صيانه الاثار الاسلاميه

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور : صیانه الاثار الاسلامیه/ جعفر السبحانی

مشخصات نشر : 1375؟]. مشعر

مشخصات ظاهری : ص 87

فروست : (علی مائده العقیده 10)

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی

يادداشت : عربی

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع : آرامگاهها -- عربستان سعودی

موضوع : تمدن اسلامی -- حفظ و نگهداری

رده بندی کنگره : DS211/س 2ص 9

رده بندی دیویی : 953/02

شماره کتابشناسی ملی : م 77-6142

ص:1

اشارة

ص:2

ص:3

ص:4

تقديم

قال اللَّه تعالى:

«فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ». النور/ 36

وقال عزّ من قائل:

«فَقَالَ ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً» الكهف/ 21

«لمّا قرأ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم قوله تعالى: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ» فقام إليه رجل قال: أيّ بيوتٍ هذه يا رسول اللَّه؟ قال: بيوت الأنبياء، فقام إليه أبو بكر وقال: يا رسول اللَّه وهذا البيت منها- مشيراً الى بيت عليٍّ وفاطمة-؟ فقال النبيصلى الله عليه و آله و سلم:

نعم، من أفاضلها». الدرّ المنثور 6: 203

ص:5

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

وبه وحده نستعين وعليه وحده نتوكل

والحمد للَّه ربّ العالمين، والصَّلاة والسلام على سيد رُسُله، وخاتم أنبيائه وآله ومن سار على خطاهم وتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يهتم المسلمون اهتماماً كبيراً بالعقيدة الصحيحة لأنّها تشكّل حجر الزاوية في سلوكهم ومناراً يضي ءُ دروبهم وزاداً لمعادهم.

ولهذا كرّسَ رسُولُ اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم في الفترة المكيّة من حياته الرسالية نفسه لإرساء أُسس التوحيد الخالص، ومكافحة الشرك والوثنية، ثم بنى عليها في الفترة المدنيةصَرحَ النظامِ الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسيّ.

ولهذا- ونظراً للحاجةِ المتزايدة- رأينا أن نقدّم للأُمةِ الإسلاميّة الكريمة دراسات عقائدية عابرة مستمدَّةٍ من كتاب اللَّهِ العزيز، والسُنّةِ الشريفة الصحيحة، والعقل السليم، وما اتَّفق عليه علماءُ الأُمةِ الكرام، واللَّه الموفِّق.

معاونيّة التعليم والبحوث الإسلاميّة

ص:6

ص:7

الآثار الإسلاميّة ونتائجها الإيجابيّة

الأُمم الحيّة المهتمَّة بتاريخها تسعى إلىصيانة كلّ أثر تاريخيّ لهصلة بماضيها، ليكون آيةً على أصالتها وعَراقتها في العلوم والفنون، وأنها ليست نبتة بلا جذور أو فرعاً بلا أُصول.

والأُمة اليقظة تحتفظ بآثارها وتراثها الثقافيّ والصناعيّ والمعماريّ وما له علاقة بسابقها ممّا ورثته عن أسلافها،صيانةً لكيانها وبَرهنةً على عزّها الغابر.

وقد دعت تلك الغايةُ السامية الشعوبَ الحيّة لإيجاد دائرة خاصّة في كلّ قطر لحفظ التراث والآثار: من ورقة مخطوطة، أو أثر منقوش على الحجر، أو إناء، أو منار، أو أبنية، أو قِلاع وحصونٍ، أو مقابر ومشاهد لأبطالهم وشخصيّاتهم الذين كان لهم دور في بناء الأُمة وإدارة البلد وتربية الجيل، إلى حدّ يُنفقون في سبيلها أموالًا طائلة، ويستخدمون عمّالًا وخُبراء يبذلون سعيهم في حفظها وترميمها وصيانتها عن

ص:8

الحوادث.

إنّ التراث بإطلاقه آية رُقيّ الأُمة ومقياس شعورها ودليل تقدّمها في معترك الحياة.

والجدير بالذكر أنّ الشخصية البارزة إذا زارت بلداً وحلّت فيه ضيفاً، يجعل في برنامجها زيارة المناطق الأثرية والمشاهد والمقابر العامرة التي ضمَّت جثمانَ الشخصيّات التي تنبضُ الحياة الراهنة بتضحياتهم ومجاهدتهم من غير فرق بين دولةٍ إلهيّة أو علمانيّة.

هذا هو موجز الكلام في مطلق الآثار، وهَلُمَّ معي ندرس أهميّةصيانة الآثار الإسلامية التي تركها المسلمون من عصر الرسول إلى عصرنا هذا في مناطق مختلفة.

لا شكّ أنّ كلّ أثر يمتّ للإسلام والمسلمين بوجه من الوجوه بصلة، له أثره الخاصّ في التدليل على أنّ للشريعة الإسلامية وصاحبها حقيقة، وليست هي ممّا نسجَتْها يدُ الخيال أوصنعتها الأوهام.

وبعبارة واضحة: الآثار المتبقيّة من المسلمين إلى يومنا هذا تدلُّ على أنّ للدعوة الإسلامية وداعيها واقعيّة لا تُنكر، وأنّه بُعِثَ في زمن خاص بشريعة عالميّة، وبكتاب معجز تحدّى به الأُمم، وآمن به لفيف من الناس.

ثمّ إنّه هاجر من موطنه إلى يثرب، ونشر شريعته في الجزيرة العربيّة، ثمّ اتّسعت بفضل سعي أبطالها ومعتنقيها إلى سائر المناطق، وقد قدّم في سبيلِها تضحيات، وتربّى في أحضانها علماء وفقهاء وغير ذلك.

فهذه آثارهم ومشاهدهم وقبورهم تشهد بذلك.

ص:9

فصيانةُ هذه الآثار على وجه الإطلاق تُضفي على الشريعة في نظر الأغيار واقعية وحقيقة، وتزيل عن وجهها أيّ ريب أو شكٍ فيصحّة البعثة والدعوة، وجهاد الأُمّة ونضال المؤمنين.

فإذا كانت هذه نتيجةُ الصيانة، فإنّ نتيجة تدميرها وتخريبها أو عدم الإعتناء بها مسلَّماً عكس ذلك.

ومع الأسف نرى الأُمّة الإسلامية ابتُليت في هذه الآونة بأُناس جعلوا تدميرَ الآثار وهدمها جزءاً من الدين، والاحتفاظ بها ابتعاداً عنه، فهذه عقليّتهم وهذا شعورهم، الذي لا يقلّ عن عقلية وشعور الصبيان، الذين لا يعرفون قيمة التراث الواصل إليهم عن الآباء، فيلعبون به بين الخرق والهدم وغير ذلك.

لا شكّ أنّ لهدم الآثار والمعالم التاريخية الإسلامية وخاصّة في مهد الإسلام: مكة، ومهجر النبي الأكرمصلى الله عليه و آله: المدينة المنوّرة، نتائج وآثار سيّئة على الأجيال اللّاحقة التي سوف لا تجد أثراً لوقائعها وحوادثها وأبطالها ومفكّريها، وربّما تنتهي بالمآل إلى الاعتقاد بأنّ الإسلام قضيّة مفتعلة، وفكرة مبتدعة ليس لها أيّ أساسٍ واقعي تماماً.

فالمطلوب من المسلمين أن يُكوِّنوا لجنة من العلماء من ذوي الاختصاص للمحافظة على الآثار الإسلامية وخاصة النبويّة منها، وآثار أهل بيته، والعناية بها وصيانتها من الاندثار، أو من عمليات الإزالة والمحو، لما في هذه العناية والصيانة من تكريمٍ لأمجاد الإسلام وحفظ لذكريات الإسلام في القلوب والعقول، وإثبات لأصالة هذا الدين، إلى جانب ما في أيدي المسلمين من تراث ثقافي وفكري عظيم.

ص:10

وليس في هذا العمل أيُّ محذور شرعي، بل هو أمر محبَّذ، اتّفقت عليه كلمة المسلمين الأوائل كما سيوافيك.

فالسلف الصالح وقفوا- بعد فتح الشام- على قبور الأنبياء ذات البناء الشامخ .. فتركوها على حالها من دون أن يخطر ببال أحدهم وعلى رأسهم عمر بن الخطاب بأنّ البناء على القبور أمر محرّم يجب أنْ يُهدم، وهكذا الحال في سائر القبور المشيّدة بالأبنية في أطراف العالم.

وإنْ كنت في ريبٍ من هذا فاقرأ تواريخَهم، وإليك نصّ ما جاء في دائرة المعارف الإسلامية:

إنّ المسلمين عند فتحهم فلسطين وجدوا جماعة في قبيلة «لخم» النصرانيّة يقومون على حرم إبراهيم ب «حِبْرون» «(1)» ولعلّهم استغلّوا ذلك ففرضوا أتاوة على حجاج هذا الحرم ... وربما يكون توصيف تميم الداري أن يكون نسبة إلى الدار أي الحرم، وربما كان دخول هؤلاء اللخميين في الإسلام؛ لأنّه قد مكّنهم من القيام على حرم إبراهيم الذي قدّسه المسلمون تقديسَ اليهود والنصارى من قبلهم «(2)».

وجاء أيضاً في مادة «الخليل» يقول المقدسي- وهو أوّل من أسهب في وصف الخليل-: إنّ قبر ابراهيم كانت تعلوه قُبّة بُنيت في العهد الإسلامي.

ويقول مجير الدين: إنّها شُيّدت في عهد الأمويين، وكان قبر إسحاق مغطّى بعضُه، وقبر يعقوب قباله، وكان المقدسي أول من أشار


1- كلمة عبرية تعني: مدينة الخليل.
2- دائرة المعارف الإسلامية 5: 484 مادة تميم الداري.

ص:11

إلى تلك الهِبات الثمينة التي قدّمها الأُمراء الوَرِعون من أقاصي البلاد إلى هذا الضريح، إضافةً إلى الاستقبال الكريم الذي كان يلقاه الحجاج من جانب التميميين «(1)».

ولو قام باحث بوصف الأبنية الشاهقة التي كانت مشيّدة على قبور الأنبياء والصالحين قبل ظهور الإسلام وما بناه المسلمون في عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يومنا هذا في مختلف البلدان لجاء بكتاب فخم ضخم، ويَكشف عن أنّ السيرة الرائجة في تلك الأعصار قبل الإسلام وبعده من عصر الرسول والصحابة والتابعين لهم إلى يومنا هذا كانت هي العناية بحفظ آثار رجال الدين، الكاشفة عن مشروعية البناء على القبور، وإنّه لم ينبس أيّ شخص في رفض ذلك ببنت شفة ولم يعترض عليها أحد، بل تلقّاها الجميع بالقبول والرضا، إظهاراً للمحبّة والودّ لأصحاب الرسالات والنبوّات وأصحاب العلم والفضل، ومن خالف تلك السنّة وعدّها شركاً أو أمراً محرّماً فقد اتّبع غير سبيل المؤمنين، قال سبحانه: «وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً» (النساء/ 115).

اليوم وبعد مضيّ عشرين قرناً- تقريباً- على ميلاد السيد المسيح عليه السلام تحوّل المسيح وأُمّه العذراء وكتابه الانجيل وكذلك الحواريون، تحوّلوا- في عالم الغرب- إلى أُسطورة تاريخية، وصار


1- دائرة المعارف الإسلامية 8: 431.

ص:12

بعض المستشرقين يشكِّكون- مبدئياً- في وجود رجل اسمه المسيح وأُمّه مريم وكتابه الإنجيل، ويعتبرونه أُسطورة خيالية تشبه أُسطورة «مجنون ليلى».

لماذا؟

لأنّه لا يوجد أيّ أثر حقيقيّ وملموس للمسيح، فمثلًا لا يُدرى- بالضبط- أين وُلِد؟ وأين داره التي كان يسكنها؟ وأين دفنوه بعد وفاته- على زعم النصارى أنّه قتل-؟

أمّا كتابه السماوي فقد امتدّت إليه يد التحريف والتغيير والتزوير، وهذه الأناجيل الأربعة لا ترتبط إليه بصلة وليست له، بل هي ل «متّى» و «يوحنّا» و «مرقس» و «لوقا»، ولهذا ترى في خاتمتها قصّة قتله المزعوم ودفنه، ومن الواضح- كالشمس في رائعة النهار- أنّها كتبت بعد غيابه.

وعلى هذا الأساس يعتقد الكثير من الباحثين والمحقّقين أنّ هذه الأناجيل الأربعة إنّما هي من الكتب الأدبيّة التي يعود تاريخها إلى القرن الثاني من الميلاد.

فلو كانت الميزات الخاصّة بعيسى محفوظة، لكان ذلك دليلًا على حقيقة وجوده وأصالة حياته وزعامته، وما كان هناك مجال لإثارة الشكوك والاستفهامات من قِبَل المستشرقين ذوي الخيالات الواهية.

أمّا المسلمون، فهم يواجهون العالَم مرفوعيّ الرأس، ويقولون: يا أيّها الناس لقد بُعثَ رجلٌ من أرض الحجاز، قبل ألف وأربعمائة سنة لقيادة المجتمع البشري، وقد حقّق نجاحاً باهراً في مهمّته، وهذه آثار

ص:13

حياته، محفوظة تماماً في مكة والمدينة، فهذه الدار التي وُلد فيها، وهذا غار حراء حيث هبط إليه الوحي والتنزيل فيها، وهذا هو مسجده الذي كان يُقيم الصلاة فيه، وهذا هو البيت الذي دُفن فيه، وهذه بيوت أولاده وزوجاته وأقربائه، وهذه قبور ذريّته وأوصيائه عليهم السلام.

والآن، إذا قَضينا على هذه الآثار فقد قضينا على معالم وجودهصلى الله عليه و آله ودلائل أصالته وحقيقته، ومهّدنا السبيلَ لأعداءِ الإسلام ليقولوا ما يريدون.

إنّ هدم آثار النبوّة وآثار أهل بيت العصمة والطهارة ليس فقط إساءة إليهم عليهم السلام وهتكاً لحرمتهم، بل هو عداء سافر مع أصالة نبوّة خاتم الأنبياء ومعالم دينه القويم.

إنّ رسالة الإسلام رسالة خالدة أبديّة، وسوف يبقى الإسلام ديناً للبشرية جمعاء إلى يوم القيامة، ولابدّ للأجيال القادمة- على طول الزمن- أنْ تعترف بأصالتها وتؤمن بقداستها.

ولأجلِ تحقيق هذا الهدف يجب أن نحافظ- أبداً- على آثارصاحب الرسالة المحمديةصلى الله عليه و آله لكي نكون قد خَطَوْنا خطوة في سبيل استمرارية هذا الدين وبقائه على مدى العصور القادمة، حتى لا يشكّك أحد في وجود نبيّ الإسلامصلى الله عليه و آله كما شكّكوا في وجود النبيّ عيسى عليه السلام.

لقد اهتمَّ المسلمون اهتماماً كبيراً بشأن آثار النبي محمدصلى الله عليه و آله وسيرته وسلوكه، حتى أنّهم سجّلوا دقائق أُموره وخصائص حياته ومميّزات شخصيّته، وكلّ ما يرتبط بخاتمه، وحذائه، وسواكه، وسيفه، ودرعه، ورمحه، وجواده، وإبله، وغلامه، وحتى الآبار التي شرب منها

ص:14

الماء، والأراضي التي أوقفها لوجه اللَّه سبحانه، والطعام المفضّل لديه، بل وكيفية مشيته وأكله وشربه، وما يرتبط بلحيته المقدّسة وخضابه لها، وغير ذلك، ولا زالت آثار البعض منها باقية إلى يومنا هذا «(1)».

هذه كلمة موجزة عن موقف الموضوع عند العقلاء عامة والمسلمين خاصّة، فهلمّ معي ندرس المسألة في ضوء الكتاب والسنّة حتى تتجلّى الحقيقة بأعلى مظاهرها، وإنّصيانة قبور الأنبياء والأولياء والشهداء وتعميرها وتشييدها بقباب، هي ممّا دعا إليها الكتاب والسنّة النبويّة وسيرة المسلمين إلى أوائل القرن الثامن، عصر إثارة الشكوك حول هذا الموضوع وغيره، عصر ابن تيمية (761- 728 ه) الذي أثار تلك الفكرة لتفريق كلمة الأُمّة، وتلقّى ذلك بالقبول وارث منهجه محمد ابن عبد الوهاب النجدي (1115- 1206 ه)، إلى أن أحيا منهج شيخه بعد الاندراس بفضل سيف آل سعود، وحمايتهم له لغاية نفسانية لا تُنكَر.

