الصحيحان في الميزان

اشارة

عنوان و نام پديدآور : الصحيحان في الميزان/ تاليف: علي الحسيني الميلاني

مشخصات نشر : قم: الحقائق، 1427ق.=1385ش.

مشخصات ظاهري : 154ص.

فروست : اعرف الحق تعرف اهله؛ (7)

وضعيت فهرست نويسي : در انتظار فهرستنويسي (اطلاعات ثبت)

شماره كتابشناسي ملي : 1197303

المقدمة … ص: 7

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام علي خير خلقه وأشرف بريّته محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

وبعد، فهذه رسالة وضعتها حول كتابي البخاري ومسلم المعروفين بالصحيحن، للتحقيق عن حال طائفةٍ من الأحاديث المخرجة فيهما، حتي يتبيَّن أنْ ليس كلّ ما أخرجاه صحيحاً فضلًا عن القول بعدم صحّة ما لم يخرجاه، وهي مجموعة من بحوثي عن هذا الموضوع في بعض مؤلَّفاتي المنتشرة، وسيري القارئ الكريم أني لم أعتمد إلّاعلي أقوال كبار الأئمّة والحفاظ المشاهير من أهل السنّة.

واللَّه أسأل أن ينفع به أهل الفضل والتحقيق، واللَّه ولي التوفيق.

علي الحسيني الميلاني

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 11

صحيح البخاري … ص: 11

اشارة

أما صحيح البخاري، فانّ أول شي ء نذكره حوله، هو أن أبا زرعة وأبا حاتم الرّازيين قد تركا البخاري ومنعا من الرواية عنه والأخذ منه.

ترك أبي زرعة وأبي حاتم البخاري … ص: 11

ففي (طبقات السبكي) عن تقي الدين ابن دقيق العيد أنّه قال:

أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف علي شفيرها طائفتان من الناس: المحدّثون والحكّام» فقال السبكي:

«قلت: ومن أمثلته قول بعضهم في البخاري: تركه أبو زرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ. فياللَّه وللمسلمين! أيجوز لأحدٍ أن يقول: البخاري متروك؟ وهو حامل لواء الصناعة ومقدَّم أهل السنّة والجماعة» «1».

وأورد الذهبي البخاري في كتاب (الضعفاء والمتروكين)، فقال المناوي متضجّراً من ذلك:

«زين الامّة: افتخار الأئمّة، صاحب أصحّ الكتب بعد القرآن،

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية 2: 230، سيرة أعلام النبلاء 12: 462.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 12

ساحب ذيل الفضل علي ممرّ الزمان، الذي قال فيه إمام الأئمة ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث منه، وقال بعضهم: انّه آية من آيات اللَّه يمشي علي وجه الأرض.

قال الذهبي: كان من أفراد العالم مع الدين والورع والمتانة.

هذا كلامه في الكاشف. ومع ذلك غلب عليه الغض من أهل السنّة، فقال في كتاب الضعفاء والمتروكين: ما سلم من الكلام، لأجل مسألة اللّفظ، تركه لأجلها الرازيّان.

هذه عبارته، وأستغفر اللَّه تعالي، نسأل اللَّه تعالي السلامة، ونعوذ به من الخذلان» «1».

وقال في (ميزان الإعتدال) بترجمة علي بن المديني:

«علي بن عبد اللَّه بن جعفر بن الحسن، الحافظ، أحد الأعلام الأثبات وحافظ العصر. ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء فبئس ما صنع فقال: جنح الي ابن أبي دواد والجهميّة، وحديثه مستقيم ان شاء اللَّه، قال لي عبد اللَّه بن أحمد: كان أبي حدّثنا عنه، ثمّ أمسك عن اسمه وكان يقول حدّثنا رجل، ثمّ ترك

حديثه بعد ذلك.

قلت: بل حديثه عنه في مسنده.

وقد تركه إبراهيم الحربي، وذلك لميله الي أحمد بن أبي دؤاد،

__________________________________________________

(1) فيض القدير- شرح الجامع الصغير 1: 24.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 13

وقد كان محسناً اليه.

وكذا امتنع من الرواية عنه في صحيحه لهذا المعني، كما امتنع أبو زرعة وأبو حاتم من الرواية عن تلميذه محمّد لأجل مسألة اللّفظ.

وقال عبد الرحمن ابن أبي حاتم: كان أبو زرعة ترك الرواية عنه من أجل ما كان منه في المحنة … » «1».

ترجمة أبي زرعة الرازي … ص: 13

وأبو زرعة الرازي، المتوفي سنة 264، من أعلام أئمة القوم:

قال الذهبي: «م ت س ق- عبيد اللَّه بن عبد الكريم، أبو زرعة الرازي، الحافظ، أحد الأعلام، عن أبي نعيم والقعنبي وقبيصة وطبقتهم في الآفاق. وعنه: م ت س ق، وأبو عوانة، ومحمّد بن الحسين، والقطّان، وامم.

قال ابن راهويه: كلّ حديث لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل.

مناقبه تطول» «2».

وقال ابن حجر: «م ت س ق- عبدي اللَّه بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ، أبو زرعة الرازي، إمام حافظ، ثقة، مشهور، من الحادية

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 5/ 167/ 5880.

(2) الكاشف 2: 223/ 3607.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 14

عشر» «1».

وقال اليافعي: «الحافظ، أحد الأئمّة الأعلام … قال أبو حاتم:

لم يخلّف بعده مثله علماً وفقهاً وصيانة وصدقاً، وهذا ممّا لا يرتاب فيه، ولا أعلم من المشرق والمغرب من كان يفهم هذا الشأن مثله.

وقال اسحاق بن راهويه: كلّ حديث لا يحفظه أبو زرعة ليس له أصل» «2».

وقال الخطيب البغدادي: «عبيد اللَّه بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ، أبو زرعة الرازي … كان إماماً ربّانيّاً متقناً حافظاً مكثراً صادقاً.

قدم بغداد غير مرّة، وجالس أحمد بن حنبل وذاكره وحدّث، فروي

عنه من البغداديّين: إبراهيم بن اسحاق الحربي وعبد اللَّه بن أحمد بن حنبل وقاسم بن زكريّا المطرّز … » «3».

ترجمة أبي حاتم الرازي … ص: 14

وكذلك أبو حاتم الرازي المتوفي سنة 277:

قال الذهبي: «محمّد بن ادريس أبو حاتم الرازي، الحافظ، سمع الأنصاري وعبيد اللَّه بن موسي. وعنه: د، س، وولده عبد

__________________________________________________

(1) تقريب التهذيب 1: 497/ 4850.

(2) مرآة الجنان 2: 131.

(3) تاريخ بغداد 10: 326/ 337.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 15

الرحمن بن أبي حاتم، والمحاملي. قال موسي بن اسحاق الأنصاري:

ما رأيت أحفظ منه. مات في شعبان سنة 277» «1».

وقال السمعاني: «إمام عصره والمرجوع اليه في مشكلات الحديث، من مشاهير العلماء المذكورين، الموصوفين بالفضل والحفظ والرحلة، ولقي العلماء» «2».

وقال ابن حجر: «د، س، ق محمّد بن ادريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي، أبو حاتم الرازي، الحافظ الكبير، أحد الأئمّة … روي عنه: أبو داود والنسائي وابن ماجة في التفسير … قال الحاكم أبو أحمد في الكني: أبو حاتم محمّد بن إدريس، روي عنه:

محمّد بن إسماعيل الجعفي وابنه عبد الرحمن.. ورفيقه أبو زرعة …

وآخرون.

قال أبو بكر الخلال: أبو حاتم إمام في الحديث، روي عن أحمد مسائل كثيرة وقعت الينا متفرقة، كلّها غريب.

وقال ابن خراش: كان من أهل الأمانة والمعرفة.

وقال النسائي: ثقة.

وقال اللّالكائي: كان إماماً، عالماً بالحديث، حافظاً له، متقناً

__________________________________________________

(1) الكاشف 3: 6/ 4761.

(2) الأنساب 2: 279.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 16

متثبّتاً.

وقال الخطيب: كان أحد الأئمّة الحفاظ الأثبات، مشهوراً بالعلم، مذكوراً بالفضل … مات بالري 277» «1».

تكلّم الذهلي في البخاري … ص: 16

وممّن تكلّم في البخاري من الأئمّة الأعلام: محمّد بن يحيي الذهلي، فقد قدح فيه وطعن، وبدّعه في الدين، ومنع من الكتابة عنه والحضور عنده، قال السبكي بترجمة البخاري:

«قال أبو حامد ابن الشرقي: رأيت البخاري في جنازة سعيد بن مروان والذهلي يسأله عن الأسماء والكني والعلل، ويمرّ فيه البخاري مثل السهم، فما

أتي علي هذا شهر حتي قال الذهلي: ألا من يختلف الي مجلسه فلا يأتنا، فانّهم كتبوا الينا من بغداد أنّه تكلّم في اللّفظ، ونهيناه فلم ينته، فلا تقربوه.

قلت: كان البخاري- علي ما روي وسنحكي ما فيه- ممّن قال:

لفظي بالقرآن مخلوق، وقال محمّد بن يحيي الذهلي: من زعم أنّ لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع لا يجالس ولا يكلَّم، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر».

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 9: 28- 30.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 17

وقال ابن حجر: «قال أبو حامد ابن الشرقي: سمعت محمّد بن يحيي الذهلي يقول: القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع لا يجالس ولا يكلَّم، ومن ذهب بعد هذا الي محمّد بن اسماعيل فاتّهموه، فانّه لا يحضر مجلسه الّا من كان علي مذهبه» «1».

ترجمة الذهلي … ص: 17

ذكروا أنّه من مشايخ البخاري وأبي داود والترمذي وابن ماجة والنسائي وآخرين من كبار الأئمّة، وأنّ ابن أبي داود لقّبه ب «أميرالمؤمنين في الحديث»:

قال الذهبي: «وعنه: خ والأربعة وابن خزيمة وأبو عوانة وأبو علي الميداني، ولا يكاد البخاري يفصح باسمه لما وقع بينهما. قال ابن أبي داود: حدّثنا محمّد بن يحيي وكان أميرالمؤمنين في الحديث. وقال أبو حاتم: هو إمام أهل زمانه. توفي 258 وله ست وثمانون» «2».

وقال السمعاني: «إمام أهل نيسابور في عصره، ورئيس العلماء

__________________________________________________

(1) هدي الساري: 492.

(2) الكاشف 3: 88/ 5274.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 18

ومقدّمهم» «1».

وقال الصفدي: «الإمام الذهلي، مولاهم، النيسابوري، الحافظ، سمع من خلق كثير، روي عنه الجماعة خلا مسلم، قال:

ارتحلت ثلاث رحلات وأنفقت مائة وخمسين ألفاً. قال النسائي: ثقة مأمون. قال أبو عمرو أحمد بن نصر الخفاف: رأيت محمّد بن يحيي في المنام فقلت:

ما فعل اللَّه بك؟ قال: غفرلي. قلت: ما فعل بحديثك؟ قال: كتب بماء الذهب ورفع في علّيّين» «2».

تصريح ابن دحية بانحراف البخاري عن أهل البيت … ص: 18

وقد كان ما لاقاه البخاري من الإهانة والتضليل، من كبار الأئمة، كأبي زرعة وأبي حاتم والذهلي وأئمّة بخاري، جزاء لانحرافه عن أميرالمؤمنين وأهل البيت الطاهرين عليهم السلام، وإزرائه لهم وكتمانه فضائلهم ومناقبهم في دار الدنيا الأمر الذي صرَّح به العلامة ذو النسبين ابن دحية في كتاب (شرح أسماء النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم) حيث قال:

«ترجم البخاري في صحيحه في وسط المغازي ما هذا نصّه:

__________________________________________________

(1) الأنساب 3: 181.

(2) الوافي بالوفيات 5: 186/ 2235.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 19

بعث عليّ ابن أبي طالب وخالد بن الوليد الي اليمن قبل حجّة الوداع:

حدّثني أحمد بن عثمان قال: ثنا شريح بن مسلمة قال: ثنا إبراهيم بن يوسف بن اسحاق بن أبي اسحاق قال: حدّثني أبي، عن أبي اسحاق سمعت البراء، بعثنا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم مع خالد بن الوليد الي اليمن، ثم بعث عليّاً بعد ذلك مكانه فقال: مر أصحاب خالد، من شاء منهم أن يعقّب معك فليعقِّب ومن شاء فليقبل، فكنت ممن عقَّب معه. قال: فغنمت أواقي ذات عدد.

حدّثني محمّد بن بشار قال: ثنا روح بن عبادة قال: ثنا علي بن سويد ابن منجوق، عن عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه قال: بعث النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم عليّاً الي خالد ليقبض الخمس، وكنت أبغض عليّاً، وقد غتسل، فقلت لخالد: ألا تري الي هذا، فلمّا قدمنا الي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ذكرت له ذلك، فقال: يا بريدة أتبغض عليّاً؟

فقلت: نعم. قال: لا تبغضه، فانّ له في الخمس أكثر من ذلك.

قال ذو النسبين رحمة اللَّه:

أورده البخاري ناقصاً

مبتّراً كما تري، وهي عادته في ايراد الأحاديث التي من هذا القبيل، وما ذاك الّا لسوء رأيه في التنكّب عن هذه السبيل.

وأورده الإمام أحمد بن حنبل كاملًا محقّقاً، الي طريق الصحّة فيه موفقاً، فقال فيما حدّثني القاضي العدل، بقيّة مشايخ العراق، تاج

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 20

الدين أبو الفتح محمّد بن أحمد بن المندائي- قراءة عليه، بواسط العراق- بحقّ سماعه علي الثقة الرئيس أبي القاسم ابن الحصين، بحق سماعه علي الثقة الواعظ أبي علي الحسين ابن المذهب، بحق سماعه علي الثقة أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي، بحقّ سماعه من الإمام أبي عبد الرحمن عبد اللَّه، بحق سماعه علي أبيه إمام أهل السنة أبي عبد اللَّه أحمد بن حنبل قال: ثنا يحيي بن سعيد، ثنا عبد الجليل قال: انتهيت الي حلقة فيها أبو مجلز وابنا بريدة، فقال عبد اللَّه ابن بريدة: أبغضت عليّاً بغضاً لم أبغضه أحداً قط. قال:

وأحببت رجلًا لم احبّه الّا علي بغضه عليّاً. قال: فبعث ذلك الرجل علي خيل فصحبته، وما أصحبه الّا علي بغضه عليّاً. قال: فأصبنا سبياً. قال:

فكتب الي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: ابعث علينا من يخمسه. قال:

فبعث النيا عليّاً وفي السبي وصيفة هي أفضل من في السبي، قال:

فخمس وقسّم، فخرج ورأسه يقطر. فقلنا: يا أبا الحسن ما هذا؟ قال:

ألم تروا الي الوصيفة التي كانت في السبي، فانّي قسّمت وخمست فصارت في الخمس، ثمّ صارت في أهل بيت النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، ثمّ صارت في آل علي ووقعت بها. قال: فكتب الرجل الي نبي اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم. قلت: ابعثني، فبعثني مصدّقاً. قال: فجعلت أقرأ الكتاب وأقول: صدق صدق، فأمسك يدي

والكتاب قال: أتبغض علياً؟ قال: قلت: نعم. قال: فلا تبغضه، وان كنت تحبّه فازدد له حبّاً،

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 21

فوالذي نفس محمّد بيده، لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة. قال: فما كان من الناس أحد بعد قول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أحبّ اليّ من علي.

قال عبد اللَّه: فو الذي لا اله غيره، ما بيني وبين النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في هذا الحديث غير أبي بريدة» «1».

وقال ابن دحية في موضع آخر من كتابه المذكور، بعد نقل حديث عن مسلم:

«بدأنا بما أورده مسلم، لأنّه أورده بكماله، وقطّعه البخاري وأسقط منه علي عادته كما تري، وهو ممّا عيب عليه في تصنيفه علي ما جري، ولا سيّما اسقاطه لذكر علي رضي اللَّه عنه».

ترجمة أبي الخطّاب ابن دحية … ص: 21

ولا يخفي أنّ أبا الخطّاب ابن دحية من أكبر علماء القوم وأشهر حفّاظهم.

قال ابن خلّكان بترجمة:

«أبو الخطّاب عمر بن الحسن بن علي بن محمّد بن الجميل بن فرح بن خلف بن قومس بن مزلال بن ملال بن بدر بن دحية بن فروة

__________________________________________________

(1) المستكفي في أسماء النبي المصطفي- مخلوط.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 22

الكلبي، المعروف بذي النسبين، الأندلسي البلنسي الحافظ. نقلت نسبه علي هذه الصّورة من خطّه.

كان يذكر أنّ امّه: امة الرحمن بنت أبي عبد اللَّه بن أبي البسام موسي بن عبد اللَّه بن الحسين بن جعفر بن علي بن محمّد بن علي بن موسي بن جعفر ابن محمّد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنهم، فلهذا كان يكتب بخطّه: ذو النّسبين بين دحية والحسين، وكان يكتب أيضاً سبط أبي البسام، اشارة الي ذلك.

وكان أبو الخطّاب المذكور من أعيان العلماء ومشاهير

الفضلاء، متقناً لعلم الحديث النبوي وما يتعلّق به، عارفاً بالنحو واللغة وأيّام العرب وأشعارها، أكثر بطلب الحديث في أكثر بلاد الأندلس الإسلامية، ولقي بها علماءها ومشائخها، ثمّ رحل منها الي برّ العدوة، دخل مراكش واجتمع بفضلائها، ثمّ ارتحل إلي افريقيّة ومنها الي الديار المصرية، ثمّ الي الشام والشرق والي العراق، وسمع ببغداد من بعض أصحاب ابن الحصين، وسمع بواسط من أبي الفتح محمّد بن أحمد بن المندائي، ودخل الي عراق العجم وخراسان وما والاها ومازندران، كلّ ذلك في طلب الحديث والإجتماع بأئمّة الحديث، واخذ عنهم، وهو في تلك الحال يؤخذ عنه ويستفاد منه، وسمع بأصبهان من أبي جعفر الصيدلاني، وبنيسابور من منصور ابن عبد

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 23

المنعم الفراوي» «1».

وقال السيوطي في (بغية الوعاة):

«عمر بن الحسن بن علي بن محمّد بن الجميل بن فرح بن دحية الكلبي الأندلسي البلنسي الحافظ، أبو الخطّاب، كان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء، متقناً لعلم الحديث وما يتعلّق به، عارفاً بالنحو واللغة وأيّام العرب وأشعارها، سمع الحديث ورحل، وله بني الكامل دار الحديث الكامليّة بالقاهرة، وجعله شيخاً، حدث عنه ابن الصلاح وغيره، ومات ليلة الثلاثاء رابع عشر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة» «2».

وقال في كتابه (حسن المحاضرة):

«ابن دحية، الإمام العلّامة الحافظ الكبير، أبو الخطّاب، عمر بن الحسن الأندلسي البلنسي، كان بصيراً بالحديث متقناً به، له حظّ وافر من اللغة ومشاركة في العربيّة، له تصانيف، توطّن مصر وأدّب الملك الكامل، ودرّس بدار الحديث الكامليّة، مات أربع عشرة ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة» «3».

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 3: 448- 450/ 497.

(2) بغية الوعاة في طبقات اللغويّين والنّحاة 2: 218/ 1832.

(3) حسن المحاضرة بمحاسن مصر والقاهرة 1: 201.

سلسلة اعرف

الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 24

موقف البخاري من حديث الغدير وكلمات الأعلام فيه … ص: 24

ومن غرائب تعصّبات البخاري: طعنه في حديث الغدير المروي عن أكثر من ماثة صحابي، والبالغ أضعاف شروط التواتر، والمصرَّح بتواتره من قبل الأئمة الثقات المتبحّرين في الحديث عند أهل السنّة، كما لا يخفي علي من اقتطف الأزهار من (الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة)، واستفاد من (الفوائد المتكاثرة في الأخبار المتواترة) وكلاهما للحافظ السيوطي، أو راجع (شرح الجامع الصغير) لنور الدين العزيزي، أو (شرح الجامع الصغير) للمناوي، أو (المرقاة) لعلي القاري، أو (الأربعين في مناقب أميرالمؤمنين) لجمال الدين المحدّث الشيرازي، أو (السيف المسلول) لثناء اللَّه تلميذ ولي اللَّه والد صاحب التحفة، أو (أسني المطالب) لابن الجزري، وغير هذه الكتب.

قال ابن تيميّة- في حديث الغدير-: «وأمّا قوله: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فليس في الصحاح، لكن ممّا رواه العلماء، وتنازع الناس في صحّته، فنقل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم أنّهم طعنوا فيه وضعّفوه» «1».

اللّهمّ الّا أن يكون قد طعن في بعض طرقه، فنسب اليه ابن تيميّة

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4: 136.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 25

الطعن في أصله … !!

فإن كان البخاري قد طعن في أصل حديث الغدير، فقد نصَّ غير واحد من أعلام القوم علي عدم الإعتبار بكلام من طعن فيه كائناً من كان … يقول البدخشي: «هذا حديث صحيح مشهور، ولم يتكلَّم في صحّته الّا متعصّب جاحد لا اعتبار بقوله، فان الحديث كثير الطرق جدّاً، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، وقد نصَّ الذهبي علي كثير من طرقه بالصحّة، ورواه من الصحابة عدد كثير» «1».

وكذلك نسب الحافظ ابن الجزري منكر حديث الغدير الي الجهل والعصبيّة «2».

ترجمة ابن الجزري … ص: 25

وابن الجزري الشافعي، حافظٌ شهير، وله تأليف معتمدة، وقد أثني العلماء عليه وعلي كتبه:

فقد

ترجم له ابن حجر ووصفه بالحافظ الإمام المقري، وقال:

«انتهت اليه رئاسه علم القراآت في الممالك، وكان قديماً صنّف الحصن الحصين في الأدعية، ولهج به أهل اليمن واستكثروا منه …

__________________________________________________

(1) نزل الأبرار بما صحَّ من مناقب أهل البيت الأطهار: 21.

(2) أسني المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب: 48.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 26

وكانت عنايته بالقراءات أكثر، فجمع ذيل طبقات القرّاء للذهبي وأجاد فيه، ونظم قصيدة في قرائة الثلاثة، وجمع النشر في القراءات العشر … وكان يلقّب في بلاده: الإمام الأعظم … وبالجملة، فانّه كان عديم النظير، طائر الصيت، انتفع الناس بكتبه وسارت في الآفاق مسير الشمس» «1».

وترجم له السخاوي ترجمة مطوّلة، فذكر مشايخه في مختلف العلوم، وأنه قد أذن له غير واحد بالافتاء والتدريس والإقراء، وأنّه ولي مشيخة الإقراء بالعادليّة ثمّ مشيخة دار الحديث الأشرفيّة …

وهكذا ذكر أسفاره الي البلاد المختلفة وأورد طرفاً من أخباره فيها …

ثمّ ذكر تصانيفه ووصفها بكونها مفيدة، ومنها (أسني المطالب في مناقب علي بن أبي طالب). قال: وقد ذكره الطاووسي في مشيخته وقال: انّه تفرّد بعلوّ الرواية وحفظ الأحاديث والجرح والتعديل ومعرفة الرواة المتقدّمين والمتأخرين … ثمّ ذكر السخاوي كلام ابن حجر في حقّه … » «2».

هذا، وقد توفي ابن الجزري سنة 833.

__________________________________________________

(1) انباء الغمر بأبناء العمر 3: 467.

(2) الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 9: 255- 260.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 27

استرابة البخاري في بعض حديث الإمام الصادق!! … ص: 27

ومن أمارات بغض البخاري لأهل بيت النبوّة وانحرافه عنهم:

عدم اخراجه عن الإمام الصادق عليه السّلام في كتابه، بل استرابته في بعض حديثه، والعياذ باللَّه!!

