السياسية التربوية عند الامام الصادق عليه السلام

اشارة

المؤلف: السيد عبدالمهدي فضل الله

الناشر : مشعر

طبع في سنة: 1412 ه

السياسية التربوية

بسم الله الرحمن الرحيم هل ثمة علاقة بين السياسة و التربية؟ و اذا وجدت، ما هي طبيعتها؟ هل هي تفعيلية؟ أم هي علاقة امضائية؟ أم تنموية؟ أم تقاطعية؟ بمعني التلاقي في محور و الافتراق في باق المحاور. أم بيئوية؛ تخضع لعوامل داخلية كليا أو جزيئا في تأهيلها لمنطق الترابط الداخل في تأثيرات البيئة تلك؟ أم تداخلية تقتضيها طبيعة تداخل الحاجات؟ أم تلقيحية انجابية؟.. و اذا صح هذا، كيف نتصور طبيعة هذا المولود و علاقته بأبويه - ان صح التعبير؟ أم أن العلاقة مرحلية بسيطة شفافة و عابرة لا تستحق الاهتمام أو الانتباه؟... و بالتالي فهي هامشية يقتضي اهمالها؟ أم مرحلية أصيلة أو مشاركة في التأصيل و التأهيل؟ لأن المشاركة بهذا المعني تدخل، و التدخل ذو حدين: اما أن يكون بانيا أو هادما، و عليه يقتضي التمحيص حقيقة المتدخل بعدا و عمقا... و لزوم هذا يظهر بعد التدقيق في هويتي: «سياسة» و «تربية». و ماذا عن التدقيق في الهويتين؟.. و بروز النتوءات في هذه الأثناء محبط أم حافز؟ و الاحباط ملزم بالتسليم دون اعتراض؟ أم داع الي الكمون؟... و هل هذا يحمل معني القيمومة لمصلحة المحبط أم المحبط؟ و الحافز في أي حقل ينمو و يتوالد؟... في حقل الذات؟ أم في الحقل العام؟ و في هذه الحال، هل ينشأ صراع بين الذات و غيرها؟ [ صفحه 360] ماذا ينتج في الحالين؟ هل تدعو الحاجة الي تدخل آخر لبعض المفردات؟ و هل ما يحدث في عالم الناس يحدث في عالم المفردات أيضا؟ و اذا كانت حقا أصيلة، هل هي انصهارية

توحيدية الي حد ضياع المعالم في كليهما... بحيث يلغيهما استقلال الجزء؟.. وهب أن التدخل مطلوب؟ فمن الجدير بحمل هذا العب ء؟ واحدة من فئة؟ أم واحدة بفئة؟ أم واحدة مجردة عن المتعلقين و المتعلقات؟ و أي من هذه الواحدات أو تلك هل بامكانها أو من شأنها أن تكون موضوعية تقوم بدورها دون تدخل الذات؟ و في هذه الحال، ما يصدر عنها: لها أم عليها؟ أم لمصلحة الجهة صاحبة الحاجة الي التدخل؟ أم أنها تتحول بفعل تدخلها الي شريك له و عليه؟ و اذا صارت شريكا؟ هل تنزع عنها صفة المتدخل؟ حيال هذا - و هول قليل من كثير - ألا تتشابك الخطوط و تتداخل الألوان تداخلا يصعب معه التمييز فضلا عن الفرز و التوظيب و تحديد الخانات؟ و من هنا مست الحاجة لذوي الخبرة المؤهلة للتعاطي مع الأحداث تعاطيا بانيا و حاميا... و لما قلوا الي حد التلاشي، وقع الخلل، و أطل برأسه زور الادعاء مموها، مطليا، براقا حتي استحكم و تحكم، ثم استشرس... من كرس هذا الواقع: تشابك الخطوط و تداخل الألوان أم موضوعية الحاجة أم لا ذي و لا تلك و انما طبيعة الحركة التي اقتضتها الحاجة الي التوظيب؟ أم أن التماس و الاحتكاك بين فصائل المفردات. انبثق عنه وقع آخر؟ و نظرا لغياب ذوي الخبرة أو ندرتهم وقعت الواقعة؟ و اذا كانت الحاجة موضوعية فهي أساس، و أدعياء البناء هدد البيت، أنذرهم بأن السقف سيخر عليهم من فوقهم... هذه حقيقة أم ادعاء؟ ان كانت هذه حقيقة، فأين مصاديقها؟ أو كانت ادعاء؟ فالادعاء روحه الدليل فأين هو؟ و طبيعة الحركة التي اقتضتها الحاجة الي التوظيب، هل هي حركة ذاتية؟ أم أنها تتحرك بفعل قوة

خارجة عنها تماما؟ و ان وجدت هذه القوة. ما هي حدودها و أبعادها و تطلعاتها؟... و سواء علينا اتسعت التساؤلات، ثم امتدت و انتشرت أم تقلصت و قلت ثم تقوقعت، فالنتيجة ربما كانت واحدة، و هي حقا كذلك، و هي أنها؟ (أي الحركة التي اقتضتها الحاجة الي التوظيب) فقدت استقلالها، فهي بالتالي ليست مسؤولة عن النتائج... في هذه الحال، هل هي لومة، لأنها لم تحافظ علي استقلالها؟ أم ملومة لأن تفاعلها أخل بتوازنها فضاع منها الاستقلال؟ أم أنها ليست مسؤولة لأنها لا تملك القدرة علي مواجهة الوافد ان لم نقل الغازي الذي أزال تحصيناتها، و تركها تتقبل كل ما يلقي اليها أو عليها باعتراضات واهمة؟ من هنا يكون ظهور العوارض الوبائية أمرا طبيعيا جدا، لأن صانع الأجواء و المتحكم بالمناخ هوذا. و الهواء الذي يجود به ملوث يتحكم بمؤهلات الجسد الي هنا.. و اذا فقدنا السند الذي يدعم ايجابا أو سلبا كلما مر، أو بعضه، نسأل: هل من مسافة بين السياسة و التربية؟ ما هي حقيقتها؟ امتدادية مزامية معقدة؟ و هل لها آلة قياس؟ و هل بعدهما تقابلي لا لقاء فيه؟ و اذا لم يكن كذلك، هل بالامكان تقريب المسافة و لم الشمل؟ و هل التقريب - ان حصل - يغري بتوحيد البيئتين؟ و العامل في هذا الحقل، مهمته صعبة أم مستحيلة؟ و اذا كانت صعبة ما هي أسباب الصعوبة فيها؟ هل تدرك؟ متي؟ كيف؟ الخ... و حتي لا نضيع في رحاب التساؤلات و هي ولود. نطرق باب اللغة [ صفحه 361] عله يسلك بنا طريقا قاصدا. فاللغة ملاذ، و عندها كلمة السر و بيدها المفتاح.. ها هي تفتح

لنا الباب علي مصراعيه، لتطلعنا علي: أ - السوس: الطبع و الخلق و السجية يقال الفصاحة من سوسه أي من طبعه. ب- السوس: الأصل. ج - السوس: العث. السوس: مصدر ساس - يساس و يسوس سوسا الطعام اذا وقع فيه السوس. السوس: الرياسة، يقال ساسوهم اذا رأسوهم. ساس الأمر سياسة اذا قام به سوس الرجل أمور الناس، اذا امتلك أمرهم. فلان مجرب قد ساس و سيس عليه أي أدب و أدب. يقول الحطيئة: لقد سوست أمر بنيك حتي تركتهم أدق من الطحين السياسة: القيام علي الشي ء بما يصلحه. السياسة: فعل السائس. يقال هو يسوس الدواب. اذا قام عليها و أراضها. و الوالي يسوس رعيته. سوس فلان لفلان أمرا، أي روضه و ذلله. أظن هذا كافيا لنري في ضوئه و بدون أدني جهد أن الحوائل بين هذه المفردات و مضامينها المعنوية واهية جدا، ان لم نقل معدومة، ليس من شأنها أن تكون حوائل طبيعية ذات محاور يمكن تسميتها حدودا بين كيانين. اذن لا ترجي لعون أو مدد. معرفة الأسباب لا تحتاج الي شرح لوضوحها، و عليه فانها تساعد العامل علي التوحيد الوظيفي للمخلوق المتكامل هيكلا و أجهزة... فالآصرة التي تشد ساس الطعام الي ساس الأمر كما يقول الحطيئة: لقد سوست أمر بنيك حتي تركتهم أدق من الطحين تشبه الي حد بعيد أواصر أعضاء الجسد الواحد. فالسوس اذا دخل الخشب مثلا يعمل علي تحويل حقيقته و قلبها الي حقيقة أخري، يصبح الخشب طحينا بالجد و الجهد و الكد و المواظبة، فعمل السوس في المادة كعمل السياسي و السائس اللذين يتجهان الي الطبائع فيحولانها

و يغيران حقيقتها متجهين بها الي ما يصلحها. فالسياسة هي القيام علي الشي ء بما يصلحه - كما مر - حتي صار - بفضل السياسة - الجامع أليفا، و الشارد قريبا و معينا و سلسا و منقادا و العذار وفيا، و الرافض متقبلا و مستسيغا. هذه بعض عطاءات السياسي، فالسياسة بهذا المنظار، و هو الحق - توضع في خانة المقدسات، و السياسي عامل مقدس في هذا الحقل... و ما يؤسف له هو أن تهتك حرمة هذه الكلمة، ثم يعتدي علي عفتها و تبتذل بدل أن تحمي بالغوالي صارت رديفا لمعظم الأوبئة الاجتماعية، و نحن بهذه المناسبة نستثني السياسيين الأفذاذ الذين حافظوا علي شرف السياسة من أن يذال، و صانوا كرامتها بما قدموا و يقدمون. [ صفحه 362] السياسيون عاملون مجدون انقلابيون موضوعيون وظيفتهم أن يستأصلوا الشر من نفس الشرير ليجعلوا منه انسانا صالحا، و هذه مهمة عسيرة، من هنا اكتسبت شرفها و الكرامة. رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) حينما دخل مكة فاتحا. دخلها سياسيا و فاتحا، قوله (ص): [اذهبوا فأنتم الطلقاء] أري من خلال مفرداتها برنامجا سياسيا ضخما يحمله الي كل من ضاع أو التبس عليه الطريق... و الحسين (ع) حينما دخل كربلاء دخلها سياسيا و فاتحا: سياسيا باعتباره الفكرة التي دخل بها رسول الله (ص) مكة المكرة مجسدة. أما أصحابه فهم الذين سموا الي مستوي الفكرة، لذلك ماتوا في سبيلها، أقول ماتوا تجوزا، انهم حقيقة انقلابيون تحولوا عن حقيقتهم الترابية، و حطموا صنم ال «أنا» في ذواتهم فاستحالوا منارات، لأنهم انقلبوا علي حقيقتهم الترابية و سجايا الأنانية و حولوها الي حقيقة أخري مغايرة لذلك