وندرس الموضوع في خلال فصول ولنقدِّم ما تدلّ عليه من الآيات.

جعفر السبحاني


1- راجع طبقات الصحابة لابن سعد 1: 360- 503 حول هذا الموضوع.

ص:15

الفصل الأوّل: الاستدلال بالآيات

الآية الأُولى: الإذن برفعِ بيوتٍ خاصة

اشارة

إذا كان لصيانة الآثار الإسلاميّة ذلك التأثير الكبير الذي اتّضح للقارئ في التقديم الماضي، فعلينا استنطاق كتاب اللَّه حولَ هذا الموضوع حتى نقف على حكم اللَّه فيه.

وسنشير هنا إلى الآيات ذات الصلة الواضحة بالموضوع، والتي لا تتجاوز عن أربع آيات:

قال سبحانه: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَاتُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ» (النور/ 36- 37).

وللمفسّرين حول هذه الآية بحوث، منها: تعيين متعلّق الظرف، أعني قوله: «فِي بُيُوتٍ»، فهل هو متعلّق بما قبلها، أي قوله سبحانه في الآية المتقدّمة عليها «كَمِشكوةٍ» أي المشكاة في بيوت، أو هو متعلّق

ص:16

بفعل مقدّر يدلّ عليه لفظ «يُسَبِّحُ» في الآية، ولا مانع من التكرار، أو متعلّق بشي ء آخر مثل قوله: سبّحوا في بيوت؟

إنّ المهم بيان أمرين:

الأول: ما هو المراد من هذه البيوت التي أذن أن ترفع؟

الثاني: ما هو المراد من الرفع فيها؟

أمّا الأول، فالمفسّرون فيه على أقوال.

1- المراد المساجد الأربعة.

2- مطلق المساجد.

3- بيوت النبيّ.

4- المساجد وبيوت النبيّ.

استفدنا هذه الأقوال من المصادر «(1)»، والمهم تعيين المراد منها وفق الموازين الصحيحة في تفسير الآية.

1- إنّ القولين: الأول والثاني مبنيان على صحّة إطلاق البيت على المسجد، ولوصحّ ذلك لغة- ولن يصحّ كما سيوافيك- إلّاأنّه إطلاق شاذ، لا يصحّ تفسير القرآن بالاستعمال الشاذ، وذلك لأنّ البيت في القرآن غير المسجد، فالمسجد الحرام غير بيت اللَّه الحرام الذي جعله اللَّه قياماً للناس «(2)».


1- الطبري، التفسير، 18: 111- 112؛ السيوطي 6: 203؛ الزمخشري، الكشاف 2: 390؛ الرازي، التفسير 24: 3؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 12: 266؛ ابن كثير، التفسير 3: 292؛ اسماعيل حقي البرسوي، روح البيان 2: 158؛ القاسمي، محاسن التأويل 7: 213؛ صديق حسن خان، فتح البيان 6: 372؛ أبو حيان، البحر المحيط 6: 458.
2- المائدة: 97.

ص:17

2- إنّ البيت لا ينفكّ عن السّقف لقوله تعالى: «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّة» (الأحزاب/ 33)، وقال سبحانه: «وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ» (الزخرف/ 33)، وقال سبحانه: «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا» (النمل/ 52).

فهذه الآيات تدلّ على أنّ البيت لا ينفكُّ عن السقف، بخلاف المساجد فإنّها ربما تكون مكشوفة بلا سقف، وهذا هو المسجد الحرام تراه مكشوفاً بلا سقف، ومعه كيف يمكن تفسير البيوت بالمساجد؟

3- إنّ سورة النور التي وردت فيها هذه الآية تعتني بشأن البيوت عامة، ويقول سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ» (النور/ 27- 29) فقد تكرّر في هذه الآيات ذكر البيوت ظاهراً ومستتراً سبع مرّات.

ثمّ إنّه سبحانه يسترسل في ذكر البيوت في الآية (61) ويقول:

«لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أخوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْصَدِيقُكُمْ لَيْسَ

ص:18

عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحَيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (النور/ 61) فقد ذكر فيها البيوت عشر مرّات.

فالآيةُ قيدَ البحث وقعت بين هاتين الطائفتين من الآيات، أفيصحُّ لنا أن نفسّر قوله «فِي بُيُوتٍ» بالمساجد مع هذه الآيات الكثيرة التي تضمّنت استعمال البيت قبال المسجد؟

4- إنّ من يُفسّر البيوت بالمساجد يعتمد على رواية موقوفة لابن عباس ومجاهد، لكنّها لا تقاوم ما ورد مسنداً عن النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله:

روى الحافظ السيوطي قال: أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة: أنّ رسول اللَّه قرأ هذه الآية «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ» فقام إليه رجل قال: أيّ بيوت هذه يا رسول اللَّه؟ قال: «بيوت الأنبياء»، فقام إليه أبو بكر وقال: يا رسول اللَّه وهذا البيت منها- مشيراً إلى بيت علي وفاطمة- فقال النبي صلى الله عليه و آله: «نعم ومن أفاضلها» «(1)».

ولأجل رجحان الحديث المسند على الموقوف، قال الآلوسي في تفسيره بعد نقل الحديث: وهذا إنصحّ لا ينبغي العدول عنه «(2)».

ولأجل بعض ما ذكرنا قال أبو حيان: الظاهر أنّ البيوت مطلق يصدق على المساجد والبيوت التي تقع الصلاة فيها وهي بيوت الأنبياء «(3)».


1- السيوطي، الدرّ المنثور 6: 203.
2- الآلوسي، روح المعاني 18: 174.
3- أبو حيان، البحر المحيط 6: 458.

ص:19

وقد روي عن الإمام أبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين عليه السلام: أنّ المقصود بيوت الأنبياء وبيوت عليّ عليهم السلام «(1)».

5- إنّ القرآن الكريم يعتني ببيوت النبي وأهلها، يقول سبحانه:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ» (الأحزاب/ 53) ويعتني بأهلها ويقول: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (الأحزاب/ 33).

6- وإذا راجعنا اللغة: نرى أنّ أصحاب المعاجم يفسّرونه على وجه لا ينطبق على المسجد، يقول الراغب: أصل البيت مأوى الإنسان بالليل، لأنّه يقال: بات: أقام بالليل، كما يقال: ظلّ بالنهار، ثمّ قد يقال للمسكن بيت من غير اعتبار الليل فيه وجمعه أبيات وبيوت لكن البيوت للمسكن أخصّ والأبيات بالشعر «(2)».

وقال في اللسان: البيت معروف، وبيت الرجل داره، وبيته قصره، ومنه قول جبرئيل عليه السلام: بشّر خديجةَ ببيتٍ من قصب، أراد: بشّرها بقصر من لؤلؤة مجوّفة أو بقصر من زمردة «(3)».

فهذه القرائن لو تدبّر فيها المفسّر لأذعن أنّ المراد من «بُيُوتٍ» غير المساجد، سواء أُريد منه المسجد الحرام ومسجد النبي والمسجد الأقصى ومسجد قبا، أو أُريد مطلق المساجد.

7- أضف إلى ذلك أنّ تفسير البيوت بالمساجد مروي عن كعب


1- البحراني، البرهان 3: 137.
2- الراغب، المفردات: 64 مادة بيت.
3- ابن منظور، اللسان 2: 14 مادة بيت.

ص:20

الأحبار، ذلك الحبر اليهودي الذي أدخل الإسرائيليّات في السنن والأحاديث، روى ابن كثير قال: قال كعب الأحبار: مكتوب في التوراة أنّ بيوتي في الأرض المساجد «(1)»، ولوصحّ أنّ ابن عباس أخذه عن كعب الأحبار كما يدّعيه علماء الرجال في ترجمة كعب الأحبار فلعلّه أخذ منه، ومرويّات كعب إسرائيليّات لا يصحّ الاحتجاج بها.

غير أنّه ما تضافر عن النبي الأكرم خلاف ذلك، حيث قال:

«جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» «(2)»، فإذا كان جميع الأرض مسجداً للَّه تبارك وتعالى فيكون جميعها معبداً ومسجداً.

8- وربّما يتصوّر أنّ ذيل الآية الذي جاء فيه قوله «يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ» قرينة على أنّ المراد من البيوت هي المساجد، ولكنّه غَفِلَ عن أنّ شأن بيوت الأنبياء والأولياء والصالحين، شأن المساجد، فهم فيها بين قائم وراكع وساجد وذاكر.

وقد اعتنى النبيّ الأكرم بشأن البيوت، فقد عقد مسلم باباً فيصحيحه لاستحباب إقامة الصلاة النافلة في البيت وروى فيه الروايات التالية:

أ- عن ابن عمر عن النبيّ (ص): «اجعلوا منصلاتكم في بيوتكم ولا تتّخذوها قبوراً».

ب- عن ابن عمر عن النبي (ص): «صلّوا في بيوتكم ولا


1- ابن كثير، التفسير 3: 292.
2- البخاري، الصحيح 1: 91 كتاب التيمم، ح 2؛ البيهقي، السنن: 433 باب أينما أدركتك الصلاة فصلّ فهو مسجد.

ص:21

تتّخذوها قبوراً».

ج- عن جابر قال: قال رسول اللَّه (ص): «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً منصلاته فإنّ اللَّه جاعل في بيته منصلاته خيراً».

د- عن أبي موسى عن النبي (ص): «مثل البيت الذي يذكر اللَّه فيه والبيت الذي لا يذكر اللَّه فيه مثل الحيّ والميّت».

ه- وعن زيد بن ثابت في حديث: «فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإنّ خيرصلاة المرء في بيته إلّاالصلاة المكتوبة» «(1)».

و- روى أحمد أنّ عبد اللَّه بن سعد سألَ رسول اللَّه وقال: أيّما أفضل: الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ فقال: «فقد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، ولأن أُصلّي في بيتي أحبّ إليّ من أن أُصلّي في المسجد إلّاأن تكونصلاة مكتوبة» «(2)».

فهذه القرائن المؤكدة ترفع الستار عن وجه المعنى، فإنّ المراد من الآية هو بيوت الأنبياء وبيوت النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله وبيت عليّ عليه السلام وما ضاهاها، فهذه البيوت لها شأنها الخاصّ؛ لأنّها تخصُّ رجالًا يُسبّحونه سبحانه ليلًا ونهاراً، غُدُواً وآصالًا، تعيش فيها رجال لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذكر اللَّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وقلوبهم مليئة بالخوف من يوم تتقلّب فيه القلوب والأبصار.


1- مسلم، الصحيح 2: 187- 188 باب استئجار صلاة النافلة في البيت.
2- أحمد، المسند 4: 342.

ص:22

ما هو المراد من الرفع؟

قد تعرّفت على المقصود من البيوت، فهلمّ معي ندرس معنى الرفع، ومن حسن الحظّ أنّ المفسّرين لم يختلفوا فيه اختلافاً موجباً لغموض المعنى، وذكروا فيه المعنيين التاليين:

الأول: إنّ المراد من الرفع هو البناء، بشهادة قوله سبحانه: «ءَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا» (النازعات/ 28)، وقوله سبحانه: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلَ ...» (البقرة/ 127).

الثاني: إنّ المراد هو تعظيمها والرفع من قدرها، قال الزمخشري:

رَفْعُها: إمّا بناؤها، لقوله تعالى: «رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا» و «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ ...» أمر اللَّه أن تُبنى، وإمّا تعظيمها والرفع من قدرها «(1)».

وقال القرطبي: ترفع: تُبْنى وتعْلى «(2)».

وقال اسماعيل حقي البرسوي: أن ترفع: بالبناء، والتعظيم ورفع القدر «(3)».

وقال حسنصدّيق خان: المراد من الرفع، بناؤها «أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا» ورفع ابراهيم القواعد من البيت، وترفع أي تعظّم وتطهر من الأنجاس عن اللغو ولها مجموع الأمرين «(4)»، إلى غير ذلك من الكلمات المتشابهة، ولا حاجة إلى ذكرها، إنّما المهم بيان دلالة الآية وتحقيقها.


1- الزمخشري، الكشاف 2: 390 بتصرّف يسير بإضافة كلمة« أما».
2- القرطبي، جوامع الأحكام 12: 266.
3- اسماعيل حقي البرسوي، روح البيان 6: 158.
4- صديق حسن خان، فتح البيان 6: 372.

ص:23

قد عرفت أنّ المراد من البيوت هو بيوت الأنبياء والعترة والصالحين منصحابة النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله، فالآية تأذن أن تُبنى هذه البيوت بناءً حسياً وترفع من قدرها رفعاً معنوياً، فهنا نستنتج من الآية أمرين:

1- أنّ المراد من رفع البيوت ليس إنشاؤها، لأنّ المفروض أنّها بيوت مبنيّة، بل المراد هوصيانتها عن الاندثار، وذلك كرامة منه سبحانه لأصحاب هذه البيوت، فقد ترك المسلمون الأوائل بيوتاً للرسول الأكرم والعترة الطاهرة وللصالحين منصحابته وحرستها الدول الإسلامية طيلة أربعة عشر قرناً، فعلى المسلمين قاطبة والدول الإسلاميّة عامّة بذل السعي فيصيانتها عملًا بالآية المباركة، والحيلولة دون تهديمها بحجّة توسعة المسجد النبوي أو المسجد الحرام.

ولكن من سوء الحظّ، أو من تسامح الدول في ذلك المجال أن هُدّمت هذه البيوت ودمّرت بمعاول الوهابيين، ومن هذه البيوت بيت الحسنين والصادقين عليهم السلام في محلّة بني هاشم، فلا ترى لها أثراً، كما لا ترى من بيت أبي أيوب الأنصاري مُضيِّف النبيّ الأكرم أثراً، ومثلها مولد النبي في مكة المكرّمة وغيرها.

فعلى المسلمين مسؤولية إعادة هذه الأبنية في أماكنها عملًا بالآية ورفع قدرها مهما أمكن، ولئنصارت الإعادة أُمنية لا تُدرَك، مادام السيف على هامة المسلمين في أرض الوحي والتوحيد، لكنصيانةُ ما بقي منها في مختلف الأقطار أمرٌ ممكن.

2- أنّ قسماً من البيوت في المدينة المنوّرة مقابر ومشاهد

ص:24

لهؤلاء، فقد دُفن النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله في بيته.

كما أنّ بيت العسكريين يعني الإمام عليّ الهادي والحسن العسكري في سامرّاء بمثابة مقابرهما ومشاهدهما، فليس لأحد قلعها بمعاول الجور باسم التوحيد، وأيّ توحيد أعلى وأجل ممّا دعا إليه الذكر الحكيم الذي يأمر بصيانة بيوت هؤلاء مطلقاً، سواء كانت مقابرهم أمْ لا.

باللَّه عليك أيّها القارئ الكريم هل زرتَ بقيع الغرقد مراقدَ الأئمة والصحابة وزوجات النبي والشخصيّات الإسلاميّة الكبيرة، وهل شاهدت قيام الحكومة بواجبها من رفع قدره وتنظيف أرضه، أم شاهدت النقيض من ذلك؟ وقد كانت بعض هذه القبور بيوت الصحابة، ولعمري إنّ القلب ليحترق إذا رأى أنّ الوهابيين يتعاملون مع قبور أفلاذ كبد النبيّ وخيار أصحابه معاملة العدوّ مع العدوّ، ونعم من قال:

لعمري أنّ فاجعة البقيع يشيب لهولها فُود الرّضيعِ

لقد خرجنا في دراسة هذه الآية على نتيجة خاصة، وهي أنّصيانة بيوت الأنبياء والأولياء أمر ندب اللَّه سبحانه المسلمين إليه، سواء كان فيها قبر أوْ لا، وأنّ رفعها بالبناء وصيانتها عن الانطماس وتنظيفها عن الرجس واللغو عمل بالشريعة المقدّسة، حيثُ نزل به الوحي وسار عليه المسلمون في جميع القرون.

ص:25

الآية الثانية: اتّخاذ المساجد على قبور المضطهدين في سبيل التوحيد

اشارة

يذكر سبحانه قصة أصحاب الكهف، وأنّهم اعتزلوا قومَهم للحفاظ على عقيدتهم ودينهم، حتى وافاهم الأجل وهم في الكهف، وقد أعثر اللَّه عليهم قوماً بعد ثلاثة قرون وأطلعهم عليهم، يقول سبحانه:

«وَكَذلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَارَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً» (الكهف/ 21).

