنّة: 79

الآية الأُولى: 79

الآية الثانية: 81

الآية الثالثة: قوله سبحانه: 85

اتّقاء المسلم من المسلم في ظروف خاصة: 85

الظروف العصيبة التي مرت بها الشيعة: 88

بيان معاوية إلى عماله: 89

حدّها: 94

التقية المحرّمة: 96

وفي الختام نقول: 99

المسألة الخامسة: 101

البداء عند الشيعة الإمامية 101

ألف- الصدقة وأثرها في دفع البلاء: 108

ب- أثر الاستغفار في الرزق: 109

ج- الدعاء وآثاره: 109

د- أثر صلة الرحم: 111

البداء في مقام الثبوت 114

البداء في الذكر الحكيم: 115

الأثر التربوي للاعتقاد في البداء: 121

البداء في مقام الإثبات: 123

ص: 206

تلميحات للبداء في الذكر الحكيم: 125

الأمر الأوّل: 130

الأمر الثاني: 131

الأمر الثالث: 132

المسألة السادسة: 135

الرجعة 135

في الكتاب والسنّة 135

ملاحظات جديرة بالانتباه: 139

المسألة السابعة: 141

زواج المتعة 141

1- الحمل على النكاح الدائم يستلزم التكرار بلا وجه: 143

2- تعليق دفع الأُجرة على الاستمتاع: 144

3- تصريح جماعة من الصحابة على شأن نزولها: 144

المنكرون للتحريم: 151

كبرت كلمة تخرج من أفواههم: 154

المسألة الثامنة: 157

مسح الأرجل في الوضوء 157

ص: 207

المسألة التاسعة: 167

الشيعة الإمامية و الصحابة 167

الصحابة في القرآن الكريم: 173

الردّة بعد وفاة الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: 177

المسألة العاشرة: 187

السجود على الأرض 187

1- اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه: 188

2- الفرق بين المسجود له والمسجود عليه: 190

3- السنّة في السجود في عصر الرسول (صلّى اللَّه عليه و آله 191

وسلّم) وبعده: 191

المرحلة الأُولى: السجود على الأرض: 192

تبريد الحصى للسجود عليها: 192

الأمر بالتتريب: 194

الأمر بحسر العمامة عن الجبهة: 195

المرحلة الثانى: الترخيص في السجود على الخمر والحصر: 196

السجود على الثياب لعذر: 197

حصيلة البحث: 199

ما هو السرّ في اتّخاذ تربة طاهرة؟ 199

ص: 208

ص: 209

فهرس مصادر الكتاب

- نبدأ تبركا بالقرآن الكريم.

(حرف الألف)

1- الاثنا عشرية وأهل البيت: محمد جواد مغنية.

2- أخبار اصبهان: ؤبو نعيم الاصفهاني: أحمد بن عبد اللَّه (م 430 ه.) انتشارات جهان، طهران.

3- الأرض والتربة الحسينية: الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (م 1373 ه).

4- أحكام القرآن: الجصاص: أحمد بن علي (م 370 ه) دار الكتاب العربي، بيروت- 1406 ه.

5- أصل الشيعة وأُصولها: الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (1295- 1373 ه) مطبعة العرفان، صيدا- 1355 ه.

6- أُصول الدين: محمد بن عبدالكريم البزدوي (421- 493 ه) دار احياء الكتب العربية، القاهرة- 1383 ه.

7- اعتقادات الإمامية: الصدوق، محمد بن بابويه القمي (381 ه) طبعة حجر.

8- أعيان الشيعة: السيد محسن الأمين العاملي (م 1371 ه) دار التعارف، بيروت.

9- الإلهيات: محمد مكي العاملي من محاضرات العلّامة الشيخ جعفر السبحاني، الدار الإسلامية، بيروت- 1410 ه.

10- أنساب الأشراف: البلاذري: أحمد بن يحيى (من أعلام القرن الثالث الهجري) مؤسسة الأعلمي، بيروت- 1394 ه.

ص: 210

11- الأمالي: الصدوق: محمد بن بابويه القمي (م 381 ه) المكتبة الإسلامية، طهران.

12- الإمامة والسياسة: ابن قتيبة: عبد اللَّه بن مسلم الدنيوري (م 276 ه) مطبعة مصطفى محمد، مصر.