سماهم الله أحياء (و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون). و السياسة بهذا المنظار هي القيام علي الشي ء بما يصلحه - كما تقول اللغة - يكون ذلك اذا لم تتنازع السياسي عوامل خارجة عن موضوعية واجبه... هذه العوامل هي أعراض مرضية، و لكنها ذات رسالة بمضامين مدروسة، فان لم تعالج بالسرعة المطلوبة، حولت القاعدة استثناء. من هنا، وجب أن يكون المبضع بيد الجراح لا الجزار، لأن لكل منهما طبيعة مغايرة، فاختلاف الوظائف و تداخلها يلغي المطلوب و يطمس الحقيقة، و اختلاط الألوان يخلق لونا آخر مخالفا تماما لكل من الألوان الممزوجة، لذلك اختلاط الوظائف القائم علي التداخل الغوغائي، اذن، انه اعتداء... و سنن المعتدي و قوانينه قائمة علي عدم الاعتراف بشي ء سوي الذات. و هذا من قبيل جنون الخلايا، لذا مست الحاجة الي التربية القائمة علي قواعد لم تمسسها ال «أنا» بأذي... و الادعاء القائل بأن البيئة بكل تفصيلاتها، و بكافة حيثياتها هي التي تكون طبيعة الأفراد و الجماعات و توجه سلوكها و تحدد أنماط أهدافها فيه نظر، لأنه قائم علي قواعد مادية بحتة، تغفل الروح و تلغي دورها، بل لا تعترف بها مطلقا. لذا لم تكتب له الحياة بغير المنشطات، فكان تنفسه اصطناعيا يلغي الحياة الطبيعية و لا يمنحها، و هذا ما بدأ يتم فعلا. و بالعودة الي استدعاء المفردات نستفتيها بعيدا عن أي استطراد، ننظر فيما ورد عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): [أدبني ربي فأحسن تأديبي و ربيت في بني سعد] و فيما استعمله الزجاج في الله - عزوجل - فقال: [ان هذا القرآن مأدبة الله في الأرض،

فتعلموا من مأدبته] يعني مدعاته... «المأدبة من الأدب، و يقال للبعير اذا ذلل أديب و مؤدب. يقول مزاحم العقيلي: و هن يصرفن النوي بين عالج و نجران تصريف البعير المذلل نري أدب - ربي - ساس وسيس عليه - مأدبة الخ... نراها تضامينة فربا الشي ء مثلا زاد و نما يقول مسكين الدارمي: ثلاثة أملاك ربوا في سجورنا فهل قائل حقا كمن هو كاذب [ صفحه 363] و يقول ابن الأعرابي: فمن يك سائلا عني فاني بمكة منزلي و بها ربيت ينتج عما تقدم: 1- أن الزيادة و النمو في (ربا) ليستا دائما صحيحتين (و ما أوتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس لا يربو عند الله) و النمو غير الطبيعي نتائجه معلومة. 2- لا يكون النمو صحيا. الا في اطار التنامي الطبيعي غير العدواني. و لا يتأتي ذلك لا ضمن برنامج ناجح داخل في اطار معد لمصلحة جميع الأفرقاء ان صح التعبير. و ما تراعي فيه خلايا الجسد ينسحب علي الأفراد بنفوسها باعتبارها جميعا خلايا للجسم الاجتماعي الكبير. و العلائق التضامنية التي لاحظناها في ساس وسيس عليه و أدب و مأدبة و ربا من حيث اللغة، و القائمة علي أساس مصلحة الجسم الواحد مدرسة ولكنها مهملة ببرامجها الاصلاحية و تطلعاتها المستقبلية، لذا نري الانسان منذ قابيل و هابيل يبحث عن حتفه بظلفه، و نداءات الاصلاح التي تخرج علينا بين الحين و الآخر منذ فجر التاريخ حتي عصرنا الحاضر خارجة في معظمها من الحناجر فقط لذا لم تكتب لها الحياة، و هي بالتالي غازات سامة تلوث الأجواء و تكم الأفواه و

تعمل علي خنق كل الأصوات الأصيلة المجردة من المؤثرات الخارجية، و نزع رداء الأصالة عنها و تحويل حقيقتها للتدخل القائم علي مبدأ الاستحواز و طمس المعالم. و الصراع القائم بين الأصالة و الزيف وجه من وجوه هذا التدخل الملقي بكلكله علي صدر المجتمع الانساني. ان الانتفاضات التي نراها تحدث دائما في وجه ذلك الغول دلائل عافية و مواد مشعة ولكنها ليست مميتة للغول ذاك أو مهددة لمشاريعه علي الأقل. و مع هذا فهي لا تكف عن المواجهة بما تملك من امكانات مطوقة ولكنها فاعلة علي محدوديتها، و فاعليتها هذه مهددة دائما من اتحادات القوي العاملة علي ترسيخ أقدام المادة و تتويجها ملكة مالكة يجبي كل شي ء لها و باسمها، و هي صاحبة الحق في التوزيع حسب مقتضيات طبيعتها المادية، حيث يكون التآكل و التنامي بالاستحواذ الفارض كل أشكال الأنانية و أنماطها لحساب الجسد و اهمال كل ما سواه، لأنه بمقتضي ذلك مشدود شدا الي مزاولة تلك المهنة و لعب ذلك الدور باعتبارها أمرا طبيعيا جدا. و الانهيارات الضخمة و الكوارث الكبري و الأوبئة الفتاكة التي تحدث في أجوائه لا تعنيه بل تغنيه آنيا. و بما أنه لا يملك باصرة تخوله الرؤية ولو علي مسافة قريبة، فهو فرح محبور... و تجربة قابيل مع هابيل أول أمثلتها. و باكورة مصاديقها... و الأخ الذي ضاق بمرأي أخيه، و قد تحول الي جثة لم يكن الندم باعث ضيقه... الندم الذي تعقبه التوبة... بل لأنه عجز عن تغطية جريمته لأنها شاهد ناطق، لا يحتاج [ صفحه 364] معه الادعاء الي شهود الحال... من هنا كانت جريمة قابيل طعنة في مصدر أول مشروع

الهي علي الأرض... و ملاحقة خنجر الجريمة للكوادر الالهية أمر طبيعي جدا، لأن الصراع القائم بينهما صراع بين ملتين. لذلك نري أن رسل الله لا تهادن و لا تحمل مشروعا وسطا ترضي بها جنود الشيطان، و ترضي بها نفسها في آن: قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون لأن هذا مخالف لطبيعة كل منهما من حيث التنشئة و التأديب، فمن أدبه ربه لا يصغي لمؤدب آخر، و بالتالي فهو لا يصافحه، الا اذا خضع للحجر الصحي و قبل عمل المؤدب الأصيل... مستسلما لمبضع جراح النجاة... و بالاستماع الي باب علم مدينة رسول الله (ص) محاورا عمرو بن ود: قل: أشهد أن لا اله الا الله و أن محمدا رسول الله، و عندما رفض عمرو الغرض الأول قال له: ارجع بجيشك عن رسول الله. و يستمر عمرو رافضا. و يكون الأمر الذي لا مفر منه و هو اللجوء الي المبضع... بالاستعماع الي هذا نلاحظ الأسلوب التربوي المتدرج الذي يحمل المبرر في اللجوء الي استعمال آخر الدواء.. انها طبيعة كل رسالي تخرج من مدرسة الهية طابعها و أسلوبها و وسائل ايضاحها و معلومها وحدة منتخبة. و علي (ع) واحد من حملة المشروع الالهي الي الناس و مهندسي بنائه القائم علي تقوي من الله و رضوان (أفمن أسس بنيانه علي تقوي من الله و رضوان خير أم من أسس بنيانه علي شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم و الله لا يهدي القوم الظالمين - لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم الا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم) (التوبة 110 - 109) فالبناء في ضوء هذا و الأساس و أساليب اقامته عليه

كلها وحدة متراصة و عمل متكامل له غاية و أسلوب مولود من رحم الغاية عينها. و حركة العمل في تأسيسه مشتقة من غاية بنائه أيضا، و لو لم يكن الأمر كذلك لما أمر رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) بهدم مسجد ضرار مع أنه مسجد من حيث العنوان. و لما انعكس مبرر وجوده وحب هدمه. لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم أو تقطع قلوب بناته أي أن تتبدل الغاية الزئبقية فتعدو مع العادين خلف سراب خادع... أو ليست الدنيا سرابا؟ لكن امتلاكها عندهم غاية، و العدو خلفها مموها بالعناوين اللابسة لكل حالة لبوسها واضح... و تتتابع الأدوار و تتلاحق المشاهد فوق خشبة المسرح و الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا. ماتوا أي حيل بينهم و بين ملذات الفانية و ذهب حسهم بالاستمتاع بها ليفتحوا عيونهم علي عالم آخر طالما و عدوا به، و قدمت اليهم عنه صور ناطقة تكاد تلمسها بالحس و تتقراها باللمس، و لما لم تنلها أفواههم بالقضم و الخضم قالوا «ان نفيرا من ألف دين لأجدر» حتي اذا رأوها في أخراهم عضوا يد الندم و تمنوا العودة الي حيث كانوا قال رب أرجعون أعمل صالحا فيما تركت... و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه... انها الطبيعة التي ترعرعت و نمت ثم ربت المشاريع المضادة للمشروع الالهي، تشحذ سيفها علي عنقه بدعوي المحافظة عليه و حفظه. و المعركة كانت و ما زالت و ستبقي و بالرغم من عدم التكافؤ المادي يظل صمود الأصالة متحديا: بدر - كربلاء - فلسطين و سائر [ صفحه 365] الأراضي الاسلامية و العربية المحتلة، كذلك بيتي العزيز في الجنوب.