قال ابن تيميّة في كلام له عن الإمام عليه السّلام:

«فهؤلاء الأئمّة الأربعة ليس منهم من أخذ عن جعفر شيئاً من قواعد

الفقه، لكن رووا عنه الأحاديث كما رووا عن غيره، وأحاديث غيره أضعاف أحاديثه، وليس بين حديث الزهري وحديثه نسبة، لا في القوّة ولا في الكثرة، وقد استراب البخاري في بعض حديثه لمّا بلغه عن يحيي بن سعيد القطّان فيه كلام، فلم يخرج له، ويمتنع أن يكون حفظه للحديث كحفظ من يحتجّ بهم البخاري» «1».

فانظر الي كلام هذا الناصب العنيد، كيف يطعن في الإمام العظيم استناداً الي القطّان والبخاري، مع أنّ علمائهم الكبار، من السابقين واللاحقين، يقولون بضرورة حبّ أهل البيت واحترامهم والاقتداء بهم والأخذ منهم، وحتي أنّهم ينزّهون أهل السنّة من بغض أهل البيت، ويبرؤن ممّن اعترض عليهم أو تكلّم فيهم أو أعرض عنهم، ويجعلون نسبة هذه الامور إلي أهل السنة من تعصّبات الإمامية

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 7: 533.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 28

ضدّهم، يقول الكابلي في تعداد تعصّبات الشيعة:

«التاسع عشر: انّ أهل السنة أفرطوا في بغض أهل البيت، ذكر ذلك ابن شهر آشوب وكثير من علمائهم، ولقَّبوهم بالنواصب، وهو كذب صرد وعصبيّة بريّته، ولا يؤمن أحد حتّي يكون عترة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أحبّ اليه من نفسه، ويروون في ذلك أحاديث منها: ما رواه البيهقي وأبو الشيخ والديلمي: أنه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لا يؤمن أحد حتي أكون أحبّ اليه من نفسه، ويكون عترتي أحبّ اليه من نفسه.

وأخرج الترمذي والحاكم عن ابن عباس رضي اللَّه عنه أنه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: أحبّوا أهل بيتي بحبّي.

إلي غير ذلك من الأخبار.

ويقولون: من ترك المودّة في أهل بيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فقد خانه، وقد قال اللَّه تعالي: «لَا تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ»، ومن كره أهل بيته فقد كرهه صلّي اللَّه عليه

وسلّم. ولقد أجاد من أفاد:

فلا تعدل بأهل البيت خلقاً فأهل البيت هم أهل السعاده

فبغضهم من الإنسان خسر حقيقيٌّ وحبّهم عباده

ويوجبون الصلاة عليهم في الصلوات. قال الشيخ الجليل فريد الدين أحمد بن محمّد النيسابوري رحمة اللَّه: من آمن بمحمّد ولم

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 29

يؤمن بأهل بيته فليس بمؤمن، أجمع العلماء والعرفاء علي ذلك ولم ينكره أحد» «1».

أقول:

فلو كانوا صادقين في قولهم «من آمن بمحمّد ولم يؤمن بأهل بيته فليس بمؤمن» وأنه قد «أجمع العلماء والعرفاء علي ذلك ولم ينكره أحد» فما ظنّهم بالقطّان والبخاري وابن تيميّة وأمثالهم؟

وقد ذكر الشاه عبد العزيز الدّهلوي- في الكلام علي حديث:

مثل أهل بيتي كسفينة نوح … -: انّ هذا الحديث يفيد بأنّ الفلاح والهداية منوط بحبّ أهل البيت واتّباعهم، وأنّ التخلّف عن ذلك موجب للهلاك، ثمّ زعم أنّ هذا المعني يختصُّ بأهل السنّة «2»!!

فإن كان صادقاً فيما يقول، فما رأيه فيمن تكلّم في الإمام أبي عبد اللَّه الصادق عليه السّلام؟

هذا، ولا يتوهّمنّ أحدٌ أنّ تكلّم القطّان والبخاري وأتباعهما في الإمام ليس عن بغض له وعناد، وانّما هو تحقيقٌ في العلم واحتياط في الدين، فانّه توهّم فاسد جدّاً، فانّه لو لم يكن ما ذكره ابن تيميّة انحرافاً وبغضاً وعناداً، فأين العناد والعداوة والبغض؟ وبماذا يكون؟ ومن

__________________________________________________

(1) الصواعق الموبقة- مخطوط.

(2) التحفة الإثني عشرية: 219.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 30

المنحرف عنهم والمتعصّب ضدّهم والناصب لهم؟

وهل شدّة الاحتياط والتورع أدت الي أخذ روايات عكرمة الضالّ المضلّ والناصب المقيت، وطرح أخبار الإمام الصادق وغيره من أئمّة أهل البيت؟

وكيف يقبل هذا الإعتذار للبخاري؟! وكيف يعتذر له بذلك؟

وقد أخرج عن الذهلي- مع ما كان بينهما من الطعن الموجب للفسق-

ومع التدليس في اسمه، ولم يخرج عن الإمام الصادق؟!

ولو كان لمثل هذا الاعتذار مجالٌ لما قال ابن تيميّة: «ويمتنع أن يكون حفظه للحديث كحفظ من يحتجّ بهم البخاري»!!

طعن القطّان في الإمام الصادق!! … ص: 30

هذا، وطعن القطّان في الإمام الصّادق عليه السّلام مذكور في سائر الكتب الرجاليّة، وهو في جملتين إحداهما: «في نفسي منه شي ء» والاخري: «مجالد أحبّ اليّ منه»!!:

قال الذهبي: «جعفر بن محمّد الصادق أبو عبد اللَّه، وامّه ام فروة بنت القاسم بن محمّد، وامّها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، فكان يقول: ولّدني الصديق مرّتين. سمع أباه والقاسم وعطاء.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 31

وعنه: شعبة والقطّان وقال: في نفسي منه شي ء … » «1».

وقال: «جعفر بن محمّد بن علي، ثقة، لم يخرج له البخاري، وقد وثّقه يحيي بن معين وابن عدي، وأمّا القطّان فقال: مجالد أحبّ اليّ منه» «2».

ترجمة مجالد بن سعيد … ص: 31

هذا، والحال أنّ مجالد بن سعيد قد طعن فيه كثير من أئمة القوم:

قال الذهبي: «مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني، مشهور، صاحب حديث علي لين فيه. روي عن قيس بن أبي حازم والشعبي.

وعنه: يحيي القطّان وأبو اسامة وجماعة.

قال ابن معين وغيره: لا يحتجّ به، وقال أحمد: يرفع كثيراً ممّا لا يرفعه الناس، ليبس بشي ء. وقال النسائي: ليس بالقوي، وذكر الأشج: انّه شيعي، وقال الدار قطني: ضعيف. وقال البخاري: كان يحيي بن سعيد يضعّفه، وكان ابن مهدي لا يروي عنه، وقال الفلّاس:

سمعت يحيي بن سعيد يقول: لو شئت أن يجعلها لي مجالد كلّها عن

__________________________________________________

(1) الكاشف 1: 139/ 807.

(2) المغني في الضعفاء 1: 211/ 1156.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 32

الشعبي عن مسروق عن عبداللَّه فعل. وقيل لخاله الطحّان: دخلت الكوفة فلم لم تكتب عن مجالد؟ قال: لأنه كان طويل اللّحية، قلت:

من أنكر ماله عن الشعبي عن مسروق عن عائشة مرفوعاً: لو شئت لأجري اللَّه معي جبال الذهب والفضّة» «1».

فانظر من هذا الذي قدمه القطان

علي الإمام الصّادق عليه السّلام؟ واحكم علي القطّان والبخاري وأضرابهما بما يقتضيه الدين والعدل؟

موقف الذهبي … ص: 32

والذهبي، وان وثّق الإمام عليه السّلام، لكنّه لم يرد علي تعصبات القطّان والبخاري ضد الإمام، بل بالعكس، فقد أورده في كتابه (الميزان) لتكلّمهما فيه، حيث قال:

«جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين الهاشمي، أبو عبد اللَّه، أحد الأئمة الأعلام، برّ، صادق، كبير الشأن، لم يحتج به البخاري، قال يحيي بن سعيد: مجالد أحبّ إليّ منه، في نفسي منه شي ء، وقال مصعب بن عبد اللَّه عن الدراوردي قال: لم يرو مالك عن جعفر حتي ظهر أمر بني العباس، قال مصعب بن عبد اللَّه: كان مالك لا يرويع عن

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 6: 23/ 7076.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 33

جعفر حتي يضمه الي أحد. وقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم:

سمعت يحيي يقول: كنت لا أسأل يحيي بن سعيد عن حديث جعفر ابن محمّد، فقال لي: لم لا تسألني عن حديث جعفر؟ قلت: لا اريده، فقال لي: ان كان يحفظ فحديث أبيه المسند» «1».

هذا، في الوقت الذي بني في كتابه هذا علي أن لا يذكر فيه من قدح فيه البخاري وابن عدي، من الصحابة والأئمّة في الفروع … كما صرّح بذلك في مقدمة الكتاب «2».

أفهل كان شأن الإمام عليه السلام أقل من شأن عمرو بن العاص وبسر ابن أرطاة وأمثالهما من فسقة الصحابة؟

أفهل كان شأن الشافعي وغيره أجل من شأن الإمام الصّادق؟

لكنه التعصب والنّصب … والعياذ باللَّه …

ترجمة القطّان … ص: 33

ثمّ انظر الي تراجم القطان وكلماتهم في مدحه والثناء عليه، والمبالغة في تعظيمه وتبجيله:

قال السمعاني: «القطان- بفتح القاف وتشديد الطاء الهملة في

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 143/ 1521.

(2) ميزان الاعتدال 1: 113.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 34

آخرها نون، هذه النسبة الي بيع القطن، والمشهور بها

هو: أبو سعيد يحيي بن سعيد بن فروخ الأحول القطّان، مولي بني تميم، من أئمة أهل البصرة، يروي عن يحيي بن سعيد الأنصاري وهشام بن عروه، روي عنه أهل العراق، مات يوم الأحد سنة ثمان وتسعين ومائة، وكان إذا قيل له في علته يعافيك اللَّه قال: أحبه اليّ أحبّه الي اللَّه عزوجل، وكان من سادات أهل زمانه حفظاً وورعاً وعقلًا وفهماً وفضلًا وديناً وعلماً، وهو الذي مهد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن الثقات وترك الضعفاء، ومنه تعلّم علم الحديث أحمد بن حنبل ويحيي بن معين وعلي ابن المديني. ذكر عمرو بن علي الفلاس أنّ يحيي بن سعيد القطان كان يختم القرآن كلّ يوم وليلة، ويدعو لألف انسان، ثمّ يخرج بعد العصر فيحدث الناس. وكان يروي عن سميه يحيي بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، والأعمش، وابن جريج، والثوري، وشعبة، ومالك، في آخرين. وكان يقول: لزمت شعبة عشرين سنة، فما كنت أرجع من عنده الّا بثلاثة أحاديث وعشرة أكثر ما كنت أسمع منه في كلّ يوم. وقال يحيي بن معين: أقام يحيي بن سعيد عشرين سنة يختم القرآن في كلّ ليلة، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة، وما رئي يطلب جماعة قط» «1».

__________________________________________________

(1) الأنساب 4: 519.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 35

وقال النووي:

«يحيي بن سعيد القطان هو: أبو سعيد يحيي بن سعيد بن فروح التميمي مولاهم البصري، القطان، الإمام، من تابعي التابعين، سمع: يحيي بن سعيد الأنصاري وحنظله بن أبي سفيان وابن عجلان وسيف بن سليمان وهشام بن حسان وابن جريج وسعيد بن عروبة وابن أبي ذئب والثوري وابن عيينة ومالكاً ومشعراً وشعبة وخلائق.

وروي عنه: الثوري، وابن عيينة، وشعبة، وابن مهدي،

وعفّان، وأحمد بن حنبل، ويحيي بن معين ز وعلي بن المديني، واسحاق بن راهويه، وأبو عبدي القاسم بن سلام، وأبو خيثمه ز وأبو بكر ابن أبي شيبة، ومسدد، وعبيد اللَّه بن عمر القواريري ز وعمرو بن علي، وابن مثنّي، وابن بشّار، وخلائق من الأئمة وغيرهم.

واتفقوا علي إمامته وجلالته، ووفور حفظه وعلمه وصلاحه … ».

وقال الذهبي:

«يحيي بن سعيد بن فروخ، الحافظ الكبير، أبو سعيد التميمي مولاهم البصري القطّان، عن: عروة وحميد والأعمش، وعنه: أحمد وعلي ويحيي. قال أحمد: ما رأيت مثله. وقال بندار: إمام أهل زمانه يحيي القطّان، واختلفت اليه عشرين سنة فما أظنّ أنه عصي اللَّه قط، ولد القطّان 120 ومات 198 في صفر، وكان رأساً في العلم

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 36

والعمل» «1».

وقال اليافعي:

«الإمام أبو سعيد يحيي بن سعيد القطّان البصري الحافظ، أحد الأعلام. قال بندار: اختلفت اليه عشرين سنة فما أظنّ أنه عصي اللَّه قط. قال أحمد بن حنبل: ما رأيت مثله. وقال ابن معين: أقام يحيي القطان عشرين سنة يختم في كلّ ليلة ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة» «2».

أقول:

ومن هذه العبارات وأمثالها في مدح القطّان- مع علم قائليها بمقالته في الإمام الصادق عليه الصلاة والسّلام- تعرف مواقف القوم من أئمّة أهل البيت، فلا يقبل دفاع بعض الناس عن أهل السنة وأسلافهم بأنّهم محبّون لأهل البيت ومحترمون لهم ومستمسكون بهم …

قصّة كتاب العلل لابن المديني … ص: 36

وممّا يذكر في مقام الطعن في البخاري وورعه وأمانته وثقته:

__________________________________________________

(1) الكاشف 3: 243/ 6258.

(2) مرآة الجنان 1: 352.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 37

قصّته مع كتاب شيخه ابن المديني في العلل:

قال مسلمة بن قاسم في (تاريخه)- علي ما نقل عنه «1» -: «وسبب تأليف البخاري الكتاب

الصحيح: أن علي بن المديني ألف كتاب العلل، وكان ضنيناً به لا يخرجه الي أحد، ولا يحدّث به، لشرفه وعظم خطره وكثرة فائدته، فغاب علي ابن المديني في بعض حوائجه، فأتي البخاري الي بعض بنيه، فبذل له مائة دينار علي أن يخرج له كتاب العلل، ليراه ويكون عنده ثلاثة أيام، ففتنه المال وأخذ منه ماثة دينار، ثمّ تلطف مع امّه فأخرجت الكتاب، فدفعه اليه وأخذ عليه العهود والمواثيق أن لا يحبسه عنه أكثر من الأمد الذي ذكر، فاخذ البخاري الكتاب- وكان مائة جزء- فدفعه الي مائة من الورّاقين، وأعطي كلّ رجل منهم ديناراً علي نسخه ومقابلته في يوم وليلة، فكتبوا له الديوان في يوم وليلة وقوبل، ثم صرفه الي ولد علي بن المديني وقال: انّما نظرت الي شي ء فيه.

وانصرف علي بن المديني فلم يعلم بالخبر، ثمّ ذهب البخاري فعكف علي الكتاب شهوراً واستحفظه، وكان كثير الملازمة لابن المديني، وكان ابن المديني يعقد يوماً لأصحاب الحديث، يتكلّم في علله وطرقه، فلمّا أتاه البخاري بعد مدة قال له: ما حبسك عنّا؟ قال:

__________________________________________________

(1) انظر ترجمته في لسان الميزان 6: 43.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 38

شغلٌ عرض لي، ثمّ جعل عليٌّ يلقي الأحاديث ويسألهم عن عللها، فيبادر البخاري بالجواب بنصّ كلام عليِّ في كتابه، فعجب لذلك ثم قال له: من أين علمت هذا، هذا قول منصوص، واللَّه ما أعلم أحداً في زماني يعلم هذا العلم غيري.

فرجع الي منزله كئيباً حزيناً، وعلم أنّ البخاري خدع أهله بالمال حتي أبا حواله الكتاب، ولم يزل مغموماً بذلك، ولم يلبث يسيراً حتي مات، واستغني البخاري عن مجالسة علي والتفقّه عنده بذلك الكتاب، وخرج الي خراسان، وتفقّه بالكتاب، ووضع الكتاب الصحيح والتواريخ، فعظم

شأنه وعلا ذكره، وهو أول من وضع في الاسلام كتاب الصحيح، فصار الناس له تبعاً، وبكتابه يقتدي العلماء في تأليف الصحيح».

يفيد هذا النص أنّ البخاري كان السبب في موت شيخه علي بن المديني، لتصرّفه في كتاب العلل الذي وضعه شيخه، بعد أخذه من أهله بالحيلة والخديعة والمكر والكذب …

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 39

أحاديث باطلة في كتاب البخاري … ص: 39

اشارة

وكما تكلّمنا باختصار عن البخاري، فلنتكلّم في كتابه الموصوف بالصحيح، علي ضوء أقوال كبار أئمة الحديث، مقتصرين علي طعنهم وقدحهم في عدة من أحاديثه:

حديث خطبة عائشة … ص: 39

(فمنها) الحديث في خطبة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم عائشة وقول أبي بكر له: «انّما أنا أخوك»، وهذا نصّه:

«عن عروه: انّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم خطب عائشة، فقال له أبو بكر: انّما أنا أخوك، فقال: أنت أخي في دين اللَّه وكتابه، وهي لي حلال» «1».

قال ابن حجر عن الحافظ مغلطاي: «في صحّة هذا الحديث نظر، لأنّ الخلّة لأبي بكر انّما كانت بالمدينة، وخطبة عائشة كانت بمكّة، فكيف يلتئم قوله: انّما أنا أخوك.

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 7: 8.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 40

وأيضاً: فالنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ما باشر الخطبة بنفسه، كما أخرجه ابن أبي عاصم، من طريق يحيي بن عبد الرحمن بن حاطب، عن عائشة: انّ النبي أرسل خولة بنت حكيم الي أبي بكر يخطب عائشة، فقال لها أبو بكر: وهل تصلح له، انّما هي بنت أخيه؟

فرجعت فذكرت ذلك للنبي فقال صلّي اللَّه عليه وسلّم: ارجعي فقولي له: أنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لي. فأتت أبا بكر فذكرت ذلك له، فقال: ادعي رسول اللَّه، فجاء فأنكحه» «1».

حديث شفاعة إبراهيم لآزر … ص: 40

(ومنها) الحديث في شفاعة سيّدنا إبراهيم عليه السلام لآزر في يوم القيامة.

وهذا الافتراء ذكره البخاري علي حسب ديدنه في غير موضع من كتابه السقيم، وفيه غاية الإزراء بشأن إبراهيم علي نبيّنا وآله وعليه سلام الرب الرحيم، كما لا يخفي علي من له ذهن مستقيم، حيث أثبتوا له في ذلك أوّلًا: مخالفة أمر اللَّه تعالي وثانياً: اصراره علي المخالفة والمجادلة حيث لم ينته- بناء علي افتراءهم- لما نهي اللَّه عن الاستغفار له في دار الدنيا، وثالثاً: مخالفته للدلائل العقلية الدالة علي

__________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 9: 101.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان،

ص: 41

المنع من الاستغفار للمشركين، ورابعاً: الخطأ والغفلة في بنّ أنّ تعذيب الكافر خزي له بل خزي أعظم، وأيّ خزي أعظم من هذا؟

فانّ ذلك ممّا لا يتخيّله من له أدني عقل ودراية، فضلًا عن النبي المعصوم المبعوث للهداي، وخامساً: الجهل بالمراد من وعده تعالي بأن لا يخزيه. وهذه هي ألفاظ الحديث في كتاب التفسير:

«حدبثنا اسماعيل قال: حدّثنا أخي، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

يلقي إبراهيم أباه فيقول: يا رب انّك وعدتني الّا تخزني يوم يبعثون، فيقول اللَّه: انّي حرّمت الجنّة علي الكافرين» «1».

وفي رواية اخري «فيقول: يا رب انّك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فأيّ خزي أخزي من أبي الأبعد» «2».

قال الفخر الرازي: «وأما قوله تعالي: «وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ» ففيه مسائل: المسألة الاولي: في تعلّق هذه الآية بماقبلها وجوه:

الأوّل: انّ المقصود منه أن لا يتوهم انسان أنّه تعالي منع محمّداً صلّي اللَّه عليه وسلّم من بعض ما أذن لإبراهيم عليه السلام

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 6: 202 كتاب التفسير، سورة الشعراء.

(2) صحيح البخاري 4: 277- 278 كتاب أحاديث الأنبياء.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 42

فيه. والثاني: أن يقال: انّا ذكرنا في سبب اتصال هذه الآية بماقبلها المبالغة في ايجاب الانقطاع عن الكفار أحيائهم وأمواتهم، ثمّ بيّن تعالي أنّ هذا الحكم غير مختصّ بدين محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم، فتكون المبالغة في تقرير وجوب الانقطاع كانت مشروعة أيضاً في دين إبراهيم عليه السلام، فتكون المبالغة في تقرير وجوب المقاطعة والمباينة من الكفّار أكمل وأقوي. الثالث: انّه تعالي وصف إبراهيم في هذه الآية بكونه حليماً أي قليل الغضب،

وبكونه أوّاهاً، أي كثير التوجّع والتفجّع عند نزول المضار بالناس، والمقصود أنّ من كان موصوفاً بهذه الصفة، كان ميل قلبه الي الاستغفار لأبيه شديداً، وكأنّه قيل: انّ إبراهيم مع جلالة قدره، ومع كونه موصوفاً بالأوّاهيّة والحليميّة، منعه اللَّه من الاستغفار لأبيه الكافر، فلأن يكون غيره ممنوعاً من هذا المعني كان أولي» «1».

وعلي الجملة، فانّه- بعد العلم بأنّ إبراهيم عليه السّلام كان ممنوعاً من هذا الاستغفار، وأنّه قد تبرّء منه- لا يستريب مسلم في أنّ حديث البخاري موضوع!

ومع قطع النظر عن هذا، فان الدلائل العقلية أيضاً قائمة علي منع الاستغفار للمشركين، كما قال الرازي:

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 16: 210.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 43

«قوله تعالي: «مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ» يحتمل أن يكون المعني: ما ينبغي لهم ذلك فيكون كالوصف، وأن يكون معناه ليس لهم ذلك علي معني النهي. فالأول معناه: أنّ النبوة والايمان يمنع من استغفار المشركين، والثاني معناه:

لا يستغفروا، والأمران متقاربان.

وسبب هذا المنع ما ذكره اللَّه تعالي في قوله: «مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ». وأيضاً: قال: «إِنَّ اللّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ» والمعني: أنه تعالي لما أخبر عنهم أنه يدخلهم النار فطلب الغفران لهم، جار مجري طلب أن يخلف اللَّه وعده ووعيده وانّه لا يجوز، وأيضاً: لما سبق قضاء اللَّه تعالي بأنه يعذّبهم، فلو طلبوا غفرانه لصاروا مردودين، وذلك يوجب نقصان درجة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وحطّ مرتبته. وأيضاً: انّه تعالي قال: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» وقال: «أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ»، فهذا الاستغفار يوجب دخول الخلف في أحد هذين النصّين وأنه لا يجوز» «1».

وعلي الجملة، فان هذا الحديث موضوع باطل، ولا سبيل الي

اصلاحه بوجه من الوجوه.

ولعلّه لذا اضطرّ بعضهم الي التصرّف في لفظه، بوضع كلمة

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 16: 209.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 44

«رجل» مكان اسم سيّدنا إبراهيم عليه السّلام، كما في (فتح الباري): «وفي رواية أيّوب: يلقي رجل أباه يوم القيامة فيقول له: أيّ ابن كنت لك؟ فيقول: خير ابن، فيقول: هل أنت مطيعي اليوم؟

فيقول: نعم، فيقول: خذ بأزرتي، فيأخذ بأزرته، ثمّ ينطلق حتي يأتي ربّه … » «1».

ولكن لا مناص من الاعتراف ببطلانه … كما عن الحافظ الإسماعيلي وغيره.

قال ابن حجر: «وقد استشكل الإسماعيلي هذا الحديث من أصله، وطعن في صحّته، فقال بعد أن أخرجه: هذا حديث في صحّته نظر، من جهة أن إبراهيم عالم أن اللَّه لا يخلف الميعاد، فكيف يجعل ما بأبيه خزياً له مع علمه بذلك؟

وقال غيره: هذا الحديث مخالف لظاهر قوله تعالي: «وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ»» «2».