ومعنى الآية أنّا أعثرنا على أصحاب الكهف أهلَ المدينة ليعلموا أنّ وعد اللَّه بالبعث حقّ، فإنّ بَعْثَ هؤلاء بعد لَبْثهم ثلاثمائة سنة دليل على إمكان الحياة الثانوية، ليعلموا أنّ الساعة لا ريب فيها.

ثمّ إنّ القوم الذين أعثرهم اللَّه على أجسادهم اتّفقوا على تكريمهم، ولكن اختلفوا في طريقة التكريم، كما يقول سبحانه: «إِذْ

ص:26

يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ»، فظاهرُ المنازعة هو ما جاء بعد هذه الجملة بضميمة لفظة الفاء، فقال جماعة: «ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً»، أي اجعلوا عليهم بنياناً كبيراً، ويدلّ على الوصف تنكير «بُنْيَاناً»، وقدصرّح الجوهري وابن منظور بأنّ البنيان بمعنى الحائط «(1)»، ولذلك فسّره القاسمي بقوله:

أي باب كهفهم بنياناً عظيماً كالخانقاهات والمشاهد والمزارات المبنيّة على الأنبياء وأتباعهم «(2)»، تسترأجسادهم وتعظّم أبدانهم، ربهم أعلم بهم.

ولكن قال آخرون الذين غلبوا على أمر القائلين بالقول الأول وصار البلد تحت سلطتهم «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً» ومعبداً وموضعاً للعبادة والسجود يتعبّد الناس فيه ببركاتهم.

هذا هو الظاهر المستفاد من الآية.

قال الرازي: «قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِم» قيل: المراد به الملك المسلم وأولياء أصحاب الكهف، وقيل: رؤساء البلد، «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً» نعبد اللَّه، وستبقى آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد «(3)».

وقال أبو حيان الأندلسي: روي أنّ التي دَعت إلى البنيان ماتت كافرة، أرادت بناء مصنع لكفرهم، فمانعهم المؤمنون وبنوا عليهم مسجداً «(4)».


1- الجوهري، الصحاح 6: 228 مادة بناء؛ وابن منظور، اللسان 1: 510 تلك المادة.
2- القاسمي، محاسن التأويل 7: 21.
3- الرازي، مفاتيح الغيب 21: 105.
4- أبو حيان محمد بن يوسف 654- 754 ه، البحر المحيط ج 6.

ص:27

وقال أبو السعود (ت 951): «وَقَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِم» وهم الملك والمسلمون «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً» «(1)».

وقال الزمخشري في الكشاف: «وَقَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِم» من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم ليتّخذ على باب الكهف مسجداً يصلّي فيه المسلمون ويتبرّكون بمكانهم «(2)».

إلى غير ذلك من الكلمات الواردة في تفسير الآية، وكأنَّ الاتفاق موجود على أنّ القول بايجاد البنيان على باب الكهف كان لغير المسلمين، والقول ببناء المسجد على بابه قول المسلمين، والذي يدلّ على ذلك أمران:

الأوّل: إنّ اتّخاذ المسجد دليل على أنّ القائل كان موحّداً مسلماً غير مشرك، فأيّصلة للمشرك ببناء مسجد على باب الكهف، ولو كان المشركون يهتمّون بعمارة المسجد الحرام فلأجل أنّه أُنيطَ بالبيت كيانهم وعظمتهم في الأوساط العربيّة، بحيث كان التخلّي عنها مساوقاً لسقوطهم عن أعين العرب في الجزيرة كتكريمهم البيت الحرام.

أفبعدَ اتّفاق أكابر المفسّرين هل يصحّ لباحثٍ أن يشكّ في أنّ القائلين ببناء المسجد على قبورهم كانوا هم المسلمين الموحّدين؟!

الثاني: ما رواه الطبري في تفسير قوله: «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ» قال: إنّ المبعوث دخل المدينة فجعل يمشي بين سوقها فيسمع أُناساً كثيراً يحلفون باسم عيسى بن مريم فزاده فزعاً ورأى أنّه


1- أبو السعود محمد بن محمد العمادي، التفسير 5: 215.
2- الزمخشري، الكشاف 2: 245.

ص:28

حيران، فقام مسنِداً ظهرَه إلى جدار من جُدران المدينة ويقول في نفسه:

أمّا عشية أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلّاقتل، أمّا الغداة فأسمعهم وكلّ إنسان يذكر أمر عيسى لا يخاف، ثمّ قال في نفسه: لعلّ هذه ليست بالمدينة التي أعرف «(1)».

وهذا يعرب عن أنّ الأكثرية الساحقة كانت موحّدة مؤمنة متديّنة بشريعة المسيح، رغم ما كانوا على ضدّه قبل ثلاثمائة سنة.

وقال في تفسير قوله تعالى: «فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً» فقال الذين أعثرناهم على أصحاب الكهف: «ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ» يقول: ربّ الفتية أعلم بشأنهم، وقوله: «قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ» يقول جلّ ثناؤه: قال القوم الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف: «لَتَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً».

وقد نُقل عن عبد اللَّه بن عبيد بن عمير: فقال المشركون نبني عليهم بنياناً فإنّهم آباؤنا ونعبد اللَّه فيها، وقال المسلمون: نحن أحقّ بهم، هم منّا، نبني عليهم مسجداً فيه ونعبد اللَّه فيه «(2)».

الرأي المسبق يضرب عرض الجدار

إنّ الشيخ الألباني ربيب الوهابيّة ومروّجها، لمّا رأى دلالة الآية على أنّ المسلمين حاولوا أنْ يبنوا مسجداً على قبورهم، وكان ذلك على


1- الطبري، التفسير 15: 219 في تفسير سورة الكهف، الآية 19 ط. مصر مصطفى الحلبي.
2- الطبري، التفسير 15: 225؛ ولاحظ تفسير القرطبي والكشاف للزمخشري وغرائب القرآن للنيسابوري في ذيل هذه الآية.

ص:29

طرف الخلاف من عقيدته، حاول تحريف الكلم وقال: إنّ المراد من الغالبين هم أهل السلطة، ولا دليل على حجيّة فعلهم، ولكنّه عزب عن أنّ البيئة قد انقلبت عن الشرك إلى التوحيد ومن الكفر إلى الإسلام حسبما نقله الطبري، وليس القائل ببناء المسجد على بابهم الملك، وإنّما القائل هم الذين توافدوا على باب الكهف عندما أعثرهم سبحانه على أحوالهم، وطبع الحال يقتضي توافد الأكثرية الساحقة القاطنين في المدينة على باب الكهف لا خصوص الملك، ولا وزراؤه، بل الموحّدون بأجمعهم، وهو في هذه النسبة عيال على ابن كثير حيث قال:

والظاهر أنّهم أصحاب النفوذ «(1)».

نحن نفترض أنّهم أصحاب النفوذ، إلّاأنّهم نظروا إلى الموضوع من خلال منظار دينهم ومقتضى مذهبهم لا مقتضى سلطتهم.

تقرير القرآن علىصحّة كلا الاقتراحين

إنّ الذكر الحكيم يذكر كلا الاقتراحين من دون أيّ نقدٍ ورد، وليسصحيحاً قطعاً أن يذكر اللَّه سبحانه عن هؤلاء المتواجدين على باب الكهف أمراً باطلًا من دون أيّة إشارة إلى بطلانه، إذ لو كان كذلك كأن يكون أمراً محرّماً أو مقدّمة للشرك والانحراف عن التوحيد، لكان عليه أن لا يمرّ عليها بلا إشارة إلى ضلالهم وانحرافهم، خصوصاً أنّ سياق الآية بصدد المدح وأنّ أهل البلد اتّفقوا على تكريم هؤلاء الذين هجروا


1- ابن كثير، التفسير 5: 375.

ص:30

أوطانهم لأجلصيانة عقيدتهم، غاية الأمر اختلفوا في كيفيّته، فمن قائل ببناء البنيان إلى آخر ببناء المسجد.

إنّ القرآن كتاب نزل لهداية الإنسان وتربية الأجيال، والهدف من عرض حياة الأُمم ووقائعهم هو الاعتبار، فلا ينقل شيئاً إلّافيه عبرة، فلو كان الاقتراحان يمسّان كرامة التوحيد، لِمَ سكت عنه؟

وهذا ظاهر فيمن تدبّر في القرآن الكريم، وسيوافيك بقيّة الكلام عند بيان النتيجة.

إنّ جمال الدين القاسمي الدمشقي (1283- 1332 ه) كان يصوّر نفسه مصلحاً إسلاميّاً يسعى في توحيد كلمة المسلمين ولَمِّ شَعْثِهم، ومن شروط من يتبنّى لنفسه ذلك المقام الرفيع أن ينظر إلى المسائل من منظار وسيع ويستقبل الخلاف بين المسلمين بسعةصدر، ولكنّه- عفا اللَّه عنه- يريد توحيد الكلمة في ظلّ الأُصول التي ورثها عن ابن تيمية، فزاد في الطين بلّة، ويشهد لذلك ما علّقه على عبارة ابن كثير، وإليك عبارة ابن كثير، وتعليق ذاك.

قال ابن كثير بعد تفسير الآية: هل هم كانوا محمودين أم لا؟ فيه نظر، لأنّ النبيّ قال: «لعن اللَّه اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبياءهم وصالحيهم مساجد» يحذّر ما فعلوا.

وقال جمال الدين: وعجيب من تردّده في كونهم غير محمودين، مع إيراده الحديث الصحيح بعده المسجّل بلعن فاعل ذلك، والسبب في ذلك أنّ البناء على قبر النبيّ مَدعاة للإقبال عليه والتضرّع إليه، ففيه فتح

ص:31

لباب الشرك وتوسّل إليه بأقرب وسيلة ... «(1)».

يلاحظ عليه: أنّ القرآن هو الحجّة الكبرى للمسلمين، وفيه تبيان لكلّ شي ء، وهو المهيمن على الكتب، فإذا دلّ القرآن على جوازه فما قيمة الخبر الواحد الذي روي في هذا المجال إذا كان مضادّاً للوحي، ومخالفاً لصريح الكتاب، وإن كانت السنّة المحمديّة الواقعية لا تختلف عنه قيد شعرة، إنّما الكلام في الرواية التي رواها زيد عن عمرو حتى ينتهي إلى النبي، فإنّ مثله خاضع للنقاش، ومرفوض إذا خالف الكتاب، لكن ما ذكره يعرب عن أنّ الأساس عنده هو الحديث لا الذكر الحكيم.

وكان عليه بعد تسليم دلالة القرآن أن يبحث في سند الحديث ودلالته، وأنّ الحديث على فرض الصحّة ناظر إلى ما كان القبر مسجوداً له، أو مسجوداً عليه أو قِبلة، ومن المعلوم أنّ المسلمين لا يسجدون إلّا للَّه، ولا يسجدون إلّاعلى ماصحّ السجود عليه، ولا يستقبلون إلّاالقِبلة، وسيتّضح نصّ محقّقي الحديث، على أنّ المراد هو ذلك، فانتظر.

وأعجب منه ما في ذيل كلامه: من أنّه رأى التوسّل بالنبيّ شركاً، مع أنّ النصوص الصحيحة في الصحاح تدلّ على جوازه، فقد توسّل الصحابي الضرير بالنبيّ الأكرم حسب تعليمه وقال: اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى «(2)».


1- جمال الدين قاسمى، محاسن التأويل 7: 30- 31.
2- الترمذي، الصحيح 5: كتاب الدعوات، الباب 119 برقم 2578؛ ابن ماجة، السنن 1: 441 برقم 1385؛ الإمام أحمد، المسند 4: 138، إلى غير ذلك من المصادر.

ص:32

وقد اتّفقوا على صحة الحديث، حتى أنّ ابن تيمية- مُثيرَ هذه الشكوك- اعترف بصحّته وقال: وقد روى الترمذي حديثاًصحيحاً عن النبيّ أنّه علّم رجلًا يدعو فيقول: ...، وقد أوردنا نصوص القوم في كتاب «التوسّل».

ومن زعم أنّ هذه التوسّلات أساس الشرك، فلينظر إلى المسلمين طيلة أربعة عشر قرناً، فإنّهم ما برحوا يتوسّلون بالنبيصلى الله عليه و آله، وما عدلوا عن سبيل التوحيد قيد شعرة.

إنّ إنشاء البناء على قبر نبيّ التوحيد تأكيدٌ على مبدأ التوحيد ورسالته العالمية التي يشكل أصلها الأول قوله سبحانه: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ».

وقد خرجنا عن هذه الدراسة بالنتيجتين التاليتين:

1- جواز البناء على قبور الأولياء والصالحين ودعاة التوحيد فضلًا عن النبيّ وما ذلك إلّاأنّ القرآن ذكر ذلك من دون أن يغمض فيه، وليس القرآن كتاباً قصصيّاً ولا مسرحيّاً للتمثيل، بل هو كتاب هداية ونور، فإن نقل شيئاً ولم يغمض عليه فهو دليل على أنّه محمود عنده.

نرى أنّه سبحانه يحكي كيفيّة غرق فرعون ويقول: «حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (يونس/ 90).

ولمّا كانت تلك الفكرة باطلة عنده سبحانه، أراد إيقاف المؤمنين على أنّ الإيمان في هذا الظرف غير مفيد، فلأجل ذلك عقّب عيه بقوله:

«ءالْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» (يونس/ 91).

ص:33

فالإنسان العارف بالكتاب يقف على أنّه لم يترك علىصعيد العقائد أُموراً إلّاوذكر أوضحها وبيّنها بطرق مختلفة، ومن تلك الطرق القصص الواردة في الكتاب العزيز، فكلّ ما وقع في الأُمم السالفة وصار القرآن بصدد ذكره فهو على أقسام ثلاث: كونه بيّن الصحة، أو بيّن البطلان، أو المردّد بين الأمرين.

فقد يترك البيان في الأولين لعدم الحاجة، وأمّا الثالث فلا يتركه إلّا إذا كان مقبولًا لديه.

2- جواز بناء المسجد على قبور الصالحين فضلًا عن الأنبياء وجواز الصلاة فيها والتبرّك بتربته، فلو كانت الصلاة في المقابر مكروهة فالأدلّة المرغّبة إلى الصلاة في جِوار الصالحين والأنبياء تخصّص تلك العمومات، وذلك لأنّ للصلاة في مشاهدهم مصلحة تغلب على الحضاضة الموجودة في الصلاة في المقابر المطلقة.

ص:34

الآية الثالثة:صيانة الآثار الإسلامية وتعظيم الشعائر

اشارة

قال سبحانه: «ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» (الحج/ 32).

والاستدلال بالآية يتوقّف على ثبوتصغرى وكبرى:

الصغرى عبارة عن كون الأنبياء وأوصيائهم ومن يرتبط بهم أحياءً وأمواتاً من شعائر اللَّه.

والكبرى عبارة عن كون البناء وصيانة الآثار والمقابر تعظيماً لشعائر اللَّه.

ولا أظنّ أنّ الكبرى تحتاج إلى مزيد بيان، إنّما المهم بيان الصغرى، وأنّ الأنبياء والأوصياء من شعائر اللَّه، وبيان ذلك يحتاج إلى نقل ما ورد حول شعائر اللَّه من الآيات:

1- «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ» (البقرة/ 158).

2- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامِ وَلَا

ص:35

الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً» (المائدة/ 2).

3- «وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ» (الحج/ 36).

وفي آية أُخرى جعل مكان شعائر اللَّه حرمات اللَّه وقال:

«ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ ...» (الحج/ 30).

ما هو المقصود من شعائر اللَّه؟

هنا احتمالات:

1- تعظيم آيات وجوده سبحانه.

2- معالم عبادته وأعلام طاعته.

3- معالم دينه وشريعته وكلّ ما يمت إليهما بصلة.

أمّا الأوّل، فلم يقل به أحد، إذ كل ما في الكون آيات وجوده، ولا يصحّ تعظيم كلّ موجود بحجة أنّه دليل على الصانع.

وأمّا الثاني، فهو داخل في الآية قطعاً، وقد عدّ الصَّفا والمروةَ والبُدْن من شعائر اللَّه، فهي من معالم عبادته وأعلام طاعته، إنّما الكلام في اختصاص الآية بمعالم العبادة وأعلام الطاعة، ولا دليل عليه، بل المتبادر هو الثالث، أي معالم دينه سبحانه، سواء كانت أعلاماً لعبادته وطاعته أم لا، فالأنبياء والأوصياء والشهداء والصحف والقرآن الكريم والأحاديث النبويّة كلّها من شعائر دين اللَّه وأعلام شريعته، فمن عظّمها فقد عظّم شعائر الدين.