كل هذه اسماء متعددة لمسمي واحد هو المشروع الالهي في مواجهة العدوان علي الانسان. و لم يكن ذلك ليحدث، لو أن للتربية الرائدة دورا في تأصيل الانسان، أيا كان و متي و أني وجد. و لما كان الانسان هو الغاية و هو الوسيلة في أن تشابهت الصور، و موهت المفاهيم و تحول الحبل الي حبائل، و كاد يضيع كل شي ء لولا قوة الجذب في حقول الأصيلين و استطالة النور و شموليته عند حماة المشروع الالهي للاذ الانسان بالعجز و صار كمن هملا.. و الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) مصباح ذاتي التوقد علي مصباح الشك قطعها باليقين يقدم المشروع كاملا واضحا معقما صحيا، فمن الامام الصادق (ع)، بل من أنا؟ نكرة أنا، رأس المعارف هو، المعرفة لا تحتاج الي تعريف، انما تعرف النكرات، و النكرة تعرف باضافتها الي المعرفة، فصلوات الله و سلامه عليك حين جعلتني معروفا بك لا معرفا عليك. الامام جعفر بن محمد الصادق أبوه: الامام محمد الباقر خامس أئمة أهل البيت (ع) نهض بأعباء الامامة في ظروف و غير مواتية، بل مستحيلة علي غيره، فالسنوات الأربع التي عاشها مع جده السبط كافية لأن تغري بالناشي ء. لكن الصورة الحقيقة ظلت تكبر و تكبر الي أن تحولت مدارس، كربلاء أبرز معاهدها و وسائل ايضاحها و السجاد أبوه معلمها الأول أعطاه كلمة السر و عهد اليه برعايتها و سلمه مفاتيحها ثم رحل مطمئنا، وحسبك بالباقر (ع) أبا للصادق (ع) و كفي. أمه: فروة بنت القاسم بن محمد. و يروي صاحب البحار عن الجعفي أن اسمها فاطمة. و أيا تكن فحسبها أن تكون له أما. ولادته: الشريفة كانت في المدينة المنورة سنة

ثمانين أو ثلاث و ثمانين من الهجرة. وفاته: لحق بالرفيق الأعلي و له من العمر خمس و ستون سنة أو ثمان و ستون... مات مسموما في عنب أيام المنصور.. دفن في البقيع. فسلام عليه يوم ولد و يوم استشهد و يوم يبعث حيا. ظروف ولاته: شهدت البلاد الاسلامية بعد استشهاد الامام الحسين (ع) مخاضا ضاريا و عواصف عاتية أنذرت الحكم الأموي بالاستئصال.. تجلت ارهاصاته بالانتفاضات الدموية التي كانت تحدث في غير مكان... صحيح أن أفواه قيادييها كانت تكم و أصواتهم تخنق و يختم عليها بأبشع وسائل القمع و أفظع أساليب العنف. بيد أنها لم تكن لتجدي أو ترهب. فقد كانت علي قسوتها تحمل بذور فنائها. انها حشرجات محتضر و تخبطات غريق يائس أرعبه عنف الموج و زلزلة صخب التيار.. فهذا معاوية بن يزيد يري الحق و أهله محاربين فيعتزل... و الأيام التي تلت استخلافه لم تحمل عنه اشارة رضي بما عهد اليه [ صفحه 366] به... اذ لم يصل بالناس و لم يخرج اليهم الا مرة واحدة ألقي فيها خطبته الشهيرة التي أماط فيها اللثام عن كل شي ء و دل صراحة علي أصحاب الحق، و حدد المغتصبين بالأسماء و بلا مواربة ثم لزم بيته الي أن قضي و هو في ريعان شبابه لم يبلغ الرابعة و العشرين ربيعا... حضر دفنه مروان. سأل الناس: «أتدرون من دفنتم؟!» نعم، معاوية بن يزيد. ثم يعقب مروان قائلا: «نعم هو أبوليلي الذي يقول فيه الفزاري: اني أري فتنة تغلي مراجلها و الملك بعد أبي ليلي لمن غلبا بدا من سؤاله و تعقيبه أنه يمد عنقه الي الخلافة و

يتحلب فمه لمطير ضرعها، و قد تأتي له ذلك، الا أن دخوله في هذا الأتون ما عتم أن صهره... قتلته زوجته أم خالد بن يزيد... لا شك أن ذهابه لم يحل مشكلة الأمويين، كما أن مجي ء عبداللملك لم يساهم في حلحلتها أيضا، بل زادها تعقيدا. الأجواء علي تلبدها و الانتقام المتبادل سيد الموقف، و الرعب ملق بثقله علي صدور العباد و البلاد... الأيام حبلي بالأحداث... و كل شي ء وارد و الأمة يدها علي قلبها.. لا تدري الي ما يكون مصيرها تتهيأ للقفز في المجهول... تتلاعب بأعصابها النأمة.. و تقلق و هم اطمئنانها هبة نسيم... في خضم تلك المرعبات من عهد عبدالملك، ولد الامام الصادق (ع) محاطا بسورين عظيمين من ورثة علم رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) علما و أخلاقا و أسلوب عمل... بيته مدرسته و مسجده و محور تحركه، فيه تعلم و علم و صلي و صام.. و هذا الكنف النبوي الحاني من الأبوين الجليلين كاف لتعقيم الأجواء للمولود السعيد... تنفس مل ء رئتيه هواء نقيا مشبعا بالايمان و العلم المحصن. فالامام زين العابدين (ع) الذي شهد واقعة الطف، وقرأ في ضوئها، حمل مائدته العامرة بشتي الألوان الموروثة و المكتسبة الي الحفيد، يأخذ منها ما غذي نفسه الشريفة و أغني تطلعه لاستشراف الأبعاد... و الجد يعد الحفيد للنهوض بما ينتظره من أعباء، اعدادا مبنيا علي قواعد معصومة أهلت الناشي ء للمهمة الصعبة تأهيلا يستحيل علي غيره. فكانت السنوات التسع التي عاشها مع أبيه الباقر (ع) مرحلة تخريج من مدرسة النبوة. لتكون المواجهة بحجم المهمة التي تمخر بحر المستحيل بالسلاح الذي ورثه كابرا عن كابر، فالمراحل الصعبة و المسافة الزمنية

الطويلة التي ربت علي ثلاث و أربعين سنة منذ عبدالملك حتي يزيد بن الوليد كانت كلها علقما و جحيما و سلاسل تتنفس لهبا، قطعها الامام الصادق (ع) ظافرا مستسهلا صعابها في سبيل ادراك المني و تحقيق الهدف... قطعها بالحكمة و الأناة و الصبر و البصيرة الثاقبة التي اخترقت حجب الزمن ودلت علي ما سيكون... [ صفحه 367] مافت في عضده شتم من كان رسول الله (ص) بمنزلة هارون من موسي.. مر الأذي اللاحق بشيعتهم كان قوة و حافزا... مدركا أن القمع وسيلة الخائف و حشرجة المحتضر... فدم السبط الشهيد الذي عبوه ظامئين للمزيد من دماء آل محمد (ص) صار براكين مستأصلة و الخنجر الذي حز وريد النبوة ارتد الي عنق الجزار... المشاهد تتلاحق علي مسارح الزعامة الغاية.. نشاهدها فصلا فصلا ما أثاره أي منها لأنه عالم به قبل أن يكون، و هو متأكد أنهم بها ينتحرون... متأكد من زوالها لأنها غاية. و هو يخطو نحو الهدف الغاية بوسائل هو أبرز رموزها... خطواته ثابتة... متجذرة... قائمة علي تقوي من الله و رضوان. هذا هشام بن عبدالملك يقتل زيدا بن علي في الكوفة و الصادق يؤبنه بلسان يختزن النبرة المحمدية... لاعنا قاتله... دالا علي مثالب القتلة الظالمين... واعظا اياهم من مغبة التمادي برعاية الأوبئة و صيانتها... مبرهنا أنها بدع يجب أن تطفأ بالكتاب الكريم و السنة النبوية الشريفة... ارشاداته الصحية تلك كانت تدخل في القلب، لأنها خارجة من القلب... التف الناس حوله... كان يعظهم بسلوكه... قوله فعل... و فعله حركة بناء و هدم... سهل الي حد الاغراء... صعب الي درجة الرهبة المجللة بالفيوضات الالهية الغنية... الواقف علي أعتاب بيته...

واقف علي عتبات صومعة و مسجد و جامعة... عامر الا من الطنافس، و مظاهر الكبر و رشوحات الجبروت... أسباب الخشوع لمن أمه للصلاة مكتوبة بالقلم العريض.. و مظاهر التنسك لمن قصده للتأمل تكثر الرهبان... و فيوضات العلم للمستنيرين تتجلي للعيان عرائس مغرية... ضيق... ضيق.. و واسع... واسع معا. يتسع لحشود الطالبين.. أنت فيه بحاجة الي دليل و الا ضعت... أليس عجيبا أن يتحول الكوخ مسجدا و صومعة و جامعة تنتج أفكارا منحوتة و أبدالا رهبانا... ثوارا باعوا جماجمهم الله.. تأثروا و أثروا ثم استحالوا منارات ذاتية التوهج... تنطفي ء الشمس و هم أحياء... و مع كل هذا فهي مبنية بالطين و الحجارة غير المنحوتة... من هؤلاء الامام الخميني العظيم (قده)... كوخه وليد ذلك البيت العظيم... منه أطل.. و فيه عمل و علم و خطط و نفذ... دك أضخم حصن للاستكبار العالمي في عصرنا الحديث... آه... لو أملك خيالا يدرك بعض حدود ذلك الخيال... قصر المجد ذاك... و بعد... أليس عجيبا أن يتسع بيت الامام الصادق (ع) لألفي طالب ان لم نقل أربعة آلاف... يخفون اليه من كل صقع... تتسابق القبائل الي ارسال من تتوسم فيه قابلية التلقي من نجباء أبنائها: مخزوم... خثعم... خزاعة... سليم «غطفان» بني ضبة... الأزد و غيرها... و غيرها... لا سيما قريش حتي صار وعن جدارة مؤسس أولي المدارس الفلسفية الاسلامية، بالاضافة الي الاختصاصات الأخري كالرياضيات و الكيمياء و الفقه و غيرها... و لا ننسي أن مؤسسي المذاهب الفقهية لم يغيبوا عن [ صفحه 368] حلقات التدريس تلك.. كان هذا و باختصار شديد. باكورة افاضاته العلمية في ظل الدولة الأموية التي ما ان لفظت أنفاسها الأخيرة، حتي