وأمّا محاولة ابن حجر تأويل هذا الحديث وتوجيهه بقوله:

«والجواب عن ذلك: أنّ أهل التفسير اختلفوا في الوقت الذي

__________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 8: 405.

(2) فتح الباري 8: 406.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 45

تبرّأ إبراهيم فيه من أبيه.

فقيل: كان ذلك في حياة الدنيا لما مات آزر مشركاً. وهذا الوجه أخرجه الطبري من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، واسناده صحيح، وفي رواية: فلمّا ماتا لم يستغفر له، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه قال: استغفر له ما كان حيّاً، فلما مات أمسك، وأورد أيضاً من طريق مجاهد وقتادة وعمر بن دينار نحو ذلك.

وقيل: انّما تبرّء منه

يوم القيامة لما أيس منه حين مسخ، علي ما صرّح به في رواية ابن المنذر التي أشرت الهيا، وهذا أخرجه الطبري أيضاً من طريق عبد الملك بن أبي سليمان: سمعت سعيد بن جبير يقول: انّ إبراهيم يقول يوم القيامة: ربّ والدي، ربّ والدي، فإذا كانت الثالثة أخذ بيده فيلتفت اليه وهو غضبان فيتبرّء منه، ومن طريق عبيد بن عمير قال: يقول إبراهيم لأبيه: انّي كنت آمرك في الدنيا فتعصيني، ولست تاركك اليوم، فخذ بحقوتي، فيأخذ بضبعيه فيمسخ ضبعاً، فإذا رآه إبراهيم مسخ تبرّء منه.

ويمكن الجمع بين القولين: بأنه تبرّء منه لمّا مات مشركاً، فترك الاستغفار، لكن لما رآه يوم القيامة أدركته الرأفة والرقّة فسأل فيه، فلمّا رآه مسخ يئس منه حينئذ، وتبرّء منه تبرّياً أبديّاً.

وقيل: ان إبراهيم لم يتيقّن موته علي الكفر، لجواز أن يكون

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 46

آمن في نفسه ولم يطلع إبراهيم علي ذلك، ويكون وقت تبريته منه بعد الحالة التي وقعت في هذا الحديث» «1».

فسقوطها واضح لدي كلّ عاقل فضلًا عن الفاضل.

لأن حاصل الجواب الأول هو بيان الاختلاف في وقت تبري إبراهيم من آزر، وأي ب ربط لهذا بأصل الاشكال؟ اللّهمّ الّا أن يريد ابن حجر أنه بناءً علي القول بكون التبري في يوم القيامة، فلا منافاة بين ذلك وبين الآية المباركة «وَمَا كَانَ … »، لكنّه وجه سخيف جدّاً، وذلك لأنّه:

أوّلًا: تأويلٌ للآية «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» الظاهرة في وقوع ذلك في الزمان الماضي، ورفع اليد عن الظاهر بلا دليل ممنوع، كما هو معلوم.

وثانياً: إذا كان التبرّي في دار الدنيا، كما هو مفاد روايات متعدّدة، وقد صحّح ابن حجر نفسه بعضها، فالتنافي بين الشفاعة

والآية المباركة لازم لا محالة.

وثالثاً: علي فرض ثبوت الاختلاف في وقت التبرّي، ورجحان القول الثاني علي الأوّل، يندفع الاشكال المنقول عن غير الاسماعيلي، أمّا اشكال الاسماعيلي فلا يندفع بما ذكر.

ورابعاً: حمل التبرّي علي يوم القيامة، يوجب الاختلاف في

__________________________________________________

(1) فتح الباري 8: 406.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 47

سياق الآية المباركة، لأنّ الغرض من ذكر القصّة افادة أن إبراهيم عليه السلام قد منع من الاستغفار لأهل الشرك، وأنه قد تبرّء من أبيه مع كونه أوّاهاً حليماً، فيكون غيره من سائر المؤمنين ممنوعاً من ذلك بالأولويّة … وهذا ما فهمه الفخر الرازي أيضاً إذ قال:

«إعلم أنه تعالي انّما وصفه بهذين الوصفين في هذا المقام، لأنّه تعالي وصفه بشدّة الرقّة والشفقة والخوف والوجل، ومن كان كذلك فإنّه تعظم رقّته علي أبيه وأولاده، فبيّن تعالي أنّه مع هذه العادة تبرّء من أبيه وغلظ قلبه عليه، لما ظهر له اصراره علي الكفر، فانّهم بهذا المعني أولي، ولذلك وصفه أيضاً بأنه حليم، لأنّ أحد أسباب الحلم رقّة القلب وشدّة العطف، لأنّ المرء إذا كان حاله هكذا اشتدّ حلمه عند الغضب» «1».

وعلي هذا، فلو كان المراد التبرّي في الآخرة، فأين تكون أولويّة امّة الإسلام بذلك؟

هذا، وكأنّ ابن حجر عالم بضعف هذا الجواب، فاضطرّ الي أن يقول: «ولا يمكن الجواب … » لكنّه غير مطمئن بهذا الجواب، ولذا ذكره بلفظ «يمكن».

كما أنّ السيوطي قد اقتصر علي هذا الجواب إذ قال في كتاب

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 16: 211.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 48

(التوشيح): «واستشكل سؤال إبراهيم ذلك مع علمه بأنه تعالي لا يخلف الميعاد في ادخال الكافرين النار.

واجيب: بأنّه لما رآه أدركته الرأفة والرقّة، فلم يستطع الّا أن يسأل فيه»

«1».

لكن هذا الجواب- في الحقيقة- التزام بالإشكال، لأنّه بيان للداعي إلي الاستغفار، وهو الرحمة والرأفة، فيعود الاشكال بأنّه كيف تحقّقت منه هذه الرأفة وصدرت هذه الرحمة، مع علمه بعدم الجواز والحرمة؟ اللّهمّ الّا أن يقولوا: بأنّ الرحمة والرأفة تجوّز طلب ما لا يجوز، وهذا بديهي البطلان وضحكة للصبيان، لا يقول به عاقل بل جاهل فضلًا عن فاضل! ا

وأمّا قول ابن حجر: «وقيل: انّ إبراهيم … ».

فإن أراد من ذكره بيان ضعفه، فلا كلام فيه … وان أراد دفع الإشكال به، فهو ينافي الأخبار الصحيحة الواردة في علم سيّدنا إبراهيم بموت آزر علي الكفر، وقد أورد ابن حجر بعضها، وفي (الدر المنثور):

«أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله «فَلَمَّا تَبَيَّنَ

__________________________________________________

(1) التوشيح في شرح الصحيح 4: 250.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 49

لَهُ» «1»

.حين مات وعلم أنّ التوبة قد انقطعت منه.

وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو بكر الشافعي في فوائده والضياء في المختارة، عن ابن عبّاس قال: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتّي مات «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» يقول: لمّا مات علي كفره» «2».

حديث الصلاة علي ابن أبي سلول … ص: 49

(ومنها) ما أخرجه- وأخرجه مسلم أيضاً- في كتاب التفسير:

«عن ابن عمر قال: لمّا توفّي عبد اللَّه بن أبي، جاء ابنه عبد اللَّه بن عبد اللَّه إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه، فأعطاه، ثمّ سأله أنّ يصلّي عليه.

فقام رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ليصلّي عليه.

فقام عمر فأخذ بثوب رسول اللَّه فقال: يا رسول اللَّه، تصلّي عليه وقد نهاك ربّك أن تصلّي عليه؟

فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: انّما خيّرني

اللَّه فقال:

__________________________________________________

(1) سورة التوبة 9: 114.

(2) الدر المنثور 4: 300.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 50

«اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً» وسأزيده علي السبعين.

قال: انّه منافق!

قال: فصلّي عليه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

قال: فأنزل اللَّه «وَلَا تُصَلِّ عَلَي أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَيَ قَبْرِهِ»» «1».

وهذا الحديث- الذي وضعوه فضيلة لعمر بن الخطّاب- مكذوب حتماً وموضوع قطعاً. وقد نصّ- والحمد للَّه- علي ذلك غير واحد من أئمّة القوم:

كالغزالي بعد ذكر أخبار: «هذا مزيّف، فانّ هذه الوقائع لو جمعت ونقلت دفعة واحدة لم تورث العلم، وليس ذلك كوقائع حاتم وعلي مع كثرتها.

علي أنّ ما نقل في آية الانستغفار كذب قطعاً، إذ الغرض منه التناهي في تحقيق اليأس من المغفرة، فلا يظنّ برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ذهول عنه» «2».

وكالباقلّاني وإمام الحرمين في جماعة، كما ذكر شرّاح

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 6: 131.

(2) المنخول في علم الاصول: 212.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 51

البخاري:

قال القسطلاني: «وقد استشكل فهم التخيير من الآية علي كثير، وسبق جواب الزمخشري عن ذلك، وقال صاحب الانتصاف:

مفهوم الآية زلّت فيه الأقدام، حتّي أنكر القاضي أبو بكر الباقلاني صحّة الحديث وقال: لا يجوز أن يقبل هذا، ولا يصحّ أنّ الرسول صلّي اللَّه عليه وسلّم قاله. وقال إمام الحرمين في مختصره: هذا الحديث غير مخرج في الصحيح. وقال في البرهان: لا يصحّحه أهل الحديث. وقال الغزالي في المستصفي: الأظهر أنّ هذا الخبر غير صحيح. وقال الداودي الشارح: هذا الحديث غير محفوظ، وهذا عجيب … » «1».

وقال ابن حجر: «قال ابن المنير: مفهوم الآية زلّت فيه الأقدام، حتّي أنكر القاضي أبو بكر صحّة الحديث وقال: لا يجوز

أن يقبل هذا ولا يصحّ أن الرسول قاله. انتهي. ولفظ القاضي أبي بكر الباقلاني في التقريب: هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها، وقال إمام الحرمين في مختصره: هذا الحديث غير مخرج في الصحيح، وقال في البرهان: لا يصحّحه أهل الحديث، وقال الغزالي في المستصفي:

الأظهر أنّ هذا الخبر غير صحيح، وقال الداودي الشارح: هذا

__________________________________________________

(1) إرشاد الساري إلي صحيح البخاري 7: 155.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 52

الحديث غير محفوظ» «1».

حديث: كذب إبراهيم ثلاث كذبات … ص: 52

(ومنها) ما اخرج في الكتابين من أنّ إبراهيم عليه السّلام كذب ثلاث كذبات، ففي (الجمع بين الصحيحين):

«عن محمّد عن أبي هريرة: انّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لم يكذب إبراهيم النبي قط الّا ثلاث كذبات، ثنتين في ذات اللَّه:

قوله: «إِنِّي سَقِيمٌ» وقوله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا» وواحدة في شأن سارة، فانّه قدم أرض جبّار ومعه سارة- وكانت أحسن الناس- فقال لها:

انّ هذا الجبّار ان يعلم أنّك امرأتي يغلبني عليك، فان سألك فأخبريه أنّك أختي في الإسلام» «2».

وقد تكلّم الفخر الرازي علي هذا الحديث وأبطله، وعبَّر عن رواته بالحشويّة، فانظر الي نصّ كلامه حيث قال:

«واعلم أنّ بعض الحشوية روي عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه قال: ما كذب إبراهيم الّا ثلاث كذبات.

فقلت: الأولي أن لا يقبل مثل هذه الأخبار.

__________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 8: 272.

(2) الجمع بين الصحيحين 3: 184/ 2415.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 53

فقال- علي طريق الاستنكار- ان لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة.

فقلت له: يا مسكين، ان قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم عليه السلام، وان رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة، ولا شكّ أنّ صون إبراهيم عن الكذب أولي من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب»

«1».

هذا، وقد أورد عمر بن عادل كلام الرازي هذا وارتضاه «2».

حديث: أنّ نبيّاً أحرق بيت النمل … ص: 53

(ومنها) ما أخرجه البخاري من أنّ نبيّاً من الأنبياء أحرق بيت النمل بسبب أنّ نملة لدغته! قال:

«حدّثنا اسماعيل، ثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: انّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة، فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، ثمّ أمر ببيتها فاحرق بالنار، فأوحي اللَّه اليه: فهلا نملة واحدة!!» «3».

ويكفي في ابطال هذا الحديث كلام الفخر الرازي، الذي أورده الشاه عبد العزيز الدهلوي واستحسنه وارتضاه حيث قال: «وللإمام

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 26: 148.

(2) اللباب في علوم الكتاب 16: 324.

(3) صحيح البخاري 4: 262، كتاب بدء الخلق.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 54

فخر الدين الرازي في هذا المقام كلام يصدّقه العقل ويقع في القلب إذ قال: إنّ الروافض عندي أقل عقلًا وفهماً من نملة سليمان، لأنّ النملة قد خاطبت رفيقاتها قائلةً: «يَا أَيُّهَا الَّنمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيَمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ» فهي قد علمت أنّ جنود سليمان قد أثّرت فيهم المعاشرة معه فكانوا مهذَّبين ببركة صحبته، حتي أنهم لا يحطّمون النمل عن علم وعمد، ولا يظلمون الضعيف عن قصد، لكنّ الروافض لم يفهموا أنّ صحبة النبي الخاتم- وهو أفضل الأنبياء- ؤثّر في صحابته الملازمين له علي الدوام، فلا يرتكبون الخيإة والشرّ، فكيف ينسبون اليم الظلم لبنت رسول اللَّه وصهره وولده، وإحراق بيتهم عليهم، والإستيلاء علي أموالهم، وايذائهم بشتّي أنواع الأذي؟» «1».

وذلك: لأن البخاري وسائر من يقول بصحّة هذا الحديث سيكونون أقلّ فهماً من النملة، لأنّهم بتصديقهم هذا الحديث يجوّزون الظلم علي النّبي المعصوم!!

حديث أمر النبي بالأكل ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه … ص: 54

(ومنها) ما أخرجه البخاري في كتاب الذبائح قال:

__________________________________________________

(1) مختصر التحفة الإثنا عشريّة: 193- باب الإمامة.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله،

الصحيحان في الميزان، ص: 55

«حدّثنا معلّي بن أسد، حدّثنا عبد العزيز بن المختار قال:

حدّثنا موسي ابن عقبة قال: أخبرني سالم أنّه سمع عبد اللَّه يحدّث عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه لقي زيد بن عمرو بن فضيل بأسفل بلدح- وذاك قبل أن ينزل علي رسول اللَّه الوحي- فقدم اليه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم سفرةً فيها لحم، فأبي أن يأكل منها، ثمّ قال: انّي لا آكل ممّا تذبحون علي أنصابكم، ولا نأكل الّا ممّا ذكر اسم اللَّه عليه» «1».

فهل يشك المسلم في كذب هذا الحديث؟

والعجب من واضعه، فلم يستح أن ينسب الي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أمر الرجل بالأكل ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه، في حين ينسب الي الرجل الإباء عن الأكل ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه، فيكون أورع وأفضل من النبي، والعياذ باللَّه؟! وكيف يصدّقون بمثل هذا علي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في حين يبذلون كلّ جهودهم لتبرّئه أبي بكر من شرب الخمر قبل التحريم، ويكذّبون الخبر في ذلك، ويقولون: قد أعاذ اللَّه الصدّيقين من فعل الخنا وأقوال أهله وان كان قبل التحريم، كما في (نوادر الاصول) للحكيم الترمذي وسيجي ء عن قريب؟ ألم يكن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم من الصدّيقين؟

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 7: 165.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 56

تصرّف بعضهم في لفظ الحديث! … ص: 56

لكن ابن روزبهان التجأ الي الكذب والإفتراء علي العلّامة الحلّي، واضطرّ الي وضع تتمّة لهذا الحديث الموضوع، وذلك أنّه قال في الجواب عن كلام العلّامة الحلّي:

«أقول: من غرائب ما يستدلّ به علي ترك أمانة هذا الرجل وعدم الاعتماد والوثوق علي نقله: رواية هذا الحديث، فقد روي بعض الحديث ليستدلّ به علي مطولبه وهو

الطعن في رواية الصحاح، وما ذكر تمامه، وتمام الحديث: انّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لمّا قال زيد بن عمرو بن نفيل هذا الكلام قال: وانّا أيضاً لا نأكل من ذبيحتهم وممّا لم يذكر عليه اسم اللَّه تعالي، فأكلا معاً.

وهذا الرجل لم يذكر هذه التتمّة ليتمكّن من الطعن في الرواية.

نسأل اللَّه العصمة من التعصّب فانّه بئس الضجيع» «1».

أقول:

لكنَّ هذا الذي وصف به العلّامة الحلّي يرجع اليه، وهو المتّصف به، لأن الحديث في كتاب الذبائح من (صحيح البخاري) كما تقدّم، وهكذا نقله العلّامة الحلّي، ومن شاء فليراجع أصل كتاب

__________________________________________________

(1) إبطال الباطل- مخطوط.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 57

البخاري!!

وقد أخرج البخاري هذا الحديث الموضوع في كتاب المناقب، وليس فيه التتمّة التي زعمها ابن روزبهان، وهذه عبارته «باب حديث زيد بن عمرو ابن نفيل، حدّثني محمّد بن أبي بكر قال: حدّثنا سالم بن عبد اللَّه بن عمر: انّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، قبل أن ينزل علي النبي الوحي، فقدّمت الي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم سفرة فأبي أن يأكل منها، ثمّ قال زيد،: انّي لست آكل ممّا تذبحون علي أنصابكم ولا آكل الّا ما ذكر اسم اللَّه عليه، وانّ زيد بن عمرو كان يعيب علي قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها اللَّه، وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض، ثمّ تذبحونها علي غير اسم اللَّه، انكاراً لذلك واعظاماً له» «1».

فقد تبيّن أنه لم يكن من العلّامة الحلّي رحمه اللَّه خيانة في نقل الحديث، فلم يزد عليه ولم يحذف منه شيئاً، بل ابن روزوبهان قد كذب في دعوي التتمّة، لغرض الدفاع عن البخاري وكتابه، فحقّ أن

يقال في جوابه؟ انّ من غرائب ما يستدلّ به علي ترك أمانة هذا الرجل وعدم الاعتماد والوثوق علي نقله: رواية تتمّة مخترعة لهذا الحديث، وقد اخترعها ليستدل بها علي مطلوبه وهو دفع الطعن في رواية الصحاح،

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 5: 124.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 58

نسأل اللَّه العصمة من التعصّب فانّه بئس الضجيع.

وظهر أيضاً: أنّهم يحاولون التغطية علي شناعة بعض أحاديثهم بالزيادة فيه أو النقيصة عنه، علي حسب ما عرض لهم من ضيق الخناق.

وكما تصرّف ابن روزبهان في الحديث بدعوي الزيادة كما تقدم، فقد تصرف محمّد بن يوسف الصالحي الدمشقي في لفظه بشكل آخر، فقد قال في (سبل الهدي والرشاد):

«روي البخاري والبيهقي من طريق موسي بن عقبة، عن سالم بن عبد اللَّه ابن عمر عن ابن عمر- رضي اللَّه عنهما- أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لقي زيد ابن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، قبل أن ينزل عليه الوحي، فقدّمت الي رسول اللَّه سفرة فيها لحم، فأبي أن يأكل منها، ثمّ قال لزيد: انّي لست آكل ممّا تذبحون علي أنصابكم، ولا آكل الّا ما ذكر اسم اللَّه علي، وانّ زيد بن عمرو كان يعيب علي قريش ذبائحهم ويقول:

الشاة خلقها اللَّه تعالي وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض، ثمّ تذبحونها علي غير اسم اللَّه تعالي، انكاراً لذلك وإعظاماً له» «1».

لقد التفت هذا الرجل الي شناعة لفظ هذا الحديث، فلم يجد بُدّاً من أن يضيف اللّام الجارة الي لفظ زيد، فصارت الجملة: «ثمّ قال

__________________________________________________

(1) سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد 2: 182.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 59

لزيد» ليكون رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم هو فاعل «قال»،

وتكون جملة: «انّي لست آكل» مقول قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … والحال أنّ لفظ البخاري في كتاب المناقب من (صحيحه) خال من اللام والجملة هي: «ثمّ قال زيد» فكان زيد الفاعل للفعل «قال» وهو القائل: «انّي لست آكل»!

وأمّا الضمير في «أبي» وان احتمل- في رواية كتاب المناقب- عوده إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، لكنّه غير محتمل في لفظ رواية كتاب الذبائح، لأنّ الحديث هناك بلفظ «فقدم» - وكذلك هو في رواية الجرجاني والاسماعيلي كما سيأتي- وعليه، فلا يكون الضمير في «أبي» عائداً علي النبي، بل يعود إلي زيد …

وسيأتي أنّ أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة ينسبون أكل ذبيحة الأنصاب في هذه القصّة الي نفس رسول اللَّه … فيكون الضمير في «أبي» في حديث كتاب المناقب أيضاً عائداً علي «زيد»، لأنّ الحديث يفسّر بعضه بعضاً.

ومن هنا، فقد أسند ابن حجر والزركشي والسهيلي والقسطلاني وغيرهم من شرّاح الحديث الفعل «أبي» إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم …

والحاصل: انّ القضيّة واحدة، والحديث واحد، فكما لا يكون رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله هو الفاعل للفظ «أبي» في حديث كتاب

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 60

الذبائح، كذلك لا يكون هو الفاعل له في لفظ كتاب المناقب … والّا لزم تكذيب حديث كتاب الذبائح بحديث كتاب المناقب، فيكون الإشكال أقوي والافحام آكد.

توجيه البعض معني الحديث … ص: 60

وكيف كان، فلا دلالة في حديث البخاري علي إباء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله عن الأكل من ذبيحة الأصنام، ولذا اعترض ابن حجر علي ابن بطّال لمّا ادّعي ذلك، ورد عليه بعدم الوقوف علي ذلك في رواية من روايات القصّة … وهذا نصّ كلام ابن حجر بشرح

الحديث في كتاب المناقب:

«قوله: فقدّمت. بضم القاف. قوله: الي النبي، كذا الأكثر، وفي رواية الجرجاني: فقدم اليه النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم سفرة. قال عياض: الصواب الأول. قلت: رواية الاسماعيلي توافق رواية الجرجاني، ولذا أخرجه الزبير بن بكار والفاكهي وغيرهما.

وقال ابن بطّال: كانت السفرة لقريش، قدّموها للنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، فأبي أن يأكل منها، فقدّمها النبي لزيد بن عمرو بن نفيل، فأبي أن يأكل منها، وقال مخاطباً لقريش الذين قدّموها أوّلًا: انّا لا نأكل ما ذبح علي أنصابكم. انتهي. وما قاله يحتمل، ولكن لا أدري من أين له الجزم بذلك؟ فإنّي لم أقف عليه في رواية، وقد تبعه ابن المنير في

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 61

ذلك» «1».

أقول:

لقد أجاد ابن حجر في الردّ علي ابن بطّال، لكنّ قوله «وما قاله يحتمل» باطل جدّاً، فقد نقل ابن حجر- كما سيأتي- عن أكابر الأئمّة تصريحهم بأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- والعياذ باللَّه- قد أكل من ذبيحة الأصنام، ودعا زيداً إلي الأكل منها، فأبي زيد عن ذلك … فلا أساس لقول ابن بطّال من الصحّة أصلًا.

علي أنّ عبارة ابن بطّال صريحة في أنّ النبي- بعد أن أبي عن الأكل من تلك الذبيحة، دعا زيداً إلي الأكل منها. وهذا من القبح والشناعة بمكان، إذ كيف يحتمل أنّ النبي- مع ما عليه من الصيانة والأمانة والأخلاق الكريمة والأوصاف الحميدة- يأبي عن أمر ثمّ يدعو غيره اليه بلا ضرورة، فيواجه بالإباء ويجاب بما يقتضي الطعن والملامة؟ كلّا وحاشا، لا يجوّز ذلك ذو دين وعقل …

التزام بعضهم بمفاده الباطل … ص: 61

الّا أنّ أكثر المحقّقين منهم لم يسلكوا سبيل الخيانة والتحريف، كما صنع ابن روزبهان وصاحب سبل الهدي، بل استحوذ عليهم حبّ

__________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 7: 112.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 62

البخاري، فصدّقوا بأكاذيبه وافتراءاته، وسلّموا لغرائب مجعولاته وهفواته، فتري الدّاودي يذهب الي أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كان يأكل من ذبائح المشركين، لكونه جاهلًا بحرمة الأكل منها، أما زيد فقد علم بذلك فلم يأكل!!، قال ابن حجر،

«قال الداودي: كان النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قبل البعث يجانب المشركين في عباداتهم، ولكن لم يكن يعلم ما يتعلَّق بأمر الذبائح، وكان زيد قد علم ذلك من أهل الكتاب الذين لقيهم» «1».