ص:36

قال القرطبي: فشعائر اللَّه، أعلام دينه، لا سيما ما يتعلّق بالمناسك «(1)».

ولقد أحسن حيث عمّم أولًا، ثمّ ذكر مورد الآية ثانياً، وممّا يعرب عن ذلك أنّ ايجاب التعظيم تعلّق ب «حرمات اللَّه» في آية أُخرى.

قال سبحانه: «وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ»، والحرمات ما لا يحلّ انتهاكه، فأحكامه سبحانه حرمات اللَّه، إذ لا يحلّ انتهاكها، وأعلام طاعته وعبادته حرمات اللَّه، إذ يحرم هتكها، وأنبياؤه وأوصياؤهم وشهداء دينه وكتبه وصحفه من حرمات اللَّه، يحرم هتكهم، فلو عظّمهم المؤمن أحياءً وأمواتاً فقد عمل بالآيتين: «وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ» «وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ».


1- القرطبي، التفسير 12: 56 طبع دار إحياء التراث.

ص:37

الآية الرابعة:صيانة الآثار ومودّة ذوي القربى

إنّ القرآن الكريم يأمرنا- بكلّصراحة- بحبّ النبيّصلى الله عليه و آله وأقربائه، ومودّتهم ومحبّتهم فيقول:

«وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» (المائدة/ 56) و «قُلْ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» (الشورى/ 23).

ومن الواضح لدى كلّ من يخاطبه اللَّه بهذه الآية أنّ البناء على مراقد النبيصلى الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، هو نوع من إظهار الحبّ والمودّة لهم، وبذلك يخرج عن كونه بدعة، لوجود أصل له في الكتاب والسنّة، ولو بصورة كليّة.

وهذه العادة متّبعة عند كافة الشعوب والأُمم في العالم، فالجميع يعتبرون ذلك نوعاً من المودّة لصاحب ذلك القبر، ولذلك تراهم يدفنون كبار الشخصيات السياسية والعلمية في كنائس ومقابر مشهورة ويزرعون أنواع الزهور والأشجار حولها.

ص:38

الفصل الثاني: من منظار القواعد الفقهيّة

الأصل في الأشياء الإباحة والحلّية

إنّ الأصل في الأشياء هو الإباحة ما لم يرد فيها نهي في الشريعة، وهذه هي القاعدة المحكمة التي اعتمد عليها الفقهاء عبر القرون إلّا المتزمّتين غير الواعين.

حتى أنّ الذكر الحكيم يصرّح بأنّ وظيفة النبيّ الأكرم هو بيان المحرّمات دون المحلّلات، وأنّ الأصل هو حلّية كلّ عمل وفعل، إلّاأن يجد النبيّ حرمته في شريعته، وأنّ وظيفة الأُمّة هو استفراغ الوسع في استنباط الحكم من أدلّته، فإذا لم تجد دليلًا على الحرمة تحكم عليه بالجواز.

ونكتفي في هذا المقام بالإشارة إلى مجموعة من الآيات، وإن كان في السنّة الغرّاء أيضاً كفاية:

1- قال سبحانه: «وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ

ص:39

بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ» (الأنعام/ 119).

فإنّ هذه الآية تكشف عن أنّ الذي يحتاج إلى البيان إنّما هو المحرّمات لا المباحات، ولأجل ذلك لا وجه للتوقّف في العمل، بعدما لم يكن مبيّناً في جدول المحرّمات.

وبعبارة أُخرى: أنّ المسلم إذا لم يجد شيئاً في جدول المحرّمات لم يكن له تبرير لتوقّفه وعدم الحكم عليه بالإباحة والجواز والحلّية.

2- قال سبحانه: «قُلْ لَاأَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» (الأنعام/ 145).

إنّها تكشف عن أنّ ما يلزم بيانه إنّما هو المحرّمات لا المباحات، ولذلك يستدلّ مبلغ الوحي- ونعني به النبي الكريمصلى الله عليه و آله- بأنّه لا يجد فيما أُوحي إليه محرّماً على طاعم يطعمه سوى الأُمور المذكورة، فإذا لم يكن هناك شي ء فهو محكوم بالحلّية والإباحة.

3- قال سبحانه: «مَنِ اهْتَدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (الإسراء/ 15).

4- قال سبحانه أيضاً: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ» (القصص/ 59).

إنّ دلالة هاتين الآيتين على المقام واضحة، فإنّ جملة «وما كان» تارة تستعمل في نفي الشأن والصلاحية، وأُخرى في نفي كون الشي ء

ص:40

أمراً ممكناً.

أمّا الأوّل، فمثل قوله: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانِكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ» (البقرة/ 143) وغيرها كسورة آل عمران (الآيات 79 و 161)، أي ليس من شأن اللَّه سبحانه وهو العادل الرؤوف أن يضيع أيمانكم.

وأمّا الثاني، فمثل قوله: «مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلًا» (آل عمران/ 145)، أي لا يمكن لنفس أن تموت بدون إذنه سبحانه.

فيكون معنى الآيتين بناءً على الاستعمال الأول: هو ليس من شأن اللَّه تعالى أن يعذّب الناس أو يهلكهم قبل أن يبعث إليهم رسولًا.

وعلى الاستعمال الثاني: هو ليس من الممكن أن يعذّب اللَّه الناس أو يهلكهم قبل أن يبعث إليهم رسولًا.

وعلى كلّ تقدير، فدلالة الآيتين على الإباحة واضحة، إذ ليست لبعث الرسل خصوصية وموضوعية، ولو أُنيط جواز العذاب ببعثهم فإنّما هو لأجل كونهم وسائط للبيان والإبلاغ، والملاك هو عدم جواز التعذيب بلا بيان وإبلاغ، وأنّ التعذيب ليس من شأنه سبحانه، أو أنّه ليس أمراً ممكناً حسب حكمته.

5- قال سبحانه: «وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا مُنْذِرُونَ» (الشعراء/ 208).

فإنّ هذه الآية مشعرة بأنّ الهلاك كان بعد الإنذار والتخويف، وأنّ اشتراط الانذار كناية عن البيان وإتمام الحجّة.

6- قوله سبحانه: «وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى» (طه/ 134).

ص:41

فإنّ هذه الآية تدلّ على أنّ التعذيب قبل بعث الرسول مردود بحجة المعذّبين وهي قولهم: «لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ»، فلا يصحّ التعذيب إلّابعد إتمام الحجّة عليهم ببعث الرسل.

وهذا يعني أنّ الأشياء مباحة جائزة الارتكاب خالية عن العقوبة أصلًا، إلّاإذا ردع عنها الشارع بشكل من الأشكال التي منها إرسال الأنبياء.

7- قوله سبحانه: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٍ» (المائدة/ 19).

فإنّ ظاهر قوله: «مَا جِاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ» أنّه حجّة تامّةصحيحة، ويحتج به على كلّ من عذّب قبل البيان، ولأجل ذلك قام سبحانه بإرسال الرسل حتى لا يُحتج عليه، بل تكون الحجة للَّه سبحانه.

وهذا يعطي أنّه لا يحكم على حرمة شي ء ولا يجوز التعذيب على ارتكابه قبل بيان حكمه، وذلك لأنّ بعث البشير والنذير كناية عن بيان الأحكام.

ص:42

الفصل الثالث: المشاهد والمقابر من خلال سيرة المسلمين في خير القرون

اشارة

قد تعرّفت على قضاء الكتاب في تكريم الأنبياء والأولياء، وأنّ البناء على قبورهم أو بناء المساجد حول مراقدهم، أمر محبّذ، ندبت إليه الشريعة الإلهيّة، ولم ترَ أيّ أثر فيها للتحريم، وعلى ذلك درج السلف الصالح عبر القرون، ولم يزل الإلهيّون من أهل الكتاب والمسلمين على مدى العصور يهتمّون بمقابر الأنبياء والأولياء بالبناء والتعمير ثمّ التطهير والتنظيف لها، حتى أنّ كثيراً من المتمكّنين يُخصّصُون شيئاً من أموالهم لهذه الغاية.

فهذه القباب الشاهقة والمنائر الرفيعة والساحات الوسيعة حول مراقد الأنبياء والأولياء وحول مراقدصحابتهم في مختلف الديار شرقها وغربها، لدليل قاطع على أنّ هذه السيرة سيرة مشروعة، وإلّا كان على الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان رفضها وردّها بالبيان والبنان

ص:43

والسلطة والقوّة، فالسكوت عليها إلى عصر إثارة هذه الشكوك، عصر ابن تيمية، أدلّ دليل على كونها سيرة مشروعة.

وعندما قام ابن تيمية بوجه هذه السيرة أثار ثائرة المسلمين ضدّه شرقاً وغرباً، وقد بيّنوا ضلالة تلك الفكرة و نحرافها عن الشرع.

و قد وقف السلف الصالح- بعد فتح الشام- على قبور الأنبياء ذوات البناء الشامخ، فتركوها على حالها من دون أن يخطر ببال أحدهم- وعلى رأسهم عمر بن الخطاب- بأنّ البناء على القبور أمر محرّم يجب هدمه.

وهكذا الحال في سائر القبور المشيّدة عليها الأبنية في أطراف العالم، وإن كنت في ريب فاقرأ تواريخهم.

ولو قام باحث بوصف الأبنية الشاهقة التي كانت مشيّدة على قبور الأنبياء والصالحين قبل ظهور الإسلام، وما بناه المسلمون في عصر الصحابة والتابعين لهم باحسان إلى يومنا هذا في مختلف البلدان، لجاء بكتاب فخم ضخم، يعرب عن أنّ السنة الرائجة في تلك الأعصار قبل الإسلام وبعده، من عصر الرسول والصحابة والتابعين لهم إلى يومنا هذا، هي مشروعيّة البناء على القبور والعناية بحفظ آثار علماء الدين، ولم ينبس أي ابن أُنثى حول ذلك ببنت شفة، وما اعتُرض عليها، بل تلقوها اظهاراً للمحبّة والودّ لأصحاب الرسالات والنبوّات وأصحاب العلم والفضل، ومن خالف تلك السنة وعدّها شركاً أو أمراً محرّماً فقد اتّبع غير سبيل المؤمنين، قال سبحانه:

«وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعَ غَيْرَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنَصِلْهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً» (النساء/ 115).

ص:44

وقد وارى المسلمون جسد النبي الأكرم في بيته المسقّف، ولم يزل المسلمون منذ واروا جثمانه، على العناية بحجرته الشريفة بشتّى الأساليب.

وقد بنى عمر بن الخطاب حول حجرته جداراً، حيث جاء تفصيل كلّ ذلك مع ذكر وصف الأبنية التي توالت عليها عبر القرون في الكتب المتعلّقة بتاريخ المدينة، لا سيّما وفاء الوفا للإمام السمهودي المتوفّى عام 911 ه «(1)»، والبناء الأخير الذي شيّد عام 1270 ه قائم لم يمسّه سوء، وسوف يبقى بفضل اللَّه تبارك وتعالى محفوظاً عن الاجتراء.

وأمّا المشاهد والقباب المبنيّة في المدينة منذ العصور الأُولى فحدّث عنها ولا حرج، لا سيّما في بقيع الغرقد، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب التاريخ وأخبار المدينة.

وقد ذكر كثير من المؤرّخين والسوّاح شيئاً كثيراً من أبنية شاهقة على قبور الأنبياء والصالحين في خير القرون.

وبدورنا نذكر شيئاً يسيراً ممّا جاء في كتبهم، ونكتفي بذكر كلمات ثلاثة من المؤرّخين المعروفين بالثبت والضبط، ثمّ نذكر ما ذكره الرحّالة المعروف ابن جبير في رحلته على وجه التفصيل:

1- كلمة المسعودي في حقّ قبور أئمة أهل البيت عليهم السلام

هذا هو المسعودي الذي توفي عام 345 ه، وقد أدرك خير القرون، وولد في مؤخّره- لو كان خير القرون هو القرون الثلاثة الأُولى-


1- السمهودي، وفاء الوفا 2: 458 الفصل التاسع.

ص:45

يقول: وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة مكتوب عليها:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم، الحمد للَّه مبيد الأُمم ومحيي الرمم، هذا قبر فاطمة بنت رسول اللَّه (ص) سيّدة نساء العالمين وقبر الحسن بن عليّ ابن أبي طالب، وعليّ بن الحسين بن أبي طالب، ومحمّد بن علي وجعفر ابن محمد «(1)».

2- كلمة ابن الجوزي:

يقول ابن الجوزي: وهذا هو محمد بن أبي بكر التلمساني يصف المدينة الطيّبة وبقيع الغرقد في القرن الرابع بقوله: وقبر الحسن بن علي عن يمينك إذا خرجت من الدرب ترفع إليه قليلًا، عليه مكتوب: هذا قبر الحسن بن علي، دفن إلى جنب أُمّه فاطمة رضي اللَّه عنها وعنه «(2)».

3- كلمة الحافظ محمد بن محمود بن النجّار:

يقول: في قبة كبيرة عالية قديمة البناء في أول البقيع، وعليها بابان يفتح أحدهما في كلّ يوم للزيارة رضي اللَّه عنهم «(3)».

4- الرحّالة ابن جبير والأبنية على المشاهد:

اشارة

هذا هو أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي الشاطبي،


1- المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر 2: 288.
2- مجلة العربي: رقم ع 6 المؤرخة 1393.
3- أخبار مدينة الرسول، اهتمّ بنشره صالح محمد جمال، طبع مكة المكرّمة 1366.

ص:46

أحد علماء الأندلس الأكابر في الفقه والحديث، يحكي لنا في رحلته عن الأبنية الرفيعة والقباب العالية في المشاهد والمزارات المعروفة يومذاك للأنبياء والصالحين والنبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله وأهل بيته وصحابته والتابعين لهم بإحسان.

فقد قام برحلات ثلاث، أهمّها استغرقت أكثر من ثلاث سنوات، حيث بدأها يوم الاثنين في التاسع عشر من شهر شوال عام 578 ه، و ختمها في يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر محرم سنة 581 ه، وقد وصف في هذه الرحلة ما مرّ به من مدن وما شاهد من عجائب البلدان.

كما وعنى عناية خاصة بوصف النواحي الدينية والمساجد والمشاهد وقبور الأنبياء والأولياء وأهل البيت والصحابة والتابعين، وصفاً دقيقاً، يعرب عن أنّ هذه القباب والأبنية الرفيعة شُيّدت من قبل قرون تتّصل إلى عصر الصحابة والتابعين.

ولم يكن يومذاك أيُّ معترض على بنائها فوق قبور هؤلاء، ولم يدر بِخُلْدِ أحد أنّ هذه القباب والأبنية ستبعدنا عن التوحيد، بل كانوا يتبرّكون بهذا العمل ويبدون ما في مشاعرهم من ودّ وحبّ لأصحابها.

وكان التبرّك والتقبيل سنّة رائجة بين المسلمين، وهم لم يكونوا يقبّلون باباً ويتبرّكون بالجدار، بل يتبرّكون بمن حوتهم، على حدّ قول مجنون العامري:

أمرُّ على الديار ديار ليلى أُقبِّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حبّ الديار شغفن قلبي ولكن حبّ من سكن الديارا

وفيما يلي نشير بشكل مقتضب إلى مجمل كلامه:

مشهد رأس الحسين بالقاهرة:

يقول ابن جبير في ذكر مصر والقاهرة وبعض آثارها العجيبة:

فأوّل ما نبدأ بذكره منها الآثار والمشاهد المباركة التي ببركتها يمسكها اللَّه عزّ وجلّ، فمن ذلك المشهد العظيم الشأن الذي بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي اللَّه عنهما، وهو في تابوت فضّة مدفون تحت الأرض قد بُنيَ عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه ولا يحيط الإدراك به ....

إلى أن يقول: ومن أعجب ما شاهدناه في دخولنا إلى هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل، شديد السواد والبصيص، يصف الأشخاص كلّها، كأنّه المرآة الهندية الحديثة الصقل.

وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك، وإحداقهم به، وانكبابهم عليه، وتمسّحهم بالكسوة التي عليه، وطوافهم حوله، مزدحمين داعين باكين متوسّلين إلى اللَّه سبحانه وتعالى ببركة التربة المقدّسة، ومتضرّعين ما يذيب الأكباد ويصدع الجماد، والأمر فيه أعظم، ومرآى الحال أهول، نفعنا اللَّه ببركة ذلك المشهد الكريم.