أطل السفاح برأسه، من بين جماجم الانتفاضات التي كانت تدعو بمعظمها الي العلويين، و في مقدمها العباسيون... ساير السفاح التيار و ركب الموجة حتي بويع بالخلافة، و كان انشغاله بمطاردة الأمويين فترة سماح للامام العظيم لأن يستمر في مهمته الرائدة، فركز دعائم مدرسته... حيث تسللت أشعة شمس عرفانه فأنارت كل الزوايا المظلمة، و ترقرق ينبوع معرفته فسقي كل النفوس المتعطشة، و لم يثنه هم هذا الانجاز المتفوق عن الرد علي كل من دعاه الي المشاركة في الثورة و تزعمها، فعند أفكارهم بالتأكيد، علي أن لا نصيب له من ريع تلك الحركات الانقلابية، و ان كانت في ظاهرها قامت باسم مظلومية البيت العلوي و تحركت تحت هذا الشعار. لكن الامام الصادق (ع) قد استشرف المستقبل و قرأه قراءة هادئة مطمئنة، فهو ماثل أمام عينيه... هو فعلا كذلك... يتجلي ذلك في رده علي أبي مسلم الخراساني عند ما كتب اليه أنه يدعو الناس الي موالاة أهل البيت و أن لا مزيد عليه، أي علي الامام الصادق (ع)، فيجيبه صلوات الله عليه: «ما أنت من رجالي و لا من أهل زماني». لم يقع في الفخ، ظل بعيدا، يعمل بصمت فاعل مخترقا صدر كل السدود. و ظلت حبائل العباسيين المموهة ببراقع الرحمية و الاخلاص تتري و تتلون و لا تقف عند حد. و الامام الصادق (ع) كان يلوي بها دائما ويحل مستعصيات رموزها حتي للسعاة الوشاة، فضلا عن المتزلفين حتي ألجأهم صبره و أناته و نفاذ بصيرته الي كشف زور ادعائهم، أنهم مخلصون موالون، فأماطوا اللثام عن سوء طويتهم و خبث نواياهم، مصرحين بذلك أمام مستشاريهم في أكثر من مناسبة. فهاهو المنصور الدوانيقي يحج عام 147 ه و

يدخل المدينة آمرا الربيع باحضار الصادق (ع) مصرحا أمامه بقوله: «قتلني الله ان لم أقتله...» و يتغافل الربيع... لكن الذئب لم ينم... و أصر علي احضاره فحضر، و كان بينهما كلام لم يخف فيه المنصور نواياه الخبيثة تجاه الامام لكن الصادق (ع) لم يستطع بحسن تدبره أن يفلت من بين مخالب الذئب و ينجو من أحابيله المموهة تهما و افتراءات ما أنزل الله بها من سلطان فحسب، بل أنهي المقابلة بأن أمر الربيع أن يلحق أباعبدالله جائزة و كسوة... الربيع لم يصدق عينيه و لا أذنيه، و توهم، محقا، لو لم يدله الامام علي السفينة التي ركبها و نجا من غضب الكاسر. انها مفتاح الكرامة و الوسيلة لقطع المسافة بين الأرض و السماء التي كانت جواب المسؤول عن المسافة بينهما و هو الامام (ع) «المسافة بين الأرض و السماء دعوة مستجابة». مفتاح الكرامة الذي لا يحسن استعماله الا المحترفون أصحاب الصنعة و صنائع ربهم. و يذهل الربيع الدعاء الحصن الذي تلاه علي مسامعه «اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، و اكنفني بركنك الذي لا يرام، و اغفر لي بقدرتك علي... لا أهلك و أنت رجائي... اللهم انك أكبر و أجل ممن أخاف [ صفحه 369] و أحذر... اللهم بك أدفع في نحره، و أستعيذ بك من شره». و كان للامام ما أراد، سلم فسلمت معه المدرسة، و تجذرت مفاهيمها، لم يتركها الا و أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين باذن ربها. شموس هدي و أساطين علم، أثبتوا أن العلم - أي علم - ان لم يكن وسيلة تخدم الانسان دمر. من هذا

الباب ندخل الي الامام الصادق (ع) قاصدين فروع السياسة التربوية. نطل علي هذا الفرع من كوي أربعة... نصف من خلالها مشاهداتنا، ما وسعتنا القدرة و أسعفنا البصر، علنا نحصل المبتغي، و الا فليست محاولتنا أول محاولة فاشلة.

سياسة الجسد

الجسد أداة أم وعاء؟ أم أداة و وعاء؟ و اذا كان الجسد هو الوسيلة التي تترجم النية عند الفرد الي عمل خارجي فهو أداة تتلقي الأوامر ثم تنفذها دون اعتراض، و هذا ما يحدث فعلا، فالأوامر التي ينفذها الجسد آتية من النفس الكائنة و القائمة فيه، فهو بهذا مستودع أسرار متأثرة و مؤثرة... من هنا وجبت رعايته و المحافظة عليه حتي يؤدي وظيفته طبقا للأصول المرعية، و الا سقط و تحطم و تحطمت معه كل مخزونات النفس. فالغذاء المادي المدروس و الرياضيات المنهجة و المنوعة غذاء رديف لا حياة طبيعية بدونه. و التطورات البنيوية فيه يجب مراقبتها و تقديم الخدمات اللازمة لها و استعمال الميزان في كل هذه الحالات واجب و لا محيد عنه... فكثيرا ما يكون الغذاء المادي ضارا ما لم تكن الأجواء المحيطة به مريحة ملائمة بحيث تغدو مقبلات غير مسرفة، و الا تضخم و انتفخ ثم انفجر، أو نحل ثم دق فذاب... حقيقة هذا قائمة و ماثلة في المجتمعات و الأفراد. من هنا، أولي الاسلام الجسد عناية تناسب وظيفته علي الأرض، و أكرمه بأن وعده بالبعث، و مواجهة الميزان الحق مؤكدا أن التراب هذا سوف يعود حاملا حصاد دنياه. و أن كفتي الميزان بانتظاره، فاما أن يكون في أعلي عليين، و اما أن تكون أمه هاوية (فأما من ثقلت موازينه - فهو في عيشة راضية - و أما من خفت

موازينه - فأمه هاوية - و ما أدراك ما هي - نار حامية) (القارعة 11 - 6). و حتي لا ترجح كفة ميزان المادة في التربية، حذر القرآن الكريم من مغبة طغيانها منذرا بسوء العاقبة في الدارين... (ألهكم التكاثر - حتي زرتم المقابر - كلا سوف تعلمون - ثم كلا سوف تعلمون - كلا لو تعلمون علم اليقين - لترون الجحيم - ثم لترونها عين اليقين - ثم لتسألون يومئذ عن النعيم) (التكاثر). [ صفحه 370] (ويل لكل همزة لمزة - الذي جمع مالا وعدده - يحسب أن ماله أخلده - كلا لينبذن في الحطمة - و ما أدراك ما الحطمة - نار الله الموقدة - التي تتطلع علي الأفئدة - انها عليهم مؤصدة - في عمد ممددة) (الهمزة). (و ما يغني عنه ماله اذا تردي) (الليل 10). هذه عينات معدن جبار تنفس علينا و نفس عنا... أرتنا الحقيقة في محلو صورتها و صدق رعايتها و حدبها... و النبي العربي الكريم (ص) أفاض علي الانسانية كلها من وحي تلك المناجم الالهية الهائلة عظات عملية و ارشادات خرج بها علي الناس قولا مقرونا بالفعل... كذلك باب مدينة علمه (ع) و معهما كل فروع الدوحة المحمدية الحانية الدانية.. فالداخل الي تلك الرياض مفتتن.. يعجب من هؤلاء الناس و هم بشر... كيف تعاملوا مع الفانية و خرجوا منها دون أن يعلق بهم رشح من رذاذ أدرانها... و هي المعروضة عليهم بالحاح... يحفظ الحياة و لا يشبع فضول الجسد... لذلك لم يكونوا بعض صيدها «اليك عني يا دنيا غري غيري... لقد طلقتك ثلاث». و الكلام في تعاملهم معها طويل... طول الحياة عينها...

و متشعب تشعب الحياة ذاتها... قدروا عليها و عجزت عنهم... و حتي لا يأخذنا الاستطراد، ننعطف ناحية الامام جعفر الصادق (ع) الموسوعة الحدث، لنري كيف لم يكن للجسد عنده أي اعتبار الا ضمن الحدود و المعايير و الموازين التي تجعله خادما مطيعا و وسيلة تميت فيه الطمع في أن يكون غاية... يعمل في هذه المزرعة خضما و قضما. فمن وصيته (ع) العنوان البصري «اياك أن تأكل ما لا تشتهيه، فانه يورث الحمق و البله، و لا تأكل الا عند الجوع، فاذا أكلت فكل حلالا» واذكر حديث النبي (ص): [ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه، فان كان ولا بد فثلث لطعامه، و ثلث لشرابه، و ثلث لنفسه]. و يوصي الصادق (ع) عمرو بن سعيد بقوله: «أوصيك بتقوي الله و صدق الحديث و الورع و الاجتهاد، و اعلم أنه لا ينفع اجتهاد لا ورع معه، و اياك أن تطمح نفسك الي من فوقك، و كفي بما قال عزوجل لرسوله (ص) (و لا تمدن عينيك الي ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا) فان خفت شيئا من ذلك فاذكر عيش رسول الله (ص) فانما كان قوته الشعير، و حلواه التمر و وقوده السعف اذا وجده». هذا طعام رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و مثل هذا كان طعام التابعين له باحسان الذين كانت تجبي لهم الأموال فيحاسبون أنفسهم، و لا يرفضون أن يحاسبوا. يعلم الله أن الجبايات علي اختلافها، كانت تذهب لأهلها المستحقين ذوي الخصاصة، لم يلجئهم [ صفحه 371] غول الادقاع الي ذل السؤال و طلب النوال... أو ليست وصايا الصادق (ع)