فكان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- والعياذ باللَّه- يأكل من ذبائح أهل الكتاب عن جهل بحكمها، وقد علم بذلك أهل الكتاب، وتعلّمه منهم زيد بن عمرو، ولم يأكل … فانظر كيف يطعن في رسول اللَّه ويحطّ عليه؟ وكيف يجوّز المؤمن الديّن في حقّ الرسول الأمين، المؤيّد بالتأييد الالهي والمسدّد بالمدد الربّاني، أن يجهل حكماً من الأحكام الشرعيّة، ويرتكب شيئاً من المحرّمات الالهيّة، ويدعو غيره لا رتكابه؟

تكلّفات الآخرين في حلّ العقدة … ص: 62

ومن القوم من يأبي تكذيب حديث البخاري، ويستحيي من

__________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 7: 113.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 63

الإلتزام بمدلوله ومعناه الظاهر بل الصريح فيه، فاشكل عليه الأمر، وجعل يتكلَّف للخروج من المأزق!

قال السهيلي- بعد نقل حديث البخاري في كتاب الذبائح-:

«وفيه سؤال: يقال: كيف وفّق اللَّه زيداً الي ترك أكل ما ذبح علي النصب وما لم يذكر اسم اللَّه عليه، ورسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كان اولي بهذه الفضيلة في الجاهليّة، لما ثبت من عصمة اللَّه له؟

فالجواب من وجهين:

أحدهما: انّه ليس في الحديث حين لقيه ببلدح، فقدّمت اليه السفرة، انّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أكل

منها، وانّما في الحديث انّ زيداً قال حين قدّمت اليه السفرة: لا آكل ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه.

الجواب الثاني: انّ زيداً انّما فعل ذلك برأي رآه لا بشرع متقدم، وانّما تقدم شرع إبراهيم بتحريم الميتة لا بتحريم ما ذبح لغير اللَّه، وانّما نزل تحريم ذلك في الإسلام، وبعض الاصوليّين يقولون:

الأشياء قبل ورود الشرع علي الاباحة. فان قلنا: انّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كان يأكل ممّا ذبح علي النصب، فانّما فعل أمراً مباحاً وان كان لا يأكل منها، فلا اشكال، وان قلنا أيضاً: انّها ليست علي الإباحة ولا علي التحريم، وهو الصحيح، فالذبائح خاصّة لها أصل في تحليل

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 64

الشرع المتقدّم، فالشاة والبعير ونحو ذلك ممّا أحلّه اللَّه تعالي في دين من كان قبلنا، ولم يقدح في ذلك التحليل المتقدّم ما ابتدعوه، حتي جاء الإسلام وأنزل اللَّه سبحانه «وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ»، ألا تري كيف بقيت ذبائح أهل الكتاب علي أصل التحليل بالشرع المتقدم، ولم يقدح في التحليل ما أحدثوه من الكفر وعبادة الصلبان، فكذلك كان ما ذبحه أهل الأوثان محلّلًا بالشرع المتقدم حتي خصّه القرآن بالتحريم» «1».

أقول:

وهذا الكلام في غاية السخافة والركّة، فانّ مناط الإشكال ليس علي مجرّد أكل ذبيحة الأصنام، بل انّ تجويز أكلها ودعوة الغير الي ذلك قبيح جداً، فحصر الإشكال في الأكل دليلٌ علي عدم التدبر وقلّة التأمل، وكيف يصدق العاقل الدين أن لا يتنزّه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله عمّا تنزّه منه زيد، وهو المعصوم بالعصمة الالهيّة- بالإجماع القطعي- وأعقل الناس طُرّاً بلا خلاف:

قال القاضي عياض: «وأمّا وفور عقله، وذكاء لبّه، وقوّة حواسّه، وفصاحة لسانه، واعتدال حركاته،

وحسن شمائله، فلا مرية أنّه كان أعقل الناس وأذكاهم، ومن تأمل تدبيره أمر بواطن الخلق

__________________________________________________

(1) الروض الأنف 2: 360- 363.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 65

وظواهرهم وسياسة العامّة والخاصّة، مع عجيب شمائله وبديع سيره- فضلًا عمّا أفاضه من العلم وقدّره الشرع، دون تعلّم سبَقَ ولا ممارسة تقدمت ولا مطالعة للكتب منه- لم يمتر في رجحان عقله وثقوب فهمه لأول بديهة، وهذا ما لا يحتاج الي تقرير لتحقّقه.

وقد قال وهب بن منبِّه: قرأت في أحد وسبعين كتاباً، فوجدت في جميعها أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أرجح الناس عقلًا وأفضلهم رأياً. وفي رواية اخري: فوجدت في جميعها أنّ اللَّه تعالي لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا الي انقضائها من العقل في جنب عقله صلّي اللَّه عليه وآله وصحبه وسلّم، الّا كحبّة رمل من رمال الدنيا» «1».

فأيّ عاقل يقبل كلام السهيلي في حقّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، مع هذا المقام في العصمة والعقل والسداد؟

علي أنّ أكابر القوم وأئمّتهم يصرّحون بأكل النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم من ذبيحة الأصنام بالفعل.

يقول ابن حجر: «وقد وقع في حديث سعيد بن زيد الذي قدّمته، وهو عند أحمد: فكان زيد يقو ل: عذت بما عاذ إبراهيم، ثمّ يخرّ ساجداً للكعبة، قال: فمرّ بالنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وزيد بن حارثة وهما يأكلان من سفرة لهما، فدعياه، قال: يا ابن أخي لا آكل

__________________________________________________

(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 1: 161- 162.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 66

ممّا ذبح علي النصب، قال: فما رؤي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يأكل ممّا ذبح علي النصب من يومه ذلك.

وفي حديث زيد بن حارثة عند أبي يعلي والبزار وغيرهما قال:

خرجت

مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يوماً من مكة وهو مردفي، فذبحنا شاة علي بعض الأنصاب، فأنصجناها، فلقينا زيد بن عمرو، فذكر الحديث مطوّلًا وفيه: فقال زيد: انّي لا آكل ممّآ لم يذكر اسم اللَّه عليه» «1».

فهذا حديث أحمد وغيره من الأئمّة الأعلام … فأيّ فائدة في كلام السهيلي؟

علي أنّ ما ادّعاه، من عدم حرمة أكل ما ذبح لغير اللَّه في شريعة سيّدنا إبراهيم عليه السلام، فكذب صرف، لكنّ القوم يرتكبونه، حماية لأسلافهم وخرافاتهم!!

وقد كان من فضل اللَّه أن ردّ الزركشي دعوي السهيلي هذه، ونصَّ علي حرمة ما ذبح لغير اللَّه في الشريعة الإبراهيميّة، إذ قال في (التنقيح) بشرح الحديث من كتاب المناقب:

«فقدّمت له سفرة، فأبي أن يأكل.

ان قيل: كان نبيّنا صلّي اللَّه عليه وسلّم أولي بهذه الفضيلة.

__________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 7: 113.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 67

قلنا: ليس في الحديث أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أكل من السّفرة.

وأجاب السهيلي: بأنّ زيداً انّما قال ذلك برأي منه، لا بشرع متقدّم، وفي شرع إبراهيم تحريم الميتة لا تحريم ما ذبح لغير اللَّه، وانّما نزل تحريم ذلك في الإسلام.

وهذا الذي قاله ضعيف، بل كان في شريعة الخليل تحريم ما ذبح لغير اللَّه، وقد كان عدوّ الأصنام، واللَّه تعالي يقول: «ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً» «1»

» «2».

فالحمد للَّه علي أن جرت كلمة الحقّ هذه علي لسان الزركشي، وظهر أنّ دعوي السهيلي كذب وبهتان مبين، قصد به الحماية علي أسلافه الضالّين.

وجاء الخطّابي فسلك مسلكاً آخر … ذكره ابن حجر حيث قال:

«قوله: علي أنصابكم، بالمهملة، جمع نصب بضمّتين، وهي أحجار كانت حول الكعبة يذبحون عليها للأصنام.

قال الخطابي: كان النبي صلّي اللَّه عليه

وسلّم لا يأكل ممّآ يذبحون عليها للأصنام، ويأكل ما عدا ذلك، وان كانوا لا يذكرون اسم

__________________________________________________

(1) سورة النحل 19: 123.

(2) التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح 2: 797.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 68

اللَّه عليه، لأنّ الشرع لم يكن نزل بعد، بل لم ينزل الشرع بمنع أكل ما لم يذكر اسم اللَّه عليه الّا بعد البعث بمدّة طويلة» «1».

أقول:

لكن هذا الكلام شعري خطابي، ولا يرفع الإشكال عن حديث البخاري، لأنّه صريح في أن اللّحم الذي أمر النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم زيداً بالأكل منه كان مذبوحاً علي النصب، حتي أن زيداً قال للنبي: انّي لست آكل ممّا تذبحون علي أنصابكم. ومن هنا أورد البخاري، هذا الحديث في كتاب الذبائح، باب ما ذبح علي النصب والأصنام.

وأيضاً، فما أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلي، ونقله ابن حجر العسقلاني، صريح في أنّ ذلك اللّحم كان مذبوحاً علي النصب.

علي أنّ القول بأنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كان يأكل ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه، باطل كذلك، لما تقدَّم في كلام الزركشي من تحريم ما ذبح لغير اللَّه في شريعة سيّدنا الخليل عليه السّلام، فكيف ينسب ذلك الي رسول اللَّه؟

فظهر أنّ كلام الخطابي أيضاً ضرب في بارد الحديد، لا ينفع أصلًا في الخلاص عن الاشكال الشديد، وكيف يجوّز ذوعقل وفهم

__________________________________________________

(1) فتح الباري 7: 112- 113.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 69

سديد أنّ البشير النذير أكل ممّآ ذبح علي غير اسم الملك الحميد؟

فاللَّه يعصمنا بفضله من اتّباع الشيطان المريد.

حديث نفي توريث الأنبياء … ص: 69

(ومنها) ما أخرجه البخاري، وهذه ألفاظه في كتاب الفرائض:

«حدّثنا عبد اللَّه بن مسلمة، عن مالك عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: انّ أزواج النبي صلّي اللَّه عليه

وسلّم حين توفي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أردن أن يبعثن عثمان الي أبي بكر يسألنه ميراثهنّ، فقالت عائشة:

أليس قد قال رسول اللَّه: لا نورّث ما تركناه صدقة» «1».

وقد بيّن علماؤنا الأعلام في كتبهم المبسوطة أنّ هذا موضوع «2»، وقد وضعوه لأن يحرموا بضعة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 8: 266.

(2) بل لقد أجري اللَّه هذه الحقيقة علي لسان أحد الأئمة الحفّاظ منهم، وهو الحافظ ابن خراش، المتوفي سنة 283، وقد ذكر ذلك عنه الحافظ الذهبي بترجمة من كتاب تذكرة الحفّاظ 2: 684/ 705: «قال ابن عدي: سمعت عبدان يقول: قلت لابن خراش: حديث ما تركنا صدقة؟ قال: باطل، اتّهم مالك بن أوس بالكذب».

وكذا الحافظ ابن حجر بترجمة من لسان الميزان 3: 509: «وقال عبدان: قلت لابن خراش: حديث: لا نورّث ما تركنا صدقة؟ قال: باطل. قلت: من تتّهم به؟ قال: مالك بن أوس».

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 70

وآله ممّا ترك، فراجع كتاب (تشييد المطاعن) وغيره. ويكفي في تكذيبه أنّ عليّاً عليه السّلام ردّ عليه في كلام له مع أبي بكر، وأثبت مخالفة لكتاب اللَّه:

قال ابن سعد: «أخبرنا محمّد بن عمر، حدّثني هشام بن سعد، عن عبّاس بن عبد اللَّه بن معبد، عن أبي جعفر قال: جاءت فاطمة الي أبي بكر تطلب ميراثها، وجاء العبّاس بن عبد المطّلب يطلب ميراثه، وجاء معهما علي، فقال أبو بكر: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا نورّث ما تركنا صدقة، وما كان النبي يعول فعليَّ. فقال علي «وَوَرِثَ سُلَيَمانُ دَاوُودَ» «1»

وقال زكريّا: «يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» «2»

قال أبو بكر:

هو هكذا، وأنت تعلم مثل ما أعلم. فقال علي: هذا كتاب اللَّه ينطق.

فسكتوا

وانصرفوا» «3».

حديث مجادلة الإمام مع النبي في صلاة الليل … ص: 70

(ومنها) ما أخرجه البخاري، علي ما في كتاب (التحفه) للدهلوي، حيث جاء فيه:

«روي البخاري- الذي هو أصحّ الكتب عند أهل السنّة بعد

__________________________________________________

(1) سورة النمل 27: 16.

(2) سورة مريم 19: 6.

(3) الطبقات الكبري 2: 315.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 71

القرآن- بطرق متعدّدة أن الرسول صلّي اللَّه عليه وسلّم ذهب الي بيت الأمير والبتول ليلة وأيقظهما من مضجعهما، وأمرهما بصلاة التهجّد مؤكَّداً، فقال الأمير، واللَّه ما نصلّي الّا ما كتب اللَّه علينا. أي الصلاة المفروضة، وانّما أنفسنا بيد اللَّه. يعني: لو وفّقنا اللَّه لصلاة التهجّد لصلّينا. فرجع النبي وهو يضرب أنفسنا بيد اللَّه. ويقول: «وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلًا»» «1».

وانّ هذا لمن أقبح الافتراءات وأشنع الأكاذيب، أيّاً كان واضعه وراويه، لكنّ القوم لا يستحيون، وبه وبمثله يحتجّون؟

فل يصدق أحد اباء أميرالمؤمنين عليه السّلام عن قيام الليل والصلاة للَّه نافلةً، مع ما هو عليه من العبادة والعبوديّة للَّه عزّوجل؟

وهل يصدّق مجادلته مع رسول اللَّه في دعوته ايّاه الي القيام والصّلاة، مع ما كان عليه من كثرة إطاعته له في كلّ شي ء؟

وهل يصدق أن يستدل أمام النبيّ كاستدلال أهل الجبر؟

ان هذا الّا من وضع النواصب المبغضين للنبي والوصي، ولا يصدِّق به الّا من كان علي شاكلتهم!!

انّك لن تجد أحداً من آحاد المؤمنين يؤمر بالصّلاة فيأبي بهذه الشدّة ويقول: «واللَّه لا نصلّي الّا ما كتب اللَّه لنا» لا سيّما والآمر رسول اللَّه

__________________________________________________

(1) مختصر التحفة الاثني عشرية: 281، وانظر التحفة الاثني عشرية: 286.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 72

صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، لأنّ مثل هذا الكلام معه- وفي قبال دعوته الي الصلاة والعبادة- استخفاف به وبأمره، وهذا ما لا يصدر من أحد من سائر المؤمنين، فكيف

بمولانا علي عليه السّلام، الممتثل لأوامر رسول اللَّه، والتابع له في كلّ شي ء، والذي كان أعبد الناس بعده؟ يقول ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي عن عبادته عليه السّلام:

«وأمّا العبادة، فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوماً، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل وملازمة الأوراد وقيام النافلة، وما ظنّك برجل يبلغ من محافظته علي ورده أن يبسط له نطع بين الصفّين ليلة الهرير، فيصلّي عليه ورده والسهام تقع بين يديه، وتمرّ علي صماخيه يميناً وشمالًا فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتي يفرغ من وظيفته، وما ظنّك برجل كانت جبهته كثفنة البغير لطول سجوده!

وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته، ووقفت علي ما فيها من تعظيم اللَّه سبحانه وإجلاله، وما يتضمّنه من الخضوع لهيبته، والخشوع لعزّته والاستحذاء له، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من أيّ قلب خرجت، وعلي أيّ لسان جرت.

وقيل لعليّ بن الحسين عليه السّلام- وكان الغاية في العبادة-:

أين عبادتك من عبادة جدّك؟ قال: عبادتي عند عبادة جدّي كعبادة

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 73

جدّي عند عبادة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله» «1».

ويقول الشيخ محمّد بن طلحة الشافعي:

«الفصل السابع: في عبادته وزهده وورعه: أمّا عبادته عليه السّلام، فاعلم سلك اللَّه بنا وبك سبيل السعادة: أنّ حقيقة العبادة هي الطاعة؛ فكلّ من أطاع اللَّه تعالي، وقام بامتثال الأوامر واجتناب المناهي فهو عباد، ولمّا كانت متعلّقات الأوامر الصادرة من اللَّه تعالي علي لسان نبيّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كانت العبادة بحسب ذلك متنوّعة، فمنها الصلاة ومنها الصدقة ومنها الصيام الي غيرها من الأنواع، وكلّ ذلك كان عليه السّلام قائماً فيه، مقبلًا عليه مسارعاً اليه متحلّياً به، حتّي أدرك بمسارعته الي طاعة اللَّه ورسوله ما فات غيره، فانّه جمع

بين الصلاة والصدقة، فتصدّق وهو راكع في صلاته، فجمع بينهما في وقت واحد، حتي أنزل اللَّه تعالي فيه قرآناً يتلي الي يوم القيامة».

وقال بعد ذكر قصّة الصدقة ونزول الآية «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَي حُبِّهِ» في حقّه:

«اعلم أنّ أنواع العبادة كثيرة، وكان عليّ عليه السّلام جامعاً

__________________________________________________

(1) شرح نهج البلاغة 1/ 27.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 74

لجميعها، فانّ من تيقّن حقيقة الآخرة بأحوالها وتحقّق شدائد أهوالها، وأنّ كل نفس عند مردّها ومآلها تلزم بجواب سؤالها، وتجثو بين يدي خالقها لجدالها، وتجازي علي ما أسلفته من أعمالها، امّا بنعيمها وإما بنكالها، خليق أن يكون عن ساق جدّه في عبادته مشمّراً، وأن يجعل وقته علي اكتساب طاعات ربّه متوفّراً، فإنّه لا يقصر في العبادة الّا من فقد اليقين ولم يكن من المتّقين، وقد كان عليّ منطوياً علي يقين لا غاية لمداه ولا نهاية لمنتهاه، وقد صرّح بذلك تصريحاً مبيّناً فقال: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً، فكانت عبادته الي الغاية القصوي تبعاً ليقينه، وطاعته في الذروة العليا لمتانة دينه».

وقال أيضاً بعد ذكر طائفة من الروايات والأخبار:

«فهذه الوقائع والقضايا المفصّلة- التي أسفر له فجر نهارها وأبدر لديه قمر شعارها، وظهر عليه سرّ آثارها وانتشر عنه خبر أسارها- شاهدة له أنّه في العبادة ابن جلاها وفارع ذروة علاها، وضارب في أعشارها بمعلاها، وراكب من مطيّتها غارب مطاها، قد صدعت منطوقها ومفهومها، بأنّه قد حوي مقامات العابدين حتّي حلّ مقام الإمامة، واتّصف بسمات الزاهدين، فبيده زمام الزعامة، فتحلّي بالأمانة والعبادة والمحبّة والزهد والورع والمعرفة والتوكّل والخوف والرجاء والصبر والشكر والرضا والخشية، فهو ذو إخبات وتفكّر، ونسك وتدبّر وتهجّد وتذكّر وتأوّه وتحسّر، وأذكار وأوراد وإصدار وإيراد، فكابد من أنواع

العبادات ووظائف الطاعات ما لا يكاد الأقوياء

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 75

ينهضون بحمل أعبائه، الي أن نزل القرآن الكريم بمدحته، وأسفر بالثناء عليه من التنزيل وجه صحّته، حتي نقل الواحدي رضي اللَّه عنه في تفسيره، يرفعه بسنده إلي ابن عبّاس رضي اللَّه عنه قال: انّ عليّ ابن أبي طالب تملّك أربعة دراهم، فتصدّق بدرهم ليلًا، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سرّاً، وبدرهم علانية، فنزلت فيه قوله تعالي: «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» ومن تأمّل ما قصصناه من الوقائع والقضايا، وتدبّر ألفاظها ومعانيها، وجدها صادعة بالشهادة له بهذه المقدّمات، جامعة في ما فصّله القلم من الصفات، وكفاه شرفاً انزال اللَّه عزّوجلّ مدحه في السور والآيات، وانّها تتلي بألسنة الامّة الي يوم القيامة في وظائف الصلاة.

هذي المزايا بعض ما حُلّي بها وحُبي من الخيرات والبركات

وله وظائف طاعة أورادها معمورة الآناء والأوقات

بعبادة وزهادة وتورّع وتخشّع وتدرّع الإخبات

وتقلّل وتوكّل وتفكّر وتدبّر وتذكّر المثلات

وإذا الظلام سجي يناجي ربّه متضرّعاً بالذكر والدعوات

يعنوله بخضوع قلب خاشع وهموع طرف مسبل العبرات

عِلمٌ علت درجاته وفضائل شرفت معارجها علي الشُرُفات

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 76

ومناقبٌ نطقت بها آي الكتاب وحسبها ان جاء شاهدها من الآيات» «1»

قال: «ونقل أنّ معاوية قال بعد موت عليّ لضرار بن صرد:

صف لي عليّاً. فقال: أو تعفني؟ قال: بل صفه. قال: أو تعفني؟ قال:

لا أعفيك. قال: أمّا إذا لابدّ فأقول ما أعلمه منه:

كان- واللَّه- بعيد المدي، شديد القوي، يقول فصلًا، ويحكم عدلًا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس باللّيل وظلمته، كان- واللَّه- غزير

الدمعة، طويل الفكرة، يقلّب كفّيه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللّباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، كان- واللَّه- كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويبتدينا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن واللَّه مع تقريبه لنا وقربه منّا، لا نكلّمه هيبة ولا نبتديه عظمة، ان تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظِّم أهل الدين، ويحبّ المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فاشهد باللَّه لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخي الليل سجوفه وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه قابضاً علي لحيته، يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين، وكأنّي أسمعه ويقول: يا دنيا يا دنيا، أبي تعرّضت أم اليّ

__________________________________________________

(1) مطالب السؤول: 137.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 77

تشوّقت! هيهات هيهات، غرّي غيري، قد بتتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كثير، آه من قلّة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. قال:

فذرفت دموع معاوية علي لحيته، فلم يملكها وهو ينشفها بكمّة، وقد أخفق القوم بالبكاء.

فقال معاوية: رحم اللَّه أبا الحسن، كان- واللَّه- كذلك. فكيف حزنك عليه يا ضرار؟

قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها، فلا ترقُ عبرتها ولا يسكن حزنها» «1».

وعلي الجملة، فلا يمكن وصف زهد الإمام في دار الدنيا، وعبادته للَّه تبارك وتعالي، ولا يمكن لأحد انكار ذلك، بل حتي أعداؤه يعترفون، وليت أتباع معاوية اعترفوا كما اعترف، ولم يوافقوا علي الحديث الموضوع المختلق!