مشاهد الأنبياء والصالحين في مصر:

يقول ابن جبير عن الجبّانة المعروفة بالقرافة: هي أيضاً إحدى عجائب الدنيا، لِما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياءصلوات اللَّه عليهم،

ص:47

ص:48

وأهل البيت رضوان اللَّه عليهم، والصحابة والتابعين والعلماء والزهّاد والأولياء ... فمنها قبر ابن النبيصالح، وقبر روبيل بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم خليل الرحمنصلوات اللَّه عليهم أجمعين، وقبر آسية امرأة فرعون رضي اللَّه عنها، ومشاهد أهل البيت رضي اللَّه عنهم أجمعين، مشاهد أربعة عشر من الرجال وخمس من النساء.

إلى أن يقول: مشهد عليّ بن الحسين بن عليّ رضى الله عنه، ومشهدان لابني جعفر بن محمد الصادق رضي اللَّه عنهم، والقاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد بن علي زين العابدين المذكور، رضي اللَّه عنهم، ومشهدان لابنية الحسن والحسين رضي اللَّه عنهما، ومشهد ابنه عبد اللَّه بن القاسم رضى الله عنه، ومشهد ابنه يحيى بن القاسم، ومشهد عليّ بن عبد اللَّه بن القاسم، رضي اللَّه عنهم، ومشهد أخيه عيسى بن عبد اللَّه، رضي اللَّه عنهما، ومشهد يحيى بن الحسن بن زيد بن الحسن، رضي اللَّه عنهم، ومشهد محمد بن عبد اللَّه بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي، رضي اللَّه عنهم، ومشهد جعفر بن محمد من ذريّة عليّ بن الحسين، رضي اللَّه عنهم.

وأمّا عن النساء فيقول ابن جبير: مشهد السيّدة أُمّ كلثوم ابنة القاسم بن محمد بن جعفر، رضي اللَّه عنهم، ومشهد السيّدة زينب ابنة يحيى بن زيد بن علي بن الحسين، رضي اللَّه عنهم، ومشهد أُمّ كلثوم ابنة محمد بن جعفر الصادق رضي اللَّه عنهم، ومشهد السيّدة أُمّ عبد اللَّه بن القاسم بن محمد، رضي اللَّه عنهم.

ص:49

مشاهد الصحابة في مصر:

ويذكر أيضاً من المشاهد في قوله: مشهد معاذ بن جبل رضى الله عنه، مشهد عقبة بن عامر الجهني حامل راية رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم، مشهدصاحب بردة الرسولصلى الله عليه و سلم، مشهد أبي الحسنصائغ رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم، مشهد سارية الجبل رضى الله عنه، مشهد محمد بن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنهما، مشهد أولاده رضي اللَّه عنهم، مشهد أحمد بن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنهما، مشهد أسماء ابنة أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنهما، مشهد ابن الزبير بن العوام رضي اللَّه عنهما، مشهد عبد اللَّه بن حذافة السهميصاحب رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم، مشهد ابن حليمة رضيع رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم.

مشاهد الفقهاء الكبار في مصر:

وعن مشاهد الأئمة العلماء الزهّاد يقول: مشهد الإمام الشافعي رضى الله عنه، وهو من المشاهد العظيمة احتفالًا واتّساعاً، وبُني بإزائه مدرسة لم يُعْمَر بهذه البلاد مثلها، يخيل لمن يطوف عليها أنّها بلد مستقل بذاته، بإزائها الحمام، إلى غير ذلك من مرافقها، والبناء فيها حتى الساعة، والنفقة عليها لا تُحصى، تولّى ذلك بنفسه الشيخ الإمام الزاهد العالم المعروف بنجم الدين الحُبوشاني.

وسلطان هذه الجهاتصلاح الدين، يسمح له بذلك كلّه ويقول:

زد احتفالًا وتأنّقاً وعلينا القيام بمؤونة ذلك كله، فسبحان الذي جعله صلاح دينه كاسمه.

ثمّ يذكر مشاهد أُخرى ويقول:

ص:50

مشهد المُزَنيّصاحب الإمام الشافعي رضى الله عنه، مشهد أشهبصاحب مالك رضى الله عنه، مشهد عبد الرحمن بن القاسمصاحب مالك رضي اللَّه عنهما، مشهد أصبغصاحب مالك رضي اللَّه عنهما، مشهد القاضي عبد الوهاب رضى الله عنه، مشهد عبد اللَّه بن عبد الحكم ومحمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم رضي اللَّه عنهما، مشهد الفقيه الواعظ الزاهد أبي الحسن الدينوري رضى الله عنه، مشهد بُنان العابد رضى الله عنه، مشهد الرجل الصالح العابد الزاهد المعروف بصاحب الإبريق، وقصّته عجيبة في الكرامة، مشهد أبي مُسلم الخَوْلاني رضى الله عنه، مشهد المرأة الصالحة المعروفة بالعيناء رضي اللَّه عنها، مشهد الروذباريّ رضى الله عنه، مشهد محمد بن مسعود بن محمد بن هارون الرّشيد المعروف بالسّبتي رضى الله عنه، مشهد الرجل الصالح مُقبل الحبشيّ رضى الله عنه، مشهد ذي النون بن ابراهيم المصري رضى الله عنه، مشهد القاضي الأنباري، قبر الناطق الذي سُمع عند وضعه في لحده يقول: اللّهمّ أنزلني مُنزلًا مباركاً وأنت خيرُ المنزلين رضى الله عنه، مشهد العروس ولها أثر من الكرامة في حال جَلْوَتها على زوجها لم يُسمع أعجب منه، مشهد الصامت الذي يُحكى عنه أنّه لم يتكلّم أربعين سنة، مشهد العصافيري، مشهد عبد العزيز بن أحمد بن علي بن الحسن الخوارزمي، مشهد الفقيه الواعظ الأفضل الجوهريّ ومشاهد أصحابه بإزائه رضي اللَّه عنهم أجمعين، مشهد شُقْران شيخ ذي النّون المصري، مشهد الرجل الصالح المعروف بالأقطع المغربيّ، مشهد المقرئ وَرْش، مشهد الطبري، مشهد شيبان الراعي.

والمشاهد الكريمة بها أكثر من أن تُضبَط بالتقييد أو تتحصّل

ص:51

بالإحصاء، وإنّما ذكرنا منها ما أمكنَتْنا مشاهدتهُ.

وبقبلة القرافة المذكورة بسيط متّسع يُعرف بموضع قبور الشهداء، وهم الذين استُشهدوا مع سارية رضي اللَّه عن جميعهم، والبسيط المذكور مُسنّم كله للعيان على مثال أسنِمة القبور دون بناء.

القباب الرفيعة لأهل البيت في مكة المكرّمة:

وعن مشاهد مكة المكرّمة يقول ابن جبير: فمن مشاهدها التي عاينّاها قبّة الوحي، وهي في دار خديجة أُمّ المؤمنين رضي اللَّه عنها، وبها كان ابتناء النبيصلى الله عليه و سلم بها، وقبّةصغيرة أيضاً في الدار المذكورة فيها كان مولد فاطمة الزهراء رضي اللَّه عنها، وفيها أيضاً ولدت سيديّ شباب أهل الجنّة، الحسن والحسين رضي اللَّه عنهما، وهذه المواضع المقدّسة المذكورة مغلقة مصونة قد بنيت بناءً يليق بمثلها.

ومن مشاهدها الكريمة أيضاً مولد النبيصلى الله عليه و سلم، والتربة الطاهرة التي هي أوّل تربة مسّت جسمه الطاهر بُني عليها مسجد لم يُر أحفل بناءً منه، أكثره ذهب منزّل به، والموضع المقدّس الذي سقط فيهصلى الله عليه و سلم ساعة الولادة السعيدة المباركة التي جعلها اللَّه رحمةً للأُمّة أجمعين محفوف بالفضة.

ثمّ يعد بعض المشاهد فيقول: دار الخيزران، وهي الدار التي كان النبيصلى الله عليه و سلم يعبد اللَّه فيها سراً مع الطائفة الكريمة المبادرة للإسلام من أصحابه رضي اللَّه عنهم ... دار أبي بكر الصديق ... قبّة بين الصفا والمروة تنسب لعمر بن الخطاب ...

يقول ابن جبير: دخلنا مولد النبيصلى الله عليه و سلم، وهو مسجد حفيل البنيان

ص:52

وكان داراً لعبد اللَّه بن عبد المطلب ... إلى أن يقول: وعلى مقربةٍ منه أيضاً مسجد، عليه مكتوب: هذا المسجد هو مولد عليّ بن أبي طالب، رضوان اللَّه عليه، وفيه تربّى رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم، وكان داراً لأبي طالب عمّ النبيصلى الله عليه و سلم وكافله.

المشاهد المكرّمة ببقيع الغرقد:

وفي ذكر المشاهد المكرّمة ببقيع الغرقد يقول ابن جبير: فأوّل ما نذكر من ذلك مسجد حمزة رضى الله عنه، وهو بقِبْلَي الجبل المذكور، والجبل جوفيّ المدينة، وهو على مقدار ثلاثة أميال، وعلى قبره رضى الله عنه مسجد مبنيّ، والقبر برحبة جوفي المسجد، والشهداء رضي اللَّه عنهم بإزائه ...

وحول الشهداء تربة حمراء هي التربة التي تنسب إلى حمزة ويتبرّك الناس بها.

وبقيع الغرقد شرقي المدينة، تخرج إليه على باب يعرف بباب البقيع، وأوّل ما تلقى عن يسارك عند خروجك من الباب المذكور مشهدصفية عمّة النبيصلى الله عليه و سلم أُمّ الزبير بن العوام رضى الله عنه، وأمام هذه التربة قبر مالك بن أنس الإمام المدني رضى الله عنه وعليه قبّةصغيرة مختصرة البناء، وأمامه قبر السلالة الطاهرة ابراهيم ابن النبيصلى الله عليه و سلم وعليه قبّة بيضاء، وعلى اليمين منها تربة ابن لعمر بن الخطاب رضى الله عنه اسمه عبد الرحمن الأوسط، وهو المعروف بأبي شَحْمة، وهو الذي جَلَده أبوه الحدّ، فمرض ومات، رضي اللَّه عنهما، وبازائها قبر عقيل بن أبي طالب رضى الله عنه، وعبد اللَّه بن جعفر الطيار رضى الله عنه، وبازائهم روضة فيها أزواج النبيصلى الله عليه و سلم، وبإزائها روضةصغيرة

ص:53

فيها ثلاثة من أولاد النبيصلى الله عليه و سلم، ويليها روضة العباس بن عبد المطّلب والحسن بن علي رضي اللَّه عنهما، وهي قبّة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع المذكور وعن يمين الخارج منه، ورأس الحسن إلى رجلي العبّاس رضي اللَّه عنهما، وقبراهما مرتفعان عن الأرض متّسعان مُغشّيان بألواح ملصقة أبدَع إلصاق، مرصّعة بصفائح الصُّفْر، ومكوكَبة بمساميره على أبدعصفة وأجمل منظر، وعلى هذا الشكل قبر ابراهيم ابن النبيصلى الله عليه و سلم، ويلي هذه القبّة العبّاسيّة بيت يُنسَب لفاطمة بنت الرسولصلى الله عليه و سلم، ويعرف ببيت الحُزن، يقال: إنّه الذي أوت إليه والتزمت فيه الحزن على موت أبيها المصطفىصلى الله عليه و سلم، وفي آخر البقيع قبر عثمان الشهيد المظلوم ذي النّورين رضى الله عنه، وعليه قبّةصغيرة مختصرة، وعلى مقربةٍ منه مشهد فاطمة ابنة أسد أُمّ عليّ، رضي اللَّه عنها وعن بنيها.

ومشاهد هذا البقيع أكثر من أن تُحصى، لأنّه مدفن الجمهور الأعظم من الصحابة المهاجرين والأنصار، رضي اللَّه عنهم أجمعين، وعلى قبر فاطمة المذكورة مكتوب: ما ضمّ قبر أحد كفاطمة بنت أسد رضي اللَّه عنها وعن بنيها.

مشاهد الكوفة:

ويقول ابن جبير عن مسجد الكوفة:

وبهذا الجامع المكرّم آثار كريمة: فمنها بيت بإزاء المحراب عن يمين المستقبل القبلة، يقال: إنّه كان مصلّى ابراهيم الخليلصلى الله عليه و سلم، وعليه ستر أسودصوناً له، ومنه خرج الخطيب لابساً ثيابَ السواد للخطبة،

ص:54

فالناس يزدحمون على هذا الموضع المبارك للصلاة فيه، وعلى مقربة منه، ممّا يلي الجانب الأيمن من القبلة، محراب محلّق عليه بأعواد الساج مرتفع عنصحن البلاط كأنّه مسجدصغير، وهو محراب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه، وفي ذلك الموضع ضربه الشقيّ اللعين عبد الرحمن بن ملجم بالسيف، فالناس يصلّون فيه باكين داعين، وفي الزاوية من آخر هذا البلاط القبليّ، المتّصل بآخر البلاط الغربيّ، شبيه مسجدصغير محلّق عليه أيضاً بأعواد الساج، هو موضع مَفار التنّور الذي كان آيةً لنوح عليه السلام، وفي ظهره، خارج المسجد، بيته الذي كان فيه، وفي ظهره بيت آخر يقال إنّه كان متعبَّد إدريسصلى الله عليه و سلم، ويتّصل بهما فضاء متّصل بالجدار القبلي من المسجد، يقال إنّه مُنشأ السفينة، ومع آخر هذا الفضاء دار عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه، والبيت الذي غسل فيه، ويتّصل به بيت يُقال إنّه كان بيت ابنة نوحصلى الله عليه و سلم.

وهذه الآثار الكريمة تلقّيناها من ألسنة أشياخ من أهل البلد فأثبتناها حسبما نقلوها إلينا، واللَّه أعلم بصحّة ذلك كلّه.

وفي الجهةالشرقيّة من الجامع بيت صغير يُصعَد إليه فيه قبر مسلم ابن عقيل بن أبي طالب رضى الله عنه، وفي غربي المدينة على مقدار فرسخ منها المشهد الشهير الشأن المنسوب لعليّ بن أبي طالب رضى الله عنه، وحيث بركت ناقته وهو محمول عليها مسجّى ميّتاً على ما يُذكر، ويقال: إنّ قبره فيه.

قبور العلماء والأولياء المشيّدة ببغداد:

يقول ابن جبير:

ص:55

وبإحدى هذه المحلّات قبر معروف الكَرخي، وهو رجل من الصالحين مشهور الذكر في الأولياء، وفي الطريق إلى باب البصرة مشهد حفيل البنيان داخله قبر متّسع السّنام، عليه مكتوب: هذا قبر عَون ومَعين، من أولاد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه، وفي الجانب الغربي أيضاً قبر موسى بن جعفر، رضي اللَّه عنهما.

إلى مشاهد كثيرة ممّن لم تحضرنا تسميتُه من الأولياء والصالحين والسلف الكريم، رضي اللَّه عن جميعهم.

وبأعلى الشرقيّة خارج البلد محلّة كبيرة بإزاء محلّة الرّصافة، وبالرصافة كان باب الطّاق المشهور على الشطّ، وفي تلك المحلّة مشهد حفيل البنيان، له قبّة بيضاء سامية في الهواء، فيه قبر الإمام أبي حنيفة رضى الله عنه، وبه تعرف المحلّة، وبالقرب من تلك المحلّة قبر الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه، وفي تلك الجهة أيضاً قبر أبي بكر الشبلي رحمه الله، وقبر الحسين ابن منصور الحلاج، وببغداد من قبور الصالحين كثير، رضي اللَّه عنهم.

المشاهد المكرّمة والآثار المعظّمة في الشام:

يقول ابن جبير:

فأوّلها مشهد رأس يحيى بن زكرياء عليه السلام، وهو مدفون بالجامع المكرّم في البلاط القبلي قبالة الركن الأيمن من المقصورة الصحابيّة «(1)»، رضي اللَّه عنهم، وعليه تابوت خشب معترض من الأسطوانة، وفوقه


1- هي أول مقصورة وضعت في الإسلام وضعها معاوية بن أبي سفيان.

ص:56

قنديل كأنّه من بلّور مجوّف، كأنّه القدح الكبير، لا يُدرى أمن زجاج عراقيّ أمصُوريّ هو أم من غير ذلك.