دعوة الي صنع أقفاص الاتهام، و انشاء محاكم العدل لتقيم الحد علي من يأكلون التراث أكلا لما و يحبون المال حبا جما، و يخضمون مال الله خضم الابل نبتة الربيع، و يقيمون المقاصير الناضجة تخمة لهم و لأبنائهم التابعين من أموال اليتامي و الأيامي و العجز القاصرين التي تجبي اليهم باسم هؤلاء و تحت عنوان أنهم أمناء عليها... وظيفتهم ايصالها الي المستحقين... و المستحقون الجائعون الحفاة العراة... يطوفون بأسوار قصور الجفاة القساة... يريقون ماء وجوههم علي تلك الأعتاب التي أكلت لحمهم و دبت في العظام علها تتقيأ باتجاههم بعض تخمتها... الرشيد... المنصور... المعتصم... المتوكل... الخ... عندنا بدمهم و لحمهم و مواكبهم الطاووسية... أمراء المؤمنين هم... شأنهم غير شأننا يسموننا عواما، و اذا سألهم المتطفلون بكوا بدموع بلا ملح، لأنهم مضطرون للطاووسية مكرهون علي الكبر يرغمون علي الأبهة و الجلال. سبحان ربك كلمة هي و الخطوب علي انسجام الجواهري

سياسة العقل

لماذا سمي العقل عقلا؟ يقول ابن الأنباري كما جاء في لسان العرب: «رجل عاقل و هو الجامع لأمره و رأيه... مأخوذ من عقلت البعير اذا جمعت قوائمه» و قيل العاقل الذي يحبس نفسه و يردها عن هواها، أخذ من قولهم قد اعتقل لسانه اذا حبس و منع من الكلام. و العقل أيضا التثبت من الأمور و سمي عقلا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك... و العقل ضد الحمق... و قيل العقل هو التمييز الذي يميز الانسان عن الحيوان. يستفاد مما قدمته اللغة أن العقل كابح يتولي بنفسه صنع الفعل و وضع المعادلات منكبا عن النتائج لا لأنه يجهلها بل لأنه يريد أن يتعامل معها علي أساس خطة وضعها سلفا و أدرك

في ضوئها طبيعة المواجهة، و اذا أخطأ التقدير لا يسقط أو يتهالك، بل يتماسك و يعيد الكرة، و ان هو سقط لا يعود عقلا، فقد فقد الزمام... و فقدان الزمام احباط، و الاحباط انقياد و الانقياد جنون العقل أي اختفاؤه... فصاحبه مجنون و ان كان شاعرا أو فيلسوفا أو عالما فتحت علي أيديهم كل المغاليق، أو محاربا أتقن لعبة الموت لأنهم استسلموا ففتحت أبواب عقد لهم فاعتقلها الغازي فتحركت كما يشاء... و متي يشاء... و أني يشاء... ماذا نسمي الذين لا يأمرون بالمعروف و لا ينهون عن المنكر، ولو بالحد الأدني، و هم قادرون، و الذين يرون الحق رؤيتهم الشمس، ثم ينقلبون علي أبصارهم و بصائرهم، فيأمرون بالمنكر و ينهون عن المعروف؟ هؤلاء... كل هؤلاء... عقلاء...؟ مجانين...؟ أم لا عقلاء و لا مجانين...؟ نهرب من الاستطراد [ صفحه 372] متسائلين: هل للعقل أنماط؟... يخرج الطفل من ضيق الحيز الي رحاب بلا حدود، عاقلا مستطلعا يتقري كل ما يقع في متناوله الي أن يدب ثم يستقل... حتي ولو عمر ما عمر نوح... الرعاية التي يتلقاها علي اختلاف وظائفها محكومة... تتحكم فيها تجارب الأولياء مسافة زمنية محدودة، أي مادام مكفولا، فمتي اشتد، استقل استقلالا محدودا أي خرج من قفص الي قفص أكبر بجانحين عليهما بصمات أصابع الكفيل و عمر البصمات هذه يطول أو يقصر حسب فاعلية الكفيل و مصداقية مشاريعه للحياة و أسلوبه في تحقيق تلك المشاريع... و النادرون الذين يتخذون لأنفسم محاور مستقلة أي موضوعية، مشتقة من صدق أصالة التعامل مع الحياة. فالامام الصادق (ع) يري أن الحكمة الالهية تقضي بأن يولد المولود غيبا يقول (ع): «ولو كان

المولود يولد فهما عاقلا لأنكر العالم عند ولادته» قوله (ع) عاقلا لا يعني أنه يولد مجنونا. «و لبقي حيرانا تائه العقل اذا رأي ما لم يعرف و ورد عليه ما لم ير مثله من صور العالم و البهائم الي غير ذلك مما يشاهده ساعة بعد ساعة و يوما بعد يوم. ثم لو ولد عاقلا كان يجد غضاضة اذا رأي نفسه محمولا... مرتضعا... مسجي في المهد... لا يستغني عن هذا كله... ثم كان لا يوجد له من الحلاوة و الوقع في القلوب ما يوجد للطفل لادراكه عدم مناسبتها، فلا يفعلها، و اذ لم يفعلها لم تكن منه تلك اللطافة، و لم تحصل منه تلك اللذة للأبوين، فلا يقبلان علي تربيته كما ينبغي، و بذلك لم يحصل الغرض المطلوب، فكان من الحكمة أن يولد الطفل غير عاقل و لا فهم... فيلقي الأشياء بذهن ضعيف و معرفة ناقصة ثم لا يزال يتزايد في المعرفة قليلا قليلا حتي يألف الأشياء و يتمرن و يستمر عليها، فيخرج من حد التأمل بها و الحيرة فيها الي التصرف»... الي هنا... نفهم مما تقدم أن المولود عندما دخل الدنيا، دخلها بعقل، لم يتعقل مرئياته و محسوساته... فأجاته لأنها جديدة عليه... نري الطفل في سنتيه الأوليين يمسك بكل ما تقع عليه يده رغبة بالاستطلاع، لا يمنعه من مد يده الا أذي يلحق به، فاذا ذهب موسم الأزدي أو نسيه أعاد الكرة... يظل كذلك حتي تتجذر التربية و تنتج لذلك نقول عنه أنه لا يعقل الأشياء أي لا يرتبط معها بسبب... فمد يده اليها يحمل معني التساؤل وحب لمعرفة... ألا نراه يتعامل مع أشياء المنزل علي هذا الأساس... اذن هو عاقل بمقدار... غير متعقل،

فهو كما قال (ع): «ثم لا يزال يتزايد في المعرفة قليلا... قليلا، و شيئا بعد شي ء و حالا بعد حال، حتي يألف الأشياء». أليست هذه حال الكبار الذين تحصل لهم اكتشافات علمية هائلة من جراء فضولهم الدافع الي سبر غور ما لا يعرفون و الاطلاع علي حقيقة شأنها بدقة و تفصيل بالعين؟ و لولا الفضول هذا لما استطاع الانسان أن يخترق أجواء الفضاء و يصل الي ما وصل اليه. فهذا العقل، الذي سماه الامام علي (ع) العقل المطبوع، يتعود... يتسع... يغني بالتعاون مع ما [ صفحه 373] أعطاه فضوله من كشوفات أكسبته قدرات متدرجة سماها الامام علي (ع) العقل المسموع. رأيت العقل عقلين فمطبوع و مسموع و هذا التنامي لذين العقلين لا يقف عند حد، ماداما عاملين بالتعامل و التبادل الوظيفي يقع في مراحل أربعة متدرجة من أدني الي أعلي كما يسميها العلامة القزويني... و هي أولا مرحلة العقل الهيولاني... و هي بمثابة وسيلة الايضاح المستعملة في التعليم، و بها اختلف مولود الانسان عن باقي المواليد الأخري... و بتتابع التجارب، و توالي الاطلاعات يحصل التطور الآلي تقريبا... فيكون التمييز البدائي ان صح التعبير الحاصل بالتجارب، انها المرحلة أو الخطوة الثانية باتجاه النضج المسماة العقل بالملكة... أما المرحلة أو الخطوة الثالثة، فهي مرحلة امتحان لفاعلية المحصول و المحصل، فاما أن يكون عاقلا مؤهلا للخطوة الرابعة، فيكون عاقلا بمعني ما... و يسمي هذا عقلا بالعادة أولا، فيكون وسطا بين الانسان و غير الانسان... بعد العقل بالعادة يأتي كمال العقل، طبعا الكمال النسبي أي المزاولة علي أسس حمل لواءها و نما في ظلها و تكسب عليها، اذ بدأ

يفصل ما يقع في متناوله حسب ما يراه الأكمل و الأنسب... ثم يتصرف بالمحاصيل علي اختلاف تسمياتها و تشعبها و أبعادها التي أدركها ضمن برنامج وضعه خصيصا لها، و لا يرضي بديلا عنه، فهو في نظره الأصلح، يدافع عن هذا بمختلف الوسائل المتاحة، فيقع الصراع بين العقول المختلفة و تتوالد الكوارث، لأن كثيرا من العقول لم تلجمها العبر فعصت و أعرضت، ثم عصت فخسرت. يقول الصادق (ع): «فيخرج من التأمل بها الي التصرف و الاضطرار الي المعاش بعقله و حيلته و الي الاعتبار و الطاعة و الغفلة و المعصية». يؤكد الامام الصادق (ع) فيما نقرأ بين الكلمات حقيقة ملزمة، و يصر عليها و هي أن الأطفال منذ تصويرهم في الأرحام الي أن يستقلو و يسعوا في الأرض هم ودائع الخالق عزوجل عند الأبوين... مطالبون غدا يوم ينصب الميزان مسؤولون أمام العدل المبين عن برامج التربية و التعليم التي طبقت علي هؤلاء الودائع و طبائعها و افضاءاتها و أدوارها... و نتائجها محسوبة بدقة، و لا مفر للأبوين و لا عذر ان لم يكن النتاج مرضيا عند الله... مطابقا للأصول المرعية حتي تكون الروابط الاجتماعية موثقة موحدة توحيدا تعاونيا فاعلا و منفعلا بحيث اذا شكي عضو شكت معه باقي الأعضاء. علي هذا الأساس يقوم بناء المدرسة النموذجية و تترسخ قواعد العلم الصالح... المطمئن علي سلامة المصير، لأنه قام علي أساس من تقوي الله و رضوانه... لارتباطه بالقدرة الالهية ارتباطا منفعلا لا حيد فيه.. و دورانه في فلكها دورانا محكوما بارادتها لا يؤذيه تمرد أو محاولة استقلال... بذا لا يكون العلم مخيفا بصوره و نتائجه حتي ولو كانت حالية حانية... العالم... كل العالم بكل من فيه