وأمّا ما في الحديث، من نسبة التمسّك بشبه الجبريّة الي الإمام عليه السلام، فانّها أقبح وأشنع من نسبة الاباء عن الصّلاة عليه، لأنّ التمسّك بالقدر عند مثبتيه في غاية الشناعة، ونسبة ذلك الي أميرالمؤمنين كفر وضلال … وإليك جملة من عبارات ابن تيميّة في بطلان الاحتجاج بالقدر:

__________________________________________________

(1) مطالب

السؤول: 131- 132.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 78

«الاحتجاج بالقدر حجّة باطلة داحضة باتّفاق كلّ ذي عقل ودين من جميع العالمين، والمحتج به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجّة إذا احتجّ بها في ظلم أتاه وترك ما يجب عليه من حقوقه، بل يطلب منه ماله عليه ويعاقبه علي عداوته، وانّما هي من جنس شبه السوفسطائيّة التي تعرض في العلوم، فكما أنّك تعلم فسادها بالضرورة وان كانت تعرض لكثير من الناس، حتي قد يشكّ في وجود نفسه وغير ذلك من المعارف الضروريّة، فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتّي يظنّ أنّها شبهة في اسقاط الصدق والعدل الواجب وغير ذلك، واباحة الكذب والظلم وغير ذلك، ولكن يعلم القلوب بالضرورة أنّ هذه شبهة باطلة، وهذه لا يقبلها أحد عند التحقيق، ولا يحتجّ بها أحد الّا مع عدم علمه بالحجّة بما فعله، فإذا كان مع علمه بأنّ فعله هو المصلحة وهو المأمور، وهو الذي ينبغي فعله، لم يحتج بالقدر، وكذلك إذا كان معه علم بأنّ الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله، أو ليس بمصلحة، أو ليس هو مأموراً به، لم يحتج بالقدر، بل إذا كان متّبعاً لهواه بغير علم احتجّ بالقدر، ولهذا لمّا قال المشركون «لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْ ءٍ» قال اللَّه تعالي: «هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلَّا تَخْرُصُونَ* قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ».

فانّ هؤلاء المشركين يعلمون- بفطرتهم وعقولهم- أنّ هذه

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 79

الحجّة داحضة وباطلة، فانّ أحدهم لو ظلم الآخر في ماله أو فرج امرأته أو قتل ولده أو كان مصرّاً علي الظلم، فنهاه

الناس عن ذلك فقال: لو شاء اللَّه لم أفعل هذا، لم يقبلوا هذه الحجّة، وهو لا يقبلها من غيره، وانّما يحتجّ بها المحتج دفعاً للّوم بلا وجه، فقال اللَّه لهم: «هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا» بأنّ هذا السؤال من أمر اللَّه وأنّه مصلحة ينبغي أن يفعل «إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلَّا تَخْرُصُونَ» تحرزون وتفترون.

فعمدتكم في نفس الأمر طلبكم وحرصكم، ليس عمدتكم في نفس الأمر كون اللَّه شاء ذلك وقدّره، فإنّ مجرّد المشيّة والقدرة لا تكون عمدة لأحد في الفعل، ولا حجّة لأحد علي أحد، ولا عذراً لأحد، والناس كلّهم مشتركون في القدر، فلو كان هذا حجّة وعمدة، لم يحصل فرق بين العادل والظالم والصادق والكاذب والعالم والجاهل والبرّ والفاخر، فلم يكن فرق بين ما يصلح الناس من الأعمال وما يفسدهم، وما ينفعهم وما يضرّهم.

وهؤلاء المشركون المحتجّون بالقدر علي ترك ما أرسل اللَّه به رسله ممن توحيده والايمان به، لو احتجّ بعضهم علي بعض في سقوط حقوقه ومخالفة أمره لم يقبله منه، بل كان هؤلاء المشركون يذمّ بعضهم بعضاً علي فعل ما يرونه تركاً لحقّهم أو ظلماً، فلمّا جاءهم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يدعوهم الي حقّ اللَّه علي عباده

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 80

وطاعة أمره احتجّوا بالقدر، فصاروا يحتجّون بالقدر علي ترك حقّ ربّهم ومخالفة أمره بما لا يقبلونه ممّن ترك حقّهم وخالف أمرهم» «1».

وله كلام آخر طويل في تقبيح الإحتجاج بالقدر وإبطاله، ثمّ انّه في آخر الكلام،- لنصبه وعداوته لأميرالمؤمنين عليه السّلام- ينسب القدر اليه، ويتعرّض للخبر الموضوع عليه، وهذه عبارته:

«ثمّ نعلم إنّ هذه الحجّة باطلة بصريح العقل عند كلّ أحد مع الإيمان بالقدر وبطلان هذه الحجّة

لا يقتضي التكذيب بالقدر، وذلك أنّ بني آدم مفطرون علي احتياجهم الي جلب المنفعة ودفع المضرّة، ولا يعيشون ولا يصلح لهم دنيا ولا دين الّا بذلك، فلابدّ أن يأتمروا بما فيه تحصيل منافعهم ودفع مضارّهم، سواء بعث اليهم رسول أو لم يبعث، لكن علمهم بالمنافع والمضار بحسب عقولهم وقصودهم، والرسل صلوات اللَّه عليهم بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فأتباع الرسل أكمل الناس في ذلك، والمكذّبون للرسل انعكس الأمر في حقّهم، فصاروا يتّبعون المفاسد ويعطّلون المصالح، فهم شرّ الناس، ولابدّ لهم مع ذلك من امور يجتلبونها وامور يجتنبونها، وأن يدافعوا جميعاً ما يضرّهم من الظلم والفواحش ونحو ذلك.

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 2: 3- 5.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 81

فلو ظلم بعضهم بعضاً في دمه وماله وحرمته، فطلب المظلوم الاقتصاص والعقوب، لم يقبل أحد من ذوي العقول احتجاج بالقدر، ولو قال: اعذروني فان هذا كان مقدّراً عليّ، لقالوا: وأنت لو فعل بك ذلك فاحتجّ عليك ظالمك بالقدر لم تقبل منه، وقبول هذه الحجّة توجب الفساد الذي لا صلاح معه، وان كان الاحتجاج بالقدر مردوداً في فطر جميع الناس وعقولهم، مع أنّ جماهير الناس مقرّون بالقدر، فعلم أنّ الاقرار بالقدر لا ينافي دفع الاحتجاج به، بل لابدّ من الايمان به ولابدّ من ردّ الاحتجاج به.

ولمّا كان الجدل ينقسم الي حقّ وباطل، وكان من لغة العرب أنّ الجنس إذا انقسم الي نوعين أحدهما أشرف من الآخر، خصّوا الأشرف باسم الخاص وعبّروا عن الآخر باسم العام، كما في لفظ الجائز العام والخاص والمباح العام والخاص، وذوي الأرحام العام والخاص، ولفظ الجواز العام والخاص، ويطلقون لفظ الحيوان علي غير الناطق، لاختصاص الناطق باسم الإنسان، غلوا في لفظ الكلام

والجدل، فلذلك يقولون فلان صاحب كلام ومتكلّم إذا كان يتكلّم بلا علم، ولهذا ذمّ السلف أهل الكلام والكلام، وكذلك الجدل إذا لم يكن الكلام بحجّة صحيحة لم يكن الّا جدلًا محضاً.

والإحتجاج بالقدر من هذا الباب، كما في الصحيح: عن عليّ رضي اللَّه عنه قال: طرقني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وفاطمة

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 82

فقال: ألا تقومان تصلّيان؟ فقلت: يا رسول اللَّه، انّما أنفسنا بيد اللَّه، ان شاء أن يبعثنا بعثنا. قال: فولّي وهو يقول: «وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلًا»، فانّه لمّا أمرهم بقيام اللّيل فاعتلّ علي بالقدر وأنّه لو شاء اللَّه لأيقظنا، علم النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّ هذا ليس فيه الّا مجرّد الجدل الذي ليس بحق فقال: «وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلًا»» «1».

وإذا كان التمسّك والإحتجاج بالقدر بهذه المثابة من القبح، فانّ نسبة ذلك إلي الإمام عليه الصلاة والسلام لا يكون الّا عن النصب والعناد له، ولا يصدق به أحد من ذوي الفهم والعقل، فضلًا عن أهل الايمان والايقان.

بل لقد ذكر ابن تيميّة في موضع آخر من كتابه، أنّ من يحتجُّ بالقدر فهو شرّ من اليود والنصاري … الي غير ذلك، وهذا نصّ كلامه:

«وهذا السؤال- أعني لزوم افحام الأنبياء في جواب الكفّار- انّما يتوجّه علي من يسوّغ الاحتجاج بالقدر، ويقيم عذر نفسه أو غيره إذا عصي بأنّ هذا مقدّر، علي أنّ شهود الحقيقة الكونيّة- وهؤلاء كثيرون في الناس، وفيهم من يدّعي أنّه من الخاصّة العارفين أهل التوحيد، الذين فنوا في توحيد الربوبيّة- يقولون: انّ العارف إذا فني في شهود توحيد الربوبيّة لم يستحسن حسنه ولم يستقبح قبحه، وهذا الضرب كثير في

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 2: 13- 15.

سلسلة اعرف

الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 83

متأخّري الشيوخ النسّاك والصوفيّة والفقراء بل في الفقهاء والامراء والعامّة، ولا ريب أنّ هؤلاء شرّ من الشيعة والمعتزلة الذين يقرّون بالأمر والنهي وينكرون القدر.

وبمثل هؤلاء طال لسان المعتزلة والشيعة في المنتسبين الي السنّة، فإنّ من أقرّ بالأمر والنهي والوعد والوعيد وفعل الواجبات وترك المحرّمات، ولم يقل أنّ اللَّه خلق أفعال العباد، ولا يقدر علي ذلك ولا شاء المعاصي، هو قد قصد تعظيم الأمر وتنزيه اللَّه تعالي عن الظلم وإقامة حجّة اللَّه علي نفسه، لكن ضاق عطنه فلم يخيّل الجمع بين قدرة اللَّه التامّة، وبين المشيّة العامة وخلقه الشامل، بين عدله وحكمته وأمره ونهيه ووعده ووعيده، فجعل للَّه الحمد ولم يجعل له تمام الملك، والذين أثبتوا قدرته ومشيّته وخلقه، وعارضوا بذلك أمره ونهيه ووعده ووعيده شرّ من اليود والنصاري، كما قال هذا المصنّف، فانّ قولهم يقتضي افحام الرسل، ونحن انّما نرد من أقوال هذا وغيره ما كان باطلًا، وأما الحق فعلينا أن نقبله من كلّ قائل، وليس لأحد أن يرد بدعة ببدعة ولا يقابل باطلًا بباطل، والمنكرون للقدر وان كانوا في بدعة، فالمحتجّون به علي الأمر أعظم بدعة، وان كان أولئك يشبهون المجوس، فهؤلاء يشبهون المشركين المكذّبين للرسل الذين قالوا «لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْ ءٍ» وقد كان في أواخر عصر الصحابة رضي اللَّه تعالي عنهم جماعة من هؤلاء القدرية، وأما

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 84

المحتجون بالقدر علي الأمر، فلا يعرف لهم طائفة من طوائف المسلمين معروفة، وانّما كثروا في المتأخّرين» «1».

حديث خطبة بنت أبي جهل … ص: 84

(ومنها) ما أخرجه البخاري: من أنّ أميرالمؤمنين عليه السّلام خطب بنت أبي جهل علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وفي

حياة الصدّيقة الطاهرة … في قضيّة موضوعة مكذوبة … قال:

«حدّثنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، ثني علي بن حسين:

أنّ المسور بن مخرمة قال: انّ عليّاً خطب بنت أبي جهل، فسمعت بذلك فاطمة، فأتت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فقالت: يزعم قومك أنّك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل. فقام رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فسمعته حين تشهد يقول: أما بعد، فانّي أنكحت أبا العاص ابن الربيع فحدّثني وصدقني وانّ فاطمة بضعة منّي وانّي أكره أن يسوءها، واللَّه لا يجتمع بنت رسول اللَّه وبنت عدوّ اللَّه عند رجل.

فترك علي الخطبة» «2».

فانّ هذا الحديث فيه ذمّ ومنقصه، ولا يصدّق به مؤمن أبداً،

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 2: 11- 12.

(2) صحيح البخاري 5: 95 و 4: 185.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 85

وكيف يمكن صدوره من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وقد كان يعلن منذ بدء الإسلام الي ساعة وفاته عن فائل أميرالمؤمنين ومناقبه ويشيعها بين الناس؟

وقد اعترف بعض أئمّة القوم بدلالته علي الذم، فذا ابن حجر يقول بشرحه:

«ولا أزال أتعجّب من المسور كيف بالغ في [تغضيبه لعليّ بن الحسين، حتي قال انّه أودع عنده السيف لا يمكن أحداً منه حتّي تزهق روحه، رعاية لكونه ابن فاطمة، ولم يراع خاطره في أنّ ظاهر سياق الحديث غضاضة علي عليّ بن الحسين، لما فيه من ايهام غضّ من جدّه عليّ بن أبي طالب، حيث أقدم علي خطبة بنت أبي جهل علي فاطمة، حتي اقتضي من النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم في ذلك من الإنكار ما وقع» «1».

وقد ذكر الدهلوي صاحب (التحفة) خبر الكلام الذي دار بين أبي حنيفة والأعمش حول هذا الحديث، وقول أبي

حنيفة للأعمش بأنّ نقل هذا الحديث من سوء الأدب «2».

فكيف يصدّق بأنّ الإمام السجاد عليه السّلام قد روي هذا

__________________________________________________

(1) فتح الباري 7: 69، 6: 162، 9: 268- 269.

(2) التحفة الاثني عشرية: 355.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 86

الحديث وسكت عليه؟ «1».

حديث شأن نزول «وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ … » … ص: 86

(ومنها) ما أخرجه البخاري: من قصّة أصحاب النبي مع أصحاب عبد اللَّه ابن أبي، الذي كان رئيس المنافقين بعد تظاهره بالاسلام، ونزول الآية «وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا» في القصّة، وهذه ألفاظه في كتاب الصّلح:

«حدّثنا مسدّد، ثنا معتمر قال: سمعت أبي أنّ أنساً قال: قيل للنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: لو أتيت عبد اللَّه بن أبي، فانطلق اليه النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وركب حماراً، فانطلق المسلمون يمشون معه، وهي أرض سبخة، فلمّا أتاه النبي قال: اليك عنّي، واللَّه لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار منهم: واللَّه لحمار رسول اللَّه أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد اللَّه رجل من قومه، فشتما، فغضب لكلّ واحد منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنّها نزلت «وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا»» «2».

فإنّ القول بنزول الآية المباركة في هذه القضيّة كذب قطعاً، لأن

__________________________________________________

(1) وفي هذا الموضوع رسالة مطبوعة ضمن (الرسائل العشر في الأحاديث الموضوعة) تأليف السيد علي الحسيني الميلاني، فليرجع اليها من شاء التفصيل.

(2) صحيح البخاري 4: 19.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 87

هذه القضية قد وقعت قبل الإسلام الظاهري للرجل، ولو كانت بعده فلا ريب في كفره وضلاله وكذا أصحابه، لقوله لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «اليك عنّي، واللَّه لقد آذاني نتن حمارك» فكيف يسمّيه اللَّه وأصحابه ب «المؤمنين»؟

ومن هنا قال ابن بطال: «يستحيل نزولها

في قصّة … » كما قال الزركشي في (التنقيح) في شرحه:

«فبلغنا أنّها نزلت «وَإِن طَائِفَتَانِ» قال ابن بطّال: يستحيل نزولها في قصّة عبداللَّه بن أبي وأصحابه، لأنّ أصحاب عبد اللَّه ليسوا بمؤمنين ز وقد تعصّبوا له بعد الاسلام في قصّة الافك، وقد رواه البخاري في كتاب الاستيذان عن اسامة بن زيد رضي اللَّه عنهما: انّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم مرّ في مجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين وعبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد اللَّه بن أبي، فذكر الحديث. فدلّ علي أنّ الآية لم تنزل فيه، وانّما نزلت في قوم من الأوس والخزرج، اختلفوا في حقّ، فاقتتلوا بالعصي والنعال» «1».

ومن الطرائف محاولة ابن حجر الردّ علي كلام ابن بطّال بقوله:

«وقد استشكل ابن بطّال نزول الآية المذكورة وهي قوله تعالي

__________________________________________________

(1) التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح 2: 596.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 88

«وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا» «1»

في هذه القصّة، لأنّ المخاصمة وقعت بين من كان مع النبي من الصحابة وبين عبد اللَّه بن أبي، وكانوا إذ ذاك كفّاراً، فكيف ينزل فيم «وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ولا سيّما ان كانت قصّة أنس واسامة متّحدة، فإنّ في رواية اسامة: فاستبّ المسلمون والمشركون.

قلت: يمكن أن يحمل علي التغليب، مع أنّ فيها اشكالًا من جهة أخري، وهي: انّ حديث اسامة صريح في أنّ ذلك كان قبل وقعة بدر وقبل أن يسلم عبد اللَّه بن ابي وأصحابه، والآية المذكورة في الحجرات ونزولها متأخر جدّاً وقت مجي ء الوفود، لكنّه يحتمل أن يكون آية الاصلاح نزلت قديماً، فيندفع الإشكال» «2».

أقول:

إنّ الحمل علي التغليب بلا دليل من الكتاب أو السنّة غير مقبول، ولعلّه ملتفت الي ضعفه فقال: «يمكن … ».

خبر عدم تفضيل الإمام علي الصّحابة بعد الخلفاء … ص: 88

__________________________________________________

(1) سورة الحجرات

49: 9.

(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 5: 228.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 89

(ومنها) ما أخرجه البخاري في مناقب عثمان:

«عن ابن عمر قال: كنّا في زمن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ نترك أصحاب النبي لا نفاضل بينهم» «1».

لكن الأدلّة القاطعة والبراهين الساطعة علي أفضليّة أميرالمؤمنين عليه السلام من الشيخين- فضلًا عن الثالث- كثيرة جدّاً، غير أنّ واضع هذه الفرية لم تسمح له نفسه الدنيّة لأن يقول بأفضلية عمّن سوي الثلاثة، فزعم المساواة بينه وبين معاوية وعمرو بن العاص وأمثالهما …

والعياذ باللَّه.

وما أكثر الأحاديث والأخبار في بطلان هذه الفرية وسقوطها، حتّي من طرق أهل السنة وأسانيدهم … ومن هنا، فقد بالغ ابن عبد البرّ في ردّ الخبر، ونقل كلام ابن معين في إبطاله، فقال ما نصّه:

«أخبرنا محمّد بن زكريّا ويحيي بن عبد الرحمن وعبد الرحمن بن يحيي قالوا: حدّثنا أحمد بن سعيد بن حزم، ثنا أحمد بن خالد، ثنا مروان بن عبد الملك قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعرف لعلي سابقته وفضله، فهو صاحب سنّة. فذكر له هؤلاء الذين يقولون: أبو بكر وعمر وعثمان ثمّ يسكتون، فتكلَّم فيهم بكلام غليظ. وكان يحيي بن معين يقول: أبو بكر وعمر وعلي وعثمان.

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 5: 82.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 90

قال أبو عمرو: من قال بحديث ابن عمر: كنّا نقول علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ نسكت، يعني لا نفاضل، وهو الذي أنكر ابن معين وتكلّم فيه بكلام غليظ، لأنّ القائل بذلك قد قال بخلاف ما اجتمع عليه أهل السنة من السلف والخلف

من أهل الفقه والأثر: انّ عليّاً أفضل الناس بعد عثمان، هذا ممّا لم يختلفوا فيه، وانّما اختلفوا أيّهما أفضل علي أو عثمان، واختلف السلف أيضاً في تفضيل علي وأبي بكر.

وفي إجماع الجميع الذي وصفنا دليل علي أنّ حديث ابن عمر وهم غليظ، وأنّه لا يصحّ معناه وانّ كان اسناده صحيحاً، ويلزم من قال به أنّ يقول بحديث جابر وأبي سعيد: كنّا نبي امّهات الأولاد علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وهم لا يقولون بذلك، فقد ناقضوا، وباللَّه التوفيق» «1».

حديث أخذ الأجر علي كتاب اللَّه … ص: 90

(ومنها) ما أخرجه البخاري في كتاب الطب:

«حدّثنا سيدان بن مضارب أبو محمّد الباهلي قال: حدّثنا أبو معشر يوسف ابن يزيد البراء قال: حدّثني عبيداللَّه بن الأخنس أبو

__________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3: 1116.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 91

مالك، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عبّاس: انّ نفراً من أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم مرّوا بماء فيهم لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل السماء فقال: هل فيكم من راق؟ انّ في الماء رجلًا لديغاً أو سليماً.

فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب علي شاء، فبرأ، فجاء بالشاء الي أصحابه، فكرهوا ذلك قالوا: أخذت علي كتاب اللَّه أجراً، حتّي قدموا المدينة فقالوا: يا رسول اللَّه، أخذ علي كتاب اللَّه أجراً! فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: انّ أحقّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب اللَّه» «1».

وهذا الحديث أورده أبو الفرج ابن الجوزي برواية عائشة في كتاب (الموضوعات) «2».

حديث أسباط في الاستسقاء … ص: 91

(ومنها) ما أخرجه- بعد رواية ابن مسعود- في استسقاء الكفّار:

عن مسروق قال:

«أتيت ابن مسعود فقال: انّ قريشاً أبطؤا عن الإسلام، فدعا عليهم النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، فأخذتهم سنة حتي هلكوا فيها، وأكلوا الميتة والعظام، فجاء أبو سفيان فقال: يا محمّد، جئت تأمر بصلة

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 7: 241.

(2) كتاب الموضوعات 1: 229.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 92

الرحم، وانّ قومك قد هلكوا، فادع اللَّه، فقرأ: «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ» الآية. ثمّ عادوا إلي كفرهم، فذلك قوله تعالي:

«يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَي» يوم بدر-:

وزاد أسباط عن منصور: فدعا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعاً، وشكا الناس كثرة المطر فقال:

اللّهمّ حوالينا ولا علينا، فانحدرت السحابة عن رأسه، فسقوا الناس

حولهم» «1».

وقد تكلّم الأئمة في هذه الزيادة:

قال العيني: «واعترض علي البخاري بزيادة أسباط هذا.

فقال الداودي: أدخل قصّة المدينة في قصّة قريش وهو غلط.

وقال أبو عبد الملك: الذي زاده أسباط وهم واختلاط، لأنّه ركّب سند عبد اللَّه بن مسعود علي متن حديث أنس بن مالك، وهو قوله: فدعا رسول اللَّه فسقوا الغيث. إلي آخره.

وكذا قال الحافظ شرف الدين الدمياطي وقال: حديث عبد اللَّه بن مسعود كان بمكة، وليس فيه هذا.

والعجب من البخاري كيف أورد هذا وكان مخالفاً لما رواه الثقات؟

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 2: 74- 75.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 93

وقد ساعد بعضهم البخاري بقوله: لا مانع أن يقع ذلك مرّتين.

وفيه نظر لا يخفي.

وقال الكرماني: فان قلت: قصّة قريش والتماس أبي سفيان كانت في مكة لا في المدينة. قلت: القصة مكيّة، الّا القدر الذي زاد أسباط، فانّه وقع في المدينة» «1».

حديث تكثر لكم الأحاديث من بعدي … ص: 93

(ومنها) حديث نصّ التفتازاني علي إيراد البخاري ايّاه في صحيحه، وقد طعن فيه المحدّثون، وقال يحيي بن معين بأنّه حديث وضعته الزنادقة، وهو قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «تكثر لكم الأحاديث من بعدي، فإذا روي لكم حديث فأعرضوه علي كتاب اللَّه» ذكر ذلك كلّه التفتازاني في (التلويح- شرح التوضيح) في كلام له حيث قال:

«قوله: وانّما يرد خبر الواحد في معارضة الكتاب، لأنّه مقدّم لكونه قطعيّاً متواتر النظم لا شبهة في متنه ولا في سنده، لكنّ الخلاف انّما هو في عمومات الكتاب وظواهرها، فمن يجعلها ظنّيّة يعتبر بخبر الواحد إذا كان علي شرائطه عملًا بالدليلين، ومن يجعل العام قطعيّاً، فلا

__________________________________________________

(1) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 7: 27- 29.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 94

يعمل بخبر الواحد في معارضته، ضرورة أنّ الظنّي يضمحلّ

بالقطعي، فلا ينسخ الكتاب به ولا يزاد عليه أيضاً، لأنّه بمنزلة النسخ.

واستدلّ علي ذلك بقوله عليه السّلام: تكثر لكم الأحاديث من بعدي، فإذا روي لكم حديث فأعرضوه علي كتاب اللَّه، فما وافق كتاب اللَّه فاقبلوه وما خالفه فردّوه.