ومولد ابراهيمصلّى اللَّه عليه وسلّم وعلى نبيّنا الكريم، وهو بصفح جبل قاسيون عند قرية تُعرف بِبَرْزَة، وهي من أجمل القرى، وهذا الجبل مشهور بالبركة في القديم لأنّه مصعد الأنبياء،صلوات اللَّه عليهم، ومطلعهم، وهو في الجهة الشماليّة من البلد وعلى مقدار فرسخ، وهذا المولد المبارك غار مستطيل ضيّق، وقد بُني عليه مسجد كبير مرتفع مُقسّم على مساجد كثيرة كالغُرف المطلّة، وعليهصومعة عالية، ومن ذلك الغار رأىصلى الله عليه و سلم الكوكب ثمّ القمر ثمّ الشمس، حسبما ذكره اللَّه تعالى في كتابه عزّ وجلّ «(1)»، وفي ظهر الغار مقامه الذي كان يخرج إليه، وهذا كلّه ذكره الحافظ محدّث الشام أبو القاسم بن هبة اللَّه بن عساكر الدمشقي في تاريخه في أخبار دمشق، وهو ينيف على مائة مجلّد.

وذكر أيضاً أنّ بين باب الفراديس، وهو أحد أبواب البلد، وفي الجهة الشماليّة من الجامع المبارك، على مقربة منه إلى جبل قاسيون، مدفن سبعين ألف نبي، وقيل: سبعون ألف شهيد، وأنّ الأنبياء المدفونين به سبعمائة نبي، واللَّه أعلم، وخارج هذا البلد الجبّانة العتيقة، وهي مدفن الأنبياء والصالحين، وبركتها شهيرة، وفي طرفها ممّا يلي البساتين وَهْدَة من الأرض متّصلة بالجبّانة، ذُكر أنّها مدفن سبعين نبيّاً، وعصمها اللَّه ونزّهها من أن يُدفن فيها أحد، والقبور محيطة بها، وهي لا تخلو من


1- الأنعام: 76- 78.

ص:57

الماء حتى عادت قرارة له، كلّ ذلك تنزيه من اللَّه تعالى لها.

وبجبل قاسيون أيضاً لجهة الغرب، على مقدار ميل أو أزيد من المولد المبارك، مغارة تعرف بمغارة الدم، لأنّ فوقها في الجبل دم هابيل قتيل أخيه قابيل إبني آدمصلى الله عليه و سلم، يتّصل من نحو نصف الجبل إلى المغارة، وقد أبقى اللَّه منه في الجبل آثاراً حُمراً في الحجارة تُحك فتستَحيل، وهي كالطريق في الجبل، وتنقطع عند المغارة، وليس يوجد في النصف الأعلى من المغارة آثار تشبهها، فكان يقال: إنّها لون حجارة الجبل، وإنّما هي من الموضع الذي جرّ منه القاتل لأخيه حيث قتله حتى انتهى إلى المغارة، وهي من آيات اللَّه تعالى، وآياته لا تُحصى.

وقرأنا في تاريخ ابن المعلّى الأسدي أنّ تلك المغارةصلّى فيها ابراهيم وموسى وعيسى ولوط وأيوب، عليهم وعلى نبيّنا الكريم أفضل الصلاة والسلام.

وعليها مسجد قد أُتقن بناءه، ويُصعد إليه على أدراج، وهو كالغرفة المستديرة، وحولها أعواد مشرجبة مطيفة بها، وبه بيوت ومرافق للسكنى، وهو يفتح كلّ يوم خميس، والسُّرُج من الشمع والفتائل تَقِد في المغارة، وهي متّسعة.

وفي أعلى الجبل كهف منسوب لآدمصلى الله عليه و سلم، وعليه بناء، وهو موضع مبارك، وتحته في حضيض الجبل مغارة تعرف بمغارة الجُوع، ذُكر أنّ سبعين نبيّاً ماتوا فيها جوعاً، وكان عندهم رغيف، فلم يزل كلّ واحد منهم يؤثر بهصاحبه ويدور عليه من يد إلى يد حتى لحقتهم المنيّة،صلوات اللَّه عليهم. وعلى هذه المغارة أيضاً مسجد مبني، وأبصرنا فيه

ص:58

السُّرُج تَقِد نهاراً.

ولكلّ مشهد من هذه المشاهد أوقاف معيّنة من بساتين وأرض بيضاء ورباع، حتى إنّ البلد تكاد الأوقاف تستغرق جميع ما فيه.

وكلّ مسجد يُستحدث بناؤه أو مدرسة أو خانقة يُعيّن لها السلطان أوقافاً تقوم بها وبساكنيها والملتزمين لها، وهذه أيضاً من المفاخر المخلّدة.

ومن النساء الخواتين ذوات الأقدار من تأمر ببناء مسجد أو رباط أو مدرسة وتُنفِق فيها الأموال الواسعة وتعيّن لها من مالها الأوقاف.

ومن الأُمراء من يفعل مثل ذلك، لهم في هذه الطريقة المباركة مُسارعة مشكورة عند اللَّه عزّ وجلّ.

وبآخر هذا الجبل المذكور، في آخر البسيط البستاني الغربي من هذا البلد، الربوة المباركة المذكورة في كتاب اللَّه تعالى، مأوى المسيح وأُمّه،صلوات اللَّه عليهما، وهي من أبدع مناظر الدنيا حسناً وجمالًا وإشراقاً، وإتقان بناء واحتفال تشييد وشرف وضع، هي كالقصر المشيّد، ويُصعَد إليها على أدراج، والمأوى المبارك منها مغارةصغيرة في وسطها، وهي كالبيت الصغير، وبإزائها بيت يقال: إنّه مصلّى الخضرصلى الله عليه و سلم، فيبادر الناس للصلاة بهذين الموضعين المباركين، ولا سيّما المأوى المبارك، وله باب حديدصغير ينغلق دونه، والمسجد يطيف بها، ولها شوارع دائرة، وفيها سقاية لم يُرَ أحسن منها، قد سِيقَ إليها الماء من

ص:59

علو، وماؤها ينصبّ على شاذَرْوان «(1)» في الجدار متّصل بحوض من رخام يقع الماء فيه، لم يُرَ أحسن من منظره، وخلف ذلك مطاهر يجري الماء في كلّ بيت منها ويستدير بالجانب المتّصل بجدار الشاذروان.

وهذه الربوة المباركة رأس بساتين البلد ومَقْسِم مائه، ينقسم فيها الماء على سبعة أنهار، يأخذ كلّ نهر طريقه، وأكبر هذه الأنهار نهر يُعرف بثوار، وهو يشقّ تحت الربوة، وقد نُقِر له في الحجر الصلد أسفلها حتى انفتح له متسرّب واسع كالغار، وربّما انغمس الجَسُور من سُبّاح الصبيان أو الرجال من أعلى الربوة في النهر واندفع تحت الماء حتى يشقّ متسرّبه تحت الربوة ويخرج أسفلها، وهي مخاطرة كبيرة.

ويُشرَف من هذه الربوة على جميع البساتين الغربية من البلد، ولا إشراف كإشرافها حسناً وجمالًا واتّساعَ مسرح للأبصار، وتحتها تلك الأنهار السبعة تتسرّب وتسيح في طرق شتّى، فتحار الأبصار في حسن اجتماعها وافتراقها واندفاع انصبابها، وشرفُ موضوع هذه الربوة ومجموع حسنها أعظم من أن يحيط به وصف واصف في غلوّ مدحه، وشأنها في موضوعات الدّنيا الشريفة خطير كبير.

ومن أحفل هذه المشاهد مشهد منسوب لعليّ بن أبي طالب رضى الله عنه، قد بُني عليه مسجد حفيل رائق البناء، وبإزائه بستان كلّه نارنج، والماء


1- الشاذروان: حائط صغير بجوار الجدار الأصلي لتقويته.

ص:60

يطرد فيه من سقاية معيّنة، والمسجد كلّه ستور معلّقة في جوانبهصغار وكبار.

ومن المشاهد المكرّمة مشهد سعد بن عُبادة رئيس الخزرج،صاحب رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم، وهو بقرية تعرف بالمَنِيحة شرقي البلد وعلى مقدار أربعة أميال منه، وعلى قبره مسجدصغير حسن البناء، والقبر في وسطه، وعند رأسه مكتوب: هذا قبر سعد بن عبادة رأس الخزرج،صاحب رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم.

ومن مشاهد أهل البيت رضي اللَّه عنهم: مشهد أُمّ كلثوم ابنة عليّ بن أبي طالب، رضي اللَّه عنهما، ويقال بها زينب الصغرى، وأُمّ كلثوم كنية أوقعها عليها النبيصلى الله عليه و سلم، لشبهها بابنته أُمّ كلثوم، رضي اللَّه عنها، واللَّه أعلم بذلك، ومشهدها الكريم بقرية قبليّ البلد تعرف براوية على مقدار فرسخ، وعليه مسجد كبير، وخارجه مساكن، وله أوقاف، وأهل هذه الجهات يعرفونه بقبر الستّ أُمّ كلثوم، مشَينا إليه وبتنا به وتبرّكنا برؤيته، نفعنا اللَّه بذلك.

وبالجبّانة التي بغربي البلد، من قبور أهل البيت، كثير، رضي اللَّه عنهم، منها قبران عليهما مسجد يقال إنّهما من ولد الحسن والحسين، رضي اللَّه عنهما، ومسجد آخر فيه قبر يقال إنّه لسكينة بنت الحسين، رضي اللَّه عنهما، أو لعلّها سُكينة أُخرى من أهل البيت.

ومن المشاهد أيضاً قبر بجامع النَيْرب، في بيت بالجهة الشرقيّة منه، يقال إنّه لأُمّ مريم، رضي اللَّه عنها.

وبقرية داريّة «(1)» قبر أبي مسلم الخولاني رضى الله عنه، وعليه قبّة هي


1- تكتب عادة: داريا، بالألف.

ص:61

علامة القبر، وبها أيضاً قبر أبي سليمان الداراني رضى الله عنه.

وبين هذه القرية وبين البلد مقدار أربعة أميال، وهي لجهة الغرب منه.

ومن المشاهد الكريمة التي لم نعاينها ووصفت لنا قبرا شيث ونوح عليهما السلام، وهما بالبِقاع، وهي على يومين من البلد، وحدّثنا من ذَرَع قبر شيث فألفى فيه أربعين باعاً، وفي قبر نوح ثلاثين، وبإزاء قبر نوح قبر ابنة له، وعلى هذه القبور بناء، ولها أوقاف كثيرة، ولها قيّم يلتزمها.

ومن المشاهد المباركة أيضاً، بالجبّانة الغربيّة وبمقربة من باب الجابية، قبر أُويس القرني رضى الله عنه، وقبور خلفاء بني أُمية رحمهم الله، يقال: إنّها بإزاء باب الصغير بمقربة من الجبّانة المذكورة، وعليها اليوم بناء يُسكَن فيه.

والمشاهد المباركة في هذه البلدة أكثر من أن تنضبط بالتقييد، وإنّما رُسِم من ذلك ما هو مشهور ومعلوم.

ومن المشاهد الشهيرة أيضاً مسجد الأقدام، وهو على مقدار ميلين من البلد ممّا يلي القبلة على قارعة الطريق الأعظم الآخذ إلى بلاد الحجاز والساحل وديار مصر، وفي هذا المسجد بيتصغير فيه حجر مكتوب عليه: كان بعض الصالحين يرى النبيّصلى الله عليه و سلم في النوم فيقول: هاهنا قبر أخي موسىصلى الله عليه و سلم، والكثيب الأحمر على الطريق بمقربة من هذا الموضع، وهو بين غالية وغُويلية كما ورد في الأثر، وهما موضعان.

وشأن هذا المسجد في البركة عظيم، ويقال: إنّ النور ما خلا قطّ من هذا الموضع الذي يذكر أنّ القبر فيه حيث الحجر المكتوب، وله أوقاف كثيرة.

ص:62

فأمّا الأقدام ففي حجارة في الطريق إليه مُعْلَم عليها، تَجد أثر القدم في كلّ حجر، وعدد الأقدام تسع، ويقال: إنّها أثر قدم موسى عليه السلام، واللَّه أعلم بحقيقة ذلك، لا إله سواه «(1)».

هذا وقد أخذنا من رحلة ابن جبير المواضيع اللّازمة، وإلّا فالساير في الكتاب يقف على أُمور لم نذكرها، والكلّ يدلّ على أنّ البناء على القبور وصيانتها عن الانطماس وزيارتها في فترات مختلفة كان أمراً رائجاً في خير القرون الذي جُعِل مقياساً بين الحقّ والباطل.

ابن الحجاج والقبّة البيضاء على قبر الإمام علي عليه السلام:

إنّ الحسين بن أحمد بن محمد المعروف بابن الحجّاج البغدادي أحد الشعراء المفلقين في القرنين الثالث والرابع (262- 392 ه) أنشأ قصيدته الفائية في مدح الإمام أمير المؤمنين، وأنشدها في الحضرة العلويّة عندما زارها يقول في مستهلّها:

ياصاحب القبّة البيضاء على النجفِ من زارَ قبرك واستشفى لديك شُفي

زوروا أبا الحسن الهادي لعلّكم تحظون بالأجر، والاقبال والزلف «(2)»


1- قد نقلنا هذه النصوص برمّتها عن رحلة ابن جبير طبع دار صادر عام 1384، فراجع فيما يرجع إلى مصر صفحة 19- 24، وفيما يرجع إلى مكة المكرّمة صفحة 87، 141 و 142، وفيما يرجع إلى المدينة المنوّرة صفحة 173- 174، وفيما يرجع إلى مشاهد الكوفة صفحة 187- 198، وفيما يرجع إلى بغداد صفحة 202، وما يرجع إلى الشام صفحة 246- 249 و 253- 254.
2- إقرأ ترجمته في يتيمة الدهر 3: 25؛ معجم الأُدباء 4: 6؛ المنتظم 7: 216؛ تاريخ بغداد 80: 14؛ وفيات الأعيان 1: 170؛ الكامل لابن الأثير 9: 63 إلى غير ذلك من مصادر الترجمة؛ وفي روضات الجنّات 3: 148- 155 له ترجمة ضافية.

ص:63

والقصيدة تعرب عن وجود البناء والقبّة البيضاء على القبر، والزلف والتفاف الزائرين حوله في عصره، ومع ذلك يدّعي بعض الوهابيين، أنّ البناء على القبور لم يكن في خير القرون وأنّه من البدع المستحدثة.

ولأجل شيوع البناء على القبور في جميع الأقطار الإسلاميّة نجد أنّ الأمير محمد بن اسماعيل اليماني الذي توهّب مع كونه زيدياً يفترض على نفسه ويقول في كتابه: وهذا أمر عمّ البلاد وطبق الأرض شرقاً وغرباً بحيث لا بلدة من بلاد الإسلام إلّافيها قبور ومشاهد، ولا يسع عقل عاقل أنّ هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة ويسكت علماء الإسلام «(1)».

فلو كانت هذه سيرة المسلمين من خير القرون إلى عصرنا فلماذا لا تكون حجّة؟ فلو كان التهديم أمراً واجباً فلماذا ترك الخلفاء تلك الفريضة؟! فهل يصحّ لنا اتّهامهم بالتسامح في أمر الدين مع أنّ الصحابة والتابعين مرّوا على تلك الآثار ولم ينبسوا فيها ببنت شفة؟

وإذا لم يكن ذلك الإجماع حجّة، فأيّ إجماع يكون حجّة شرعيّة؟

فهذه النصوص من المؤرّخين تدلّ بوضوح على جريان السيرة على بناء القباب والأبنية على قبور الأولياء من دون أن يخطر ببال أحد أنّه مقدمة للشرك ومفضٍ إليه، فإذا لم يكن مثل هذا الإجماع حجّة فأيّ


1- الأمير محمد بن اسماعيل اليماني ت 1186 ه تطهير الاعتقاد: 17، ثمّ إنّه حاول أن يُجيب عن هذا الاستنكار بما الإعراض عن ذكره أحسن.

ص:64

إجماعٍ حجّة؟

والعجب من ابن بليهد قاضي الحكومة السعودية أيام تدمير آثار رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عام 1344 ه فبعد ما نفّذ ما أُمر به من قبل المشايخ، نشر بياناً في جريدة أُمّ القرى في عددها الصادر في شهر جمادى الآخر من شهور سنة 1345 ه وممّا جاء فيه قوله: إنّ القباب على مراقد العلماءصار متداولًا منذ القرن الخامس الهجري.

فهل هذاصحيح أو افتراء أمام كلّ هذه النصوص من المسعودي وغيره؟ وليس البحث في خصوص العلماء، بل مطلق قبور المسلمين، نبيّاً كان أو وليّاً،صحابيّاً كان أو تابعياً، فقهياً كان أو محدّثاً.