13- أوائل المقالات: المفيد، محمد بن محمد بن النعمان (م 413 ه) مكتبة الحقيقة، تبريز- 1371.

(حرف الباء)

14- بحارالأنوار: محمد باقر المجلسي (م 1110 ه) مؤسسة الوفاء، بيروت- 1403 ه.

15- بين يدي الساعة: الدكتتور عبدالباقي المعاصر.

(حرف التاء)

16- تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي: أحمد بن علي (م 463 ه) المكتبة السلفية، المدينة المنورة.

17- تاريخ الخلفاء: جلال الدين السيوطي (849- 911 ه) مطبعة المدني، القاهرة- 1383 ه.

18- تاريخ اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب (م 1396 ه) مؤسسة أهل البيت، بيروت- 1401.

19- تذكرة الخواص: سبط ابن الجوزي (581- 654 ه) مؤسسة أهل البيت، بيروت- 1401 ه.

20- تصحيح الاعتقاد: المفيد، محمد بن محمد بن النعمان (م 413 ه) مكتبة الحقيقة، تبريز- 1371 ه

21- تطهير الجنان: ابن حجر الهيثمي (م 974 ه) المطبوع بهامش الصواعق المحرقة، القاهرة- 1385 ه.

22- التفسير: ابن كثير: إسماعيل الدمشقي (م 774 ه) دارالفكر، بيروت- 1403 ه.

23- تفسير البرهان: السيد هاشم التوبلي البحراني (م 1107 ه) قم- 1375 ه.

24- تفسير التبيان: الطوسي: محمد بن الحسن (385- 460 ه) دار احياء التراث العربي، بيروت.

25- تفسير جامع أحكام القرآن: محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (م 671 ه) دار احياء

ص: 211

التراث العربي، بيروت- 1405 ه.

26- تفسير جامع البيان: محمد بن جرير الطبرى (م 310 ه) دار المعرفة، بيروت.

27- تفسير الخازن: الشيخ علاء الدين محمد البغدادي، طبع القاهرة.

28- تفسير الدرّ المنثور: جلال الدين السيوطي (489- 911 ه) دارالفكر، بيروت- 1403 ه.

29- تفسير روح البيان: إسماعيل حقي.

30- تفسير الكشاف: الزمخشري: محمود بن عمر (م 538 ه) مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة- 1367 ه.

31- تفسير مجمع البيان: الطبرسي: الفضل بن الحسن (471- 548 ه) دار المعرفة، بيروت- 1408 ه.

32- تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي، دار احياء التراث العربى، بيروت- 1406 ه.

33- تفسير مفاتيح الغيب: محمد بن عمر الخطيب الرازي (544- 606 ه) دار احياء التراث العربي، بيروت.

34- تفسير المنار: محمد رشيد رضا (م 1354 ه) دار المنار، مصر- 1373 ه.

35- تفسير النسفي: المطبوع في هامش تفسير الخازن، طبع القاهرة، مصر.

36- التمهيد: الباقلاني: محمد بن الطيب (م 403 ه) القاهرة- 1366 ه.

37- توحيد الصدوق: محمد بن بابويه القمي (306- 381 ه) مكتبة الصدوق، طهران.

(حرف الثاء)

38- الثقات العيون: آغا بزرگ الطهراني (1293- 1389 ه).

(حرف الجيم)

39- جامع الأُصول: ابن الأثير الجزري: المبارك بن محمّد (544- 606 ه) دار الفكر، بيروت- 1403 ه.

40- جمل العلم والعمل: الشريف المرتى: علي بن الحسين الموسوي (355- 436 ه).

(حرف الحاء)

41- حقائق التنزيل: الشريف الرضي (م 406 ه) مؤسسة البعثة، طهران- 1406 ه.

ص: 212

(حرف الخاء)

42- الخصال: الشيخ الصدوق: محمد بن بابويه (م 381 ه) منشورات مؤسسة النشر الإسلامي، قم- 1403 ه.

43- الخلاف: الشيخ الطوسي: محمد بن الحسن (م 460 ه) دار الكتب العلمية، قم المقدسة.