قلق خائف مرتعد مما تحمله بطن قنبلة أو يأتي به صاروخ علي جناح السرعة... الخوف هذا آت من اعتقال العقل و الانحراف بغائية العلم.. و لا فائدة مطلقا من كل الاتفاقات المعقودة و المعاهدات بين مالكيها ما لم تكن مفاتيح [ صفحه 374] ترساناتها بأيد تعتصم بحبل الله لا تكبلها أشراك الأنا و الدوران في فراغ الحلقة المفرغة سيظل قائما الي ما شاء الله، فالعلم بداهة اما أن يكون أو لا يكون، فلو أصاب العلم الضار متعمد الضرر فقط، لهانت المصيبة و لتواري الشر، ولكنه لا يبقي و لا يذر... و الامام الصادق (ع) نبه الي هذه الحقيقة مرشدا أصحاب العقول دالا اياهم علي النهج السوي و الصراط المستقيم في أصول التربية و التعليم، محذرا أصحاب العقول من مغبة السهو و الخروج من اليقظة الي الغفلة فالنوم الذي لا يوقظه الا الموت «الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا» فالعقول التي لم تنتفع بما قدم اليها الله عبر رسوله، و لم تجلس الي مائدته تأخذ منها ما ينفع الناس و يمكث في الأرض و يحيي فيها ما يضمن استمرار وجودها المزدهر في أجواء الدعة و الاطمئنان و الحنو... هذه العقول يممت مائدة الشيطان فاستطابت ألوانها... و افتتنت بها فاستوعبتها الملذات، و غرقت في بحر نعيم زائل و ملذات عابرة منها لذة الكشوفات العلمية الهائلة التي لا تلبث أن تطفئها رياح القلق علي المصير، فأدركت أنها ذائبة في بوتقته محترقة في جحيمه، ولكنها لا تستطيع الافلات من شباكه أو تغيير اتجاهه حتي تتحكم باتجاهه صارت محكومة له. صار عقلها مكبلا، فلا افلات و لا حتي تململ، بل رضي مشبع بالخضوع و التسليم

و الخشوع. هذا المصير الداكن محصول العقول الخارجة عن مدارها... المتخذة لنفسها مدارا ذاتيا و النتائج هذه متوقعة. فما لم تلغ بوصلة العلم، فنحن و الحمد لله الذي لا يحمد علي مكروه سواه، هالكون به و به منتحرون أيضا... هذه حقيقة مرئية، بيد أن الرائين نيام و ما يراه النائم لا يراه اليقظ... فالعقل الذي سماه الامام علي (ع) مكتسبا اذا ترافد مع العقل المطبوع و تلاقحا تلاقحا شرعيا تبعا لقانون المدبر الحكيم توحدا، و متي توحدا استقلا عن أي مؤثرات خارجية. هذا ليس مستحيلا و لا حتي صعبا... بل متيسر حال العمل الجاد باتجاهه، لأن ظروف حصوله قائمة و كائنة، و لقد أتاح الله تعالي كل الفرص، و فتح كل الأبواب باتجاهها. دعا اليها ملحا عبر أنبيائه و ما أنزل عليهم... لذلك نسأل ملحيين: اذا كان العقل هو التمييز بين الانسان و الحيوان، و اذا كان العقل ضد الحمق، و اذا كان العاقل من يحبس نفسه عن هواها، فمع من يكون مستكبر و العالم و ما وجه تسميتهم بالعقلاء؟ و نحن، المستضعفين، لماذا نقتفي آثارهم، و نترسم خطواتهم، و نتيه فخرا و اعزازا بتقليدهم، و الا فلسنا حضاريين...؟ و أدنا كل أرصدتنا، و عدونا نلهث خلفه، نتهالك علي كل ما يلقيه الينا من فتات، لا تسمن و لا تغني من جوع، ثم نغني معزوفة و هم الحضارة و المدنية و الرقي مبهورين... محبطين... قابضين علي الماء... مستوردين مستهلكين... نستهلك البضائع المقدمة الينا، عليها ختم الشركة صاحبة الامتياز... نلتهمها [ صفحه 375] بالعيون و بكل الحواس، طعمها لذيذ، و نتائجها مدروسة معقمة... تعقيما يناسب كل

الأعمار و الأذواق و العقول... هكذا تقول الشركة، و هكذا يجب أن نقول نحن. ألسنا أبواق شركات الحضارة؟ يقول الامام الصادق (ع): «من كان له عقل كان له دين، و من كان له دين دخل الجنة». و كلمة دين كما ورد في اللغة تعني الحساب. يوم الدين يوم الحساب و الملك و السلطان، و من متفرعاتها دان له، كقوله: (دانت له الرقاب) أي خضعت، و الخضوع يقتضي الالتزام بكل ما يفرضه المخضوع له، و علي هذا يمكن الخروج عن اللفظ فنقول: الدين يعني النظام، و النظام هو مجموعة قوانين تيسر السبيل لبلوغ الأحسن، كما هو المفروض، قال الامام علي (ع): «أريد من قريش كلمة تدين لهم بها العرب» أي تطيعهم و تخضع لهم. كيف نختار النظام؟ مبدأ (انا وجدنا آباءنا علي أمة و انا علي آثارهم مقتدون) مرفوض لأنه مبني علي عاطفة العصبية التي تشل التفكير و تجعل العقل في اجازة، من هنا، جاء الرد الالهي الحاسم، المعبر عن الفطرة الانسانية، (أولو كان آباءهم لا يعقلون شيئا و لا يهتدون). هل نسن لأنفسنا نظاما بحكم تجربتنا الطويلة في الحياة، و نلتزم به و ندين له، و ان فعلنا، كيف نتجنب الوقوع في فخ التناقض؟ كما حدث و يحدث بسبب استحالة قراءة الآتي: أعيي الفلاسفة الأحرار جهلهم ماذا يخبي لهم في دفتيه غد (الجواهري) هذا التساؤل يقودنا الي وجود التفتيش عن المشرع و صفاته و طاقاته حتي نلتزم أو لا نلتزم بنظامه... نسوق علي سبيل المثال بعض ما يجب أن يكون في المشرع حكيم... عادل... قادر... مسيطر... الخ.. هذه صفات مطلقة و ليست نسبية، فواحدة من هذه ليست لأي انسان

أبدا، انها للخالق الذي صفاته عين ذاته، و عليه يكون وحده القادر علي وضع نظام شامل يكفل سعادة البشرية و يراعي تطورها... تحركا و تفاعلا داخلين ضمن المشيئة و القدرة الالهية. يقول تعالي (ان الحكم الا لله أمرا ألا تعبدوا الا اياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (يوسف) (و ما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون). و هذا ليس ضربا من الاسترقاق المهين لانسانية الانسان لبلوغ مأرب أو تحقيق منفعة، أو الوصول الي هدف أناني (هذه طبيعة المحتاج). في هذه الحال يكون الانسان أداة في يد محتاج، متي استهلكت أعدمت أو أهملت... و هذا متفق تماما مع منطق العبودية الأرضية الخاضع لمبدأ الأنانية. أما المعبودية لله فمغاير لها تماما، لتغاير أسسها و منطلقاتها فهي مبنية علي الحب المتفاعل مع المشاعر و الوجدان المرتبط بالمحبوب ارتباطا انصهاريا، و عندما يفني المحب بمحبوبه و يراه في منتهي الكمال يندفع نحو العمل الذي [ صفحه 376] يقربه منه اندفاعا هائلا و هو يشعر أنه بلغ أرقي ملذات السعادة و الهناء و الاستقرار النفسي، و لو أدي به اندفاعها الي الموت. و التاريخ الاسلامي حافل بالشواهد.. و متي فني المحب بمحبوبه تم اتحاد المشيئتين في مسار مبني علي الاخلاص و الطاعة في كل حركة و سكنة تصدر عن هذا المخلوق سواء في ذلك: العمل الخارجي كالصلاة و التجارة و السياسة و القضاء... الخ... أو ما ليس له آثار خارجية كالتفكير و النية و المشاعر... الخ... و متي كانت هذه كلها مرتبطة بالله صحت تسميتها دينا صحيحا أو عبادة خالصة أو ما شئت فقل، و لمثل هذا تشرع الجنة أبوابها.

أما من اتخذ الهه هواه فسائر في الطريق المعاكس خاضع لتقلبات رياح المصلحة الأنانية الفاسدة المفسدة... فهو محبط لأنه بوق.

سياسة الروح

قال تعالي: (فاذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) سواه، جعله سويا قادرا لاستقبال الوديعة الجوهرة التي خص الله تعالي بها الانسان دون غيره من المخلوقات، و بها كرمه و سوده مسخرا له ما في السماوات و الأرض، واعدا اياه جنة عرضها السماوات و الأرض ان هو تصرف بما خوله طبقا للبرنامج المأمور بتطبيقه و الا فليس من المتقين و التقوي من الوقاية (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا) فالأمر بالتوقي لا يتجه الي النفس فحسب «عليك نفسك هذبها» بل يتعدي الي كل ما و من لك عليه ولاية... و هو من قبيل الأمر بتطبيق برنامج مدرسي متكامل رعته السياسة التربوية المخولة التدخل في شتي شؤون الفرد و الجماعة و بوبته و قسمته متدرجة به بدء من اختيار الزوج أو الزوجة الي مراعاة ظروف الحمل فالولادة حتي الاستقلال يؤكد هذا كتاب الله العزيز... قال تعالي: (و علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم علي الملائكة...) (البقرة 33 - 30) (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا اله الا هو العزيز الحليم) (آل عمران 6). (و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الا ابليس لم يكن من الساجدين) (الأعراف 110). (هو الذي خلقكم من نفس واحدة و جعل منها زوجها ليسكن اليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين) (الأعراف 189). (خلق الانسان من نطفة فاذا هو خصيم مبين)