واجيب: بأنّه خبر واحد قد خصّ منه البعض، أعني المتواتر والمشهور، فلا يكون قطعيّاً، فكيف يثبت به مسألة الاصول؟ علي أنّه ممّا يخالف عموم قوله تعالي: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ».

وقد طعن فيه المحدّثون بأنّ في رواته يزيد بن ربيعة، وهو مجهول، وترك في اسناده واسطة بين الأشعب وثوبان فيكون منقطعاً.

وذكر يحيي بن معين: انّه حديث وضعته الزنادقة.

وإيراد البخاري إيّاه في صحيحه لا ينافي الانقطاع أو كون أحد رواته غير معروف بالرواية» «1».

حديث تحريم المعازف … ص: 94

(ومنها) حديث رواه ابن حزم عن البخاري وحكم بوضعه، قال:

__________________________________________________

(1) التلويح في شرح التوضيح 2: 21.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 95

«ومن طريق البخاري: قال هشام بن عمّار، نا صدقة بن خالد، نا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، نا عطية بن قيس الكلابي، نا عبد الرحمن بن غنم الأشعري، حدّثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري- وواللَّه ما كذبني- انّه سمع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: ليكوننَّ من امّتي قوم يستحلّون الحرير والخمر والمعازف.

وهذا منقطع، لم يتّصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد، ولا يصحّ في هذا الباب شي ء أبداً، وكلّ ما فيه فموضوع» «1».

حديث المؤمن لا يزني حين يزني … ص: 95

(ومنها) ما أخرجه البخاري في كتاب الأشربة قال:

«حدّثنا أحمد بن صالح قال: ثنا ابن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: سمعت أبا سلمة عن عبد الرحمن وابن المسيّب يقولان: قال أبو هريرة: انّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: المؤمن لا يزني حين يزني وهو مؤمن» «2».

وهذا الحديث كذَّبه أبو حنيفة، كما في كتاب (العالم والمتعلّم) «3»، فقد جاء فيه:

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 7: 193.

(2) صحيح البخاري 7: 190.

(3) هذا الكتاب لأبي حنيفة، والمقصود من «العالم» أبو حنيفة، ومن «المتعلّم» تلميذه: أبو مطيع البلخي وهو راوي الكتاب.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 96

«قال المتعلّم: ما قولك في اناس رووا أنّ المؤمن إذا زني خلع الإيمان من رأسه كما يخلع القميص، ثمّ إذا تاب أعاد اللَّه إيمانه، أتشكّ في قولهم أو تصدّقهم؟ فان صدّقت قولهم دخلت في قول الخوارج، وان شككت في قولهم شككت في قول الخوارج ورجعت عن العدل الذي وصفت، وان كذّبت قولهم الذي قالوا: كذّبت بقول النبي عليه السّلام، فانّهم رووا عن

رجال شتّي حتّي انتهي به إلي رسول اللَّه عليه السّلام.

قال العالم: كذب هؤلاء، ولا يكون تكذيبي هؤلاء وردّي عليهم تكذيباً للنبي عليه السّلام، انّما يكون التكذيب لقول النبي عليه السّلام أن يقول الرجل أنا مكذّب للنبي عليه السّلام، وأمّا إذا قال أنا مؤمن بكلّ شي ء تكلّم به النبي عليه السّلام، غير أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يتكلّم بالجور ولم يخالف القرآن، فهذا من التصديق بالنبي وبالقرآن وتنزيه له من الخلاف علي القرآن، ولو خالف النبي عليه السّلام القرآن وتقوّل علي اللَّه، لم يدعه تبارك وتعالي حتّي يأخذه باليمين ويقطع منه الوتين، كما قال تعالي في القرآن، ونبي اللَّه لا يخالف كتاب اللَّه، ومخالف كتاب اللَّه لا يكون نبيّ اللَّه.

وهذا الذي رووه خلاف القرآن، ألا تري الي قوله تعالي:

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 97

«الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي» «1»

ثمّ قال: «اللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ» «2»

ولم يعن به من اليهود ولا من النصاري، ولكن عني به من المسلمين.

فردّي علي كلّ رجل يحدّث عن النبي عليه السّلام بخلاف القرآن، ليس ردّاً علي النبي ولا تكذيباً له، ولكن ردّاً علي من يحدّث عن النبي عليه السّلام بالباطل، والتهمة دخلت عليه لا علي نبيّ اللَّه، وكلّ شي ء تكلّم به النبي عليه السلام سمعنا به أو لم نسمعه، فعلي الرأس والعين، قد آمنا به ونشهد أنّه كما قال النبي عليه السّلام، ونشهد أيضاً علي النبي عليه السّلام أنه لم يأمر بشي ء نهي اللَّه عنه يخالف أمر اللَّه تعالي، ولم يقطع شيئاً وصله اللَّه تعالي ولا وصف أمراً وصف اللَّه تعالي ذلك الأمر بخلاف ما وصفه النبي عليه السّلام، ونشهد أنّه كان موافقاً للَّه عزّوجل في جميع الامور، لم يبتدع ولم يتقوّل

غير ما قال اللَّه تعالي، ولا كان من المتكلّفين، ولذلك قال اللَّه تعالي: «مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ» «3»

».

حديث شريك في الإسراء … ص: 97

(ومنها) حديث البخاري عن شريك في إسراء رسول اللَّه صلّي

__________________________________________________

(1) سورة النور 24: 2.

(2) سورة النساء 4: 16.

(3) سورة النساء 4: 80.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 98

اللَّه عليه وآله وسلّم، وهذا لفظه:

«حدّثنا عبد العزيز بن عبد اللَّه قال: حدّثني سليمان، عن شريك بن عبد اللَّه، أنه قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ليلة اسري برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من مسجد الكعبة، انّه جاءه ثلاثة نفر، قبل أن يوحي اليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أوّلهم: أيّهم هو؟ فقال أو سطهم: هو خيرهم. فقال: آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتّي أتوه ليلة اخري فيما يري قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلّموه حتي احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولّاه منهم جبرئيل، فشقّ جبرئيل ما بين نحره الي لبّته حتي فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده حتي أنقي جوفه، ثمّ اتي بطست من ذهب فيه ور من ذهب محشو ايماناً وحكمة، فحشا به صدره ولغاديده- يعني عروق حلقه- ثمّ أطبقه، ثمّ عرج به الي السماء الدنيا، فضرب باباً من أبوابها، فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال جبرئيل: قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمّد، قالوا: وقد بعث؟ قال:

نعم، قالوا: فمرحباً به … » «1».

وأخرجه مسلم قال: «حدّثنا هارون بن سعيد الأيلي، ثنا ابن وهب، قال: أخبرني سليمان- وهو ابن بلال- قال: حدّثني شريك بن

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 9: 265 كتاب التوحيد.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 99

عبد

اللَّه بن أبي نمر قال: سمعت أنس بن مالك، يحدّثنا عن ليلة اسري برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من مسجد الكعبة: أنّه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحي اليه، وهو نائم في المسجد الحرام. وساق الحديث بقصّته نحو حديث ثابت البناني، وقدّم فيه شيئاً وأخرّ وزاد ونقص» «1».

قال النووي بشرحه:

«قوله: وذلك قبل أن يوحي اليه. وهو غلط لم يوافق عليه، فانّ الإسراء أقلّ ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه بخمسة عشر شهراً. وقال الحربي: كان ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة.

وقال الزهري: كان ذلك بعد مبعثه بخمس سنين. وقال ابن اسحاق:

اسري به وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل.

وأشبه هذه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق، إذ لم يختلفوا أنّ خديجة صلّت معه بعد فرض الصلاة عليه، ولا خلاف في أنّها توفّيت قبل الهجرة بمدّة قيل بثلاث سنين وقيل بخمس.

ومنها: انّ العلماء مجمعون علي أنّ فرض الصّلاة كان ليلة الإسراء، فكيف يكون هذا قبل أن يوحي اليه؟

وأمّا قوله- في رواية شريك-: وهو نائم، وفي رواية الاخري: بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، فقد يحتجّ به من يجعلها رؤيا نوم، ولا

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 1: 148/ 262 باب بدء الوحي من كتاب الإيمان.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 100

حجّه فيه، إذ قد يكون ذلك حالة أول وصول الملك اليه، وليس في الحديث ما يدلّ علي كونه نائماً في القصّة كلّها.

هذا كلام القاضي. وهذا الذي قاله في رواية شريك وأنّ أهل العلم أنكروها قد قاله غيره.

وقد ذكر البخاري رواية شريك هذه عن أنس في كتاب التوحيد من صحيحه، وأتي بالحديث مطوّلًا.

قال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين- بعد ذكر هذه الرواية-

هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس. وقد زاد فيه زيادة مجهولة، وأتي فيه بألفاظ غير معروفة. وقد روي حديث الاسراء جماعة من الحفّاظ المتقنين والأئمّة المشهورين، كابن شهاب وثابت البناني وقتادة- يعني عن أنس- فلم يأت أحد منهم بما أتي به شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث. قال:

والأحاديث التي تقدّمت قبل هذا هي المعوّل عليها. هذا كلام الحافظ عبد الحق» «1».

وقال الكرماني بشرحه:

«قال النووي: جاء في رواية شريك أوهام أنكرها العلماء، من

__________________________________________________

(1) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، باب بدء الوحي، المجلّد 1 ج 2: 209- 0. 21

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 101

جملتها: أنّه قال: ذلك قبل أن يوحي اليه، وهو غلط لم يوافق عليه.

وأيضاً: العلماء أجمعوا علي أنّ فرض الصلاة كان ليلة الإسراء، فكيف يكون قبل الوحي؟

أقول: وقول جبرئيل في جواب بوّاب السماء إذ قال: أبعث؟

نعم، صريح في أنّه كان بعده» «1».

وقال ابن قيّم الجوزيّة:

«فصلٌ- قال الزهري: عرج بروح رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إلي بيت المقدس وإلي السماء قبل خروجه إلي المدينة بسنة، وقال ابن عبد البر وغيره: كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران. انتهي. وكان الإسراء مرّة واحدة وقيل: مرّة يقظة ومرّة مناماً، وأرباب هذا القول كأنّهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وقوله ثمّ استيقظت، وبين سائر الروايات، ومنهم من قال: بل كان هذا مرّتين، مرّة قبل الوحي، لقوله في حديث شريك: وذلك قبل أن يوحي إليه. ومرّة بعد الوحي، كما دلّت عليه سائر الأحاديث، ومنهم من قال: بل ثلاث مرّات، مرّة قبل الوحي ومرّتين بعده.

و كلّ هذا خبط، وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا

في القصّة لفظة تخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرّة

__________________________________________________

(1) الكواكب الدراري في شرح البخاري 25: 204.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 102

اخري، فكلّما اختلفت عليهم الروايات عدّدوا الوقائع.

والصواب الذي عليه أئمّة النقل: أنّ الإسراء كان مرّة واحدةً بمكة بعد البعثة.

ويا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنّه مراراً كيف ساغ لهم أن يظنّوا أنّه في كلّ مرة تفرض عليه الصلاة خمسين، ثمّ يتردّد بين ربّه وبين موسي حتي تصير خمساً ثمّ يقول: أمضيت فريضتي وخفّفت عن عبادي، ثمّ يعيدها في المرة الثانية الي خمسين، ثمّ يحطّها عشراً عشراً.

وقد غالّط الحفّاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه ثمّ قال: فقدّم وأخر وزاد ونقص، ولم يورد الحديث فأجاد رحمه اللَّه» «1».

حديث رجم القردة في الزنا … ص: 102

(ومنها) ما رواه البخاري بقوله: «حدثنا نعيم بن حماد، نا هشيم، عن حصين عن عمرو بن ميمون، قال: رأيت في الجاهلية أجتمع عليها قردة قد زنت، فرجموها فرجمتها معهم» «2».

__________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 3: 41- 42 فصلٌ في المعراج النبوي.

(2) صحيح البخاري 5/ 56.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 103

الحافظان الحميدي وابن عبد البر وهذا الحديث … ص: 103

وهذا الحديث قد استنكره الحافظ ابن عبد البر، وقال الحافظ أبو عبد اللَّه الحميدي بأنه: «ليس في نسخ البخاري أصلًا، فلعله من الاحاديث المقحمة في كتاب البخاري». هذا كلامهما حول هذا الحديث. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر حيث قال:

«وقد استنكر ابن عبد البر قصة عمرو بن ميمون هذه وقال: فيها اضافة الزنا الي غير مكلف واقامة الحد علي البهائم، وهذا منكر عند أهل العلم. قال: فان كانت الطريق صحيحة، فلعل هولاء كانوا من الجن، لانهم من جملة المكلفين وانما قال ذلك: لانه تكلّم علي الطريق التي أخرجها الاسماعيلي فحسب.

وأجيب: بأنه لا يلزم من كون صورة الواقعة صورة الزنا والرجم أن يكون ذلك زناء حقيقة ولا حدا، وانما أطلق ذلك عليه لشبهه به، فلا يستلزم ذلك ايقاع التكليف علي الحيوان.

وأغرب الحميدي في الجمع بين الصحيحين، فزعم أن هذا الحديث [وقع في بعض نسخ البخاري وأن أبا مسعود وحده ذكره في الاطراف، قال: وليس في نسخ البخاري أصلًا، فلعله من الاحاديث المقحمة في كتاب البخاري.

وما قاله مردود … وأما تجويزه أن يزاد في صحيح البخاري ما ليس منه فهذا ينافي ما عليه العلماء، من الحكم بتصحيح جميع ما أورده

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 104

البخاري في كتابه، ومن اتفاقهم علي أنه مقطوع بنسبته اليه، وهذا الذي قاله تخيل فاسد، يتطرق منه عدم

الوثوق بجميع ما في الصحيح، لانه إذا جاز في واحد بعينه، جاز في كل فرد فرد، فلا يبقي لا حد الوثوق بما في الكتاب المذكور … » «1».

ثلاثة أحاديث في البخاري … ص: 104

وأخرج البخاري ثلاثة أحاديث عن عطاء، عن ابن عباس اثنان منها في كتاب الطلاق والآخر في كتاب التفسير، فأما ما أخرجه في كتاب الطلاق فهذا نصه:

«حدّثنا إبراهيم بن موسي، أخبرنا هشام، عن ابن جريح، وقال عطاء عن ابن عباس: كان المشركون علي منزلتين من النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم والمؤمنين كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتي تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، فان هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت اليه، وان هاجر عبد منهم أو أمة فهما حران ولهما ما للمهاجرين. ثم ذكر من أهل العهد مثل حديث مجاهد، وان هاجر عبد أو أمة للمشركين أهل العهد لم يردوا

__________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 7/ 127.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 105

وردت أثمانهم.

وقال عطاء، عن ابن عباس: كانت قريبة بنت أبي أمية عند عمر بن الخطاب فطلقها، فتزوجها معاوية بن أبي سفيان. وكانت ام الحكم ابنة أبي سفيان تحت عياض بن غنم الفهري فطلقها فتزوجها عبد اللَّه بن عثمان الثقفي» «1».

وأما حديثه في كتاب التفسير، فهذا نصه:

«حدثنا إبراهيم بن موسي، أخبرنا هشام، عن ابن جريح، وقال عطاء عن ابن عباس: صارت الاوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ودّ [ف] كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهزيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني عطيف بالجوف عند سبا، وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر

فكانت لحمير لال ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحي الشيطان الي قومهم أن انصبوا الي مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتي إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت» «2».

كبار الأئمة وهذه الأحاديث … ص: 105

وهذه الأحاديث الثلاثة، أخرجها البخاري من حديث عطاء عن

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 7/ 62- 63.

(2) صحيح البخاري 6/ 199.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 106

ابن عباس في التفسير، مع العلم بأن أكابر الاساطين والأئمة من أهل السنة، يقدحوون في رواية عطاء في التفسير، ويسقطونها عن درجة الاعتبار مطلقاً.

والحافظ ابن حجر- وهو الذي طالما ساعد البخاري وذب عن كتابه- يذكر كلمات القدح، ويعترف بأن هذا المقام من المواضع العقيمة عن الجواب السديد، ويقول بأنه: لابد للجواد من كبوة، ومعني هذا: أن البخاري قد أخطأ في اخراج أحاديث عطاء هذه في كتابه.

وهذا نص كلام الحافظ ابن حجر في هذا الموضوع:

«الحديث الحادي والثمانون- قال أبو علي الغساني، قال البخاري: ثنا إبراهيم بن موسي، ثنا هشام- هو ابن يوسف-، عن ابن جريح قال: قال- عطاء عن ابن عباس: كان المشركون علي منزلتين من النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم الحديث. وفيه قصة تطليق عمر بن الخطاب قريبة بنت أبي أمية وغير ذلك.

تعقبّه أبو مسعود الدمشقي فقال: ثبت هذا الحديث والذي قبله- يعني بهذا الاسناد سوي الحديث المتقدم في التفسير- في تفسير ابن جريح عن عطاء الخراساني عن ابن عباس، وابن جريح لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني وانما أخذ الكتاب من ابنه عثمان ونظر فيه.

قال أبو علي: وهذا تنبيه بليغ [بديع من أبي مسعود- رحمة اللَّه- فقد روينا [ه عن صالح بن أحمد بن حنبل، عن [علي ابن المديني،

سلسلة اعرف الحق

تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 107

قال: سمعت هشام بن يوسف يقول: قال لي ابن جريح: سألت عطاء- يعني ابن أبي رباح- عن التفسير من البقرة وآل عمران، ثم قال: اعفني من هذا، قال هشام: فكان بعد إذا قال: عطاء عن ابن عباس، قال:

الخراساني، قال هشام: فكتبنا ما كتبنا ثم مللنا- يعني حسبنا [كتبنا] أنه عطاء الخراساني.

قال علي بن المديني: وانما كتبت هذه القصة، لان محمّد بن ثور كان يجعلها عطاء عن ابن عباس، فظن الذين حملوها عنه، أنّه عطاء بن أبي رباح قال علي: وسألت يحيي القطّان، عن حديث ابن جريح عن عطاء الخراساني فقال: ضعيف، فقلت له: انه يقول: أخبرنا، قال: لا شي ء، كله ضعيف، انّما هو كتاب دفعه اليه.

قلت: ففيه نوع اتصال، ولذلك استجاز ابن جريح أن يقول فيه:

أخبرنا. لكن البخاري ما أخرجه الّا علي أنه من رواية عطاء بن أبي رباح، وأمّا الخراساني فليس من شرطه، لانه لم يسمع عن ابن عباس.

لكن لقائل أن يقول: هذا ليس بقاطع في أنّ عطاء المذكور هو الخراساني فانّ ثبوتهما في تفسيره لا يمنع أن يكونا عند عطاء بن أبي رباح أيضاً، فيحتمل أن يكون هذان الحديثان عند عطاء بن أبي رباح وعطاء الخراساني جميعاً، واللَّه أعلم.

فهذا جواب اقناعي، وهذا عندي من المواضع العقيمة عن الجواب السديد، ولابدّ للجواد من كبوة، واللَّه المستعان. وما ذكره أبو

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 108

مسعود من التعقب قد سبق اليه الاسماعيلي، ذكر ذلك الحميدي في الجمع، عن البرقاني، عنه، قال: وحكاه عن علي بن المديني، يشير الي القصة التي ساقها الغسّاني، واللَّه الموفّق» «1».

أقول:

والعجب من الحافظ ابن حجر، فانه أورد هذا الجواب الاقناعي في شرح الحديث في كتاب التفسير،

ولم يقل هناك بأن هذا عنده «من المواضع العقيمة عن الجواب السديد، ولابدّ للجواد من كبوة» وهذا نصّ كلامه: «قوله: عن ابن جريح وقال عطاء. كذا فيه وهو معطوف علي كلام محذوف، وقد بيّنه الفاكهي من وجه آخر عن ابن جريح، قال في قوله [تعالي : وداً ولا سواعاً … الآية، قال: أوثان كان قوم نوح يعبدونها [نهم ، وقال عطاء: كان ابن عباس الي آخره.

قوله: عن ابن عباس، قيل: هذا منقطع لأن عطاء المذكور هو الخراساني ولم يلق ابن عباس، فقد أخرج عبد الرزاق هذا الحديث في تفسيره عن ابن جريح، فقال: أخبرني عطاء الخراساني، عن ابن عباس.

وقال أبو مسعود: ثبت هذا الحديث في تفسير ابن جريح، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، وابن جريح لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني وانما أخذه من ابنه عثمان بن عطاء، فنظر فيه.

__________________________________________________

(1) هدي الساري- مقدمة فتح الباري 2/ 135- 136.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 109

وذكر صالح بن أحمد بن حنبل في الخلل عن علي بن المديني، قال: سألت يحيي القطّان عن حديث ابن جريح عن عطاء الخراساني، فقال: ضعيف فقلت له: انّة يقول: أخبرنا، قال: لا شي ء، انّما هو كتاب دفعه اليه. انتهي.

وكان ابن جريح يستجيز اطلاق أخبرنا في المناولة والمكاتبة.

وقال الاسماعيلي: أخبرت عن علي بن المديني أنه ذكر في [عن تفسير ابن جريح كلاماً معناه أنه كان يقول: عن عطاء الخراساني، عن ابن عبّاس، فطال علي الورّاق أن يكتب الخراساني في كل حديث، فتركه، فرواه من روي علي أنه عطاء بن أبي رباح. انتهي. وأشار بهذا الي القصة التي ذكرها صالح بن أحمد عن علي بن المديني، ونبّه عليها أبو علي الغسّاني في

تقييد المهمل، قال ابن المديني سمعت هشام بن يوسف يقول: قال لي ابن جريح: سألت عطاء عن التفسير من البقرة وآل عمران، ثم قال اعفني من هذا، [قال:] قال هشام: فكان بعد إذا قال عطاء عن ابن عباس، قال: عطاء الخراساني، قال هشام: فكتبا ثمّ مللنا- يعني حسبنا أنه [كتبنا] الخراساني- قال ابن المديني وانما بيّنت هذا لانّ محمّد بن ثور كان يجعلها- يعني في رواية- عن ابن جريح، عن عطاء عن ابن عباس فيظنّ أنه عطاء بن أبي رباح.

وقد أخرج الفاكهي الحديث المذكور، من طريق محمّد بن ثور، عن ابن جريح، عن عطاء، عن ابن عباس، ولم يقل: الخراساني،

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 110

وأخرجه عبد الرزاق كما تقدم، فقال: الخراساني.

وهذا مما استعظم علي البخاري أن يخفي عليه، لكن الذي قوي عندي أن هذا الحديث بخصوصه عند ابن جريح عن عطاء الخراساني وعن عطاء بن أبي رباح جميعاً، ولا يلزم من امتناع عطاء بن أبي رباح، من التحديث بالتفسير أن لا يحدث بهذا الحديث في باب آخر من الأبواب، أو في المذاكرة والا فكيف يخفي علي البخاري ذلك مع تشدده في شرط الاتصال واعتماده غالباً في العلل علي علي بن المديني شيخه، وهو الذي نبه علي هذه القصة، ومما يؤيد ذلك أنه لم يكثر من تخريج هذ ه النسخة، وانما ذكر بهذا الاسناد موضعين هذا والآخر في النكاح، ولو كان خفي [ذلك عليه لا ستكثر من اخراجها، لان ظاهرها أنها [علي شرطه» «1».