ونعم ما قال السيد المحقّق محسن الأمين في قصيدته المسمّاة بالعقود الدُّريّة في ردّ شبهات الوهابية:

أو ليس أُمّة أحمد إجماعها فيه الصوابُ وحجّةٌ لم تردد

وعلى ضلالٍ كلّها لم تجتمع فيما رويتم في الحديث المسندِ

مضت القرون وذي القباب مشيّدة والناس بين مؤسس ومجدّد

في كلّ عصر فيه أهل الحلّ و العقد الذين بغيرهم لم يُعقد

لم يُنكروا أبداً على من شادها شيدت ولا من منكر ومغند

مِنْ قبل أنْ تلد ابنها تيمية أو يخلق الوهاب بعضَ الأعبد

أفأيّ إجماع لكم أقوى على أمثاله من مورد لم يورد

فبسيرة للمسلمين تتابعت في كلّ عصر نستدلّ ونقتدي

أقوى من الإجماع سيرتهم ومن قد حاد عنها فهو غير مسدّد

هيهات ليس نبيّاً إنّ بليهد في الناس لم يُخطئ ولم يتعمّد

ص:65

كلّا ولا العلماء قد حصرت به هي في بقاع الأرض ذات تعدّد

كلّا ولا من وافقوه لخوفهم أو جهلهم من خائف ومقلّد

والجُلُّ من علماء طيبة ساكت للخوف مكفوف اللسان مع اليد «(1)»

كيف يدّعي الإجماع على التحريم مع أنّ فقهاء المذاهب الأربعة في العصر الحاضر اتّفقوا على الكلمة التالية: يكره أن يبنى القبر ببيت أو قبّة أو مسجد «(2)»، أين الكراهة من الحرمة، وأين هي من الشرك؟

وهذا النووي شارحصحيح مسلم يقول في شرح حديث أبي الهياج الذي سيوافيك نصّه: أمّا البناء فإن كان في ملك الباني فمكروه وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام، نصّ عليه الشافعي والأصحاب «(3)».

إنّ التحريم في الصورة الثانية لكونه مزاحماً للانتفاع، وعلى خلاف أهداف الواقف وأغراضه، وأين هو من البناء على أرض مشتراة أو مهداة أو موات فلا تترتّب عليها تلك الحرمة.

دفن النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله في بيته الرفيع ولم يخطر ببال أحد من الصحابة الحضور أنّ البناء على القبر حرام وأنّهصلى الله عليه و آله نهى عنه نهياً مؤكداً، ولمّا كان البيت متعلّقاً بالسيدة عائشة جعلوا في وسطه ساتراً، ولمّا توفّي الشيخان أوصيا بدفنهما في حجرة النبيصلى الله عليه و آله تبركاً بذاته ومكانه، ولم تُسْمَع عن أي ابن انثى نعيرةُ أنّه حرام ولا مكروه، وعلى ذلك استمرّت سيرة المسلمين في حقّ العلماء والأولياء، يدفنونهم في البيوت المعدّة


1- محسن الأمين، كشف الارتياب: 295 وهي مطبوعة في آخر الكتاب.
2- الجريري، الفقه على المذاهب الأربعة 1: 431.
3- النووي، شرح صحيح مسلم ج 17 كتاب الجنائز ط مصر.

ص:66

لذلك، أو يرفعون لمراقدهم قواعد وسقفاً بعد الدفن، تكريماً لهم و تقدير اًلتضحياتهم، ولم يخطر ببال أحد أنّه على خلاف الدين والشرع.

وهذا عمل المسلمين وسيرتهم القطعيّة في جميع الأقطار والأمصار، على مرأى ومسمع الجميع وإنْ اختلفت نزعاتهم، من بدء الإسلام إلى هذا العصر، من الشيعة والسنّة، وأي بلاد من بلاد الإسلام من مصر والعراق أو الحجاز أو سوريا، وتونس ومراكش وإيران، وهلمّ جرّا، ليس فيها قبور مشيّدة، وضرائح منجدة، وهؤلاء أئمة المذاهب:

الشافعي في مصر، وأبو حنيفة في بغداد، ومالك بالمدينة، وتلك قبورهم من عصرهم إلى اليوم شاهقة القباب، شامخة المباني، غير أنّ الوهابيّين لمّا استولوا على المدينة هدموا قبر مالك.

وهذه القبور قد شُيّدت وبنيت في الأزمنة التي كانت حافلة بالعلماء وأرباب الفتاوى، وزعماء المذاهب، فما أنكر منهم نكر، وليس هذا رائجاً بين المسلمين فقط، بل جرى على هذا جميع عقلاء العالم، بل يعدّ تعمير قبور الشخصيات من غرائز البشر ومقتضيات الحضارة وشارة الرقيّ، فكلّ هذا دليل على الجواز لو لم نقل يفوق ذلك، ولو لم تكن السيرة المسلّمة بين المسلمين والعقلاء عامّة غير مفيدة في المقام، فلا يصحّ الاستناد إلى أيّة سيرة قاطعة بين المسلمين أو الناس.

وليس يصحّ في الأذهان شي ء إذا احتاج النهار إلى دليل

ثمّ إنّ الوهابيّين تمسّكوا بروايات، إمّا عديمة الدلالة، أو ضعيفة السند، وسنذكر في الفصل الآتي بشكل عام مجملَ ما تمسّكوا به ليتبيّن مدى وعيهم.

ص:67

الفصل الرابع: ذرائع الوهابية في هدم الآثار

اشارة

استدلّت الوهابية بروايات نذكرها واحدةً بعد الأُخرى:

الأُولى: رواية أبي الهياج الأسدي

اشارة

روى مسلم فيصحيحه قال: حدّثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن الحرب، قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدّثنا وكيع عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي عليّ بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللَّه .. أن لا تدع تمثالًا إلّاطمسته ولا قبراً مشرفاً إلّاسوّيته «(1)».

زعم المستدلّ أنّ معناه: ولا قبراً عالياً إلّاسوّيته بالأرض.

أقول: الاستدلال بالحديث فرعصحّة سنده، وتماميّة دلالته،


1- مسلم، الصحيح 3: 61 كتاب الجنائز؛ الترمذي، السنن 2: 256 باب ما جاء في تسوية القبور؛ النسائي، السنن 4: 88 باب تسوية القبر.

ص:68

ولكنّه موهون من كلا الجانبين.

أمّا السند، فيكفي أنّ علماء الرجال تحدّثوا في رجال الحديث ونقلوا تصريح الأئمة بضعفهم، وهؤلاء عبارةً عن:

1- وكيع.

2- سفيان الثوري.

3- حبيب بن أبي ثابت.

4- أبو وائل الأسدي.

وإليك أقوال العلماء في حقّهم:

1- وكيع:

هو وكيع بن الجراح بن مليح الرواسي الكوفي، روى عن عدّة، منهم: سفيان الثوري، وروى عنه جماعة منهم: يحيى بن يحيى وهو كما ورد في حقّه المدح، ورد في حقّه الجرح كثيراً، وهذا ابن حجر يعرّفه في تهذيب التهذيب بالنحو التالي: عن الإمام ابن حنبل: كان وكيع أحفظ من عبد الرحمن بن مهدي كثيراً، وقال في موضع آخر: ابن مهدي أكثر تصحيفاً من وكيع ووكيع أكثر خطأً منه.

وقال ابن عماد: قلت لابن وكيع: عدّوا عليك بالبصرة أربعة أحاديث خلطتَ فيها؟ فقال: حدّثتهم بعبادان بنحو من ألف وخمسمائة، وأربعة ليس بكثير في ألف وخمسمائة.

وقال عليّ بن المديني: كان وكيع يلحن ولو حدّثَ بألفاظه لكان عَجَباً.

ص:69

وقال محمد بن نصر المروزي: كان يُحدّث بآخره من حفظه فيغيّر ألفاظ الحديث كأنّه يحدّث بالمعنى ولم يكن من أهل اللسان «(1)».

وقال الذهبي في ميزان الاعتدال بعدما مدحه: قال ابن المديني:

كان وكيعَ يلحن ولو حدّث بألفاظه كان عجباً «(2)».

2- سفيان الثوري:

وهو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، فقد مدحوه، ولكن الذهبي يقول: إنّه كان يدلِّس عن الضعفاء، ولكن كان له نقد وذوق، ولا عبرة بقول من قال يدلِّس ويكتب عن الكذّابين «(3)».

وقال ابن حجر: قال ابن المبارك: حدّث سفيان بحديث فجئته وهو يدلِّس، فلمّا رآني استحيى وقال: نرويه عنك؟ «(4)».

وقال في ترجمة يحيى بن سعيد بن فروخ: قال أبو بكر وسمعت يحيى يقول: جهد الثوري أن يدلِّس عليّ رجلًا ضعيفاً فما أمكنه «(5)».

والتدليس هو أن يروي عن رجل لم يلقه وبينهما واسطة فلا يذكر الواسطة.

وقال أيضاً في ترجمة سفيان: قال ابن المديني عن يحيى بن سعيد: لم يلق سفيان أبا بكر بن حفص ولا حيان بن إياس، ولم يسمع من


1- ابن حجر، تهذيب التهذيب 11: 123، 131.
2- الذهبي، ميزان الاعتدال 4: 336.
3- الذهبي، ميزان الاعتدال 2: 169 برقم 3322.
4- ابن حجر، تهذيب التهذيب 4: 15 في ترجمة سفيان.
5- ابن حجر، تهذيب التهذيب 11: 218.

ص:70

سعيد بن أبي البردة، وقال البغوي: لم يسمع من يزيد الرقاشي، وقال أحمد: لم يسمع من سلمة بن كهيل حديث المسائية «(1)» يضع ما له حيث يشاء، ولم يسمع من خالد بن سلمة بتاتاً ولا من ابن عون إلّاحديثاً واحداً «(2)».

وهذا تصريح من ابن حجر بكون الرجل مُدلِّساً، ربّما يروي عن أُناس يوهم أنّه لقيهم ولم يلقَهُم ولم يسمع منهم.

3- حبيب بن أبي ثابت:

هو حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار، وَثّقهُ بعض، ولكن قال ابن حبّان في الثّقاة: كان مدلّساً، وقال العقيلي: غمزه ابن عون، وقال القطّان:

له غير حديث عن عطاء، لا يُتابع عليه وليست محفوظة.

وقال ابن خزيمة فيصحيحه: كان مدلّساً «(3)».

وقال ابن حجر أيضاً في موضع آخر: كان كثير الإرسال والتدليس، مات سنة 119 ه.

ونقل عن كتاب الموضوعات لابن الجوزي من نسخة بخطّ المنذري أنّه نقل فيه حديثاً عن أُبيّ بن كعب في قول جبرئيل: لو جلست معك مثلما جلس نوح في قومه ما بلغت فضائل عمر، وقال: لم يُعِلْه ابن الجوزي إلّابعبد اللَّه بن عمّار الأسلمي شيخ حبيب بن ثابت «(4)».


1- العبد المعتق.
2- ابن حجر، تهذيب التهذيب 4: 115.
3- ابن حجر، تهذيب التهذيب 2: 179.
4- ابن حجر، تهذيب التهذيب 1: 148 برقم 106.

ص:71

4- أبو وائل الأسدي:

اشارة

هو شقيق ابن سلمة الكوفي، كان منحرفاً عن عليّ بن أبي طالب، قال ابن حجر: قيل لأبي وائل: أيّها أحبُّ إليك عليّ أم عثمان؟ قال: كان عليّ أحبّ إليّ ثمّصار عثمان «(1)».

ويكفي في قدحه أنّه كان من ولاة عبيد اللَّه بن زياد، قال ابن أبي الحديد: قال أبو وائل: استعملني ابن زياد على بيت المال بالكوفة.

هذا كلّه حول سند الرواية وهؤلاء رواتها، ولو ورد فيهم مدح فقد ورد فيهم الذم، وعند التعارض يقدم الجارح على المادح فيسقط الحديث عن الاستدلال.

ويكفي أيضاً في ضعف الحديث أنّه ليس لرواية أعني أبا الهياج في الصحاح والمساند حديث غير هذا، فكيف يستدلّ بحديث يشتمل على المدلِّسين والمضعِّفين؟ وكيف يُعْدَل بهذا الحديث عن السيرة المستمرّة بين المسلمين؟!

والآن إليك بيان عدم دلالة الحديث على الموضوع بتاتاً:

ضعف دلالة الحديث

إنّ توضيح ضعف دلالة الحديث يتوقّف على بيان معنى اللّفظين الواردين فيه:


1- ابن حجر، تهذيب التهذيب 4: 362.

ص:72

1- قبراً مشرفاً.

2- إلّاسوّيته.

أمّا الأوّل: فقالصاحب القاموس: والشرف، محركة العلو، ومن البعير سنامه، وعلى ذلك يحتمل المراد منه مطلق العلوّ، أو العلوّ الخاص كسنام البعير الذي يعبّر عنه بالمسنَّم ولا يتعيّن أحد المعنيين إلّابالقرينة.

أمّا الثاني: فهو تارةً يُستخدم في بيان مساواة شي ء بشي ء في الطول أو العرض، فيقال: هذا القماش يساوى بهذا الآخر في الطول.

وأُخرى في التسوية، أي كون الشي ء مسطّحاً لا انحناء ولا تعرّج فيه.

والفرق بين المعنيين واضح، فإنّ التسوية في الأوّل وصف للشي ء بمقايسته مع شي ء آخر، وفي الثاني وصف لنفس الشي ء ولا علاقة له بشي ء آخر.

فلو استعمل في المعنى الأوّل لتعدّى إلى مفعولين: أحدهما بلا واسطة، والآخر بمعونة حرف الجرّ، قال تعالى حاكياً عن لسان المشركين وأنّهم يخاطبون آلهتهم بقولهم: «إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ»، أي نعدّ الآلهةَ الكاذبة مساويةً بربّ العالمين في العبادة أو في الاعتقاد بالتدبير.

وقال سبحانه حاكياً عن حال الكافرين يوم القيامة: «يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصُوا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً» (النساء/ 42)، أي يودّون أنْ يكونوا تراباً أو ميتاً مدفوناً تحت الأرض، ويكون هؤلاء والأرض متساوية.

ترى أنّ تلك المادة تعدّت إلى مفعولين وأُدخل حرف الجرّ على المفعول الثاني.

ص:73

وأمّا إذا استعمل في المعنى الثاني أي فيما يكون وصفاً للشي ء بلا علاقة له بشي ء آخر فيكتفي بمفعول واحد، قال سبحانه: «الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى» (الأعلى/ 2)، وقال سبحانه: «بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ» (القيامة/ 4)، وقال سبحانه: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» (الحجر/ 29)، ففي جميع هذه الموارد يراد من التسوية كونها وصفاً للشي ء بما هو هو، وهو فيها كناية عن كمال الخلقة بعيدة عن النقص والاعوجاج.

هذا هو مفهوم اللفظ لغةً، وهلمّ معي ندرس الحديث وأنّه ينطبق مع أيٍّ من المعنيين.

نلاحظ أنّه تعدّى إلى مفهومٍ واحد، ولم يقترن بالباء، فهو آية أنّ المراد هو المعنى الثاني، وهو تسطيح الأرض في مقابل تسنيمه، وبسطه في مقابل اعوجاجه لا مساواته مع الأرض، وإلّا كان عليه عليه السلام أن يقول:

سوّيته بالأرض، ولم يكتف بقوله سوّيته.

أضف إلى ذلك أنّ ما ذكرناه هو الذي فهمه شرّاح الحديث ويكون دليلًا على أنّ التسطيح سنّة والتسنيم بدعة وأمر عليّ عليه السلام أن تكافح هذه البدعة ويسطّح كلّ قبر مسنّم، وإليك ذكر نصوصهم:

قال القرطبي في تفسير الحديث: قال علماؤنا: ظاهر حديث أبي الهياج منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون واطئة «(1)».

أقول: إنّ دلالة الحديث على منع تسنيم القبور ظاهر، وأمّا دلالتها على عدم ارتفاعها كما هو ظاهر قوله «ومنع رفعها» فغير ظاهر، بل


1- القرطبي، التفسير 2: 380 تفسير سورة الكهف.

ص:74

مردود باتّفاق أئمة الفقه على استحباب رفعها قدر شبر «(1)».