(حرف الدال)

44- ديوان ابن الرومي: أبو الحسن: علي بن العباس بن جريج (م 283 ه)، تحقيق كامل الكيلاني طبعة مصر- 1924 م.

(حرف الذال)

45- الذخيرة: الشريف المرتضى: (355- 436 ه) طبع إيران.

(حرف الراء)

46- الرجال: النجاشي: أحمد بن علي (372- 450 ه) بيروت- 1409 ه.

47- الرسائل: الإمام الخميني (م 1409 ه) مؤسسة اسماعيليان، قم المقدسة- 1385 ه.

48- الرسائل: الجاحظ: أبو عثمان: عمرو بن بحر (م 255 ه) طبع مصر.

49- روح المعاني: الآلوسي: أبوالفضل: شهاب الدين السيد محمود البغدادي (م 1270 ه) دار احياء التراث العربي، بيروت.

(حرف السين)

50- السجدة على التربة.

51- السجود على الأرض: العلّامة علي الأحمدي، مؤسسة في طريق الحق، قم المقدسة.

52- السراج المنير: الخطيب الشربيني.

53- سفينة البحار: الشيخ عباس القمي (1294- 1359 ه) طبعة حجر، النجف الأشرف.

54- السنّة والشيعة: محمد رشيد رضا (م 1354 ه)

55- السنن: ابن ماجة: محمد بن يزيد القزويني (207- 275 ه) دار احياء التراث العربي، بيروت- 1395 ه.

ص: 213

56- السنن: أبو داود السجستاني (م 275 ه) دار احياء التراث العربي، بيروت.

57- السنن: الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة (209- 279 ه) دار احياء التراث العربي، بيروت.

58- السنن الكبرى: البيهقي: أحمد بن الحسين (م 458 ه) دار المعرفة، بيروت- 1406 ه.

59- سير أعلام النبلاء: الذهبي: شمس الدين محمد بن أحمد (م 848 ه) مؤسسة الرسالة، بيروت- 1409 ه.

60- السيرة النبوية: ابن هشام: عبدالملك بن أيوب الحميري (م 213 أو 218 ه) دارالتراث العربي، بيروت.

61- سيرتنا وسنتنا: العلّامة الأميني: عبدالحسين (1320- 1390 ه) طبع النجف الأشرف.

حرف الشين

62- الشافي في الإمامة: الشريف المرتضى (م 436 ه) مؤسسة الصادق، طهران- 1410 ه.

63- شرح التجريد: علاء الدين القوشجي، طبعة حجر، تبريز، إيران.

64- شرح العقائد النسفية: سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (م 792 ه) مكتبة المثنى) بغداد.

65- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد (م 655 ه) دار احياء الكتب العربية، القاهرة- 1378 ه.

66- الشيعة والتشيع: محمد جواد مغنية، مكتبة المدرسة و دار الكتاب العربي، بيروت.

(حرف الصاد)

67- الصحيح: البخاري: محمد بن إسماعيل (م 256 ه) مكتبة عبدالحميد أحمد حنفي، مصر- 1314 ه.

68- الصحيح: مسلم بن الحجاج القشيري (م 261 ه) دار احياء التراث العربي، بيروت.

69- الصحيفة السجادية الجامعة: الإمام علي بن الحسين زين العابدين- عليهما السلام- تحقيق مؤسسة الإمام المهدي (عجل اللَّه تعالى فرجه الشريف- قم- 1411 ه.

70- الصواعق المحرقة: أحمد بن حجر الهيثمي (م 974 ه) مكتبة القاهرة، مصر- 1385 ه.

ص: 214

(حرف الطاء)

71- الطباق الكبرى: محمّد بن سعد (م 330 ه) دار صادر، بيروت- 1380 ه.

72- العقائد الجعفرية: الطوسي: محمد بن الحسن (م 460 ه) طبعت على شكل رسالة مع كتاب جواهر الفقه، مؤسسة النشر الإسلامي، قم- 1412 ه.

73- العقيدة الطحاوية: أبو جعفر الطحاوي (م 321 ه).

74- عمدة الطالب: ابن مهنا: جمال الدين أحمد بن علي (م 828 ه) النجف الأشرف- 1380 ه.