أقول: وعلي أي حال، فانا نريد اثبات تكلم الحفاظ والفقهاء في أحاديث الصحيحين، وهذا ما هو الواقع، وأما دفاع الحافظ ابن حجر- بعد اعترافه بعدم وجود جواب سديد في هذا المقام-

فيرجع الحكم في صحته وسقمه الي جهابذة الفن …

__________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8/ 541.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 111

حديث رواية مسروق عن امّ رومان … ص: 111

(ومنها) ما أخرجه البخاري في كتاب المغازي من كتابه، حيث قال:

«حدثنا موسي بن اسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن حصين، عن أبي وائل، قال: حدثني مسروق بن الاجدع، قال: حدثتني أم رومان- وهي أم عائشة- قالت: بينا أنا قاعدة أنا وعائشة اذ ولجت امرأة من الانصار، فقالت: فعل اللَّه بفلان وفعل، فقالت أم رومان: وما ذاك؟

قالت: ابني ممّن [فيمن حدث الحديث، قالت: وما ذاك؟ قالت: كذا وكذا، قالت عائشة: سمع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؟ قالت: نعم، قالت، وأبو بكر؟ قالت: نعم، فخرت مغشياً عليها، فما أفاقت الّا وعليها حمي بنافض، فطرحت عليها ثيابها فغطيتها، فجاء النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال: ما شأن هذه؟ قلت: يا رسول اللَّه! أخذتها الحمي بنافض، قال: فلعل في حديث تحدّث [به ، قالت: نعم، فقعدت عائشة، فقالت: واللَّه لئن حلفت لا تصدقوني ولئن قلت لا تعذروني مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه، واللَّه المستعان علي ما تصفون. قالت:

وانصرف ولم يقل [لي شيئاً، فأنزل اللَّه عذرها، قالت: بحمد اللَّه لا بحمد أحد ولا بحمدك» «1».

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 5/ 154.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 112

كبار الحفاظ وهذا الحديث … ص: 112

وصريح هذا الحديث سماع مسروق بن الاجدع من أم رومان أم عائشة، ولقد غلّط كبار الأئمة الحفاظ هذا الحديث وقالوا: ان مسروقاً لم يدرك ابن رومان، ومن هؤلاء:

الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي.

الحافظ أبو عمر ابن عبد البر القرطبي.

الحافظ أبو الفضل القاضي عياض اليحصبي.

الحافظ إبراهيم بن يوسف صاحب مطالع الأنوار علي صحاح الآثار.

الحافظ أبو القاسم السهيلي شارح السيرة.

الحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس الاندلسي.

الحافظ جمال الدين المزي.

الحافظ شمس الدين الذهبي.

الحافظ أبو سعيد صلاح الدين العلائي.

واليك كلمات القوم الصريحة في ذلك:

قال ابن عبد البر الحافظ ما نصّه:

«رواية مسروق عن ام رومان

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 113

مرسلة، ولعله سمع ذلك من عائشة- رضي اللَّه عنها» «1».

وقال الحافظ المزي بعد أن أورد الحديث المذكور:

«وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: هذا حديث غريب من رواية أبي وائل مسروق، لا نعلم رواه غير حصين بن عبد الرحمن عنه، وفيه ارسال، لان مسروقاً لم يدرك أم رومان، وكانت وفاتها علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وكان مسروق يرسل رواية هذا الحديث عنها ويقول: سئلت ام رومان، فوهم حصين فيه اذ جعل السائل لها مسروقاً، اللهم الّا أن يكون بعض النقلة كتب «سألت» بالالف، فان مصر الناس من يجعل الهمزة في الخط ألفاً، وان كانت مكسورة أو مروفوعة، فتبرأ حينئذ حصين من الوهم فيه، علي أن بعض الرواة قد رواه عن حصين علي الصواب.

قال: وأخرج البخاري هذا الحديث في صحيحه، لما رأي فيه عن مسروق قال: سألت أم رومان، ولم تظهر له علته.

وقد بينا ذلك في كتاب المراسيل وأشبعنا القول بما لا حاجة لنا إلي اعادته» «2».

وقال الحافظ السهيلي بترجمة ام رومان:

__________________________________________________

(1) الاستيعاب 4/ 1937.

(2) تهذيب الكمال في معرفة الرجال- مخطوط.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 114

«وروي البخاري حديثاً عن مسروق فقال فيه:

سألت ام رومان وهي ام عائشة عما قيل فيا، ومسروق ولد بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بلا خلاف، فلم يرام رومان قط، فقيل:

انه وهم في الحديث، وقيل: بل الحديث صحيح وهو مقدم علي ما ذكره أهل السيرة من موتها في حياة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

وقد تكلم شيخنا أبو بكر ابن العربي رحمة اللَّه علي هذا الحديث واعتني به لا شكاله … » «1».

وقال ابن سيد الناس:

«وقد

وقع في الصحيح رواية مسروق عغنها بصيغة العنعنة وغيرها ولم يدركها، وملخص ما أجاب به أبو بكر الخطيب أن مسروقاً يمكن أن يكون قال: سئلت ام رومان، فأثبت الكاتب صورة الهمزة فتصحفت علي من بعده بسألت، ثم نقلت الي صيغة الأخبار بالمعني في طريق، وبقيت علي صورتها في آخر، ومخرجها التصحيف المذكور» «2».

وقد ذكر الحافظ ابن حجر كلام الحافظ الخطيب وتصدي للجواب عنه مدافعاً عن البخاري … ثم قال: «وقد تلقي كلام الخطيب

__________________________________________________

(1) الروض الانف 6/ 440.

(2) عيون الأثر 2/ 101.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 115

بالتسليم: صاحب المشارق، والمطالع، والسهيلي، وابن سيد الناس، وتبع المزي الذهبي في مختصراته، والعلائي في المراسيل، وآخرون.

وخالفم صاحب الهدي» «1».

أقول: (صاحب المشارق) هو: الحافظ القاضي عياض، وكتابه (مشارق الأنوار علي صحاح الأخبار) من الكتب المعروفة المعتبرة، ذكر فيه تحريفات وتصحيفات وأخطاء وقعت في الموطأ وكتاب البخاري وكتاب مسلم.

و (صاحب المطالع) هو: الحافظ إبراهيم بن يوسف، وكتابه (مطالع الأنوار علي صحاح الآثار) قال الكاتب الچلبي بتعريفه:

«مطالع الأنوار علي صحاح الآثار، في فتح ما استغلق من كتب الموطأ ومسلم والبخاري، وايضاح مبهم لغاتها في غريب الحديث، لابن قراقول إبراهيم بن يوسف، المتوفي سنة تسع وستين وخمسمائة.

صنفه علي منوال مشارق الأنوار للقاضي عياض، ونظمه شمس الدين محمّد بن محمّد الموصلي المتوفي سنة أربع وسبعين وسبعمائة، أوله:

الحمد للَّه الذي أظهر دينه علي كل دين، وهو مأخوذ مما شرحه وأوضحه وبينه، وأتقنه وضبطه وقيده الفقيه أبو الفضل عياض بن موسي بن عياض البستي، في كتابه المسمي بمشارق الأنوار، لكن

__________________________________________________

(1) فتح الباري 7/ 353.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 116

اختصره واستدرك عليه وأصلح فيه أوهاماً الفقيه أبو اسحاق ابن قراقول» «1».

ترجمة الحافظ العلائي … ص: 116

و

«العلائي» هو: الحافظ خليل بن كليدي صلاح الدين أبو سعيد الدمشقي، ترجم له ابن قاضي شهبة في طبقاته بقوله: «خليل بن كليدي بن عبد اللَّه، الإمام البارع المحقق، بقية الحفاظ، صلاح الدين أبو سعيد العلائي الدمشقي ثم المقدسي، ولد بدمشق في ربيع الأول سنة أربع وتسعين- بتقديم التاء- وستمائ، وسمع الكثير ودخل البلاد وبلغ عدد شيوخه بالسماع سبعمائة وأخذ علم الحديث عن المزي وغيره، وأخذ الفقه عن الشيخين برهان الفزاري- ولازمه وخرج له مشيخة- وكمال الدين ابن الزملكاني وتخرج به وعلق منه كثيراً، وأجيز بالفتوي، وأخذ واجتهد حتي فاق أهل عصره في الحفظ والاتقان ودرس بدمشق بالاسدية وبحلقة صاحب حمص، ثم انتقل الي القدس مدرساً بالصلاحية سنة احدي وثلاثين، فأقام بالقدس مدة طويلة يدرس ويفتي ويحدث ويصنف الي آخر عمره.

ذكره الذهبي في معجمه وأثني عليه.

__________________________________________________

(1) كشف الظنون 2/ 1715.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 117

وقال الحسيني في معجمه وذيله: كان اماماً في الفقه والنحو والاصول، متفناً في علوم الحديث ومعرفة الرجال، علامة في معرفة المتون والاسانيد، بقية الحفاظ، ومصنفاته تنبي ء عن امامة في كل فن، ودرس وأفتي وناظر ولم يخلف بعده مثله.

وقال الاسنوي في طبقاته: كان حافظ زمانه، اماماً في الفقه والاصول وغيرهما، ذكياً ونظاراً فصيحاً كريماً، ذا رئاسة وحشمة، وصنف في الحديث تصانيف نافعة، وفي النظائر الفقهية كتاباً كبيراً، ودرس بالصلاحية بالقدس الشريف وانقطع فيها للاشتغال والافتاء والتصنيف.

وقال السبكي في الطبقات الكبري: كان حافظاً ثبتاً ثقة عارفاً بأسماء الرجال والعلل والمتون، فقيهاً متكلماً أديباً شاعراً ناظماً ناثراً، متقناً، اشعرياً صحيح العقيدة سنياً، لم يخلف بعده مثله- الي أن قال:

وأما الحديث فلم يكن في عصره من يدانيه، وأما بقية علومه من فقه ونحو وتفسير

وكلام، فكان في كل واحد منها حسن المشاركة، توفي بالقدس في المحرم سنة احدي وستين وسبعمائة …

ومن تصانيفه … » «1».

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية- مخطوط.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 118

الحافظ ابن السكن «1» وهذا الحديث … ص: 118

أضف الي هؤلاء الحفاظ: الحافظ أبا علي ابن السكن صاحب كتاب (الحروف في الصحابة) وهو من مصادر كتاب (الاستيعاب)، فانه أيضاً قد خطأ الحديث المذكور، فقد قال الحافظ ابن حجر العسقلاني ما نصه:

«ثم وجدت للخطيب سلفاً، فذكر أبو علي ابن السكن في كتاب الصحابة في ترجمة ام رومان، انها ماتت في حياة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم.

قال: وروي حصين، عن أبي وائل، عن مسروق: قال سألت ام رومان.

قال ابن السكن: هذا خطأ، ثم ساق بسنده الي حصين عن أبي وائل عن مسروق ان اللَّه امان حدثتهم، فذكر قصة الافك التي أوردها البخاري، ثم قال:

تفرد به حصين، ويقال: ان مسروقاً لم يسمع من ام رومان، لانها ماتت في حياة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وباللَّه التوفيق» «2».

__________________________________________________

(1) هو: الحافظ سعيد بن عثمان البغدادي البزاز، المتوفي سنة 353. توجد ترجمة في: تذكرة الحفاظ 3/ 937، والنجوم الزاهرة 3/ 338، وشذرات الذهب 7/ 142، وطبقات الحفاظ 378.

(2) الاصابة 4/ 434.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 119

حول رأي صاحب الهدي … ص: 119

وأما قول الحافظ ابن حجر العسقلاني في كلامه المذكور سابقاً:

«وخالفهم صاحب الهدي» - وهو ابن قيم الجوزية في كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد)- فوهم، لان ابن القيم في هذا الكتاب ينقل أقوال المخطئين لهذا الحديث، ثم كلمات المصححين الذين أولوه وحملوه علي محمل صواب من دون أن يرجح أحد القولين علي الآخر، فالقول بأنه خالف الخطيب ومن تبعه في التخطئة، خطأ.

علي أن ابن القيم قد صرح في كتابه المذكور- في الكلام حول زوجات النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بأن من له أدني علم بالسير والتواريخ وما قد كان، لا يرد نقل المؤرخين لحديث واحد، وذلك حيث قال: «وأما

حديث عكرمة بن عمّار، عن أبي زميل، عن ابن عباس: ان أبا سفيان قال للنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: أسألك ثلاثاً، فأعطاه اياهن منها: وعندي أجمل العرب أم حبيبة، أزوجك اياها. فهذا الحديث غلط ظاهر لاخفاء به، قال أبو أحمد ابن حزم: وهو موضوع بلا شك، كذبه عكرمة بن عمّار. قال ابن الجوزي: هو وهم من بعض الرواة لا شك فيه ولا تردد.

وقد اتهموا به عكرمة بن عمّار، لان أهل التواريخ أجمعوا علي أن أم حبيبة كانت تحت عبيداللَّه بن جحش، ولدت له وهاجر بها وهما

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 120

مسلمان الي أرض الحبشة، ثم تنصر وثبتت أم حبيبة علي اسلامها، فبعث رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم الي النجاشي يخطبها عليه، فزوجه اياها وأصدقها عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم صداقاً وذلك في سنة سبع من الهجرة، وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة ودخل عليها فثنت فراش رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم حتي لا يجلس عليه، ولا خلاف أن أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكة سنة ثمان.

وأيضاً في حذا الحديث أنه قال له: وتؤمرني حتي أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، فقال: نعم. ولا يعرف أن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أمر أبا سفيان ألبتة، وقد أكثر الناس الكلام في هذا الحديث وتعددت طرقهم في وجهه، فمنهم من قال: الصحيح أنه تزوجها بعد الفتح لهذا الحديث. قال: ولا يرد هذا بنقل المؤرخين، وهذه الطريقة باطلة عند من له أدني علم بالسيرة وتواريخ ما قد كان.

وقالت طائفة … » «1».

وحاصل هذا الكلام، هو عدم جواز رد الاجماع القائم من جميع المؤرخين علي وقوع وفاة أم

رومان في حياة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وان مسروقاً لم يدركها بحديث واحد رواه البخاري في كتابه …

وعلي هذا فهو من المخطئين لحديث البخاري تبعاً للحافظ أبي

__________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 1/ 27.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 121

بكر الخطيب وجماعة، فلا يصح قول ابن حجر: «وخالفم صاحب الهدي».

أقول: وبهذا الذي ذكرنا عن ابن القيم يرد علي جواب ابن حجر عما ذكر الخطيب وأتباعه، ورده كلام الواقدي المتضمن وفاة ام رومان علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم دفاعاً عن البخاري وكتابه.

هذا وقد قلنا فيما سبق: ان الذي نريد اثباته في هذه البحوث، هو قدح كبار الأئمة والحفاظ في طائفة من مرويات البخاري في كتابه …

علي أنا نقول: كما ان ابن حجر يكذب الواقدي صاحب السيرة والتاريخ في مسألة وفاة أم رومان، ولا يجعل رواية قادحة في حديث البخاري المذكور فاننا نضعف اعراض الواقدي عن رواية حديث الغدير، ونقول بأنه غير قادح في صحته- بالاضافة الي الوجوه الاخري الاتية. فلا وجه لتمسك الفخر الرازي بذلك.

حديث تحريم المتعة عام خيبر … ص: 121

(ومنها) أخرج البخاري في كتاب المغازي هذا الحديث بقوله:

«حدثني يحيي بن قزعة، حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبد اللَّه والحسن ابني محمّد بن علي، عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب: أن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم نهي عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 122

لحوم الحمر الانسية» «1».

وفي كتاب الذبائح:

«حدثنا عبداللَّه بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبد اللَّه والحسن ابني محمّد بن علي، عن أبيهما، عن علي قال: نهي النبي [رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم عن المتعة عام

خيبر وعن لحوم [ال] حمر الانسية» «2».

وأخرجه مسلم في كتابه بأسانيد متعددة، حيث قال:

«حدثنا يحيي بن يحيي، قال: قرأت علي مالك، عن ابن شهاب، عن عبد اللَّه والحسن ابني محمّد بن علي، عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب: ان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم نهي عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الانسية.

وحدثنا عبد اللَّه بن محمّد بن أسماء الضبعي، حدثنا جويرية، عن مالك، بهذا الاسناد وقال: سمع علي بن أبي طالب يقول لفلان: انك رجل تائه، نهي [نهانا] رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بمثل حديث يحيي [بن يحيي عن مالك.

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وزهير بن حرب جميعاً،

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 5/ 172.

(2) صحيح البخاري 7/ 123.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 123

عن ابن عيينة، قال زهير: نا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن الحسن وعبد اللَّه ابني محمّد بن علي، عن أبيهما، عن علي: أن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم نهي عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر الاهلية.

وحدثنا محمّد بن عبد اللَّه بن نمير، قال: نا أبي قال: نا عبيد اللَّه، عن ابن شهاب، عن الحسن وعبد اللَّه ابني محمّد بن علي ز عن أبيهما، عن علي، النه سمع ابن عباس يلين في متعة النساء، فقال: مهلا يا ابن عباس، فان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم نهي عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الانسية.

وحدثا أبو الطاهر وحرملة [ابن يحيي ، قالًا: نا ابن وهب [قال :

أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن الحسن وعبد اللَّه ابني محمّد بن علي بن أبي طالب، عن أبيهما أنه سمع علي بن أبي طالب يقول لابن عباس:

نهي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الانسية» «1».

كبار العلماء وهذا الحديث … ص: 123

وهذا الحديث بأسانيده المختلفة في الكتابين، ينص علي أن تحريم المتعة كان يوم خيبر، ولكن المحققين من أهل السنة وفطاحل

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 4/ 134- 135.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 124

الحديث والأثر، يعدون ذلك من الاوهام الفاحشة، واليك بعض كلماتهم الصريحة في ذلك: قال الحافظ السهيلي: «ومما يتصل بحديث النهي عن أكل لحوم الحمر تنبيه علي اشكال في رواية مالك عن أبي شهاب، فانه قال فيها: نهي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر الاهلية.

وهذا شي ء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر، أن المتعة حرمت يوم خيبر، وقد رواه أبو عيينة، عن أبي شهاب، عن عبد اللَّه بن محمّد، فقال فيه: ان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم نهي عن أكل الحمر الاهلية عام خيبر وعن المتعة، فمعناه علي هذا اللفظ: ونهي عن المتعة بعد ذلك اليوم، فهو إذا تقديم وتأخير وقع في لفظ أبي شهاب لالفظ مالك، لان مالكاً قد وافقه علي لفظه جماعة من رواة أبي شهاب» «1».

وقال ابن قيم الجوزية: «فصل- ولم تحرم المتعة يوم خيبر، وانما كان تحريمها عام الفتح. هذا هو الصواب، وقد ظنّ طائفة من أهل العلم أنه حرمها يوم خيبر واحتجوا بمافي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه … » «2».

وقال ابن القيم أيضاً: «والصحيح ان المتعة انّما حرمت عام

__________________________________________________

(1) الروض الانف 6/ 557.

(2) زاد المعاد في هدي خير العباد 2/ 142.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 125

الفتح، لانه قد ثبت في الصحيح

أنهم استمتعوا عام الفتح مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم باذنه، ولو كان التحريم زمن خيبر لزم النسخ مرتين وهذا لا عهد بمثله في الشريعة البتة، ولا يقع مثله فيا، وأيضاً: فان خيبر لم يكن فيها مسلمات وانما كن يهوديات واباحة نساء أهل الكتاب لم يكن بعد … » «1».

وقال: «فصل- وأما نكاح المتعة فثبت عنه صلّي اللَّه عليه وسلّم أنه أحلها عام الفتح، وثبت عنه أنه نهي عنها عام التفح. واختلف: هل نهي عنها يوم خيبر؟ علي قولين، والصحيح: ان النهي عنها انّما كان عام الفتح، وأن النهي يوم خيبر انّما كان عن الحمر الاهلية … » «2».

وقال بدر الدين العيني بشرح الحديث في كتاب المغازي:

«قال ابن عبد البر: وذكر النهي عن المتعة يوم خيبر غلط، وقال السهيلي: النهي عن المتعة يوم خيبر لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر» «3».

وقال شهاب الدين القسطلاني بشرح الحديث في كتاب النكاح حيث قال البخاري: «حدثنا مالك بن اسماعيل، قال: حدثنا ابن عيينة أنه سمع الزهري يقول: أخبرني الحسن بن محمّد بن علي وأخوه عبد اللَّه،

__________________________________________________

(1) المصدر نفسه 2/ 183.

(2) زاد المعاد 4/ 6.

(3) عمدة القاري- شرح صحيح البخاري 17/ 246- 247.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 126

عن أبيهما: أن علياً قال لابن عباس: ان النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم نهي عن المتعة وعن لحوم الحمر الاهلية زمن خيبر».

قال القسطلاني: «زمن خيبر» نص للامرين، وفي غزوة خيبر من كتاب المغازي: نهي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يوم خيبر عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الاهلية. لكن قال البيهقي فيما قرأته في كتاب المعرفة: وكان ابن عيينة- يزعم أن تاريخ خيبر في حديث علي،

انّما في اللنهي عن لحوم الحمر الاهلية، لافي نكاح المتعة، قال البيهقي: يشبه أن يكون كما قال قد روي عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنه رخص فيه بعد ذلك، ثم نهي عنه، فيكون احتجاج علي بنهيه أخيراً، حتي يقوم الحجة علي ابن عباس.

وقال السهيلي: النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر، شي ء لا يعرفه أهل السير ورواة الأثر … » «1».

وقال القسطلاني في شرح الحديث في كتاب المغازي.

«قال ابن عبد البر: ان ذكر النهي يوم خيبر غلط، وقال البيهقي: لا يعرفه أحد من أهل السير» «2».

__________________________________________________

(1) ارشاد الساري- شرح صحيح البخاري 8/ 41.

(2) المصدر نفسه 6/ 536.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 127

مع ابن حجر … ص: 127

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني بشرح الحديث من كتاب المغازي:

«قيل: ان في الحديث تقديماً وتأخيراً، و الصواب: نهي يوم خيبر عن لحوم الحمر الانسية وعن متعة النساء.

ويوم خيبر ظرف لمتعة النساء، لانه لم يقع في غزوة خيبر تمتع بالنساء، وسيأتي بسط ذلك في مكانه من كتاب النكاح، ان شاء اللَّه».

ثم انه أورد في كتاب النكاح بشكل مبسوط، أحاديث المسألة وكلمات البيهقي والسهيلي وابن عبد البر وغيرهم حولها، ثم قال:

«لكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن علياً لم يبلغه الرخصة فيها يوم الفتح لوقوع النهي عنها عن قرب كما سيأتي بيانه. ويؤيد ظاهر الحديث علي ما أخرجه أبو عوانة وصححه من طريق سالم بن عبد اللَّه: ان رجلًا سأل ابن عمر عن المتعة، فقال: ان فلاناً يقول فيها، فقال: واللَّه لقد علم أن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم حرمها يوم خيبر وما كنا مسافحين» «1».

أقول: لقد حمل الدفاع عن البخاري الحافظ علي نسبة الخطأ والجهل الي أميرالمؤمنين وباب مدينة علم رسول رب

العالمين- علهيما الصلاة والسلام- في هذا الحديث- علي ما رووه، ونعوذ باللَّه من

__________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 9/ 138.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 128

تعصب يقود صاحبه الي مهاوي الهلاك.

ولكن يتضح بطلان ما زعمه الحافظ هنا من كلام (الدهلوي) ووالده شاه ولي اللَّه في كتاب (فرة العينين) … فقد قال (الدهلوي) في الجواب عن مطاعن عمر بن الخطاب ما هذا ترجمة:

«المطعن الحادي عشر- نهيه الناس عن متعة النساء وتحريمه متعة الحج، مع ان كلتيهما كانتا جاريتين علي عهد رسول اللَّه- صلّي اللَّه عليه وسلّم فنسخ حكم اللَّه تعالي وحرّم ما أحله. وقد ثبت هذا باعترافه كما في كتب أهل السنة، اذ يروون عنه أنه قال: متعتان كانتا علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وأنا أنهي عنهما.

والجواب: ان أصح الكتب عند أهل السنة هو: صحيح مسلم، وقد أخرج فيه عن سلمة بن الاكوع وسبرة بن معبد الجهني، وأخرج في غيره من الصحاح عن أبي هريرة: ان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم حرّم المتعة بعد أن رخصها ثلاثة أيام في حرب الاوطاس تحريماً مؤبداً الي يوم القيامة. ورواية الأمير في ذلك مشهورة متواترة بحيث رواها عنه أحفاده، وهي ثابتة في المؤطأ وصحيح مسلم وغيرهما من الكتب المعروفة بطرق متعددة.