(النحل 4). (و الله جعل لكم من أنفسكم أزواجا و جعل لكم من أزواجكم بنين و حفدة و رزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون و بنعمة الله يكفرون) (النحل 72). (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة لعلكم تشكرون) (النحل 78). [ صفحه 377] (يا أيها الناس ان كنتم في ريب من البعث فانا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة و غير مخلقة لنبين لكم و نقر في الأرحام ما نشاء الي أجل مسمي ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم و منكم من يتوفي و منكم من يرد الي أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا، و تري الأرض هامدة فاذا أنزلنا عليهما الماء اهتزت و ربت و أنبتت من كل زوج بهيج) (الحج 5) (و هو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا و صهرا و كان ربك قديرا) (الفرقان 54). هذا غيض من فيض كتاب الله و فيوضاته الواضحة الدلالة علي ما كان من شأنه تعالي وحده و لا شأن فيه للمخلوق الذي لا يملك الجعل حتي ولو استقل، بل لا يملك شيئا مطلقا. و لأنه ادعي الملكية و الاستقلال المنفصل و عمل بمقتضياتهما بدأ يبحث عن حتفه و يحز وريده بكسين حضارته. لم يكن هذا ليحصل، لو أن الانسان وقف عند حده ملتزما البرامج الالهية الكفيلة بسعادته في الدارين، و اذا كانت العينات دالة علي نوع المعدن فحسبي هذه العينات من كتاب الله و بعض مواقف أشرف المرسلين محمد (صلي الله عليه و آله و

سلم) تقول أم الفضل، مرضعة السبط الشهيد (ع): «أخذ مني رسول الله (ص) حسينا (ع) أيام رضاعه، فحمله فأراق ماء علي ثوبه، فأخذته بعنف حتي بكي، فقال (ص): مهلا يا أم الفضل ان هذه لاراقة الماء يطهرها، فأي شي ء يزيل هذا الغبار عن قلب الحسين» (الطفل بين الوراثة و التربية ص 58). [وقروا كباركم، و ارحموا صغاركم، ليس منا من لم يرحم صغيرنا و يوقر كبيرنا]. [الصبي، الصبي، الصبي، الصبية، الصبية، الصبية، فرقوا بين أولادكم في المضاجع اذا بلغو سبع سنين، و قيل ست سنين] (المصدر السابق 273). [اياكم و تزوج الحمقاء، فان صحبتها بلاء، و ولدها ضياع] (الطفولة و المراهقة - عالم الفكر). [أنظروا من يرضع أولادكم، فان الولد يشب عليه]. [توقوا علي أولادكم من لبن البغي من النساء و المجنونة، فان اللبن يعدي] علي محمد حسين الأديب. يدخل الامام الصادق (ع) بقوة ذاتية لها محور مستقل، و لكن استقلاليته هذه ليست منفصلة عن القطب، أعني الاسلام بل اتخذت لها مدارا في فلكه بحيث يشكل هو مع من خصهم الله و خصصهم مجموعة شمسية أرضية تغني و تعتني... تشارك في بناء الانسان بناء يؤهله لأن يكون خليفة الله في الأرض (و اذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة) فلا يتقبل الا القويم و لا يستسيغ سوي الصواب، و بهذا يملك قوة التحدي... و ما تدخل الاسلام في خصوصيات الانسان كبيرها و صغيرها، حتي أكثرها [ صفحه 378] دقة و حساسية و شفافية الا دليل علي عظيم العناية الالهية بهذا المستخلف... يقول الامام أبوعبدالله الصادق (ع) لداوود الكريم حينما أراد أن يتزوج

«انظر أين تضع نفسك» و يقول أيضا «ان عيال الرجل أسراؤه فمن أنعم الله عليه فليوسع علي أسرائه فان لم يفعل يوشك أن تزول تلك النعمة عنه». هذا التدخل المحسوب بدقة متقنة مشتق من طبيعة الفلك الذي يدور فيه، فهو يلغي في الانسان دور البهيمية و لا يلغي عنده لذة الاستمتاع المادي بل يحوله شريكا للروح و يتبادلان اللذة و يشتركان في الاستمتاع، و كل منهما يرفد الآخر... و تبادل الرفد لا يلغي الحدود، تبقي المادة مادة و تظل الروح روحا و نماؤها المادة... و كلما كان الوعاء نظيفا معقما كان الغذاء نافعا.. و الروح يميتها خبث غذاء الجسد، و يحييها طيبة و ينعشها. و ميت الروح لا يعني أنه ميت الجسد. فالتي تتقبل الخبائث و تتغذي بها تتخلي عن دورها، و تتخذ لها مدارا بهيميا تحول المجتمع الي غابة محكومة بقوي علمية متطورة و مدروسة أساليبها... و فرق بين أساليب وحوش بني البشر و وحوش الغابات.. من هنا كان التأكيد علي العناية بالطفل: قبل أن يكون و بعد أن يكون... بدء باختيار الأم و المرضع مرورا بطبيعة الغذاء عند الأبوين... حتي الاستقلال... و متي كان التدرج مطابقا للقاعدة منسجما مع الاشارات الصحية فيما يتعلق بالوجبات الغذائية ذات الاتجاهات الروحية و المادية توطدت الأواصر و تمكنت اللحمة بين الروح و الجسد تحت مظلة تبادل العون غير القائم علي رجاء الطمع بل علي التنافس في سد الخلل و رأب الصدع أينما وجد في أي منهما... يكون هذا حاصلا حين التزامنا تجاها لبوصلة التي لا تخطي ء... و الا... انقلب ظهر المجن و تحكمت مملكة الغيلان.. الله تعالي تحبب الينا بالنعم، فبماذا قابلناه؟ و

أية نعمة أجل و أعظم من أن ينفخ فينا من روحه و يكرمنا بجليل العطاء هذا و يفضلنا علي سائر خلقه... و النفخ هو غير شعلة الحياة كما لا يخفي... فشعلة الحياة متوقدة في كل حي علي الاطلاق كما لا يخفي... و بالنفخ هذا تمت للانسان كرامة التفضيل و أمر الملائكة بالسجود له.. و الانسان وحده لا يجوز له أن يسجد لغير الله... تكريم آخر مشتق من تكريم النفخ فيه... فالحث علي ايلاء هذه العظمة فائق العناية هو تكريم أيضا، ولكنه يحتاج الي مدرسة. من هنا تتالت الارساليات الالهية مزودة ببرامج كاملة واضحة مجردة من أي خلفيات غايتها الانسان و وسيلتها الانسان أيضا... برامجها التغذوية ذات اتجاهين: روحي و مادي، نبراسهما العلم الوسيلة الدالة علي مصدر الفيوضات، و كل منهما متأثر بالآخر، فما لم يكن الغذاء المادي طيبا (حلالا) انعكس سلبا علي الروح، لذا وجب اتباع الارشادات الصحية الالهية... و ان كانت الروح لا تتغذي به مباشرة ولكنها تتأثر فيه، و الأمثلة علي ذلك أكثر من أن تحصي، فوجبات الغذاء الروحي آتية من: الصلاة - الزكاة - الصوم - الحج - الجهاد - الحب - المواساة - التأمل... الخ. [ صفحه 379] الصلاة سماها بالحديث معراج المؤمن، و هذه التسمية مع ايحاءاتها الشاعرية، و سموا اطلالاتها تحمل طابع الواقع العلمي المتحرك بميزان، لأن العروج يعني الانتقال من أدني الي أعلي، لذلك سمي الاسراء عروجا أي انتقالا من العالم السفلي الي العالم العلوي... عالم لا يباشروه التعاطي المشوب بالدنس.. هذ السفر القاصد بهذه الوسيلة المضمونة له دلالات تربوية مرتبطة بالتربية البدنية و العقلية و النفسية كل الارتباط، و علاقاتها بالعلم

و أساليب تعلمه علاقات رسم من حيث أنها الحبل الذي يصل الأرض و أنماط التعاطي فيها بالسماء.. و العلم مهما تكن طبيعته و دوره و عطاياه و منشآته تبق سيفا مسلطا وسما زعافا ما لم تتدخل روحانية الصلاة في حركة بنائه.. و لأن الصلاة عمود الدين، و الدين قانون شامل... كامل... ضامن... مضمون يحمل مشروع حل مشكلة الانسان و معاناته علي الأرض، فلن تكتب الحياة لهذا المشروع ما لم تكن روحه الصلاة، فكيف تكون حال أطروحات الانسان للانسان التي تفوح منها روائح الأنانية لأنها صنيعة من اتخذ الهه هواه.. سأل رزام مولي خالد بن عبدالله الامام الصادق (ع): «أخبرني عن الصلاة و حدودها» فقال له الصادق (ع): للصلاة أربعة آلاف حد لست تؤاخذ بها فقال: أخبرني بها لا يحل تركه و لا تتم الصلاة الا به فقال أبوعبدالله (ع): لا تتم الصلاة الا لذي طهر سابغ و تمام بالغ غير نازع و لا زائغ عرف فوقف و أخبت فثبت فهو واقف بين اليأس و الطمع و الصبر و الجزع كأن الوعد له صنع و الوعيد به وقع بذل عرضه و تمثل عرضه و بذل في الله المهجة مرتغم بارتغام يقطع علائق الاهتمام بعين من له قصد و اليه وفد و منه استرفد، فاذا أتي بذلك كانت هي الصلاة التي تنهي عن الفحشاء و المنكر» (البحار ج 27 ص 186 - 185). عن معاوية بن وهب عن الصادق (ع)، قال: سألت أباعبدالله في كم يؤاخذ الصبي بالصلاة؟ فقال فيما بين سبع سنين و ست سنين (الوسائل كتاب الصلاة ص 12). و عنه (ع) اذا أتي علي الصبي ست سنين وجب عليه الصلاة، و اذا

أطاق الصوم وجب عليه (و - ص 12). و عنه و عن أبيه: انا نأمر صبياننا بالصلاة اذا كانوا بني خمس سنين فمروا صبيانكم بالصلاة اذا كانوا بني سبع سنين. يكون الطفل في هذا العمر ذا طبع و له قابلية. و التدخل في شؤونه تحتمه طبيعة العلائق و الوشائج و التعاطي المستقبلي معه، و لأن نفسه خالية قابلة للزرع فهو مستعد للتلقي، فما لم تكن يد الزارع نظيفة و بذاره صالحا أصيلا و طبيعته مشتقة من تلك الأصالة و قدرته علي نجاح المواسم مضمونة تستشري الأمراض و تتعثر المواسم، فالمعلم الهادف يبني مجتمعفا هادفا يؤهل أفراده للاستخلاف في الأرض، يكون المسجد بالنسبة للطفل فيها مدرسة، و أداء الصلاة فرض، و اختلاف أوقاتها التزام بالمواعيد، و الوقوف [ صفحه 380] الخاشع انصات، و خروج من دائرة المحدود الي دائرة المطلق... و التزام المعلم بهذه الفريضة في أوقاتها، كذلك الأبوان، وسيلة ايضاح قائمة علي نظافة البدن المقدمة الضرورية لنظافة النفس. و تلازم أداء الصلاة علي من في سن الخامسة أو السادسة أو السابعة مع التأهيل المدرسي لتلقي المعلومات يعني أنهم يدخلون الحياة من بابين: باب المسجد و باب المدرسة... هذان جناحا الحياة و بدونهما لا يتم التحليق. في المدرسة تتعلم كيف تفجر الصخر عيونا و جداول و ينابيع.. و في المسجد تتعلم كيف تنسف الخزانات القائمة عبر الجداول و الأنهار لمن أراد أن يستفيد بها وحده... و ادراك هذا المعني بمضامينه يختزن فعل انقلاب علي الذات من أجل الذات باعتبارها خلية يخشي عليها و ينبغي أن تحمي و تصان... من هنا كانت الصلاة ورقة حسن سلوك يقدمها الفرد الي مدرسة