2- قال ابن حجر العسقلاني في شرحه على البخاري ما هذا نصّه:

مُسنّماً بضمّ الميم وتشديد النون المفتوحة أي: مرتفعاً، زاد أبو نعيم في مستخرجه: وقبر أبو بكر وعمر كذلك، واستدلّ به على أنّ المستحب تسنيم القبور، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد والمزني وكثير من الشافعية.

وقال أكثر الشافعية ونصّ عليه الشافعي: التسطيح أفضل من التسنيم، لأنّهصلى الله عليه و آله سطّح قبر ابراهيم، وفعله حجّة لا فعل غيره، وقول السفيان التمّار: رأى قبر النبيّ مسنّماً في زمان معاوية، لا حجّة فيه، كما قال البيهقي، لاحتمال أنّ قبرهصلى الله عليه و آله وقبريصاحبيه لم تكن في الأزمنة الماضية مسنّمة- إلى أن قال:- ولا يخالف ذلك قول علي عليه السلام: أمرني رسول اللَّه أن لا أدع قبراً مشرفاً إلّاسوّيته، لأنّه لم يرد تسويته بالأرض، وإنّما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار، ونقله في المجموع عن الأصحاب «(2)».

3- وقال النووي في شرحصحيح مسلم: إنّ السنّة أنّ القبر لا يرفع عن الأرض رفعاً كثيراً، ولا يُسنَّم بل يُرفع نحو شبر، وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه، ونقل القاضي عياض عن أكثر العلماء أنّ الأفضل عندهم تسنيمها، وهو مذهب مالك «(3)».


1- الفقه على المذاهب الأربعة 1: 42.
2- إرشاد الساري 2: 468.
3- صحيح مسلم بشرح النووي 7: 36 ط الثالثة، دار احياء التراث العربي.

ص:75

ويؤيّد ذلك أنّصاحب الصحيح (مسلماً) عنون الباب ب «باب تسوية القبور» ثمّ روى بسنده إلى تمامه، قال: كنّا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم، فتوفّيصاحب لنا، فأمر فضال بن عبيد بقبره فسوّى، قال:

سمعت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يأمر بتسويتها، ثمّ أورد بعده في نفس الباب حديث أبي الهياج المتقدّم «(1)».

وفي الختام نذكر أُموراً:

1- القول بوجوب مساواة القبر بالأرض مخالف لما اتّفقت عليه كلمات فقهاء المذاهب الأربعة، وكلّهم متّفقون على أنّه يندب ارتفاع التراب فوق الأرض بقدر شبر «(2)».

ولو أخذنا بالتفسير الذي يرومه الوهابي من حديث أبي الهياج من مساواة القبر بالأرض يجب أن يكون القبر لاطئاً مساوياً معه.

2- لو افترضناصحّة حديث أبي الهياج سنداً ودلالة، فغاية ما يدلّ عليه هو تخريب القبر ومساواته بالأرض، ولا يدلّ على هدم البناء الواقع عليه، فتخريب القباب المشيّدة التي هي مظاهر الودّ لأصحابها استناداً إلى هذا الحديث عجيب جدّاً.

3- إنّ الصحابة دفنوا النبيّ الأكرم في بيته من أوّل يوم، وقد وصّى الخليفتان بأنْ يُدفنا تحت البناء جنب النبيّ الأكرم تبرّكاً بالقبر وصاحبه، فلو كان البناء على القبور أمراً محرّماً ومن مظاهر الشرك، فلماذا وارت


1- المصدر السابق.
2- الفقه على المذاهب الأربعة 1: 42.

ص:76

الصحابة جثمانه الطاهرصلى الله عليه و آله تحت البناء؟ ولماذا أوصى الخليفتان بالدفن تحته؟

ولمّا واجهت الوهابية عمل الصحابة في مواراة النبيّ قامت بالتفريق وقالت: إنّ الحرام هو البناء على القبر لا الدفن تحت البناء، وقد دفنوا النبيّ تحت البناء ولم يبنوا على قبره شيئاً «(1)».

ونترك هذا الجواب بلا تعليق، إذ هو في غاية السقوط، إذ أيّ فرق بين الأمرين، فإنّ البناء على القبر مَدْعاة للإقبال إليه والتضرّع إليه، ففيه فتح لباب الشرك وتوسّل إليه بأقرب وسيلة ... «(2)».

فإذا كان البناء على وجه الإطلاق ذريعة للشرك وتوجّهاً إلى المخلوق، فلماذا نرخّص بعضصوره ونحرّم بعضها الآخر، وما هذا إلّا لأنّ الوهابية وإن كانوا ينسبون أنفسهم إلى السلفية، إلّاأنّ السلفية بعيدون عنهم بعد المشرقين.

إلى هنا تمّت دراسة أبي الهياج، ولندرس حديث جابر الذي هو المستمسك الآخر لمدمّري آثار الرسالة.

الثانية: دراسة حديث جابر

إنّ الوهابيين يستدلّون بحديث جابر على حرمة البناء على القبور، وقد ورد بنصوص مختلفة، ونحن نذكر نصاً واحداً منها:

روى مسلم فيصحيحه: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا


1- عقيل بن الهادي، رياض الجنّة، ط الكويت.
2- جمال الدين القاسمي، محاسن التأويل 7: 30.

ص:77

حفص بن غياث، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: نهى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن يجصّص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يُبنى عليه «(1)».

وحديث جابر هذا لا يحتجّ به، لكونه غيرصحيح سنداً وضعيف دلالةً.

أمّا الأوّل: فلأنّ جميع أسانيده مشتملة على رجلين هما في غاية الضعف:

1- ابن جريج: وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج.

2- أبو الزبير: وهو محمد بن مسلم الأسدي.

أمّا الأول: فإليك كلمات أئمة الرجال في حقّه:

سئل يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج قال: فقال: ضعيف، فقيل له: إنّه يقول: أخبرني؟ قال: لا شي ء .. كلّه ضعيف، وقال أحمد بن حنبل: إذا قال ابن جريج: قال فلان وقال فلان جاء بمناكير.

وقال مالك بن أنس: كان ابن جريج حاطب ليل.

وقال الدارقطني: يُجتنب تدليس ابن جريج، فإنّه قبيح التدليس، لا يدلِّس إلّافي ما سمعه من مجروح.

وقال ابن حبان: كان ابن جريج يدلِّس في الحديث «(2)».


1- لاحظ للوقوف على متونها المختلفة وأسانيدها: صحيح مسلم، كتاب الجنائز 3: 62؛ والسنن للترمذي 2: 208 ط المكتبة السلفية؛ وصحيح ابن ماجة 1: 473 كتاب الجنائز؛ وصحيح النسائي 4: 87- 88؛ وسنن أبي داود 3: 216 باب البناء على القبر؛ ومسند أحمد 3: 295 و 332، ورواه أيضاً مرسلًا عن جابر: 399.
2- تهذيب التهذيب 6: 2- 4 و 5- 6 ط دار المعارف العثمانية.

ص:78

وأمّا الثاني: فإليك أقوال علماء الرجال فيه:

فعن إمام الحنابلة عن أيوب أنّه كان يعتبر أبا الزبير ضعيف الرواية.

وعن شعبة: لم يكن في الدنيا أحبّ إليّ من رجل يقدِمُ فأسأله عن أبي الزبير، فقدمت مكّة فسمعت منه، فبينا أنا جالس عنده إذ جاءه رجل فسأله عن مسألة فردّ عليه، فافترى عليه، فقلت: يا أبا الزبير تفتري على رجل مسلم؟ قال: إنّه أغضبني، قلت: ومن يغضبك تفتري عليه؟ لا رويت عنك شيئاً.

وعن ورقاء قال: قلت لشعبة: ما لَكَ تركت حديث أبي الزبير؟

قال: رأيته يزن ويسترجع في الميزان.

وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن أبي الزبير، فقال: يُكتب ولا يحتجّ به، قال: وسألت أبا زرعة عن أبي الزبير، فقال: يروي عنه الناسُ، قلت: يُحتجُّ بحديثه؟ قال: إنّما يحتجّ بحديث الثّقاة «(1)».

باللَّه عليك، أيصحّ الاستدلال بهذا الحديث؟ أفهل يصحّ هدم آثار النبوّة والرسالة والصحابة بهذه الرواية؟

على أنّ بعض الأسانيد مشتمل على عبد الرحمن بن أسود المتّهم بالكذب والوضع.

هذا كلّه ما يتعلّق بالسند.

وأمّا الثاني: أي المتن، ففيه ملاحظتان:


1- تهذيب التهذيب، ترجمة أبي الزبير 9: 442 ط حيدر آباد- دكن عام 1326؛ ولاحظ الطبقات الكبرى 5: 481.

ص:79

الأُولى: أنّ الحديث روي بصورٍ ست، مع أنّ النبيّ نطق بصورة واحدة، ولو رجعت إلى متونه المبعثرة في المصادر التي أوعزنا إليها ترى فيها الاضطراب العجيب، وإليكصورها:

1- نهى رسول اللَّه عن تجصيص القبر والاعتماد عليه.

2- نهى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عن الكتابة على القبر.

3- نهى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عن تجصيص القبر، والكتابة والبناء عليه، والمشي عليه.

4- نهى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عن الجلوس على القبر، وتجصيصه، والبناء والكتابة عليه.

5- نهى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عن الجلوس على القبر وتجصيصه والبناء عليه.

6- نهى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عن الجلوس على القبر وتجصيصه والبناء عليه، والزيارة والكتابة عليه «(1)».

مضافاً إلى اختلافات أُخرى في أداة مقصود واحد، فيعبّر عنه تارةً بالاعتماد، وأُخرى بالوطء، وثالثة بالقعود.

ومن المعلوم أنّ الاعتماد غير الوطء، وهما غير القعود، فمع هذا الاضطراب والاختلاف في المضمون لا يمكن لأيّ فقيه أن يعتمد عليه؟!

الثانية: أنّ الحديث على فرضصحّته لا يُثبت سوى ورود النهي


1- لاحظ في الوقوف على المتون المختلفة للحديث المصادر التي أوعزنا إليها.

ص:80

من النبي، ولكن النهي منه تحريمي ومنه تنزيهي، وبعبارة أُخرى: نهي تحريم، ونهي كراهة، وقد استعمل النهي في كلمات الرسول في القسم الثاني كثيراً، ولأجل ذلك حمله الفقهاء على الكراهة، فترى الترمذي يذكر هذا الحديث فيصحيحه تحت عنوان كراهية تجصيص القبور، والسندي شارحصحيح ابن ماجة ينقل عن الحاكم النيسابوري أنّه لم يعمل بهذا النهي (بالمضمون التحريمي) أحد من المسلمين، بدليل أنّ سيرة المسلمين قائمة على الكتابة على القبور.

وأمّا الكراهة فربّما تكون مرتفعة بالنسبة إلى المصالح العظيمة المترتبة عليه، كما إذاصار البناء على القبر سبباً لحفظ الآثار الإسلامية، وإظهار المودّة لصاحب القبر الذي فرض اللَّه مودّته على الناس «1»، أو يكون لاستظلال الزائر وتمكّنه من تلاوة القرآن وإهداء ثوابه إلىصاحب القبر، إلى غير ذلك من الأُمور التي يتمكّن الإنسان منها تحت الظلّ لا تحت الشمس ولا في برد الليل، فالنهي التنزيهي أشبه بالمقتضيات التي ترتفع بأقوى منها.

الثالثة: أحاديث ثلاثة في الميزان

فقد ورد في ذلك المجال أحاديث أُخر نذكرها بسندها ومتنها:

روى ابن ماجة فيصحيحه ما يلي:

ص:81

1- حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا محمد بن عبد اللَّه الرقاشي، حدّثنا وهب، حدّثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن القاسم بن مخيمرة، عن أبي سعيد: أنّ النبيّ نهى أن يُبنى على القبر «(1)».

ويذكر ابن حنبل حديثاً آخر بسندين هما:

2- حدّثنا حسن، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا يزيد بن أبي حبيب، عن ناعم مولى أُمّ سلمة، عن أُمّ سلمة قالت: نهى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن يُبنى على القبر أو يُجصّص.

3- عليّ بن اسحاق، حدّثنا عبد اللَّه بن لهيعة، حدّثني بريد بن أبي حبيب، عن ناعم مولى أُمّ سلمة: أنّ النبيّ نهى أن يجصّص قبر أو يبنى عليه أو يجلس عليه «(2)».

فسند الحديث الأوّل يشمل على (وهب)، وهو مردّد بين سبعة عشر رجلًا، وفيهم الوضّاعون والكذّابون «(3)».

والحديث الثاني والثالث لا يُحتجّ بهما، لاشتمالهما على «عبد اللَّه ابن لهيعة» الذي يقول فيه ابن معين: ضعيف لا يحتجّ به، ونقل الحميدي عن يحيى بن سعيد: أنّه كان لا يراه شيئاً «(4)».

هذه حال الأحاديث التيصارت ذريعة بيد الوهابيين لتدمير الآثار الإسلامية منذ أن استولوا على الحرمين الشريفين، حيث لا تمرّ


1- صحيح ابن ماجة 1: 474.
2- مسند أحمد 6: 299.
3- ميزان الاعتدال 3: 350- 355.
4- ميزان الاعتدال 2: 476؛ وتهذيب التهذيب 1: 444.

ص:82

سنة إلّاويدمّر أثر من الآثار الإسلاميّة بحجّة توسيع الحرم الشريف، حتى المكتبات وبيوتات بني هاشم ومدارسهم، وبيت مضيِّف النبي أبي أيّوب الأنصاري، وفي الوقت نفسه يعكفون على حفظ آثار اليهود في خيبر وغيره، حتى بيت كعب بن الأشرف ذلك اليهودي الذي أهدر دمه رسول اللَّه، وقتل بأمره غيلة باسم الحفاظ على الآثار التاريخية.

ثمّ إنّ القاضي ابن بليهد قد أعوزته الحجّة فتمسّك بكون البقيع مسبلة موقوفة، وأنّ البناء على القبور مانع عن الانتفاع بأرضها.

سبحان اللَّه ما أتقنه من برهنة؟ من أين علم أنّ البقيع كانت أرضاً حيّة وقفهاصاحبها على دفن الأموات؟!

ومن أراد أن يقف على حال البقيع، وأنّه لم يكن فيها يوم أُعدّت للتدفين أيّ أثر من الحياة، فليرجع إلى كتاب «وفاء الوفا».

آخر ما في كنانة المستدلّ:

ذكر البخاري فيصحيحه في باب كراهة اتّخاذ المساجد على القبور الخبر التالي:

لمّا مات الحسن بن الحسن بن علي ضربت امرأته القبّة على قبره سنة، ثمّ رفعت، فسمعواصالحاً يقول:

الأهل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه الآخر: بل يئسوا فانقلبوا «(1)».

إنّ هذا الخبر لوصحّ فهو على نقيض المطلوب أدلّ، فهو يدلّ على جواز نصب المظلّة على القبر، ولو كان ذلك حراماً لماصدر من


1- صحيح البخاري 2: 111 كتاب الجنائز؛ السنن للسنائي 2: 171 كتاب الجنائز.

ص:83

امرأة الحسن بن الحسن عليهما السلام، لأنّه كان بمرأى ومسمع من التابعين وفقهاء المدينة، ولعلّها نصبت تلك القبّة لأجل تلاوة القرآن في جوار زوجها وإهداء ثوابها إلى روحه.

وأمّا قول الصالح فهو أشبه بقول غير الصالح، كما أنّ الجواب أيضاً مثله، لأنّه بصدد الشماتة على امرأة افتقدت زوجها وهي مستحقّة للتعزية والتسلية لا الشماتة، لأنّها ليست من أخلاق المسلمين، ولم تكن المرأة تأمل عودة زوجها إلى الحياة حتى يقال: إنّها يئست، بل كان نصبها للمظلّة للغايات الدينية والأخلاقية، والشامت والمجيب كان من أعداء أهل البيت، والعجب أنّ البخاري ينقله ولا يعلّق عليه شيئاً!

ترى هؤلاء الأغبياء يدمّرون آثار الرسالة وهم يتمسّكون في ذلك بركام من الأوهام، ويسخرون من الذين أظهروا حبّاً لأهل بيت رسول اللَّه الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وفرض مودّتهم وولاءهم وقال: «قُلْ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» (الشورى/ 23).

إلى هنا تبيّن أنّه ليس للقوم دليل، بل ولا شبهة على حرمة البناء على القبور، وإنّهم لم يدرسواصحاحهم ومسانيدهم حسبما درس السلف الصالح.

الحمد للَّه ربّ العالمين

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.