75- عيون أخبار الرضا: الشيخ الصدوق (م 381 ه) مؤسسة الأعلمي، بيروت- 1404 ه

(حرف الغين)

76- الغدير: العلّامة عبدالحسين أحمد الأميني (1320- 1390 ه) دارالكتاب العربي، بيروت- 1387 ه.

(حرف الفاء)

77- فتح البيان: صديق حسن خان.

78- فرق الشيعة: النوبختي: الحسن بن موسى (من أعلام القرن الثالث الهجري) دار الأضواء، بيروت- 1404 ه

79- فضائل القرآن: الدارمي.

80- الفهرست: الطوسي: محمد بن الحسن (م 460 ه) جامعة مشهد، إايران- 1351 ه.

(حرف الكاف)

81- الكافي: الكيني: محمّد بن يعقوب (م 329 ه) دارالكتب الإسلامية، طهران- 1397 ه.

82- الكامل في التاريخ: ابن الأثير الجزري: محمد بن محمد (م 630 ه) دار الكتاب العربي، بيروت.

ص: 215

83- كنز العمال: المتقي الهندي (م 975 ه) مؤسسة الرسالة، بيروت- 1405 ه.

84- كنز الفوائد: الكراجكي: محمد بن علي بن عثمان (م 449 ه) دار الأضواء، بيروت- 1405 ه.

(حرف اللام)

85- لسان العرب: العلّامة ابن منظور: محمد بن مكرم (م 711 ه) قم المقدسة- 1405 ه.

(حرف الميم)

86- مجمع الزوائد: الهيثمي: الحافظ نورالدين علي بن أبي بكر (735- 807 ه) دار الكتاب العربي، بيروت- 1402 ه.

87- محاسن التأويل: جمال الدين القاسمي (1332 ه).

88- مسائل لقهية: السيد عبدالحسين شرف الدين العاملي (م 1377 ه) مظمة الاعلام الإسلامي، طهران- 1407 ه.

89- المستدرك: الحاكم النيسابوري: محمد بن عبداللَّه (م 405 ه) دار المعرفة، بيروت.

90- المسند: أحمد بن حنبل (م 241 ه) دارالفكر، بيروت.

91- المصنف: أبوبكر بن أبي شيبة.

92- المصنف: عبدالرزاق.

93- مظاهر الشعوبية في الأدب العربي: الدكتور محمد نبيه حجاب، طبع مصر- 1961 م.

94- مقالات الإسلاميين: الأشعري: علي بن إسماعيل (م 324 ه) الطعبة الثالثة- 1400 ه.

95- المقدمة: ابن خلدون: عبدالرحمان بن محمد (م 808 ه) دار الكتب العلمية، بيروت- 1398 ه.

96- منتخب كنز العمال (هامش مسند أحمد): المتقي الهندي (م 975 ه) دار الفكر، بيروت.

97- منهاج السنّة: أحمد بن تيمية (661- 728 ه) طبع مصر.

(حرف النون)

98- نظرية الإمامة: أحمد محمود صبحي (المعاصر) دار المعارف، مصر.

99- نقد المحصل: فخر الدين الرازي (م 606 ه).

ص: 216

100- النهاية: ابن الأثير: مبارك بن محمد الجرزي (م 606 ه) مؤسسة إسماعيليان، قم- 1405 ه.

101- نهاية المرام: العلّامة الحلّي: الحسن بن يوسف (م 726 ه) مخطوط.

102- نهج البلاغة: جمع الشريف الرضي (259- 404 ه) بيروت- 1387 ه.

(حرف الهاء)

103- هوية التشيع: الدكتور الشيخ أحمد الوائلي (المعاصر) دار الكتبي، بيروت 1407 ه.

(حرف الواو)

104- وسائل الشيعة، الحر العاملي: محمد بن الحسن (1033- 1104 ه) دار احياء التراث العربي، بيروت- 1403 ه.

105- وفيات الأعيان: ابن خلّكان: أحمد بن أحمد (608- 681 ه) منشورات الرضي، قم- 1364 ه.

(حرف الياء)

106- ينابيع المودّة: القندوزي: سليمان بن إبراهيم البلخي (م 1294 ه) مطبعة اختر، اسلامبول- 1301 ه.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.