الحياة و علي أساسها يعين صفه و فئته في ضوء غاية المصلي... فكم من أناس يصلون و لا يصلون... تولد صلاتهم ميتة لأنهم لا يختزنون قوة الدفع التي تساعد علي العروج، و حاجة الصلاة الي هذا المخزون حاجة الجسد الي الروح... من هنا مست الحاجة الي تأهيل الأطفال و التدرج بهم و رعاية البذار الروحي في نفوسهم... و متي كان الرعاة أكفاء و الزارعون خلصا غنيت النفوس و اكتسبت صلاتهم صفة الصلاة التي حددها الامام الصادق (ع) لرزام... حتي اذا ولج الأطفال باب الاستقلال صلوا أحرارا من أي قيد مادي... فعندما أفوض أمري الي الله أكون قد تحررت من أي سلطان غيره فأنا ملكه وحده، يتصرف بي و بوجودي تصرفا طلقا.. و هذا خروج و تمرد علي كل القوي المحيطة بي... و من يعتقد أنه مملوك لخالقه و لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا ير أن تصرفه فيما حوله من ثروات انما حصل بتخويل من خالقه، و عليه، فأنا أمارس الحياة وقعا لمشيئته، و ليس لأحد سلطان علي. و هذا أرقي أنواع الحرية، لأنه حررني من الخوف و الهوي و الشهوات التي تقودني الي أن أخضع لمثلي في الخلق. و في رحاب الصلاة الفسيحة، و تحت ظلالها الهانئة المريحة تحتشد كل التوابع و تتجمهر... فالزكاة و الصيام و الحج و الجهاد و الحب و الايثار و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. كل هذه تستضيفها الصلاة و تمد لها البساط. بأنفاسها تتعطر و بغذائها تدوم و تستمر شبابا متألقا و عطاء خيرا لا يكدره من و لا يشوبه أذي... فالشرائط التي حددها الصادق (ع)، و لا تكون الصلاة تامة بدونها، ليست مستحيلة

أو صعبة الا علي مرضي القلب.

سياسة النفس

نحن بين يدي محاور قرآنية أربعة تعاطت مع النفس في أربع مناسبات نستظيف في ظلها بعض موائد عملت في منجمها. [ صفحه 381] المحور الأول: (و نفس و ما سواها - فألهما فجورها و تقواها - قد أفلح من زكاها - و قد خاب من دساها) (الشمس 9 - 8 - 7 - 6). نبدأ بمائدة الطبرسي في كتابه «جوامع الجامع» ج 2 ص 85 «و نفس و الخالق الحكيم «و ما سواها» أي عدل خلقها، و في كلامهم سبحان من سخر كن لنا فألهمها فجورها و تقواها أي عرفها طريق الفجور و التقوي و أن أحدهما قبيح و الآخر حسن و مكنها من اختيار ما شاء منهما بدليل قوله قد أفلح من زكاها، و قد خاب من دساها، فجعله فاعل التزكية و التدسية و متوليهما، و التزكية الانماء و الاعلاء بالتقوي، و التدسية النقيض و الاخفاء بالفجور و أصل دس من دسس كما قيل تقضي من تقضض و نكر قوله و نفس لأنه أراد نفسا خاصة من بين النفوس و هي نفس آدم كأنه قال: و واحدة من النفوس أو لأنه أراد كل نفس فيكون من عكس كلامهم الذي يقصدون به الافراط فيما يعكس عنه كقول الشاعر: «قد أترك القرن مصفرا أنامله» فجاء بلفظ التقليل الذي يفهم منه معني الكثرة، و منه قوله تعالي (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) (الحجر) و معناه معني «كم» أو أبلغ منه، و جواب القسم محذوف و تقديره ليدمدمن الله عليهم أي علي أهل مكة لتكذيبهم برسول الله كما دمدم علي قوم ثمود

لتكذيبهم صالحا، و أما كلامه قد أفلح من زكاها فكلام تابع لقوله فألهمها فجورها و تقواها. علي سبيل الاستطراد و ليس من جواب القسم في شي ء. انتهي. ماذا علي مائدة الفراء»؟ يستخرج «الفراء» من فألهمها فجورها و تقواها عرفها سبيل الخير و سبيل الشر و هو مثل قوله و هديناه النجدين (البلد 10). و قوله عزوجل قد أفلح من زكاها يقول: قد أفلحت نفس زكاها الله و قد خابت نفس دساها، و يقال قد أفلح من زكي نفسه بالطاعة و الصدقة، و قد خاب من دسي نفسه فأخملها بترك الصدقة و الطاعة. و نري و الله أعلم، أن دساها من دسست بدلت بعض سيناتها ياء كما قالوا تظنيت من الظن و تقضيت يريدون تقضضت من تقضض البازي. و خرجت أتلعي ألتمس اللعاع (بنت ناعم في أول ما يبدو) أرعاه، و العرب تبدل في المشدد الحرف منه بالياء و الواو... الخ معاني القرآن ج 3 ص 267 - 266. هذا بعض ما قدمه الفراء. فماذا في «الميزان»؟ يقول: تذكر السورة أن فلاح الانسان و هو يعرف التقوي و الفجور بتعريف الهي و الهام باطني أن يزكي نفسه و ينميها انماء صالحا بتحليتها بالتقوي و تطهيرها من الفجور و الخيبة و الحرمان من السعادة لمن يدسيها. و يستشهد لذلك بما جري علي ثمود من عذاب الاستئصال لما كذبوا برسولهم صالحا و عقروا الناقة، و في ذلك تعريض لأهل مكة، و السورة مكية بشهادة من سياقها و نفس و ما سواها أي أقسم بنفس و الشي ء ذي القدرة و العلم و الحكمة الذي سواها و رتب خلقتها و نظم أعضاءها و عدل بين قواها.

و تنكير «نفس» قيل للتنكير، و قيل للتفخيم، و لا يبعد أن يكون التنكير للاشارة الي أن لها وصفا و أن لها نبأ. و المراد بالنفس النفس الانسانية مطلقا، و قيل المراد بها نفس آدم (ع)، و لا يلائمه السباق و خاصة [ صفحه 382] قوله قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها. الا بالاستخدام علي أنه موجب للتخصيص. قوله تعالي فألهمها فجورها و تقواها الفجور علي ما ذكره الراغب شق ستر الديانة فالنهي الالهي عن فعل أو عن ترك حجاب مضروب دونه حائل بين الانسان و بينه و اقتراف المنهي عنه شق للستر و خرق للحجاب. و التقوي - علي ما ذكره الراغب - جعل النفس في وقاية مما يخاف، و المراد بها بقرينة المقابلة في الآية بينها و بين الفجور، و التجنب عن الفجور المنافي و قد فسرت الرواية بأنها الورع عن محارم الله. و الالهام: الالقاء في الروع، و هو من افاضته تعالي الصور العلمية من تصور أو تصديق علي النفس، و تعليق الالهام علي عنواني فجور النفس و تقواها للدلالة علي أن المراد تعريفه تعالي للانسان صفة فعله من تقوي أؤ فجور، وراء تعريفه متن الفعل لعنوانه الأولي المشترك بين التقوي و الفجور كأكل المال، مثلا، المشترك بين أكل مال اليتيم الذي هو فجور و بين أكل مال نفسه الذي هو من التقوي، و المباشرة المشتركة بين الزنا الذي هو فجور و النكاح و هو من التقوي و بالجملة، المراد أنه تعالي عرف الانسان كون ما يأتي به من فعل فجورا أو تقوي، و ميز له ما هو تقوي مما هو فجور.

و تفريع الالهام علي التسوية في قوله و ما سواها فالهمها الخ... للاشارة الي أن الهام الفجور و التقوي، و هو العقل العملي من قبيل تسوية النفس فهو من نعوت خلقتها كما قال تعالي (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) (الروم 30). و اضافة الفجور و التقوي الي ضمير النفس للاشارة الي أن المراد بالفجور و التقوي الملهمين، الفجور و التقوي المختصين بهذه النفس المذكورة، و هي النفس الانسانية، و نفوس الجن علي ما يظهر من الكتاب العزيز كونهم مكلفين بالايمان و العمل الصالح. قوله تعالي قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها الفلاح هو الظفر بالمطلوب و ادراك البغية و الخيبة خلافه، و الزكاة نمو النيات نموا صالحا ذا بركة و التزكية انماؤه كذلك. و التدسي هو من الدس بقلب احدي السينين ياء: ادخال الشي ء في الشي ء بضرب من الاخفاء، و المراد بها بقرينة مقابلة التزكية: الانماء علي غير ما يقتضيه طبعها، و ركبت عليه نفسها. و الآية - أعني قوله -: قد أفلح جواب القسم، و قوله قد خاب الخ... معطوف عليه و التعبير بالتزكية و التدسي من اصلاح النفس و افسادها مبتن علي ما يدل عليه قوله فألهمها فجورها و تقواها علي أن من كمال النفس الانسانية أنها ملهمة مميزة بحسب فطرتها الفجور من التقوي أي أن الدين هو الاسلام لله فيما يريده فطري للنفس. فتحلية النفس بالتقوي تزكية و انماء صالح و تزويد لها بما يمدها في بقائها. قال تعالي: (و تزودوا فان خير الزاد التقوي و اتقون يا أولي الألباب) (البقرة 197) و أمرها

في الفجور علي خلاف التقوي. انتهي. الميزان ج 20 ص 298 - 297 - 296. المحور الثاني: كائن في سورة يوسف آية 53 (و ما أبري ء نفسي ان النفس لأمارة بالسوء الا ما رحم ربي أن ربي غفور رحيم).

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.