وأما شبهة بعض الشيعة بأن التحريم وقع في غزوة خيبر وأحلت في غزوة الاوطاس مرة أخري فيردها: أنها ناشئة من من الخلط وسوء الفم، فان الذي في رواية علي في غزوة خيبر هو تحريم الحمر الانسية

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 129

لا تحريم المتعة، لكن العبارة توهم كون غزوة خيبر تاريخ تحريمهما جميعاً. وقد حقق هذا الوهم بعضهم فنقلوا- بناءاً علي ذلك- أنه

نهي عن متعة النساء يوم خيبر، ولو كان الأمير يحدّث تحريم المتعة مؤرخاً بغزوة خيبر، فكيف يمكنه الرد والالزام في كلامه مع ابن عباس، مع أنه ذكر هذه الرواية، حين رد عليه وألزمه، وزجر ابن عباس عن تجويزه المتعة زجراً شديداً، وقال له: انك رجل تائه.

فمن قال: ان غزوة خيبر ظرف لتحريم المتعة، فكأنه قد ادعي وقوع الغلط في استدلال الأمير، وتكفي دعواه هذه شاهداً علي جهله وحمقه» «1».

أقول: وحاصل هذا الكلام بطلان الاحاديث الواردة في أنه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم نهي عن المتعة يوم خيبر. ويدل أيضاً علي جهل البخاري ومسلم وغيرهما من رواة هذه الاحاديث والمعتمدين علهيا، باعتبار أنها لو كانت صحيحة لا قتضت بطلان استدلال أميرالمؤمنين عليه السّلام …

ويدل هذا الكلام علي حمق الحافظ ابن حجر ومن تبعه، لنسبتهم عدم بلوغ القصة أميرالمؤمنين عليه السّلام.

هذا، وليراجع كتاب (تشييد المطاعن) للوقوف علي نقض مازعمه (الدهلوي) علي الامامية في هذا المقام.

__________________________________________________

(1) التحفة الاثنا عشرية- باب المطاعن.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 130

الإمام الشافعي وهذا الحديث … ص: 130

هذا ولم يصحح الإمام الشافعي ذكر «المتعة» في روايات النهي عن لحوم الحمر الاهلية، عن سيدنا أميرالمؤمنين عليه السّلام، فقد قال العيني:

«وقد روي الشافعي، عن مالك، باسناده عن علي رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم نهي يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الاهلية.

ولم يزد علي ذلك وسكت عن قصة المتعة، لما علم فيها من الاختلاف» «1».

فظهر أن الشافعي أيضاً ممن يخدش في هذه الروايات الصحيحة!!

خلاصة البحث … ص: 130

ان كثيراً من مرويات البخاري ومسلم في كتابيهما باطل لدي كبار أئمة أهل السنة وحفاظ الحديث ونفدة الأخبار، اما سداً وأمّا متنا … ولو أردنا بسط الكلام في هذا الموضوع، لخرجنا عن المقصود، وفيما

__________________________________________________

(1) عمدة القاري 17/ 247.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 131

ذكرناه كفاية.

ومتي ثبت قدح الاعلام وكبار الائمة العظام فيما أخرجه الشيخان في كتابيهما، فكيف يقبل تمسك الفخر الرازي باعراضهما عن رواية حديث الغدير المتواتر المشهور!؟ وكيف يكون تركهما له قادحاً في صدوره عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم؟!

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 133

صحيح مسلم … ص: 131

اشارة

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 135

وأمّا مسلم بن الحجّاج … فإنّه- كما قالوا- كان يرتكب الغمز بالرجال الصادقين الثقات عندهم بلا حجّة، ومن ذلك ما كان منه في «إبراهيم بن عبد اللَّه السعدي» قال الذهبي: «إبراهيم بن عبد اللَّه السعدي النيسابوري، صدوق، له عن يزيد بن هاروزن ونحوه.

قال أبو عبد اللَّه الحاكم: كان يستخفُّ بمسلم، فغمزه مسلم بلا حجّة» «1».

ولا ريب أنّ هذا يضرّ بعدالة مسلم ويمنع من الاعتماد عليه وعلي رواياته في كتابه، ولذا قال ابن الجوزي: «ومن تلبيس ابليس علي أصحاب الحديث: قدح بعضهم في بعض، طلباً للتشفّي، ويخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل الذي استعملت قدماء هذه الامّة للذبّ عن الشرع» «2».

أبو زرعة الرازي وصحيح مسلم … ص: 135

هذا، وقد اشتهر بين الأعلام طعن الإمام أبي زرعة الرازي

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 44.

(2) تلبيس إبليس: 135.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 136

وتكلّمه في كتاب مسلم بن الحجّاج، ففي ترجمة أحمد بن عيسي المصري من (التهذيب) و (الميزان): «قد قال سعيد البردعي: شهدت أبا زرعة ذكر عنده صحيح مسلم فقال: هؤلاء قوم أرادوا التقدّم قبل أوانه، فعملوا شيئاً يتسوّقون به» «1».

وقال أبو الفضل الأدفوي في (الإمتاع): «وكان أبو زرعة يذمّ وضع كتاب مسلم ويقول: كيف تسمّيه الصحيح وفيه فلان وفلان؟

فذكر جماعة».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 126.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 137

الموضوعات في صحيح مسلم … ص: 137

اشارة

وبعد الوقوف علي طرف من أسباب القدح في مسلم بن الحجّاج، وعلي طعن من مثل أبي زرعة في كتابه عموماً، فلابدّ من إيراد بعض أحاديثه الموضوعة والباطلة:

حديث الضحضاح … ص: 137

فمن أحاديثه الموضوعة والمكذوبة: حديثه في أنّ أباطالب في ضحضاح من النار، قال: «حدّثنا عبيد اللَّه بن عمر القواريري ومحمّد بن أبي بكر المقدمي ومحمّد بن عبد الملك الأموي قالوا: حدّثنا أبو عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل، عن العبّاس بن عبد المطّلب أنّه قال: يا رسول اللَّه، هل نفعت أبا طالب بشي ء، فانّه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم، هو في ضحضاح من نار، ولو لا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» «1».

وهذه الأحاديث التي أخرجها البخاري ومسلم كلّها موضوعة مفتراة، قد وضعت للطعن في أميرالمؤمنين عليه السّلام والتنقيص في شأنه، ولأجل رفع شأن أبي بكر بن أبي قحافة …

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 1: 134 كتاب الإيمان- باب شفاعة النبي لأبي طالب.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 138

انّه ليكفي لتكذيب ما رووه في موت سيّدنا أبي طالب علي الكفر: ما رواه ابن سعد في الطبقات قال: «حدّثني الواقدي قال: قال علي: لمّا توفّي أبو طالب أخبرت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فبكي بكاءً شديداً، ثمّ قال:

«اذهب فاغسله وكفّنه وواره، غفر اللَّه له ورحمه.

فقال له العبّاس: يا رسول اللَّه، انّك ترجو له؟

فقال: اي واللَّه انّي لأرجوله.

وجعل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يستغفر له أيّاماً لا يخرج من بيته.

وقال الواقدي: قال ابن عبّاس: عارض رسول اللَّه جنازة عمّه أبي طالب وقال:

وصلتك رحم وجزاك اللَّه خيراً» «1».

هذا، وقد أجمع أهل البيت عليهم السلام علي ايمان سيّدنا أبي طالب، واجماعهم حجّة

قطعيّة كما تقرّر في محلّه، وقد ذكر علماء السنّة اجماعهم علي ذلك، ففي (روضة الأحباب) عن ابن الأثير في (جامع الاصول) قوله: «زعم أهل البيت أنّ أبا طالب مات مسلماً، واللَّه أعلم بصحّته».

__________________________________________________

(1) الطبقات الكبري 1: 123- 124.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 139

علي أنّ أهل السنة يدّعون المتابعة لأهل البيت والانقياد لهم، كما جاء في كتبهم، بشرح «حديث الثقلين» وبذيل حديث «مثل أهل بيتي كسفينة نوح»، فان كانوا صادقين في دعواهم تلك، فلا محالة لا يخالفون أهل البيت في اجماعهم علي ايمان أبي طالب عليه السّلام.

علي أنّ أحاديث مسلم في هذا الباب متناقضة متهافتة، اذ الحديث المذكور يدلّ علي أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قد شفع له قبل القيامة وأخرجه بالفعل من غمرات العذاب الي ضحضاح من نار، وحديث أبي سعيد صريحٌ في عدم وقوع الشفاعة في حقّه وأنّ عذابه لم يخفّف، بل انّ النبي يرجو أن تناله شفاعته في يوم القيامة وتنفعه في خروجه من الدركات السافلة الي الضحضاح … فكان بعض تلك الأحاديث صريحاً في وقوع تخفيف العذاب عن أبي طالب بالفعل وبعض صريحاً في عدم حصول التخفيف، فتهافتا وتناقضا بكلّ وضوح.

الحديث الدالّ علي تعيين أبي بكر للخلافة!! … ص: 139

ومن ذلك: حديثه المتضمّن تعيين النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أبا بكر للخلافة من بعده، وهو حديث موضوع مفتري قطعاً. قال في كتاب المناقب:

«حدّثني عبيداللَّه بن سعيد، حدّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 140

إبراهيم بن سعد، حدّثنا صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة عن عائشة- رضي اللَّه عنها- قالت: قال لي رسول اللَّه في مرضه: ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتّي أكتب كتاباً، فانّي أخاف أن يتمنّ ويقول القائل:

أنا أولي، ويأبي اللَّه والمؤمنون الّا أبا بكر» «1».

وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضاً، ولفظه في كتاب المرضي:

«لقد هممت أو أردت أن أرسل الي أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنّي المتمنّون، ثمّ قلت: يأبي اللَّه ويدفع المؤمنون، أو يدفع اللَّه ويأبي المؤمنون» «2».

وهذا الحديث الذي قال النووي بشرحه: «في هذا الحديث دلالة ظاهرة لفضل أبي بكر الصدّيق رضي اللَّه عنه، واخبار منه صلّي اللَّه عليه وسلّم بما سيقع في المستقبل بعد وفاته، وأنّ المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره» «3».

ظاهر الكذب والبطلان، لاتفاق القوم أنفسهم علي أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لم ينصّ علي أبي بكر بالخلافة، ولو كان مثل هذا الكلام صادراً منه حقّاً لما احتجّوا بالأباطيل الواهيات، ولما وقعت الاختلافات والنزاعات …

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 4: 1857/ 2387.

(2) صحيح البخاري 7: 218.

(3) شرح مسلم للنووي 15: 155.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 141

ولقد نصّ النووي- بشرح حديث: من كان رسول اللَّه مستخلفاً لو استخلفه؟: علي أنّ «فيه دلالة لأهل السنّة أنّ خلافة أبي بكر ليست بنصّ من النبي علي خلافة صريحاً، بل أجمعت الصحابة علي عقد الخلافة له وتقديمه بفضله، ولو كان هناك نصّ عليه أو علي غيره لم يقع المنازعة من الأنصار وغيرهم أوّلًا، ولذكر حافظ النص ما معه، ولرجعوا، ولكن تنازعوا أولًا ولم يكن هناك نص، ثمّ اتفقوا علي أبي بكر واستقرّ الأمر.

وأمّا ما تدّعيه الشيعة من النص علي علي والوصيّة اليه، فباطل لا أصل له باتّفاق المسلمين، والانفاق علي بطلان دعواهم في زمن علي، وأوّل من كذّبهم علي بقوله: ما عندنا الّا ما في هذه الصحيفة» «1».

فتراه يستدلّ بما كان في السقيفة، ولو كان ما أورده

مسلم صحيحاً لما احتاج الي ذلك!!

وعلي الجملة، فانّ هذا الحديث لو صحّ لا ستدلّ به القوم علي إمامة أبي بكر ولم يقولوا بعدم النصّ علي خلافة، ولم يتشبّثوا بالخرافات والأباطيل الاخري، فانّه حتي لو كان وارداً مورد الاخبار عن الغيب، لكان الإستدلال به دون غيره أولي وأحري …

وقد نصّ أبو السعادات ابن الأثير أيضاً علي عدم النصّ علي أبي بكر حيث قال: «ولا يصدّق الشيعة بنقل النص علي إمامة علي كرّم اللَّه وجهه والبكرية علي إمامة أبي بكر رضي اللَّه عنه، لأنّ هذا وضعه الآحاد

__________________________________________________

(1) شرح مسلم للنووي 15: 154- 155.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 142

أوّلًا وأفشوه، ثمّ كثر الناقلون في عصره وبعده من الأعصار، فلذلك لم يحصل التصديق» «1».

فوا أسفاه علي البخاري ومسلم، إذ اشرب في قلوبهما حبّ الشيخين، فنقلًا مثل هذه الأكاذيب والخرافات، التي نصّ أئمّتهم علي كونها ممن افتراءات البكريّة وأخبارهم الموضوعات.

حديث أنّ عمر أوّل من أمر بالأذان … ص: 142

ومن ذلك: ما أخرجه مسلم في كتاب الصّلاة، باب بدء الأذان:

«حدّثنا اسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: حدّثنا محمّد بن بكر، ح وحدّثنا محمّد بن رافع قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: اخبرنا ابن جريج، ح وحدّثني هارون ابن عبد اللَّه- واللفظ له- قال: حدّثنا حجّاج بن محمّد قال: قال ابن جريج: أخبرني نافع مولي ابن عمر، عن عبد اللَّه بن عمر أنّه قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصلوات، وليس ينادي بها أحد، فتكلّموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم:

اتّخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصاري، وقال بعضهم: قرناً مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولاد تبعثون منادياً ينادي بالصّلاة. قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا بلال قم فناد بالصّلاة» «2».

__________________________________________________

(1) جامع الاصول 1: 121.

(2) صحيح مسلم 1: 285.

سلسلة

اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 143

وهذا حديث موضوع، وضعه من يسعي وراء جعل المناقب لعمر بن الخطّاب، وهو ينافي ما وضعوه في الأذان من أنّ تشريعه كان برؤيا رآها رجل من الأنصار، كما في سنن أبي داود وغيره.

علي أنّ الحقّ ما روي عن أميرالمؤمنين عليه السّلام من أنّ تشريع الأذان كان في ليلة الإسراء، وقد أذّن جبرئيل في بيت المقدس، وما سواه فمن وضع الملحدين.

حديثان متناقضان في موضع صلاة النبي الظهر في حجّة الوداع … ص: 143

ومن ذلك: حديثان متناقضان أخرجهما مسلم، وأخرج البخاري أحدهما، في موضع صلاة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم الظهر يوم النحر في حجّة الوداع، فأخرج عن عائشة وجابر أنّه صلّاها بمكّة، وأخرج هو والبخاري عن ابن عمر أنّه صلّاها بمني، قال القاري في كتابه في (الرجال): «قال ابن حزم في هاتين الروايتين: احداهما كذب بلا شك».

وقد اختلف القوم في تعيين الصدق من الكذب منهما، وقد شرح ابن القيّم اختلافهم في المقام حيث قال: «فصل: ثمّ رجع الي مني، واختلف أين صلّي الظهر يومئذ، ففي الصحيحين عن ابن عمر أنه أفاض يوم النحر ثمّ رجع فصلّي الظهر بمني، وفي صحيح مسلم عن جابر أنه صلّي الظهر بمكّة، وكذلك قالت عائشة، واختلف في ترجيح

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 144

أحد هذين القولين علي الآخر، فقال أبو محمّد ابن حزم: قول عائشة وجابر أولي، وتبعه علي هذا جماعة ورجّحوا هذا القول بوجوه:

أحدها: ان راويه اثنان، وهما أولي من الواحد.

الثاني: أنّ عايشة أخصّ الناس به، ولها من القرب والإختصاص والمزيّة ما ليس لغيرها.

الثالث: أنّ سياق جابر لحجّة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم من أوّلها الي آخرها أتمّ سياق، وقد حفظ القصّة وضبطها حتّي ضبط جزئياتها، حتي ضبط منها أمراً لا يتعلّق

بالمناسك، وهو نزول النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ليلة جمع الطريق، فقضي حاجة عند الشعب ثمّ توضأ وضوءاً خفيفاً، فمن ضبط هذا القدر فهو يضبط مكان صلاته يوم النحر بطريق اولي.

الرابع: أنّ حجة الوداع كانت في آذار، وهي تساوي الليل والنهار، وقد خرج من مزدلفة قبل طلوع الشمس الي مني وخطب بها الناس، ونحر بُدناً عظيمة وقسما، وطبخ له من لحمها وأكل منه، ورمي الجمرة وحلق رأسه وتطيّب وخطب ثم أفاض، فطاف وشرب من ماء زمزم ومن نبيذ السقاية ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال يبدو في الأظهر أنّها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع الي مني بحيث يدرك وقت الظهر في فصل آذار.

الخامس: انّ هذين الحديثين جاريان مجري الناقل والمبقي، فانّ

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 145

عادته صلّي اللَّه عليه وسلّم كانت في حجّته صلاته في منزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين، فجري ابن عمر علي العادة، وضبط جابر وعائشة الأمر الذي هو خارج عن عادته، فهو أولي بأن يكون هو المحفوظ.

ورجحت طائفة اخري قول ابن عمر لوجوه:

أحدها: أنّه لو صلّي الظهر بمكّة لم يصلِّ أصحابه بمني وحداناً ولا زرافات، بل لم يكن لهم بدّ من الصلاة خلف امام يكون نائباً عنه، ولم ينقل هذا أحد قط، ولم يقل أحد أنّه استناب من يصلّي بهم، ولولا علمه أنّه يرجع اليهم فيصلّي بهم لقال: ان حضرت الصلاة ولست عندكم فليصلّ بكم فلان، وحيث لم يقع هذا ولا هذا، ولا صلّي الصحابة هناك وحداناً قطعاً، ولا كان من عادتهم إذا اجتمعوا أن يصلّوا عزين، علم أنّهم صلّوا معه علي عادتهم.

الثاني: انّه لو صلّي بمكّة، لكان خلفه بعض أهل البلد وهو مقيم، وكان يأمرهم

أن يتمّوا صلاتهم، ولنقل أنّهم قاموا فأتمّوا بعد سلامه صلاتهم، وحيث لم ينقل هذا ولا هذا بل هو معلوم الانتفاء قطعاً، علم أنّه لم يصلّ قطعاً حينئذ بمكّة.

وما نقله بعض من لا علم له أنه قال: يا أهل مكّة أتمّوا صلاتكم فانّا قوم سفر، فانّما قاله عام الفتح لا في حجّته.

الثالثي: انّه من المعلوم أنّه لمّا طاف ركع ركعتي الطواف، ومعلوم أنّ كثيراً من المسلمين كانوا خلفه يقتدون به في أفعاله ومناسكه، فلعلّة

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 146

لمّا ركع ركعتي الطواف والناس خلفه يقتدون به، ظنّ الظانّ أنّها صلاة الظهر، ولا سيّما إذا كان ذلك في وقت الظهر، وهذا الوهم لا يمكن دفع احتماله، بخلاف صلاته بمني فإنّها لا تحتمل غير الفرض.

الرابع: انّه لا يحفظ عنه في حجّه أنه صلّي الفرض بجوف مكّة، بل انّللَّه ا كان يصلّي بمنزله بالمسلمين مدّة مقامه، كان يصلّي بهم أين نزلوا، لا يصلّي في مكان آخر غير المنزل العام.

الخامس: انّ حديث ابن عمر متفق عليه، وانّ حديث جابر من أفراد مسلم، فحديث ابن عمر أصحّ منه، وكذلك هو في اسناده، فانّ راويه أحفظ وأشهر وأنفق، فأين يقع حاتم بن اسماعيل من عبيد اللَّه؟

وأين يقع جعفر من حفظ نافع؟

السادس: انّ حديث عائشة قد اضطربت في وقت طوافه، فروي عنها علي ثلاثة أوجه: أحدها أنّه طاف نهاراً، الثاني: أنّه أخّر الطواف الي الليل، الثالث: أنّه أفاض من آخر يومه، فلم يضبط فيه وقت الافاضة، ولا مكان الصلاة، بخلاف حديث ابن عمر.

السابع: انّ حديث ابن عمر أصحّ منه بلا نزاع، فانّ حديث عائشة من رواية محمّد بن اسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه عنها، وابن اسحاق مختلف في الاحتجاج

به، ولم يصرّح بالسماع بل عنعنه، فكيف يقدم علي قول عبيد اللَّه حدّثني نافع عن ابن عمر؟

الثامن: انّ حديث عائشة ليس بالبيّن انّه صلّي الظهر بمكّة، فانّ

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 147

لفظه هكذا: أفاض رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في آخر يوم صلّي الظهر ثمّ رجع الي مني، فمكث فيها ليالي أيّام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كلّ جمرة بسبع حصيات، فأين دلالة هذا الحديث الصريحة علي أنّه صلّي الظهر يومئذ بمكّة؟ وأين هذا في صريح الدلالة الي قول ابن عمر أفاض يوم النحر ثمّ صلّي الظهر بمني راجعاً؟ وأين حديث اتفق أصحاب الصحيح علي اخراجه الي حديث اختلف في الاحتجاج به؟ واللَّه أعلم» «1».

حديث في أوّل ما نزل من القرآن … ص: 147

ومن ذلك: ما أخرجه في أنّ أوّل ما نزل من القرآن «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» وقد صرّح النووي بأنّه ضعيف بل باطل … قال ولي الدين أبو زرعة أحمد بن زين الدين عبد الرحيم العراقي في شرح حديث بدء الوحي من (شرح الأحكام الصغري): «فيه دلالة واضحة علي أنّ أوّل ما نزل من القرآن «اقْرَأْ». وقد صحّ ذلك عن عائشة، وروي عن أبي موسي الأشعري وعبيد بن عمير، قال النووي: وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف. وفيه قولان آخران: أحدهما انّ أوّل ما نزل «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد اللَّه وأبي

__________________________________________________

(1) زاد المعاد 2: 280 كيفيّة حجّة الوداع.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 148

سلمة بن عبد الرحمن، قال النووي: وهو ضعيف بل باطل … ».

حديث في فضائل أبي سفيان … ص: 148

ومن ذلك: ما أخرجه في فضائل أبي سفيان وهذه عبارته:

«حدّثنا عبّاس بن عبد العظيم العنبري وأحمد بن جعفر المعقري قالًا: حدّثنا النضر- وهو ابن محمّد اليمامي- قال: حدّثنا عكرمة، حدّثنا أبو زميل، حدّثني ابن عبّاس قال: كان المسلمون لا ينظرون الي أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال لنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا نبي اللَّه، ثلاث أعطنيهنّ، قال: نعم، قال: عندي أحسن العرب وأجمله ام حبيبة بنت أبي سفيان ازوّجكها. قال: نعم، قال: معاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم، قال: وتؤمّرني حتّي اقاتل الكفّار كما كنت اقاتل المسلمين. قال: نعم. قال أبو زميل: ولو لا أنّه طلب ذلك من النبي ما أعطاه ذلك، لأنّه لم يكن يسئل شيئاً الّا قال: نعم» «1».

قال في (زاد المعاد):

«وأمّا حديث عكرمة بن عمّار: عن أبي زميل، عن ابن عبّاس: انّ أبا سفيان قال للنبي …

فهذا

الحديث غلط ظاهر لا خفاء به.

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 4: 1945/ 2501.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الصحيحان في الميزان، ص: 149

قال أبو محمّد ابن حزم: وهو موضوع بلا شك، كذبه عكرمة بن عمّار.

قال ابن الجوزي- في هذا الحديث-: هو وهم من بعض الرواة، لا شكّ فيه ولا تردّد.

وقد اتّهموا به عكرمة بن عمّار، لأنّ أهل التواريخ أجمعوا علي أنّ امّ حبيبة كانت تحت عبيد اللَّه بن جحش، ولدت له، وهاجر بها وهما مسلمان الي أرض الحبشة، ثمّ تنصّر وثبتت أمّ حبيبة علي اسلامها، فبعث رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم الي النجاشي يخطبها عليه، فزوّجه ايّاها وأصدقها عن رسول اللَّه صداقاً، وذلك في سنة سبع من الهجرة، وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة ودخل عليها فثنت فراش رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم حتّي لا يجلس عليه.

ولا خلاف أنّ أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكّة سنة ثمان.

وأيضاً: في هذا الحديث: انّه قال له: وتؤمرّني حتي اقاتل الكفّار كما كنت اقاتل المسلمين فقال: نعم.

ولا يعرف أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أمّر أبا سفيان البتّة» «1».

__________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 1: 110.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.